التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة المسافر ـ القسم الثامن)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(14 ـ 10 ـ 2025م)
المقصد الحادي عشر
صلاة المسافر
وفيه فصول:
الفصل الثاني
في قواطع السفر
وهي أمور:
...
الثاني: العزم على الإقامة عشرة أيام متوالية في مكانٍ واحد أو العلم ببقائه المدّة المذكورة فيه وإن لم يكن باختياره، والليالي المتوسّطة داخلة بخلاف الأولى والأخيرة، ويكفي تلفيق اليوم المنكسر من يومٍ آخر، فإذا نوى الإقامة من زوال أوّل يوم إلى زوال اليوم الحادي عشر وجب التمام، والظاهر أنّ مبدأ اليوم طلوع الشمس([1])، فإذا نوى الإقامة من طلوع الشمس فيكفي في وجوب التمام نيتها إلى غروب اليوم العاشر.
مسألة 930: يشترط وحدة محلّ الإقامة، فإذا قصد الإقامة عشرة أيام في النجف الأشرف ومسجد الكوفة مثلاً بقي على القصر([2])، نعم لا يشترط قصد عدم الخروج عن سور البلد، بل إذا قصد الخروج إلى ما يتعلّق بالبلد من الأمكنة، مثل بساتينه ومزارعه ومقبرته ومائه ونحو ذلك من الأمكنة التي يُتعارف وصول أهل البلد إليها من جهة كونهم أهل ذلك البلد، لم يقدح في صدق الإقامة فيها([3])، نعم يشكل الخروج إلى حدّ الترخّص، فضلاً عما زاد عليه إلى ما دون المسافة، كما إذا قصد الإقامة في النجف الأشرف مع قصد الخروج إلى مسجد الكوفة أو السهلة، فالأحوط الجمع ـ حينئذٍ ـ مع الإمكان، وإن كان الأظهر جواز الاقتصار على التمام وعدم منافاة الخروج المذكور للإقامة، إذا كان زمان الخروج قليلاً([4]).
مسألة 931: إذا قصد الإقامة إلى ورود المسافرين، أو انقضاء الحاجة أو نحو ذلك، وجب القصر، وإن اتفق حصوله بعد عشرة أيام([5])، وإذا نوى الإقامة إلى يوم الجمعة الثانية ـ مثلاً ـ وكان عشرة أيام، كفى في صدق الإقامة ووجوب التمام، وكذا في كلّ مقام يكون فيه الزمان محدوداً بحدٍّ معلوم، وإن لم يعلم أنّه يبلغ عشرة أيام؛ لتردّد زمان النية بين سابق ولاحق، وأمّا إذا كان التردّد لأجل الجهل بالآخر كما إذا نوى المسافر الإقامة من اليوم الواحد والعشرين إلى آخر الشهر، وتردّد الشهر بين الناقص والتام وجب فيه القصر، وإن انكشف كمال الشهر بعد ذلك.
مسألة 932: تجوز الإقامة في البرّية، وحينئذ يجب أن ينوي عدم الوصول إلى ما لا يعتاد الوصول إليه من الأمكنة البعيدة، إلا إذا كان زمان الخروج قليلاً، كما تقدّم([6]).
مسألة 933: إذا عدل المقيم عشرة أيّام عن قصد الإقامة، فإن كان قد صلّى فريضةً تماماً بقي على الإتمام إلى أن يسافر، وإلا رجع إلى القصر، سواء لم يصلّ أصلاً أم صلّى مثل الصبح والمغرب، أو شرع في الرباعيّة ولم يتمّها ولو كان في ركوع الثالثة، وسواء أفعل ما لا يجوز فعله للمسافر من النوافل والصوم، أو لم يفعل([7]).
مسألة 934: إذا صلّى بعد نية الإقامة فريضةً تماماً نسياناً أو لشرف البقعة، غافلاً عن نيته، كفى في البقاء على التمام، ولكن إذا فاتته الصلاة بعد نيّة الإقامة فقضاها خارج الوقت تماماً، ثم عدل عنها، رجع إلى القصر([8]).
