التعليقة على منهاج الصالحين (الصوم ـ المفطرات ـ القسم الرابع)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(18 ـ 12 ـ 2025م)
الفصل الثاني
المفطرات
...
تتميم
المفطرات المذكورة إنما تفسد الصوم إذا وقعت على وجه العمد، ولا فرق بين العالم بالحكم والجاهل به، والظاهر عدم الفرق في الجاهل بين القاصر والمقصر، بل الظاهر فساد الصوم بارتكاب المفطر حتى مع الاعتقاد بأنّه حلال وليس بمفطر([1]). نعم إذا وقعت على غير وجه العمد كما إذا اعتقد أنّ المائع الخارجي مضاف فارتمس فيه فتبيّن أنّه ماء، أو أخبر عن الله ما يعتقد أنّه صدقٌ فتبيّن كذبه لم يبطل صومه. وكذلك لا يبطل الصوم إذا كان ناسياً للصوم فاستعمل المفطر([2])، أو دخل في جوفه شيء قهراً بدون اختياره.
مسألة 1005: إذا أفطر مكرَهاً بطل صومه، وكذا إذا كان لتقيّة، سواء كانت التقيّة في ترك الصوم، كما إذا أفطر في عيدهم تقيةً، أم كانت في أداء الصوم، كالإفطار قبل الغروب، والارتماس في نهار الصوم، فإنّه يجب الإفطار ـ حينئذٍ ـ ولكن يجب القضاء([3]).
مسألة 1006: إذا غلب على الصائم العطش وخاف الضرر من الصبر عليه، أو كان حرجاً، جاز أن يشرب بمقدار الضرورة، ويفسد بذلك صومه، ويجب عليه الإمساك في بقية النهار إذا كان في شهر رمضان على الأظهر، وأما في غيره من الواجب الموسّع أو المعين فلا يجب([4]).
____________________________
حول مبطليّة المفطرات في حال الجهل بالحكم والعلم به
([1]) ذهب السيد الماتن ـ كالعديد من الفقهاء الآخرين ـ إلى أنّ ارتكاب المفطر عن عمدٍ يوجب بطلان الصوم وفساده، ولم يفرّق بين العلم بالحكم والجهل به، كما لم يفرّق في صورة الجهل بين القصور والتقصير، بل حتى في حال الجهل المركّب حكم الماتن بالمبطليّة. فلو اجتهد فقطع بعدم مبطليّة رمس الرأس في الماء، فضلاً عما لو قام عنده الدليل الظنّي المعتبر، وكذا لو قلّد من يقول بعدم المبطليّة، وكذا لو قلّد من يقول بالمبطليّة لكنّه لم يكن يعرف الحكمَ بعدُ، فرمس رأسه في الماء حال الصيام، بطل صومه واقعاً على تقدير المبطليّة الواقعيّة، فلو انكشف له الحال ـ بعلمٍ أو علميّ ـ لزمه القضاء، ما لم يقم دليل موردي خاصّ.
والمستند العمدة في ذلك هو إطلاقات النصوص الدالّة على مفطريّة هذه المفطرات لو أتي بها عمداً، الشاملة لحال العلم والجهل، مضافاً إلى أنّ الواقع الخارجي لا ينطبق عليه عنوان المأمور به، فالمأمور به لم يتحقّق في الخارج، وما تحقّق في الخارج ليس هو المأمور به، فلا وجه للحكم بصحّة الصوم، بلا فرق بين الصور كلّها؛ لأنّ القضاء ليس من آثار الإفطار، بل من آثار عدم الإتيان بالمأمور به، نعم خرج الناسي لدليلٍ خاصّ، فيبقى غيره تحت مقتضى الإطلاقات والقاعدة. وهناك خبران قيل بمعارضتهما لهذه النتيجة، لكن قدّم الفقهاء ـ ومنهم السيد الماتن ـ أجوبة عنهما.
لكنّ إطلاق هذه النتيجة محلّ تأمّل عندي؛ وذلك أنّ ما يفهمه العرف من تصحيح صوم الناسي، هو عدم وجود خصوصيّة فيه تجعله متميّزاً عن صوم الجاهل، بل لعلّ صوم الناسي أسوأ، فهو يعلم الحكم والموضوع، لكنّه نسي أنّه صائم مثلاً، أمّا هنا فهو أساساً لا يعلم الحكم، يُضاف إلى ذلك أنّه لو قامت عنده الحجّة المعتبرة على عدم مفطريّة شيء أو قامت عنده الحجّة المعتبرة على استحباب فعل شيءٍ ما حال الصيام، ثم انكشف بطلان هذه الحجّة بحجّةٍ أخرى لا بيقينٍ أو قطع، فإنّ الجزم ببطلان صومه محلّ إشكال، ولو كانت هناك حالة من هذا النوع لظهرت في أسئلة السائلين؛ لكثرة ما لا يعلمونه من أحكام الصيام وبخاصّة في عصر الصادقَين عليهما السلام، ولا نجد شيئاً من هذا القبيل، بل نحن نشكّ في وجود إطلاقات وعمومات هنا شاملة لمثل هذا المورد، وقد كان لنا كلام مختصر مرتبط بكليّة هذا الموضوع، عند التعليق على (المسألة رقم: 11) من باب التقليد، فراجع، وفاقاً هناك لبعض المتأخّرين مثل الشيخ جواد التبريزي.
