hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

نظريّة التخصيص في أصول الفقه الإسلامي / دراسة في تخصيص القرآن بخبر الواحد

تاريخ الاعداد: 12/2/2025 تاريخ النشر: 12/2/2025
1330
التحميل

حيدر حبّ الله([1])


تمهيد

الحديث عن تخصيص القرآن بخبر الواحد، هو في الحقيقة نقطة التقاء سلسلة من النظريّات المتداخلة في أصول الفقه الإسلامي. وقد بحثه علماء الأصول المسلمون في مباحث العام والخاص، وكثيراً ما كانوا يضعونه ضمن عنوانٍ أكبر، وهو "التخصيص بالأدلّة المنفصلة"، ضمن القسم المخصَّص للأدلّة المنفصلة النقليّة، لكن شيئاً فشيئاً صار له عنوانه المستقلّ، وأحياناً المنفرد، وبخاصّة في كُتب أصول الفقه الإمامي.

سوف أحاول هنا تحليل طرائق التفكير لدى علماء أصول الفقه في تناول هذه القضيّة، وحوارتهم حولها، وذلك من خلال:

1 ـ عرض مختصر للمشهد التاريخي والانقسامات بين التيارات.

2 ـ النزاع الحنفي مع المشهور (تحليل المنطلقات والبناءات التحتيّة).

3 ـ تقديم مشهد للنقاشات والقراءات التقويميّة للموضوع في أصول الفقه الإمامي من خلال عرض أهمّ الأدلّة والتعليقات عليها.

هذا، وسوف أعتبر هنا القبول بوجود عام قرآني والقبول بحجيّة خبر الواحد الظنّي بمثابة أصلٍ موضوع.


1 ـ عرضٌ مختصر للمشهد التاريخي العام

موضوع تخصيص القرآن بخبر الواحد هو موضوعٌ خلافيّ بامتياز منذ القرون الأولى بين المتقدّمين من علماء الإسلام، وبمرور الزمن غلبت الكفّة لصالح الموافقين على التخصيص، ولنقدّم خلاصة للمشهد على المستويين السنّي والشيعي:

1 ـ أمّا سنيّاً، فالمعروف تاريخياً أنّ جمهور فقهاء وأصوليّي أهل السنّة وافقوا مبدئيّاً على إمكانيّة تخصيص القرآن بخبر الواحد الظنّي، فضلاً عن تخصيص القرآن بالقرآن أو بالخبر المتواتر([2])، لكنّ الانقسام بدا من جانب فريقٍ كبير من الأحناف، حيث رفضوا هذه الفكرة. كما نُسب المنعُ لبعض الحنابلة وبعض المعتزلة، بل نُقل هذا القول عن طائفةٍ من المتكلّمين والفقهاء، فيما تُعطي بعض المؤشرات التاريخيّة ـ التي وقع جدل حولها ـ أنّ المالكيّة كان لهم موقف متحفّظ جزئيّاً يربط القضيّة ـ بشكلٍ ما ـ بوجود أو عدم وجود عمل أهل المدينة إلى جانب خبر الواحد، بينما توقّف بعضهم في المسألة مثل أبي بكر الباقلاني(403هـ)، رغم أنّ الكثير من أصوليّيهم ـ كالباجي(474هـ) والتلمساني(771هـ) ـ عمّموا الموافقةَ على التخصيص([3]). وعليه، فرغم الجدل الواسع على مدى قرون في هذه القضيّة، غير أنّ الأغلبيّة وافقت بمرر الزمن على مبدأ التخصيص.

2 ـ وأمّا شيعياً، فعندما ندرس الموضوع تاريخيّاً، نكتشف أنّ أصول الفقه الإمامي كان نشاطه هامشيّاً جداً في هذا الموضوع، وكان في الغالب يكرّر مشهد النقاش في الوسط السنّي كما سنرى، مع تعديلٍ متأخّر زماناً، وهو إجراء بعض المتأخّرين إعادة صياغة للموضوع وفقاً لتطوّرات أصول الفقه الإمامي في مباحث الألفاظ وكذلك في نظريّات الحجيّة وموضوعها.

والمراجعة التاريخيّة تعطينا أنّ جمهور فقهاء وأصوليّي الإماميّة رفضوا تخصيص القرآن بخبر الواحد قبل العلامة الحلّي(726هـ) أو توقّفوا في هذه المسألة، بل بعض هؤلاء جاء بعد الحلي أيضاً([4])، حتى أنّ الشيخ حسن العاملي(1011هـ) يصف القولَ بالجواز، بأنّه قول العلامة الحلي وبعض أهل السنّة([5]). وقد ذكر المراغي(1250هـ) «أنّ في تخصيص الكتاب بخبر الواحد ألف كلام»([6])، كما نجد قولاً بالتفصيل بين العام المخصَّص سابقاً وغيره([7]).


