التعليقة على منهاج الصالحين (الصوم ـ المفطرات القسم الأوّل)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(27 ـ 11 ـ 2025م)
الفصل الثاني
المفطرات
وهي أمور:
(الأوّل والثاني): الأكل والشرب مطلقاً، ولو كانا قليلين، أو غير معتادين([1]).
(الثالث): الجماع قُبُلاً ودبراً، فاعلاً ومفعولاً به، حيّاً وميّتاً، حتى البهيمة على الأحوط وجوباً([2]). ولو قصد الجماع وشكّ في الدخول أو بلوغ مقدار الحشفة بطل صومه، ولكن لم تجب الكفارة عليه([3]). ولا يبطل الصوم إذا قصد التفخيذ ـ مثلاً ـ فدخل في أحد الفرجين من غير قصد.
(الرابع): الكذب على الله تعالى، أو على رسول الله‘ أو على الأئمّة عليهم السلام، بل الأحوط إلحاق سائر الأنبياء والأوصياء عليهم السلام بهم، من غير فرق بين أن يكون في أمرٍ ديني أو دنيوي. وإذا قصد الصدق فكان كذباً فلا بأس، وإن قصد الكذب فكان صدقاً كان من قصد المفطر، وقد تقدّم البطلان به مع العلم بمفطريّته([4]).
مسألة 982: إذا تكلّم بالكذب غير موجّهٍ خطابه إلى أحد، أو موجّهاً له إلى من لا يفهم، ففي بطلان صومه إشكال، والاحتياط لا يترك([5]).
(الخامس): رمس تمام الرأس في الماء، من دون فرق بين الدفعة والتدريج، ولا يقدح رمس أجزائه على التعاقب وإن استغرقه، وكذا إذا ارتمس وقد أدخل رأسه في زجاجة ونحوها كما يصنعه الغوّاصون([6]).
مسألة 983: في إلحاق المضاف بالماء إشكال، والأظهر عدم الإلحاق([7]).
مسألة 984: إذا ارتمس الصائم عمداً ناوياً للاغتسال، فإن كان ناسياً لصومه صحّ صومه وغسله، وأمّا إذا كان ذاكراً، فإن كان في شهر رمضان بطل غسله وصومه، وكذلك الحكم في قضاء شهر رمضان بعد الزوال على الأحوط، وأمّا في الواجب المعيّن غير شهر رمضان فيبطل صومه بنيّة الارتماس، والظاهر صحّة غسله إلا أنّ الاحتياط لا ينبغي تركه، وأما في غير ذلك من الصوم الواجب أو المستحبّ فلا ينبغي الإشكال في صحّة غسله وإن بطل صومه([8]).
(السادس): إيصال الغبار الغليظ منه وغير الغليظ الى جوفه عمداً على الأحوط، نعم ما يتعسّر التحرّز عنه فلا بأس به، والأحوط إلحاق الدخان بالغبار([9]).
_______________________
مفطريّة الأكل والشرب
([1]) يقع البحث هنا في مقامين:
1 ـ في شمول الأكل والشرب للقليل والكثير
وهنا يقال بأنّ إطلاقات الكتاب والسنّة تشمل القليل والكثير؛ فإنّ كلمتَي: «الأكل» و«الشرب» لا انصراف لهما عن أكل حبّة حنطةٍ واحدةٍ أو حصاةٍ صغيرةٍ، ولا عن شرب النفط أو قطرةٍ من المطر، بل الوجدان يشهد بأنّ الصدق حاصلٌ من غيرِ مجازٍ ولا عنايةٍ، فلو قال أحدٌ: «أكلتُ حبّةَ حنطةٍ» أو «شربتُ قطرةَ شراب»، فلا نشعر بعدمِ الصدق أو بالمجازيّة في كلامه. نعم، كلمتا: «الطعام» و«الشراب» منصرفتان عن هذه الموارد، فلا يُطلق «الطعام» على الحصاة أو حبّة الحنطة، ولا يُطلق «الشراب» على النفط أو قطرة الماء، غير أنّ ذلك لا يضرّ، لأنّ الله تعالى قال: ﴿وكُلوا واشربوا حتّى يتبيّن..﴾، ومفهومُه أنّه إذا تبيَّن فلا تشربوا ولا تأكلوا، وهذان اللفظان صادقان على ما ذُكر. غاية الأمر أنّ مصاديق الأكل والشرب في الخارج ليست غالباً من هذه الأنواع، لكنّ كثرة الوجود ليست منشأً للانصراف، وإن كانت منشأً له فذلك انصرافٌ بدويٌّ وليس ظهوريّاً مستقرّاً، وهو الذي يكون موضوعاً للحجّيّة. كما أنّ كثرة الاستعمال منتفية هنا، لأنّ لفظي «الأكل» و«الشرب» يُستعملان في حبّةٍ واحدةٍ أو صحنٍ كاملٍ من الطعام، وفي قطرةٍ من الشراب أو كأسٍ كاملٍ، على معنى واحدٍ لا يختلف.
لكن قد يقال في المقابل بأنّ القضيّة ليست في الصدق اللغوي، خلافاً لما أفاده أمثال السيد الخوئي في بحوثه، بل في المدلول العرفي الاجتماعي للكلمة، فاذا قال لك شخص: تفضّل وكل من الطعام، فهل نفهم كفاية أكل حبّة حنطة؟! وهكذا إذا قال لك وأنت في بيته على مائدته: أنت غير مسموح لك بالأكل معنا، فهل يفهم أنّه ناظر لأكل حبّة حنطة وقعت أمامك دون أن تأكل أنت أيّ شيء من الطعام؟! فالمسألة في المدلول العرفي الاجتماعي للأمر بترك الأكل والشرب، وقرينة ذلك أيضاً أنّ الآية قالت: وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم كذا وكذا، والأمر بالأكل والشرب هنا يفهمه العرف تغذّياً أو يفهمه من النوع المتعارف للأكل؛ إذ لا يخطر في بال أحدٍ أنّه يرخّص لنا في أكل الحديد مثلاً، فالادّعاء هو أنّه غير واضحٍ من عمومات الطعام والشراب وكذا الأكل والشرب ذلك، ولهذا يقال لابتلاع ما بين الأسنان: إنّني ابتلعته وازدريته، ولا يقال: أكلت ما بين الأسنان، وبهذا يكون مدّعى التوقّف في دعوى وجود إطلاقات هنا تشمل ما لا يُتعارف أكله أو يكون بالغ القلّة، ويؤيّده أنّهم أجمعوا على جواز ابتلاع الريق، مع أنّه أكل في المعنى اللغوي، لكن لأجل الانصراف وغيره رفضوه، بل هذا ما قاله السيّد الخوئي نفسه في بحوثه.
من هنا، من الصعب الاستناد للإطلاقات والعمومات هنا لإثبات مفطريّة القليل جداً من الطعام والشراب، لكن سيأتي أنّ هناك دليلاً آخر ـ غير المطلقات والعمومات ـ يشمل المقام، وسوف نشير إليه عند البحث في المقام الثاني.
