التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة المسافر ـ القسم الثاني)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(4 ـ 9 ـ 2025م)
المقصد الحادي عشر
صلاة المسافر
وفيه فصول:
الفصل الأوّل
[شروط صلاة المسافر]
تقصر الصلاة الرباعيّة... بشروط:
الأول: قصد([1]) قطع المسافة، وهي ثمانية فراسخ([2]) امتداديّة ذهاباً أو إياباً أو ملفّقة من أربعة ذهاباً وأربعة إياباً، سواء اتصل ذهابه بإيابه أم انفصل عنه بمبيت ليلة واحدة أو أكثر، في الطريق أو في المقصد الذي هو رأس الأربعة، ما لم تحصل منه الإقامة القاطعة للسفر أو غيرها من القواطع الآتية([3]).
___________________________
([1]) سيأتي تعليقٌ مرتبط بالقصد، عند الحديث عن (المسألة رقم: 898)، وأنّ الصحيح هو شرطيّة العلم بقطع المسافة، ولو من دون قصد، إلا إذا أوّلنا القصد تأويلاً.
([2]) تحتلّ قضية المعيار والمناط الذي تدور عليه أحكام المسافر من قصر الصلاة والإفطار، أهميّةً مضاعفة في العصر الحديث، والسبب في ذلك هو أنّ تطوّر وسائل النقل أدّى إلى ظهور تفاوت بين المعايير التي وضعتها النصوص، بعدما كانت هذه المعايير شديدة التقارب قبل ظهور الآلة النقليّة كالسيارات وغيرها، وقد أفضى ذلك إلى مناقشات جديدة بين الفقهاء والباحثين فيما يخصّ هذا الأمر، وتحوّلت القضية إلى مسرح للنقاش في الوسط التحديثي للفقه الإسلاميّ.
والحديث عن هذا الموضوع ـ من حيث المبدأ ـ يمكن وضعه ضمن مراحل:
المرحلة الأولى: في عرض مواقف فقهاء الإسلام الأساسيّة
وهذا ما يمكن شرحه تارةً على مستوى الفقه الإمامي، وأخرى على مستوى فقه مذاهب الجمهور، وذلك في مقامين:
المقام الأوّل: المواقف الفقهية الإماميّة
ظهرت في التراث الفقهي الإمامي سلسلة من المواقف المرتبطة بهذا الموضوع، وأهمّها:
الموقف الأوّل: معياريّة المسافة المحدّدة حصراً (المعيار المكاني)
والمقصود بهذا الفريق هم الذين يقولون بأنّ معيار القصر والإفطار في السفر أو فقل: معيار السفر الشرعي الذي يعدّ موضوعاً للإفطار والقصر، هو ما يمكن تحديده بالمسافة المعيّنة، أمّا التحديد بالزمان أو غيره فلا اعتبار به في المحصّلة النهائيّة. ويُنسب هذا الرأي إلى مشهور فقهاء الإماميّة، منذ القرن الرابع إلى العصر الحديث، وعليه رأي أغلب الفقهاء ومراجع التقليد المعاصرين، ويرى هؤلاء ـ ومعهم الماتن ـ أنّ المعيار هو ثمانية فراسخ على التفصيل بين الامتداديّة والتلفيقيّة.
والذي يلاحظ هنا أنّ الفقهاء الذين اختاروا المعيار المكاني (المسافة المحدّدة):
أ ـ تارةً كانوا لا يشيرون في رأيهم النهائي لأيّ معيارٍ آخر، وهم كُثر.
ب ـ وأخرى كانوا يشيرون إلى المعيار الزماني وهو مسير يوم، لكنّهم كانوا يطرحون هذين المعيارين بصفتهما معياراً واحداً؛ انطلاقاً ـ فيما يبدو ـ من أنّ أحدهما هو تعبيرٌ آخر عن الثاني، فمسير يوم يساوي مسير ثمانية فراسخ قبل تطوّر وسائل النقل، وذلك عندما نأخذ الاعتدال في الأسفار. وقد قام العديد من المشتغلين بموضوعات الأحكام بتجربة ذلك ـ كما نعرف بعضهم في إيران والمملكة العربيّة السعودية ـ ووجدوا أنّ المعيار الزماني مطابق تقريباً للمعيار المكاني (المسافة).
