نظريّة القياس عند الإماميّة من القرن الرابع إلى الثامن الهجري
حيدر حبّ الله([1])
مقدّمة
يُعتبر القياس([2]) واحدة من محرّمات الاجتهاد الكبرى عند الإماميّة إلى يومنا هذا، وتقف إلى جانبه مفردة "الاستحسان" التي تستعمل في التداول الإمامي عادةً بمعنى إعمال الرأي الشخصي والبناء عليه بدون دليلٍ معتبر شرعاً. وكثيراً ما يناقش فقهاء الإماميّة بعضُهم بعضاً بأنّ استدلالك هنا إنّما هو قياس، أو أنّك تورّطت في القياس من حيث لا تشعر، ومن ثمّ يُسقطون دلالة الدليل لكون هويّته قياسيّة، بل إذا كان مزاج الفقيه الاجتهادي قريباً أو يُشبه طريقة القياس، فإنّ هذا من أسباب سقوطه في الحوزات العلميّة، وآخر مثال على ذلك السيد محمّد حسين فضل الله(2010م) الذي اتُّهم بالعمل بالقياس أو الدفاع عنه جزئيّاً أو التسامح فيه، وهو اتّهام قد يتطوّر ليمسّ الهوية العقديّة للمتَّهم؛ لأنّه يُنظر إليه على أنّه متأثر بالفكر السنّي، وأنّ فكره غير خالص في مذهبيّته الإماميّة.
وقد بلغ الحدّ عند الإماميّة في مواجهة القياس أنّ الانسداديّين في القرن الثالث عشر، وهم تيارٌ من علماء أصول الفقه الإمامي اعتقدوا بأنّ باب معرفة الشريعة قد انسدّ بفعل مرور الزمن والأزمات اللغويّة والتاريخيّة، الأمر الذي ألجأهم في مقارباتهم الأصوليّة إلى منح الحجيّة لمطلق الظنّ، فهؤلاء رغم اعتقادهم بحجيّة مطلق الظنّ ـ من أيّ سبب تولّدَ هذا الظنّ ـ لكنّهم تحفّظوا على الظنّ الآتي من القياس (=الظنّ القياسي)، وهذا يدلّنا على حجم الرفض الذي عند الإماميّة للقياس حتى تحوّل إلى "تابو".
لكنّ هذا الوضع يحتاج لحفر تاريخي، فهل كان الموقف الإمامي من القياس كذلك عبر التاريخ؟ وهل حظي الموقف بثبات أو أنّ انقسامات عرفها تاريخ الاجتهاد الإمامي تجاه هذا الموضوع حدثت في فترات زمنيّة معينة؟ وما الذي ساهم في حدوث هذه الانقسامات؟ وكيف تمّ تخطّيها لاحقاً حتى تحوّلت موضوعة القياس اليوم إلى محرّم فكري صارم؟
هذه الأسئلة وغيرها تتطلّب قراءة تاريخيّة للمواقف والاتجاهات في القرون الأولى، ولا سيما في الفترة الفاصلة بين القرن الرابع والثامن الهجريّين، حيث قد يجد المتابع أنّ تنوّعاً كان قد ظهر يمكنه أن يفتح ثغرة في كيفيّة فهم تطوّر الموقف من نظريّة القياس عند الإماميّة، وهذا ما سوف تحاول هذه الورقة الاشتغال عليه.
وسوف نرتّب مسار البحث وفقاً للآتي:
1 ـ تقديم صورة مختصرة عن خلفيّة المشهد حول القياس ـ إماميّاً ـ قبل القرن الرابع الهجري.
2 ـ دراسة ما حدث في القرنين الرابع والخامس في مدرسة بغداد.
3 ـ التحوّلات التي حصلت في مدرسة الحلّة([3]) في القرن السابع والثامن الهجريّين.
وطبعاً، بعد هذا الزمن توجد تحوّلات أيضاً، لكنّها غير مندرجة ضمن نطاق اشتغال هذه الورقة.
1 ـ صورة مختصرة عن خلفيّة المشهد حول القياس قبل القرن الرابع الهجري
ليس من شكّ إماميّاً أن أئمّة أهل البيت ـ بالمفهوم الإمامي للكلمة ـ وبخاصّة الإمام محمّد الباقر(114هـ) والإمام جعفر الصادق(148هـ)، قد شنّوا أعنف الانتقادات على القياس والرأي، فهناك عشرات النصوص المنقولة عنهم في مختلف الكتب الحديثيّة الإماميّة في هذا الصدد.. لهذا لا يوجد نقاش في أنّهم انتقدوا هذا المفهوم.
لكنّ السؤال كان بين الباحثين: ما هو القياس الذي انتقده أهل البيت؟ هل هو نفسه القياس المعروف بين أهل السنّة اليوم أو لا؟
توجد هنا وجهات نظر:
الأولى: أن يكون المراد بالقياس ونحو ذلك، ما هو المعروف اليوم، وتداول بين علماء أهل السنّة منذ القرن الخامس الهجري ـ في الحدّ الأدنى ـ وما بعد، وهو محاولة الحصول على علّة الحكم في الأصل بهدف تحقيقها في الفرع؛ لإثبات الحكم في الفرع بما هو في الأصل.
هذا التفسير هو ما يفهمه جمهور علماء الإماميّة إلى اليوم من النصوص المنقولة عن أهل البيت في نقد القياس، ويعتبرون أنّ أهل البيت رفضوا القياس عينه الذي تعتمده المدرسة الأصوليّة السنيّة، ومن هنا أيضاً نفهم تشدّد الاجتهاد الإمامي في موضوع إمكان معرفة علل الأحكام، فهم يرون ذلك أشبه بالمستحيل عمليّاً إلا في حالات معدودة، ويرون أنّ تخميننا بالعلل تخمين ظنّي مرفوض؛ لأنّ القياس الذي يقوم على عمليّة اكتشاف العلل مرفوض جملة وتفصيلاً، وأنّ الشريعة مبنيّة في تشريعاتها على أسرار هي في الغالبيّة الساحقة غير مفهومة لنا، بلا فرق بين العبادات والمعاملات، وأنّ ادّعاء أنّ علّة هذا الحكم هي كذا وعلّة ذلك الحكم هي كذا رجمٌ بالغيب.
الثانية: أن يكون القياس هو نقل الحكم من الأصل إلى الفرع عبر مجرّد التشابه، لا عبر العلّة الآتية من الطرق المعروفة في مسالك التعليل، وهو ما يُسمّى بقياس الشّبَه، بمعنى أنّنا نتكلّم عن قياس بدائي ينطلق من مجرّد حدّ أدنى من الشبه بين الأصل والفرع، دون دخول في تعميق شكل هذه العلاقة الشبهيّة تحت عنوان العلّة بمفهومها الدقيق المتأخّر.
وادّعاء هذه الفرضيّة قائم على أنّ القياس ولد بهذه الطريقة البدائيّة العفويّة البسيطة، وأنّه تغيّر وتقعّد فيما بعد بالتدريج، وأنّ سلوك الأحناف الأوائل كانت مشكلته في ذلك. ولعلّ ما يسمح بفرضيّةٍ من هذا النوع أنّنا لا نملك كتباً ترجع للقرن الثاني تبيّن بشكل مباشر تقعيد القياس، لا من قبل أبي حنيفة نفسه ولا حتى من قبل تلامذته، وهذا يعني أنّ القياس وُلد قبل أن تولد نظريّتُه بشكل متكامل، مما يسمح باحتمال أنّ التشابهات كانت أساساً، ورغم أنّها قد تستبطن بعضَ العلل أو أشكال التعليل، لكنّها كانت بطريقة بدائية وعفويّة غير مقعّدة بشكل علمي دقيق، وأنّ اللاحقين صاغوا ـ بأنفسهم ـ نظريّة قياسية حنفيّة عبر تتبّع تطبيقات جيل القرن الثاني من الأحناف للقياس، آخذين بعين الاعتبار التأوّل في تخريج أقيسة جيل القرن الثاني وتظهيرها بمظهر متناسق ومنضبط.
بناءً عليه، لن يعود لنصوص أهل البيت اليوم معنى على مستوى عمدة مسالك التعليل، وسيكون قياس منصوص العلّة والأولويّة والمناسبة وغير ذلك خارج تخصّصاً عن إطار النهي الوارد، وسيدخل في هذا النهي قياس جزئي على جزئي عبر تشابه الاثنين ولو في أمرٍ ما، ربما لا يكون علّةً بالمعنى الدقيق للكلمة.