مسألة 935: إذا تمت مدّة الإقامة لم يحتج في البقاء على التمام إلى إقامة جديدة، بل يبقى على التمام إلى أن يسافر، وإن لم يصلّ في مدّة الإقامة فريضةً تماماً([9]).
مسألة 936: لا يشترط في تحقّق الإقامة كونه مكلّفاً، فلو نوى الإقامة وهو غير بالغ، ثم بلغ في أثناء العشرة، وجب عليه التمام في بقيّة الأيام وقبل البلوغ أيضاً يصلّي تماماً، وإذا نواها وهو مجنون وكان تحقّق القصد منه ممكناً، أو نواها حال الإفاقة ثم جنّ، يصلّي تماماً بعد الإفاقة في بقيّة العشرة، وكذا إذا كانت حائضاً حال النيّة، فإنّها تصلّي ما بقي بعد الطهر من العشرة تماماً، بل إذا كانت حائضاً تمام العشرة يجب عليها التمام ما لم تنشئ سفراً([10]).
مسألة 937: إذا صلّى تماماً، ثم عدل، لكن تبيّن بطلان صلاته، رجع إلى القصر، وإذا صلّى الظهر قصراً ثم نوى الإقامة فصلّى العصر تماماً، ثم تبيّن له بطلان إحدى الصلاتين، فإنّه يرجع إلى القصر، ويرتفع حكم الإقامة، وإذا صلّى بنيّة التمام، وبعد السلام شكّ في أنّه سلّم على الأربع أو الاثنتين أو الثلاث كفى في البقاء على حكم التمام إذا عدل عن الإقامة بعد الصلاة، وكذا يكفي في البقاء على حكم التمام، إذا عدل عن الإقامة بعد السلام الواجب، وقبل فعل المستحبّ منه، أو قبل الإتيان بسجود السهو، ولا يترك الاحتياط فيما إذا عدل بعد السلام وقبل قضاء السجدة المنسيّة([11]).
مسألة 938: إذا استقرّت الإقامة ولو بالصلاة تماماً، فبدا للمقيم الخروج إلى ما دون المسافة، فإن كان ناوياً للإقامة في المقصد، أو في محلّ الإقامة، أو في غيرهما بقي على التمام، حتى يسافر من محلّ الإقامة الثانية، وإن كان ناوياً الرجوع إلى محلّ الإقامة والسفر منه قبل العشرة أتمّ في الذهاب والمقصد، وأمّا في الإياب ومحلّ الإقامة فالأحوط([12]) الجمع بين القصر والتمام فيهما، وإن كان الأظهر جواز الاقتصار على التمام حتى يسافر من محلّ الإقامة([13])، نعم إذا كان ناوياً السفر من مقصده وكان رجوعه إلى محلّ إقامته من جهة وقوعه في طريقه، قصّر في إيابه ومحلّ إقامته أيضاً.
مسألة 939: إذا دخل في الصلاة بنيّة القصر، فنوى الإقامة في الأثناء، أكملها تماماً([14])، وإذا نوى الإقامة فشرع في الصلاة بنيّة التمام فعدل في الأثناء، فإن كان قبل الدخول في ركوع الثالثة أتمّها قصراً، وإن كان بعده بطلت([15]).
مسألة 940: إذا عدل عن نيّة الإقامة، وشكّ في أنّ عدوله كان بعد الصلاة تماماً ليبقى على التمام، أم لا، بنى على عدمها، فيرجع إلى القصر([16]).
مسألة 941: إذا عزم على الإقامة فنوى الصوم، وعدل بعد الزوال قبل أن يصلّي تماماً، بقي على صومه وأجزأ([17])، وأمّا الصلاة فيجب فيها القصر، كما سبق.
الثالث: أن يقيم في مكانٍ واحد ثلاثين يوماً([18]) من دون عزم على الإقامة عشرة أيام، سواء عزم على إقامة تسعة أو أقلّ أم بقي متردّداً، فإنّه يجب عليه القصر إلى نهاية الثلاثين، وبعدها يجب عليه التمام إلى أن يسافر سفراً جديداً([19]).
