hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة المسافر ـ القسم التاسع)

تاريخ الاعداد: 10/29/2025 تاريخ النشر: 10/30/2025
820
التحميل

حيدر حبّ الله


هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(21 ـ 10 ـ 2025م)


المقصد الحادي عشر

صلاة المسافر‌

وفيه فصول‌:

 

الفصل الثالث

في أحكام المسافر

...

مسألة 952: يتخيّر المسافر بين القصر والتمام في الأماكن الأربعة الشريفة، وهي: المسجد الحرام، ومسجد النبيّ‘، ومسجد الكوفة، وحرم الحسين×، والتمامُ أفضل، والقصر أحوط، والظاهر إلحاق تمام بلدتي مكّة والمدينة بالمسجدين، دون الكوفة وكربلاء. وفي تحديد الحرم الشريف إشكال، والظاهر جواز الإتمام في تمام الروضة المقدّسة دون الرواق والصحن([1]).

مسألة 953: لا فرق في ثبوت التخيير في الأماكن المذكورة بين أرضها وسطحها والمواضع المنخفضة فيها([2])، كبيت الطشت في مسجد الكوفة([3]).

مسألة 954: لا يلحق الصوم بالصلاة في التخيير المذكور، فلا يجوز للمسافر الذي حكمه القصر الصوم في الأماكن الأربعة([4]).

مسألة 955: التخيير المذكور استمراريٌّ، فإذا شرع في الصلاة بنيّة القصر، يجوز له العدول في الأثناء إلى الإتمام، وبالعكس([5]).

مسألة 956: لا يجري التخيير المذكور في سائر المساجد والمشاهد الشريفة([6]).

مسألة 957: يستحبّ للمسافر أن يقول عقيب كلّ صلاة مقصورة ثلاثين مرة: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر»([7]).

مسألة 958: يختصّ التخيير المذكور بالأداء، ولا يجري في القضاء([8]).

________________________

([1]) في هذه المسألة نقاط:

 

النقطة الأولى: أصل الحكم بالتخيير في الأماكن الأربعة

هذا هو المشهور شهرةً عظيمة جداً بين الإماميّة، وخالف فيه بعضٌ كالصدوق الذي قال بالقصر. ومورد الكلام لو لم يكن هناك موجب للتمام، كما لو كانت مكّة وطنه أو نوى الإقامة عشرة أيّام فيها، فإنّ حكمه التمام حصراً.

والروايات هنا على طوائف، فبعضها ظاهر في وجوب الإتمام، وبعضها ظاهر في وجوب القصر ما لم ينوِ عشرة أيّام، وبعضها ظاهر في التخيير، وبعضها يفهم منه ترجيح الإتمام ويقبل القول بالتخيير، وما دلّ على وجوب القصر يفهم منه أنّ بعض ما صدر في الحثّ على الإتمام كان للتقيّة، أي لدفع الشيعة للإتمام حتى لا يلزم من ذلك مشكلة عليهم، فيخرجون من المسجد قبل شروع الآخرين بالصلاة، فيعرفون أنّهم ليسوا على مذهب الجمهور أو غير ذلك، مثل خبر معاوية بن وهب.

ويمكن هنا طرح فرضيّات:

الفرضيّة الأولى: إنّ الحكم هو التخيير بين القصر والتمام مع كون الأفضل ـ بالعنوان الأوّلي ـ هو التمام، وهذا هو مذهب المشهور بين فقهاء الإماميّة.

وتقريبه أنّ نصوص التمام تبيّن الأفضليّة، وذلك عبر ضمّها لنصوص التخيير، أمّا نصوص تعيين القصر فعددها أقلّ بكثير، وقابلة للحمل على التقيّة بمعنى صدور الخطاب تقيّةً أو بمعنى ممارسة القصر تقيةً لاختلاط المسافرين الشيعة والسنّة بعضهم ببعضٍ في طريق الحجّ والعمرة، فلو لاحظوا أنّ الشيعي في الطريق يقصّر، لكنّه في مكّة يتمّ، لظهر حاله، فأمروهم بالتقصير تقيةً في مقام العمل وربما لهذا عبّر عن التمام في بعض النصوص بأنّه من الأمر المذخور وكأنّه خاصّ بالشيعة. بل قد قيل بأنّ نصوص التخيير كما تصلح لرفع اليد عن ظهور نصوص الإتمام في التعيين، تصلح أيضاً لرفع اليد عن ظهور نصوص القصر فيه، بلا حاجة لاستخدام مرجّحات باب التعارض كالتقية.

الفرضيّة الثانية: وهي عين الفرضيّة الأولى، مع تعديلٍ، وهو أنّ أفضليّة التمام ليست بالعنوان الأوّلي، بل لكونه حكماً مهجوراً فأريد التركيز عليه؛ منعاً لإماتة الشريعة، فأمروا بالتمام وعدم مجاراة الجمهور؛ لإحياء حكم الشريعة.

ومرجّح هذه الفرضيّة في خصوصية العنوان الثانوي هو السياق التاريخي الحافّ الذي لا يسمح بانعقاد إطلاق يفيد بيان الحكم بالعنوان الأوّلي؛ لاحتمال تأثير هذه الخصوصية ودورها في الحثّ على الإتمام احتمالاً وجيهاً جدّاً، كما رأينا ما يشبهه في مواضع عدّة، كالنهي عن التأمين في الصلاة.

الفرضيّة الثالثة: أن يكون الحكم هو التمام ـ كما هو المنسوب إلى الشريف المرتضى وابن الجنيد ـ لأنّ أكثر الروايات إمّا ظاهرة في الإلزام بالتمام أو الحثّ عليه أو تعيينه دون إشارة لغيره، مع كون الموقف في مقام البيان المقتضي لتوضيح حيثيّات الحكم، أمّا روايات التقصير فتحمل على التقية، إذ هي منسجمة مع موقف الجمهور في التعامل مع هذه الأماكن معاملة غيرها، وأمّا روايات التخيير فهي قليلة جداً.

ولكنّ هذه الفرضيّة لا تأخذ بعين الاعتبار أنّ كثرة روايات الإتمام قابلة للجمع مع نصوص التخيير دون تكلّف؛ إذ الفرضية الأقرب تاريخياً والتي تحلّ المشكلة هنا هو أنّ الشريعة ترغب في الإتمام في هذه المواضع أكثر مما ترغب في التقصير، وحيث إنّ التقصير هو الشائع عمليّاً بين المسلمين، فإنّ نصوص الإتمام من المتوقّع أن تكون أكثر، ويكون فيها حثّ أكبر، فترجيح هذه الفرضيّة على غيرها لا توجد له شواهد قويّة، بل يظلّ احتمالاً.

الفرضيّة الرابعة: أن يكون المراد من الأمر بالقصر ما هو على مقتضى القاعدة في المسافر، ويكون المراد من الأمر بالتمام أو التخيير هو الإقامة عشرة أيام، فالحث على التمام بمعنى الحثّ على طول الإقامة، في مقابل قصرها، وأمّا التخيير فهو تخييرٌ بين الإقامة وغيرها، كما أنّ روايات القصر الواردة هنا في حال عدم الإقامة عشرة أيّام ـ مثل خبر محمّد بن إسماعيل بن بزيع ـ تكون أيضاً منسجمة مع هذه الفرضيّة، وأخبار: الحصيني وعلي بن حديد ومعاوية بن وهب، واضحة في الأمر بالإتمام نتيجة الإقامة عشرة أيّام، كما أنّ خبر معاوية بن وهب الآخر واضح في أنّ مكّة والمدينة حكمهما كحكم سائر البلدان، فلا يكون للأماكن الأربعة ولا لغيرها أيّ حكم خاصّ، إلا رجحان الإقامة عشرة أيام فيها، والصلاة تماماً بناء عليه. وهذا مسلك الشيخ الصدوق.