العلامة الحلّي أوّل من نقل نظريّة التخصيص من الأصول السنّي إلى الشيعي

ومن مراجعة أدلّة الحلّي هنا نجده أخذها تماماً من كتب أصول أهل السنّة، وهو ما يرجّح بنظرنا أنّه هو أوّل من فتح باب الموافقة على تخصيص القرآن بخبر الواحد بين الإماميّة، اعتماداً على التراث السنّي الأصولي الذي شرعَن هذا الأمر.

لكن وتدريجياً استقرّ الموقف عند المتأخّرين من الإماميّة على جواز التخصيص([8])، بل ادّعى الشيخ محمّد رضا المظفّر(1383هـ) أنّه أمرٌ مجمعٌ عليه بلا خلاف بين العلماء. وقد رأينا في بحثهم الأصولي عن حجيّة خبر الواحد في سياق البحث عن حجيّة دليل الانسداد أنهم يصرّحون بأنّنا لا نريد من حجيّة خبر الواحد مجرّد الأخذ بالإلزام الموجود في الأخبار الآحاديّة، وإنّما أيضاً إمكان تخصيصها القرآنَ وسائر الأدلّة وتقييدها لها([9]).

وفي الفترة الأخيرة، ناصرت تيارات النقد الحديثي، أو مالت، إلى إلغاء ظاهرة التخصيص هذه أو الحدّ منها انتصاراً لمرجعيّة القرآن الكريم، ولهذا رفض الشيخ محمّد الصادقي الطهراني تخصيص السنّة للقرآن([10]).


2 ـ النزاع الحنفي مع المشهور (تحليل المنطلقات والبناءات التحتيّة)

السؤال هنا: لماذا نشأ هذا النزاع؟ وكيف بدأ؟

يوجد مشهدان هنا ونحن نحلّل المنطلقات:


2 ـ 1 ـ المشهد في سياق إنكار حجيّة خبر الواحد

المشهد الأوّل هو مشهدٌ يفترض أنّه لا معنى أساساً ولا موضوع للسؤال عن تخصيص القرآن بالآحاد؛ لأنّ خبر الواحد أساساً ليس بحجّة، فأيّ معنى للقول بأنّه يخصّص القرآنَ؟!

هذا ما نلمسه في جزءٍ كبير من المشهد الإمامي حتى القرن السابع الهجري، فكثيرون رفضوا مبدأ حجيّة خبر الواحد الظنّي؛ لهذا نصّ مثل المفيد(413هـ) والمرتضى(436هـ) على عدم إمكان التخصيص بخبر الواحد([11])؛ لأنّه في نفسه لا يفيد علماً ولا عملاً. وقد نجح العديد من أصوليّي الإماميّة المتأخّرين في تحليل هذا الموقف الذي اتخذه هؤلاء، وأنّ السبب هو موقفهم من أصل حجيّة خبر الواحد لا غير([12]). وهذا الموضوع لا يعنينا هنا. وخلاصة الكلام: إنّ أساس الرفض هنا راجعٌ لأصل نظريّة الحجيّة، وليس لشيء هرمنوطيقي مرتبط بالنظريّة اللفظية أو البناء اللغوي، ولهذا صرّح الطوسي(461هـ) بأنّ من لا يرى حجيّة خبر الواحد فقوله خارج عن موضوع التنازع أساساً([13]).


2 ـ 2 ـ المشهد في سياق القبول بحجيّة خبر الواحد (منطلقات المواقف الحنفيّة)

وهو مشهدٌ يوافق على حجيّة الخبر الآحادي، لكنّه مع ذلك لا يوافق على قدرته على تخصيص القرآن، هنا يظهر جليّاً النزاع الحنفي، وتتجلّى البُنية الهرمنوطيقية في فهم النصّ عند الأصوليّين. ولكي نفهم حقيقة النقاش هنا علينا تحليل أهمّ المنطلقات، وهي:


2 ـ 2 ـ 1 ـ المنطلق المعرفي وتحليل ثنائية الظنّ واليقين في الدلالة اللغويّة

المنطلق الأوّل هنا هو المنطلق الايبستمولوجي المعرفي، وقبل توضيحه علينا أن نعرف أنّ أصل دلالة العام كانت مسرح نقاش، وحصل انقسام ثلاثي أساسي هنا هو:

أ ـ مذهب الشيعة وجماهير المذاهب الأربعة ـ بمن فيهم الأحناف ـ حيث قالوا بأنّ العام موضوعٌ للاستغراق، ويعبَّر عن هؤلاء بأرباب العموم.