مسألة 942: المتردّد في الأمكنة المتعدّدة يقصّر، وإن بلغت المدّة ثلاثين يوماً([20]).
مسألة 943: إذا خرج المقيم المتردّد إلى ما دون المسافة، جرى عليه حكم المقيم عشرة أيام إذا خرج إليه، فيجري فيه ما ذكرناه فيه.
مسألة 944: إذا تردّد في مكان تسعة وعشرين يوماً، ثم انتقل إلى مكان آخر، وأقام فيه ـ متردّداً ـ تسعة وعشرين، وهكذا، بقي على القصر في الجميع إلى أن ينوي الإقامة في مكانٍ واحد عشرة أيام، أو يبقى في مكان واحد ثلاثين يوماً متردّداً([21]).
مسألة 945: يكفي تلفيق اليوم المنكسر من يوم آخر هنا، كما تقدّم في الإقامة.
مسألة 946: في كفاية الشهر الهلالي إشكال، بل الأظهر العدم إذا نقص عن الثلاثين يوماً([22]).
الفصل الثالث
في أحكام المسافر
مسألة 947: تسقط النوافل النهاريّة في السفر، وفي سقوط الوتيرة إشكال، ولا بأس بالإتيان بها برجاء المطلوبيّة. ويجب القصر في الفرائض الرباعيّة بالاقتصار على الأوليين منها فيما عدا الأماكن الأربعة، كما سيأتي([23]). وإذا صلاها تماماً، فإن كان عالماً بالحكم بطلت، ووجبت الإعادة أو القضاء، وإن كان جاهلاً بالحكم من أصله ـ بأن لم يعلم وجوب القصر على المسافر ـ لم تجب الإعادة، فضلاً عن القضاء، وإن كان عالماً بأصل الحكم، وجاهلاً ببعض الخصوصيّات الموجبة للقصر، مثل انقطاع عمليّة السفر بإقامة عشرة في البلد، ومثل أنّ العاصي في سفره يقصّر إذا رجع إلى الطاعة ونحو ذلك، أو كان جاهلاً بالموضوع، بأن لا يعلم أنّ ما قصده مسافةٌ ـ مثلاً ـ فأتمّ فتبيّن له أنّه مسافة، أو كان ناسياً للسفر أو ناسياً أنّ حكم المسافر القصر فأتمّ، فإن علم أو تذكّر في الوقت أعاد، وإن علم أو تذكّر بعد خروج الوقت فالظاهر عدم وجوب القضاء عليه([24]).
مسألة 948: الصوم كالصلاة فيما ذكر، فيبطل في السفر مع العلم ويصحّ مع الجهل، سواء أكان لجهلٍ بأصل الحكم أم كان بالخصوصيات أم كان بالموضوع([25]).
مسألة 949: إذا قصّر من وظيفته التمام بطلت صلاته في جميع الموارد، إلا في المقيم عشرة أيام إذا قصّر جهلاً بأنّ حكمه التمام، فإنّ الأظهر فيه الصحّة([26]).
مسألة 950: إذا دخل الوقت وهو حاضر وتمكّن من الصلاة تماماً ولم يصلّ، ثم سافر حتى تجاوز حدّ الترخص والوقت باقٍ، صلّى قصراً، وإذا دخل عليه الوقت وهو مسافر وتمكّن من الصلاة قصراً ولم يصلّ حتى وصل إلى وطنه أو محلّ إقامته، صلّى تماماً، فالمدار على زمان الأداء لا زمان حدوث الوجوب([27]).
مسألة 951: إذا فاتته الصلاة في الحضر قضى تماماً ولو في السفر، وإذا فاتته في السفر قضى قصراً ولو في الحضر، وإذا كان في أوّل الوقت حاضراً وفي آخره مسافراً أو بالعكس، راعى في القضاء حال الفوات، وهو آخر الوقت، فيقضي في الأوّل قصراً، وفي العكس تماماً.
