التعليقة على منهاج الصالحين (الصوم ـ المفطرات ـ القسم الثالث)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(11 ـ 12 ـ 2025م)
الفصل الثاني
المفطرات
وهي أمور:
...
مسألة 993: إذا أجنب في شهر رمضان ـ ليلاً ـ ونام حتى أصبح، فإن نام ناوياً لترك الغسل، أو متردّداً فيه، لحقه حكم تعمّد البقاء على الجنابة، وإن نام ناوياً للغسل، فإن كان في النومة الأولى صحّ صومه وإن كان في النومة الثانية ـ بأن نام بعد العلم بالجنابة، ثم أفاق، ونام ثانياً، حتى أصبح ـ وجب عليه القضاء، دون الكفارة، على الأقوى، وإذا كان بعد النومة الثالثة، فالأحوط ـ استحباباً ـ الكفارة أيضاً، وكذلك في النومين الأوّلين إذا لم يكن معتاد الانتباه. وإذا نام عن ذهول وغفلة فالأظهر وجوب القضاء مطلقاً، والأحوط الأولى الكفارة أيضاً في الثالث([1]).
مسألة 994: يجوز النوم الأوّل والثاني مع احتمال الاستيقاظ وكونه معتاد الانتباه، والأحوط ـ استحباباً ـ تركه إذا لم يكن معتاد الانتباه، وأمّا النوم الثالث فالأولى تركه مطلقاً([2]).
مسألة 995: إذا احتلم في نهار شهر رمضان لا تجب المبادرة إلى الغسل منه، ويجوز له الاستبراء بالبول وان علم ببقاء شيء من المنيّ في المجرى، ولكن لو اغتسل قبل الاستبراء بالبول فالأحوط([3]) تأخيره الى ما بعد المغرب.
مسألة 996: لا يعدّ النوم الذي احتلم فيه ليلاً من النوم الأوّل، بل إذا أفاق ثمّ نام، كان نومه بعد الإفاقة هو النوم الأوّل.
مسألة 997: الظاهر إلحاق النوم الرابع والخامس بالثالث.
مسألة 998: الأقوى عدم إلحاق الحائض والنفساء بالجنب، فيصحّ الصوم مع عدم التواني في الغسل([4]) وإن كان البقاء على الحدث في النوم الثاني أو الثالث.
(الثامن): إنزال المنيّ بفعل ما يؤدّي إلى نزوله مع احتمال ذلك وعدم الوثوق بعدم نزوله، وأمّا إذا كان واثقاً بالعدم فنزل اتفاقاً، أو سبقه المنيّ بلا فعل شيءٍ، لم يبطل صومه([5]).
(التاسع): الاحتقان بالمائع، ولا بأس بالجامد([6])، كما لا بأس بما يصل الى الجوف من غير طريق الحلق مما لا يسمّى أكلاً أو شرباً، كما إذا صبّ دواء في جرحه([7]) أو أذنه أو في إحليله أو عينه فوصل إلى جوفه، وكذا إذا طعن برمح أو سكين، فوصل إلى جوفه وغير ذلك، نعم إذا فرض إحداث منفذ لوصول الغذاء إلى الجوف من غير طريق الحلق، كما يحكى عن بعض أهل زماننا، فلا يبعد صدق الأكل والشرب حينئذٍ، فيفطر به، كما هو كذلك إذا كان بنحو الاستنشاق من طريق الأنف، وأمّا إدخال الدواء بالإبرة في اليد أو الفخذ أو نحوهما من الأعضاء فلا بأس به، وكذا تقطير الدواء في العين أو الأذن([8]).
مسألة 999: لا يجوز ابتلاع ما يخرج من الصدر أو ينزل من الرأس من الخلط إذا وصل الى فضاء الفم، على الأحوط، أما إذا لم يصل الى فضاء الفم فلا بأس بهما([9]).
مسألة 1000: لا بأس بابتلاع البصاق المجتمع في الفم، وإن كان كثيراً وكان اجتماعه باختياره، كتذكّر الحامض مثلاً.
(العاشر): تعمّد القيء، وان كان لضرورة من علاج مرض ونحوه([10])، ولا بأس بما كان بلا اختيار.
مسألة 1001: إذا خرج بالتجشّؤ شيء ثم نزل من غير اختيار لم يكن مبطلاً، وإذا وصل إلى فضاء الفم فابتلعه ـ اختياراً ـ بطل صومه، وعليه الكفارة على الأحوط([11]).
مسألة 1002: إذا ابتلع في الليل ما يجب قيؤه في النهار بطل صومه إذا أراد القيء نهاراً([12])، وإلا فلا يبطل صومه على الأظهر، من غير فرق في ذلك بين الواجب المعيّن وغير المعين، كما أنّه لا فرق بين ما إذا انحصر إخراج ما ابتلعه بالقيء وعدم الانحصار به.
مسألة 1003: ليس من المفطرات مصّ الخاتم، ومضغ الطعام للصبي، وذوق المرق ونحوهما مما لا يتعدّى إلى الحلق، أو تعدّى من غير قصد، أو نسياناً للصوم، أمّا ما يتعدّى ـ عمداً ـ فمبطل وإن قلّ، ومنه ما يستعمل في بعض البلاد المسمّى عندهم بالنسوار ـ على ما قيل ـ وكذا لا بأس بمضغ العلك وإن وجد له طعماً في ريقه، ما لم يكن لتفتّت أجزائه، ولا بمصّ لسان الزوج والزوجة، والأحوط الاقتصار على صورة ما إذا لم تكن عليه رطوبة([13]).
مسألة 1004: يكره للصائم ملامسة النساء وتقبيلها وملاعبتها إذا كان واثقاً من نفسه بعدم الإنزال، وإن قصد الإنزال كان من قصد المفطر، ويكره له الاكتحال بما يصل طعمه أو رائحته إلى الحلق كالصبر والمسك، وكذا دخول الحمام إذا خشي الضعف، وإخراج الدم المضعف، والسعوط مع عدم العلم بوصوله إلى الحلق، وشمّ كلّ نبت طيّب الريح، وبلّ الثوب على الجسد، وجلوس المرأة في الماء، والحقنة بالجامد، وقلع الضرس بل مطلق إدماء الفم، والسواك بالعود الرطب، والمضمضة عبثاً، وإنشاد الشعر إلا في مراثي الأئمة ـ عليهم السلام ـ ومدائحهم. وفي الخبر: «إذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضوا أبصاركم ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا، ولا تغتابوا، ولا تماروا، ولا تكذبوا، ولا تباشروا، ولا تخالفوا، ولا تغضبوا، ولا تسابوا، ولا تشاتموا، ولا تنابزوا، ولا تجادلوا، ولا تباذوا، ولا تظلموا، ولا تسافهوا، ولا تزاجروا، ولا تغفلوا عن ذكر الله تعالى»، الحديث طويل([14]).