ب ـ مذهب الواقفيّة، والمنسوب لجماعة، منهم أبو الحسن الأشعري(324هـ)، وهم الذين قالوا بأنّ العامّ في ذاته لا يقتضي عموماً ولا خصوصاً، وإنّما يحتاج لقرينة مساعدة على أحدهما.

ج ـ مذهب بعض الأحناف وبعض المعتزلة، مثل البلخي من الأحناف والجُبّائي من المعتزلة، وهؤلاء قالوا بأنّ دلالته على أقلّ الجمع (كثلاثة) قطعيّة، وأما ما زاد فيحتاج لدليل، ويُطلق على هؤلاء أرباب التخصيص أو الخصوص([14]).

ومع ذهاب جمهور الحنفية لكون العام موضوعاً للعموم، رفضوا التخصيص هنا؛ وعندما نحلّل نظريّة الأحناف نكتشف أنّهم يقولون بأنّ العام قطعيٌّ، فيما يرى جمهور أصوليّي الإسلام بأنّ العام ظنّي وينتمي للظهورات اللفظيّة وليس للنصّ الصريح، وبهذا قال كثير من أصوليّي السنّة والشيعة أنّ العام القرآني ظنّي الدلالة قطعيّ السند، فيما الخاص الخبري قطعيّ الدلالة ظنّي السند، فتساويا. وهذا النقاش لم يقف عند حدود خبر الواحد بل تعدّاه إلى قدرة القياس ـ على سبيل المثال ـ على تخصيص القرآن أيضاً، فرفضه الأحناف وقبله الجمهور.

عندما نفهم القضيّة في سياق درجة القوّة المعرفيّة في النصّ كتاباً أو سنّة، ونحلّل نظريّة الأصوليّين في حقيقة العام عموماً، نفهم أكثر لماذا ظهر تفصيلٌ مشهور في الوسط السنّي عموماً، وكان من أوائل من طرحه القاضي عيسى بن أبان الحنفي(221هـ)، وصرّح به كثيرون كالجصّاص(370هـ) والبَزدَوي(482هـ) والسرخسي(483هـ)، ووجدنا تطبيقات كثيرة له في الفقه الحنفي، فقد اتفق جمهور أصوليّي السنّة على أنّ العام المخصَّص من قَبل يمكن تخصيصه بخبر الواحد، وعندما نسعى لاكتشاف ما الفرق بين العام القرآني الذي خُصّص بنصّ قرآني والعام القرآني الذي لم يسبق أن خُصّص؟ نجد أنّهم يعتبرون أنّ العام تصبح دلالته العموميّة ظنيّة؛ لأنّه تعرّض للتخصيص، فضعُف عن قوّة الدلالة على العموم، مما جعله أقلّ درجة من القطع، فأمكن تخصيصه مرّة أخرى، ولو بخبر الواحد؛ لأنّ الخاص والعام أصبحا ظنيّين معاً([15])، بينما العام الذي لم يخصَّص بعدُ يكون قطعيَّ الدلالة على العموم عند الأحناف، أمّا الجمهور ـ ومعهم الماتُريدي(333هـ) وفقهاء سمرقند ـ فقالوا بأنّ دلالته ظهوريّة ظنّية، فحيث كانت الدلالة قطعية لم يعد يمكن للظنّ الخبري أن يواجه دلالة قطعيّة ذات سند قطعي، ولما كانت الدلالة ظنّية عند الجمهور فُتحت الطريقُ لصالح الخبر لمواجهة الكتاب الكريم([16]). وبهذا نكتشف أنّ التحليل الهرمنوطيقي جاء مبنيّاً على التحليل الايبستمولوجي في قوّة الاحتمال الموجود في الدلالة.


لماذا قال الأحناف بقطعيّة العام؟ وما هو مفهوم "القطعيّة" عندهم؟

لكنّ هذا لا يكفي، إذ يلزمنا الفحص أكثر في السبب الذي دفع أصوليّي الأحناف للقول بالقطعيّة، فيما رفضها الآخرون من الشيعة والسنّة. إنّ منطلق القائلين بظنيّة دلالة العام على العموم متعدّدٌ؛ لكنّ الاستقراء بدا في غاية الأهميّة لهم هنا؛ فقد اعتبروا أنّنا لو استقرأنا العمومات سنجد أنّه ما من عام ـ بما فيه العام القرآني ـ إلا وقد خُصّ([17])، هذه الحقيقة الاستقرائيّة تُضعف من قوّة دلالة أيّ عام على العموم؛ إذ سيكون احتمال عدم دلالته على العموم مُعتدّاً به؛ إذ وجدناه دلّ في كثير من الأحيان على غير العموم، فيرتفع احتمال كون أيّ عام نواجهه يُراد به الخصوص دون العموم، وبهذا تنزل الدلالةُ العموميّة من درجة اليقين إلى درجة الظنّ، بل ذكر المظفّر أنّه يندر وجود خبر معمول به من بين الأخبار التي في المجاميع الحديثيّة إلا وهو مخالف لعام أو مطلق قرآني، ولو مثل عمومات الحلّ ونحوها([18])، وهذا معناه عمليّاً أنّ القول بعدم جواز تخصيص القرآن بالأخبار يساوق سقوط حجيّة الأخبار الموجودة بين أيدينا اليوم!