الثالثة: أن يكون القياس المنهيّ عنه عبارة عن التماس العلل الواقعيّة للأحكام الشرعيّة من طريق العقل، وجعلها مقياساً لصحّة النصوص التشريعيّة، فما وافقها فهو حكم الله الذي يؤخذ به، وما خالفها كان موضعاً للرفض أو التشكيك.
بناء على هذه الفرضيّة سوف يكون القياس الممنوع عنه هو نوع من الاجتهاد العقلي في مقابل النصّ، فنحن نلتمس العلل الواقعيّة ثم نحاكم النصوص عبر فهمنا للعلل الواقعية فهماً آتياً من العقل هذه المرّة، وبهذا تقترب فكرة القياس من فكرة «الاجتهاد في مقابل النصّ».
هذه الفرضيّة هي التي يبدو اختارها السيد محمّد تقي الحكيم(1424هـ) في تحليل طبيعة النزاع بين الإمام الصادق وأبي حنيفة، حيث يقول: «وهناك اصطلاح آخر للقياس، شاع استعماله على ألسنة أهل الرأي قديماً.. وعلى هذا النوع من الاصطلاح، تنزل التعبيرات الشائعة: إنّ هذا الحكم موافق للقياس وذلك الحكم مخالف له. وقد كان القياس بهذا المعنى مثار معركة فكريّة واسعة النطاق على عهد الإمام الصادق وأبي حنيفة.. وعلى أساس من هذا المصطلح ألّفت كتب للدفاع عن الشريعة وبيان أنّ أحكامها موافقة للقياس، أي موافقة للعلل المنطقيّة..»([4]). ويبدو من الشيخ حسن الجواهري والشيخ جعفر السبحاني من المعاصرين الميل لهذا الرأي([5]).
ويمكننا تطوير هذه الفرضيّة أكثر لتستوعب كلّ ممارسة تحدّد الموقف من النصّ أو الموقف من دلالة النصّ وفقاً لرأي الإنسان وقناعاته العقليّة التي يكوّنها من خارج النصوص، فيستوعب الأمر قياس صدور النص على الرأي والعقل تارةً وقياس دلالة النصّ تارةً أخرى بما يسمح بالتأويل والتصرّف في معنى الحديث بما ينسجم مع قناعاته الخاصّة المتولّدة من خارج السياق النصّي.
الرابعة: اعتماد النظر الشخصي في اتخاذ الموقف الشرعي دون الرجوع للنصّ رغم إمكان الوصول إليه. ويعني ذلك أنّ الفقيه صاحب الرأي والقياس هو ذلك الشخص الذي يعوّل كثيراً على آرائه وهو قليل الاهتمام بمرجعيّة الرواية والحديث وعموم النصّ، مع توفّر الأدلّة النصيّة أمامه بحيث يراها أو بحيث لو فحص عنها لوجدها، فإنّ بإمكانه الوصول لكنّه لا يهتمّ كثيراً لمرجعيّة النصّ بالمستوى المطلوب، بل يميل أكثر لرأيه وقياسه.
وقد تلتقي الفرضيّتان الأخيرتان لتشكّلا إطاراً عامّاً لمرجعيّة الرأي الشخصي، وأنّ مدرسة الرأي والقياس في القرن الأوّل والثاني، لم تكن سوى تعبير عن مرجعيّة النظر الشخصي في القضايا وتحكيمها وإعطاء هذه المرجعيّة دوراً كبيراً في الإفتاء، وأنّ فكرة التعليل وبناء نظام تبرير باسم القياس وما يرتبط به من سياقات.. جاءت لاحقاً، وتمّ تأويل الأمور بطريقة غير دقيقة فيما بعد ليصبح المشهد في القرنين الأوّلين منتظماً على سياق النظريّة التي وضعت في القرون اللاحقة على قانون العلّة ومسالكها، وهذه فكرة يؤيّدها غير واحد من الباحثين ليس آخرهم عبد المجيد تركي، في دراسته الموسّعة في هذا الصدد، متابعاً نسبيّاً ما توصّل إليه جوزيف شاخت في قراءته التاريخيّة([6]).
نستنتج من هذا العرض المختصر أنّ هناك إمكانيّة لاحتمالات متعدّدة في فهم موقف أهل البيت من القياس، ومن ثمّ وجود مجال لفهم موقفهم على أنّه ليس نهياً عن القياس المتعارف اليوم، ولنضع ذلك في بالنا؛ لأنّه سوف يساعدنا في تحليل الانقسام الإمامي ـ الإمامي الذي حصل في القرن الرابع والخامس الهجريّين.
2 ـ المشهد في القرن الرابع والخامس (مدرسة بغداد)
إذا فهمنا هذه الاحتماليّات، يمكن فهم ما حدث في القرنين الرابع والخامس، وهو ما يمكننا رصده عبر مجموعة نقاط:
2 ـ 1 ـ ظهور ابن الجنيد الإسكافي في القرن الرابع الهجريّ
يُعتبر الفقيه أبو علي محمّد بن أحمد بن الجُنيد الكاتب الإسكافي (وأُطلق عليه الجنيدي أيضاً) شخصيّة بارزة في قرون تبلور الفقه النظري والاجتهادي عند الإماميّة، والمعروف عنه أنّه سكن بغداد ـ كما يلوح من وصف الإسكافي نسبةً إلى "إسكاف" من نواحي ببغداد ـ وقد عاش في القرن الرابع الهجري، وربما يكون وُلد نهايات القرن الثالث، والكلّ يعلم أنّ بغداد شهدت تيارات عقلانيّة عديدة سنيّاً وشيعياً ومعتزليّاً في تلك الفترة.
عندما نرجع للنصوص القديمة التي تتحدّث عن ابن الجنيد، نواجه الآتي:
1 ـ يقول الشيخ أبو العباس النجاشي(450هـ): «محمّد بن أحمد بن الجنيد أبو علي الكاتب الإسكافي، وجهٌ في أصحابنا، ثقة، جليل القدر. صنّف فأكثر.. (ويذكر له عدداً كبيراً من الكتب في مختلف المجالات، تقارب الخمسين كتاباً، ومنها:).. كتاب الأحمدي للفقه المحمّدي، كتاب النصرة لأحكام العترة. وكان له نحو ألفي مسألة في نحو ألفي وخمس مائة ورقة، كتاب كشف التمويه والإلباس على أغمار الشيعة في أمر القياس، كتاب إظهار ما ستره أهل العناد من الرواية عن أئمّة العترة في أمر الاجتهاد.. وله مسائل كثيرة. وسمعت شيوخنا الثقات يقولون عنه: إنّه كان يقول بالقياس..»([7]).
2 ـ يقول الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي(450هـ): «محمد بن أحمد بن الجنيد، يكنى أبا علي، وكان جيّد التصنيف حسنه، إلا أنّه كان يرى القول بالقياس، فتُركت لذلك كتبه ولم يعوّل عليها. وله كتب كثيرة، منها: كتاب تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة ، كبير نحواً من عشرين مجلّداً، يشتمل على عدد كتب الفقه على طريقة الفقهاء..»([8]).
3 ـ ويُجري الشيخ المفيد(413هـ) في كتاب "المسائل الصاغانية" مناقشة مذهبيّة مع عالمٍ حنفي من بلاد نيسابور، يدّعي فيها الطرف الآخر أنّ الجنيدي دخل نيسابور ليأخذ المال للإمام المهدي، ويعلّق المفيد بالقول: «..فأمّا قوله بالقياس في الأحكام الشرعيّة، واختياره مذاهب لأبي حنيفة وغيره من فقهاء العامّة لم يأت بها أثر عن الصادقِين (عليهم السلام)، فقد كنّا ننكره عليه غاية الإنكار، ولذلك أهمل جماعة من أصحابنا أمره واطّرحوه، ولم يلتفت أحد منهم إلى مصنّف له ولا كلام..»([9]).
كما يظهر من المفيد في كتاب "المسائل السروية" موقفٌ نقدي شديد منه، حيث يقول: «فأمّا كتب أبي علي بن الجنيد، فقد حشاها بأحكام عمل فيها على الظنّ، واستعمل فيها مذهب المخالفين في القياس الرذل (الرديء)، فخلط بين المنقول عن الأئمّة عليهم السلام وبين ما قال برأيه، ولم يفرد أحد الصنفين من الآخر..»([10]).
