التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة المسافر ـ القسم السابع)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(7 ـ 10 ـ 2025م)
المقصد الحادي عشر
صلاة المسافر
وفيه فصول:
...
الفصل الثاني
في قواطع السفر
وهي أمور:
الأوّل: الوطن، والمراد به المكان الذي يتخذه الإنسان مقرّاً له على الدوام لو خلّي ونفسه، بحيث إذا لم يعرض ما يقتضي الخروج منه لم يخرج، سواء أكان مسقط رأسه أم استجدّه، ولا يعتبر فيه أن يكون له فيه ملك، ولا أن يكون قد أقام فيه ستة أشهر([1]).
مسألة 924: يجوز أن يكون للإنسان وطنان، بأن يكون له منزلان في مكانين كلّ واحد منهما على الوصف المتقدّم، فيقيم في كلّ سنة بعضاً منها في هذا، وبعضها الآخر في الآخر، وكذا يجوز أن يكون له أكثر من وطنين([2]).
مسألة 925: الظاهر أنّه لا يكفي في ترتيب أحكام الوطن مجرّد نيّة التوطّن، بل لا بدّ من الإقامة بمقدار يصدق معها عرفاً أنّ البلد وطنه([3]).
مسألة 926: الظاهر جريان أحكام الوطن على الوطن الشرعي، وهو المكان الذي يملك فيه الإنسان منزلاً قد استوطنه ستة أشهر، بأن أقام فيه ستّة أشهر عن قصد ونيّة، فيتمّ الصلاة فيه كلّما دخله([4]).
مسألة 927: يكفي في صدق الوطن قصد التوطّن ولو تبعاً، كما في الزوجة والعبد والأولاد([5]).
مسألة 928: إذا حدث له التردّد في التوطّن في المكان بعدما اتخذه وطناً ـ أصليّاً كان أو مستجداً ـ ففي بقاء الحكم إشكال، والأظهر البقاء([6]).
مسألة 929: الظاهر أنّه يشترط في صدق الوطن قصد التوطّن فيه أبداً، فلو قصد الإقامة في مكان مدّة طويلة وجعله مقرّاً له ـ كما هو ديدن المهاجرين إلى النجف الأشرف، أو غيره من المعاهد العلميّة؛ لطلب العلم قاصدين الرجوع إلى أوطانهم بعد قضاء وطرهم ـ لم يكن ذلك المكان وطناً له، نعم هو بحكم الوطن يتمّ الصلاة فيه([7])، فإذا رجع إليه من سفر الزيارة ـ مثلاً ـ أتمّ وإن لم يعزم على الإقامة فيه عشرة أيام، كما أنّه يعتبر في جواز القصر في السفر منه إلى بلدٍ آخر أن تكون المسافة ثمانية فراسخ امتداديّة أو تلفيقيّة، فلو كانت أقلّ وجب التمام، وكما ينقطع السفر بالمرور بالوطن ينقطع بالمرور بالمقرّ.
تنبيه: إذا كان الإنسان وطنه النجف مثلاً، وكان له محلّ عمل في الكوفة يخرج إليه وقت العمل كلّ يوم ويرجع ليلاً، فإنّه لا يصدق عليه عرفاً ـ وهو في محلّه ـ أنّه مسافر، فإذا خرج من النجف قاصداً محلّ العمل وبعد الظهر ـ مثلاً ـ يذهب إلى بغداد، يجب عليه التمام في ذلك المحلّ وبعد التعدّي من حدّ الترخص منه يقصّر، وإذا رجع من بغداد إلى النجف ووصل إلى محلّ عمله أتمّ، وكذلك الحكم لأهل الكاظميّة إذا كان لهم محلّ عمل في بغداد، وخرجوا منها إليه لعملهم، ثمّ السفر إلى كربلاء مثلاً، فإنّهم يتمّون فيه الصلاة ذهاباً وإياباً، إذا مرّوا به.
