hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

المرجعيّة والتقليد / مقارنة بين رؤيتين مختلفتين

تاريخ الاعداد: 12/2/2025 تاريخ النشر: 12/2/2025
560
التحميل

حيدر حب الله([1])

مفهوم التقليد

تتخذ قضيّة المرجعيّة والتقليد موقعاً مميّزاً في حياة الجماعة الشيعيّة الإماميّة منذ زمنٍ بعيد، ما يجعل من الضروري والمفيد تحليل مفهوم التقليد وواقعه في الحياة الشيعيّة، وهو ما سأحاول أن أقوم به هنا، مع إضافة تصوّر آخر لشكل العلاقة بين المرجع والمكلّف نطرحه للتفكير.

وبهذا سأجعل كلمتي ضمن محورين أساسيّين:

المحور الأوّل: الفهم التقليدي المدرسي للتقليد وبعض تجلّياته في الحياة الشيعيّة.

المحور الثاني: الفهم الآخر للتقليد وإمكانات تأثيره على حياة المجتمعات الشيعيّة.

ولسنا هنا بصدد بحث فقهي استدلالي، لصالح هذا الفريق أو ذاك، بل نريد تحليل كلّ رؤية من خلال تأثيراتها على الحياة العامّة للشيعة، وفهم صورة التقليد عند الفريقين بحيث يكون أقرب للبحث الاجتماعي والسياسي والثقافي.

 

أوّلاً: الفهم المدرسي السائد للتقليد وتجلّياته في الحياة الشيعيّة

كيف تعمل منظومة التقليد في حياة الشيعي؟ وما هي آليات ذلك؟ وما هي الخلفية التاريخية باختصار؟

بدايةً، يتصوّر كثير من الناس أنّ فكرة التقليد ومعها الشروط الثلاثة ـ أعني شرط الذكورة والأعلميّة والحياة في المرجع ـ هي من مختصّات الفقه الإمامي، وأنّه لا وجود لها في المدارس الفقهيّة الأخرى عند المسلمين، كما يتصوّر آخرون أنّ فكرة التقليد ـ ومعها الشروط الثلاثة المشار إليها ـ هي وليدة العصر الصفوي، ولم يكن لها وجود قبل ذلك، بل يتصور بعضٌ ثالث أنّ هذه الأفكار جاءت منذ مطلع القرن العشرين، وبخاصّة مع كتاب "العروة الوثقى" للسيد كاظم اليزدي.

هذه التصوّرات الثلاثة غير دقيقة كلّها، وفي الوقت نفسه يحظى بعضها بقدرٍ من الصحّة النسبيّة، ففكرة التقليد وشروط المرجَع بحثها علماء الإسلام منذ حوالي ألف عام تقريباً، وعندما نريد مراجعة هذه الفكرة وامتداداتها نكتشف أنّهم تحدّثوا عنها في مجال القضاء، حيث تكلّموا عن شرط الأعلميّة في القاضي ـ على الأقل الأعلميّة النسبيّة في المدينة ـ وعن حجيّة حكم القاضي، ولعلّ السبب في طرح هذه الأمور هو أنّ الأحناف تولّوا أو كان لهم صلة ما بالمناصب القضائيّة العالية في الدولة العباسيّة في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، والعمل القضائي تظهر فيه مثل هذه القضايا، حيث لاحظوا تناقضات في أحكام القضاة، وفي البلد الواحد ربما يكون هناك أكثر من قاضٍ، فأرادوا تنظيم العمل القضائي حتى لا يتعرّض لفوضى، فبدأ التفكير في وضع شروط للقاضي وللقضاء معاً، مستعينين بالتوجيهات العامّة للقرآن والسنّة.