2 ـ في شمول المأكول والمشروب للمتعارف وغيره
إنّ الإشكال الذي أثرناه قبل قليل في المقام الأوّل، يغدو أكثر وضوحاً هنا، فيما لو كان المأكول أو المشروب غير معتادٍ إطلاقاً وفي الوقت نفسه لا يصدق عليه عنوان التغذّي، لكنّ النصوص الكثيرة الواردة في مختلف أبواب الصوم تعطي أنّ الشريعة تشدّدت في تفاصيل جزئيّة عديدة، مثل مسألة الغبار وروايات الاكتحال وأمثالها، بما يجعلنا نخرج عن مقتضى القاعدة، ولولا هذه النصوص لكان القدر المتيقّن من دلالة الكتاب والسنّة كلّ طعام أو شراب متعارف يُعتمد غذاءً ولو كان قليلاً ما لم يكن في قلّته ملحقاً بالعدم عرفاً لا تشمله الإطلاقات.
وقد أبان الشيخ مكارم الشيرازي ذلك في تعليقته على العروة، حيث قال: «لا ينبغي الشكّ في أنّ إطلاق الأدلّة منصرف إلى الأكل والشرب المتعارفين، كما في سائر الإطلاقات؛ أمّا غير المتعارف من جهة الكيف كالتراب، والكمّ كعشر حبّة من الحنطة، فلا؛ لعدم صدق الأكل والشرب عليه؛ ولكن هناك قرائن كثيرة ـ مضافاً إلى ظهور الإجماع ـ تدلّ على أنّ الحكم هنا يدور مدار معنى أوسع ممّا هو المتعارف منهما، مثل ما ورد في الروايات من جواز الكحل إذا لم يجد طعمه في حلقه، وكذا ما ورد من جواز صبّ الدواء في أُذُنه إذا لم يدخل حلقه، وما ورد من أنّ المرأة لا تستنقع في الماء لأنّها تحمل الماء بقبلها، وغير ذلك من القرائن. وسؤال الرواة عن مثل السواك الرطب واليابس أيضاً دليلٌ على أنّهم فهموا معنى أوسع ممّا هو المتعارف» (العروة الوثقى 2: 14).
لكنّ كلامه ناظر للأكل والشرب ـ وهو صحيح في دعواه الانصراف، خلافاً للسيد الماتن في بحوثه ـ غير أنّ النصوص يمكن فهم مقصدها لا من خلال عنوانيّة الأكل والشرب فقط، بل أيضاً من خلال عنوانيّة رفع الجوع والعطش عبر تحصيل التغذّي الموجب لذلك، وممارسة فعل الأكل والشرب ممّا هو رغبة بشريّة متعارفة؛ إذ النصوص التعليليّة الواردة في الصوم كثيراً، تشير لهذه النواحي، بل هذا هو المرتكز في الذهن المتشرّعي الديني عموماً، ولو غير الإسلامي، بعد عدم كون الصوم مفهوماً جديداً غير متعارف للبشريّة، فيُفهم أنّ المراد من ترك الأكل والشرب هو ترك لذّتهما، وكذلك تحصيل رفع الحاجة إليهما بالتغذّي.
وبناءً عليه، فقد يقال: لو ابتلع الصائم حصى أو حديدةً ابتلاعاً ـ ممّا ليس فيه لذّة الأكل والشرب، ولا تحقّق التغذّي به، بل المعدة في هذه الحال ليست إلا وعاءً للحصى، لا أنّ الحصى جزءٌ من غذائها الوارد إليها ـ ففي المفطريّة إشكالٌ، من حيث صعوبة إحراز شمول النصوص لمثل ذلك، فالأحوط وجوباً تجنّبه، كما أنّه لو أدخل الطعام إلى جوفه بحيث حصل التغذّي المتعارف، لكن من غير طريق الفم، كما لو كان من طريق الأنف أو عبر فتحة في الجسد بما يقوم مقام الأكل والشرب تماماً في حصول التغذّي عن طريق المعدة، فإنّه يفطر، ففكرة الأكل والشرب بفهمها العرفي والعقلائي في مثل المقام تعني لذّة ممارسة الفعل، إلى جانب نتيجة الفعل التي هي التغذّي عن طريق المعدة.
وقد تسأل هنا: هل تحليلكم المبنيّ على الارتكاز العرفيّ يختصّ باللذّة الناشئة عن الأكل في خصوص فرض تحقّق الأكل، أو يشمل اللذّة المقارنة للأكل في فرض عدم تحقّقه أيضاً؟ فمثلاً: إذا كان الصائم يمضغ طعاماً يحبّه ثمّ يلفظه ولا يبتلعه، فهل تحليلكم الذي اعتبر الارتكاز العرفيّ متقوّماً بالتغذّي ورفع العطش ومن جهةٍ أخرى باللذّة الناتجة عن الأكل والشرب، يشمل هذه اللذّة التي تكون عادةً مقارنةً للأكل والشرب، ويكون مقتضاه الحكمُ بالإفطار في هذه الحال؟
والجواب: إنّ مضغ الطعام ليس هو لذّة الأكل والشرب، بل هو جزءٌ من ذلك.
وقد تسأل بطريقةٍ أخرى: إنّکم ذکرتم أنّنا نستطیع أن نفهم من مناسبات الحکم والموضوع ومن القرینة الارتکازیّة العرفیة أنّ المقصود من الصوم هو الاجتناب عن لذّة الأکل والشرب. فهل المضغ والتلذّذ بطعم الطعام ـ وهو جزء من الأکل والشرب ویُحدث لذّة مقارِنة لهما ـ داخل أیضاً في هذا الارتکاز، فيجب الاجتناب عن ذلك؟
والجواب: لا يُفهم ذلك من النصوص، بل المراد اللذة الآتية من نفس الأكل والشرب، لا من مجرّد مضغ الطعام، فاللذة لا بدّ أن تكون لذّة الأكل والشرب.
هذا، وسوف تأتي بعض التفاصيل المرتبطة بالأكل والشرب لاحقاً من الماتن، فانتظر.
مفطريّة الجماع ومديات شموله للاتصال الجنسيّ خارج علاقة الرجل والمرأة
([2]) إذا لاحظنا مجمل النصوص في الكتاب والسنّة هنا، وجدنا أنّها ناظرة لعلاقة الرجل بالمرأة، لا لعلاقة الإنسان بالحيوان ولا لعلاقة المرأة بالمرأة أو الرجل بالرجل، بل حتى نصوص المفطريّة في إنزال المنيّ سوف يأتي منّا النقاش فيها وأنّها راجعة لعلاقة الرجل بالمرأة أيضاً بوجهٍ، لهذا من الصعب التعميم للعلاقات الجنسيّة خارج الرجل والمرأة، مثل اللواط ونكاح البهائم وغير ذلك، بصرف النظر عن الإنزال. وقد قلنا في مبحث موجبات الجنابة بأنّ الدخول في البهيمة لا يوجب الجنابة.
لكن في المقابل قد يُدّعى أنّ نكتة الحكم هنا هي تحصيل لذّة الاتصال الجنسي، أي فعل الجماع، بوصفه فعلاً جنسيّاً، وإنّما تركّزت الغالبيّة الساحقة من النصوص حول الرجل والمرأة لكون ذلك هو الغالب الذي يُسأل عنه، فيترجّح التعميم بنكتة وحدة الملاك.
من هنا نحتاط وجوباً في مفطريّة مقاربة غير المرأة، أمّا مقاربة المرأة فهو مفطر مطلقاً، قبلاً ودبراً، للفاعل والمفعول به؛ لصدق العنوان.