لهذا نرجّح التفصيل هنا في الجاهل بين القاصر والمقصّر ـ ومن القاصر من قامت عنده الحجّة من علمٍ أو علميّ على عدم المفطريّة ـ فالقاصر لا يبطل صومه بفعل المفطر جهلاً، بخلاف المقصّر فإنّه يقوى فيه أن يصدق أنّه أوقع نفسه ـ بتقصيره ـ في المفطر، فتشمله العمومات والمطلقات، فنبني الحكمَ فيه على الاحتياط الوجوبي. بل قد يقال بأنّ الجاهل المقصّر حاله أسوأ يقيناً من الناسي؛ إذ قد تحقّق فیه عنصر الاختیار والتعمّد بخلاف الناسي، فلا یکون مشمولاً للاستثاء الشامل للناسي بالمطابقة وللجاهل القاصر بالإلتزام أو الأولویّة أو إلغاء الخصوصيّة، مما يجعل المسألة تقترب من البتّ بالحكم في حقّه ببطلان صومه.
وهذا كلّه على تقدير كونه عالماً بأصل وجوب الصوم عليه، أمّا لو ترك الصوم أصلاً عن جهل بوجوب الصوم عليه، فيجب عليه القضاء.
هذا، وقد أفتى السيد السيستاني بأنّ الجاهل القاصر غير المتردّد لو ارتكب غير الأكل والشرب والجماع، فلا يحكم ببطلان صومه، وأنّ في حكم هذا الشخص من اعتمد في عدم المفطريّة على حجّة شرعيّة. وبنى السيد محمّد محمّد الصدر المسألة على الاحتياط الوجوبي، فيما بنى السيّد الخميني والسيد المرعشي النجفي والشيخ المنتظري والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد مفتي الشيعة والسيد محمد رضا الكَلبايكَاني الحكمَ في خصوص القاصر على الاحتياط الوجوبي، أمّا السيد فضل الله فقال: «إنَّ المفطرات المذكورة إنما يبطل بها الصوم إذا فعلها الصائم عالماً متعمّداً، ونريد بالعالم العارفَ بأنَّ ما يتناوله من المفطرات، فمن كان جاهلاً ـ عن قصور ـ بأنَّ الجماع أو الاحتقان بالمائع مفطر فتناوله معتقداً عدم مفطريته لم يفطر به، كذلك لا يفطر من كان معتقداً أنَّ ما في الحقنة جامد فاحتقن به، فظهر أنّه مائع. فإن كان الجهل بالمفطريّة ناشئاً عن التقصير فإنّه يفطر من يتناوله، وكذلك يفطر الصائم في صورة ما لو كان المفطِّر حراماً وكان عالماً بحرمته فإنّه يفطر به الجاهل ولو عن قصور».
بل أفتى السيد محمد سعيد الحكيم بعدم المبطليّة مع الجهل بكون ما يستعمله مفطراً. كما ميّز الشيخ يوسف الصانعي بنحو الفتوى بين القاصر فلا يبطل صومه، والمقصّر فيبطل. وكذا بنى الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء على الاحتياط الاستحبابي في مورد الجاهل القاصر والمكرَه، واستشكل السيد محسن الحكيم في الجاهل المركّب، أمّا الشيخ محمد أمين زين الدين فصحّح صوم الجاهل مطلقاً قاصراً ومقصّراً ما لم يكن ملتفتاً متردّداً.
([2]) هذا بنحو القاعدة، وإلا فهناك استثناءات، مثل موضوع نسيان غسل الجنابة لمن أجنب قبل الفجر، وقد تقدّم الكلام حول ذلك.
الإفطار مكرَهاً أو لتقية
([3]) ذهب السيد الماتن إلى فساد الصوم، ومن ثمّ وجوب القضاء، لو أفطر عن تقيةٍ أو مكرَهاً ـ لا مجبراً كالذي يولج الطعام في حلقه؛ إذ لا يكون متعمّداً أساساً ـ رغم كونه معذوراً، فيلزمه الإفطار وفي الوقت عينه يلزمه القضاء.
غير أنّنا نشكّ شكّاً حقيقياً في كون النصوص ناظرةً لمثل هذه الحال في باب الصوم، كلّ ما تقرّره النصوص هو أنّها تنهى المكلّف عن فعل كذا وكذا أو تأمره لو فعل ذلك عامداً أن يعيد، أمّا لو فعل ذلك تحت ضغط الإكراه، فضلاً عن الإجبار، فلا نظر واضحاً لها لذلك مطلقاً، بل الإفطار تقيةً كان أمراً متوقعاً وموجوداً في تلك الأزمنة ومحلّ ابتلاء، وقد صدرت بعض النصوص فيه، لكن لا إشارة للقضاء إلا في مرسلة رفاعة الضعيفة سنداً بل القابلة للتأمّل دلالةً. وقد قلنا عند التعليق في بحث الوضوء على (المسألة رقم: 97)، أنّ الأصحّ هو الاجتزاء مع التقيّة، لوجوهٍ منها أنّ الترخيص في التقية بل الأمر بها، وفي الوقت عينه لا توجد إشارة لفكرة الإعادة أو القضاء في باب الوضوء أو الصيام، كاشف عن عدم وجود هذه الفكرة، لا في ذهن السائلين ولا في أجوبة الأئمّة.