وشيئاً فشيئاً أخذ الموضوع يمتدّ لعلاقة ما يعرف بـ "المفتي والمستفتي"، حيث بدأ المسلمون ومنذ القرن الثاني الهجري يهتمّون بأمور الشريعة بشكل أكبر منه في القرن الأول، بمعنى أنّهم أخذوا يسألون عن أحكام الشريعة في كلّ قضيّة، فواجه علماء الفقه ظاهرةً مستجدّة أقوى من السابق، وهي كثرة الأسئلة، وأخذ الناس وطلاب العلوم الدينيّة يرجعون لكبار العلماء في هذه الأسئلة، وظهر ما يعرف بكُتب الأسئلة والأجوبة أو (الجوابات)، فمثلاً نجد كتاب "جوابات المسائل الموصليّات"، وهي أسئلة وردت من الموصل، فتُجمع ويكتب لها هذا العنوان، وقد تكون في الفقه وفي غير الفقه أيضاً، وتارةً تكون بلغة فتوى، وأخرى أوسع من ذلك.

تطوّرت هذه العلاقة بين السائل والمجيب، لتأخذ شكلاً منتظماً عبر التاريخ، فتحوّلت بنفسها إلى ظاهرة، أُطلِقَ عليها "الاستفتاء"، وبدأ العلماء أيضاً يفكّرون في وضع ضوابط أخلاقيّة ودينية لعلاقة المفتي بالمستفتي وبالعكس، وهنا ظهر التفكير في شروط المفتي، وأخذ الحديث يتطوّر عبر الزمن ـ شيعياً وسنيّاً ـ عن شروط المفتي وأخلاقيّات وضوابط عمليّة الاستفتاء والإفتاء وغير ذلك، حتى أُلّفت كتبٌ مستقلّة في هذا الصدد، وبخاصّة عند أهل السنّة. وبهذا تشكّلت ظاهرة اجتماعيّة جيدة.

وعندما أخذ هذا الموضوع بحثه الجادّ ونقاشاته وأسئلته المحيّرة تولّى علم أصول الفقه الاهتمام بقضيّة حجيّة الفتوى وشروط المفتي وغير ذلك، فظهر عند الشيعة داخل الكتب الأصوليّة ـ وليس الفقهيّة، أرجو الانتباه ـ موضوع الاجتهاد والتقليد والفتوى وشروط المفتي وغير ذلك، وبهذا صار موضوع الفتوى والاستفتاء وشروط المفتي يُبحث في مكانين: بشكلٍ مستقلّ ومنفرد في كتب مستقلّة، وضمن فصلٍ من فصول مباحث علم أصول الفقه، واستمرّ هذا الوضع عند الشيعة والسنّة معاً، لكن منذ عصر السيد كاظم اليزدي بدايات القرن العشرين، انتقلت أبحاث الاجتهاد والتقليد من مباحث الأخلاق وأصول الفقه لتتركّز أكثر ضمن مقدّمات علم الفقه، وبدأنا نرى أنّ كتب الفقه والرسائل العمليّة لم تعد تبدأ من موضوع "الطهارة"، كما كانت في الماضي، بل صارت تبدأ من موضوع "الاجتهاد والتقليد"، ثمّ الطهارة، ثم سائر الأبواب.

في العصر الصفوي، وقع نزاعٌ يعدّ من أكبر النزاعات الفكريّة في تاريخ التشيّع الإمامي على مستوى علم الفقه والشريعة، وهو النزاع الأصولي ـ الإخباري في موضوع التقليد نفسه، ففي الوقت الذي دافع فيه الأصوليّون عن تقليد الفقيه، رفض الكثير من الإخباريّين ذلك، وقالوا بأنّ التقليد محرّم، وأنّ المفروض أن يقوم المكلّف ـ أيُّ مكلّفٍ ـ بنفسه بقراءة روايات أهل البيت والعمل بما يفهمه منها، وأنّنا إنّما نقلّد أهل البيت ولا نقلّد غيرهم، ولهذا لم يؤلّف الإخباريّون كتاباً في الفقه الاستدلالي، بل غالباً ما كانوا يكتفون بشرح الروايات ويبيّنون بعض التفاصيل أثناء الشرح، مثل العلامة المجلسي والفيض الكاشاني والحرّ العاملي وغيرهما. والاستثناء الوحيد كان الشيخ يوسف البحراني (1186هـ) الذي ألّف كتاب "الحدائق الناضرة"، والذي يعدّ تقريباً أوّل كتاب إخباري استدلالي، لهذا ـ وغيره ـ اعتبره بعضهم إخباريّاً معتدلاً، وقال آخرون بأنّه خرج عن المسار الإخباري باعتماده طريقة الاجتهاد والاستدلال وأصبح أقرب للأصوليّين.