هذا، ولا فرق في مفطريّة الجماع بين حصول الإنزال معه وعدمه، ولا بين قصد الإنزال ولو لم يُنزل خارجاً وعدمه، ولا بين كون الجماع حلالاً أو حراماً؛ لإطلاق النصوص.
ولا بأس بإضافة أنّ بعض الفقهاء تعامل بحرفيّة مع النصوص هنا، فمثلاً أشكل السيد مصطفى الخميني في مسألة الوطء في دبر المرأة إذا أدّى إلى الإنزال، بأنّه أوّلاً لا يصدق عليه عنوان «الجماع»، وثانياً بأنّ النصوص الدالّة على بطلان الصوم بالإنزال مختصّة بالتفخيذ والملاعبة ونحوها، ولا تشمل الوطء في الدبر. ونتيجة ذلك قال: «وعلى كلّ تقدير لا تتمّ حجّة على ما يدلّ على لزوم الاجتناب عن النساء على الإطلاق» (كتاب الصوم: 295 ـ 297).
وأنت ترى أنّ التعبير القرآني بـ «الرفث إلى النساء» وكذلك تعبير «المباشرة» مطلقان، و«المباشرة في الدبر» ليست مجازاً، وادّعاء الانصراف إلى الفرد الأبرز غير صحيح هنا؛ لأنّه لو لم يكن الإطلاق شاملًا لهذا المورد لكان ينبغي بيانه، إذ يُتوقّع أن يُسأل عنه كثيراً، ولو كان لبان وظهر جدّاً، هذا كلّه بصرف النظر عن القراءة المقاصدية للنصوص هنا.
والغريب أنّه ـ رحمه الله ـ عاد في مسألة مبطليّة وطء البهائم والغلام، وطرحَ استدلالاً آخر عدلَ بموجبه عمّا تقدّم، فذهب إلى أنّ المقاربة من الدبر مع النساء، ووطء البهائم، ووطء الغلام، كلّها موجبة لبطلان الصوم، مستدلاً بأنّ الروايات عدّت «النِّكاح» من مبطلات الصوم، ولفظ «النِّكاح» ـ بنظره ـ يشمل وطء البهائم أيضاً، وقال بأنّ الغلام ليس بأسوأ حالاً من البهيمة، ثمّ أضاف بأنّ اللفظ صادق كذلك على الوطء القُبُليّ والدُّبُريّ مع النساء، وبناءً على ذلك يكون مطلق النكاح مبطلاً، وبحسب تتبّعه، يظهر أنّ مستنده في ذلك ثلاث روايات، وكلّها ضعاف من حيث الإسناد (كتاب الصوم: 299 ـ 303).
والمسألة صارت واضحة، فلا نطيل.
([3]) أمّا بطلان صومه، فهو احتياطيٌّ؛ لقصده فعل المفطر الذي تعرّضنا له عند التعليق على (المسألة رقم: 980)، فيكون نتيجته ـ لتحصيل فراغ الذمّة ـ هو أن یتمّ صومه، ثم یقضيه.
وأمّا أنّه لا يجب عليه الكفارة فلما سيأتي من أنّ الكفارة مترتّبة على الإتيان بالمفطر، وإن كان الأحوط دفع الكفارة هنا أيضاً؛ لوجهٍ تأمّلي طرحناه.
وقد تقول: ألا يقتضي ما ذكرتموه آنفاً، من أنّ نكتة الحكم هي تحصيل لذّة الاتّصال الجنسي، تعميم الحكم من خصوص الدخول إلى نظائره كالتفخيذ؛ إذ هذه أيضاً من موارد الالتذاذ الجنسي، فما الذي يمنع من التعميم في مطلق الالتذاذات الجنسيّة؟!
ويجاب: بأنّ النصوص تتحدّث عن حصّة خاصّة من اللذة، وهي لذة الجماع، لا مطلق اللذة، وإلا لزم القول بمفطريّة النظر الشهواني ومطلق اللمس الشهواني. وبعبارة أخرى: الحكم مترتّبٌ على لذة الجماع.
عدم مفطريّة الكذب على الله ورسوله و..
([4]) بعد اشتهار عدم كون الكذب على الله تعالى وعلى رسوله وأهل بيته عليهم السلام، فضلاً عن مطلق الكذب.. بعد اشتهار عدم كونه من المفطرات في فقه الجمهور، انقسم الرأي بين فقهاء الإماميّة، فبعضهم قال بكونه مفطراً، وادُّعي عليه الإجماع، وبعضهم قال بعدم كونه كذلك، بل المنسوب إلى مشهور المتأخّرين عدم كونه مفطراً. وكثير من الذين قالوا بكونه مفطراً عمّموه للكذب على الله ورسوله والأئمّة والسيدة الزهراء، بل وجميع الأنبياء والأوصياء، بلا فرق عند كثيرين بين أن يكون متعلّقاً بأمور الدين أو الدنيا، أو بنحو الإخبار أو الفتوى، باللغة العربيّة وبغيرها، بل وبلا فرق بين أن يكون بالقول أو الكتابة أو الإشارة أو الكناية أو غيرها، وبلا فرق بين أن يكون الكذب مجعولاً له أو جعله غيره وهو أخبر به مسنداً إليه لا على وجه نقل القول. بل عمّم بعضهم للتفوّه بما هو كذبٌ ولو كان المتكلّم لوحده. واستشكل السيّد محمّد محمّد صادق الصدر في موقف منسوبٍ له في قراءة القرآن في شهر رمضان لمن لا يحسنها؛ انطلاقاً من إشكاليّة الكذب هذه.
وفي العصر الحديث، ذهب الكثير من الفقهاء للاحتياط الوجوبي هنا دون الفتوى، ومن هؤلاء: السيّد أبو الحسن الإصفهاني، والسيد محسن الحكيم، والسيد أحمد الخوانساري، والشيخ محمد رضا آل ياسين، والسيد عبد الهادي الشيرازي، والشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء (وإن كانت عبارته أقرب للاحتياط الاستحبابي)، والسيّد محمّد باقر الصدر في تعليقته على المنهاج، والشيخ محمّد أمين زين الدين، والسيّد علي السيستاني، والسيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي، وغيرهم.
وأفتى بعدم المفطرية جماعةٌ، منهم: السيد محمّد صادق الروحاني، والشيخ محمّد آصف محسني، والسيّد محمّد حسين فضل الله، وغيرهم. وتردّد في المفطريّة السيد محمّد تقي المدرّسي محتاطاً استحباباً بالقضاء.
والأقرب بالنظر عدم ثبوت مفطرية الكذب مطلقاً، رغم أنّه من الذنوب، بل الكذب على الله ورسله وأنبيائه وأوصيائه والصالحين في أمور الدين من أعظم المعاصي، كيف والصائم في حال عبادة؛ لأنّ الصوم واجبٌ عبادي، فكيف يملك عبدٌ يمارس فعلاً عبادياً طوال النهار.. كيف يملك جرأةَ ارتكاب الحرام العظيم حال العبادة؟! هذا، ومقتضى الاحتياط الاستحبابي هو القضاء.
بقي أمران ذكرهما الماتن:
أ ـ إذا قصد الصائم الصدقَ فكان كذباً فلا بأس؛ لصدور المفطر منه من غير عمد، وسيأتي أنّه لا يوجب فساد الصوم، فضلاً عن الكفارة.
ب ـ إذا قصد الصائم الكذبَ فكان صدقاً، فهنا يكون هذا من قَصْد المفطر مع العلم بمفطريّته، وقد تقدّم منّا الاحتياط في الحكم بالبطلان، لكن لا كفّارة في مورده على تأمّل سيأتي.