وقد قال السيد محمّد مهدي بحر العلوم(1212هـ) في كتابه "الفوائد الرجاليّة": «وأعظم من ذلك ما حكاه المفيد رحمه الله عنه من نسبة الأئمّة عليهم السلام إلى القول بالرأي، فإنّه رأي سيء وقول شنيع، وكيف يجتمع ذلك مع القول بعصمة الأئمة عليهم السلام، وعدم تجويز الخطأ عليهم، على ما هو المعلوم من المذهب، وهذا القول وإن لم يشتهر عنه إلا أنّ قوله بالقياس معروف مشهور، قد حكاه المفيد رحمه الله.. (إلى أن يقول بحر العلوم:) ومن هذا يعلم أنّ القول بالقياس مما لم ينفرد به ابن الجنيد من علمائنا وأنّ له فيه سلفاً من الفضلاء الأعيان كيونس بن عبد الرحمان، والفضل بن شاذان، وغيرهم فلا يمكن عدّ بطلانه من ضروريات المذهب في تلك الأزمان. وأمّا إسناد القول بالرأي إلى الأئمّة عليهم السلام فلا يمتنع أن يكون كذلك في العصر المتقدّم»([11]).
4 ـ ويظهر من السيّد المرتضى(436هـ) في غير موضع ردّ آراء ابن الجنيد واتهامه بأنّ رأيه هذا أو ذاك كان عن ضرب من الرأي والاجتهاد أو اعتماداً على مرويّات شاذّة. وغالباً ما كانت لغة الشريف المرتضى مع ابن الجنيد شديدة، ربما نظراً لاعتقاد المرتضى بكفر القائل بالقياس حيث يقول في موضع من رسائله: «وفي رواتنا ونقلة أحاديثنا من يقول بالقياس ويذهب إليه في الشريعة، كالفضل بن شاذان ويونس وجماعة معروفين، ولا شبهة في أنّ اعتقاد صحّة القياس في الشريعة كفرٌ لا تثبت معه عدالة»([12]). لكنّ المرتضى مع ذلك لم يخرج ابن الجنيد صراحةً من التشيّع.
ولم ينقل الطوسي أسماء كتب عديدة له ذكرها النجاشي، خاصّة منها ما يتعلّق بأمر القياس، ويبدو من نصّ الطوسي والمفيد أنّ الرجل كان بصراحة متهماً بالقياس، وأنّ تهمته هذه أدّت به إلى أن تهجر كتبه، والطوسي بنفسه كان أحد الأشخاص الذين هجروا كتب الإسكافي حيث لم يكد يظهر له حضور في أعماله كلّها إلا نادراً، كما في مثل رسالته حول الفقّاع.
ورغم سعة كتب ابن الجنيد وضخامة مساهماته في علوم الكلام واللغة والفقه والتاريخ وأصول الفقه وغيرها، ودعوى بعض الباحثين أنّه قد تأثر به بعضُ العلماء مثل الشريف الرضي(406هـ)([13])، لكنّ أيّاً من كتبه لا وجود له اليوم، وربما يكون هجرانهم له بسبب تهمة القياس قد ساعد على غياب حضور الرجل إلى يومنا هذا بما يملك من ثقل في التراث الفقهي وتطوّر الفقه الإمامي.
كما يظهر من توصيف كتابه بأنّه في عشرين مجلّداً أنّ كتاب الفقه هذا مبنيٌّ على التفريع، وفي العادة كتب الإمامية لم تكن كذلك ولا كانت قائمة على التوسّع، وبهذا يكون كتابه الفقهي من أوائل الكتب الفقهيّة الموسّعة عند الإمامية، سابقاً "مبسوطَ" الشيخ الطوسي، وربما يكون حجمه أكبر من حجم كتاب الطوسي نفسه. بل يرى السيد علي السيستاني أنّ ابن الجنيد ساهم في تطوير أصول الفقه الإمامي أيضاً([14]).
2 ـ 2 ـ المنهج الاجتهادي لابن الجنيد بين النصّ والتعليل، محاولات في الفهم والتحليل
ما نريده هنا بعد هذا التمهيد هو: هل ثمّة منهج ـ ولو مغاير للمنهج الإمامي المشهور ـ يقترب في القرن الرابع الهجري من التفكير العللي أو القياسي أو لا؟
لكي نجيب عن هذا السؤال، لا بدّ لنا أن نرصد وجهات النظر التي طرحت حول شخصيّة وفكر ابن الجنيد، وما هو الشيء الذي كان يعتمده الرجل حتى اتُخذ منه هذا الموقف؟ ثمّة آراء متعدّدة هنا نطلّ على أبرزها ونحاول محاكمتها، لنخرج باستنتاجنا:
2 ـ 2 ـ 1 ـ ابن الجنيد وتوظيف القياس في سياق الحجاج المذهبي
يُفهم هذا التحليل من بعض العلماء، كالشيخ أبي علي محمّد بن إسماعيل الحائري(1216هـ) والسيد محمد باقر الخوانساري(1313هـ)([15])، وهو تحليل يرى أنّ ملابسات القضيّة تاريخياً تعطي أنّ الرجل كان يبحث على الأصول الاجتهاديّة المختلفة للمذاهب، وكان يستعرض الآراء المختلفة وطرائق الاستدلال المختلفة عند الشيعة والسنّة في ثنايا بحوثه الفقهيّة، ولكونه تطرّق لذكر القياس فإنّ الشيعة كانت لديهم حساسية في عرض القياس في مدارسهم، فنبذوه نتيجة ذلك، فابن الجنيد في الحقيقة لم يكن يهدف سوى لإثبات نتائجه عبر طرق الاستدلال المختلفة؛ ليُقنع الأطراف المختلفة، كلّ على قواعده في طريقة الاجتهاد، فكان يأتي بالقياس لصالحه ليُثبت أمراً للقائل بالقياس دون أن يكون هو معتقداً بالقياس بالضرورة.
ولكي تصبح هذه المحاولة مبرَّرة، يستشهد أصحابها بنصّ مهمّ للشيخ الطوسي في كتاب العُدّة، حيث يقول في مباحث حجيّة خبر الواحد: «والذي يكشف عن ذلك أنّه لما كان العمل بالقياس محظوراً في الشريعة عندهم، لم يعملوا به أصلاً، وإذا شذّ منهم واحد عمل به في بعض المسائل، أو استعمله على وجه المحاجّة لخصمه وإن لم يعلم اعتقاده، تركوا قوله وأنكروا عليه وتبرؤا من قوله، حتى إنهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لما كان عاملاً بالقياس..»([16])، وكأنّ الطوسي يكاد يعني بهذا الكلام ابنَ الجنيد. كما يساعد على وجهة النظر هذه بعض توصيفات محمد بن معد الموسوي، كما سيأتي، والتي ترى أنّه كان يستخدم طرق الإماميّة ومخالفيهم، وأنّه كان فقهه فقهاً مقارناً بمعنى من المعاني وتفريعياً.
لكن يبقى أمام هذه المحاولة أن تفسّر لنا الكتابين اللذين صنّفهما ابن الجنيد في القياس، لهذا ذهبت هذه المحاولة إلى أنّ كتاب التمويه والالتباس صُنّف لنقد القياس، وليس للدفاع عنه، وعليه فما حصل مع الرجل ليس نزوعاً نحو تفكير قياسي، ومن ثمّ ليس هناك من مؤشر لتفكير عللي أو قياسي عند الإماميّة آنذاك، بل هو مجرّد منهج وأسلوب في طريقة التدوين والبحث الفقهي لا غير.
هذه الرؤية أُخذ عليها بما ذكره الشيخ عبد الله المامقاني(1351هـ) وغيره، من أنّ هذا التفسير يبدو وكأنّه اجتهاد في مقابل النصّ، فإنّ الأصحاب الذين كانوا على معرفة به والشيوخ الذين اطّلعوا على كتبه من المعاصرين له أو القريبين جداً، قد صرّحوا ـ كما رأينا ـ بأنّه كان يعمل بالقياس ويحشو كتبه من الظنّ والرأي، فكيف يُعقل أن يكون هؤلاء التبس عليهم الأمر إلى هذه الدرجة بين كونه قد تبنّى القياس وكونه يستخدمه لأجل المحاجّة، خاصّة وأنّنا لا نتكلّم عن شخص أو شخصين، بل عن مجموعة من العلماء والفقهاء؟!([17]).