_____________________________
([1]) قلنا عند التعليق على (المسألة رقم: 502) من بحث مواقيت الصلاة، بأنّ الماتن بنى على خلاف المشهور معتقداً أنّ الليل هو ما بين غروب الشمس وطلوعها، وأنّ الصحيح ما ذهب إليه المشهور من أنّ الليل هو ما بين الغروب والفجر، وعليه فمبدأ اليوم هو طلوع الفجر، دون الشمس.
([2]) لظهور النصوص في هذا كلّه.
([3]) إذ معنى الإقامة هو الاستقرار وحطّ الرحال، وهذا لا ينافيه مثل هذه التنقّلات البسيطة حول القرية أو المدينة، والأمر تابع للعرف.
([4]) الأقرب بالنظر إحالة الموقف للعرف في التفاصيل المورديّة، وإن كان ما أفاده الماتن صحيحٌ في الأعم الأغلب.
([5]) لعدم صدق إحراز البقاء عشرة أيّام أو قصد ذلك، وهذا واضح. هذا وسائر تفاصيل هذه المسألة واضحة.
([6]) لعدم أخذ خصوصية القرية أو المدينة في عنوان الإقامة عشرة أيام عرفاً، فالحكم هو الحكم، والتفاصيل المشار إليها يرجع فيها للعرف مصداقاً. نعم لا بد من أن يكون متواجداً في البريّة في موضع محدّد لا متنقلاً بين المواضع المختلفة.
العدول عن نية الإقامة
([7]) مستند هذا التفصيل الذي ذكره الماتن خبرٌ آحادي منفرد، وهو صحيحة أبي ولاد الحنّاط، قال: قلت لأبي عبد الله×: إنّي كنت نويت حين دخلت المدينة أن أقيم بها عشرة أيام، فأتمّ الصلاة، ثم بدا لي بعدُ أن لا أقيم بها، فما ترى لي: أتمّ أم أقصر؟ فقال: «إن كنت حين دخلت المدينة صلّيت بها صلاة فريضة واحدة بتمام، فليس لك أن تقصر حتى تخرج منها، وإن كنت حين دخلتها على نيّتك التمام فلم تصلّ فيها صلاة فريضة واحدة بتمام حتى بدا لك أن لا تقيم، فأنت في تلك الحال بالخيار إن شئت فانوِ المقام عشراً وأتمّ، وإن لم تنوِ المقام فقصّر ما بينك وبين شهر، فإذا مضى لك شهر، فأتمّ الصلاة» (تهذيب الأحكام 3: 221).
لكنّ هذه الرواية معارَضة ـ نوعاً ما ـ بخبر حمزة بن عبد الله الجعفري الضعيف سنداً، قال: لما أن نفرت من منى، نويت المقام بمكّة، فأتممت الصلاة، حتى جاءني خبر من المنزل، فلم أجد بُداً من المصير إلى المنزل، ولم أدر أتمّ أم أقصّر، وأبو الحسن× يومئذ بمكّة، فأتيته فقصصت عليه القصّة، فقال: «ارجع إلى التقصير» (تهذيب الأحكام 3: 222).
ولما كان الدليل آحادياً منفرداً فلا نأخذ به، فنرجع لمقتضى العمومات والمطلقات والقواعد، وهي تقتضي العود إلى القصر مطلقاً بعد عدوله عن قصد الإقامة.
([8]) قد صار الحكم واضحاً بعد الذي علّقناه على (المسألة رقم: 933)، وهو العود إلى القصر بعد العدول مطلقاً.
([9]) عملاً بالعمومات والمطلقات.
([10]) الحكم واضح؛ لانطباق العناوين عليهم بعد نفي خصوصيّة التكليف والبلوغ والطهر وغير ذلك.
([11]) قد صار الحكم واضحاً بعد الذي علّقناه على (المسألة رقم: 933)، وهو العود إلى القصر بعد العدول مطلقاً.
([12]) استحباباً.