الموقف من مفطرية الكذب غير الموجّه لأحد أو الموجَّه لمن لا يفهم
([5]) لا دليل معتداً به على حرمة الكذب في نفسه مع عدم وجود أحد أو سماعه، فضلاً عن كونه مفطراً لو قلنا بالمفطريّة. وتوضيح ذلك أنّه قد تحدّث الفقهاء عن أنّه لو قلنا بمفطريّة الكذب على الله ورسوله و.. فهل يشترط توجيه الخطاب إلى أحد أو لا؟ وهل يشترط سماع أحد يفهم أو لا؟ فلو فرضنا أنّ المتكلّم الذي يتفوّه بكلامٍ كذبٍ يكذبه على رسول الله.. لو فرضناه كان لوحده أو مع مخلوق لا يفهم كالحيوانات، ثم قال: قال رسول الله كذا وكذا، كاذباً عليه في ذلك، فهل يبطل صومه؟ ولو فرضنا أنّه كان بجانبه إنسان يفهم لكنّه لم يوجّه خطابه إليه، بل تكلّم لوحده، قائلاً: قال رسول الله كذا وكذا، كاذباً عليه، ففي هذه الحال هل يبطل الصوم أو لا؟
ذهب العديد من الفقهاء إلى عدم البطلان، ومنهم صاحب العروة وكثيرٌ من المعلّقين عليها، وأيضاً السيد محسن الحكيم، والشيخ فاضل اللنكراني، والسيد محمد صادق الروحاني في تعليقة العروة، والشيخ محمّد إبراهيم الجنّاتي، وغيرهم.
واحتاط في المسألة بعضٌ، مثل الشيخ ضياء الدين العراقي، والسيد أبو القاسم الخوئي، والسيد محمد باقر الصدر، والسيد محمد الروحاني، والسيد محمد صادق الروحاني في المنهاج، والشيخ محمد إسحاق الفيّاض، والشيخ الوحيد الخراساني، والسيد محمود الهاشمي، وغيرهم.
وبعض الفقهاء حكم بعدم البطلان في حالة عدم وجود من يسمع ويفهم المعنى بينما في حالة وجوده فالاحتياط الوجوبي عنده قائم، ومن هؤلاء السيد علي السيستاني في تعليقته على العروة بينما في المنهاج احتاط مطلقاً. كما ومن المفصّلين السيد محمد محمد صادق الصدر.
واحتياطُ بعض الفقهاء ليس راجعاً لخصوصيّة المسألة، بل لأصل مفطريّة الكذب، فيعتبره كذباً، فيلحقه عنده الاحتياط، فانتبه.
والأقرب بالنظر هو أنّه لو قلنا بمفطريّة الكذب ـ ولا نقول به كما ذكرنا سابقاً ـ فإنّ النطق بما هو خلاف الواقع مع عدم وجود سامع يعقل أو يصل إليه المنطوق، لا يوجب البطلان، لكن لو كان لا يوجّه الخطاب لأحد غير أنّه كان يعلم يقيناً أنّ عاقلاً فاهماً يسمع كلامه، فإنّ الحكم بالبطلان ـ على تقدير القول بمفطريّة الكذب ـ متعيّن، والله العالم.
والمسألة عندهم ليست راجعةً لآيةٍ أو رواية بعينها، وإنّما لتحليل مفهوم الكذب الوارد في الأخبار هنا، وأنّه هل يتقوّم بوجود طرف آخر يوجّه إليه الخطاب؟ وهل يتقوّم بعاقليّة وفاهميّة من يصله الخطاب؟ ونحو ذلك. والمفهوم من النصوص أو المنصرف إليه، ليس الدلالات اللغويّة الصرفة لكلمة الصدق والكذب، بل ارتكاب جناية الكذب على الله ورسوله، وهو متحقّق في حال توجيه الخطاب لشخصٍ عاقل فاهم أو في حال إدراك العاقل الفاهم للخطاب في لحظته ولو مع عدم التوجيه، حيث يُلغي العرف الخصوصيّات هنا ويفهم المقصدَ بمناسبات الحكم والموضوع. أمّا لو لم يوجد أحدٌ عاقل أو وجد ولم يصله الخطاب، كما لو تكلّم الكاذب بالكذب بصوتٍ منخفض، فإنّ الأدلّة منصرفة تماماً عن هذا المورد، ولا أقلّ من عدم الوثوق بانعقاد دلالة فيها شاملة له.
حكم رمس الرأس في الماء للصائم تكليفاً ووضعاً
([6]) اختلف الفقهاء في مسألة الارتماس في الماء من حيث حكم التكليفي والوضعي على أقوال:
القول الأوّل: إنّه مكروه، وليس بحرام لا تكليفاً ولا وضعاً. وقد نُسب هذا القول للسيد المرتضى وابن إدريس الحلّي، وربما يظهر من السيّد الحكيم، كما ذكر حكايته في المستند عن التهذيب والعماني والحلّي وأحد قولي السيد.
وذهب السيد علي السيستاني والسيد محمد صادق الروحاني إلى أنّه مكروه كراهة شديدة وليس بحرام تكليفاً ولا بمبطلٍ للصوم أساساً. ورأى السيّد محمّد سعيد الحكيم أنّ تجنّبه هو الأحوط استحباباً، فيما احتاط وجوباً السيد فضل الله في تركه، وفي الوقت عينه صرّح بأنّه لا يراه من المفطرات.
القول الثاني: إنّه حرام تكليفاً، لا وضعاً. نُسب إلى الشيخ الطوسي في الاستبصار، والعلامة الحلّي في ظاهر القواعد والتذكرة، والشهيد الثاني والمحقّق الحلّي في الشرائع والمعتبر، وقد يفهم من الكركي في جامع المقاصد، وذهب إليه النراقي في المستند، والعاملي في المدارك، كما قال السيّد موسى الشبيري الزنجاني بأنّه محرّم حرمةً تكليفيّة عليه دون أن يضرّ بصومه.
القول الثالث: القول بالمفطريّة، وهو ما نُسب إلى مشهور الإماميّة، خلافاً للمشهور بين أهل السنّة من نفي ذلك، بل قيل بأنّه ادّعي عليه الإجماع. وقد نقل صاحب المدارك دعوى الإجماع عن السيد المرتضى في الانتصار، كما نسبه النراقي في المستند إلى الغنية وظاهر الخلاف، وقد ذهب إليه السيد الماتن وصاحب الجواهر، وأفتى بالمفطرية السيد اليزدي في العروة.
وفي العصر الحديث احتاط بعض العلماء وجوباً في عدّ الارتماس من المفطرات، ومن أبرزهم: السيد أبو الحسن الإصفهاني، والسيّد محسن الحكيم في منهاجه دون أن يعلّق عليه السيد محمد باقر الصدر أيضاً، والسيد روح الله الخميني، والسيد محمّد رضا الگلپایگاني، والسيد القمي، والسيد شريعتمداري، والشيخ محمّد علي الأراكي، والسيد محمّد الروحاني، والشيخ فاضل اللنكراني، والسيّد كاظم الحائري، والشيخ لطف الله الصافي، والشيخ بيات الزنجاني، وآخرون. وهو ظاهر كلام الشيخ محمّد إسحاق الفياض أيضاً. وقد تنظّر في المبطليّة السيدان: الخوانساري والرفيعي.