هذا، وقد احتاط السيد السيستاني بالإتمام والقضاء لو تحقّق الإكراه أو التقية في غير الأكل والشرب والجماع، أمّا فيها فيبطل الصوم، وقريب منه السيد محمد محمد صادق الصدر. فيما أفتى الشيخ الصانعي بأنّ ما ذهب إليه الأكثر هو الصحيح، وهو عدم بطلان صوم المكرَه، عملاً بحديث الرفع والتشكيك في الإطلاقات عنده.
وقد فصّل الشیخ المنتظري فی مسألة الإکراه، بین من یبلغ به الإکراه حدّاً تزول معه القدرة على التفکیر والقصد، فحکم بصحّة صومه، وبین المکرَه الذی یأتي بالمفطّر عن قصدٍ واختیارٍ رغم الإکراه، فحکم ببطلان صومه، وقال بأنّ انصراف الأدلّة عن هذا الثاني إنّما هو بدويّ، كما أشکل على الاستدلال بحدیث الرفع، فبیّن أنّ فقرة «رُفِعَ ما لا یعلمون» لا ترفع جمیع الآثار، بل ترفع الحکم التکلیفي خاصّة، کما أشکل على فقرة «ما استُکرِهوا علیه» بأنّ مفطریّة المفطر لیس لها جعلٌ مستقلّ، بل هي أمرٌ منتزع من الإخلال بالمُرکَّب، فرفعها إنّما هو برفع الحکم التکلیفي بالصوم.
وما أفاده ـ رحمه الله ـ كان قد ذكره بعض الفقهاء قبله في الجملة، على قاعدة أنّ الموجر في فمه لم يقم هو بفعل الإفطار بينما المكرَه قرّر بنفسه الإفطار تفادياً للضرر المتوقّع، وما طرحوه في فقرتي حديث الرفع في محلّه، لكن المسألة في مدى شمول أدلّة الكفارة لمثل هذا المورد، وبخاصّة أنّ الكفارة فيها روح العقوبة ولو في الجملة.
وقد يُسأل: هل یُشترَط في تحقّق الإکراه أن یکون متعلّقُه من الأمور التی یجب حفظُها شرعاً أو الأمور المهمّة جداً مثل حفظ النفس والعرض والفرج و.. وهل يجري فیها قانون الأهمّ والمهمّ؟ فمثلاً لو هدّد من له القدرةُ المکلَّفَ بأنّه إن صام حُرِم من عمله الحکومي مع تمکّنه من اختیار عملٍ آخر، أو ألحق به ضرراً مالیّاً یُمکنه تحمّله لتمکّنه المالي، فهل تُعدّ هذه الموارد من مصادیق الإکراه، أو أنّ الإکراه مختصّ بالأُمور النفسیّة أو بما یُعلَم أنّ الشارع یراها من الأُمور الأهمّ؟ يضاف إلى ذلك أنّه هل یتحقّق الإکراهُ بالقطع بقدرة المکرِه (أي فاعل الإکراه) على تنفیذ تهدیده وفعله، أو یکفي في تحقّقه الاحتمالُ العقلائي ولو من دون اطمئنانٍ وقطع؟
والجواب: أمّا السؤال الأوّل، فالموضوع ليس موضوع الأولويّات، بل موضوع عروض ضرر لاحق على المكلّف لو لم يفعل ما يطلبه المكره منه، فلرفع ضرره يرخّص له في ذلك، فلو كانت بعض هذه الحالات التي ذكرت آنفاً مما لا يصدق معه أنّ الإكراه يتضمّن ضرراً لو لم يفعل المكرَه ما طلبه المكرِه، فمن المعقول عدم شمول دليل الإكراه له، وإلا شمل؛ عملاً بعمومات ومطلقات الإكراه. وأمّا السؤال الثاني فلا حاجة للقطع، بل يكفي الخوف العقلائي من قيام المكرِه بتنفيذ تهديده؛ إذ يصدق عنوان الإكراه عقلائيّاً هنا، ولم تذكر النصوص شرط القطع واليقين الجازم.
الموقف من شرب العطشان ما يرفع ضرورته مع إكمال صومه بلا قضاء
([4]) المشهور بين فقهاء المسلمين بمذاهبهم أنّ الصائم إذا أحسّ بالعطش ـ وهذا غير الشخص المصاب بداء العطش ـ لم يجز له الإفطار، فإذا بلغ عطشه خوف الضرر من تحمّله أو حدّ الحرج الشديد والمشقّة البالغة بحيث لا يُطيق إكمال الصوم، جاز له الشرب ـ بل صريح بعضهم وجوب الشرب عليه ـ لكن يجب عليه قضاء ذلك اليوم. ورأى بعضهم بأنّه بعد أن يشرب، عليه ـ بنحو الفتوى أو الاحتياط اللزومي ـ أن يمسك أيضاً عن الطعام والشراب حتى وقت الإفطار إذا كان في شهر رمضان المبارك.