([13]) قد يقال: إنّ ما أفاده السیّد الخوئي فیما یتعلّق بالإیاب إلى محلّ الإقامة، من کفایة التمام، إنّما هو مبتنٍ على نفس الخبر الآحادي الذي لم نعمل به (خبر أبي ولاد)، فإنّه حیث اعتبر الإقامة مستقرةً، رأى أنّ الصلاة تکون تماماً حتّى بعد العدول عن قصد الإقامة العشریّة، ما دام المکلَّف لم یخرج بعدُ عن محلّ الإقامة. وأمّا على مبنانا، إذ لم نعوّل على هذا الخبر الآحادي، فبمجرّد العدول عن قصد الإقامة، تکون الصلاة قصراً، حتّى في الرجوع إلى محلّ الإقامة، کما لو رجع لیأخذ أمتعته ثمّ یرحل؛ لأنّ مقتضى العمومات والإطلاقات التي اعتمدنا علیها هو أنّ نفس العدول یستلزم القصر. فالماتن لمّا كان قائلاً بأنّه إذا استقرّت الإقامة ـ بأداء صلاة تامّة ـ ثم عدل المكلّف عن قصد الإقامة، فعليه أن يبقى على التمام ما دام لم يسافر.. طبّق ذلك هنا أيضاً؛ فأفتى بأنّه في طريق العَود إلى محلّ الإقامة يجب عليه التمام، ولا يقصر إلا إذا خرج إلى السفر، لكن حيث لم نقبل بهذا الخبر فإنّنا نرى أنّه في حال الرجوع إلى محلّ الإقامة أيضاً، ما دام قد عدل عن قصد الإقامة، فعليه القصر لا التمام.
([14]) لتبعية الحكم للموضوع.
([15]) لتبعية الحكم للموضوع في الصورة الأولى، ولزيادة الركن في الصورة الثانية.
([16]) هذا مبنيٌّ على موضوع الصلاة التامّة الذي لم نوافق عليه، وعلى أيّة حال، فما أفاده صحيح؛ لأنّ هذا هو مقتضى الجمع بين الوجدان والأصل.
هذا، وقد يحتمل في عبارة الماتن احتمالان:
أ ـ أن يكون المكلّف شاكّاً أساساً في أنّه هل صلّى تماماً أم لا؟ ففي هذه الصورة يكون الأصل ـ كما قلنا ـ هو عدم الإتيان بالصلاة تماماً.
ب ـ أن يعلم المكلّف بأنّه صلّى تماماً، لكن لا يدري أيّهما كان بعد الآخر: العُدول أو الإتيان بالصلاة تماماً؟ وهنا يقال بأنّ ذلك مرتبط باستصحاب توارد الحالتين وتعارض الاستصحابين.
([17]) على قاعدة أنّه بحكم المسافر بعد الزوال.
([18]) سيأتي الحديث عن موضوع الشهر القمري أو الثلاثين يوماً، وذلك عند التعليق على (المسألة رقم: 946)، فانتظر.
([19]) ذلك كلّه للنصوص العديدة الواردة، وفيها الصحيح سنداً، والتي لا معارض لها، مع تعزّزها بالشهرة والإجماعات.
([20]) لظهور الأدلّة في وقوع التردّد ـ وما هو مثله ـ في مكانٍ واحد.
([21]) كما اتضح آنفاً.
في أنّ المعيار هل هو الثلاثون يوماً أو الشهر الهلالي؟
([22]) لا لأنّ الدليل دلّ على الثلاثين فقط، بل أغلب النصوص ورد فيها تعبير الشهر والمراد به الشهر القمري، الذي قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعة وعشرين، فلو بقينا نحن وهذه النصوص ربما لزم الأخذ بمفهوم الشهر، فلو سافر في بداية الشهر انتظر حتى هلال الشهر القادم، حتى لو بلغ الشهر تسعةً وعشرين يوماً، ولو سافر في صبح العاشر من شهر ذي الحجّة، فإنّه ينتهي بنهاية التاسع من محرّم، سواء كان ذي الحجّة عبارة عن ثلاثين يوماً أم كان تسعة وعشرين.