_____________________
الحكم الوضعي لنوم المجنب ليلاً في صورٍ وحالات
([1]) هذه المسألة تبيّن الحكم الوضعي في حالات النوم وأنواعه وعدده للمجنب في ليل شهر رمضان. وما ذكره السيّد الماتن مبنيٌّ كلّه على اعتبار روايات التصحيح تتحدّث عن حالة عدم تعمّد النوم وقصد البقاء نائماً إلى الفجر، وأنّ روايات التفصيل بين النومة الأولى والثانية تقصد هذا التفصيل هنا، أمّا على ما بنينا عليه في فهم مجموعة النصوص، فينبغي القول:
1 ـ إذا أجنب في شهر رمضان ليلاً ونام حتى أصبح متعمّداً وناوياً ترك الغسل، وجب عليه إتمام صومه، والأحوط وجوباً القضاء والكفارة؛ لأنّه من مصاديق تعمّد البقاء.
2 ـ إذا أجنب في شهر رمضان ليلاً ونام حتى أصبح، لكن كان متردّداً في الغسل وعدمه، فالأحوط وجوباً إتمام صومه، ثم القضاء والكفارة؛ لأنّ تردّده لا يجتمع مع نيّة الصوم الجزميّة.
3 ـ إذا أجنب في شهر رمضان ليلاً ونام حتى أصبح، لكن كان ناوياً للغسل، وكان واثقاً من استيقاظه قبل الفجر، ولو لاعتياده الانتباه من النوم قبله، فسبقه النوم إلى ما بعد الفجر، صحّ صومه، بلا فرق بين النومة الأولى والثانية والثالثة وغيرها؛ لعدم وجود دليل يشمل هذه الحالة يوجب بطلان الصوم أو الإلزام بالقضاء أو الكفارة، والنصوص هنا منصرفة عن صورة الوثوق بالاستيقاظ.
4 ـ إذا أجنب في شهر رمضان ليلاً ونام، ثم استيقظ ثم نام (النومة الثانية)، (أو ثم استيقظ ثم نام (النومة الثالثة) فتكون هذه الصورة جمعاً بين صورتي الماتن)، ولم يكن واثقاً من الاستيقاظ قبل الفجر، بحيث كان التردّد حقيقيّاً لا فرضيّاً، فهنا حكم السيّد الماتن بالقضاء دون الكفارة، عملاً ببعض الروايات التي فهموا منها ـ كما قلنا سابقاً ـ مثل هذه التفصيلات، كخبر ابن عمار، بينما لم نفهم نحن منها ذلك، واعتبرناها متعارضة. لهذا نقول: إن تأتّى منه قصد القربة ونيّة الصوم مع هذا، فإنّ صومه يكون صحيحاً، ولا قضاء ولا كفارة عليه؛ لعدم وضوح شمول النصوص في الباب لمثل هذه الصورة؛ وإلا بطل صومه.
ويمكن أن يقال: إنّ من يشكّ فعلاً في أنّه هل یستیقظ من نومه أو لا؟ ولا یملك وثوقاً بالاستیقاظ، فإنّه يقال في حقّه أیضاً ما قلناه في الفرض الثاني، من أنّ «تردّده لا يجتمع مع نيّة الصوم الجزميّة»، فهل یُعقل أن یکون لشخصٍ نیّةٌ جزمیّة للسفر غداً صباحاً، وقد اشترى تذکرةً للساعة الخامسة، ومع ذلك یشكّ شکّاً حقیقیاً في أنّه هل یستیقظ من نومه أو لا، فینام مع بقاء نیّة السفر الجازمة؟! إنّ مثل هذا لا یتصوّر إلّا على وجه القصد التقدیري، أي أن ینوي قائلاً: «إن استیقظتُ سأسافر، وإن لم أستیقظ فلا».
ولأجل ذلك بيّنا المسألة هنا بصيغة التعليق؛ لاحتمال أنّه يوجد موردٌ ما يصدق معه النيّة الحقيقيّة، وإلا فما يظهر لنا هو عدم وجوده.
5 ـ إذا استيقظ مجنباً ثم نام عن ذهول وغفلة عن الغسل، حكم السيد الماتن بوجوب القضاء عليه على الأحوط وجوباً في النومين الأوّلين، مع الكفارة في الثالث.
والصحيح صحّة صومه؛ لما قلناه سابقاً عند التعليق على (المسألة رقم: 988)، من أنّ بطلان الصوم بالنوم نسياناً مدركه آحاديّ، فيجب عليه إكمال صومه، والأحوط استحباباً له القضاء والكفارة.
الحكم التكليفي لنوم المجنب ليلاً في صوره وحالاته
([2]) هذه المسألة تبيّن الحكم التكليفي لحالات النوم وأنواعه وعدده للمجنب في ليل شهر رمضان، بعد فراغ الماتن عن بيان الحكم الوضعي في المسألة السابقة، وقد فصّل الماتن هنا بتفصيلين:
أ ـ احتمال الاستيقاظ مع اعتياد الانتباه وعدمه.
ب ـ النومة الأولى والثانية فحكم فيهما بتفصيل، بينما حكم في النومة الثالثة بنحو الإطلاق.
والظاهر أنّ المسألة لها صور ثلاث، بلا فرق بين النومة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها:
الصورة الأولى: أن يكون واثقاً بالاستيقاظ؛ لاعتياده الانتباه أو لغير ذلك، ولا إشكال هنا في الجواز؛ للأصل، وعدم وجود مبرّر التحريم.
الصورة الثانية: أن يكون واثقاً بعدم الاستيقاظ، ولا إشكال هنا في الحرمة ـ بناء على مبطلية الصوم أو على كون القضاء والكفارة عقوبة ـ لفرض أنّه يتعمّد إبطال الصوم، والمفروض حرمة ذلك ـ بمعنى كونه تركاً للواجب ـ وهكذا.
الصورة الثالثة: أن يكون متردّداً في أنّه لو نام يستيقظ قبل الفجر أو لا، سواء زاد ظنّه قليلاً لهذه الناحية أو لتلك، وهنا إن تأتّى منه قصد الصوم واقعاً، لم يحكم بالحرمة، وإلا ـ كما هو المتوقّع عادةً ـ فيكون حراماً من باب إبطال الصوم، بناءً على مبطليّة البقاء.