وهذا كلّه هو ما عاد وأكّده أصول الفقه الإمامي أيضاً عندما اعتبر أنّ التعارض هنا يقع بين ظنّ وظنّ بحسب المحصّلة، وأنّ القرآن فيه محكم ومتشابه، وفيه نصٌّ وظاهر، وهذا كلّه يصبّ في إلحاق الضعف بالقوّة الاحتماليّة في الدلالة القرآنيّة، بينما قال الأحناف بأنّ احتمال إرادة الخاصّ من العام يظلّ احتمالاً عقليّاً لا يُبنى عليه في اللغة.

هذا ما يجعلنا نكتشف معنى "القطعيّة" في أصول الفقه الحنفي هنا؛ فهي لا تعني القطع الجزمي المنطقي؛ لأنّهم يقرّون بوجود احتمال التخصيص، بل يقصدون القطع بدلالة العموم قطعاً تكوّنَ من انتفاء الاحتمال الناشئ من دليل([19])، فالمرجعيّة عند الأحناف هي قوانين اللغة مع ترك صرف الاحتمالات. هذا يعني أنّ درجة القوّة الاحتمالية لا تقاس بمعيار فلسفي منطقي، بل بمعيار هرمنوطيقي تطبيقي.

على الصعيد نفسه، نجد الفخر الرازي(606هـ) ينسب المنع عن التخصيص هنا للخوارج؛ انطلاقاً من أنّ القرآن قطعيّ السند ظنّي الدلالة، والخبر ظنّي السند والدلالة معاً([20]). ولو صحّت هذه النسبة ـ ولو لبعض الخوارج ـ فهذا يعني أنّهم رفضوا التخصيص على قاعدة ايبستمولوجيّة ترجع لقياس درجة قوّة الدليل أيضاً، فحيث يتمتّع النص القرآني بجانبٍ قطعي كفى ذلك في تقديمه. وتقديمُ ما فيه جانب يقين على ما فيه ظنّ، هو أحد المبرّرات التي ذكرها الطوسي الإمامي أيضاً([21]).

هذه العمليّة كلّها وهذا الجدل برمّته، دفع علم أصول الفقه ـ وبخاصّة الإمامي ـ إلى إعادة إنتاج صورة مختلفة له، وذلك أنّ عمدة ما فعله أصول الفقه الإمامي هو نقل النقاش من البعد المعرفي في الدليل لصالح البعد الاعتباري (الحجيّة)، وحيث إنّ القرآن والخبر الآحادي سنداً ودلالةً حجّة، صارا متساويين، ولم تعد هناك حاجة للمقارنات اليقينيّة والظنيّة، فالحجيّة مرجعها إلى القطع، أو فقل: نَقَلَ النزاعَ من الظنّي والقطعي إلى القطعيّين.


2 ـ 2 ـ 2 ـ تحليل هويّة "التخصيص" بين البيان والمعارضة

المنطلق الثاني هنا هو تحليل هويّة التخصيص، وذلك أنّ السؤال المهم هنا هو: ما هو التخصيص في حقيقته؟ إنّ الأحناف يفهمون التخصيص شكلاً من المعارضة، بينما جمهور الأصوليّين يفهمونه شكلاً من الدلالة وبياناً للمراد الحقيقي من العام، لهذا نجد الأحناف يقولون ـ أحياناً ـ بأنّ التخصيص هو بيانُ تغييرٍ، فقيدُ "التغيير" مهمٌّ لديهم.

هذا الاختلاف الجوهريّ يترك تأثيراً كبيراً على فهم الموقف هنا؛ وذلك أنّ التخصيص سيكون نوعاً من النسخ، ولهذا عبّر عنه الأحناف بـ "النسخ الجزئي"، ومن ثمّ لا يمكن نسخُ القطعيّ بالظنّي، ولهذا هم يقولون بأنّه لو جاء العام بعد الخاص، فإنّ العام ينسخ الخاصَّ تماماً ويُلغيه، بعكس جمهور الأصوليّين الذين يقولون بأنّ الخاصّ يظلّ على حاله بل يولدُ العامُّ مخصَّصاً. ومفهوم المعارضة عند الأحناف ينحصر بحال كون الخاصّ جاء بعد العام بمدّة زمنيّة، فلو صدر العام، وفي نفس الوقت ـ أو قريب جداً منه ـ صدر الخاص فلا إشكال عندهم([22]).