وخالف في هذه الفتوى المشهورة بينهم بعضٌ، فاعتبر الشيخ حسين علي المنتظري أنّ وجوب القضاء هنا في صورة خوف الهلاك لو لم يشرب مبنيّ على الاحتياط الوجوبي وليس بنحو الفتوى. واستشكل السيّد محمّد محمّد صادق الصدر والشيخ محمّد علي الگرامي في وجوب القضاء في حالتي خوف الهلاك والحرج معاً وبَنَيَا الإمساك بقيّة النهار ثمّ القضاء على الاحتياط الوجوبي. بينما ذهب السيد محمّد سعيد الحكيم إلى أنّه لا يفسد الصوم بشرب ما يرفع به الضرورة فقط، فإن زاد عليه وشرب أكثر من ضرورته عامداً بطل صومه ووجبت عليه الكفارة، هذا في حال خوف الضرر، أما إذا لم يخش من العطش بل كان حرجيّاً يصعب تحمّله، فقد احتاط وجوباً بإتمام الصوم ثم القضاء. ويذهب الشيخ جعفر السبحاني إلى أنّه لو كان العطش بحدٍّ فيه عسر ومشقّة ولا يتحمّل جاز الشرب وأكمل الصائم صومه ولا يجب القضاء.
وفي حدود عام 2013م أصدر الشيخ أسد الله بيات الزنجاني (مولود عام 1941م) فتوى صريحة بجواز شرب مقدار ما يرفع به الضرورة أو الحرج الشديد إذا كان غير قادر على الاستمرار بالصوم من دون ذلك، ويصحّ صومه ولا يجب عليه القضاء ولا الكفّارة. وقد أثارت هذه الفتوى ضجّة واسعة في حينه وتمّ تصويرها على أنّها لا قائل بها مطلقاً من قبل أحد من المسلمين سابقاً وحديثاً، حتى أنّه شنّ ضدّها بعضُ المراجع الكبار هجوماً عنيفاً، إلى أن بدأت الأمور تتكشّف عن وجود آراء، وبخاصّة رأي الشيخ جعفر السبحاني المطابق لرأي بيات الزنجاني!
والمستند لهذا الرأي الذي يفتح الطريق على الشرب بمقدار الضرورة، ثمّ إكمال الصوم، من دون حاجة للقضاء ولا للكفارة، هو روايتان إحداهما صحيحة السند، وهي موثقة عمار الساباطي. والمشهور فهم منهما الترخيص في الشرب لرفع الضرورة، ثمّ إكمال الإمساك، معتمدين في إثبات القضاء على العمومات نتيجة بطلان الصوم بسبب الشرب، فيما فهم منها الطرف الآخر ـ من أمثال الزنجاني والسبحاني ـ أنّها بصدد تحديد الموقف النهائي، وأنّه يجوز الشرب لرفع الضرورة، ثمّ إكمال الصوم.
والصحيح هو أنّه لو قلنا بحجيّة خبر الواحد الظنّي، لزم القول بجواز الشرب بمقدار رفع الضرورة ولا يجب القضاء، في حال خاف الصائم على نفسه من الهلاك لو لم يشرب، أمّا لو لم يخف على نفسه من الهلاك، بل كان عدم الشرب موجباً للحرج الشديد والمشقّة البالغة فيجوز له الإفطار، لكن يلزمه القضاء في هذه الحال.
لكن حيث لا نرى حجيّة خبر الواحد الظنّي، وليس في المقام عدا رواية صحيحة وأخرى ضعيفة، ولا يوجد من عناصر تقوية الوثوق الصدوري بهما ما يمكنه أن يرفعهما لقوّة الاطمئنان بالصدور، والذي هو الحجّة في باب الأخبار، وبخاصّة تفرّدهما بحكم غير متعارف في فقه الصوم.. لهذا نرجع للقواعد العامّة.
وعليه، فالصحيح هو أنّه مع خوف الضرر أو الهلاك، يجوز الشرب ويجب عليه القضاء، وفاقاً للمشهور، ولا يترك الاحتياط الحسن بالإمساك بقيّة النهار، أمّا لو اندرج ضمن"من يطيق الصوم"، وسيأتي الحديث عنهم في بحث من "رخّص لهم في الإفطار" فإنّ اللازم هنا بعد الإفطار هو الفدية، وليس القضاء ولا الكفارة.
حكم الصيام في البلدان ذات النهار الطويل أو القصير جدّاً
يطول النهار جداً أو يقصر كذلك في بعض البلدان في بعض أيّام السنة، الأمر الذي يترك تأثيره على الصيام، بل والصلاة، من هنا كثر النقاش مؤخّراً ـ ولا سيما في الوسط السنّي منذ زمن الشيخ محمد عبده (1905م) وإلى اليوم ـ حول معيار الصيام في البلدان التي يكون فيها ليلٌ ونهار يتعاقبان، لكنّ النهار يكون طويلاً جداً مثل اثنين وعشرين ساعة.