([3]) استحباباً؛ لكون مستنده آحاديّاً، بل لا يبعد عدم وضوح دلالته في الشمول لمثل هذه الحال.
([4]) بل يصحّ حتى مع التواني، بناءً على ما قلناه عند التعليق على (المسألة رقم: 991)، فراجع.
الموقف من مفطريّة إنزال المني
([5]) يعدّ الفقهاء عندما يذكرون المفطرات بالنسبة للصوم، يعدّون إنزالَ المنيّ من المفطرات، بل عبّر عنه بعضهم هنا صريحاً بالاستمناء، وهو تلقائيّاً يختلف عن الجماع الذي هو مفطر آخر. فلو أنزل الصائمُ المنيَّ سواء بوسيلة محرّمة أم بوسيلة غير محرّمة كملاعبة زوجته، فإنّه يفطر بذلك، ضمن الشروط المأخوذة في المفطرات. نعم لو كان واثقاً بعدم حصول الإنزال لكن سبقه المنيُّ دون فعل شيء أو أنزل اتفاقاً لم يفطر.
وهذا الرأي في مفطريّة الإنزال ـ بصرف النظر عن الجماع ـ هو المعتمد لدى جمهور فقهاء أهل السنّة والإماميّة كذلك، غير أنّ ثمّة في الوسط السني بعض المداخلات النقديّة المحدودة جدّاً هنا، والتي تناقش في أصل الإنزال ومفطريّته، حيث يظهر من بعضٍ قليل أنّه ليس من المفطرات، وبعضهم اعتبره حراماً على الصائم لكنّه لا يُبطل الصوم ولا يوجب قضاءً ولا كفارة، على قاعدة التمييز بين مبدأ المفطرات ومبدأ المحرّمات، فبعض الأمور محرّمة على الصائم لكنّها ليست من المفطرات، وبعضها من المفطرات التي توجب القضاء بل حتى الكفارة، وقد تكلّمنا عن ذلك سابقاً عند الحديث عن الارتماس.
والأقرب بالنظر هو أنّ المفطر من إنزال المنيّ ليس مطلق الإنزال أو الاستمناء ولو عمداً، بل المفطر هو المقاربة الجنسية بحيث ينتج عنها الإنزال ولو لم يحصل دخول، بمعنى أنّ الاستمناء بنفسه ليس مفطراً بصرف النظر عن حرمته، إنّما المفطر هي حالة واحدة من حالات إنزال المنيّ، وهي حالة الإنزال المسبَّب عن اتصال بين الرجل والمرأة مثلاً، كما لو لاعب زوجته فأمنى، أو التصق جسده بجسدها فأمنى كما ورد في بعض الروايات، أو تكلّم معها فأمنى، أمّا لو حصل نزول المني من دون وجود طرف آخر يتمّ الاتصال الجنسي ـ ولو غير الدخول ـ معه، فلا يظهر من الأدلّة كونه مفطراً. فالأدلّة في الحقيقة ـ وأرجو الانتباه جيّداً ـ كأنّها توسّع دائرة مفهوم الجماع لحالة الإنزال الناتج عن اتصالٍ جنسيّ ما، لا أنّها تعتبر الإنزال بنفسه مطلقاً من المفطرات.
والذي دفع فقهاء الإماميّة إلى اعتبار عنوان إنزال المنيّ من المفطرات، هو أنّهم فهموا من الروايات أنّها ناظرة لمطلق نزول المنيّ، بينما الذي يراجع تمام الروايات الواردة في المقام، سواء منها الروايات التي تحدّثت مباشرةً عن مفطريّة إنزال المنيّ أم تلك التي تحدّثت عن ثبوت الكفارة في حالة الإنزال، سوف يرى أنّ جميعها ناظرٌ لحالة الارتباط الجنسي. ودعوى رفع الخصوصيّة كانت ستكون ممكنةً جداً لولا قوّة احتماليّة أنّ الروايات تريد توسعة مفهوم الاتصال الجنسي من الدخول للإنزال الناتج عن هذا الاتصال، ومعه فلا دليل على التعميم في المقام، فراجع مختلف الروايات تجد ما نقول. بل تحذيرها من مماسّة الزوجة خوفَ الإنزال لا يدلّ ـ ضمن السياق الذي قلناه ـ على معياريّة الإنزال لوحده، بل ينسجم مع معياريّة الإنزال الناتج عن اتصال جنسي بين رجل وامرأة.
وأمّا استدلال بعض فقهاء أهل السنة بحديث أبي هريرة عن النبيّ‘ أنّه تحدّث عن أنّ الصائم يدع شهوتَه، فهذا محلّ نقاش؛ إذ لا يُعلم ـ لو صحّ سنداً ـ أنّ المراد بالشهوة هنا مطلق الإثارة الغريزيّة، بل قد اتفق فقهاء الإسلام ودلّت النصوص الصريحة على جواز الشهوة غير المنتجة للجماع ولا لنزول المنيّ. فالأظهر ـ حيث إنّ الحديث في مقام بيان الكليّة لا التفاصيل ـ أن يكون المراد بالشهوة الجماعَ ونحوه، بوصف ذلك قدراً متيقّناً. بل يكفينا من مجمل ما قلناه، حصول الشكّ في وجود إطلاق في النصوص كلّها، لغير الحالة التي أشرنا إليها.
وقد تسأل هنا: إنّكم فَسَّرتم الروايات على أنّها توسّع الجماع لتشمل أيّ اتصال جنسي بین الرجل والمرأة، فهل هذا يعني أنّكم لا تعتبرون الاتّصال الجنسي بین مثلین، إذا انجرّ إلی الإنزال، مشمولاً للموقف هنا ولا تحكمون بالبطلان أو أنّكم كنتم في مقام المقارنة بین الاتصال الجنسي والاستمناء، وتعتبرون أنّ الاتصال الجنسي بین رجلين أو امرأتين، إذا أفضى إلى الإنزال، يكون مبطلاً؟
والجواب: إنّ ما يثبت مفطريّة الجماع في مورده يتوسّع حكمه للاتصال الجنسي المفضي للإنزال، ولا يختصّ الأمر بالزوجة دون المزنيّ بها مثلاً أو بالمرأة دون الرجل.