ولكنّ السيد الماتن (الموسوعة (المستند) 20: 395 ـ 398)، وغيره، رفضوا هذا التحليل؛ لقرائن، أهمّها:

أ ـ إنّ التخيير بين الإقامة وعدمها لا يختصّ بهذه الأماكن، بل يعمّ جميع البلاد، فما هو ـ إذاً ـ امتياز هذه البقاع؟!

ويجاب بأنّ نصوص التخيير جاءت في سياق كميّة كبيرة من الروايات الحاثّة أو الآمرة بالتمام، ومن ثمّ فمن المفهوم جداً أنّ المراد بالتخيير هو أنّكم لستم ملزمين بقصد الإقامة عشرة أيّام، بل لكم ذلك، ولكم غيره، ولكنّ أمرنا لكم بالتمام إنّما هو للحثّ لا للإلزام، ومن ثم فلا تصلح هذه القرينة للتخلّي عن الفرضيّة الرابعة.

ب ـ إنّ التخيير بين الإقامة وعدمها تأباه بعض نصوص التمام الدالَّة على أنّه يتمّ ولو بقي بمقدار صلاة واحدة وكان بنحو المرور، فإنّ هذا لا يجتمع مع التخيير بالمعنى المتقدّم، ومن هذه النصوص الصريحة في الإتمام ـ ولو صلاة واحدة وكان بنحو المرور على هذه الأماكن من غير الإقامة فيها ـ خبر عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله× عن التمام بمكَّة والمدينة، فقال: «أتمّ، وإن لم تصلّ فيهما إلا صلاةً واحدة»، وخبر مسمع بن عبد الملك: «إذا دخلت مكَّة فأتمّ يوم تدخل»، وخبر عثمان بن عيسى، قال: سألت أبا الحسن× عن إتمام الصلاة والصيام في الحرمين، فقال: «أتمّها ولو صلاةً واحدة»، وغيرها من النصوص، فهذه النصوص لا تجتمع مع التخيير الذي اختاره الصدوق.

وهذه القرينة جيّدة في الجملة؛ والسبب في ذلك أنّ بعض النصوص تجعل هذه القرينة مقبولةً، مثل رواية قائد (فائد) الحنّاط، عن أبي الحسن الماضي×، قال: سألته عن الصلاة في الحرمين؟ فقال: «أتمّ ولو مررت به ماراً»، فإنّ التعبير بالمرور لا ينسجم مع فرضيّة الإقامة عشرة أيّام، وإن احتملت الرواية أنّك غير قاصد لمكّة، بل قاصد لليمن مثلاً، فمررت بمكّة، فأقم عشرة أيام، كما أنّ رواية عليّ بن مهزيار كالصريحة في نفي الإتمام بملاك عشرة أيام، أمّا الروايات الأخرى التي تعبّر بكلمة "الصلاة الواحدة"، فقد تقبل النقاش؛ على أساس ما سيأتي الحديث عنه قريباً عند التعليق على (المسألة رقم: 956)، من احتماليّة كون نكتة الإتمام في المواطن الأربعة هي أنّها مواطن تريد الشريعة فيها الإكثار من الصلاة، ولهذا أسقطت فيها عزيمة القصر على الأقلّ، ورخّصت فيها للمسافر بالنوافل التطوّعية بل حثّت عليها، وفي هذه الحال فإنّ التعبير بالصلاة الواحدة كناية عن رغبة الشريعة بأكبر قدر ممكن من الصلاة في هذه المواضع حتى لو لم يتسنّ ذلك إلا في صلاة واحدة، فلو صلّى المصلّي صلاةً واحدة فإنّ الشريعة تغتنم الفرصة لتطلب منه جعلها تماماً وفاءً بحقّ مبدأ الإكثار بما أمكن من الصلاة في هذه المواطن، فليس المراد أنّ المكلّف سوف يصلّي صلاة واحدة فقط، بل المراد أنّ الإتمام ولو حصل في صلاة واحدة لم يصلّ المكلّف غيرها ولو عصياناً مثلاً، يحقّق القرب من تحقيق أعلى نسبة من الصلاة في الحرمين وهكذا، ومع هذا الاحتمال تضعف قرينيّة هذه القرينة في هذا النوع من النصوص عن إسقاط الفرضيّة الرابعة؛ لأنّ الفرضيّة الرابعة منسجمة تمام الانسجام مع مبدأ الإكثار من الصلاة في المواطن الأربعة، كما هو واضح.

الفرضيّة الخامسة: ترجيح روايات القصر على روايات التمام، وذلك عبر حمل روايات التمام على التقيّة في مقام العمل، لا في مقام بيان الحكم، فإنّ أمره لهم بالتمام راجع إلى أنّهم لو صلّوا قصراً لعُرف أنّهم مخالفون للجمهور، إذ سيخرجون من المسجد قبل الآخرين، كما أفادته رواية معاوية بن وهب.

وقد تناقش هذه الفرضيّة بأنّ الجمهور قائلون بأنّ القصر رخصة وليس عزيمة، وأكثرهم على عدم وجود خصوصيّة للأماكن الأربعة، ولا سيما الكوفة والحرم الحسيني، فخروج الشيعة من المسجد بعد الصلاة قصراً لا يضرّهم بشيء من هذه الناحية، أمّا إذا قيل بأنّ نظر الإمام ليس لقضيّة القصر والتمام، بل لكونهم يخرجون قبل الناس، وفيه نوع منافرة مع الجمهور، فإنّ الطريق لحلّ هذه المشكلة لا يستدعي التقية في مقام العمل، بل يمكنه أن يأمرهم بالإبطاء في صلواتهم قليلاً أو بإقامة النوافل حتى لا يخرجوا قبل دخول الناس، ولهذا تعتبر رواية معاوية بن وهب غامضةً بعض الشيء.

والتحقيق أنّ الجزم بنظريّة المشهور (الفرضيّة الأولى والثانية)، مقابل رأي الصدوق (الفرضيّة الرابعة) صعبٌ، وبالعكس ـ بعد ضعف الفرضيّة الثالثة والخامسة ـ فلا طريقة معالجة المشهور يمكن القطع بها، رغم منطقيّتها، ولا طريقة الشيخ الصدوق كذلك، رغم رجاحتها ووجاهتها أيضاً، لهذا نرجع لمقتضى الأدلّة العامّة، ونتيجتُها عمليّاً هو ما ذهب إليه الصدوق، من القصر مع عدم نية الإقامة، والإتمام معها، وتكون الشريعة ـ من خلال هذه الأدلّة وغيرها ـ راغبة في الإتمام، وبطريق غير مباشر راغبة في نية الإقامة في هذه الأماكن، والله العالم.

ولعلّه لما قلناه احتاط السيد محمّد حسين فضل الله وجوباً في القصر في مواطن التخيير الأربعة، كما علّق السيد محمّد باقر الصدر على منهاج السيد الحكيم هنا بالقول: «في نفسي شيء من هذا التخيير، فلا يترك الاحتياط باختيار القصر» (منهاج الصالحين 1: 361). ورجّح السيد موسى الشبيري الزنجاني ـ فيما يبدو ـ رأي الشيخ الصدوق، فأفتى بأنّ هذه الأماكن الأربعة كغيرها يتمّ فيها القصر ما لم ينوِ إقامة عشرة أيّام، مع التأكيد والحثّ على نيّة الإقامة في هذه الأماكن (الزنجاني، المسائل الشرعيّة: 302).