كما أنّ هنا مشكلة أخرى، وهي أنّ هذه المحاولة، لو كان الأمر على هذه الشاكلة، ليست سوى عملية افتراض محض لا يحمل معه أيّ دليل إطلاقاً، فما دام ابن الجنيد يسير على هذه الطريقة في التدوين، فكيف عرفنا نحن أنّه سار عليها من باب إفحام الخصم أو أنّه سار عليها من باب اختياره هذا النوع من الأدلّة؟! إنّ هذه المحاولة التبريريّة لابن الجنيد ليست سوى فرضيّة لإخراجه من المأزق الشيعي، أو لإخراج الفكر الشيعي من مأزق تاريخي من هذا النوع، ومن ثمّ فلا تملك أيّ معطى تاريخيّاً يساعد عليها.
أضف إلى ذلك أنّ مراجعة بعض ما نقل عن ابن الجنيد، ربما يجعل هذه المحاولة ضعيفة أيضاً، وعلى سبيل المثال فقط، قال العلامة الحلي(725هـ): «إذا وقف على أولاده ولم يفضل بعضاً على بعض، يتساوى الذكور والإناث فيه عند أكثر علمائنا. وقال ابن الجنيد: يكون للذكر مثل حظّ الأنثيين، وكذا لو قال: لورثتي. لنا: الأصل يقتضي التسوية، فلا يجوز العدول عنه إلا بدليل، كما لو أقرّ لهم أو أوصى لهم. احتجّ ابن الجنيد بالحمل على الميراث. والجواب: القياس عندنا باطل مع ثبوت الجامع، فكيف مع عدمه وثبوت الفارق؟ مع أنه قال: لو جعل الرجل وقفه على ولد أمير المؤمنين أو جعلها للقربى منه لا يتوارثون، كانت لجميعهم على الرؤوس، لا يفضل فيها ذكر على أنثى»([18]).
فإنّ العلامة الحلّي كان ينقل من كتاب الأحمدي الذي هو مختصر كتاب تهذيب الشيعة، ففضلاً عن أن المختصر يتوقّع أن يختار فيه الأدلّة المتبنّاة لا التي تكون للاحتجاج فقط، فإنّ العلامة الحلّي يبدو منه أنّ ابن الجنيد لم يكن لديه أيّ دليل آخر غير هذا الدليل، وإلا لذكره، فكيف يُعقل أن يدوّن ابن الجنيد هذا الدليل فقط في كتابه، ويترك الدليل الأصل غير القياسي الذي هو مختاره في الواقع؟!
من هنا نرى أنّ هذه المحاولة في تحليل الموقف تاريخياً غير موفّقة، بل تبدو متكلّفة بعض الشيء.
2 ـ 2 ـ 2 ـ واقعيّة العمل بالقياس والتبرير التاريخي
تبدو وجهة النظر الثانية هذه أنّها المحاولة الأكثر شهرة وتداولاً في تحليل المشهد التاريخي، والتي طرحها السيد محمّد مهدي بحر العلوم، ثم تابعه في ذلك عدد من العلماء من أمثال العلامة عبد الله المامقاني والسيّد أبو القاسم الخوئي(1413هـ).
ولبّ فكرة هذه الرؤية شرحها بشكل جليّ السيدُ بحر العلوم، وهي ترى أنّ ابن الجنيد كان يقول فعلاً بالقياس، أو أنّنا لا ننفي قوله بالقياس، لكنّ ذلك لا يستدعي موقفاً سلبيّاً منه في الفضاء الشيعي؛ لأنّ مسألة القياس لم تكن واضحة بهذه الدرجة التي نراها اليوم، وكانت من قضايا الفروع التي يختلف فيها وقد تبلورت صورتها تدريجياً عبر التاريخ، بل عبارة السيّد الخوئي توحي بأنّ القول بالقياس يظلّ اجتهاداً يعذر عليه صاحبه دون أن يشير إلى تنوّع الأزمنة([19]).
لكن كان هدف السيد بحر العلوم هو الجمع بين ثلاث: إثبات قول ابن الجنيد بالقياس، وإثبات معذوريّته، والحفاظ على كون رفض القياس من ضروريات المذهب الإمامي اليوم، بحيث من ينكره يخرج عن إطار التشيّع وما شابه ذلك. فهل وُفّق بحر العلوم في هذه التوليفة؟
لكي نتوقّف مع النقاط التي أثارها السيد بحر العلوم، لا بدّ أن نقول بأنّنا نوافقه في أنّ العديد ممّا يسمّى بالضروريات اليوم لم تكن كذلك من قبل وربما العكس، لكنّه إلى أيّ حدّ يمكن أن يكون محتملاً مثل ذلك في قضيّة (القياس) يقول عنها السيد بحر العلوم وأمثاله بأنّ فيها ما شاء الله من الروايات والأحاديث التي تواصلت، وتمّ تداولها منذ بدايات القرن الثاني الهجري، بل بعض نصوص النهي عن القياس ترجع لعصر النبيّ والإمام عليّ، فكيف يُعقل أن لا يكون الخلاف العظيم بين أهل البيت ومنهج مدرسة الرأي في العراق خافياً على شخصٍ بحجم ابن الجنيد، حتى يقال بأنّ القضيّة لم تكن ضروريّةً آنذاك وصارت كذلك لاحقاً؟!
ما أُريد قوله هو أنّ قضيّة القياس إمّا لم تكن وليست اليوم ضروريّة، بل هي محض اجتهاد ونظر في نصوص أهل البيت، وربما يختلف العلماء في فهمها وتحليلها، أو هي ضروريّة اليوم وبالأمس، ومن ثمّ فلا يُعقل أن تخفى على مثل ابن الجنيد، فضلاً عن أن تخفى قبله على مثل الفضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمن، ألم يكن من المعقول أن يسأل يونسُ أهلَ البيت عن قضيّة القياس وبينه وبين سائر الشيعة خلاف في هذه القضيّة، وهو الذي له مئات الروايات المباشرة المنقولة عنهم؟!
إنّ الأفضل في عمليّة التحليل أن نقول بأنّ كلّ الشيعة متفقون على مبدأ رفض القياس بمن فيهم ابن الجنيد، لكنّ الخلاف الذي وقع وما يزال يقع ـ ربما إلى اليوم أحياناً هنا وهناك ـ هو في تفسير القياس الذي رفضه أهل البيت، ومعالمه وحدوده، وبماذا يختلف مثلاً عن إلغاء الخصوصيّة أو تنقيح المناط القطعي أو غير ذلك، لا أن نقول إنّ أمر القياس بنفسه لم يكن واضحاً في ذلك الزمان، فإنّ دعوى عدم وضوحه ـ وهو قضيّة كبرى يدّعي الرافضون لها أنّها قد ورد فيها الكثير من النصوص ـ يكاد يكون أمراً مثيراً للُّبس.
ومن خلال ذلك نستنتج أنّنا لو وافقنا على أنّ ابن الجنيد كان يرى القياس برمّته على ما هو عليه في القرون الأولى ـ حتى القرن الرابع الهجري ـ عند أهل السنّة، فإنّ علينا أن نعتبر كليّاً قضيّة القياس قضيّةً نظريّة وليست بالغة حدّ البداهة والضرورة مطلقاً، حتى لو اتفق عليها المتأخّرون وكانت قطعيّةً بالنسبة إلى علماء الشيعة اليوم؛ لأنّ الضرورةَ والبداهة غيرُ «القطعيّة»؛ وذلك بقرينة واقع تجربة ابن الجنيد ويونس والفضل وغيرهم، فإمّا أن نتخلّى عن تهويل قضيّة القياس بوصفه بديهة وضرورة، أو نشكّك في إمكانية ووجود تيار ولو ضعيف بين الشيعة بمثل حجم هذه الرموز كان يقول بالقياس؛ إذ قولهم بالقياس معناه أنّ نصوص القياس ثمّة إشكاليّة فيها. ولا يمنع ذلك توصُّلُنا لنفي القياس، لكن ما يمنعه هو تحويل صورة القياس إلى محرّم فكري ومسلّمة إماميّة تتعالى عن التفكير فيها.
إنّ من المتوقّع جداً أن يكون هناك اتفاقٌ إمامي على رفض القياس، لكنّ الخلاف كان في فهمه وتعريفه وحدوده ومساحته، وأنّ هناك اتجاهات في هذا الموضوع، تبعاً لفهمها لمواقف أهل البيت من القياس.