وقد تشكل: ما السبب في عدم توقّفكم هنا واحتياطكم، بينما في بعض المسائل السابقة، كانت هناك مسائل شبیهة بهذا كانت تستلزم التوقّف؟ فنحن هنا نواجه رواياتٍ متردّدة بین مضمونین: إلغاء خصوصیّة الجماع والدخول، واعتبار الإمناء المطلق مبطلاً، وإلغاء خصوصیّة الجماع والدخول، بمعنى أن الجماع المبطل امتدّ إلى أي اتّصال جنسي بین الرجل والمرأة يحقق الإنزال، من جانب آخر، ذکرتُم أنّه لو لم یکن الاحتمال الثاني موجوداً، لکان الاحتمال الأوّل قریباً جداً، وعليه فأنتم تحتملون الاحتمالين معاً وفي الوقت نفسه جعلتم الثاني مانعاً عن الوثوق بالأوّل، وهذا منكم يستلزم الاحتیاط الواجب فلماذا لم تبنوا عليه؟
والجواب: إنّ الاحتمال الثاني هو قدرٌ متيقّن، فيما الأوّل مشكوك الدلالة عليه في النصوص، ومشكوكٌ فهم العرف له، فنأخذ بالمتيقن ونذر غيره، فلا موجب للاحتياط.
عدم مفطريّة الاحتقان بالمائع ولا بالجامد
([6]) المشهور بين فقهاء الإماميّة حرمة احتقان الصائم بالمائع (الحقنة الشرجيّة)، بل صرّح بعضُهم بعدم الفرق في المائع بين الماء وغيره ولو لم يكن دواءً. ونُسب الخلاف في أصل الحرمة إلى ابن الجنيد، حيث قيل بأنّه ذهب إلى استحباب اجتناب الصائم عن الاحتقان.
أمّا مفطريّة الاحتقان، فقد قيل بأنّه ذهب إليه المشهور، بل ادّعي عليه الإجماع، لكنّ بعضهم تحفّظ على المفطرية مثل الشيخ محمد رضا آل ياسين، بل نُسب للكثيرين القول بعدم المفطريّة، مثل المرتضى وابن إدريس الحلّي والصدوق وابن أبي عقيل العماني وغيرهم. واحتاط وجوباً في الحكم بالمفطريّة السيد محمّد حسين فضل الله والسيّد محمّد تقي المدرّسي.
أمّا في الفقه السنّي، فمشهور المذاهب الأربعة هو مفطريّة الاحتقان، إلحاقاً له بالطعام والشراب؛ لأنّه نوع من التغذّي كما فهموه، أو لأنّه يُلحق بالأكل ويُقاس عليه. وعُرف بين المالكيّة تخصيص الموقف بالاحتقان بالمائع. فيما ذهب المذهب الظاهري وبعضُ المالكية والشافعيّة، وكذلك ابن تيمية وجملة ممّن تبعه، إلى عدم مفطرية الاحتقان مطلقاً.
والأقرب بالنظر هو عدم مفطريّة الاحتقان ولا حرمته بعنوانه، سواء كان بالمائع أم بالجامد، ما لم يكن الاحتقان نوعاً من تغذية البدن ويقوم مقام الأكل والشرب في ذلك، بما يشبه (المصل)، فيلزم الاحتياط بتجنّبه حتماً، والمرجع في تعيين كون هذا الاحتقان أو ذاك يفعل فعل التغذّي أو لا، هو العلوم الطبيّة وأمثالها وأهل الخبرة بذلك.
ومنهجيّة الاستدلال هنا تختلف بين الشيعة والسنّة، ففيما كان الاجتهاد السنّي يميل لمقاربة الموضوع من زاوية إدخال شيء إلى الجوف أو التغذّي أو القياس على الأكل، كان معتَمد الفقه الشيعي مجموعة نصوصٍ حديثيّة عن أهل البيت، وإلا فليس بين المسلمين ولا حتى رواية واحدة نبويّة هنا حسب الظاهر.
أمّا المستند السنّي، فغير مقنع؛ إذ الاحتقان لا يساوق التغذي بالضرورة، بلا فرقٍ بين الجامد والمائع، فكان اللازم التفصيل والرجوع إلى أهل الخبرة، لا الإطلاق، بل الجامد سيُصبح مائعاً في الجوف إذا كان من نوع المواد الدهنيّة، ولهذا احتاط فيه وجوباً أمثال السيد محمّد سعيد الحكيم! وقياسُ الاحتقان على الأكل قياسٌ غير مكتمل ولا مقنع، إذ الأكل متقوّم بالتغذية فكيف يمكن تسرية الموقف لمطلق دخول شيء في الجوف؟! فهو قياس ظنّي غير حجّة.
وأمّا المستند الشيعي، فالروايات متعارضة، وجمهور الفقهاء فهموها بطريقة تبدو في ذهني القاصر غير عرفيّة في ربط العام بالخاصّ، حتى أقحم بعضهم في المقام ما هو خلاف الذهن العرفي والعقلائي في التعامل مع تعارض الأخبار، مما أطلقوا عليه نظريّة انقلاب النسبة، على ما حقّقناه في محلّه. فبعض الروايات صريح في أنّه لا يضرّ الصائمَ ما صنع إذا اجتنب كذا وكذا، ممّا ليس فيه الاحتقان إطلاقاً، هذا على مستوى الروايات العامّة التي قد يدّعي شخصٌ أنّ فيها إباءً عن التخصيص أو سوء بيان على تقدير عروض تخصيصات متعدّدة عليها. بل قد يُدّعى أنّ مثل هذه النصوص أوفق بالكتاب، وإن قيل بأنّ الكتاب لم يتعرّض لذلك. أمّا الروايات الخاصّة هنا فبعضها يدلّ على المفطريّة، لكنّ بعضها الآخر واضح في الترخيص باستدخال الصائم للدواء، وهو في مقام البيان، ولا معنى فيه لترك الاستفصال بين الاحتقان وغيره، وبين الجامد والمائع، حتى نطبق قواعد التعارض هنا تطبيقاً حرفيّاً غير عرفي، فقد ورد في معتبرة علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر×، قال: سألته عن الرجل والمرأة هل يصلح لهما أن يستدخلا الدواء، وهما صائمان؟ قال: «لا بأس» (الكافي 4: 110)، فإنّ الرواية لو لم تكن ناظرة ـ بقرينة تعبير "الاستدخال" ـ للاحتقان أو لإدخال شيء في الأسفل، فلا أقلّ من أنّ المقام هو مقام التبيين جدّاً. ودعوى أنّ الاستدخال منصرفٌ هنا أو قدره المتيقّن الجوامد، ليست بواضحة.