هذا، والإجماع المدّعى واضح الضعف، كما ذكر ذلك السيد الخوئي في بحوثه؛ إذ قد تحقّق نقض هذا الإجماع وفق العرض المتقدّم.
وعلى أيّة حال، فالمهم تحقيق حال النصوص التي كانت مورداً للاستدلال، وهي على ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: ما دلّ على الحظر، كخبر يعقوب بن شعيب، الظاهر في التحريم، وخبر محمّد بن مسلم، وخبر الحنّاط والصيقل الضعيف سنداً، وخبر حنان بن سدير، وخبر الحلبي، وخبر حريز.
وهذه المجموعة ـ وفيها الصحيح سنداً ـ تشكّل عمدة دليل الحرمة التكليفيّة؛ لظهور صيغة النهي المكرّرة فيها في الحرمة، لكنّ النقاش وقع في تجاوز هذه الحرمة إلى الحرمة الوضعيّة، فهل تدلّ هذه النصوص على فساد الصوم بالارتماس أو لا؟
وقد قرّب الاستدلال بهذه النصوص على الحرمة الوضعيّة بأنّ النهي في أمثال المقام مما هو من باب المركّبات في العبادات والمعاملات ينعقد له ظهورٌ ثانويّ في الإرشاد إلى الفساد، وهذا ما درج عليه الفقهاء في سائر الأبواب المماثلة، واستقرّ عليه الفهم العرفي، كما أشار إلى ذلك غير واحد كالمحقّق النجفي والسيّد الماتن.
ويناقَش بأنّ هذا الظهور الثانوي هنا غير واضح من النهي نفسه عرفاً ما لم تقم قرينة متصلة أو منفصلة تساعد عليه؛ إذ ما هو المانع من إرادة حكمٍ تكليفيٍّ في ظرف واجبٍ من الواجبات، يكون الهدف منه مزيد احتياطٍ لعدم وقوع المكلّف في أحد المفطرات من حيث لا ينتبه، وثمّة ما يشبه أصل الموضوع في تروك الإحرام وغيرها. ودعوى استقرار سيرة الفقهاء على هذا الفهم هي الأخرى لا دليل عليها؛ إذ الظاهر منهم في كثيرٍ من أمثال هذه المقامات في الصلاة والحجّ وغيرها الاختلاف في الموارد، كما اختلفوا في هذا المورد. والذي يظهر أنّ هذا الظهور قد جاء عقيب التزام أكثر من فقيه بمضمونه وإلا فمجرّد النهي بلا قرينة لا يعطي هذا المفاد، والتزام الفقهاء غالباً ما كانت إلى جنبه قرينة متصلة أو منفصلة أو مستوحاة من خصائص المسألة نفسها.
وعليه، فهذه النصوص ـ بقطع النظر عن المعارض ـ لا دلالة فيها سوى على الحرمة التكليفيّة، مؤيّداً ذلك بذكر المحرِم ونهيه عن الارتماس في بعضها، كما في خبرَي: يعقوب بن شعيب، وحريز بن عبد الله.
الطائفة الثانية: ما دلّ على كراهة الارتماس في الماء.
وعمدة هذا الدليل هنا لصالح القائلين بالكراهة من أمثال ابن إدريس الحلّي، خبرٌ آحاديّ منفرد، وهو رواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله× قال: «يكره (كره) للصائم أن يرتمس في الماء»، ولعلّه يمكن ضمّ خبر الحنّاط والصيقل المتقدّم في نصوص الحرمة؛ لاشتماله على مسألة لبس الثوب المبلول المعلوم كراهته، كما استدلّ له بالأصل.
وقد حاول بعض الفقهاء هنا التوفيق بين هذه الرواية وروايات الطائفة الأولى الدالّة على الحرمة التكليفيّة ـ بعد نفيهم الأصل بالأدلّة المتقدّمة ـ وذلك من وجوه:
الوجه الأوّل: إنّ الكراهة كثيراً ما تُستعمل في ألسنة الروايات بمعنى التحريم ، بل ربما ظهر من بعض الروايات كونها حقيقة في التحريم، ومعه فلا معنى للتنافي.
والجواب: إنّ محض كراهة شيء ـ بالمعنى اللغوي للكلمة ـ لا يساوق الحرمة بالمعنى الشرعي وإن لم يتناقض معها، إذ من الممكن كراهة شيء دون أن تصل إلى درجة النفور الشديد الذي لا يتحمّل التجاوز.
لكنّه من الممكن أن يكون مراد صاحب المدارك من هذا الوجه التوفيقي هنا هو أنّ الكراهة لا تتنافى مع الحرمة حتى ينعقد لها ظهورٌ معاكس، ومعه نضمّ نصوص الحرمة للمقام فتستوعبها رواية ابن سنان وتفيد فائدتها. وهذا الكلام وجيهٌ، وإليه يرجع محصّل كلام المحقّقين: النجفي والنراقي.
الوجه الثاني: ما ذكره صاحب المدارك والجواهر أيضاً، من ابتلاء الرواية بالضعف السندي، فلا تعارِض نصوص الحرمة.
والنتيجة: إنّ الثابت حتى الآن هو الحرمة التكليفيّة دون مجرّد الكراهة.
الطائفة الثالثة: ما دلّ على الحرمة الوضعيّة، وهي نصوص أهمّها:
خبر الخصال، الصريح في المبطليّة لكنّه ضعيف بالرفع.
وخبر المرتضى عن تفسير النعماني، الظاهر في الحكم الوضعي؛ لكونه في مقام بيان حدود الصوم، غير أنّه ضعيف جداً، بل لا يعلم كونه رواية.
وخبر محمّد بن مسلم، الذي قرّبت دلالته بعد تصحيح سنده من خلال:
أ ـ إنّ ظاهره الإضرار بالصوم من حيث هو صوم، لا بذات الصائم، ولا معنى لذلك سوى الفساد، كما أشار له السيد الخوئي.
ب ـ ما ذكره الخوئي أيضاً من أنّ ظاهر الصحيحة ترتب أثر الاجتناب عن هذه الأمور على طبيعيّ الصوم، حتى لو كان تطوّعاً، ولا معنى له سوى بيان الحكم الوضعي، وإلا فالحرمة التكليفيّة ساقطة في مورد الصوم التطوّعي.
ج ـ إنّ اشتمال الرواية على الأكل وغيره يعزّز إرادة الحكم الوضعي.
لكنّ هذه الرواية تواجه مشكلةً عامّة، تتلخّص في كونها معارضة لكثير من نصوص المفطرات الأخر، فإذا حلّت هذه المشكلة فبها، وإلا أشكل التمسّك بها.
الطائفة الرابعة: ما دلّ صريحاً على نفي القضاء، وهي رواية إسحاق بن عمار، المعارضة لخبر محمد بن مسلم، والمؤيَّدة بمثل خبر الخصال، من هنا وقع الكلام في التوفيق بين هاتين الطائفتين، فذكرت لذلك تخريجات أهمّها:
التخريج الأوّل: ما نقله العاملي في المدارك عن الحلّي في المعتبر، واستحسنه، من أنّ وجه تحريم الارتماس هو الاحتياط، حتى لا يبتلع الصائم الماء، فمع عدم الابتلاع لا يبطل، ومعه يبطل، فتُحمل الطائفة الرابعة على صورة عدم الابتلاع، والثالثة عليه.