هذا الموضوع يمثل نقطة التقاء نظريّة النسخ بنظريّة التخصيص ومستوى تواشجهما في التراث الأصولي، فجمهور المتقدّمين من الصحابة والتابعين وعلماء القرن الأوّل والثاني، كانوا يستخدمون مفردة النسخ ويريدون منها الأعم من النسخ الكلّي والنسخ الجزئي، وقد صرّح بذلك الكثير من العلماء من بينهم الشاطبي(790هـ)([23]). والمعروف أنّ الشافعي(204هـ) هو أوّل من حرّر نظريّةَ النسخ من نظريّتَي: التقييد والتخصيص([24])، فبدا استخدامُ مصطلح النسخ لدى قدامى المفسّرين مختلفاً عنه لدى الأصوليّين فيما بعد، لكنّ علماء الأصول بعد ذلك انقسموا في معنى النسخ، بين تعريفه بأنّه بيانٌ لمدّة المنسوخ كما عبّر عنه الاسفرائيني(418هـ) وغيره، أو رفعٌ للمنسوخ وإبطال، كما عبّر عنه الباقلاني(403هـ) وغيره([25]).

وعلى أيّة حال، تلتقي فكرة كون المخصِّص بياناً هنا، مع كليّة الفكرة التي تقول بأنّ السنّة بيانٌ للقرآن الكريم، فهي بمثابة القرينة، وهو بمثابة ذي القرينة، وتتقدّم القرينة على ذيها، بينما القرآن ليس بياناً للسنّة، ولهذا كانت السنّة حاكمة على القرآن دون العكس. هذه النظريّة الهرمنوطيقيّة التي أعادت تشكيل العلاقة بين الكتاب والسنّة تنتج هنا أيضاً تقدّمَ خبر الواحد على القرآن، على خلفيّة أنّه بيان وتفسير ناظر للنصّ القرآني وشارح له. وبهذا نكتشف مدى التباعد في القاعدة التحتيّة بين المنهج الحنفي الأصولي والمنهج السائد.


3 ـ مشهد النقاشات والقراءات التقويميّة في أصول الفقه الإمامي (أهمّ الأدلّة والانتقادات)

إذا حاولنا الخروج من فضاء أصول الفقه العام لنقترب أكثر من فضاء أصول الفقه الإمامي، وبخاصّة في الفترة المتأخّرة، ونحاول اكتشاف المشهد وعناصره، فإنّ أوّل سؤالٍ يظهر هنا لديهم هو أنّه كيف يخصَّص أو يقيَّد القرآن الكريم والذي هو قطعيٌّ في صدوره، لا ريب فيه، بخبر الواحد الظنّيٌ في صدوره والملتبس؟! كيف يمكن هدر الدلالة القرآنيّة لصالح أحاديث ظنيّة غير مضمونة الصدور ولا هي بالضرورة قطعيّة الدلالة أيضاً؟!

هذا التساؤل اعتبره بعض أنصار التخصيص من الأسئلة التي تظهر في ذهن المبتدئ، بحيث يكون من الصعب عليه معها تقبّل نظريّة تخصيص القرآن بخبر الواحد الظنّي([26])، غير أنّ هذه الطريقة في الدخول في الموضوع غير دقيقة؛ فإنّ المناقشة في الموضوع وقعت بين كبار العلماء عبر التاريخ، بل قد استدلّ بعضهم بأنّ تقديم الآحاد على القرآن والخبر المتواتر هو ترجيحٌ للمرجوح على الراجح، وهو ممتنع عقلاً([27])، فالقضية ليست إشكاليّةَ ذهن المبتدئ في التعامل معها، بل هي أبعد من ذلك.

وعليه، من الضروري هنا التوقّف عند منطلقات فريق التخصيص والمناقشات التي دارت حولها لدى علماء أصول الفقه الإمامي، حيث استند القائلون بالتخصيص لعدّة أدلّة، أهمّها:


أيلولة التخصيص لسقوط أصل نظريّة حجيّة الآحاد، نقد وتفنيد

ثاني الأدلّة هنا هو أنّه إذا لم يمكن تخصيص القرآن بالخبر الآحادي، فإنّ هذا معناه سقوط حجيّة الحديث؛ إذ لا يكاد يوجد خبرٌ آحادي إلا وهو يعارض عاماً قرآنياً، ولا أقلّ من مثل عمومات الحلّ ونحو ذلك([28]).