والأهمّ في النقاش عندي، هو أنّ عمدة أدلّة المفطريّة روايتان، فترجعان لخبر آحادي، ولا نقول بحجيّة خبر الواحد. وعمل المشهور بهما راجعٌ لترجيحهم نصوصاً على أخرى، سواء النصوص العامّة مع الخاصّة، أو النصوص الخاصّة مع الخاصّة، وفي مثله لا تجري قواعد جبر الأسانيد ولا يحصل الوثوق بالصدور.
بل إنّني أحتمل في فقه الصوم عامّة ـ وأطرح هذا الاحتمال للتفكير الجادّ قبل الاستعجال بأخذه أو رفضه واستغرابه ـ أنّ بعض الأمور التي بدا في بعض النصوص التحفّظ عنها مثل الارتماس وإدخال الغبار والاحتقان وأمثال ذلك مرجعه لتخوّف تحقيق هذه الأشياء لمفهوم التغذّي أو نفوذ الماء ونحوه للداخل وفقاً للاحتماليّات العلميّة التي كانوا يملكونها آنذاك، فجروا على الظاهر في ذلك، كما كانوا يجرون على الظاهر في القضاء بصريح الروايات المنقولة عن النبيّ وأهل بيته في ذلك، لا أنّ هناك مفطرات جديدة مستقلّة قائمة بنفسها في الشرع. ومن باب لفت النظر لتحفيز التفكير، لاحظ رواية حَنَان بن سَدِير، قال: سألت أبا عبد الله× عن الصائم يستنقع في الماء قال: لا بأس، ولكن لا ينغمس فيه، والمرأة لا تستنقع في الماء؛ لأنها تحمل الماء بفرجها (بقُبُلها)» (الكافي 4: 106؛ وعلل الشرائع 2: 388؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 2: 115؛ وتهذيب الأحكام 4: 263)، فإنّ التعليل في المرأة يشير للتعامل الاحتياطي بحكم الظاهر الذي قد يتعاملون على أساسه فيُصدرون أحكاماً تحفّظيّة لا مستقلّة تأسيسيّة، معتمدة على عملهم بالظاهر المنكشف بحسب علوم ذلك الزمان.
وهذا أمرٌ يفتح على فرضيّة كبرى في منهج البيان التشريعي في لسان النبيّ وأهل البيت والصحابة معاً، ويفرض تحليل النصوص التأسيسيّة وتمييزها عن النصوص التحفّظيّة التي من هذا النوع، ولو من خلال مقارنة مثل «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب..»، مع مثل هذه النصوص، بحيث يرفع التعارض بينها، بل يقلّل التمايز بين معطيات الكتاب ومعطيات السنّة الشريفة، وهو ما يضع على كاهل الفقيه مسؤوليّةً بحثيّة جديدة، وهو ما نتركه لمناسبة أخرى، وهنا فقط أثيره بوصفه احتمالاً، لا أكثر.
ولمزيد اطّلاع على شيء من التاريخ المتصل بهذه الفكرة نوعاً ما والتنظير الأوّلي لها، يمكن مراجعة مقالتي تحت عنوان «نظام الحماية والتأمين في الشريعة الإسلاميّة، قراءة مدخليّة لنظريّة الدوائر الثلاث في شبكة التشريعات القانونيّة»، والمنشورة في مجلّة الاجتهاد والتجديد في بيروت، العدد 46، ربيع عام 2018م.
قد تقول: إنّ ما احتلتموه في فقه الصوم يجري في غيره، وهذا المنهج وإن کان الاحتمال الثبوتي الداعم له مطروحاً للجمیع، إلا أنّه لا یتفعّل إلّا ضمن قدرٍ من المنهج الفقهي المقاصدي، إذ لا یسمح الفقیه لنفسه بمثل هذه التفسیرات إلّا إذا کان یری في المبنی إمکان التفسیر العرفي المقاصدي للأدلّة، هذا مضافاً إلى أنّه في خصوص محلّ البحث، یُحتمل أنّ أغلب الفقهاء یرون عرض مثل هذه الصورة عن الإمام المعصوم، الذی أصدر حکماً تحفظیّاً بناءً علی المعطیات العلمیّة في عصره، ثمّ تبیّن بطلانها الیوم، يرونه أمراً موهناً لمقام الإمامة، وإن لم یقولوا بعلمه بالغیب في جمیع الأمور علی مبانیهم أنفسهم.
([7]) يلزم الانتباه إلى أنّ أمعاء الإنسان لها قابليّة امتصاص السوائل إلى حدٍّ ما، فإذا كان المناط هو التغذّي، فقد ذُكر في بعض المصادر أنّ الماء الّذي يُمتصّ عبر الأمعاء يمكن أن يُسهم إلى حدٍّ ما في تلبية حاجة الجسم من الماء وتخفيف الإحساس بالعطش، وإنْ كان هذا المقدار محدوداً، وعليه فإذا صدق هذا على الحقنة مثلاً، وصدق عنوان التغذي أشكل الأمر، والأمر موكول لتحقيق المسألة علميّاً كما قلنا، فتكون المفطريّة لعنوان الطعام والشراب والتغذّي، لا لعنوانه هو، فانتبه.
([8]) مجمل ما قاله الماتن صحيحٌ، باستثناء ما لا يصدق عليه الأكل والشرب حرفيّاً، لكن يصدق عليه التغذّي القائم مقام الأكل والشرب عرفاً، فقد قلنا سابقاً بأنّه من الصعب إخراج هذه الصورة عن هذه الأدلّة. والماتن برّر مفطريّة استدخال الطعام من غير الفم بأنّه أكلٌ وشرب، وقوفاً منه على عنوان الأكل والشرب، ونحن نرى أنّه ولو لم يصدق عليه عنوان الأكل والشرب حرفيّاً، لكنّه مشكلٌ جداً.
حكم الأخلاط (البلغم و..) والتجشؤ في الصيام
([9]) ذهب العديد من الفقهاء إلى شمول مفطريّة الأكل والشرب (أو الطعام والشراب) للأخلاط وأنواع البلغم والنخامة والنخاعة إذا وصلت من الجوف إلى فضاء الفم، ثمّ ابتلعها الصائم، فإنّها كغيرها من الأشياء التي إذا ابتُلعت يحكم ببطلان الصوم بسببها، فإنّه لا فرق في بطلان الصوم بين كون ما يبتلعه الإنسان مما يُتعارف أكله بين الناس مما هو مطعوم لهم ومشروب معتاد، وما ليس كذلك.
وحكم بعض الفقهاء بوجوب الاحتياط بالترك؛ انطلاقاً من خصوصيّةٍ هنا ترجع لمقاربة النصوص مع بعضها وإقحام فكرة العلم الإجمالي وإجمال المخصِّص المنفصل وغير ذلك مما لا حاجة للحديث عنه.