ولم تكن هذه المشكلة قائمة في القرون الأولى؛ لأنّ المساحة الجغرافيّة لانتشار المسلمين كانت محدودة، ولم تكن تصل إلى المناطق الشماليّة التي تقع فيها مثل هذه الظواهر، أمّا اليوم فقد انتشر المسلمون في أصقاع الأرض، وصارت هناك جاليات كبيرة في المناطق الشماليّة من الكرة الأرضيّة، فأصبح هذا الأمر يشكّل ضغطاً على بعضهم، وتتسبّب هذه القضية في مشاكل واسعة بالنسبة للمسلمين الذين يعيشون في تلك البلدان، حتى أنّ بعض المدارس في بعض الدول الأوروبيّة منعت طلابها من الصيام في الأيّام الطويلة، واعتبرت ذلك مؤثراً على صحّتهم وقدرتهم الذهنية والتعلّميّة.
والمشهور بين الفقهاء يُفترض أن يكون هو وجوب الصيام في هذه المدّة برمّتها لمن قَدِر على ذلك، وهذا ما أفتت به أيضاً "هيئة كبار العلماء" في المملكة العربية السعوديّة، والكثير من العلماء المحسوبين على الخطّ السلفي، فيما حاول بعض العلماء المعاصرين جعلَ البلدان المعتدلة في ساعاتها النهاريّة ـ مثل بلاد العراق والشام ومصر والمغرب وإيران والحجاز وأمثالها ـ معياراً لمن يصوم في البلدان الشماليّة التي يطول فيها النهار جداً، فيصوم الإنسانُ من بداية الفجر في أفق البلد الذي هو فيه، ويستمرّ حوالي سبع عشرة ساعة مثلاً ويفطر بعدها، حتى لو صادف وقتُ إفطاره وقتَ العصر أو قُبيل الغروب في البلد الشمالي الذي هو فيه. ورأى بعضهم تعيين مكّة أو المدينة في ذلك اليوم معياراً لسكّان المناطق الشماليّة.
وقد مال إلى ذلك في بحوثه الشيخ ناصر مكارم الشيرازي بالنسبة لسكّان منطقة القطب الشمالي، فيما جعل السيّد صادق الشيرازي المكلّفَ مخيّراً بين أن يصوم على أفق البلد الذي هو فيه ـ حيث يمكنه ـ ولو كان النهار طويلاً، وهو الأحوط استحباباً عنده، أو يجعل الفجر على وفق البلد الذي هو فيه لكنّ الإفطار يجعله على البلدان متوسّطة النهار مثل كربلاء. هذا في الصيام، أمّا في الصلاة فيُفتي السيّد صادق الشيرازي بأنّ العبرة بأفق البلد الذي يعيش فيه من البلدان الشماليّة، ولا تُجعَل أحكامُ الصلاة تابعةً لأيّ بلد آخر غير البلد الذي يسكن فيه المكلّف، ويرى بعض فقهاء أهل السنّة أنّ العبرة بمكّة أو المدينة أو أقرب البلدان المعتدلة للبلد الشمالي فيؤخذ بها في فجرها وغروبها، فيما يرى آخرون أنّه يؤخذ بالبلد الذي هو فيه في فجره، لكن يتّبع مكّة وأمثالها في الغروب.. وغير ذلك من الآراء.
ويرى بعض أنصار هذا الفريق أنّ العناوين تحمل على المتعارف المعتدل، فلو قلنا بأنّ الكرّ عبارة عن كذا وكذا من الأشبار، أخذنا الأشبار المعتدلة المتعارفة، لا من لديه يدٌ كبيرة جداً، فطبّقوا هذه القاعدة هنا، فحملوا اليوم على المتعارف. كما رأى بعض الفقهاء السنّة المتأخرون أنّ الصور النادرة لا تدخل تحت العمومات. واستند آخرون إلى قاعدة «التقدير عند غياب العلامات»، فعندما تغيب العلامات نقوم نحن بتقدير ما هو الأقرب والأنسب، وكذا استندوا إلى قاعدة «المشقّة تجلب التيسير»، ورأى بعضٌ أنّه لا يصدق وجود ليل ونهار فيما لو كان ما يسمّى ليلاً مجرّد نصف ساعة، لكن هذا تفصيل تطبيقي يهدف لنقل مسألة البلاد التي يتعاقب فيها الليل والنهار ـ ولو في بعض مواردها ـ إلى مسألة البلاد التي يمتدّ ليلها أو نهارها لشهور وهكذا.
وقد يُشكل هنا:
أوّلاً: إنّه إذا كان المعيار محدّداً كما قيل في 16 ساعة فلا يجب ما زاد عنها، أو أخذت الأماكن المتوسّطة مثل مكّة أو المدينة أو كربلاء أو نحوها، لزم الحكم بهذا الوقت لأهل البلدان الشمالية في حالات قصر النهار جداً في فصل الشتاء أيضاً، فإنّ النهار يكون عندهم مثلاً ستّ ساعات أو ثماني ساعات، فيلزمهم أن يصوموا بالليل أيضاً ثماني ساعات أخرى، فهل يلتزم القائل بذلك أو لا؟!