غير أنّ هذا الدليل قابلٌ للنقاش؛ وذلك:

ثانياً: إنّنا نشكّك في أنّ جميع الأخبار تعارض العمومات القرآنيّة، فالنصوص الحديثيّة التي تتكلّم عن أحكام الصلاة وأجزائها وشروطها، وكذلك بعض العبادات الأخرى، كالزكاة والحجّ والصوم، لا يوجد عموم قرآني ينفيها؛ لأنّ إطلاقات وجوب الصلاة والزكاة ليست في مقام البيان من هذه النواحي، كما يقرّ بذلك الكثير من الفقهاء.

يُضاف إلى ذلك أنّ الأخبار على أقسامٍ عديدة، ومنها الأخبار المطبِّقة التي هي كثيرةٌ جداً، وهي تلك النصوص في السنّة التي تقوم بتطبيق قانون كتابي قرآني على مورد معيّن. والغفلة عن القانون الكتابي أوجبت تصوّرنا أن الحديث بصدد تأسيس حكم، تماماً كالنهي عن شيء يرجع بالتحليل إلى كشف الجهة الربوية فيه ومن ثم تحريم المعاملة؛ فهذا ليس تأسيساً لحكم جديد من السنّة كي نستوحي منه أنّه يقيّد عموم ﴿أَوْفُوْاْ بِاْلْعُقُوْدِ﴾ (المائدة: 1)، بل هو في واقعه تطبيقٌ من السنّة لآيات النهي عن الربا التي قامت هي بدورها مسبقاً بتخصيص ذلك العموم.

وهكذا الحال في السنّة التي تمارس دور إجراء الأحكام أو الاستدلال عليها أو تفسير آية قرآنية أو شرح قضية تاريخية أو بيان مسألة زائدة تتصل بسيرة الأنبياء من قبل أو ذكر القضايا التكوينية من خواص النباتات أو الطبّ أو بيان تفاصيل المعاد والموت وغير ذلك، فمَن قال بأنّ هذه الأخبار معارِضة لعمومات القرآن أيضاً؟ وهل في موردها عمومات أساساً أو لا؟

أعتقد بأنّ الذي يدفع الفقيه أو الأصولي إلى الاستدلال المتقدّم هو قصر نظره على المجال الأحكامي من جهة وتصوّره وجود عمومات في كلّ الموارد، نعم يوجد سكوت في موارد كثيرة، يُفترض لولا الأخبار أن يؤخذ معه بالبراءة، لكنّ هذا غير وجود عموم حاكٍ عن موضوعٍ ما، وبهذا لا يكون هذا الدليل مقنعاً أيضاً بالنسبة لخصوم نظريّة التخصيص.

من هنا نكتشف أنّه قد حصل خلط أحياناً بين تخصيص العام القرآني وتفصيل هذا العام، فقوله تعالى: ﴿أَقِيْمُوْاْ اْلْصَّلَاةَ﴾ لا تعتبر كيفيّة الصلاة وأحكامها الواردة في أخبار الآحاد تخصيصاً ولا تقييداً له؛ لأنّ الآية ليست في مقام بيان التفاصيل حتى تفيدَ عموماً ليحصل التخصيصُ، ومثل هذا كثير في النصوص القرآنيّة كالزكاة. ويشبه هذا السنّة المستقلّة أو المؤسِّسة كما يسمّيها الشاطبي، والتي تُعطي أحكاماً لا وجود لها أساساً في القرآن. ومن هنا يظهر خطأ استدلال بعض أصوليّي السنّة والشيعة على قبول التخصيص بأنّه لولاه لسقطت حجيّة خبر الواحد، وتخصيص القرآن مقدّم على إبطال أصل الحديث، فإنّه حتى لو سقطت كثير من الأخبار الآحادية لو أنكرنا التخصيص، لكنّ الكثير منها يبقى، ولا دليل على ما هو أكثر من ذلك.

بل قد حصل خلطٌ آخر أيضاً بين التخصيص بملاحظة العنوان الأوّلي والتخصيص بملاحظة العنوان الثانوي، فلو جمّدنا عامّاً قرآنياً بنصٍّ حديثي، وكان العام في رتبة الحكم الأوّلي، وكان الخاص برتبة الحكم الثانوي، فهذا ليس تخصيصاً في الحقيقة؛ لأنّ العام غير ناظر عادةً لغير رتبة العنوان الأوّلي. ومن هذا النوع عمومات "البراءة، والأصول العمليّة" على سبيل المثال. وقد ألمح إلى شيء من ذلك الشيخ مرتضى الأنصاري([29]).

كما يجب الانتباه إلى أنّ واقعيّة دعوى "ما من عام إلا وقد خُصّ"، متفرّعة على قبول تخصيص عمومات الكتاب بخبر الواحد، فلو رفضنا هذا التخصيص فإنّ درجة العمومات القرآنية المخصَّصة ستكون أقلّ بكثير.