لكن خالف في ذلك بعض الفقهاء، ورأى أنّ هذه الأخلاط لا يُبطِلُ ابتلاعُها مطلقاً في جميع الحالات الصومَ، ومن هؤلاء: السيد محمّد حسين فضل الله، والسيد علي السيستاني، والسيد موسى الشبيري الزنجاني، والشيخ محمّد الصادقي الطهراني، وغيرهم. أمّا الشيخ عبد الله جوادي الآملي فرأى أنّ مقتضى الاحتياط تجنّب ابتلاع النخامة التي تصل فضاء الفم، لكن لو بلعها الإنسان وخالف هذا الاحتياطَ الواجب فإنّه لا يبطل صومه.
والصحيح هو عدم مفطريّة تناول هذه الأخلاط كلّها، سواء وصلت للحلق أو غيره، أو وصلت لفضاء الفم أو غيره، فإنّ المفطر ما لو خرجت من الفم، ثمّ قام الإنسان بتناولها. والحكمُ عينه يجري في الطعام القليل الذي يخرج إلى الحلق أو إلى فضاء الفم بالتجشؤ، ثم يبتلعه الصائم، فإنّه لا يُبطل صومه. وقد كنتُ سابقاً أبني على مفطريّة هذه الأخلاط مطلقاً، لكنّ المراجعة المتكرّرة دفعتني لتغيير موقفي، والله العالم بأحكامه.
والذي دفع العلماء لشيءٍ من النقاش في هذا الموضوع هو رواية غياث بن إبراهيم التي جاء فيها: «لا بأس أن (بأن) يزدرد الصائمُ نخامته». ووقع خلاف في معنى النخامة في اللغة العربية والفرق بينها وبين النخاعة، وفي مفهوم الازدراد هنا.
غير أنّ الصحيح أنّ خبراً آحاديّاً منفرداً في بابه لا يمكنه مواجهة العمومات والمطلقات القرآنيّة والحديثيّة الكثيرة ـ لو كان لها دلالة ـ ولو بالتخصيص؛ لعدم حجيّة خبر الواحد الظنّي.
فالصحيح في مناقشة هذه القضيّة في تقديري هو دعوى انصراف جميع الأدلّة ـ على أنواعها هنا ـ لخصوص تناول شيء من الخارج وإدخاله في الجوف في مقابل شيء هو في الجوف أصلاً. وانتقال البلغم مثلاً من داخل الجسد، ولو إلى فضاء الفم، ثمّ ابتلاعه، لا يصدق عليه عنوان الأكل والشرب المنصرفة إليهما الأدلّة، فالخصوصيّة هنا في تحليلي المتواضع هو إدخال شيءٍ من الخارج إلى الجوف، ولا يصدق هذا الأمر في مورد وصول هذه الأخلاط من الجوف لفضاء الفمّ، فضلاً عن وصولها للحلق، فراجع مختلف نصوص الباب في الكتاب والسنّة تجد أنّ المدار هو تناول شيء في الخارج وإدخاله للجوف، بل يكاد التعبير اللغوي لا يشمل حالة تناول هذه الأخلاط، ولهذا يعبّر عادة في مثل هذه الموارد بالازدراد أو الابتلاع، وليس بالأكل والشرب. بل يكفي الشكّ الحقيقي في انعقاد إطلاقات وعمومات شاملة للمورد، مؤيَّداً ذلك كلّه بخبر غياث بن إبراهيم المتقدّم على تقدير دلالته على الموضوع.
بل يتقوّى ما ذهبنا إليه بصحيح عبد الله بن سنان الصريح في أنّه لو خرج شيءٌ من الطعام بالتجشؤ (المعبّر عنه في الرواية بالقلس) فوصل إلى فضاء الفم ـ فضلاً عن الحلق ـ جاز ابتلاعه، ولا يبطل الصوم، فهذه الرواية الصريحة الواضحة مؤيِّدٌ قوي على أنّ العبرة بما يدخل إلى الجوف من الخارج، لكنّ الفقهاء حملوا هذه الرواية على التقيّة وأمثال ذلك. والسبب هو انعقاد الإجماع عندهم على بطلان الصوم في هذه الحال، فاعتبروا أنّ المشهور أعرضوا عن هذه الرواية، ولهذا احتاط وجوباً ببطلان الصوم بابتلاع هذا الطعام الخارج إلى الفم بالتجشؤ ـ ولم يُفتِ ـ بعضُ الفقهاء المتأخّرين، مثل السيد أبو القاسم الخوئي وجماعة من تلامذته، وكذلك السيد علي السيستاني، والشيخ حسين علي المنتظري، وغيرهم.
وقد تقول: إنّ هذا معناه أنّ بقايا الطعام القليلة التي تكون عالقة من قبل الفجر في الفم يمكننا أكلُها!
والجواب: إنّ هذا الفرض مبطلٌ للصيام وهو مصداقٌ لما تنصرف إليه الأدلّة، وهو دخول شيء من الخارج إلى الجوف، فالخارج هنا هو ما كان خارج الفم ودخل الفم من خارجه، وليس الفم هو الخارج، وهذا على خلاف موضوع الأخلاط فإنّها لم تدخل الفم من الخارج، بل هي تحرّكت في داخل البدن، فتصوّر الفقهاء أنّ مطلق ما يدخل من الفم إلى الجوف هو مفطر، أو تصوّروا أنّ الفم هو الخارج نفسه، في حين منصرَف الأدلّة هو مطلق ما يدخل من مثل الفم آتياً من خارج البدن ولو من قَبل، ولهذا نقول بأنّه لو خرجت الأخلاط إلى خارج البدن، ثم أعاد تناولها، بطل صومه؛ لتحقّق العنوان الكلّي المأخوذ في منصرَف الأدلّة، فراجع النصوص وانصرافاتها، ولاحظ ذلك.
وأمّا ما ذكره بعض الفقهاء في بحوثه الاستدلاليّة ـ مثل الشيخ محمّد إسحاق الفياض ـ من شمول الحكم بالمفطرية أيضاً لما إذا وصل البلغم مثلاً للحلق، ولو لم يدخل لفضاء الفم، فهو غير مقنع؛ إذ الروايات التي ذكرها بوصفها شواهد لقوله، تتحدّث عن شيء أتى من الخارج من غير طريق الفم، ثمّ وصل الحلق، مثل ما دخل عن طريق العين أو الأذن أو الأنف، فالمعيار هنا دخول هذا الشيء الآتي من الخارج إلى الجوف، وأين هذا مما نحن فيه، كما صار واضحاً.