وإنّما نقول ذلك احتجاجاً؛ لأنّهم لا يلتزمون بذلك عادةً، فيما يظهر من عبائرهم.
ثانياً: إنّنا لم نعرف الوجه في كون مكّة أو غيرها معياراً، فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا تكون مكّة معياراً لآسيا الوسطى والقوقاز وجنوب أوروبا وكذلك الشمال الإفريقي، فيمكن لهم أن يتابعوا مكّة في صومهم وفطرهم حتى لو كان الاختلاف معها في ساعتين أو ثلاث؟! وما الدليل على جعل مكّة أو كربلاء معياراً لأهل الشمال دون غيرهم؟! ولماذا لا نكتشف من عدم اعتداد الشريعة باختلاف الساعات بين مكّة من جهة وهذه البلدان من جهة، أنّ العبرة بكلّ بلد على حدة ولا معيارية لمكّة ولا للمدينة، وإلا لسألوا عن هذا الأمر بعد توسّع رقعة البلدان الإسلاميّة؟!
قد تقول: یُمکن تنقیحُ الادّعاء بأنّه في البلاد التي یکون فیها مقدار النهار متقارباً في نطاقٍ جغرافيّ واحد، لا إشکال في شمول النصوص لها، أمّا الموارد التي یختلف فیها مقدار النهار اختلافاً شدیداً عمّا هو المعروف في جغرافیا صدور النصوص، فنقطع بانصراف الأدلّة عنها. وهذا الادّعاء قابلٌ للاستدلال على مبانيكم؛ لأنّه إذا أخذنا منهجَکم في مسألة معیار السفر بعین الاعتبار، أمکن القول بأنّ النصوص إنّما صدرت ناظرةً إلى جغرافیا صدورها، وأنّ مقداراً یسیراً من التفاوت في طول اللیل والنهار بین البلدان الواقعة ضمن هذا النطاق لا یوجب خروجَ تلك البلاد عن إطلاق الأدلّة، أمّا إذا بلغ مقدار النهار اثنتین وعشرین ساعة أو أربع ساعات فقط، فإنّ الأدلّة تنصرف عنها، فوفقاً لمناسبات الحکم والموضوع في باب الصوم يمكن القول بأنّ الغرض من الأمر بالصوم تحمّل مشقّةٍ بمستوى المشقّة المعهودة في جغرافیا صدور النص، لا ما کان فوق ذلك بدرجات کثیرة ولا ما کان دونه كذلك، فهذا بعينه نظير ما استظهرتموه في باب صلاة المسافر حیث حکمتم بإجمال الأدلّة، وعلیه، فالمقصود بالانصراف هنا هو انصراف أدلّة تحدید مقدار الإمساك، لا انصراف أدلّة أصل وجوب الصوم، مثل قوله تعالى: ﴿کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ﴾، لکي یرتفع بذلك الإشکالُ الذي ذکرتموه حول الانصراف.
والجواب: إنّ إشكالنا هنا هو في تعيين مكة معياراً، لا في أصل التحديد الزماني، مثل 16 ساعة، أي في مقابل القدس أو القاهرة أو شيراز أو نحو ذلك. والفرق بين بحثنا هنا والسفر أنّ الشريعة حدّدت الزمان الأوّل والآخر بدقّة دون إشارة للحديث عن المتعارف وغيره، والمشقّة موجودة في الجميع هنا، ونحن نلاحظ أنّ البلدان التي دخلها المسلمون اختلفت عن المدينة المنوّرة في التوقيت ولم يظهر أيّ كلام في أيّ معيار آخر وكانوا يتقبّلون ذلك، رغم أنّ الاختلاف قد يكون أحياناً في بعض البلاد الشماليّة المسلمة قد بلغ بضع ساعات، الأمر الذي يعني أنّ مكّة والمدينة ليستا معياراً.
ثالثاً: إنّ قاعدة «المشقّة تجلب التيسير»، غاية ما تفيد عدم وجوب صيام هذا النهار كلّه على تقدير وجود مشقّة حقيقيّة قاهرة، وهذا يكفي فيه سقوط وجوب الصيام ولزوم القضاء حيث يمكن، فكيف عرفنا أنّ هذه القاعدة تثبت وجوب صيام مقدار محدّد من النهار مع سقوط القضاء، رغم أنّ الشريعة بنفسها عيّنت طريقة للتيسير في حالات المشقّة في الصوم، وهي الإفطار ثمّ القضاء؟! ولو كانت هذه القاعدة تثبت صيام مقدار من النهار وكفايته في موارد الضرر والحرج لكان يلزم أن يصوم المريض وأمثاله، ولو ساعتين أو ثلاث ساعات بحسب ما يتسنّى له، فيسقط عنه الصوم والقضاء، فلماذا قالت له الشريعة بأنّ عليك الإفطار ثمّ القضاء؟!