ونتيجة الصراع الإخباري ـ الأصولي حول التقليد، تحوّل موضوع التقليد إلى موضوع كبير جداً وواسع، حيث كُتبت فيه كتبٌ متعدّدة ونقاشات مطوّلة، وتوسّع البحث في تفاصيل شروط المرجع أكبر بكثير مما كانت عليه الحال في الماضي.

من هنا نعرف:

أ ـ إنّه ليس صحيحاً أنّ فكرة التقليد وشروط المرجع فكرة شيعيّة إماميّة خالصة، حتى يسجّل هذا بوصفه نقداً على فكرة التقليد (التقليد ليس مخترَع شيعي).

ب ـ إنّه ليس صحيحاً أنّ مباحث التقليد وشروط المرجع ظهرت في العصر الصفوي، بل الذي ظهر في العصر الصفوي هو التوسّع الهائل في دراسة هذا الموضوع نتيجة الصراع حوله (التقليد ليس مخترَع صفوي).

ج ـ إنّه ليس صحيحاً أنّ القرن العشرين هو القرن الذي ظهر فيه موضوع التقليد أو شرط الأعلميّة أو غيرها مع السيد اليزدي، بل ما حصل هو توسّع الفقهاء داخل علم الفقه في مباحث التقليد، وانتقال هذه المباحث من علم أصول الفقه إلى علم الفقه والرسائل العمليّة (التقليد ليس مخترعاً حديثاً).

لكنّ السؤال: هل كانت صورة التقليد وشروط المرجع سابقاً مطابقة لما هي عليه اليوم؟

الجواب بالتأكيد هو بالنفي، فبحث التقليد والاجتهاد توسّع، وبخاصّة بحث شروط المرجع، فغالباً ما كان يبحث عن شرط الاجتهاد والأعلميّة والحياة وأحياناً الذكورة (شرط الذكورة في الفقه الإمامي أوّل ما ظهر في القرن العاشر الهجري)، لكن اليوم زادت شروط المرجع كثيراً، وبلغت عشرة وأحياناً أكثر، وبمجيء ما يسمّى بـ "الإسلام السياسي"، أخذت بعض الشروط تُضاف مثل شرط أن يكون المرجع قادراً على التصدّي للشأن العام، وأن يكون شجاعاً، وأن يكون خبيراً بالسياسة والاجتماع، وغير ذلك.

بالمراجعة التاريخيّة نكتشف أنّ الفقه الإسلامي أخذ يزيد شرطاً فوق شرطٍ على شروط المرجع أو المفتي نتيجة ظروف طرأت على الواقع، بحيث صارت تتطلّب شرطاً إضافيّاً، تماماً كما أصبحت المعرفة بالكمبيوتر شرطاً إضافياً في العاملين والموظّفين اليوم، فمثلاً كفاءة المرجع في التصدّي للشأن العام هو شرطٌ أُريد به ـ في تحليلي ـ أن تستجيب المرجعيّة للفكر السياسي الإسلامي الجديد، وربما أُريد به الإطاحة أو تقليص مرجعيّة المراجع الذين لا ينتمون للإسلام السياسي. وشرط الأعلمية ربما يكون سببه أو أحد أسبابه الرغبة في ضبط حركة التقليد، والحدّ من فوضى رجوع الناس بشكل عشوائي إلى هذا أو ذاك، مما يشتّت الطاقات، وبخاصّة مع ملاحظة أنّ المركزيّة في الكاثوليكيّة أعطتها قوّةً فاقت قوة اللامركزيّة عند البروتستانت من وجهة نظر بعض الباحثين، وهكذا.