لكنّ المشكلة أنّ بين النصوص هنا رواية واحدة هي رواية أبي أيوب التي صحّحوها، فهي صريحة في تعبير الثلاثين يوماً، حيث جاء فيها بأنّه سأل محمد بن مسلم أبا جعفر× ـ وأنا أسمع ـ عن المسافر إن حدّث نفسه بإقامة عشرة أيام، قال: «فليتمّ الصلاة، فإن لم يدرِ ما يقيم يوماً أو أكثر، فليعدّ ثلاثين يوماً، ثمّ ليتم، وإن كان أقام يوماً أو صلاة واحدة»، فقال له محمّد بن مسلم: بلغني أنّك قلت خمساً، فقال: «قد قلت ذاك»، قال أبو أيوب: فقلت أنا: جعلت فداك، يكون أقلّ من خمسة أيّام؟ فقال: «لا». وعلّق الطوسي هنا قائلاً: «قال محمّد بن الحسن: ما يتضمّن هذا الخبر من الأمر بالإتمام إذا أراد مقام خمسة أيّام محمولٌ على أنّه إذا كان بمكّة أو بالمدينة» (تهذيب الأحكام 3: 219 ـ 220؛ وانظر: الكافي 3: 436).
فهذه الرواية بينها وبين روايات الشهر تعارضاً، وكلّ واحدة منها تنافي الأخرى في موضع، وقد ذهب السيد الماتن إلى تساقطهما في موضع التعارض، وهو اليوم الثلاثين على تقدير كون الشهر الهلالي تسعة وعشرين، فيُرجع لعمومات القصر، وتكون النتيجة هو استمرار القصر ثلاثين يوماً للمتردّد (المستند (الصلاة)، الموسوعة 20: 343 ـ 435).
والصحيح ما أفاده الماتن ليس لخصوصيّة ما ذكره، بل لعملنا بالمنهج الانضمامي، حيث نأخذ القدر المتيقّن من مفاد النصوص، وهو أنّه بعد الثلاثين يوماً يكون حكمه التمام، وقبل تسعة وعشرين يوماً يكون حكمه القصر، أمّا ما بينهما فلم يثبت كونه تماماً أو قصراً، فهذه المجموعات من النصوص لا تفيد شيئاً هنا، فيرجع للأدلّة العامّة، وهي إطلاقات القصر للمسافر.
وقد يناقش كلامنا بمناقشات واستفهامات:
أوّلاً: إنّ تعبير "الشهر" مما لا يمكن فهمه في سياق الثلاثين يوماً، فكيف يمكن تفسير استخدام هذا التعبير مراراً في النصوص مع كون المأخوذ هو الثلاثون؟
والجواب: إنّ إطلاق الشهر وإرادة الثلاثين ليس غريباً، فنحن اليوم حتى في الأشهر الشمسيّة نستخدم الشهر، وينصرف الذهن إلى الثلاثين يوماً، بل نمثّل للثلاثين يوماً بالشهر، رغم أنّ في هذه الأشهر ما هو واحد وثلاثين يوماً.
ثانياً: إنّه لو تردّد المكلّف من اليوم العاشر من الشهر الجاري، فإنّه في العاشر من الشهر القادم سيبدأ بالإتمام، فلماذا لا نقول هكذا بغضّ النظر عن موضوع الثلاثين يوماً، فيكون المعيار هو مضيّ شهر، وهو معيار أدقّ بالنسبة إلى العرف؛ إذ الباعة والتجّار والأجور والرواتب كلّها تقوم على هذه الطريقة عرفاً، لا على احتساب الثلاثين وأمثالها، وعليه لا يمكن معارضة ذلك برواية آحادية قد تكون تطبيقاً لما ذكرناه؛ لكون الشهر الذي كان فيه المكلّف قد صادف أنّه ثلاثين يوماً، وقد بدأ الشهر الثاني من بعده، فسأل الإمام حينها ـ حين بدأ الشهر الثاني ـ فأجابه وفق الموضوع الحالي، ويعزّز ذلك بعدم تكرار رقم الثلاثين في أيّ رواية أخرى.