وهذا الفريق رغم أنّ ظاهر عبارة كثيرين فيه تعطي معياريّة المسافة المحدّدة، وأنّ ذكر الزمان ليس سوى تعبير عن المسافة، لكن يظل هناك احتمال ـ في كلمات بعضٍ منهم ـ في أنّه لو تفاوت الزمان مع المكان فإنّ الرأي النهائي لهؤلاء ربما لا يكون واضحاً.
ج ـ وبعض الفقهاء كان يتعرّض للمعيارين معاً، لكنّهم كانوا يرجّحون معيار المسافة على معيار الزمان؛ لعِلل ذكروها في محلّه، وكانوا يعبّرون أحياناً بأنّ معيار الزمان هو أمارة على معيار المسافة، وليس العكس.
الموقف الثاني: معياريّة (المكان أو الزمان)
هذا الفريق تظهر كلماته في حدود القرنين التاسع والعاشر الهجريّين، والصيغة التي يطرحها هي على الشكل الآتي: إنّ المسافة التي توجب القصر تُعرف بأحد أمرين: بالزمان، وهو مسير يوم، وبالتقدير والمكان وهو ثمانية فراسخ، فالمعيار هو المسافة، لكنّ المسافة لها طريقان لتحقيقها: طريقٌ زماني وطريقٌ حسابي مكاني، ومن ثمّ فأيّ الطريقين تحقّق كان القصر واجباً حتى لو لم يتحقّق الثاني.
قال المحقّق الأردبيلي: «التفاضل بينهما غير ظاهر، إلا أنّ اليوم أقرب إلى فهم الأكثر وأسهل بخلاف الفراسخ. والظاهر أنّ أحدهما كافٍ وإن لم يصل إلى الآخر على تقدير التفاضل، ويكون حينئذ الحدّ حقيقةً هو الأقلّ» (مجمع الفائدة والبرهان 3: 366). ويلاحظ هذا الرأي ـ بنحو الوضوح أو الميل والإشارة ـ في كلمات غير واحد مثل الصيمري، وابن فهد الحلي، والسيد العاملي صاحب المدارك، والمحقّق السبزواري، والفيض الكاشاني، والمحدّث البحراني، وغيرهم.
وبهذا نكتشف أنّ القرن العاشر يمكن أن يكون بداية لرؤية جديدة في معالجة الموضوع تسعى للأخذ بجميع الروايات ورفع التعارض بينها، وسيأتي تحقيق هذه المسألة إن شاء الله.
الموقف الثالث: معياريّة الزمان وأماريّة المسافة المقدَّرة
يرى هذا الفريق أنّ المعيار الحقيقي هو الزمان، أي مسير يوم أو مسير يوم وليلة وغير ذلك من التعابير الواردة في الروايات، وأنّ التحديد بثمانية فراسخ أو بريدين أو غير ذلك إنمّا هو أمارة على المعيار الحقيقي الذي هو مسير يوم.
نُسب هذا القول للمحقّق الحلّي في كتاب "المعتبر"، وقد أكّد الشيخ محسن كديور في رسالته حول صلاة المسافر (نماز مسافر: 25: 28) على دلالة كلام الحلّي على هذا الرأي، ولعلّه يظهر من بعض العلماء فهم ذلك من الحلّي أيضاً، لكن بالنسبة لي لا يبدو الأمر واضحاً في دلالة عبارة "المعتبر" على هذا القول صريحاً، وإن كانت محتملة ولا نطيل في مثل هذا التفصيل. لكن عبارة المحقّق السبزواري في كتاب (ذخيرة المعاد ج1، ق2: 407) تبدو أوضح في إعطاء الأولويّة للزمان على المسافة المقدّرة، ومثلها عبارة المحقق الإصفهاني (صلاة المسافر: 7). وقد كان المرجع الديني المعاصر السيد موسى الشبيري الزنجاني يرى رأياً قريباً من هذا، ولو بنوعٍ من الاحتياط، لكنّه عاد وعدل عنه إلى القول بمعيارية المسافة المحدّدة (المكان)، ومثله ما ينقل عن الشيخ مرتضى الحائري.
هذا، وقد اختار هذا القول بعض الأفاضل، مثل الشيخ محسن كديور، والشيخ أحمد عابديني، والشيخ كاظم قاضي زاده، والمنسوب شفاهاً للسيد حسين الشاهرودي، والشيخ محمد القائيني، وغيرهم.