رابعاً: إنّ الحمل على المتعارف مقبولٌ بوصفه قاعدة؛ لكنّ السؤال: هل النهار في البلدان الشماليّة غير متعارف؟! إنّ المعروفيّة هنا هي بالقياس إلى أهل الأماكن المتوسّطة، وإلا فمن يعيش في البلدان الشماليّة معظم عمره يرى أنّ هذا هو شكلٌ متعارف لليل والنهار في مختلف فصول السنة، وكأنّنا افترضنا أنّ مناخ البلدان المتوسّطة هو المتعارف وغيره غير متعارف، إلى حدّ يلحق بالشاذّ كصاحب اليد الكبيرة! فماذا لو تغيّرت الأحوال وأصبح سكّان البلدان الشماليّة أكثر عدداً من سكّان سائر مناطق الأرض، فهل سيتغيّر المتعارف ويتغيّر الحكم تبعاً لذلك؟!
فلم يبقَ إلا ادّعاء انصراف النصوص عن مثل هذا اليوم الطويل جداً أو القصير جداً، وهذا هو مراد بعض فقهاء أهل السنة الذين قالوا هنا بأنّ النصوص تحمل على الأعمّ الأغلب، فيما النادر لا تشمله العمومات. ولعلّ من تكلّم عن المتعارف وغير المتعارف نظر لهذه الناحية.
لكن إذا كان النادر لا تشمله العمومات، فهذا ينتج أنّ هذا النهار لا يجب صومه؛ لأنّه ليس مشمولاً لوجوب صوم "اليوم" في شهر رمضان، لا أنّه يجب صومه إلى العصر بحجّة انّه مساوٍ ليوم مكّة أو كربلاء أو القدس أو غير ذلك، بل يفترض القول بأنّ وجوب الصوم تعلّق بعنوان اليوم المتعارف، وعنوان اليوم المتعارف لا مصداق له إلا في البلدان المتوسّطة مثلاً، ومن ثم يسقط وجوب الصوم في البلدان الشماليّة؛ لانعدام عنوان اليوم المتعارف فيها، على الأقلّ في بعض فصول السنة، فانتقال المستدلّين هنا من هذه المقدّمة إلى هذه النتيجة، وهي وجوب صيام 16 ساعة فقط مثلاً، غير مفهوم.
قد تقول: ربما یُراد من الانصراف إلى المتعارف، أنّ الدلیلَ منصرفٌ إلى المتعارف فی موضع صدوره، وإن لم یکن هذا هو مرادَ القائل نفسه، فإنّا نستطیع أن نقول: إنّ الدلیلَ منصرفٌ إلى الأفراد المتعارفة فی موضع صدور النصّ، ولا منافاة بین ذلك وبین کون مقدار النهار في تلك البلدان متعارفاً في نفسه؛ فإنّ النصّ یُفهم في سیاق صدوره، والسیاق الثقافي والظروف المحیطة بالنص، ویحصل الانصراف في ذلك السیاق بعینه، وعلى الأقلّ فاحتمالُ کون الحالة المتعارفة والرائجة هي المفروضة في ذهن النصّ احتمالٌ قابلٌ للاعتبار.
والجواب: إنّه نهارٌ متعارف حتى بالنسبة لمن كانوا في مكّة؛ لأنّ النهار المتعارف هو ما بين الصباح إلى الغروب، لا ما كان مدته كذا وكذا، بمعنى أنّه لو نذر شخصٌ أن يتصدّق نهار الجمعة، فهل ينصرف الذهن العرفي إلى يوم الجمعة المتعارف في مكّة، فلا يمكنه أن يتصدّق في فنلندا بعد غروب الشمس في مكّة بحجّة أنّه نهار غير متعارف! وألا يقول هذا الشخص بأنّه زارني فلان يوم الجمعة أو نهار الجمعة، لو زاره بعد مضيّ الغروب في مكّة، وهكذا إلى عشرات الأمثلة التي لا نشعر فيها بأنّ كلمة «النهار» تنصرف لخصوص مكّة وأمثالها.
وقد يقال: إنّ الأدلة المبیِّنة لمقدار الصوم هي المنصرفة، وأمّا أصلُ وجوب الصوم فلا شكّ فیه؛ إذ إنّا ـ بفهم مقاصد الشارع وفهم العرف لهذه المقاصد، وبالأدلّة المطلقة کقوله تعالى ﴿کُتِبَ عَلَیْکُمُ الصِّیَامُ﴾ ـ نقطع بأنّ أصل الصیام واجبٌ على جمیع المسلمین کما کُتب على الذین من قبلهم، غیر أنّا نشكّ في إطلاق الأدلّة المبیِّنة للمقدار لجمیع الجغرافیّات؛ لأنّ الفارق في طول النهار بینها فاحشٌ جداً، بحیث یستلزم في بعض البلاد مشقّةً بالغة، وفي بعضٍ آخر مشقّةً یسیرةً جدّاً.
والجواب: إنّ الأدلّة المبينة لمقدار الصوم هي التي دلّت على أنّه من الفجر إلى الغروب، وهذا العنوان ليس فيه انصراف، بل هو واضح محدّد وله مصداق في الشمال والجنوب تماماً بلا أيّ التباس لغوي، فإذا كان الأمر بصيام ما بين الفجر إلى الغروب في فنلندا منصرفةً عنه الأدلّة، لزم سقوط الصوم نفسه.