ولهذا أستقرب شخصيّاً تعبير مثل السيد الخوئي والعلامة المامقاني، أكثر من تعبير السيد بحر العلوم، فضلاً عن تعابير مثل السيد المرتضى، حيث لم يفصّل الخوئي بين الماضي والحاضر، بل اعتبر قضية الموقف من القياس شيعياً قضيّة اجتهاديّة يُعذر المخطئ فيها، فمخالفها اليوم ليس مخالفاً لضروري المذهب بل مخالف لإجماع المتأخّرين، فهذا هو التعبير الدقيق عن صورة المشهد، خاصّة وفقاً لما تقدّم من أنّ هناك عدّة معاني للقياس لا نقاش إطلاقاً بين الإماميّة في رفضها بمن فيهم ابن الجنيد على الأرجح، مثل الاعتماد على العقل حتى مع وجود النصّ، أو الاعتماد على العقل وتجاهل الرجوع والتفتيش في النصوص ونحو ذلك، فالنزاع في أنواع أخرى للقياس، وهي أنواع لا يعلم أنّ رفضها يصنّف من البديهيات أو الضروريّات لا بالأمس ولا اليوم.
2 ـ 2 ـ 3 ـ الاختلاف في فهم قياس ابن الجنيد وهويّته
تذهب وجهة النظر هذه في جذرها إلى أنّ ابن الجنيد كان كسائر الإماميّة يرفض القياس الذي هو المتعارف بين أهل السنّة، لكنّ نقطة الفرق بينه وبينهم في أنّه استخدم مناهج في الاجتهاد بدت ـ للعلماء المتقدّمين ـ وكأنّه يعمل بالقياس، في حين لا تُعتبر هذه المناهج اليوم ـ على سبيل المثال ـ مناهج قياسيّة، بل هي مقبولة، وينتج عن ذلك:
أ ـ ابن الجنيد لم يخالف إجماع الطائفة الشيعيّة في موقفها من القياس.
ب ـ ابن الجنيد خالف إجماع الطائفة سابقاً في بعض مناهج الاجتهاد، فرفضوه على أساس تصوّرهم أنّ هذه المناهج هي قياس.
ج ـ إنّ ما خالف فيه ابن الجنيد الأصحاب ليس قياساً في الحقيقة، وهذا ما تنبّه له الأصوليّون اللاحقون الذين عملوا ـ في الجملة ـ بهذه المناهج متابعين في الحقيقة أمثال ابن الجنيد.
يذهب إلى هذا الرأي كلٌّ من السيدين المعاصرين: الدكتور حسين مدرّسي الطباطبائي وعلي الحسيني السيستاني، كما يُلمح له العلامة أبو الحسن الشعراني(1393هـ)([20]). ولنأخذ التوضيح الذي قدّمه السيستاني هنا، ومن خلاله يتضح كلام الطباطبائي والشعراني منه.
لقد تعرّض السيستاني لهذا البحث في موضعين، وأكتفي هنا بما ذكره في كتاب "الرافد في علم الأصول"، حيث اعتبر أنّ ما سلكه ابن الجنيد ليس ـ احتمالاً ـ إلا الأخذ بموافق الروح القرآنية والسنتيّة، على قاعدة "ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فدعوه"، وهذا معنى قياس الحديث على كتاب الله، ومن ثم فيكون ابن الجنيد متشدّداً في قبول الحديث على قاعدة العرض على القرآن لا غير. وليس له صلة بنظريّة القياس المعروفة([21]). فالسيستاني هنا يفهم من منهج ابن الجنيد أنّه منهج النقد المضموني القائم على الموافقة والمخالفة للقرآن، فابن الجنيد عندما كان يواجه نصّاً؛ فإنّه كان يعرضه على الكتاب بنحو الموافقة والمخالفة، فإذا رآه موافقاً أخذ به وإلا تركه. وسبب الالتباس هو أنّ كلمة "القياس" لا يراد منها القياس المعروف، بل يراد منها قياس شيءٍ على شيء، وهو هنا قياس الحديث على القرآن، فهو كان يقيس الحديث على القرآن، وهم كانوا متحسّسين من منهجه هذا، ويعتبرونه تخطّياً للنص الحديثي، مما جعلهم يتهمونه بالقياس.
لكنّ هذا التحليل للسيستاني يبدو لي غير مقنع؛ وذلك أنّ تفسير منهج ابن الجنيد على أنّه منهج النقد المضموني للحديث، معناه أنّ ابن الجنيد كان يواجه حديثاً أو رواية، وكان يتعامل معها بهذه الطريقة، فغاية ما ينتج عن منهجه نقده الحديث أو إثبات حديث بالموافقة المضمونيّة، فما علاقة ذلك بالقياس حتى يُتهم به؟! بمعنى أنّ كل ما فعله ابن الجنيد هو طرح الحديث بدعوى معارضته للقرآن أو أخذه بحديث بدعوى الموافقة المضمونيّة، وعلى كلا التقديرين نحن نملك حديثاً ما نرفضه أو نأخذ به نتيجة العرض على الكتاب، فهل هذا يتناسب مع كون ابن الجنيد يعمل بالقياس حيث لا نصّ، كما هو المعني بكلمة القياس عادةً؟! نعم كليّة كلمة «الرأي» قد تتحمّل مثل ذلك، لا كلمة القياس ونسبته إليه. وأعني بذلك أنّ كلمة «القياس» لها مدلول عام متبلور في الثقافة الإسلاميّة الفقهيّة في تلك الفترة ـ أعني بالخصوص القرن الرابع الهجري وما بعده ـ والمفروض حمل هذه الكلمة على معناها السائد في أدبيّات المسلمين، والمتكرّر مئات المرات في الكتب والمصنّفات السنيّة وغيرها، فصرف الكلمة عن معناها السائد في الثقافة إلى معنى يكاد يكون مستعملاً مرّةً أو مرتين فقط، يبدو في غاية الغرابة ومفتقراً لدليل. بل يمكننا الذهاب أبعد من ذلك لنسأل: أين هو موقف السيستاني هنا من كتابَي ابن الجنيد اللذين نسبهما إليه النجاشي حيث لم تقاربهما محاولتُه؟ فهل الكتابان موضوعان في قياس الحديث على القرآن حقّاً؟! وهل ثمّة شواهد؟
تبدو لي نظريّة السيستاني مبهمة جداً حتى الآن، فضلاً عن أنّه بهذا المقدار لا يوجد دليل عليها، بل إنّ المفيد والمرتضى كثيراً ما رفضا النصوص لمخالفتها للكتاب أو العقل، خاصّة في مجال علم الكلام، فلماذا لم يُتهموا بالقياس، بل كانوا هم المتّهِمِين لابن الجنيد به؟! بل لو راجعنا نماذج مما نُسب من الرأي لابن الجنيد من قبل العلامة الحلّي وغيره، لما رأينا أنّ هناك رواية يقوم ابن الجنيد بقياسها على شيء، مثل أنموذج الوقف على الأولاد الذي تقدّم آنفاً، فليس هنا من رواية أصلاً حتى يكون الخلاف بين ابن الجنيد وخصومه في التشدّد في أمر الحديث، بل لو كان الأمر تشدّداً في الحديث لناسب أن يُتهم الرجل بترك حديث أهل البيت كما اتُّهِم ابنُ إدريس الحلّي(598هـ) ـ المتشدّد في الحديث ـ بذلك، من قبل الشيخ تقي الدين الحسن بن علي المعروف بابن داود الحلّي(707هـ)([22]).
2 ـ 2 ـ 4 ـ الموقف الراجح في فهم ظاهرة ابن الجنيد (وجود تيّار إمامي يؤمن بالقياس)
ما يبدو لي هو أنّ اجتهاداً تعليليّاً قد ظهر بين الشيعة بالفعل ـ في احتمال قويّ جداً ـ منذ نهايات القرن الثاني الهجري، ليتواصل حتى نهايات القرن الرابع، ليعود فيتراجع بعد ذلك. وأنّ هذا الفهم اعتبر أنّ القياس المنهيّ عنه هو القياس الشَّبَهي المحض الذي كان رائجاً في القرن الثاني خاصّة النصف الأوّل منه، أو القياس الذي يكون في مقابل النصوص ويقدَّم عليها (القياس في مقابل النصّ)، أو القياس الذي ينطلق من الزهد بالنصّ نفسه.. أمّا القياس القائم على العلّة واكتشافها بالطرق العقلائيّة، ولو الظنيّة الغالبة (القياس حيث لا نصّ)، فليس مشمولاً لنصوص النهي عن القياس، ومن ثمّ ينبغي علينا الأخذ به لكونه معتبراً عقلائيّاً. وهذا ما ينسجم مع ميول ابن الجنيد المعروفة للأخذ بنوعٍ من قاعدة حجيّة الظنون في الاجتهاد الشرعي، كقوله بحجيّة خبر الواحد.