لكنّ هذا القول تطلّب من أصحابه مرّةً أخرى جُهداً مُضاعفاً في تحديد المسافة على وفق الزمان، بمعنى أنّ مسير يوم وليلة ماذا يُراد به؟ وبأيّ وسيلةِ نقلٍ علينا أن نحسب؟ والأيام ـ في طولها وقصرها ـ تختلف باختلاف فصول السنّة، فكم ينبغي حساب حركة المسير بالساعات حتى نضبط الإيقاع تماماً؟ وعلى سبيل المثال، المعروف عن السيد موسى الزنجاني أنّه كان يرى الحساب بالباصات؛ لأنّها الوسيلة المتعارفة للنقل، بمعنى أنّها تقع على غرار حركة القوافل التي هي المعيار، كما ورد في النصوص، وسيأتي إن شاء الله، وكان يحدّد اليوم بعشرِ ساعات من السير، مما أنتج لديه أنّ مسافة القصر هي حوالي 500 كيلومتر، لأنّ الحركة المتعارفة للباصات في عشر ساعات هي هذه المسافة، فيما يظهر من الشيخ محسن كديور أنّ المسافة قد تقدّر بحوالي 800 كيلومتر وهكذا، فهذا المعيار يتطلّب صعوبات إضافيّة يجب حلّها، وسنرى أنّ بعض فقهاء أهل السنّة فكّروا في هذه الطريقة منذ زمن بعيد، ولو بشكلٍ مختلف، انسجاماً مع تبنّي جماعة منهم المعيار الزماني.
الموقف الرابع: معياريّة المشقّة وأماريّة الزمان والمكان
هذا ما قد يظهر من عدد قليل للغاية من الفقهاء والباحثين، وهو ما يلوح من السيد محمّد هادي الميلاني (1395هـ)، حيث اعتبر أنّ المناط الحقيقي هو المشقّة النوعيّة، وأنّ الزمان والمسافة كلاهما أمارة على المناط الحقيقي، قال: «..الكرّ عبارة عن ألف ومائتي رطل، ولكن حيث كان الوزن غير متيسّر لعامّة الناس، جُعل التقدير بالأشبار معرّفاً وضابطاً له. وكذلك الرضاع المحرّم فإنّ ملاكه إنبات اللحم وشدّ العظم، وحيث لا يسهل تشخيص ذلك لغير الأطباء من الناس، فقد عرف بخمس عشرة رضعة، أو عشر رضعات أو رضاع يوم وليلة. وهكذا حدّ الترخّص فإنّه البعد عن المدينة بحيث لا يسمع معه أذان البلد، وحيث ليس كلّ وقت للخروج مصادفاً لوقت الأذان جُعل خفاء الجدران معرّفاً له. وفيما نحن فيه ثلاثة احتمالات: أ ـ كون الملاك هو مسيرة ثمانية فراسخ، وقد جعل بياض اليوم معرّفاً له. ب ـ كون الملاك هو بياض يوم، وقد عبّر عن ذلك بثمانية فراسخ.. ج ـ كون بياض يوم وثمانية فراسخ معرّفين لأمرٍ ثالث، هو طيّ مسافة معيّنة بين المبدأ والمنتهى. تحديد المسافة: قال المحقّق ـ قدّه ـ: وهي مسير يوم، بريدان. الذي يظهر من كلام المحقّق ـ قدّه ـ أنّ المناط مسير يوم، وقد جعل البريدين معرّفاً له، وهو مطابق لكثير من الروايات.. ويظهر من عدّة من الروايات أن تحمّل مشقّة الضرب في الأرض يوماً واحداً موضوع للتقصير ، مِنّةً من الله جلّ وعلا على العباد، وقد جعل مسيرة يوم، وثمانية فراسخ معرّفين لذلك الموضوع. ولا يخفى أنّ الملاك ليس هو المشقّة الفعليّة، حتى ينتقض بموارد قطع الفراسخ الثمانية في أسبوع، أو بالوسائل الحديثة المريحة، بل هو المشقّة النوعية. وبعبارة أخرى: إنّ الملاك في صدق السفر مشقّته النوعيّة بلحاظ الحكمة، وليس ذلك كأدلّة العسر والحرج الحاكمة على غيرها من الأدلّة الجارية في مواردهما، إذ الملحوظ العسر والحرج الفعليّان وبلحاظ العليّة. والفرق أنّ العلّة يطرد معها الحكم وليست الحكمة كذلك. والحاصل: إنّ الملاك في التقصير قطع مسافة تكون موجبة لتحمّل المشقّة عادة، ولا عبرة بقطع تلك المسافة على خلاف العادة كقطعها في عشرة أيام مثلاً، أو بالوسائل الحديثة» (محاضرات في فقه الإمامية (صلاة المسافر): 10 ـ 14).