ويبقى أن نشير إلى التشكيك بوجود عمومات الحلّ في الكتاب الكريم، فإنّ قوله تعالى: ﴿هُوَ اْلَّذِيْ خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾([30]) لا يفيد عموماً تحليليّاً مرخِّصاً؛ إذ ليس في مقام بيان أحكام، بل المراد منه أنّ كل شيء جُعل تكويناً لصالح البشر حتى لو حُرّم أكله مثلاً، علماً أنّ الآية لا تشمل ـ كما ذكر بعضٌ([31]) ـ الأفعالَ، بل تختصّ بالأشياء والأعيان.


الخاتمة

تترك نظريّة تخصيص القرآن بخبر الواحد تأثيراً كبيراً على طريقة تعامل الفقهاء مع نصّ الحديث والقرآن في علاقتهما بعضهما ببعض، وتؤثر ـ سلباً أو إيجاباً ـ في مساحة الحديث الذي يمكن تصنيفه بأنّه حجّة بحسب موازين علماء أصول الفقه، وتكشف لنا الدراسة التاريخيّة والتحليليّة أنّ صراع الفرقاء هنا تبلور ضمن عدّة عناصر:

أ ـ العنصر المعرفي في ثنائيّة اليقين والظن، وتأثيره على كيفيّة التعامل في حالة مواجهة ظنّ مع يقين في مجال الأدلّة الشرعيّة. وهذا يعني أنّ النظام المعرفي للأصوليّ يترك تأثيراً على كيفيّة معالجته لموضوعٍ من هذا القبيل.

ب ـ كيفيّة تفسير دور الخاصّ في علاقته بالعام، فإنّ هذه نقطة جوهريّة تتراوح بين دور البيان والشرح ودور المعارضة والاختلاف، وهذا يعني أنّ القراءة الفلسفيّة الهرمنوطيقيّة للأصوليّ في فهم دور التخصيصات والتقييدات القانونيّة يمكن أن يعيد تشكيل صورة الموقف في موضوع تخصيص القرآن بالسنّة عموماً.

ج ـ فهم كيفيّة علاقة أدلّة الحُجج مع بعضها، وهذا ما أفاض في الحديث عنه أصول الفقه الإمامي المتأخّر، لتفكيك عُقدة العلاقة بين الخاص والعام هنا كما رأينا.

د ـ العنصر النفسي، كما أفضّلُ أن أسمّيه، وهو القلق على نظريّة حجيّة خبر الواحد من الانهيار، وما يتبع ذلك من انهيارات اجتهاديّة موروثة، سارت عليها أجيالٌ من الفقهاء.

هذه النتيجة تكشف لنا ما قلناه مطلع هذا البحث من أنّ نظريّة تخصيص القرآن بخبر الواحد هي ملتقى نظريّات عدّة وعناصر متنوّعة في أصول الفقه الإسلامي.

وأخيراً، آمل أن أكون قد قدّمت عرضاً وتحليلاً مناسباً لموضوعٍ إشكاليّ قديم وجديد معاً في التراث الأصولي الإسلامي.

_______________________

([1]) هذا تقرير للمحاضرة التي ألقاها الشيخ حيدر حبّ الله في جامعة المفيد، في إيران، عبر "سكاي روم" بدعوة من معاونية البحوث في جامعة المفيد و مركز مطالعات قرآني، وذلك يوم الأحد، بتاريخ 1 ـ 6 ـ 2025م، وقد قام حبّ الله بإجراء تعديلات وإضافات لتخرج على هذه الشاكلة.

([2]) نسب العلامةُ الحلّي وغيره لأهل الظاهر المنع عن تخصيص القرآن بالقرآن، فانظر: نهاية الوصول إلى علم الأصول 2: 286؛ ومحمد بن علي الجرجاني الغروي الحلّي، غاية البادي في شرح المبادي: 127.

([3]) انظر حول هذا كلّه: الباقلاني، التقريب والإرشاد 3: 185 ـ 186؛ والزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه 2: 189 ـ 196؛ والباجي، إحكام الفصول 1: 268؛ والقرافي، شرح تنقيح الفصول: 163؛ والشيرازي، اللمع في أصول الفقه: 45؛ وأبا يعلى الفرّاء، العدّة في أصول الفقه: 550؛ والتلمساني، مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول 1: 534 ـ 535؛ وابن حزم الأندلسي، الإحكام في أصول الأحكام 2: 97؛ ومحمد أبوزهرة، أصول الفقه: 159 ـ 160.

([4]) راجع: الحلّي، معارج الأصول: 142؛ والتوني، الوافية: 135 ـ 136، 140؛ والبهبهاني، الفوائد الحائريّة: 285؛ والشهيد الثاني، مسالك الأفهام 7: 291؛ والطوسي، العدّة في أصول الفقه 1: 344؛ والمرتضى، الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 280 ـ 281؛ والآبي، كشف الرموز 2: 100، 117.