والجواب: إنّنا لا نتكلّم عن المعارضة برواية آحاديّة حتى نقدّم هذه الرواية على تلك الروايات، بل نتكلّم وفق المنهج الانضمامي والقدر المتيقّن من مجموع النصوص بعد تعارضها، والمفروض أنّه 29 يوماً، مضافاً إلى أنّ الشهر ليس أدقّ من ثلاثين، بل بالعكس؛ لأنّ الشهر قد يزيد (30 يوماً)، وقد ينقص (29يوماً)، فلو كان الشروع بداية الشهر فلا يعلم أنّ نهايته ثلاثون أو تسعة وعشرون يوماً.
وقد قلنا آنفاً بأنّنا لولا رواية الثلاثين لكان الأصحّ الأخذ بفكرة الشهر، لكنّ المشكلة في احتماليّة أن كلمة "شهر" تنصرف في العادة إلى ثلاثين يوماً، ومع وجود هذه الاحتماليّة ـ ولسنا نقطع بها ـ يقع الشك، وما يدفع لهذه الاحتماليّة ويقوّيها هو رواية الثلاثين فيما هو المقصود من تعبير الشهر؛ لاحتمال أنّ المقصود منه ثلاثين يوماً، فلو قلت: اليوم بقيت في كندا شهراً كاملاً، فإنّه من الممكن جداً أن تقصد الثلاثين يوماً، ومن الممكن أنّك تقصد واحداً وثلاثين يوماً، وفقاً للأشهر الشمسيّة، واحتماليّة أنّك تقصد 28 يوماً نتيجة شهر شباط/فبراير ضئيلة، فمع قوّة احتمال قصد الثلاثين نتّبع المنهج الانضمامي؛ لأنّ رواية الثلاثين عزّزت الشكّ في دلالة كلمة "الشهر" في سائر النصوص.
ثالثاً: إنّه على مبنى عدم حجيّة الخبر الواحد الظنّي، لا يكون مثل هذا الخبر كافياً لمعارضة الروايات الكثيرة؛ فإنّ الروايات الواردة بتعبير «شهر» كثيرة، وفي المقابل ليس عندنا إلا رواية مصحَّحة واحدة ورد فيها لفظ «ثلاثين»، فكيف تصبح هذه الرواية الواحدة، وهي في نفسها فاقدة للاعتبار، معارضةً أو شارحةً لسائر الروايات؟! والعمل بالمسلك الانضمامي فرعُ الاعتبار في الأحاديث المنضمّة لبعضها؛ فإنّ الدليل في المسلك الانضمامي إنّما يُلحظ إذا كان إمّا معتبَراً في نفسه أو صالحاً لهدم اعتبار سائر الأدلّة.
والجواب: إنّ المسلك الانضمامي يجري تطبيقه هنا، بمعنى ما هي الدائرة المتيقّنة من مجموع النصوص المعتبرة وغيرها؟ وسبب استعمال هذا المسلك هنا هو احتماليّة إرادة الثلاثين يوماً من "الشهر"، وهي احتمالية قَوَّتها روايةُ الثلاثين، مع كون هذا الاحتمال قائماً في نفسه لولاها، لكنّها قوّته، ففرضت علينا الأخذ بالقدر المتيقّن، وهو أنّ ما دون 29 فهو قصر، وما فوق 30 تمام، وما بينهما نحتمل القصر، كما لو جاء الشهر 29 يوماً، فصدق عنوان الشهر ولم يصدق عنوان 30، ونحتمل التمام؛ لاحتمال كون المنظور من الشهر هو الأعم من وقوعه 29 أو 30، واتفق أن كان 29 يوماً، فنأخذ بالقدر المتيقّن.
([23]) قد تقدّم مطلع البحث في صلاة المسافر حكم كون القصر رخصة أو عزيمة وقد رجّحنا مشهور الفقه الإمامي والحنفي، من أنّه عزيمة وليس برخصة، فراجع. وأمّا أماكن التخيير الأربعة، فسيأتي الحديث عنها ـ إن شاء الله ـ عند التعليق على (المسألة رقم: 952).