هذا المسار التاريخي كلّه، أوصلنا لما نسمّيه "الرؤية التقليدية الرسميّة الكلاسيكيّة" للتقليد اليوم، فما هي هذه الرؤية؟

تعتمد فكرة التقليد القائمة اليوم على وجود مجموعة من الفقهاء في الحوزة العلميّة الذين يتفاوتون في درجة علمهم ومستوى عمقهم في بحوثهم الفقهيّة، وترى نظريّة التقليد السائدة أنّه يلزم على الشيعة ـ أفراداً وجماعات ـ أن يرجعوا في أمور دينهم وتنظيم دنياهم إلى فقيهٍ يتحلّى بمجموعة من الصفات من أهمّها: الحياة، والأعلميّة، والذكورة، والتشيّع الاثني عشري، ونحو ذلك.

عندما نأخذ شرطَي: الحياة والأعلميّة، ونفكّر فيهما بطريقة سيسيولوجيّة، سينتج عنهما ظهور نوع من المركزيّة في المجتمع الشيعي، قد لا تكون مركزيّةً مطلقة؛ لأنّ الناس قد يختلفون فيمن هو الأعلم، لكنّها بالتأكيد درجة قويّة من المركزيّة، ولهذا يحظى شخصان أو ثلاثة بنسبة التسعين بالمائة من المقلّدين في العالم. ولهذا الأمر تأثيراته الكبيرة على صعيد المركزيّة الماليّة والتنظيميّة وإدارة شؤون الطائفة الشيعيّة في العالم.

والسؤال هنا ببساطة: كيف تتمّ عملية رجوع الناس إلى هذا الشخص أو ذاك، بحيث تتشكّل مسألة المرجعيّة العليا للشيعة؟ كيف يتشكّل الاستقطاب؟

نظريّاً ـ وبعيداً عن الحديث في وجود لوبيات سياسية أو مالية أو شبكة علاقات لها تأثير، فهذا لا يعنيني الحديث عنه هنا ـ تبدأ الرحلة من وجود سلطة فكريّة وثقافية وتوجيهيّة داخل المؤسّسة الدينية، هي التي تقوم بتوجيه الناس نحو هذا المرجع أو ذاك، وهم الذين يطلق عليهم "أهل الخبرة"، فهذه الطبقة الثانية من الفقهاء تلعب دوراً مركزيّاً في جعل الشيعة يتحلّقون حول شخصيّة واحدة، وبقدر ما يوجد تناغم بين أفراد ومجموعات هذه الطبقة الثانية، بقدر ما يمكن تقليص عدد المراجع الذين يكونون في سدّة المرجعيّة العليا، والعكس صحيح.

معنى هذا أنّ المكلّف العادي يقوم بالاستماع لأهل الخبرة، فيتّبعهم في تعيينهم لشخصٍ أنّه الأعلم، ثم يعقب ذلك أنّه يذهب نحو الأعلم فيتّبعه، وتصبح جميع أعماله حصريّاً بيد فتاوى هذا المرجع الأعلم، ولا يحقّ له المناقشة في نظريّة تقليد الأعلم أساساً؛ لأنّ هذا شأن اجتهادي خالص. وبهذا نكتشف أنّ المكلّف العادي ليس له أيّ دور في اختيار الفتوى أو المرجع، فهو ـ ونحن نوصّف هنا فقط ـ فاقدٌ لكلّ أنواع السلطة، ومن يملك السلطة هم أهل الخبرة الذين يذهبون به نحو السلطة العليا المطلقة، ألا وهي سلطة المرجع.

عادةً ما ينتُج عن هذا التفكير أنّ المكلّف العادي يصبح فاقداً لقدرة نقد الفتوى، مسلوب الإرادة في اختيارها، بل سوف يتعرّض ـ في بعض المجتمعات الشيعية ـ لنقدٍ اجتماعي شديد لو كانت له مؤاخذات على فتوى الفقيه الأعلم لصالح فتوى فقيهٍ آخر، ولهذا بعض المجتمعات الشيعيّة لا تقبل حتى بطرح آراء وفتاوى مرجعٍ آخر غير الذي اعتبرته أنّه المرجع الأعلم، فهم ينزعجون من تعليم الناس وجود فتاوى متعدّدة في العصر الحديث، ويرغبون في تقديم نسخة واحدة للمجتمع الشيعي متطابقة تماماً مع فتاوى مرجعٍ بعينه لا غير ـ وقد تستمرّ مرجعيّته لثلاثين أو أربعين سنة ـ حذراً من حدوث أيّ شرخ اجتماعي قد يهدّد الجماعة الشيعيّة هنا أو هناك.