قد تسأل: هل یمکن أن نتمسّك لإثبات عدم المبطلّیّة هنا، بأنّه حتّى على فرض صدق الأکل أو الشرب، لما کان الأکل والشرب في الارتکاز العرفي إنّما یُعدّان مُبطلَین بوصفهما مُغذّیَین، ومن جهةٍ أُخرى فإنّ الأخلاطَ لیست مغذّیةً بنظر العرف، وإن قیل بدقّةٍ عقلیّةٍ أو طبّیّةٍ: إنّها تُمتَصّ، وفیها موادّ یستفید منها البدن غذائیاً، فیلزم نتیجةً لذلك أن لا تکون مُبطِلة؟
والجواب: إنّه لا يشترط اذا صدق عنوان الأكل والشرب أن يصدق التغذّي، فالأكل والشرب مطلقاً مبطلان ولو لم يكن غذاء، نعم التغذّي مبطل ولو لم يكن أكلاً وشرباً ولو بناءً على الاحتياط.
مفطريّة تعمّد القيء
([10]) مفطريّة تعمّد القيء (الاستقاءة) بمعنى أن يقصد إخراج الطعام من جوفه، لا أن يسبقه التقيؤ، واضحةٌ، وعليها نصوص عديدة عند الشيعة والسنّة، ولهذا حكم بمفطريّة القيء أيضاً المالكيّةُ والشافعيّة والحنابلة (وتفصيلٌ عند الأحناف).
لكن تعارض هذه النصوص روايةٌ واحدة، وهي خبر عبد الله بن ميمون. وحملُ هذا الخبر على صورة عدم التعمّد خاصّة فيها تأوّل، والأصح أنّه خبر شاذّ تفرّد بنقله الشيخ الطوسي عن كتب الحسين بن سعيد، وليس له سوى طريق واحد، لكنّه مؤيّد بمثل عموم لا يضر الصائم ما صنع!
([11]) بل صحّ صومه، وفقاً لما قلناه عند التعليق على (المسألة رقم: 999)، وإن كان الاحتياط مما لا ينبغي تركه، بل يتعيّن على تقدير كون ذلك من مصاديق التغذّي عرفاً.
([12]) ضمن قاعدة نيّة فعل القاطع التي احتطنا فيها، والتي تقدّم الحديث عنها عند التعليق على (المسألة رقم: 980).
([13]) هنا أمور:
أ ـ إنّ ما ذكره الماتن غالبه على مقتضى القاعدة، وكثيرٌ منه وردت فيه نصوص خاصّة أيضاً.
ب ـ عدم مفطرية مصّ لسان الزوج والزوجة مستنده خبر آحادي، لهذا نرجع لمقتضى القاعدة، فإن كان عليه رطوبة وصدق تناولها من قبل الطرف الآخر، يحكم ببطلان الصوم، وإلا فلا.
ج ـ المراد بالنسوار (النصوار ـ ناس) أو تبغ الغمس، هو نوع من التبغيّات ذات اللون الأخضر التي لا تستخدم للتدخين، بل تطحن بشكل ناعم وتبلّل، وتوضع بين الشفّة واللثّة، فيتمّ مصّه وابتلاع الريق، وتعتبر أفغانستان من البلدان المنتجة لهذه المادّة، وينتشر استعمالها في دول متعدّدة كالهند وباكستان وأفغانستان وكازاخستان وطاجيكستان وقرغيزستان وغيرها. وقد اعتبرت العديد من الدول أنّ هذه المادّة مندرجة ضمن الموادّ المخدّرة ومنعتها.
بعض ما عُدَّ من المكروهات للصائم ولم تثبت كراهته بعنوانه
([14]) ورد في كتب الفقه الإسلامي، وفي كتب الآداب، مجموعة من المكروهات المرتبطة بالصوم والصائم، ومن بينها:
1 ـ ملامسة الصائم المرأة وتقبيلها وملاعبتها مع الوثوق بعدم خروج المنيّ بفعله هذا.
2 ـ الاكتحال.
3 ـ دخول الحمّام إذا كان مضعِفاً للصائم أو خشي منه الضعف.
4 ـ إخراج الدم أو سحبه إذا كان مسبّباً للضعف دون ما لو لم يسبّب للصائم ضعفاً.
5 ـ شمّ الرياحين، وهو كلّ نبات طيّب الرائحة، وقد ذكروا في الوقت نفسه أنّه لا يكره للصائم التطيّب.
6 ـ بلّ الثياب بالماء وهي على الجسد.
7 ـ جلوس المرأة الصائمة في الماء.
8 ـ الحقنة بالجامد.
9 ـ قلع الضرس، بل إدماء الفم مطلقاً من غير ضرورة.
10 ـ المضمضمة عبثاً.
11 ـ إنشاد الشعر للصائم، بل مطلقاً في شهر رمضان المبارك. وقد استثنى العديدُ من الفقهاء هنا ما لو كان الشعر في مراثي أهل البيت النبويّ أو مديحهم، فإنّ الكراهة ترتفع.
12 ـ السواك بالعود الرطب.
والصحيح هو عدم ثبوت كراهة أيّ من هذه المكروهات بعنوانه؛ تارةً لضعف سند أو مصدر ما دلّ على ذلك مع قلّته، مع عدم قولنا بقاعدة التسامح في أدلّة السنن، وأخرى لعدم الدلالة أساساً على الكراهة، وثالثة لكون المستند خبراً آحاديّاً، ورابعة لوجود خلل أو قصور متني في بعض النصوص، لكن هنا أمور ينبغي تبيينها:
أوّلاً: إنّ ضمّ مختلف النصوص في باب الصوم والصائم لبعضها يفيد حكماً تحفّظياً تحرّزياً راجحاً غير ملزِم، وهو أن يكون الصائم مراعياً أن لا يقترب مما يمكن أن يوقعه في المفطر من حيث لا يشعر أو لا يقصد، أو يضطرّه للوقوع فيه، كما لو أوقعه في الضعف الجسدي المفضي للإفطار، فهذه القاعدة يمكن القول بثبوتها بتعاضد النصوص الكثيرة ومذاقها على ذلك. أمّا مصاديق هذه القاعدة فهي ليست مكروهات بعنوانها، فنحن هنا أمام حكمٍ تحرّزي تحفّظي واحد الهدفُ منه عدم الوقوع في المفطر، مثل نزول المني عند ملامسة الزوجة مثلاً، فليس هو مكروهاً قائماً بنفسه على تقدير الوثوق بعدم سبق المنيّ، ولهذا أخّرت الرواية الشيخ الكبير الذي لا يسبقه المنيّ، وركّزت نظرها على الشاب الشبق مميّزةً بينهما. فتأمّل في هذه القاعدة ولاحظ أن مختلف الروايات يمكن أن تكون مجرّد تطبيقات لها، وليست إنشاءات تشريعيّة مستقلّة.