وبهذا نصحّح نسبة القول بالقياس لهؤلاء انسجاماً مع شهادات علماء كبار في تلك الفترة سبق أن نقلناها؛ لأنّه بالفعل قياسٌ شرعي مصطلح، وتكون النتيجة انعقاد إجماع إمامي على رفض القياس ـ بوصفه كلمة ذات دلالات متعدّدة كما قلنا في القسم الأوّل من هذا البحث ـ غاية الأمر أنّ حدود ومساحة القياس المجمع على رفضه كانت محلّ خلاف، وليست إجماعيّة، فقد يرفض ابن الجنيد القياس بمعنى الاجتهاد في مقابل النصّ أو القياس الشبهي البدائي، لكنّه يوافق على القياس العلّي أو على بعض أنماطه، وهكذا.
وبهذا نستنتج من مجمل ما تقدّم:
أوّلاً: إنّ الذي يبدو هو أنّ فكرة رفض القياس بكلّ أشكاله والتشدّد في التعامل معه، لم تكن فكرةً متّفقاً عليها في الأوساط الإماميّة في القرون الأربعة الهجريّة الأولى، إذ يبدو أنّ ثمة استنثناءات، حيث نسب العمل بالقياس لبعض كبار رواة وشخصيّات الشيعة ـ قبل ابن الجنيد ـ كالفضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمن. أمّا ابن الجنيد فرغم عدم توفّر نصّ صريح منه اليوم على اعتقاده بالقياس؛ لأنّ جميع كتبه قد فُقدت، غير أنّ نصوص علماء مدرسة بغداد اتفقت على أنّه كان يقول بالقياس أو أنّه هكذا نُقل عنه وعُرف.
ثانياً: إنّ مدرسة بغداد في القرنين الرابع والخامس، بلغ بها التشدّد في قضية القياس أنّها هجرت ابن الجنيد الأمر الذي ساهم في ضياع تراثه، ولهذا قلّما نقلوا عنه فكرةً أو رأياً عدا ما نقله الطوسي عنه في رسالة الفقّاع ونحو ذلك. وموقف مدرسة بغداد من ابن الجنيد يتّسق مع موقفها المتشدّد من القياس عموماً، فقد رفضت هذه المدرسة ـ كما يظهر من كتاب الذريعة للمرتضى والعُدّة للطوسي([23]) ـ حتى القياس منصوص العلّة، والذي عاد علماء الإماميّة وقبلوا به، على الأقل مشهورهم.
ولعلّ سلوك مدرسة بغداد هذا، جاء من خلال أنّها كانت بصدد تكوين الهويّة الأصوليّة المتكاملة للفقه الجعفري، فأرادت إحكامه وحمايته من أيّ عنصر مشبوه، لهذا كانت أقرب بكثير للنصيّة في الفقه، وان كانت عقليةً في علم الكلام تنهج مسلك الاعتزال. وما يساعد على تكريس هذا الفضاء في مدرسة بغداد لمواجهة التيارات الاجتهاديّة الأخرى في الفقه ـ كتيّار ابن الجنيد ـ هو أنّ الفقه الإمامي في القرون الثالث والرابع والخامس كان يغلب عليه ما يُسمّى بالفقه المأثور أو المنقول، بمعنى أنّ كتب الفقه كانت عبارة عن متون الروايات المنقولة عن النبيّ وأهل بيته، مرتّبة على أبواب الفقه، ولهذا كانت الفروع الفقهيّة قليلة، كما يظهر بمراجعة التراث الفقهي في تلك الفترة، مثل كتاب "المقنعة" للشيخ المفيد(413هـ)، وكتابَي: "المقنع" و"الهداية" للشيخ محمد بن علي بن الحسين الصدوق(381هـ)، وكتاب "النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى" للشيخ الطوسي(460هـ)، وغير ذلك.. لكنّ أوّل تحوّل نحو الفقه غير المأثور وصل إلينا هو كتاب المبسوط للطوسي، فقد كان تفريعيّاً جدّاً وأحدث قفزة في الفروع الفقهيّة، واهتمّ كثيراً بالفروع التي لا يوجد فيها نصّ مباشر، محاولاً التأكيد ـ في مقدّمة الكتاب ـ على إمكانيّة بناء فقه إمامي في التفريعات الكثيرة دون الحاجة للقياس([24]).
ثالثاً: لكي نمارس تحليل الخطاب هنا، يجب أن نعرف أنّ مشهور الإماميّة حتى القرن السابع الهجري كانوا يرفضون الظنّ في الدين ويرفضون حجيّة خبر الواحد الظنّي([25])، وفي الوقت عينه كانوا يعملون بجمع الروايات لبعضها وتحصيل الوثوق بصدورها.. هذا الإطار المرجعي عزّز من رفض القياس بمثابة فاعل ظنّي في الاجتهاد. ولعلّ توسّع الفقه في "مبسوط" الطوسي، فرض قواعد جديدة، وبخاصّة أنّ "المبسوط" أُلّف آخر حياة الطوسي، لهذا نجد إشارات للطوسي بالقبول بخبر الواحد، لكنّه في مواضع أخر يرفضه بشدّة، بما يفتح الطريق لاحتمال أنّ الفقه الإمامي كلّما توسّع في الفروع غير المنصوصة، شعر بأنّ اليقينيّات لم تعد قادرة على الاستجابة لوحدها، مما جعله يفكّر في تكييفات تفتح له سبلاً ظنيّة غير مرفوضة. وعندما نكتشف أنّ ابن الحنيد كان له ـ قبل الطوسي ـ كتاب من عشرين مجلّداً في الفقه، نستطيع التكهّن أنّه من الممكن أنّه فتح باب حجية الظنّ، لأنّه أطلق مشروع الفقه التفريعي قبل الطوسي، وربما ساعده ذلك على القبول بالقياس ولو جزئيّاً.
يُنتج ذلك لنا أنّ الإطار المرجعي الذي حكم مدرسة بغداد ـ وهو ثنائيّة: النصّ واليقين، ساعد بقوّة في القضاء على أيّ محاولة للقبول بالقياس ـ أو ما يُشبهه ـ ولو جزئيّاً.
3 ـ مدرسة الحِلّة وإعادة تقويم الموقف من القياس وابن الجنيد
توصّلنا فيما مضى إلى أنّ ابن الجنيد وأمثاله غابوا عن المشهد الإمامي بفعل الموقف الشديد لمدرسة بغداد في القرن الرابع والخامس الهجريّين منه، وهي المدرسة التي كانت تمثل المرجعيّة العليا للإماميّة في تلك الفترة، وقد استمرّ غياب ابن الجنيد ومحاربة حضور القياس مطلقاً حتى القرن السابع الهجري، حيث حصول تحوّلان أساسيّان:
التحوّل الأوّل: انفتاح مدرسة الحلّة على حجيّة الظنّ، وكان الفقه الإمامي قد بلغ هناك مبلغه في التوسّع والتفريع تشهد لذلك كتب نجم الدين جعفر بن الحسن الحلّي(676هـ) والعلامة الحسن بن يوسف الحلي(725هـ) وغيرهما، وتمّت الموافقة رسميّاً على حجيّة خبر الواحد الظني، وأصبحت كلمة "الاجتهاد" على يد المحقّق الحلّي([26]) مقبولةً إلى اليوم، بعد أن كانت منبوذة كليّاً تعبّر عن منهج القياس والرأي وأمثاله عند أهل السنّة، كما تمّ إجراء تعديلات أساسيّة في الموقف من القياس:
التعديل الأول: الاعتراف بحجيّة القياس منصوص العلّة.
التعديل الثاني: الاعتراف بحجيّة تنقيح المناط لكن عبر إجراء تقسيم له إلى تنقيح مناط ظنّي وليس بحجّة وتنقيح مناط قطعي وهو حجّة. وبهذا دخلت مفردة تنقيح المناط إلى أصول الفقه الإمامي([27]).
التعديل الثالث: الاعتراف بقياس الأولويّة.