لكنّ هذا الكلام من السيد الميلاني لا يحرز معه أنّه يبني الحكم فعليّاً على المشقّة النوعيّة مطلقاً، بل يحتاج الأمر لمزيد تتبّع؛ فلعلّه يرى أنّ الأمارات متعيّنة هنا.
هذا، ويُنقل هذا الرأي عن السيد موسى الصدر، وقد ذكر الشيخ الصادقي الطهراني (2011م) في حوار معه نشر في كتاب (هادي خسروشاهي، يادنامه امام موسى صدر 1: 334، نشر مركز بررسيهاى اسلامي، إيران، الطبعة الأولى، 1996م؛ وانظر: محسن كماليان، امام موسى صدرى كه من شناخته ام: 289) أنّ السيد موسى الصدر كان يوافقه الرأي في عدم معياريّة الفراسخ الأربعة أو الثمانية. ونجد فكرة المشقّة أكثر رواجاً ـ نسبيّاً ـ بين بعض المعاصرين السنّة هنا وهناك.
الموقف الخامس: معياريّة السفر العرفي
وهو ما قد يُثار ضمن بعض الأبحاث عَرَضاً، لكنّني لم أجد قائلاً معتدّاً به يتبنّاه، وهو أن يكون المعيار هو صدق عنوان السفر عرفاً، وهذا معناه أنّ الخروج من المدينة أو البلد لمسافة قصيرة جداً لا يصدق عليه في عرف الناس أنّ فلاناً قد سافر، بينما قطع مسافات طويلة يصدق معه ذلك، وينتج عن ذلك أنّ جميع النصوص هنا ـ سواء نصوص المشقّة النوعيّة أم نصوص المسافة أم نصوص الزمان ـ هي مجرّد أمارات لمساعدة الناس على ما يصدق عليه في زمانهم عنوان المسافر.
هذا القول/الفرضيّة يختلف عن سائر الأقوال في المسألة في نقطةٍ جوهريّة، وهي أنّ السفر ـ في هذا القول ـ عنوانٌ عرفي أوّلاً وآخراً، بينما على الأقوال الأخرى عند جمهور السنّة والشيعة هناك سفران: سفر عرفي، وسفر شرعيّ، ومن ثمّ فالسفر الشرعيّ هو قطع (أو قصد قطع، على الكلام بينهم) المسافة المحددّة بالزمان أو المكان أو الحال (المشقّة) الخاصّ، وليس مطلق عنوان المسافر عرفاً، ولا مطلق عنوان من خرج من بلده، ومن ثم فيمكن أن تكون النسبة ـ فرضيّاً ـ بين المسافر العرفي والمسافر الشرعي هي العموم والخصوص من وجه، وإن كان المعروف عملاً هو نسبة العموم والخصوص المطلق.
هذه أبرز الآراء على اختلافٍ واسع في نسبة مؤيّديها، ويجب أن نقرّ بأنّ العديد من العلماء تبدو عباراتهم تحتمل أكثر من وجه، فيلزم التريّث في القطع بنسبة هذا القول أو ذاك إليهم، وبخاصّة مع ملاحظة اختلاف عبائرهم من كتابٍ لآخر ومن موضعٍ لآخر، ولما لم نكن هنا بصدد بحثٍ تاريخي تتبّعي، لهذا نُعرض عن المناقشات المرتبطة بتحديد موقف هذا الفقيه أو ذاك.
المقام الثاني: المواقف الفقهيّة في مذاهب الجمهور
اختلف فقهاء الجمهور في تعيين المسافة التي يشرع القصر معها، وذلك على عدّة آراء بلغ بها بعضهم العشرين قولاً، حيث قال ابن حجر العسقلاني (852هـ): «.. بيان المسافة التي إذا أراد المسافر الوصول إليها ساغ له القصر ولا يسوغ له في أقلّ منها، وهي من المواضع التي انتشر فيها الخلاف جداً، فحكى ابن المنذر وغيره فيها نحواً من عشرين قولاً، فأقلّ ما قيل في ذلك يوم وليلة، وأكثره ما دام غائباً عن بلده..» (فتح الباري شرح صحيح البخاري 2: 659، تحقيق عبد القادر شيبة الحمد).