قد يقال: إنّ الروايات الدّالة على إتمام الصلاة هي حوالي ست عشرة رواية في «تفصيل وسائل الشيعة»، ومعظمها صحيح السند، بالإضافة إلى ذلك، هناك نحو ستّ روايات أخرى، وأسانيدها غالباً معتبرة، دالّة على التخيير وفضل الإتمام. ورواياتُ الإتمام لا تتعارض مع هذه الروايات الخاصّة بالتخيير؛ لأنّها في كثير من الحالات وردت بتعابير مثل: «أحبّ لك ما أحبّ لنفسي»، مما يدلّ على ترجیح إتمام الصلاة، ومن هنا يوجد جمع عرفي بين هاتين الفئتين؛ أي التخيير مع وجود فضل لإتمام الصلاة، ومن ثمّ فلدينا مجموعاً أكثر من عشرين رواية بأسانيد معتبرة تدلّ على جواز الإتمام، ورفع اليد عن هذا الكمّ من الروايات يحتاج إلى دليل معتبر. أمّا في الجهة المقابلة، فإنّ الروايات الدالّة على القصر لا تتجاوز حوالي خمس روايات، وبعضها فيه اضطراب، وقد تُحتمل فيها التقية. ويبدو أنّه بالنظر إلى كثرة روايات الإتمام، وأنّ السؤال من الرواة يُظهر أنّ هذا النقاش كان مطروحاً في ذلك الوقت ووقع اختلاف بين الرواة، نعرفُ أنّ لذلك أصلاً، وأنّ حُكماً بجواز الإتمام قد صدر، وفي بعض الحالات خُفي لأجل التقية. إضافةً إلى أنّ الأدلّة الدالّة على الحصر بالقصر لا تتجاوز حدّ خبر الواحد، وكثرة الروايات الدّالة على جواز الإتمام كافية لإزالة اليد عن القاعدة الأصليّة في هذه المواضع، خصوصاً حرَم الله وحرَم رسول الله.

والجواب: إنّ ما ذُكر صحيحٌ، لا نختلف فيه، لكنّ المشكلة في تفسير الحثّ على الإتمام أو التخيير بين الإتمام والقصر، فهل هو تخيير على الطريقة الصدوقيّة أو على طريقة المشهور؟ والشواهد التي ذكرناها لصالح الصدوق ـ مع نصوص القصر ـ تفتح باب الاحتمال الحقيقي، فيغدو ترجيح قول المشهور صعباً.

وقد يقال مرّةً أخرى: إنّ تفسير الشيخ الصدوق مخالفٌ جدّاً للروايات الحاثّة على الإتمام، ولسان تلك الروايات لا ينسجم مع الترغيب في قصد الإقامة عشرة أيّام. ومن القرائن على عدم الانسجام: وجود تعبير «من مخزون علم الله» و«من الأمر المذخور» الدالّ على خصوصيّة الحكم وامتيازه، وهو ما لا يتوافق مع كونه حكماً عاديّاً مشتركاً مع سائر الأمكنة، وكذلك تعبير: «أتممنا واستترنا من الناس» في بعض الروايات، وهو ظاهر في كون الحكم غير مألوف. وكذا قوله: «أتمّها ولو صلاة واحدة»، وإطلاق الحكم في رواية: «تتمّ الصلاة في ثلاثة مواضع»، وذلك أنّ احتمال كون المراد من الأمر بالإتمام هو الإقامة عشرة أيّام إنّما يُتصوَّر في الموارد التي ورد فيها الأمر بصيغة «أتمّ»، حيث يمكن أن يُقال: إنّ الخطاب متوجّه إلى المكلَّف بأن يجعل صلاته تامّة، أي يحقّق ما يوجب وجوب الإتمام عليه، أمّا في الموارد التي يكون فيها الموضوع أو الفاعل هو نفس «الصلاة» بلسان «الصلاة تامّة» أو «تتم الصلاة»، فلا مجال لهذا الاحتمال؛ إذ ليس في مقام أمر المكلّف بالفعل، بل هو في مقام بيان الحكم الوضعي للصلاة نفسها، فلا يُحتمل حمله على قصد الإقامة. وهكذا الحال مع تعبير: «أتمّ ولو مررت به مارّاً»، والإشارة إلى اختلاف الأصحاب في القصر والإتمام: «اختلفوا في الحرمين فبعضهم يقصر وبعضهم يتمّ»، وحمل ذلك على الاختلاف في قصد الإقامة عشرة أيّام خلاف الظاهر جدّاً، وعليه فهذه القرائن مانعة من تفسير هذه الروايات بما ذكره الشيخ الصدوق. هذا ومن جهة أخرى، فإنّ حمل روايات التخيير على التخيير بين قصد الإقامة وعدمه، لكونه تفسيراً كنائياً، مخالف للظاهر البدوي من الكلام. وعلى هذا الأساس، یبدو أنّه لا بدّ من تجاوز حدّ الجمع التفسيري بين الروايات، بل يجب القول بوجود معارضة بين الروايات الدالّة على الإتمام وتلك التي استند إليها الصدوق، مع أنّ الروايات التي اعتمد عليها الصدوق لعلّها لا تتجاوز حدّ الآحاد، فلا تقوى على معارضة الروايات الكثيرة الدالّة على الإتمام. بل وعلى فرض كونها موثوقة وخارجة عن حدّ الآحاد الظنيّة، فاحتمال التقية فيها قائم، خصوصاً مع ملاحظة بعض التعابير التي تدلّ على كتمان الحكم بجواز الإتمام في هذه المواضع.

ويمكن أن يجاب:

أوّلاً: إنّ «من مخزون علم الله» استحباب الإتمام في هذه المواطن ورغبة الشريعة في كونها مواضع للعبادة بحيث لا يحسن المرور فيها فقط، أو فقل: من مخزون علم الله الترغيب في الإتمام بقصد الإقامة، وقد بيّنا سابقاً لماذا كانت الأسئلة حول الموضوع.

ثانياً: إنّه ليس مشتركاً مع سائر الأمكنة، بل له خصوصيّة تشريعيّة تتطلّب من المكلّف ترجيح الإقامة.

ثالثاً: إنّ جعل الحكم بصيغة الأمر في تتمّ الصلاة أو أنّه بيان للصلاة وأنّها يحصل أن تكون تامّةً، لا يُحدث فرقاً هنا؛ إذ هو بمعنى الحثّ على الإتمام، فإنّك إذا قلت: تقصر الصلاة في السفر، فهذا بيان للحكم رغم أنّه ليس فيه صيغة أمر، فكما يمكن فهم «تتمّ الصلاة» في هذه المواضع على أنّه بيان للحكم بلا إقامة يمكن أيضاً فهمه على أنّه بيان للحكم بالحثّ على الإقامة، بلا فرق بينهما.

رابعاً: إنّ حمل روايات التخيير على ما قلناه يصبح غير مخالف للظهور على فرضيّة وجود فكرة مركوزة في ذهنهم جاءت روايات التخيير لتقول بأنّ دعوتنا لكم للتمام لا تعني الوجوب، بلا فرق بين ربط الموضوع بالإقامة وعدمه.

خامساً: إنّ الشواهد التي قلناها لصالح الصدوق ـ مع فرض إمكان حمل النصوص على ما قلنا ـ تكفي للتردّد والالتباس، وهذا ما قلناه، وإلا فنحن لم نرجّح رأي الصدوق.

سادساً: إنّ وجود جدل بين الأصحاب يمكن أن يكون لكون الحكم عندهم أيضاً لم يكن مفهوماً، كما عند الفقهاء المتأخّرين، فجاءت الأسئلة: هل التمام بنفسه واجب أو مستحبّ أو أنّه بتوسّط الإقامة يكون واجباً أو مستحباً أو نقصر كغيرها من المواضع؟

 

النقطة الثانية: في شمول الحكم لمسجد الكوفة وحرم الحسين وعدمه

لا شكّ في ثبوت الحكم للحرمين المكّي والمدني، لكثرة الروايات الواردة فيهما، إنّما الكلام في شموله للبقيّة. والصحيح هو الشمول لوجود ما يزيد عن عشرة روايات بينها الصحيح سنداً، ولا معارض لها.