([5]) انظر: معالم الدين: 305.

([6]) العناوين الفقهيّة 2: 358.

([7]) انظر: معارج الأصول: 172؛ والوافية: 135.

([8]) انظر: الخراساني، كفاية الأصول: 274 ـ 276؛ والنائيني، فوائد الأصول 2: 561؛ والمعالم: 140 ـ 142؛ والحلي، تهذيب الوصول إلى علم الأصول: 236؛ والخوئي، محاضرات في أصول الفقه 5: 309 ـ 315؛ والبيان: 400 ـ 403؛ والمظفر، أصول الفقه 1: 159 ـ 160.

([9]) انظر: الأنصاري، فرائد الأصول 1: 172؛ وكفاية الأصول: 352؛ والخوئي، مصباح الأصول 2: 213 ـ 214؛ والشيرازي، أنوار الأصول 2: 467. هذا، ويلاحظ أنّ بعض الأصوليّين ـ مثل الخراساني (كفاية الأصول: 235) ـ خصّص قبول تخصيص القرآن بخبر الواحد بتلك الأخبار الآحاديّة التي ثبتت حجيّتها بدليل خاصّ، لا بدليل عام، وكأنّه يريد إخراج ما ثبتت حجيّته بدليل "الانسداد" كما صرّح بذلك محسن الحكيم في تعليقته على الكفاية (حقائق الأصول 1: 533)، وقد خالف الخراسانيَّ في ذلك مرتضى الأنصاري، فلاحظ له: مطارح الأنظار 2: 221.

([10]) انظر: الصادقي الطهراني، أصول الاستنباط: 57 ـ 58.

([11]) انظر: المفيد، التذكرة بأصول الفقه: 38؛ والذريعة إلى أصول الشريعة 1: 280 ـ 281؛ وابن إدريس الحلّي، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي 1: 508.

([12]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: الحلّي، مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 104؛ ومطارح الأنظار 2: 219.

([13]) العدّة في أصول الفقه 1: 343.

([14]) راجع حول أهمّ هذه الآراء: السرخسي، أصول الفقه 1: 132 ـ 143؛ والبحر المحيط في أصول الفقه 2: 189 ـ 196؛ وابن السّمعاني، قواطع الأدلّة في الاصول 1: 284؛ والشوكاني، إرشاد الفحول 1: 520؛ والآمدي، الإحكام 2: 246؛ واللمع: 38.

([15]) وسبب ظنيّته أنّه أصبح مجازاً بعد التخصيص بالمخصّص القطعي، وفقاً لما نسبه بعضٌ إلى عيسى بن أبان، فانظر ـ على سبيل المثال ـ: نهاية الوصول إلى علم الأصول 2: 298.

([16]) لمزيد اطّلاع، انظر: البحر المحيط في أصول الفقه 2: 197 ـ 199؛ وابن أمير الحاج، التقرير والتحبير: 239؛ وأصول الفقه 1: 132 ـ 133؛ والبزدوي، الأصول: 59.

([17]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، المحكم في أصول الفقه 3: 289.

([18]) أصول الفقه 1: 159.

([19]) انظر: جلال الدين الخبازي، المغني في أصول الفقه: 99.

([20]) مفاتيح الغيب (التفسير الكبير) 10: 42.

([21]) العدّة في أصول الفقه 1: 344.

([22]) انظر: الجصّاص، الفصول في الأصول 1: 100.

([23]) الموافقات 3: 108 ـ 109.

([24]) انظر: أبوزهرة، الشافعي، حياته وعصره آراؤه وفقهه: 249 ـ 260.

([25]) انظر: اللمع: 163؛ ونهاية الوصول إلى علم الأصول 2: 288 ـ 289؛ والغزالي، المستصفى: 86؛ والآمدي، الإحكام 3: 105؛ والفصول في الأصول 2: 195 ـ 198؛ وابن حزم، الناسخ والمنسوخ: 3؛ ومعالم الدين: 221؛ ومعارج الأصول: 161.

([26]) المظفر، أصول الفقه 1: 159.

([27]) عبد الكريم النملة، المهذّب في علم أصول الفقه المقارن 4: 1615.

([28]) نهاية الوصول إلى علم الأصول 2: 299؛ وكفاية الأصول: 274؛ والمظفر، أصول الفقه 1: 159؛ ومحمد جواد مغنيّة، علم أصول الفقه في ثوبه الجديد: 190.

([29]) انظر: مطارح الأنظار 2: 221.

([30]) البقرة: 29.

([31]) انظر: المصطفوي، مائة قاعدة فقهية: 123.