ولهذا أنا شخصياً أسمّي التقليد في بعض الأجواء الاجتماعيّة عند الشيعة بـ "البَيعة" فهو أكثر من مجرّد اتباع مرجع في فتواه، بل هو نوع مبايعة، وكأنّه إذا خرج الإنسان من هذه البيعة، فقد خرج من ربقة الجماعة ونقض بيعته التي تجعله مجرّد مأمور لمكتب المرجع في كلّ صغيرةٍ وكبيرة حتى خارج دائرة الفتاوى نفسها.

بهذا نكتشف أنّ المحور هنا هو فقاهة وأعلميّة المرجع الحيّ، فهي التي تمنحه مطلق السلطات، ابتداءً من سلطة الفتوى، مروراً بسلطة القضاء، وصولاً إلى سلطة إدارة المجتمع الشيعي ماليّاً ووَقْفيّاً وتنظيميّاً، وعلى المستوى السياسي العام، وغير ذلك.

هذا توصيف مختصر جدّاً للرؤية التقليديّة للتقليد وتأثيراتها، بما يسمح به وقتنا الضيّق هنا.

 

ثانياً: فهمٌ آخر للتقليد وإمكانات تأثيره على حياة المجتمعات الشيعيّة

ينطلق الفهم الثاني ـ والذي أؤمن به شخصيّاً؛ انطلاقاً من قناعاتي الفقهية بأسسه الاجتهاديّة ـ من منطلقات مختلفة في طريقة تعامله مع قضيّة التقليد، ويمكنني باختصار طرح بعض العناصر الرئيسة، وان كان قد يشترك بعض هذه العناصر بين الاتجاهين:

العنصر الأوّل: التقليد ليس بيعةً مطلقة

أوّل العناصر هنا هو أنّ التقليد ليس بيعة، إنّه مجرّد رجوع الجاهل إلى العالم في أخذ الفتاوى منه، أمّا البيعة فهي نوعٌ من الخضوع والطاعة المطلقة للمرجع حتى خارج دائرة الفتاوى، فلو اتخذ المرجع موقفاً سياسياً معيّناً، فهذا لا يعني أنّني ملزَم باتّباع موقفه؛ لأنّ موقفه هو وجهة نظر سياسيّة له وليست فتوى، وهذا ـ بالمناسبة ـ أمرٌ شرحه حتى الفقهاء أنفسهم في التمييز بين التقليد واتّباع المرجع في الأمور غير الفتوائيّة، فموقف المرجع من جهة أو شخص أو تيار لا يعني أنّ انتمائي له يفرض عليّ اتباعه في ذلك. نعم إذا كان شخصٌ ما مؤمناً بولاية الفقيه مثلاً، فإنّ هذا بحث آخر، لكنّنا هنا نتكلّم عن المرجعيّة الفقهيّة وليس عن الولاية.

وبهذا يكون المكلّفون أكثر حرية في التعامل مع ما يصدر من المرجعية ومكاتبها، وهذا امتياز مختلف هنا.

العنصر الثاني: التقليد والأعلميّة مفاهيم قائمة على قناعات الفرد نفسه

معنى هذا الكلام أنّه لا يمكن لأحد أن يُلزم المكلّف بتقليد مرجعٍ إلا عبر إقناعه بفكرة التقليد، فإذا لم يقتنع بفكرة التقليد وكانت له رؤية مختلفة، فإنّه لا يمكن اعتباره فاسقاً أو اتخاذ إجراء ـ اجتماعي أو غير اجتماعي ـ في حقّه، ففكرة التقليد نفسها ليست تقليديّة، أي لا تخضع للتقليد.

بل فكرة الأعلميّة أيضاً كذلك، فإذا لم يكن المكلّف مقتنعاً بفكرة لزوم تقليد الأعلم، فلا يمكننا أن نعتبره فاسقاً إذا لم يقلّد الأعلم، بل قلّد غيرَه.