 

النقطة الثالثة: في اختصاص الحكم بالمساجد والمشاهد أو الشمول للمدينة والبلدة كلّها

هل يختصّ الحكم بالمسجد الحرام ومسجد النبي ومسجد الكوفة وحرم الحسين أو يشمل المدن الأربعة: مكة والمدينة والكوفة وكربلاء؟

أ ـ الموقف في مكّة والمدينة

ذهب الفقهاء لتعميم الحكم لمكّة والمدينة؛ عملاً برواية علي بن مهزيار وفيها: فقلت له بعد ذلك بسنتين مشافهةً: إنّي كتبت إليك بكذا فأجبتَ بكذا فقال: «نعم»، فقلت: أيّ شيء تَعْنِي بالحرمين؟ فقال: «مكّة والمدينة..»، إلى جانب بعض النصوص التي عبّرت بمكّة والمدينة، مثل خبر عبد الرحمن بن الحجّاج، وخبر مسمع، وخبر عمر بن رياح، وخبر علي بن يقطين، وخبر الحسين بن المختار.

إلا أنّ هنا بعض التعليقات:

أوّلاً: إنّ رواية علي بن مهزيار وإن كانت واضحة في الإشارة إلى المدينتين، غير أنّه يوجد احتمال ـ ولو ضعيف ـ في أن يُقصد منها نفي الحديث عن أيّ حرمٍ آخر، كالحرم الحسيني والعلوي، وبخاصّة أنّ الرواية واردة عن الإمام الجواد في القرن الثالث الهجري، وتعابير مثل: الكوفة حرم عليّ، وحرم الإمام الحسين، ونحو ذلك من التعابير واردةٌ قبل عصر الجواد في الروايات، ومنها بعض روايات الباب، مثل خبر حماد بن عيسى، علماً أنّ رواية ابن مهزيار آحاديّة منفردة في الباب من حيث التفسير، بل هي تقبل الحمل على ما سنذكره في النقطة الثانية الآتية.

ثانياً: إنّ الكثير من الروايات عبّرت بالحرمين، مثل خبر حماد بن عيسى، وخبر مسمع، وخبر عبد الرحمن بن الحجاج، وخبر محمد بن إبراهيم الحصيني، وخبر عثمان بن عيسى، وخبر إبراهيم بن شيبة، وخبر معاوية بن عمار، وخبر زياد بن مروان، وخبر عمرو بن مرزوق، وخبر قائد الحنّاط، وخبر آخر لمعاوية بن وهب. والحرم المكّي والمدني ـ كما سوف يأتي الحديث عنه في كتاب الحجّ ـ لهما حدود، ومن ثم فمن الممكن جداً أنّ التعبير بمكّة والمدينة في النصوص الأخرى جاء بمعنى الحرم المكّي والحرم المدني، الذي كان يغطّي المدينتين، وليس المراد به المدينتين من حيث هما مدينتان؛ وبهذا لا يشمل الحكم خارج نطاق الحرم ولو عدّ اليوم أو لاحقاً من مدينة مكّة، كما يشمل ما هو داخل نطاق الحرم ولو لم يعدّ جزءاً من المدينة.

وما نقوله ليس بمعنى أنّ المراد في النصوص مكّة القديمة أو المدينة القديمة، بل أن يكون المراد من النصوص هو الحرم الشرعي، الذي هو أصغر مساحةً في العادة اليوم من مكّة والمدينة.

لكن مع ذلك يظلّ احتمال أن يُقصد بالحرمين هنا المسجدُ الحرام والمسجد النبوي، حيث يطلق عليهما الحرم أيضاً، فيقال: صلّيت في الحرم بمكّة أو في الحرم المكّي، ومع وجود هذا الاحتمال المعتدّ به، يلزم الأخذ بالقدر المتيقّن، وليس هو المدينة كلّها، ولا الحرم الشرعي، بل خصوص المسجدين، وبهذا يقصد من إطلاق عنوان مكّة والمدينة في سائر النصوص الموضعُ المعتاد للصلاة فيهما من قبل من هم ليسوا من أهل مكّة، وهو المسجد الحرام والمسجد النبويّ، وهذا هو الظاهر ـ أو القدر المتيقّن ـ من بعض الروايات، كخبر صالح بن عبد الله الخثعمي، وخبر أبي بصير، ومرسل حذيفة بن منصور، ومرسل إبراهيم بن أبي البلاد، وخبر عبد الحميد خادم إسماعيل بن جعفر، وخبر عمران بن حمران، فإنّها جميعاً اشتملت على الحديث عن المسجد الحرام والمسجد النبويّ، دون مكّة والمدينة، وإن كان أغلبها قد ورد هذان التعبيران فيه على لسان السائل.

ثالثاً: إنّ التعبير بالمسجد الحرام والمسجد النبوي قد يكون إشارة لكون المصلّي في هاتين المدينتين ـ وليس هو من أبنائهما ـ عادةً ما يصلّي في هذين المسجدين، وهذه هي عادة المسلمين، فإطلاق المسجدين لا يراد به عنوانهما، بقدر ما يراد به ما هو مظنّة الصلاة في الحرمين عادةً.

وهذا الكلام يصحّ لو لم يكن القدر المتيقّن هو المسجدان، وقد تبيّن لك أنّ تردّد التعابير يفرض علينا الأخذ بالقدر المتيقّن، والرجوع للعمومات والمطلقات في غيره.

وعليه، فالأحوط ـ بل الأقوى ـ الاقتصار في التخيير على المسجدين، وإن كان التعميم للحرمين، دون المدينتين، فيه وجهٌ ما.

ب ـ الموقف في الكوفة وكربلاء

تنوّعت التعابير هنا على الشكل الآتي:

1 ـ مسجد الكوفة (خبر عبد الحميد، وخبر أبي بصير، ومرسل حذيفة بن منصور، ومرسل الصدوق، ومرسل حماد بن عيسى).

2 ـ حرم الحسين (خبر حماد بن عيسى، وخبر عبد الحميد، ومرسل حذيفة بن منصور، وخبر أبي بصير).

3 ـ الكوفة (خبر زياد القندي).

4 ـ حرم أمير المؤمنين (رواية حماد بن عيسى).

5 ـ قبر الحسين (خبر أبي شبل، وخبر زياد القندي، ومرسل إبراهيم بن أبي البلاد، وخبر عمرو بن مرزوق).

6 ـ حائر الحسين (مرسل الصدوق، ومرسل حماد بن عيسى).

وعليه:

أوّلاً: إنّ الظاهر أنّ الحكم مقتصر على مسجد الكوفة؛ إذ أغلب الروايات وردت فيه، وأمّا تعبير "الكوفة" مطلقاً، فلم يرد إلا في رواية واحدة، تشمل المسجد بطبيعة الحال، وأمّا حرم أمير المؤمنين، فالظاهر أنّ المراد به الكوفة، أو على الأقلّ مسجد الكوفة؛ لأنّ النصوص الآحاديّة (مثل رواية حسان بن مهران) ذكرت أنّ الكوفة هي حرم عليّ، وليس المراد به موضع قبره أو مدينة النجف كما هو واضح. وعليه فمسجد الكوفة هو موضع حكم التخيير حصراً، عملاً بالقدر المتيقّن من مجموع النصوص، وليس مدينة الكوفة، فضلاً عن مدينة النجف.

ثانياً: إنّ الروايات تنوّعت بين حرم الحسين وقبر الحسين وحائر الحسين، فيؤخذ بالقدر المتيقّن، وهو القبر الشريف والمنطقة التي تحيط به، أمّا الصحن والرواق وغير ذلك فلا يُعلم كونه مشمولاً لهذه العناوين أو للقدر المتيقّن منها، وبخاصّة أنّ تعبير "الحائر" ورد في خبرين مرسلين، ويبدو أنّهما يرجعان لخبرٍ واحد، فراجع وقارن.