_______________________
الوطن، مفهومه وتعريفه وتأثيره على أحكام السفر
([1]) هنا أمور:
1 ـ ما أفاده الماتن صحيح؛ لعدم صدق المسافر على من دخل وطنه بهذين المعنيين للوطن. وظاهرُ الإطلاقات عدم الفرق بين كونه له فيه ملك وعدمه أو كونه أقام فيه ستة أشهر وعدمه، والمرجع العرف.
2 ـ إنّ القصد ليس مجوهِراً للوطنيّة دوماً، وإن كان له دور في بعض الموارد في تحقيق الصدق العرفي للوطن، بل الصدق الخارجي العرفي هو المعيار وهو الذي قد يتحقّق بدون قصد أحياناً، وقد لا يتحقّق أحياناً أخرى إلا مع القصد، فلو فرضنا أنّه لم يقصد اختياراً أن يكون هذا المكان وطناً له، بحيث لو خلّي ونفسه لم يبقَ فيه، لكنّه كان يعلم بأنّه سيبقى فيه بقية عمره ما لم يطرأ طارئ استثنائي، جرى حكم الوطن عليه مع صدق ذلك عرفاً في حقّه، وسوف يأتي ما يرتبط بذلك عند التعليق على (المسألتين رقم: 927 ـ 928).
نقد فكرة الوطن الأصلي بمعنى موطن الآباء والأجداد
3 ـ إنّ مجرّد كون مكانٍ ما هو موطن آبائه أو أجداده ـ ممّا يسمّونه أحياناً بالوطن الأصلي ـ دون أن يكون له فيه استقرار دائمي أو يُنسب إليه بوصفه وطناً له ومستقرّاً، لا قيمة له، فلو فرضنا أنّ وطنه هو مدينة بنت جبيل في جنوب لبنان، بمعنى أنّه وطن آبائه، لكنّ والده وُلد في الولايات المتحدة الأمريكيّة، فضلاً عنه هو، ولم يأتيا إلى لبنان في حياتهما ولو مرّة واحدة، ومضى على ذلك عقود من الزمن، فإنّ مجرّد أنّ بنت جبيل هي موطن آبائه لا يكفي في صدق عنوان الوطن عليه بالمعنى المقصود هنا، رغم اشتهار هذا الأمر بينهم؛ إذ المعيار في الوطنيّة غير واضح هنا لغةً، وعلينا التدقيق في المدلول اللغوي العربي للكلمة، لا في إطلاقاتها اليوم، إذ يطلق تعبير الوطن اليوم على ما يعلم قطعاً أنّه ليس وطناً لغةً وعرفاً عند العرب في أدبيّاتهم القديمة، مثل أن يقال: إنّ وطني سوريا أو لبنان أو باكستان، فإنّ هذه البلدان ليست أوطاناً في اللغة العربيّة الأصليّة، فانتبه جيداً. فالمراد بالوطن هنا هو المكان الذي توطّن فيه الإنسان واستقرّ فيه وكانت فيه سكونته.
وقد تسأل: ألا يعني اعتبار الوطن أمراً عرفيّاً تغيّرَ تعريفه مع تغيّر الزمان والمكان بما يناسب أهله، فقد يكون الوطن في الزمن الماضي بمعنى، لكنّ معناه تغيّر مع تغيّر كثيرٍ من العوامل المحيطة؟
والجواب: لقد وقع خلطٌ هنا بين المعنى واللفظ والمصداق، والكلمة هنا هي سبب هذا الالتباس، فنحن نبحث عن معنى كلمة الوطن في اللغة العربيّة، ثم ننظر في مصاديقها اليوم، لا أنّنا نبحث عن معنى جديد لها اليوم، والوطن في اللغة العربيّة في زمان النزول والصدور هو المكان الذي يتوطّنه الإنسان ويستقرّ فيه ليقضي فيه عمره، فعندما نعطي العرفَ هذا المعنى اللغوي ليبحث في مصاديقه فإنّه لن يقول لنا: إنّ العراقَ هو وطن السيد محمد باقر الصدر، بمعنى المكان الذي يستقرّ فيه، بل النجف وطنه، نعم يمكن أن يقول ذلك، لكن بمعنى آخر للوطن غير ما هو في أصل اللغة العربيّة زمانَ الصدور والنزول، فانتبه حتى لا يختلط الأمر عليك بين اللفظ والمعنى والمصداق. كما أنّه قد تختلف الأعراف في اعتبار شخص متوطّناً في مكان ما، وفقاً للمدّة التي يقضيها، ولا بأس أيضاً في ذلك.