وأجيب بأنّه اجتهاد في مقابل النص، ولا دليل عليه، وجمع تبرّعي لا محصّل من ورائه.
التخريج الثاني: ما ذكره السيّد الخوئي وناقشه وأيّده السيّد الحكيم، من أنّ الجمع يكون بالمصير إلى القول بالكراهة الوضعيّة؛ إذا الإضرار قد يكون حقيقيّاً، وهذه هي الحرمة الوضعيّة، وقد يكون مسامحياً، وهذه هي الكراهة الوضعيّة، بمعنى حمل الإضرار على الإضرار ببعض المراتب، مع فرض صحّة الصوم.
وناقشه الخوئي بأنّ الكراهة الوضعيّة غير متعقّلة؛ إذ كيف يمكن الجمع بين ما يفيد البطلان، وقوله: ليس عليه قضاء ولا يعودنّ؟! فتكون المعارَضة مستقرّة.
إلا أنّ كلامه كأنّه يرجع إلى دعويين: الأولى: عدم تعقّل الكراهة الوضعيّة، والثانية: عدم تحمّل النصوص لمثل هذا الجمع:
فأمّا عدم تعقّل الكراهة الوضعيّة، فيمكن مناقشته بأنّ التصوّر الممكن لها هو ضعف الصوم من حيث آثاره إلى درجةٍ لا يصل إلى البطلان التام، كنقص الثواب الأخروي وضعف آثاره الوضعيّة في الدنيا إلى الدرجة التي يتقبّل الشارع وجود صومٍ كهذا ويعتبره كافياً، ولعلّ تسمية الكراهة الوضعيّة أو ما عبّر عنه الخوئي أيضاً بكراهة البطلان، قد سبّبا عدم وضوح أو معقوليّة الأمر.
وأمّا عدم تحمّل النصوص لمثل هذا الجمع، فقد يقال بأنّ دلالة خبر ابن مسلم إنّما هي بالمفهوم، وخبر إسحاق إنّما هو بالمنطوق، فيتمّ تقديم الدلالة الأقوى، وأيّ ضائر من إرادة الإمام من الضرر مطلقَه الشامل للضرر الكامل والناقص، غير أنّ هذا الجمع لا ينسجم مع وحدة السياق في الأكل والشرب والجماع، المعلوم إرادة الإفساد من الضرر فيها، فإن انسجم تمّ الجمع، وإلا فلا، كما هو الظاهر.
التخريج الثالث: ما ينقدح في الذهن، من أنّه لا تعارض بين الروايتين؛ لعدم وجود التداخل بينهما في موردٍ واحد؛ وذلك لأنّ الخلل الذي سبّب افتراض التعارض هنا، سببه الشعور بالملازمة بين مطلق بطلان الصوم ومطلق قضائه، وهي ملازمة لا دليل شرعيّاً مطلقاً عليها في باب الصوم، وعليه فرواية ابن مسلم تدلّ على مفطريّة الارتماس، أما رواية إسحاق فتدلّ على عدم لزوم القضاء، والنتيجة هي أنّ الارتماس يبطل الصوم بحيث يصبح الإنسان كأنّه لم يصم، غايته لا يجب عليه القضاء وتدارك هذا الذي فاته.
لكنّ السيد الخوئي أصرّ على استقرار المعارضة، وقدّم حلولاً لذلك، وهي أنّ الكتاب الكريم لا كلام له حول الموضوع، لكنّ فقهاء الجمهور لا يقولون بالبطلان، ومعه تكون رواية ابن عمّار موافقة لهم، فتحمل على التقية، ويؤخذ بما دلّ على الحرمتين: التكليفيّة والوضعيّة.
غير أنّ الحمل على التقيّة هنا غير واضح؛ لأنّ الرواية ذكرت النهي عن هذا الفعل، وهذا أيضاً مما لم يقل به أحد منهم سوى الحنابلة الذين حكموا بالكراهة في غير مورد الغسل أو التبريد، والحنابلة متأخّرون عن زمن الإمام الصادق، ولا يعقل موافقهم تقيةً، بل قد ذكر الحلي في التذكرة أنّ مالكاً وأحمد والحسن والشعبي قائلون بالكراهة، وباقي الجمهور قالوا بأنّه غير مكروه ـ ومعه لا يظهر وجود مبرّر واضح لمجاراة الإمام لهم في الحكم الوضعي دون الحكم التكليفي، ولا سيما أنّ الراوي لم يسأله إلا عن الحكم الوضعي، فهذا الحمل غير واضح.
وفي تقديري فإنّ الأنسب هو الرجوع إلى المرجّحات السنديّة، وهي تقف لصالح خبر محمّد بن مسلم؛ لكونه مشتهراً روائيّاً، ورجاله أكثر قوّةً في النقل: أمّا اشتهارها روائيّاً، فلنقل الشيخ لها في التهذيب والاستبصار والصدوق في الفقيه، كما أنّ الشيخ نقلها بأسانيد مختلفة إلى كلّ من الحسين بن سعيد ومحمّد بن علي بن محبوب وعلي بن مهزیار، كما ورد في طريقها كلّ من ابن أبي عمير وحماد بن عثمان ومحمّد بن مسلم، هذا مضافاً إلى نصّي: الخصال والنعماني، وهذا بخلاف خبر إسحاق بن عمار، حيث لم يذكره سوى الشيخ في التهذيب والاستبصار، وبسندين أحدهما صحيح، والآخر فيه أبو جميلة الكذاب المشهور، ولم يتمّ نقله عن جملة مصادر متداولة بين الأصحاب في عصر النصّ، كما هي الحال في خبر ابن مسلم، كما أنّ رواته ـ أمثال عمران بن موسى ـ ليسوا بتلك الدرجة التي عليها ابن مسلم ومن تقدّم ذكرهم. فمن هنا نقدّم صحيحة ابن مسلم المثبتة للحكم الوضعي بملاك الشهرة أو الأشهريّة والأوثقيّة والأورعيّة والأفقهيّة. نعم الملاك الأوّل في نفسه غير مرجّح؛ نظراً إلى أنّه ليس في مقابله الشاذّ النادر، أو لا يحرز هذا فيه، وتكون النتيجة: إنّ الارتماس محرّم تكليفاً ووضعاً، غايته لا يجب معه القضاء.
لكنّ الصحيح أنّ هذا النوع من المعالجة يجري على مسالك القوم، أمّا على مسلكنا فإنّ دليل البطلان آحاديٌّ، ثمة إشعار بوجود معارِض له، فلا يُعتمد عليه، فنرجع للمقدار الموثوق به من النصوص، وهو الحرمة التكليفية دون الوضعيّة.
وعليه، فالأقرب هو أنّ الارتماس محرّم على الصائم حرمةً تكليفيّة، لكنّه لا يبطل الصوم. وبما أنّ الارتماس ليس من المفطرات فلا قضاء ولا كفارة لو ارتكبه الإنسان. وغالب الظنّ أن تحريم الارتماس يكون من نوع ـ ما أسميناه في البحث الأصولي ـ الأحكام التحفظيّة. وقد كنت سابقاً أرى مفطريّة الارتماس، غير أنّه لا قضاء فيه، لكنّني عدلت عن ذلك بعد إجراء مراجعة جديدة.