ثانياً: إنّ الاكتحال لم تثبت كراهته بعنوانه، بل هو إن أوجب نزول شيءٍ إلى الجوف مما هو مفطر، حرم وبطل الصوم بذلك، وإلا فلا.
ثالثاً: إنّ روايات كراهة شمّ الرياحين ورد التعليل فيها تارة بأنّها من نوع التلذّذ، وأخرى بأنّ فيها تشبّهاً بسلاطين العجم، ويحتمل أنّ شمّ الرياحين كان وسيلة لرفع العطش أو رفع الإحساس به، كما قيل بأنّه السبب في استخدام الأعاجم له في صومهم قبل الإسلام.
رابعاً: إنّ مسألة كراهة أو استحباب إنشاد الشعر لا تختصّ بالصائم، وفيها بحث طويلٌ وروايات كثيرة متعدّدة، فعلى فرض عدم ثبوت استحبابٍ ولا كراهةٍ مستقلّة لإنشاد الشعر بعنوانه، فإنّه لم يثبت كراهة إنشاده للصائم ولا في شهر رمضان المبارك. ولو فرضنا ثبوت الكراهة هنا فإنّ الاستثناء الذي ذكره الفقهاء في موضوع مراثي ومديح أهل البيت لم يثبت، بل الكراهة ستكون شاملةً لذلك أيضاً، وقد نصّت بعض الروايات التي استدلّ بها على الكراهة على عدم استثناء الشعر الذي يكون في أهل البيت وإن عارضتها رواياتٌ أُخَر في موردها، فراجع.
عدم ثبوت استحباب تأخير السحور في الصيام
لا بأس ـ بمناسبة ذكر بعض المكروهات ـ أنّ نشير لهذه المسألة، فقد ذكر عددٌ كبير من فقهاء أهل السنّة استحباب تأخير السحور ـ ما أمكن ـ إذا أراد الصيام، بل أفرد بعض المحدّثين منهم باباً في كتبهم الحديثيّة تحت هذا العنوان، ويظهر القول بهذا الاستحباب (أو الأفضليّة) من قبل بعض فقهاء الشيعة، مثل العلامة الحلّي في (منتهى المطلب 9: 441؛ وتذكرة الفقهاء 6: 232).
والأقرب أنّه لم يثبت استحباب تأخير السحور، بل غايته أفضليّة السحور نفسه، وبخاصّة في شهر رمضان المبارك، أمّا تأخيره أو تقديمه فهذا مرتبطٌ بتحقيق غاية السحور، وهو التقوّي على الصيام وعدم إضعاف الجسد، فليس هناك حكمٌ مستقلّ قائم بعنوانه اسمه "تأخير السحور".
وقد استدلّوا ببعض الروايات، ومنها: خبر زيد بن ثابت، قال: «تسحّرنا مع رسول الله‘. قال: ثمّ قام إلى الصلاة. قال: قلت: كم كان بين الأذان وبين السحور؟ قال: قدر قراءة خمسين آية» (سنن الدرامي 2: 6؛ وسنن ابن ماجة 1: 540؛ وسنن الترمذي 1: 104)، وكذلك خبر سهل بن سعد، قال: «كنت أتسحّر في أهلي، ثمّ تكون سرعتي أن أُدرك السجود مع رسول الله‘» (صحيح البخاري 2: 231)، وقد ورد أيضاً ما يشبه هاتين الروايتين.
لكنّ مثل هذه الروايات لا يفيد دلالةً، حتى لو تمّ سنداً، وذلك أنّ مجرّد وقوع سحورٍ واحد هنا أو هناك من النبيّ في هذا الوقت لا يفيد السنّة الشرعيّة كما حُقق في علم أصول الفقه، بل حتى لو تكرّر بلا قرينة إضافيّة لا ينفع؛ لاحتمال أنّ النبيّ شخصاً يشعر بأنّه يحتاج ـ للتقوّي أكثر على الصيام ـ إلى تأخير السحور، فما لم تكن إشارة من النبيّ أو قرينة حافّة على شرعيّة ودينيّة هذا السلوك، فإنّ مثل هذه الأمور لا تكون دالّة على حكم شرعي أوّلي بعنوانه في أصل الشرع، كما تقرّر في باب حجيّة الفعل النبويّ. كما أنّ عادة هذا الصحابي أو ذاك ليست حجّةً على المسلمين ما لم تكشف عن الموقف الشرعي النبويّ، أو تدلّ على سيرة متشرّعية قادرة على الكشف عن توجيهٍ نبوي أوّلي في هذا الصدد. كما استدلّوا بروايات قليلة أخَر أفضل دلالةً، لكنّها مناقشة إسناداً، حتى لو وردت إحداها في صحيح مسلم، فلا نطيل.
واستدلّ العلامة الحلي بخبرٍ إماميّ، فقال: «ومن طريق الخاصّة: ما رواه الشيخ أنّ رجلاً سأل الصادق×، فقال: آكل وأنا أشكّ في الفجر، فقال: كل حتّى لا تشكّ» (منتهى المطلب 9: 442).
ولكنّ هذه الخبر لا علاقة له بموضوع بحثنا كما هو واضح، وقد ناقشه الخوانساري في (تكملة مشارق الشموس: 443) بأنّه لا يدلّ سوى على الرخصة، وقريبٌ منه ما ذكره التقيّ المجلسي في (روضة المتقين 3: 380). ومناقشتهما في محلّها. نعم نقل القاضي النعمان مرسَلاً فقال: «وروّينا عن عليّ ـ صلوات الله عليه ـ أنّه قال: السنّة تعجيل الفطر، وتأخير السحور، والابتداء بالصلاة» (دعائم الإسلام 1: 280). ولكنّ هذا الخبر فاقدٌ للإسناد لا يعتمد عليه كما هو واضح، وشبيهه موجود في المصادر السنيّة.
ولهذا لم يسلم دليلٌ موثوقٌ بصدوره ودلالته على استحباب تأخير السحور بعنوانه، إنّما العبرة بالسحور المحقِّق للغرض من وجوده ولفلسفة مطلوبيّته وحُسنه. وبهذا يظهر أيضاً ضعف الاستدلال الذي أقامه بعضهم من خلال بعض الوجوه الاعتباريّة.