هل مجرّد المرور في الوطن يقطع السفر؟
4 ـ لا بدّ هنا من التنبيه على أمرٍ مهم، وهو أنّ العودة إلى وطنه أو نزول المسافر في وطنه يوجب قطع حكم القصر بالنسبة إليه، لكن ماذا لو مرّ على وطنه مروراً بحيث لم ينزل إطلاقاً ولم يتوقّف فيه، بل صادف أنّ سفراً له يوجب مروره في مدينته، فهل تترتّب أحكام الوطن هنا؟
الأقرب بالنظر إلى النصوص ومناسبات الحكم والموضوع فيها، أنّه لا ينقطع السفر بذلك، ولا سيّما على مبانينا في ملاكيّة المشقّة النوعية، إذ قيامة النصوص على عوده لوطنه أو نزوله فيه، وهي غير واضحة في الشمول لحالة مجرّد المرور، فراجعها وانتبه؛ لهذا يُرجع لعمومات القصر، وإن كان الأحوط استحباباً الجمع بين القصر والتمام في وطنه عند مجرّد المرور فيه. وقد رأينا أنّ بعضاً قليلاً من الفقهاء تنبّه لهذا الأمر، ومن بينهم السيد علي السيستاني الذي يرى أنّ مجرد المرور يوجب الاحتياط اللزومي بالجمع عنده بين القصر والتمام (السيستاني، منهاج الصالحين 1: 331).
([2]) ذلك كلّه؛ لعدم صدق عنوان المسافر عليه، بل وصدق الوطن عليه كذلك.
([3]) وذلك أنّ العرف لا يرى مجرد النيّة مع عدم استقراره ولا لأيّ لحظة في ذلك المكان، كافياً في صدق عنوان الوطن أو في سلب عنوان المسافر عنه، ومن الأفضل للفقهاء تقديم القاعدة الكليّة هنا وعدم الدخول في هذه التفاصيل التي مرجعها العرف، بل تحال إليه في صدق العناوين أو عدم صدقها، وربما تختلف وتتخلّف.
الوطن الشرعي، مفهومه وحكمه
([4]) هنا نقطتان:
1 ـ في الفرق بين الوطن الاتخاذي المستجدّ والوطن الشرعي
بدايةً لا بد لنا من فهم الفرق بين الوطن الاتخاذي المستجدّ والوطن الشرعي في أحكام المسافر، حيث قد يقال بأنّ النص الأوّل للماتن الذي تحدّث فيه عن الوطن، ينافي نصّه في هذه المسألة أعلاه، بمعنى أنّه ما هو الفرق بين الوطن المستجدّ والوطن الشرعي، حتى لم يشترط الماتن في النصّ الأوّل فيما يخصّ الوطن الاتخاذي المستجدّ وجود ملك ولا إقامة ستة أشهر، بينما أشار في النصّ الثاني إلى مسألة الملك ومسألة الإقامة ستة أشهر؟
والجواب هو أنّه ليس هناك تنافٍ بين النصّين:
أ ـ ففي الأوّل يكون معنى الوطن هو المكان الذي يحصل قصدٌ لجعله وطناً، بحيث يُقصد الاستقرار فيه على الدوام على أساس أنّه لو خُلّي فلن يتركه، فأنت الآن تتجه إلى بيروت لتستأجر منزلاً وتقصد منذ اليوم الأوّل لنزولك إلى بيروت أن تستقرّ في هذه المدينة ويكون استقرارك إلى الأبد، بحيث تقول في نفسك وتستقرّ على ذلك نيّتُك بأنّني لن أخرج من