حكم الصلاة تماماً على من وجب عليه الصلاة قصراً، صور وحالات
([24]) هنا عدّة صورة:
الصورة الأولى: أن يصلّي من وجب عليه القصر تماماً، عن علم بالحكم والموضوع، فهنا لا إشكال في عدم الإجزاء؛ لعدم انطباق المأتي به على المأمور به، حتى لو سلّمنا إمكان انعقاد قصد القربة بالنسبة إليه، فيجب عليه الإعادة والقضاء في مورد وجوب القضاء.
الصورة الثانية: أن يصلّي من وجب عليه القصر تماماً عن جهل، وهذه الصورة لها حالات:
الحالة الأولى: أن يكون جاهلاً بأصل الحكم بوجوب القصر على المسافر، وهنا حكم الماتن بعدم وجوب الإعادة ولا القضاء، عملاً برواية زرارة ومحمد بن مسلم.
لكنّ الصحيح أنّه يجب عليه الإعادة؛ عملاً بمقتضى القاعدة من جهة أولى، وبنحوٍ ما برواية العيص من جهة ثانية، وأمّا رواية زرارة ومحمّد بن مسلم، فقد كانت لنا معها وقفات في بحث دلالة الآية القرآنيّة على حكم صلاة المسافر، فراجع، حيث قلنا بأنّ هذه الرواية تشتمل على مواضع من الغموض والالتباس، فلا يمكن الوثوق بها، أمّا القضاء فلا يجب عليه؛ لعدم إحراز وجوبه؛ إذ لا يعلم شمول دليل القضاء لمن صلّى عن جهلٍ تامّ هنا.
الحالة الثانية: أن يكون عالماً بأصل الحكم بوجوب القصر على المسافر، جاهلاً ببعض الخصوصيّات الموجبة للقصر، مثل انقطاع الحكم بقصد إقامة عشرة أيام، وهنا حكم الماتن بوجوب الإعادة لو علم أثناء الوقت، وعدم وجوب القضاء لو علم بعده.
الحالة الثالثة: أن يكون عالماً بالحكم، جاهلاً بالموضوع، بأن لا يعلم أنّ ما قصده مسافة خارجاً. وهنا حكم الماتن أيضاً بوجوب الإعادة لو علم أثناء الوقت، وعدم وجوب القضاء لو علم بعده.
الصورة الثالثة: أن يكون عالماً بالحكم والموضوع، لكنّه نسيهما أو نسي أحدهما، وهنا أيضاً حكم الماتن بوجوب الإعادة لو تذكّر أثناء الوقت، وعدم وجوب القضاء لو تذكّر بعده.
وما أفاده الماتن في الحالتين الثانية والثالثة من الصورة الثانية، وكذا في الصورة الثالثة بشقّيها، صحيح ـ وفق ما قلناه آنفاً ـ للسبب عينه، فلا نعيد.
([25]) يجري فيه ما قلناه آنفاً، فلا نعيد، بل ثمة نصوص أخرى معزّزة في باب الصوم، فراجع.
حكم الصلاة قصراً على من وجب عليه الصلاة تماماً، صور وحالات
([26]) الأصحّ هو أنّ الأحكام التي قلناها في الصور والحالات المتعدّدة فيمن أتمّ في موضع القصر، تجري بعينها فيمن قصّر في موضع الإتمام، ومستندنا مقتضيات القاعدة، أمّا ما استثناه الماتن فدليله آحادي منفرد، وهو رواية منصور بن حازم، عن أبي عبد الله×، قال: سمعته يقول: «إذا أتيت بلدة فأزمعت المقام عشرة أيام، فأتمّ الصلاة، فإن تركه رجل جاهل فليس عليه إعادة» (تهذيب الأحكام 3: 221).
([27]) لأنّ هذا هو مقتضى العمومات والقواعد، أمّا النصوص الخاصّة فمتعارضة تعارضاً شديداً غير قابل للجمع العرفي ـ وفاقاً للماتن في بحوثه الاستدلاليّة ـ فتتساقط، ويُرجع لمقتضى القواعد والعمومات والمطلقات، فما أفاده في المتن أعلاه هو الصحيح.