 

النقطة الرابعة: حكم الزيادات والتوسعات الحادثة بعد عصر النصّ

لو قلنا بأنّ المقصود هو المدن أو المساجد والحرم، فهل يشمل ذلك الزيادات الحادثة بمرور السنين، وبخاصّة تلك التي جاءت بعد عصر أهل البيت، دون تلك التي جاءت بعد عصر النبيّ وقبل نهاية عصر النصّ إماميّاً، أو لا؟

ظاهر غير واحدٍ الاقتصار على ما ينصرف إليه اللفظ في تلك العصور، دون مثل الزيادات الحادثة في مثل العصر المملوكي والعثماني والسعودي؛ لأنّ النصوص تشير لما هو المسجد بالفعل والمتحقّق خارجاً في زمن الصدور لا لغيره، وهذا أوضح ـ عند بعضهم كالماتن في بحوثه ـ في المسجدين منه في المدينتين؛ لصدق عنوان مكّة والمدينة بعد التوسعة.

لكنّ الصحيح أنّ المسجد والحرم والمدينة والبلدة عناوين لا ينظر فيها لمساحتها آنذاك إلا بقرينة، والعرف يرى الصدق حتى بعد التوسعات، نعم لو وجدت قرينة خاصّة على أنّ الأحكام لا تترتّب على دائرة أوسع من كذا وكذا أمكن الأخذ بهذه القرينة، بلا فرق بين المدينة والمسجد والحرم، ولا سيما أنّ أهل البيت شهدوا ـ بمرور ما يزيد عن قرنين من الزمن ـ تغييرات في المدن والبلدات والمساجد والمشاهد، وتوسعات متعدّدة، دون أن يشيروا إلى شيء من ذلك في بيانهم للأحكام الشرعيّة، إلا في مواضع مخصوصة، بقرينة خاصّة.

وأمّا تفصيل بعضهم ـ مثل الشيخ الفيّاض في بحوثه الاستدلاليّة ـ بين المسجدين: الحرام والنبويّ، فيؤخذ بالشكل القديم لهما، والحرم الحسيني فيؤخذ به بعد التوسعة، فهو غير مفهوم إطلاقاً؛ فإذا صدق عليه أنّه حرمٌ حسيني، فإنّه يصدق هناك أنّه مسجد نبويّ حتى بعد التوسعة.

([2]) عملاً بإطلاق النصوص على تقدير القول بالتخيير.

 

وقفة تاريخيّة وفقهيّة حول بيت الطشت في مسجد الكوفة وأعماله العباديّة

([3]) بيت الطَشت أو بيت الطست، هو موضع في مسجد الكوفة منخفض في سرداب داخل الأرض، ولهذا ذكره الماتن بوصفه مثالاً على المواضع المنخفضة، وقصّته نقلها الطبري (ق 4هـ)، في كتاب (نوادر المعجزات 1: 102 ـ 107)، وشاذان بن جبرائيل القمي (ابن شاذان) المتوفى في أواسط القرن السابع الهجري، في كتابه (الروضة في فضائل أمير المؤمنين: 182 ـ 186)، وتابعهما اللاحقون كصاحب البحار والمحدّث عباس القمي وآخرين. وخلاصتها أنّ فتاةً جيء بها؛ لظهور علائم الحمل عليها، فأراد أهلها قتلها، فنفت أن تكون قد فعلت شيئاً، فعرضها الإمام عليّ× على القابلة، فأكّدت أنّها حامل، ثم وضعها عليٌّ في طشت ـ مستخدماً الثلج أو غيره ـ فخرجت من بطن الفتاة علقة كبيرة، فتبيّن للناس عظمة الإمام عليّ وبراءة هذه الفتاة.

وقد ذكر السيد ابن طاووس قائلاً: «ذكر الصلاة والدعاء في بيت الطشت المتصل بدكّة القضاء. تُصَلِّي هُنَاكَ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا سَلَّمْتَ وَسَبَّحْتَ فَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ذَخَرْتُ تَوْحِيدِي إِيَّاكَ، وَمَعْرِفَتِي بِكَ، وَإِخْلَاصِي لَكَ، وَإِقْرَارِي بِرُبُوبِيَّتِكَ، وَذَخَرْتُ وَلَايَةَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بِمَعْرِفَتِهِمْ مِنْ بَرِيَّتِكَ، مُحَمَّدٍ وَعِتْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ لِيَوْمِ فَزَعِي إِلَيْكَ عَاجِلًا وَآجِلًا. وَقَدْ فَزِعْتُ إِلَيْكَ وَإِلَيْهِمْ يَا مَوْلَايَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَفِي مَوْقِفِي هَذَا، وَسَأَلْتُكَ سَعَادَتِي مِنْ نِعْمَتِكَ، وَإِزَاحَةَ مَا أَخْشَاهُ مِنْ نَقِمَتِكَ وَالْبَرَكَةَ فِي مَا رَزَقْتَنِيهِ، وَتَحْصِينَ صَدْرِي مِنْ كُلِّ هَمٍّ وَجَائِحَةٍ وَمَعْصِيَةٍ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَآخِرَتِي، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ» (مصباح الزائر: 80).

والظاهر أنّه ليس من السهل إثبات هذه الواقعة تاريخيّاً، وبخاصّة وفق وجهة النظر النقديّة المتأخّرة التي ترى أنّ نسبة كتاب (نوادر المعجزات) للطبري الشيعي هي نسبةٌ مجعولة، وأنّ الكتاب يعود لمؤلّفٍ متأخّر، وربما لهذا نقل المجلسي هذه القصّة عن صاحب الفضائل، دون الطبري.

وأمّا أعمال بيت الطشت فلم تثبت؛ إذ لم تُنسب لمعصوم، كما أنّ رواية أنّ الإمام الصادق× صلّى هناك، مرسلةٌ جداً.

([4]) لاقتصار الأدلّة على الصلاة.

([5]) عملاً بالإطلاقات، مع فرض أنّ القصر والتمام ليسا بنوعين من أنواع الصلاة، بل هما فردان لصلاة واحدة، والمكلّف مخيّر في الإتيان بأيّهما. وهذا كلّه بشرط عدم تجاوز محلّ العدول؛ فلو قصد الإتمام فصلّى ثلاث ركعات لم يعد يمكنه العدول إلى القصر، كما هو واضح.

 

في تعميم حكم أماكن التخيير لمطلق مراقد الأئمّة وعدمه، نقد محاولة الشيخ محمّد السند

([6]) هذا هو مذهب جمهور العلماء، لكن قد يُفهم من بعضٍ قليل تعميم الحكم هنا لكلّ المشاهد والأماكن المقدّسة. وقد انتصر للقول بالتعميم الشيخ محمد السند، مصنّفاً دراسة مستقلّة استدلاليّة في ذلك، وقد جمع فيها عمدة الأدلّة، وقد حملت عنوان (إتمام المسافر في جميع مشاهد الأئمّة)، والبحث بنفسه نشره أيضاً في كتابه (الشعائر الحسينيّة ـ فقه العتبات والزيارة). وما نذكره هنا من أدلّةٍ عمدته ذكره هو في هذين الكتابين، فراجع.

وعمدة الأدلّة كالآتي:

الدليل الأوّل: إنّه يمكن تصيّد العموم من الأدلّة هنا، وذلك على الشكل الآتي:

أ ـ رواية إبراهيم بن شيبة، قال: كتبت إلى أبي جعفر×، أسأله عن إتمام الصلاة في الحرمين؟ فكتب إليَّ: «كان رسول الله‘ يحبّ إكثار الصلاة في الحرمين، فأكثر فيهما وأتمّ»، فهذه الرواية دالّة على أنّ موضوع الإتمام هو الموضع الذي يستحبّ فيه إكثار الصلاة؛ لعظم فضيلة الثواب فيه، فعطْف الإتمام في الحرمين على ذلك كالتفريع، وهذا من باب اصطياد عموم الموضوع لا التعليل كي يردّد فيه بين كونه علّة للحكم أو حكمة له لايتعدّى منها.