فالتقليد وتقليد الأعلم نتاج قناعة الشخص نفسه، لا نتاج سلطة اجتماعية أو معرفية خارجة عنه تفرض قناعاتها عليه، بمعنى تملك سلطة الإلزام تجاهه. وهنا إذا ترك التقليد عن هوى أو قناعة فهذا أمر بيّنه وبين ربّه، ولا نملك سلطةً عليه في ذلك.

العنصر الثالث: الشرط الأساس في المرجع هو فقاهته وأمانته، وليس جنسه أو أعلميّته أو غير ذلك

وفقاً لهذا العنصر، فإنّ المهمّ في المرجع أن تتحقّق فيه صفتان: صفة الفقاهة بأن يكون فقيهاً حقاً، وأن يكون صاحب أخلاق وأمانة في بحثه العلمي وفي نقله فتواه لنا، أمّا شرط الأعلميّة والذكورة والحياة فهذه ليست شروطاً أساسيّة أو مستقلة وفي نفسها وفقاً لهذه الرؤية، ولم تثبت بدليل مقنع وقويّ، وينتج عن ذلك أنّ آحاد الشيعة يمكنهم أن ينوّعوا في تقليدهم، وبهذا تنتهي حالة المركزيّة في التقليد، لصالح اللامركزيّة، ويجوز للمكلّف ما يُعرف بـ "التبعيض في الفتاوى".

هذا تأثير اجتماعي هيكلي في غاية الأهمية يجب التأمّل فيه جيداً.

العنصر الرابع: التمييز بين المرجعيّة الفقهيّة والمرجعيّة التنظيميّة

بمعنى أنّ المرجع الذي يُرجع إليه في الفتاوى، ليس من الضروري أن يكون هو بعينه الشخص الذي يتولّى شؤون الطائفة وأوقافها وأموالها وتنظيم أنشطتها في مجال الاجتماع والسياسة والعلاقات وغير ذلك، وبهذا يكون مصطلح (المرجع الأعلى) مصطلحاً تنظيميّاً يمكن أن يتولّاه أيّ فقيه شرط أن يقدّم مشروعه لتنظيم أمور الطائفة خلال السنوات القادمة، وبهذا اختلفت صفة المفتي عن صفة المرجع. والمرجع هو فقيه من الفقهاء ـ لا الأعلم بالضرورة ـ يتولى الشؤون العامّة للطائفة.

وحيث إنّ المرجع موقعٌ تنظيمي وليس دينياً خالصاً، فمن الممكن أن يخضع لنظام الانتخابات، وكذلك من الممكن أن نجعله محدّداً زمنياً، ويتنافس المرشّحون على هذا الموقع من خلال تنافسهم بتقديم برامج أفضل لوضع الطائفة في العالم خلال الخمس أو العشر سنوات القادمة، وتتمّ عمليّة الانتخاب على أساس البرنامج الذي يقدّمونه، فلم تعد الأعلميّة في الفقه والأصول هي التي تعطي الشخصَ ـ حصراً ـ السلطةَ على العالَم الشيعي، بل هناك ـ إضافة للفقاهة وليس الأعلميّة ـ الخبرة في مجال الإدارة والتنظيم والمال والعمل السياسي وغير ذلك، فمثلاً ما هي رؤيته لتعامل الأقليّات الشيعية مع الحكومات اليوم؟ وما هي رؤيته وبرنامجه لتحسين وضع الأقليات الشيعيّة في العالم اليوم؟ وما هي رؤيته لتحسين الأوضاع المعيشيّة للشيعة؟ ما هي رؤيتك لتنظيم الأوقاف؟ كيف يمكن الخروج من الأزمات التي يعاني منها الشيعة اليوم في بعض الأماكن المتوترة في العالم؟ وهكذا.