خامساً: إنّ مختلف هذه الآراء أشبه بالاجتهاد في مقابل النصّ، فإذا كان النصّ القرآني صريحاً في معياريّة الفجر والليل، وكانت النصوص النبويّة وغيرها واضحة في أنّ بداية الصوم من الفجر ونهايته هو الغروب، وهذا كلّه مقياسه هو المكلّف نفسه، أي فجره وغروبه، تماماً كما زوال شمسه وطلوعها في باب الصلاة، والمفروض أنّ البلدان الشماليّة التي نتحدّث عنها هنا فيها فجرٌ وغروب، فإنّ حذف معياريّة الفجر والغروب بالنسبة للمكلّف واستبدالها بفجرٍ آخر أو غروبٍ آخر، هو اجتهادٌ في مقابل النصّ.
وقد تشكل وتقول: کیف تُعَدّ هذه الاجتهادات من قبیل الاجتهاد في مقابل النصّ أو شبیهةً به، مع أنّه لا نصّ یدلّ على أنّ هذا المِعیار ثابتٌ لجمیع الجغرافیّات، والمجتهد إنّما یتردّد في شمول هذه النصوص نفسِها لبعض البلاد؟!
والجواب: إنّ إطلاق النص القرآني والحديثي واضح وجليّ في أنّ بداية الصوم من الفجر ونهايته مع الغروب، ولا موجب للتردّد في هذا الإطلاق، إلا كون الصيام لأهل السويد مثلاً فيه مشقّة كبيرة، ولولا أنّ فيه هذه المشقة لما فُتح هذا البحث أساساً ولما خطر في بالنا أنّ نهارهم منصرفةٌ عنه النصوص، وهذا ـ أعني المشقّة ـ لا يوجب الانصراف، بل يوجب سقوط الصوم، وإلا فالدلالة واضحة لغويّاً وعرفاً.
وهنا، لا يمكن الاحتجاج بقاعدة «التقدير عند فقدان العلامات»؛ إذ هذه القاعدة، لو سلّمنا بها، مفروضها فقدان العلامات، بينما هنا نحن ما نزال نملك العلامات التي حدّدتها الشريعة وهي الفجر والغروب، والليل والنهار؛ لأنّنا لا نتكلّم عن المناطق التي لا ليل فيها أو لا نهار، ولا فجر وفيها ولا غروب، فكيف جاز لنا استخدام قاعدة التقدير بعد فرض عدم غياب العلامات؟! فهذه القاعدة لو أريد إجراؤها لجرت في البلدان التي لا ليل فيها أو لا نهار، ولا فجر فيها ولا غروب وهكذا.
وعليه، فالصحيح هو ما سلكه المشهور، من وجوب صيام النهار كاملاً حتى في تلك البلدان قصيراً كان أو طويلاً؛ إذ:
أ ـ إمّا أن تكون أدلّة وجوب الصيام غير شاملة للنهار الطويل جداً أو القصير جداً، بل منصرفة عنه؛ انطلاقاً من العجز النوعي عن صيام مثل هذا النهار، أو عبثيّة صيامه على تقدير كونه بضعة دقائق، بما يوجب سقوط أصل وجوب الصيام عن المكلّف هناك.
ب ـ أو تكون تلك البلاد في حكم غيرها، يُعمل فيها على وفق أُفُقِهَا هي، لا على وفق أفق بلدٍ آخر، فلا فرق بين البلاد في ذلك، تماماً كالصلاة، فمن قدر على الصيام هناك ولو يوماً كلّ ثلاثة أيام أو أربعة مثلاً وَجَبَه، وإلا ـ بأن لزم من الصوم الضرر ـ جاز له الإفطار على طبق القاعدة، ولزمه قضاء الصيام حيث يقدر عليه في أيّامٍ أُخَر، وأمّا لو اندرج في ضمن «من يطيق الصوم» جرت عليه أحكامه من نفي القضاء والكفارة وإثبات الفدية.
والفرضيّة الأولى ( أعني: أ) بعيدة؛ لا لأنّ النصوص منصرفة أو لا، بل للعلم بوجوب الصيام على كلّ حال مرّةً في العام، وكونه من شعائر الدين، ومما يعلم من الشريعة عدم تركه للجماعة المسلمة، فكأنّ في تشريعه إطلاقاً مضمونيّاً، وكأنّه يصبح من العسير علينا للغاية فرض سقوط هذا التكليف عن الجماعة مطلقاً، مع القول بعدم وجوب مهاجرتهم عن تلك البلاد إلى بلدانٍ يمكنهم فيها إقامة الصوم، فإمّا نحرّم عليهم البقاء هناك نظراً لوجوب إقامتهم هذه الشعيرة، الأمر الذي لا يتسنّى هناك، لفرض سقوطها بعد انصراف النصوص، أو نوجب عليهم الصوم ويسقط فرديّاً عن فلان وفلان، بمقدار المرض أو الضرر أو نحوهما، فيتسنّى إقامة هذه الشعيرة إلا من له عذر فردي خاصّ. هذا كلّه مع صعوبة إثبات وجود حرج نوعي في الصيام هناك يوجب سقوط التكليف، حيث ما يزال الكثير جداً من المسلمين يتكيّفون مع هذا الحكم، رغم صعوباته، والعلم عند الله.