التوطّن في بيروت ـ والتي هي ليست مسقط رأسي ولا منزل أجدادي ـ إلا إذا طرأ طارئ قهريّ يفرض عليّ ذلك، وهذا الطارئ القهري لا يظهر الآن في حدود أفقي المستقبلي، فبيروت هنا وطنٌ مستجدّ، وقد أخذت وطنيّتها لا من وجود ملك فيها، ولا من استقرارك فيها ستة أشهر، فأنت لم تنزل فيها حتى الآن إلا لخمسة أشهر مثلاً، بل لوجود قصد التوطّن الدوامي فيها بحيث لن يعرض عنها إلا بظرف قاهر، مع قيد ذكره السيد الماتن بعد ذلك ـ ولم يقبل به بعض الفقهاء ـ وهو تحقّق التوطن مدّةً قد تكون أقلّ من ستة أشهر وقد تزيد، بحيث يصدق معها ـ إلى جانب نيّة التوطن الدوامي ـ أنّك صرت من أبناء بيروت، بمعنى من سكّانها المستقرّين فيها على الدوام، بحيث لن يتركوها.
ب ـ أمّا النص الثاني، فهو الوطن الشرعي، وفي هذا الوطن أنت لا تقوم بقصد التوطّن الدوامي والاستقرار في بيروت، بل كلّ ما في الأمر أنّك اشتريت منزلاً هناك، وسكنت فيه لمدّة ستة أشهر، فهذا ليس وطناً عرفاً حيث لا وجود لقصد التوطّن، لكنّه وطنٌ شرعاً تجري عليه أحكامه مادام هذا المنزل الملكي موجوداً.
فالنسبة في الحقيقة بين الوطن الشرعي والعرفي أنّ الوطن العرفي أخذ فيه نيّة الدوام أو قيّد بكونه مسقط رأسه وأسرته، وهذا التقييد ـ أعني الدوام، ويسمّيه بعضهم الوطن الدائم، أو كونه مسقط رأسه وموطن أسرته، ويسمّيه بعضهم الوطن الأصلي ـ غير موجود في الوطن الشرعي، والموجود في الوطن الشرعي هو تقييد آخر غير موجود بدوره في الوطن العرفي، وهو وجود مِلك مع فعليّة استقراره لمدّة ستة أشهر متواصلة، وهذان القيدان لا يشترطان في الوطن العرفي فقد يكون لك مكان تستأجره بقصد الإقامة الدائمة فيه، ولا ملك، وقد تكون النية منعقدة على التوطّن في هذا المكان فتسكن فيه خمسة أشهر فقط فيصدق عنوان التوطّن، فبين الوطنين تمايزٌ من هذه النواحي.
كما أنّ الوطن الاتخاذي أو المستجد يمكن فيه الإعراض، ويكون مؤثراً في سقوط الوطنية والتمام، بينما الوطن الشرعي يبقى محكوماً بالوطنية ولو أعرض عنه ما دام ملكه ما يزال فيه، وهذه نقطة امتياز أخرى أيضاً.
كما أنّ الوطن الاتخاذي يشترط فيه قصد التوطّن الدائم كي يصبح وطناً بينما الوطن الشرعي عند السيد الماتن لا يشترط فيه قصد التوطّن الدائم، بل يكفي فيه قصد الاستقرار لستة أشهر فقط، مع التحقّق الفعلي لهذا الاستقرار الكائن في ملكه.
وخلاصة القول: إنّ الفرق بين الوطنين من نواحٍ، أهمّها:
1 ـ في الوطن الاتخاذي أو المستجدّ يشترط قصد التوطّن الدائم، ولا يشترط ذلك في الوطن الشرعي.