ب ـ خبر عليّ بن مهزيار، ومما جاء فيه: .. فكتب بخطّه×: «قد علمت ـ يرحمك الله ـ فضل الصلاة في الحرمين على غيرهما، فأنا أحبّ لك إذا دخلتهما أن لا تقصّر، وتكثر فيهما من الصلاة». وتقريبه كسابقه.

ج ـ خبر أبي شبل (عبد الله بن سعيد الأسدي)، قال: قلت لأبي عبد الله×: أزور قبر الحسين؟ قال: «زر الطيّب، وأتمّ الصلاة عنده»، قلت: أتمّ الصلاة؟! قال: «أتمّ»، قلت: بعض أصحابنا يرى التقصير؟ قال: «إنّما يفعل ذلك الضعفة»، فهذه الرواية تدلّ على أنّ موضوع التمام قداسة المكان بقدسيّة المكين، وهي تشير لعموم الموضوع، كما أنّها تشير إلى قيد آخر في الموضوع، وهو كلّ مكان مقدّس تشدّ إليه الرحال.

د ـ ما روي بألفاظ متعدّدة وطرق مختلفة، منها ما عن أبي عليّ الحرّاني، قال: قلت لأبي عبد الله×: ما لمَن زار قبر الحسين؟ قال: «مَن أتاه وزاره وصلّى عنده ركعتين أو أربع ركعات كتب الله له حجّة وعمرة. قال: قلت: جُعلت فداك، وكذلك لكلّ مَن أتى قبر إمام مفترض الطاعة؟ قال: وكذلك لكلّ مَن أتى قبر إمام مفترض الطاعة». فإنّ الترديد بين الركعتين والأربع ـ وفي بعضها خصوص الأربع ـ لا معنى له إلا القصر والتمام، وذيلُ الرواية واضحٌ في التعميم.

هـ ـ ما تضمّنته جملة من الروايات الواردة في الإتمام في المواطن الأربعة، من تعليل الإتمام بأنّه زيادة خير ـ أي ثواب ـ وكذلك قد تضمّنت ذلك التعليل الروايات الآمرة بإكثار التطوّع، وهو صلاة النافلة، في المواطن الأربعة، وإن قصّر في الفريضة ولم يقم، مثل: خبر عمران بن حمران، قال: قلت لأبي الحسن×: أقصّر في المسجد الحرام أو أتمّ؟ قال: «إن قصّرت فلك، وإن أتممت فهو خير، وزيادة الخير خير». ومثل ذلك التعليل لفضيلة الحرمين والمسجدين بأنّه قد صلّى فيهما الأنبياء، مع أنّ الوارد صلاة الأنبياء في مواضع عدّة غير المواطن الأربعة، فهذا تعليل للإتمام بفضيلة المسجدين والحرمين، ثمّ تعليل فضيلتهما بأنّ الأنبياء قد صلّوا فيهما أو إضافتهما لأهل البيت، الأمر المتحقّق في غير هذه المواطن أيضاً.

ويمكن التعليق:

أوّلاً: إنّ رواية ابن شيبة لا ظهور فيها في كون الموضوع هو الموضع الذي يستحبّ فيه إكثار الصلاة، بل الموضوع هو الحَرَمَان، فهي تريد أن تقول: حيث إنّ رسول الله كان يحبّ إكثار الصلاة في الحرمين فاجعله أسوةً لك، فأكثر من الصلاة في الحرمين، ثم أضاف الإتمام فيهما بوصفه من مظاهر الإكثار، وهذا ليس دليلاً على أنّ كلّ موضع يستحبّ فيه إكثار الصلاة يكون الحكم فيه هو التمام، هذا فضلاً عن أنّ إكثار الصلاة في الحرمين قد يكون مطلباً إضافيّاً بيّنه الإمام. هذا فضلاً عن عدم ثبوت وثاقة إبراهيم بن شيبة، وهو الإصفهاني الأسدي.

هذا، ولكن سيأتي بعض ما له صلة بهذه الرواية، فانتظر.

ثانياً: إنّ خبر ابن مهزيار غاية ما يفيد ثبوت الإتمام في الحرمين؛ لكون فضلهما أكبر من غيرهما، وهذا لا يساوي أنّ مطلق ما له فضل على غيره، يثبت فيه الإتمام لأجل الرغبة في إكثار الصلاة فيه، نعم لو ثبت لغير الحرمين فضيلة أكبر من فضيلة الحرمين أمكن تصوّر ذلك، لكنّه سيكون حينها معارِضاً لهذا الخبر بنفسه؛ لأنّ إطلاق هذا الخبر يفيد عدم كون غير الحرمين مما له فضيلة أكبر من فضيلة الحرمين، فيصعب الأخذ بالنكتة التعليليّة في هذه الحال، إلا على قاعدة التبعيض في الحجيّة، وهو ما لا نقول به في النصوص المترابطة، كهذا الخبر، فانتبه.

ثالثاً: إنّ خبر أبي شبل ليس فيه إشارة للتعميم أو لبيان الملاك، فإنّه لا يقول بأنّ زيارة مطلق الطيّب هي ملاك الإتمام، بل يأمر بزيارة الحسيّن الطيّب، ثم يأمر بالإتمام، دون وضوح وجود ربط بين الأمر بالإتمام ومطلق الزيارة؛ فإنّ السؤال كان عن زيارة الحسين وليس عن الإتمام، ولهذا شرع الإمام بالجواب عن السؤال، ثمّ أضاف مطلباً آخر مرتبطاً بموضوع السؤال الذي هو زيارة الحسين، ولا ظهور في الرواية بغير ذلك، بل لو صحّ هذا التعميم للزم الإتمام في كلّ الأماكن المقدّسة ولو من غير المشاهد الخاصّة بالأئمّة!

رابعاً: إنّ خبر الحرّاني وأمثاله ليست فيه أيّ إشارة لموضوع بحثنا؛ إذ لا يعلم أنّ النظر في ذلك للقصر والتمام، فلعلّه يريد أن يبيّن ما هو الغالب في الصلوات من أنّها ثنائيّة أو رباعيّة، فذكر أنّك لو أتيت وصليت أيّ صلاة فلك كذا وكذا، ومن أين لنا الجزم بكون الترديد ناظراً للقصر والتمام؟! بل حتى لو كان ناظراً لهما فلا يُعلم أنّه ناظر للتخيير، فلعلّه يريد أن يقول بأنّك لو أتيته فصلّيت قصراً، كما لو لم تكن ناوياً للإقامة، أو صلّيت تماماً، كما لو كنت ناوياً للإقامة، ففي الحالتين لك عين الثواب على الصلاة التي تصلّيها، أربعاً كانت أو ثنتين، طالت إقامتك عنده أو قصرت.

خامساً: إنّ بيان الخيريّة في الإتمام في المواطن الأربعة غاية ما يثبت أفضليّة الإتمام في هذه المواطن، لا كون غير هذه المواطن مما يستحسن فيه الإتمام أيضاً، وإلا لزم رجحان الإتمام مطلقاً حتى خارج الأماكن المقدّسة، ولهذا بنى جمهور الفقهاء على دلالة هذه الروايات على التخيير مع أفضليّة الإتمام على التقصير بالعنوان الأوّلي، واحتملنا بقوّة أنّ الأفضليّة هذه بالعنوان الثانوي كما تقدّم، فأيّ علاقة لكون الإتمام أفضل من التقصير في المواطن الأربعة بكون غير هذه المواطن مما يكون مورداً للتخير بين القصر والتمام؟!