هذا إلى جانب نفوذ أدلّة العقل في الاجتهاد بشكل أوضح من الماضي مثل استصحاب حال العقل وأصل البراءة والحظر والملازمات العقليّة وغير ذلك، يظهر ذلك بوضوح لكلّ من اطّلع على الأعمال الأصوليّة لمدرسة الحلّة ومن جاء بعدها.
لكنّ الموقف الرسمي العام من القياس ظلّ هو الرفض ولم يهتزّ الموقف الإمامي تجاهه نتيجة هذه التعديلات التي اعتُبرت استثناءات أو فتح ثغرات لا غير.
التحوّل الثاني: عودة ابن الجنيد أو إعادة الاعتبار لابن الجنيد في مدرسة الحلّة.. تكشف النصوص أنّ مجلّداً واحداً من مجلّدات كتاب "تهذيب الشيعة" لابن الجنيد، وصل إلى السيد صفي الدين محمد بن معد الموسوي الحلي(620هـ) وأُعجب به، وأنّ مختصر التهذيب وهو "الفقه الأحمدي" وصل إلى العلامة الحلي وأُعجب به جداً. بهذا نكتشف اختلاف رؤية مدرسة بغداد عن مدرسة الحلّة تجاه ابن الجنيد وتراثه الفقهي.
ربما يكون في كلام العلامة الحلي شيءٌ ما هنا، حيث يقول في ترجمة ابن الجنيد: «.. له كتب منها: تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة، وجدتُ بخطّ السيد السعيد صفي الدين محمد بن معد، ما صورته: وقع إليّ من هذا الكتاب مجلّد واحد، وقد ذهب من أوّله أوراق، وهو كتاب النكاح، فتصفّحته ولمحت مضمونه، فلم أرَ لأحد من هذه الطائفة كتاباً أجود منه ولا أبلغ، ولا أحسن عبارة ولا أدقّ معنى، وقد استوفى فيه الفروع والأصول، وذكر الخلاف في المسائل، وتحدّث على ذلك، واستدلّ بطرق الإماميّة وطرق مخالفيهم. وهذا الكتاب إذا أمعن النظر فيه وحصلت معانيه وأديم الإطالة فيه علم قدره وموقعه، وحصل نفع كثير لا يحصل من غيره. وكتب محمد بن معد الموسوي. وأقول أنا: قد وقع إليّ من مصنّفات هذا الشيخ المعظّم الشأن كتاب: الأحمدي في الفقه المحمدي، وهو مختصر هذا الكتاب، وهو كتاب جيّد، يدلّ على فضل هذا الرجل وكماله، وبلوغه الغاية القصوى في الفقه وجودة نظره، وأنا ذكرت خلافه وأقواله في كتاب: مختلف الشيعة في أحكام الشريعة»([28]).
هذا النصّ يكشف عن مستوى كتب ابن الجنيد انطلاقاً من شهادة عالمين كبيرين (ابن معد، والعلامة الحلي)، اطّلعا على بعضٍ قليل من كتبه، وهي شهادة لا تطابق طريقة توصيف الشيخ المفيد له كما تقدّم، كما يدلّ على أنّ ابن الجنيد كان يمارس الاستدلال على المذاهب المختلفة، وكانت له خبرة الفقه المقارن ولديه وعي تامّ بأصول الاجتهاد غير الإمامي أيضاً.
وبالفعل فقد اهتمّ العلامة الحلي بنقل ما خالف فيه ابن الجنيد من مسائل في كتابه المشار إليه، وهو ما تمّ جمعه لاحقاً ضمن كتاب «فتاوى ابن الجنيد»، من إعداد الشيخ علي بناه الاشتهاردي(1429هـ).
ولا نملك تراثاً يرجع لابن الجنيد في الدراسات الشرعيّة عدا ـ غالباً ـ ما تركه لنا العلامة الحلّي الذي اطّلع على أحد كتبه المختصرة كما تبيّن، ورغم ما نقله من كتاب مختصر لكنّ بعض الأدلّة كانت أيضاً موجودة في هذا الكتاب ونقل بعضها الحلّي، كما أنّ في أعمال مثل السيد المرتضى كلام حول بعض آراء ابن الجنيد في مواضع متفرّقة من الفقه.
وربما يكون للمحقّق الحلي(676هـ) دور في حضور الرجل في أعمال العلامة الحلّي، حيث اعتمد المحقّق عليه في كتاب "المعتبر" كما يظهر من الفصل الرابع من مقدّمات الكتاب حيث يقول: «في السبب المقتضي للاقتصار على من ذكرناه من فضلائنا: ..اجتزأت بإيراد كلام من اشتهر فضله، وعرف تقدّمه في نقل الأخبار وصحة الاختيار وجودة الاعتبار، واقتصرت من كتب هؤلاء الأفاضل على ما بان فيه اجتهادهم، وعرف به اهتمامهم، وعليه اعتمادهم، فممّن اخترت نقله الحسن بن محبوب، ومحمد بن أبي نصر البزنطي، والحسين بن سعيد، والفضل بن شاذان، ويونس بن عبد الرحمن، ومن المتأخّرين أبو جعفر محمد بن بابويه القمي (رض)، ومحمد بن يعقوب الكليني، ومن أصحاب كتب الفتاوى علي بن بابويه، وأبو علي بن الجنيد، والحسن بن أبي عقيل العماني، والمفيد محمّد بن محمد بن النعمان..»([29]).
هذه النصوص تمثل عمدة النصوص التي تكشف لنا بعض المعلومات عن ابن الجنيد حتى القرن الثامن الهجري، ومن الواضح أنّ آراء الرجل وأفكاره كانت حاضرة بشكل أو بآخر في أعمال العلماء الشيعة في القرنين الرابع والخامس، لكنّها تراجعت بعد ذلك بفعل الحملة عليه خاصّة من مثل المرتضى والمفيد، وبشكل عام من مدرسة بغداد، لتعود لتظهر بقوّة أكبر مع العلامة الحلّي، وبشكل أوسع مع علماء الحلّة كالمحقّق وغيره، فقد سدّدت مدرسة بغداد له ضربة قاصمة بينما أعادت الاعتبار الجزئي له مدرسة الحلّة بعد حوالي قرنين من الزمان، ومنذ ذلك الحين ظلّت أعمال ابن الجنيد حاضرة لكن بوصفها مجرّد آراء، أمّا منهجه وطرائق استدلاله فغالباً ما طواها النسيان بسبب فقدان كتبه وتراثه.
النتيجة
ظلّت علاقة الفكر الإمامي بالقياس الفقهي سلبيّةً ورافضة رفضاً تامّاً له، انطلاقاً من التحفّظ على حجيّة الظنّ في الاجتهاد الشرعي، إضافةً إلى النصوص الكثيرة المنقولة عن أئمّة أهل البيت النبويّ في رفض القياس والتنديد به، لكنّ القرن الثاني وصولاً لنهايات القرن الرابع شهد ظهور تيّار محدود جداً في الوسط الإمامي، يبدو عليه أنّه لم يكن مقتنعاً بفكرة رفض مختلف أشكال القياس، بل حاول فهم نصوص النهي عن القياس بطريقة مختلفة ـ جزئيّاً ـ عن السائد، غير أنّ مدرسة بغداد في القرن الرابع والخامس قضت على هذا الاتجاه، الذي كان من أبرز أسمائه اللامعة ابن الجنيد الإسكافي، لكنّ قرابة قرنين لاحقين من الزمان غيّرت الموقف من عدّة نقاط مرتبطة بالقياس والاجتهاد، ليُجري الاجتهاد الإمامي مراجعة، لم تدفعه للاعتراف بالقياس على الطريقة السائدة في وسط أهل السنّة، بقدر ما حفّزته لقراءة المساحة المرفوضة من الأقيسة، وإعادة تكوين مقاربات أصوليّة تسمح ببعض أنواع الأقيسة وتراها خارجة عن نطاق القياس المرفوض. وهذا ما بدأته مدرسة الحلّة في القرن السابع والثامن الهجريّين، بترحيبها بمفردة "الاجتهاد" التي كانت مذمومة من قبل، وفتحها باب حجية الظنّ جزئيّاً عبر أخبار الآحاد وأمثالها، وإجرائها تعديلات في الموقف من بعض الأقيسة كقياس منصوص العلة وقياس تنقيح المناط ونحو ذلك.