العنصر الخامس: اختيار الفتوى على أساس الترجيح

هنا نقطة مهمّة للغاية، أوضحتها في تعليقتي على "منهاج الصالحين"، وهو أنّ اختيار المرجع في القراءة التقليدية كان ـ كما قلنا ـ على أساس قول أهل الخبرة، بينما اختيار المرجع هنا ـ بعد ثبوت فقاهته عبر أهل الخبرة ـ يكون على أساس درجة وثوق المكلّف بسلامة فتوى هذا المرجع وقربها للإسلام حتى لو لم يكن المكلَّف فقيهاً، فإذا لاحظ أنّ فتوى الشيخ المنتظري مثلاً، والتي ترى أنّ الخُمس هو ضريبة عامّة جُعلت لرفع حاجات المسلمين، أقربُ لروح الإسلام من فتوى السيد الخوئي، التي ترى أنّ الخمس هو مالٌ شخصيّ للنبيّ وبني هاشم، فإنّ عليه الرجوع لفتوى المنتظري، وهكذا، وإذا لم يجد في نفسه ترجيحاً لفتوى على أخرى، مثل بعض تفاصيل الأحكام الجزئيّة، فإنّ عليه أن يختار بين الفتاوى في مثل هذه الحال.

هنا لا يلغي المكلّف التقليد، بل يغيّر قواعد اختيار الفتوى التي يريد أن يقلّد فيها، وبهذه الطريقة تصبح لرؤية المكلف وثقافته الدينيّة والاجتماعيّة دوراً في اختياره للفتوى التي يراها هي الأصلح والأنسب، فهو لا يبتدع فتوى من عنده؛ لأنّه ليس فقيهاً، لكنّه يملك سلطة اختيار الفتوى على أساس قناعاته وخبرته الثقافيّة الدينية، وبهذا يقترب التيار الشعبي الذي يميل للتجديد الديني من تقليد الشخصيّات الإصلاحيّة، فيما يقترب الآخرون من تقليد الشخصيّات المدرسية التراثية وهكذا، ولا يبقى المكلّفون الذين يملكون أفكاراً منفتحة وتجديديّة تحت سلطة المرجع الذي لا يؤمنون بأفكاره ورؤيته الدينيّة العامّة، والنتيجة هي وقوع الانسجام بين المكلّف وفتاوى المرجع إلى أكبر حدٍّ ممكن.

النتيجة

إنّ الرؤية الأولى تقوم على حصر السلطة تماماً، بحيث تسلب المكلّفين أي قدرة أو حقّ في اختيار المرجع أو الفتوى، بينما الرؤية الثانية تقوم على توزيع السلطة بين آحاد المكلّفين خارج الفتاوى، وفي الأمور التنظيمية وفي أصل فكرة التقليد والأعلمية من جهة، والمرجعية الدينيّة الفقهيّة من جهة ثانية، والمرجعيّة التنظيميّة الإداريّة من جهة ثالثة، وبهذا نعيد تشكيل المكوّنات الاجتماعيّة للمجتمع؛ وتصبح سلطة المرجعيّة الإدارية خاضعة للنقد حتى من قبل غير الفقهاء؛ لأنّها ليس مقدّسة ولا فقهيّة بالمعنى الحصري للكلمة.

إنّ شدّة تلاصق فكرة التقليد مع فكرة المركزيّة والأعلمية في الوعي الشيعي اليوم تعطي تصوّراً مغلوطاً حول أنّ الرؤية الثانية هنا هي في حدّ نفسها إبطالٌ لفكرة التقليد، وكأنّ نسف نظرية الأعلميّة يساوي نسف نظرية التقليد، وهذا ليس صحيحاً؛ لأنّ التقليد ما يزال مفتوحاً كما شرحنا، غاية الأمر صارت صلاحية اختيار الفتوى التي يقلّد فيها المكلّف مرجعاً، بيد المكلف نفسه في كثير من الأحيان على الأقلّ.

هاتان رؤيتان تُطرحان للتداول والتقويم سلباً أو إيجاباً، وأمّا الاستدلالات الفقهيّة على تصحيح الرؤية الأولى أو الثانية، فممّا يتطلّب مجالاً واسعاً للحديث، لا يسمح به الوقت.

_________________________

([1]) هذا تقرير لمحاضرة ألقاها الشيخ حيدر حب الله يوم السبت، بتاريخ 17 ـ 5 ـ 2025م، في "ملتقى الفكر الحر"، عبر تطبيق Zoom حول المرجعيّة والتقليد، طارحاً رؤيتين مختلفتين، وشارحاً عناصرهما ومكوّناتهما وتأثيراتهما الاجتماعية والسياسية والدينية.