2 ـ في الوطن الاتخاذي تسقط الوطنيّة بالإعراض، ولا تسقط في الوطن الشرعي بمجرّد هذا الإعراض.
3 ـ في الوطن الاتخاذي لا يشترط وجود ملك للمستوطن، بل يكفي ولو الاستئجار، بينما في الوطن الشرعي يشترط الملك، فلو زال الملك زالت الوطنيّة الشرعيّة.
4 ـ في الوطن الاتخاذي لا يشترط ـ بعد قصد التوطّن ـ إلا صدق التوطّن الفعلي على رأي مثل السيد الماتن، وليس هناك مدّة زمنية لذلك بل تتبع العرف، أمّا في الوطن الشرعي فلا بدّ من ستة أشهر متواصلة لتترتّب أحكامه عليه.
2 ـ في أصل ثبوت الوطن الشرعي وعدمه
قلنا بأنّ الوطن الشرعي مفهومٌ مغاير لمفهوم الوطن العرفي عندهم، والمستند الأساس في ثبوت وطن بهذا المعنى ـ مع عدم صدق عنوان الوطن العرفي عليه ـ هو صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن أبي الحسن×، قال: سألته عن الرجل يقصّر في ضيعته؟ فقال: «لا بأس، ما لم ينوِ مقام عشرة أيّام، إلا أن يكون له فيها منزل يستوطنه»، فقلت: ما الاستيطان؟ فقال: «أن يكون له فيها منزلٌ يقيم فيه ستة أشهر، فإذا كان كذلك يتمّ فيها متى يدخلها(دخلها)» (تهذيب الأحكام 3: 213؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 1: 451).
فهذه الرواية فسّرت الاستيطان بأن يكون له منزل يقيم فيه ستّة أشهر، وعملاً بمفادها وإطلاقها يُحكم بالوطنيّة ولو لم يصدق عليه عنوان الوطن العرفي.
وناقش العديد من العلماء هنا ـ مثل المحقّق الهمداني والسيد محسن الحكيم ـ بأنّ هذه الرواية ليست ناظرة لتأسيس وطن اعتباري جديد شرعاً، بل هي حاكية عن الوطن العرفي، فهذا الشخص لديه بيت يقيم فيه ستة أشهر، وصيغة المضارع في الرواية تفيد المواصلة، فيصدق عليه عنوان الوطن العرفي المستجدّ عليه.
لكنّ السيد الماتن ناقش في ذلك في أبحاثه الاستدلاليّة، فقال: «الظاهر أنّ ما فهمه المشهور من دلالة الصحيحة على ثبوت الوطن الشرعي هو الصحيح، وأنّ الإمام× بصدد بيان معنى آخر للوطن غير العرفي. ولو فرضنا أنّ ابن بزيع لم يسأل، لكان عليه× البيان والتوضيح، وقد التفت ابن بزيع إلى أنّه معنى آخر، ولذلك سأل واستوضح. بيان ذلك أنّ الإمام× لما أجاب أولاً بقوله: لا بأس، ما لم ينو مقام عشرة أيّام، استثنى عن ذلك بقوله×: إلا أن يكون له، أي لصاحب الضيعة فيها، أي في الضيعة منزل يستوطنه، أي يستوطن المنزل ـ على ما يقتضيه تذكير الضمير ـ وهذا، أعني استيطان المنزل، أمرٌ لا يعرفه أهل العرف ولم يكن معهوداً عند ابن بزيع ولا عند غيره، ضرورة أنّ المتعارف من مفهوم الاستيطان لدى الإطلاق، إنّما هو استيطان البلد أو القرية أو الضيعة، لا استيطان المنزل، إذ لا يتوقّف التوطّن بحسب مفهومه العرفي على وجود منزل للمتوطّن، فضلاً عن الإقامة فيه، فلو فرضنا أنّ شخصاً لم يكن له منزل أصلاً، بل يعيش في الطرق والشوارع العامة أو يكون ضيفاً أو كلاً على غيره في بلدة طيلة حياته، لا شكّ أنّ ذاك البلد وطنه ومسكنه. ولأجل هذه الجهة ـ والله العالم ـ التفت ابن بزيع إلى أنّه× بصدد بيان معنى آخر للوطن، فسأله متعجّباً بقوله: ما الاستيطان؟ نظراً إلى أنّ وجود المنزل غير لازم في الوطن العرفي جزماً، وعلى تقديره لا يعتبر الإقامة فيه قطعاً، وقد اعتبر الإمام× كلا الأمرين بمقتضى لام التمليك، في قوله×: إلا أن يكون له..الخ، وتذكير الضمير في قوله: يستوطنه، فلأجل ذلك احتاج إلى السؤال والاستيضاح؛ لعدم كون الوطن بهذا المعنى معهوداً عنده ولا عند غيره من أهل العرف والمحاورة كما عرفت. ففسّر× مراده من الاستيطان وأوضحه بقوله×: أن يكون فيها، أي في الضيعة، منزل يقيم فيه، أي في المنزل ستة أشهر، وأنّه متى تحقّق ذلك يتم فيها، أي في الضيعة متى دخلها وإن لم يدخل منزله. ولأجل ذلك جعل الضمير في قوله×: يقيم فيه، مذكّراً، وفي قوله×: يتمّ فيها، مؤنّثاً، إيعازاً إلى أنّ الاستيطان والإقامة في المنزل ستّة أشهر موضوعٌ للتمام متى دخل الضيعة وإن لم يدخل منزله، وبذلك تصبح تلك الضيعة وطنه الشرعي، وهذا كما ترى معنى آخر للوطن غير العرفي..» (المستند (الصلاة)، الموسوعة 20: 244 ـ 248).
وفيما ذكره السيد الماتن وجهٌ معقول، وإن كان لدينا بعض الملاحظات، لكنّ المستند هنا آحادي منفرد جداً، بل القضيّة ليست نادرة الابتلاء، فكيف لا يوجد فيها إلا رواية واحدة جاء السؤال فيها بالعرض، ولولاه لما بيّنَ الإمامُ الحكمَ، فالقول بالوطن الشرعي محلّ إشكالٍ شديد، وفاقاً للعديد من الفقهاء.
حكم التابعين في الوطن وحدود التبعيّة
([5]) هنا أمور:
1 ـ قد أشرنا إلى أنّ القصد لوحده غير كافٍ في صدق الوطنيّة، بل العبرة بالصدق العرفي الخارجي، فلو صدق على التابعين أنّ هذا المكان هو وطن لهم، ولو لم يريدوا ذلك، جرت أحكام الوطن عليهم. هذا وقد يقصد الماتن من "القصد" هنا العلمَ والإحراز بالبقاء، فيرتفع الإشكال.
2 ـ إنّ المراد من التابعين ليس مطلق من يكونون من عيال الرجل، بل لا بدّ أن يكونوا تابعين له في السكن، فلو فرضنا أنّ الولد الذي يعتمد في معيشته في السكن الجامعي على أهله، وانفصل عنهم واستقرّ في السكن الجامعي في مدينة فاس في المغرب، فيما سافروا هم من موطنهم الأصلي(طنجة) إلى مدينة الدار البيضاء، وجعلوها موطناً مستجدّاً لهم مثلاً، لا يكون تابعاً لهم في ذلك الموطن المستجدّ(الدار البيضاء)؛ لأنّه غير تابع لهم في السكن، كما هو واضح، وإن تبعهم في العيلولة.
3 ـ على هذا المنوال، قد لا يصدق عليه عنوان التابع لو كان يسكن معهم، لكنّه لم يكن تابعاً لهم في عيشه وأموره، كما لو كان الأب والابن يعيشان في بيت واحدٍ كبير، وكلّ منهما مستقلّ عن الآخر في معيشته، فإنّه لا يصدق على أيّ منهما أنّه تابعٌ للثاني، رغم وحدة المسكن.