وقد تطرح هنا ثلاثة أسئلة:
السؤال الأوّل: إذا كان حكمُ المنع من الارتماس، كما تقتضيه مناسباتُ الحكم والموضوع العرفيّة، من الأحكام التحفّظيّة، فمناطُه أن لا يكون المكلَّف في معرض إبطال صومه، ولذا فمَن استعمل الوسائلَ الحديثة للسباحة كسدّادة الأنف، والأنبوب الذي يُجعل في الفم للتنفّس، لا يشمله الحكمُ بطبيعة الحال.
السؤال الثاني: ألا يكون الحكم ـ على أساس هذا الفهم ـ إرشاديّاً؟ بمعنى أنّه لا يترتّب عليه استحقاقُ العقاب استقلالاً عن نقض الصوم؟
السؤال الثالث: بناءً على وجود شؤونٍ متعدّدة للنبيّ والأئمّة ـ عليهم السلام ـ لا أقلّ في الجملة، فكيف يمكن في مثل هذه الموارد التي يُحتمل فيها كونُ الحكم تحفّظيّاً أن نحرز أنّه صادرٌ من جهة بيان الشرع، لا من سائر الجهات الشخصيّة للإمام أو النبيّ؟
والجواب عن هذه الأسئلة الثلاثة هو أنّ كونه حكماً تحفّظياً لا يمنع من إطلاق تحريمه، نظراً لإمكان كون مصبّ الاعتبار أوسع من مصبّ الإرادة، نعم إطلاق مبطليّته لن يكون مفهوماً في مثل هذه الحال على مستوى الحكم الوضعي. كما أنّ كون الحكم تحفظيّاً وفي الوقت نفسه تكليفيّاً، كما رجّحنا، لا يجعله إرشادياً، نعم لو لم يكن فيه حيثيّة تكليفيّة لكانت الإرشاديّة في محلّها. وأمّا جهة صدور الحكم هنا من حيث شخصيات النبي والأئمّة فمرجع معرفتها إلى مراجعة الفقيه للقرائن، وإلا أخذ بالقدر المتيقّن، كما بحثناه في الأصول.
وقد يشكل على دعوى تحفظيّة الحكم هنا، من حيث إنّ الشريعة حكمت بجواز السِّواك للصائم، بل قال بعضٌ باستحبابه، فلو كان حكمُ التحريم هنا تحفّظيّاً، لاقتضى انسجامُ الشريعة أن لا يكون السواكُ جائزاً أيضاً.
غير أنّه يمكن الجواب: إنّ السواكَ في الأزمنة السابقة لم يكن مستلزماً لغسل الفم بالماء، فلا منافاةَ حينئذٍ، وأنّ الفقهاء الذين جوّزوا السواكَ المعاصرَ استناداً إلى تلك الأدلّة، لم يلتفتوا إلى اختلاف الموضوع، وإلّا فمقتضى الصناعة الفقهيّة ومناسبات الحكم والموضوع أنّ السواكَ ــ لكونه يجعل الماء في معرض الدخول إلى الجوف ــ ينبغي أن يُحكم بحرمتِه أيضاً، لأنّ مناطَ النهي عن الارتماس هو التعريضُ لدخول الماء إلى الجوف. بل قد يقال بأنّه لا مانع من إنشاء الشريعة أحكاماً تحفّظية هنا في بعض الموارد على الأقلّ، نظراً لدرجة المخاطرة العالية فيها، وعدم إصدار هذه الأحكام في موارد أخرى قريبة بملاك التسهيل، فلا يرد أصل الإشكال هنا.
هذا، والمقدار المحرّم من الارتماس هو رمس تمام الرأس في الماء ولو من دون الرقبة أو الشعر، دفعةً أو تدريجاً، بحيث يتحقّق عرفاً كون تمام الرأس في الماء ولو في لحظة واحدة، أمّا وضع البدن كلّه في الماء عدا الرأس أو بعضه فلا يحرم ولا يبطل الصوم، نعم وردت رواية واحدة في نهي المرأة أن تستنقع بالماء.
هذا، وقد تعرّضنا لبعض جوانب الموضوع في كتابنا: (إضاءات 3: 261 ـ 264).
حكم الارتماس بغير الماء المطلق
([7]) هنا صورتان تعرّض لهما ماتن العروة، هما:
أ ـ رمس الرأس في غير المائعات، كما لو وضع رأسه في الرمال بحيث غطّاه برمّته، فهنا من الواضح أنّ هذا غير مشمول للنصوص ومناطاتها العرفيّة، ما دامت إمكانيّة تسرّب شيء إلى الجوف منعدمة.
ب ـ رمس الرأس في المائع من غير الماء المطلق، كالماء المضاف، وهنا قالوا بأنّ ظاهر النصوص هو تعبير الماء، وأنّ الماء يطلق على الماء المطلق دون غيره، إذ غيره يحتاج لقرينة إضافية منعدمة هنا، فيكون رمس الرأس في الماء المضاف غير مبطل للصوم، والأحكامُ تعبدية غير معروفة الملاك، فيلزم الاقتصار في المفطرية على رمس الرأس في خصوص الماء المطلق، وما يصدق عليه ماءٌ بنحو الإطلاق.
لكن قد يقال: إنّ من يراجع النص القرآني يرى أنّ المفطرات ثلاثة: الأكل والشرب والجماع، ولو راجعنا النصوص الحديثية لرأينا أنّها تضيف بعض الأمور التي يمكن أن ترجع إلى هذه الثلاثة أو تكون احتياطاً فيها، مثل إدخال الغبار الغليظ أو غيره إلى الفم من حيث احتماليّة أن يقع معه إدخال شيءٍ إلى الجوف، والاحتقان بالمائع كونه يتحلّل في الداخل فيصدق عليه أنّه نوع من التغذّي، وإنزال المنيّ من حيث كونه لذة جنسيّة ملحقة بلذّة الجماع، والعرف ـ لو خلّي ونفسه وقدّمت له هذه الصورة ـ يفهم بالفهم التركيبي من هذه الأشياء أنّها نوع توسّع في المفطرات الأصليّة التي هي إدخال شيء للبدن أو تحصيل لذّة الجنس ونحوه، فدعوى أنّ الأحكام تعبديّة وإن كانت صحيحة، لكنّ هذا لا ينفي أنّ العرف ـ غير المتأثر مسبقاً بمواقف الفقهاء هنا ـ يفهم من مثل هذه الأشياء أنّها ذات صلة بالعناصر الثلاثة الأساسيّة، ويمكنه فهم العلاقة بين الكتاب والسنّة في باب الصوم بدرجةٍ لا بأس بها في هذه الحال. وهذا ليس تكهّناً في معرفة ملاكات الأحكام، بل هو فهم عرفي من نوع الفهوم العرفية العفويّة التي تمّ هجرانها في أدبيات الفقهاء بفعل فوبيا القياس وخوف التورّط بالظنون وتداخل التفكير الفلسفي الدقّي مع التفكير العرفي. وما نزعمه فهماً عرفيّاً لا ندّعي فيه اليقين بل ندّعي فيه الظنّ القوي الغالب المفيد للوثوق، وبغضّ النظر عن ذلك ندّعي أنّنا لو ألقينا للعرف هذه المسألة لما رأى فرقاً بين الماء المضاف والمطلق، بل لفهم من رمس الرأس في الماء ما يشمل رمسه في الماء المضاف أيضاً.