وكذلك الحال في أنّ نكتة فضيلة الحرمين هو صلاة الأنبياء فيهما أو انتسابهما لأهل البيت، فلنفرض أنّ ذلك هو الميزان الحقيقي في فضيلة الحرمين، فهل يعني ذلك أنّ الحكم بالتخيير في الحرمين لا بدّ أن يسري لغيرهما؟! فلعلّ فضيلتهما جاءت من هذه الأمور لكنّ الحكم بالتخيير خاصّ بهما، فكيف يمكننا التمييز هنا؟! بل لو قلنا بذلك لزم ثبوت وجوب الحجّ لكلّ مكان صلّى فيه الأنبياء، فإنّ فضيلة الحرم المكي جاءت من صلاة الأنبياء فيه حسب الفرض، ومن تجلّيات فضيلته كون الحجّ فيه، كما أنّ من تجلّيات فضيلته التخيير بين القصر والتمام فيه، فهل نعمّم حكم الحج لغيره بنكتة وحدة الملاك التي هي صلاة الأنبياء في مسجد الكوفة مثلاً؟!

الدليل الثاني: إثبات التلازم بين الترخيص في التطوّع في النوافل النهاريّة في السفر والإتمام، وحيث دلّت الروايات على التطوّع في الأماكن الأربعة وفي كلّ مشهد خير (راجع الباب 26 من أبواب صلاة المسافر من تفصيل وسائل الشيعة 8: 535 ـ 537)، عنى ذلك أنّ الإتمام يكون في كلّ مشهد، والقاعدة هنا أنّه لو شرّعت النافلة في السفر لتمّت الصلاة، وهذا يعني أنّ تشريع النافلة في الحرم المكّي مثلاً يعني إمكان تتميم الصلاة، وحيث دلّت الرواية (خبر ابن أبي عمير) على الشمول لكل مشاهد النبيّ وهكذا، فيحكم بشمول الحكم بالإتمام لغير المواطن الأربعة.

ويجاب: إنّ كون النوافل النهاريّة عبارة عن إتمام للصلاة القصريّة، هو مما دلّت عليه رواية آحاديّة، كما أنّ تعبير كلّ مشهد أو مشاهد النبيّ لا يرقى أن يكون رواية منفردة آحاديّة أيضاً، بصرف النظر عن مجال المناقشات السنديّة، بل ربما قيل بأنّ كون النوافل النهارية إتماماً للصلاة القصريّة لا يعني أنّ الترخيص بها ترخيص بالإتيان بالصلاة التامّة، بل إثباتُ القصر عزيمةً قد يُفهم نفياً للنوافل النهاريّة وليس العكس، ومعنى ذلك أنّ الشريعة أسقطت النوافل النهاريّة تخفيفاً؛ إذ ربما لا يكون هناك معنى لإثبات القصر عزيمةً مع إثبات النوافل النهاريّة؛ لأنّ المفروض أنّ الشارع يريد التخفيف عزيمةً، فكأنّه بإسقاطه النوافل النهاريّة أكمل مشروعه في التخفيف ورفع المشقّة بنحو العزيمة، وإلا فكيف يشرّع النوافل النهاريّة ثم يمنع العبد عن إتمام الصلاة بملاك المشقّة؟! أمّا في الأماكن الأربعة، فحيث إنّ المطلوب فيها كثرة العبادة والصلاة، لهذا حكم بالإتمام، وفي الوقت نفسه حكم بالصلوات التطوّعية وألغى قواعده في باب السفر بنحو العزيمة.

يضاف إلى ذلك بأنّ الرواية في مشاهد النبيّ لا تشمل مطلق الأماكن المقدّسة، علماً أنّها خبر آحاديّ كما قلنا.

الدليل الثالث: قد أفادت النصوص هنا التخيير بين القصر والتمام في حرم الله وحرم رسول الله، ولدينا بعض الروايات التي تعمّم مفهوم حرم الله ورسوله لكلّ مراقد الأئمّة، مثل خبر الحسين بن ثوير الوارد في آداب زيارة الإمام الحسين×، عن أبي عبد الله×: «إذا أتيت أبا عبد الله×، فاغتسل على شاطئ الفرات والبس ثيابك الطاهرة، ثم امش حافياً؛ فإنّك في حرمٍ من حرم الله وحرم رسوله»، وغيرها من النصوص الأخرى الواردة في الموارد الأخرى.

والجواب: إنّ تحقق التنزيل يحتاج لخصوصيّة قانونيّة، وهي كون النص الحاكم مستهدِفاً إيجاد تعديلات في دائرة النص المحكوم، وإلا فإذا كان النص الحاكم قد ورد في سياق آخر ناظراً لأمر آخر، فلا يمكن استفادة الحكومة والتنزيل لا توسعةً ولا تضييقاً، فإذا ذكرت النصوصُ الحرمين أو مكة والمدينة أو حرم الله وحرم رسول الله إلى جانب حرم أمير المؤمنين وحرم الحسين، وهكذا، فإنّ المراد هنا هو الإشارة لموضع خارجي معروف يفهمه الناس، وهو المسجد الحرام والمسجد النبوي مثلاً، أمّا النصوص التي تقول بأنّ مرقد الإمام الرضا ـ مثلاً ـ هو من حرم الله، فهي ليست ناظرة لتعديل النصوص التشريعيّة في باب الصلاة، بل ناظرة لمعنى آخر، وهو المعنى اللغوي العام للكلمة، أي أنّ هذا المكان يدخل ضمن دائرة حرمات الله التي يُمنع الاعتداء عليها وانتهاكها، ويلزم تقديسها، ولهذا جاء التعليل في الرواية أعلاه عقب بيان لبس الثياب الطاهرة والمشي حافياً، فالفضاءين التداوليّين لمجموعتَي النصوص مختلفٌ، ولا دليل يُثبت نظر إحداهما للأخرى، بل لو صحّ هذا التنزيل فلا معنى لوضع حرم أمير المؤمنين وحرم الحسين في عرض حرم الله وحرم رسوله، بل لا معنى لوضع حرم الرسول في عرض حرم الله، اذ سيصبح الجميع حرم الله، فكأنّه سيكون من باب ذكر الخاصّ بعد العام، وهو غير ظاهر إطلاقاً من النصوص، ولا يفهم العرف منها ذلك، بل يفهم المضارعة بين هذه الأربع.

والنتيجة إنّه لم يثبت التعدّي عن هذه الأماكن الأربعة؛ لعدم قاطعيّة النكتة التعليليّة التي هي كلّ موضع تريد الشريعة فيه الإكثار من الصلاة، وإن كانت بعض الأخبار القليلة جداً ـ مثل خبر ابن شيبة المتقدّم ـ توحي بذلك؛ لكنّها آحاديّة وقليلة، وعمدتها ضعيف الإسناد؛ لهذا فنحن نحتمل ـ بهذه النصوص القليلة جداً، مع التحليل المقاصدي العقلاني ـ أن تكون النكتة الكليّة هي ترغيب الناس في الإكثار من الصلوات والركعات، عبر الحكم بالإتمام والصلوات التطوّعية، أو عبر الحثّ على قصد إقامة عشرة أيّام في هذه الأماكن، لكنّ الجزم بذلك ـ ليصلح للتعدّي ـ ليس سهلاً، بل يبقى احتمالاً معقولاً معتدّاً به. علماً أنّه لو ثبت هذا الاحتمال فإنّنا بحاجة لدراسة مستقلّة نثبت فيها استحباب الإكثار من الصلوات النهاريّة والحثّ على ذلك في كلّ موضع نريد تسرية الحكم إليه خارج نطاق المواطن الأربعة. ومجرّدُ الحثّ على زيارة هذا المكان أو ذاك، وأنّ الصلاة فيها تعدل كذا وكذا، لا يكفي؛ وإلا صارت المساجد جميعها من أماكن التخيير، كما هو واضح، فانتبه.