4 ـ إنّ التبعيّة تجري في مختلف أشكال الوطن والمقرّ، غير أنّها لا تجري في الوطن الأصلي في بعض الموارد، فلو وافقنا على أنّ مسقط رأس أجداد شخصٍ ما هو مدينة حلب في سوريا، وتزوّج امرأةً من مدينة حماة، فإنّ ذهابه لزيارة مقابر أجداده مثلاً في حلب يفرض عليه ـ لو قلنا بأنّ حلب وطناً له، كما عليه العديد من الفقهاء ـ أن يصلّي تماماً في حلب؛ لكنّ الزوجة لا تتبعه في الصلاة تماماً هناك؛ لأنّ مدينة حلب ليست ـ عرفاً ـ وطناً لها ولا مستقرّاً ولو بالتبعيّة، فانتبه.
في معيار زوال عنوان الوطن ونقد محورية "القصد" التامّة
([6]) هنا أمور:
1 ـ إنّه لا عبرة بالتردّد وأمثاله بعد صدق عنوان الوطن عليه عرفاً وخارجاً، فالموضوع ليس قصديّاً دوماً حتى يدور مدار القصد، بل خارجيّاً، فمع صدق عنوان الوطن عليه يظلّ الحكم سارياً إلى زوال العنوان عرفاً.
2 ـ على هذا الأساس، فإنّ زوال الوطنيّة عن مكانٍ ما أمرٌ غير مرتبط بالنيّة قهراً؛ فمجرّد أن يقصد الإعراض عن البلد، لا يكفي لقول العرف بأنّ هذا البلد في اليوم التالي لم يعد وطناً له، أو أنّه لم يعد موجوداً في وطنه، بل العبرة بصدق الإعراض خارجاً بحيث يزوال عنوان الوطن عرفاً عن هذا المكان.
وإنّما قد ينفع الإعراض القصدي في الحالات التي يكون فيها الإنسان تاركاً للاستقرار في الوطن منذ مدّة، لكنّه لو فُرِضَ فرضٌ فإنّه يعود للعيش في وطنه، وهذا مثل الزوجة التي تنتقل للعيش مع زوجها، فلو كان وطنها الأصلي أو المستجدّ عبارة عن مدينة القطيف، لكنّها انتقلت مع زوجها للعيش في مدينة الأحساء، وبقيت معه لعشرين عاماً، ولكنّها لو سئلت أين تعيش على تقدير موت زوجها أو طلاقها؟ فإنّها تتكلّم عن العيش في بلدها القطيف، فهنا تظلّ القطيف وطناً لها، على تقدير كونها تتردّد حال الزواج على هذا الوطن أيضاً، لكن لو أعرضت قصداً عنه قبل طلاقها مثلاً، بحيث لو سئلت لقالت: إنّ عودتي للقطيف منتفية تماماً في بقية حياتي مهما حصل، فإنّ القصد الإعراضيّ هنا مؤثر في سلب العرف عنوان الوطن عن القطيف بالنسبة إليها، وهذا غير القول بأنّ القصد لوحده هو ملاك سقوط الوطنيّة دوماً، فانتبه.
حكم الإقامة الطويلة في بلدٍ ما مع عدم قصد التوطّن الدائم
([7]) لعدم صدق عنوان المسافر عليه عرفاً، فضلاً عن صدق عنوان المشقّة النوعيّة. بل في بعض الصور قد يصدق عليه عنوان الوطن في اللغة العربيّة، فيكون وطناً، وفاقاً لفتاوى بعض الفقهاء، مثل أستاذنا السيد محمود الهاشمي، وقد يقال له: الوطن المؤقّت، كما عبّر عنه السيد محمّد حسين فضل الله. والمرجع فيه العرف فلا داعي لقيام بعض الفقهاء بتحديد المدّة الزمنيّة أو تحديد عدد أيّام الإقامة فيه كلّ أسبوع.