ومن هنا نرى أنّ رمس الرأس في الماء غير المطلق هو أيضاً حرام، ولا أقلّ من باب الاحتياط الوجوبي، والأمر كذلك في المفطريّة على تقدير القول بمفطريّة رمس الرأس في الماء المطلق.
([8]) ما أفاده مبنيٌّ على عباديّة الغسل، ومن ثم عدم إمكان التقرّب بالغسل الذي هو محرّم حسب الفرض؛ لكونه مبطلاً للصوم، لكن حيث قلنا في مبحث الطهارات الثلاث، عند التعليق على شرط النيّة في باب الوضوء أنّ الطهارات الثلاث ليس عباديّةً، وقلنا هنا بعدم مفطرية الارتماس، ففي جميع هذه الصور التي ذكرها الماتن يصحّ الغسل والصوم معاً، ولا يترتّب شيء، لكن لو قلنا بمفطريّة الارتماس وضعاً، دون عباديّة الغسل، فإنّه سوف تترتب النتائج الآتية:
أ ـ إذا ارتمس الصائم عمداً ناوياً للاغتسال، وكان ناسياً لصومه، صحّ صومه وغسله، أمّا صومه فلفرض الإتيان بالمفطر غير عامد، وسيأتي أنّه لا يفسد الصوم، وأمّا صحّة غسله؛ فلعدم كون الغسل أمراً عباديّاً.
ب ـ إذا ارتمس الصائم عمداً ناوياً للاغتسال، وكان ذاكراً غير ناسٍ، وكان في شهر رمضان، بطل صومه، لكن يصحّ غسله للسبب المتقدّم.
ج ـ الصورة (ب)، لكن كان في قضاء شهر رمضان بعد الزوال، والحكم فيه هو الحكم في الصورة (ب).
د ـ الصورة (ب)، لكن كان في الواجب المعيّن غير شهر رمضان، فيبطل صومه بنيّة الارتماس، ويصحّ الغسل؛ لما تقدّم.
هـ ـ الصورة (ب)، لكن في غير ذلك من أنواع الصوم الواجب أو المستحبّ، فهنا يبطل الصوم، لكن يصحّ الغسل، حتى لو قلنا بعباديته؛ لفرض أنّ الغسل ليس بمحرّم هنا.
عدم مفطرية الغبار ولا الدخان.. للصائم بعنوانه
([9]) المعروف بين كثير من الفقهاء أنّ إيصال الغبار الغليظ إلى الجوف من المفطرات الموجبة لبطلان الصوم، وألحق كثيرون به الغبار غير الغليظ، كما ألحقوا به الدخان. وبعضهم جعل التدخين من المفطرات بصرف النظر عن موضوع الغبار الغليظ. وفصّل بعضهم فقال بوجوب القضاء في الغبار الغليظ دون الكفارة. وأهل السنّة لديهم خلاف في مثل استنشاق البخور والروائح والدخان، وأغلبه بناءً على وجوهٍ اعتباريّة.
لكن خالف في هذا الحكم جماعةٌ من المتقدّمين والمتأخّرين، ونذكر في العصر الحديث منهم:
أ ـ بعض الفقهاء الذين لم يفتوا بالمفطريّة وإنّما احتاطوا وجوباً، ومن هؤلاء على مستوى الغبار الغليظ الذي هو الأصل هنا: السيّد أبو الحسن الإصفهاني (في تعليقته على العروة)، والسيد أحمد الخوانساري، والسيد أبو القاسم الخوئي، والسيد محمود الهاشمي، والسيد محمّد الروحاني، والشيخ حسين علي المنتظري، والشيخ الوحيد الخراساني، والشيخ بيات الزنجاني، والشيخ عبد الله جوادي الآملي، والشيخ جعفر السبحاني، والميرزا جواد التبريزي، وغيرهم.
واللافت أنّ أغلب الفقهاء المعاصرين أو الذين توفّوا قبل فترات وجيزة يرون أيضاً الاحتياط الوجوبي في ترك التدخين للصائم، ولهذا اعتبرت فتوى الجواز التي أطلقها السيّد محمّد محمّد صادق الصدر مثيرةً وجريئة في الوقت عينه، مسبّبةً جدلاً ونقاشاً في حينه.
ب ـ وبعضٌ آخر ممّن ذهب لعدم المفطريّة، ومن هؤلاء: ما يظهر من الشيخ محمّد جواد مغنيّة، وذهب إليه صريحاً السيّد محمّد حسين فضل الله، والسيد موسى الشبيري الزنجاني، كما رفض القول بالمفطرية السيد تقي القمي في بحوثه الاستدلاليّة. واعتبر السيد محمّد باقر الصدر أنّ مفطريّة الغبار الغليظ تعني أنّ هذا الغبار عندما دخل الحلق اشتمل على أجزاء ترابيّة ظاهرة للعيان ولو كانت صغيرة، وأمّا في غير هذه الحال فليس بمفطر، وكأنّه يُرجع هذا المفطر إلى مفطريّة الأكل والشرب لا أنّه مفطر جديد، وبهذا يكون منكراً لمفطريّته بعنوانه. وكان ذهب إلى هذا الرأي الشيخ محمد رضا آل ياسين، لكنّه احتاط وجوباً في غير هذه الحال. وتابع آلَ ياسين في هذا تماماً السيدُ علي السيستاني مخرجاً صورة الغبار غير الغليظ ومحتاطاً وجوباً في تدخين التنباك المتعارف. ويظهر من السيد محمّد سعيد الحكيم والشيخ محمّد إسحاق الفياض والسيّد محمّد تقي المدرّسي والشيخ ناصر مكارم الشيرازي والسيد كمال الحيدري.. يظهر منهم جميعاً موافقة السيد باقر الصدر في ذلك.
ويظهر من بعض المعاصرين في موضعٍ من كلماته الاحتياط في مسألة دخان السجائر ونحوِه، مع أنّه لا يرى مطلقَ الغبار والدخان من المفطّرات، وعلّةُ هذا الاحتياط أنّه قال: يُستفاد من الروايات الواردة في حِكمة الصيام أنّ المقصود هو الامتناع عن اللذائذ الجسديّة، والسيجارة من مصاديق ما يُحدث لذّةً جسديّةً شديدة، فلذلك لم يُفتِ بالجواز واحتاط، ويظهر أنّ سببَ احتياطِه أنّه احتمل أنّ اللذائذ الجسديّة المشابهة للأكل والشرب محلّ احتياط، إذ إنّ النوم أيضاً من اللذّات الجسديّة.
والأقرب عدم مفطريّة الغبار ولا الدخان ولا البخار ولا الرائحة ولا البخور ولا غير ذلك، الغليظ من هذا كلّه وغير الغليظ، ما لم يتجمّع حاصله في الفم مثلاً فيكون تناوله مصداقاً للأكل والشرب المفطرَين للصائم، بل إنّ الرواية الآحاديّة الوحيدة هنا والتي اعتمدوا عليها (خبر سليمان المروزي) غير ثابتة سنداً على التحقيق. وأمّا بعض المحاولات التي تبني مفطريّة التدخين وأمثاله على مثل العرف المتشرّعي، أو كونه من الطعام أو الشراب، أو لكونه يقوم مقام القوت، أو بناء العرف المتشرّعي على ممنوعيّة إدخال شيء إلى الجوف مطلقاً للصائم، أو غير ذلك.. فكلّه غير مقنعٍ، بل قابل للنقاش من جهات، ولا نطيل.