إنّ تحوّل الاجتهاد الإمامي من مدرسة اليقين إلى مدرسة الظنّ، هيّأ الطريق لعودة ابن الجنيد ومحاولة إعادة فهمه في مدرسة الحلّة، ولهذا حاول العلماء لاحقاً أن يفسّروا موقف ابن الجنيد ليس على أنّه قائل بالقياس حرفيّاً، بل على أنّه مجتهد يحاول ممارسة فهم مقاصدي للنصّ ويتحرّك خارج الدائرة الحرفيّة له بطريقة ممنهجة ويعرض الحديث على القرآن وروحه وغير ذلك.
وقد بلغ تطوّر فكرة التعامل خارج النص والحديث عن التعدّي عن النص والخروج عن دائرة حرفيّته مبلغها في القرن الثالث عشر الهجري بعد انتهاء الصراع الإخباري ـ الأصولي، ولهذا شهدنا مع الشيخ محمّد باقر البهبهاني(1205هـ) حديثاً عن حرمة التعدي عن النص ووجوب التعدّي عنه في وقت واحد، بما فتح الباب لمناهج جديدة في فهم النصّ عند المتأخّرين من علماء الإماميّة ولو لم يقولوا بالقياس، تجعلهم أبعد عن الحَرْفِيّة في فهم النصوص الدينيّة. ولعلّ هذه المناهج التي باتت سائدة اليوم كتنقيح المناط وإلغاء الخصوصيّة ومناسبات الحكم والموضوع والعلّة المنصوصة ونحوها هي التي كان يمارسها ابن الجنيد في القرن الرابع الهجري، وعلى هذا الافتراض فإنّ الفكر الشيعي رغم بقائه على موقف الرفض من القياس، لكنّه عاد وأجرى تعديلاً على موقف مدرسة بغداد ليرجع ويصبح أقرب نسبيّاً إلى موقف ابن الجنيد، وربما يكون موقف ابن الجنيد من القياس أكثر إيجابيةً من ذلك.
______________________
([1]) بإدارة وتنظيم معهد نماء للدراسات والأبحاث/المغرب، بالتعاون مع جامعة مونستر/ألمانيا الاتحاديّة، انعقد ـ على تطبيق زووم ـ يومَي الأربعاء والخميس (29 ـ 30) من شهر مايو ـ أيّار عام 2024م، المؤتمر الدولي حول الفقه وتطوّراته التاريخية، تحت عنوان "المذاهب الفقهيّة في العصر الكلاسيكي، التاريخ والمجتمع"، وقد ألقى الدكتور الشيخ حيدر حب الله الكلمة الافتتاحية في اليوم الأوّل، عبر محاضرة حملت عنوان: "نظريّة القياس عند الإماميّة وتحوّلاتها من القرن الرابع إلى السابع الهجريّين"، وهذا تقرير لهذه المحاضرة بعد إجراء الدكتور حب الله بعض التعديلات عليه.
([2]) لعلّه من نافلة القول أن ننبّه إلى أنّ المقصود هنا من القياس لا علاقة له بالقياس المنطقي في المنطق الصوري ذي الأشكال الأربعة المعروفة، بل المراد منه نظريّة القياس في أصول الفقه الإسلامي بوصفها أحد أدوات الاجتهاد الأساسيّة فيما لا نصّ فيه.
([3]) لا بدّ لنا من التنبيه إلى أنّ التاريخ العلمي للتشيّع الإمامي مرّ بمراحل، وفي كلّ مرحلة زمنيّة كانت تعرف مدرسة من المدارس بوصفها المدرسة الأبرز والأهم والتي تحدّد المسير العلمي للمذهب، وعلى سبيل المثال، فقد كانت مدرسة الكوفة هي المدرسة العلميّة المهيمنة منذ أواخر القرن الأوّل الهجري وحتى أواسط القرن الثالث، ثم تلتها مدرسة قم المعروفة بمدرسة علم الكلام النقلي، واستمرّت إلى أواسط القرن الرابع الهجري، ثمّ تلتها مدرسة بغداد والتي هيمنت منذ القرن الرابع وحتى أوائل السابع، ثمّ تلتها مدرسة الحلّة في القرنين السابع والثامن، ثمّ مدرسة جبل عامل، وهكذا كانت تتحرّك المؤسّسة العلميّة التي تملك السلطة العليا معرفيّاً بشكل مطّرد جغرافيّاً بفعل عوامل متعدّدة، فما نقصده من مدرسة بغداد أو مدرسة الحلّة هنا هو المؤسّسة العلميّة الدينيّة الإمامية المهيمنة في تلك الفترة.
([4]) الأصول العامّة للفقه المقارن: 306 ـ 307.
([5]) انظر: الجواهري، بحوث في الفقه المعاصر 3: 304؛ والسبحاني، أصول الفقه المقارن فيما لا نصّ فيه: 91 ـ 92.
([6]) انظر: تركي، مناظرات في أصول الشريعة الإسلاميّة بين ابن حزم والباجي: 331 ـ 337.
([7]) النجاشي، الفهرست: 385 ـ 388. وهنا يجب عليّ إبداء استغرابي الشديد، حيث نُسب في بعض الكتب المتأخّرة.. نُسب للنجاشي أنّه ذكر اسم الكتاب بهذه الطريقة: «كشف التمويه والالتباس في إبطال القياس»!، ولعلّ أوّل من نَسَبَ له هذه التسمية للكتاب هو السيّدُ حسن الصدر في (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: 312)؛ كما وممّن نسب ذلك الشيخُ السبحاني في كتابيه: (أضواء على عقائد الشيعة الإمامية: 280)، و (رسائل ومقالات: 85). ولعلّه وقع اشتباه من السيد حسن الصدر، ثمّ بعد ذلك راج ما ذكره هو نظراً لشهرة كتابه مؤخّراً، ولم نعثر على مؤشر أو مخطوط يساعد على شيء من هذه التسمية، بل كلّ القرائن على عكس ذلك كما هو واضح، والعلم عند الله.
([8]) الطوسي، الفهرست: 209 ـ 210.
([9]) المفيد، المسائل الصاغانيّة: 57 ـ 59.
([10]) المفيد، المسائل السروية: 73. يشار إلى أنّه ثمة كلام بين بعض العلماء في صحّة نسبة هذا الكتاب للمفيد.
([11]) بحر العلوم، الفوائد الرجاليّة 3: 213، 219.
([12]) رسائل الشريف المرتضى 3: 311.
([13]) انظر: أحمد پاكتچي، ابن جنيد، دايره المعارف بزرگ اسلامی 3: 260.
([14]) السيستاني، الرافد في علم الأصول: 11.
([15]) انظر: منتهى المقال 5: 316 ـ 317؛ وروضات الجنّات 6: 145 ـ 147، واحتمل ذلك أيضاً الشيخ السبحاني، موسوعة طبقات الفقهاء (المقدّمة) 2: 338.
([16]) الطوسي، العدّة في أصول الفقه 1: 127.
([17]) المامقاني، تنقيح المقال 2: 68؛ وانظر: صفاء الدين الخزرجي، من فقهائنا ابن الجنيد الإسكافي، مجلّة فقه أهل البيت، العدد 10: 205 ـ 206.
([18]) الحلي، مختلف الشيعة 6: 308.
([19]) بحر العلوم، الفوائد الرجاليّة 3: 215 ـ 223؛ وانظر: المامقاني، تنقيح المقال 2: 67؛ والحائري، منتهى المقال 5: 316؛ والخوئي، معجم رجال الحديث 15: 337.
([20]) انظر: الشعراني، شرح أصول الكافي 2: 132، الهامش رقم: 1.؛ وحسين مدرسي الطباطبائي، مقدمه بر فقه شيعه: 41 ـ 44.
([21]) الرافد في علم الأصول: 11 ـ 12.
([22]) ابن داود الحلّي، الرجال: 269.
([23]) انظر: المرتضى، الذريعة 2: 683 ـ 685؛ والطوسي، العدّة 2: 657 ـ 658، 672 ـ 673.
([24]) انظر: الطوسي، المبسوط في فقه الإماميّة 1: 1 ـ 2.
([25]) راجع: حيدر حب الله، نظريّة السنّة في الفكر الإمامي الشيعي: 33 ـ 164.
([26]) راجع: الحلّي، معارج الأصول: 179 ـ 180.
([27]) راجع ـ على سبيل المثال ـ: المصدر نفسه.
([28]) الحلّي، إيضاح الاشتباه: 291 ـ 292.
([29]) المحقق الحلّي، المعتبر في شرح المختصر 1: 33.