يضاف إلى هذا كلّه تأييداً، أنّ بعض الروايات دالّة ـ بدلالة قريبة من الظهور ـ على الحصر، سواء عبر الإطلاق المقامي أو مفهوم العدد، أو هما معاً، والشيخ السند ـ بما أنّه ملتزم بحجّيّة خبر الواحد ـ ينبغي له أن يتصدّى لحلّ التعارض، ففي رواية حمّاد بن عيسى، عن أبي عبد الله× أنّه قال: «من مخزون علم الله الإتمام في أربعة مواطن: حرم الله، وحرم رسوله‘، وحرم أمير المؤمنين×، وحرم الحسين×».

 

عدم ثبوت تعقيبات خاصّة بصلاة القصر

([7]) قال السيد الماتن في بحوثه الاستدلاليّة هنا: «للنصّ الوارد في المقام، وعمدته صحيحة سليمان بن حفص المروزي قال: قال الفقيه العسكري×: يجب على المسافر أن يقول في دبر كلّ صلاة يقصّر فيها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ثلاثين مرّة، لتمام الصلاة». وهذه الرواية ضعيفة عند القوم؛ لعدم ثبوت وثاقة المروزي، ومن هنا حكموا بالاستحباب من باب التسامح، ولكنّها معتبرة عندنا، لورود الرجل في أسناد كامل الزيارات، وبما أنّها دلَّت على الوجوب صريحاً، فمقتضى الصناعة الحكم به لا الاستحباب. لكنّ الذي يمنعنا عنه هو ما تكرّرت الإشارة إليه في مطاوي هذا الشرح؛ حيث إنّ المسألة كثيرة الدوران ومحلّ للابتلاء غالباً، لعدم خلوّ كلّ مكلف عدا مَن شذّ عن السفر، بل الأسفار العديدة، وفي مثله لو كان الوجوب ثابتاً لاشتهر وبان وشاع وذاع ولم يقع محلاً للخلاف، كيف ولم يذهب إليه أحدٌ فيما نعلم، والسيرة العمليّة قائمة على خلافه، فيكون ذلك كاشفاً قطعيّاً عن عدم الوجوب. ولأجله لا مناص من حمل الصحيحة على الاستحباب، وأنّه يتأكَّد في حقّ المسافر؛ لثبوت الاستحباب لغيره أيضاً من باب التعقيب، كما أشار إليه في المتن» (الموسوعة (المستند) 20: 422).

والصحيح أنّ الرواية ضعيفة السند، وليس في الباب عدا روايتين آحاديّتين ضعيفتين سنداً، ولم تثبت وثاقة المروزي على التحقيق؛ لعدم ثبوت المبنى، فالأقرب أنّه لم يثبت حكمٌ وجوبي ولا استحبابي خاصّ بالمسافر هنا، بل يُرجع لعمومات باب التعقيبات، فراجع.

 

في شمول التخيير للقضاء أو اختصاصه بالأداء

([8]) إذ الدليلُ ظاهرٌ في الأداء، وليس له نظر واضحٌ للقضاء، فيبقى القضاء على مقتضى القاعدة، وهو القصر؛ لكونه مسافراً. وقد تقدّم ذلك من الماتن في (المسألة رقم: 722)، من قضاء الصلوات، فراجع.

ونتيجة ذلك أنّه لو فاتته الصلاة خارج المواطن الأربعة ـ قصراً أو تماماً ـ فإنّه يقضيها كما فاتته، قصراً أو تماماً، ولو فاتته في المواطن الأربعة، فإنّه يقضيها قصراً، نعم لو أراد أن يقضي ما فاته في الأماكن الأربعة داخل الأماكن الأربعة، كما لو فاتته صلاة الظهر في مكّة يوم الخميس، فأراد قضاء ما فاته وهو ما يزال في مكّة، فإنّ القول بتعيّن القصر عليه، هو مقتضى الاحتياط الوجوبي، على تقدير القول بفكرة التخيير.

هذا، ولا بأس أن نختم باب السفر بمسألةٍ ابتلائيّة، وهي:

 

حكم سفر المرأة من دون محرم

لا بأس هنا بطرح مسألة ابتلائيّة متعلّقة بالسفر، وهي سفر المرأة، فقد تعرّض الفقهاء المسلمون من أهل السنّة لمسألة سفر المرأة من دون محرم، وقد أفتى جمعٌ من الفقهاء بحرمة ذلك (انظر: الشافعي، الأم 5: 244؛ ومختصر المزني: 222؛ والنووي، المجموع 4: 402)، أما الإماميّة فكان من النادر تعرّضهم لهذا الموضوع، ولهذا فإنّ المعروف بينهم هو الجواز من حيث المبدأ. ومن الذين تعرّضوا له بشكل مطلق الشيخُ المفيد حيث قال: «وليس للمرأة أن تسافر إلا مع ذي محرم لها» (أحكام النساء: 29).

نعم، وقع الحديث عند فقهاء الإماميّة عن حجّ المرأة بلا محرم، والمعروف بينهم عدم اشتراط المحرم (انظر ـ على سبيل المثال ـ: العروة الوثقى 4: 451؛ وشرائع الإسلام 1: 168؛ ومدارك الأحكام 7: 89؛ وجواهر الكلام 17: 330)، بل عند كثير من أهل السنّة أيضاً (انظر ـ على سبيل المثال ـ: ابن قدامة الحنبلي، المغني 3: 190 ـ 191)، لكنّ منعها عن سفر الحج بلا محرم لا يلازم منعها من السفر كذلك مطلقاً؛ إذ لعلّ للحجّ خاصيّته وحكمه التعبّدي، أو لكونه طويلاً جداً واختلاط الناس فيه عظيم، ومحفوفاً بالمخاطر الكبيرة عادةً لا سيما في تلك الأزمنة.

وقد استُند في منع سفر المرأة بلا محرم إلى عدّة روايات مرويّة عن النبيّ‘، وكذلك عن أهل البيت، كما جاءت روايات أخرى عن أهل البيت تجيز سفرها مع رفقةٍ ثقات، أو إذا كانت مأمونة، وهذا ما يفتي به الكثير من فقهاء الشيعة والسنّة بصرف النظر عن خصوصيّة سفر الحجّ، فالعبرة بكون السفر لا يعرّضها للخطر أو للفساد الأخلاقي.

والأقرب بالنظر هو أنّه لم يقم دليل مقنع على حرمة سفر المرأة بلا محرم سواء للحجّ أم لغيره، نعم يشترط أن تكون مأمونةً على نفسها ومالها، بحيث لا يكون في سفرها تعريضُ نفسها للضرر والأذيّة والاعتداء، ولا يلزم منه أيّ محذور شرعي آخر، وعلى هذا استقرّ مذهب الكثير من فقهاء الإسلام، وجمهور فقهاء الإماميّة المعاصرين أيضاً، ويصبح الأمر أكثر وضوحاً مع رضا أهلها أو زوجها.

وبهذا يُعلم أنّ هذا الشرط الذي ذكرناه من قبيل اشتراط العنوان الأوّلي بعدم عروض العنوان الثانوي المحرَّم، فليس عندنا دليل خاصّ على اشتراط سفر المرأة بهذه الموارد، بل هذه الشروط مشترَكة بين الرجل والمرأة، وهي من مصاديق عروض العناوين الأخرى، وإنّما وقع ذكرها من باب كثرة ابتلاء النساء بها، وإمكان فهم بعض النصوص في سياق هذا العنوان الثانوي.

وقد بحثنا بالتفصيل في موضوع سفر المرأة في كتاب (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 2: 304 ـ 320)، فراجع، حتى لا نطيل.