لكنّ أبرزها وأشهرها:
1 ـ رأي الأحناف: حيث قالوا بأنّ التقدير يكون بمسيرة ثلاثة أيّام بلياليها، أخذاً بعين الاعتبار أقصر أيّام السنة في البلاد المعتدلة، وذلك بسير الإبل والقوافل، من هنا استبعد الفقه الحنفي التقدير بالمسافات المحدّدة كالفراسخ، واستبدله بتقدير المسير، الذي أخذ فيه السير الوسط المعتدل والمتعارف، حتى أنّهم دخلوا في تحديد سير البحر، فقالوا بأنّ هذا المعيار مأخوذٌ فيه اعتدال الريح، بمعنى أنّها لا ساكنة ولا عالية، وهكذا الحال في الجبال وغيرها.
2 ـ رأي المالكية والحنابلة والشافعيّة: وقد اعتمدوا على مسير يومين معتدلين، أو مرحلتين، بسير الإبل التي تحمل الأثقال، والمقصود بالمرحلتين هو ستة عشر فرسخاً. وقالوا بأنّه عندما نقدّر المسافة ذهاباً فإنّها سوف تكون ستة عشر فرسخاً، وقالت المالكيّة بأنّ المسافة تقدّر اليومَ بحوالي ثمانية وثمانين كيلومتراً، وعلى هذا الأساس قالوا بأنّه لو قطع ثمانيةً وثمانين كيلومتراً بالطائرة قصّر، حتى لو كان السفر بساعة واحدة فقط. ويوجد اليوم من يحدّد المسافة بقريبٍ من ثلاثة وثمانين كيلومتراً، وبعضهم بثمانين.
قال النووي الشافعي: «(فرع) في مذاهب العلماء في المسافة المعتبرة لجواز القصر: قد ذكرنا أنّ مذهبنا أنه يجوز القصر في مرحلتين، وهو ثمانية وأربعون ميلاً هاشميّة، ولا يجوز في أقلّ من ذلك. وبه قال ابن عمر وابن عباس والحسن البصري والزهري ومالك والليث بن سعد وأحمد وإسحق وأبو ثور. وقال عبد الله بن مسعود وسويد بن غفلة ـ بفتح الغين المعجمة والفاء ـ والشعبي والنخعي والحسن بن صالح والثوري وأبو حنيفة: لا يجوز القصر إلا في مسيرة ثلاثة أيّام. وعن أبي حنيفة أنّه يجوز في يومين وأكثر الثالث. وبه قال أبو يوسف ومحمّد. وقال الأوزاعي وآخرون: يقصّر في مسيرة يوم تامّ. قال ابن المنذر: وبه أقول. وقال داود: يقصّر في طويل السفر وقصيره» (المجموع 4: 325).
وأحد النقاشات الأساسيّة التي وقعت بين هذه المذاهب هو أنّ المسافة مفهومٌ دقيق أو مفهومٌ تقريبي، فمثلاً لو نقصت المسافة ميلاً أو ميلين فهل يمكن القصر؟ قالت الشافعيّة: لا يمكن، بينما قال الحنابلة والمالكيّة بأنّه يمكن؛ لأنّ هذه الحسابات كلّها تقريبيّة. وأمّا الفقه الإمامي، فيظهر من كثيرين المعيار الدقّي، وهو ما تُبيّنه ـ على سبيل المثال ـ عبارة السيد اليزدي حيث قال: «الفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف ذراع بذراع اليد الذي طوله أربعة وعشرون إصبعاً، كلّ إصبع عرض سبع شعيرات، كلّ شعيرة عرض سبع شعرات من أوسط شعر البرذون.. لو نقصت المسافة عن ثمانية فراسخ ولو يسيراً لا يجوز القصر، فهي مبنيّة على التحقيق، لا المسامحة العرفيّة..» (العروة الوثقى 2: 364، طبع دار المؤرّخ)، وسيأتي مثله من السيد الماتن في (المسألة رقم: 885).
وبهذا نكتشف أنّ هناك فروقات أساسيّة بين الفقه الإمامي وفقه الجمهور، ففي الفقه الإمامي ـ لا في الرواية الإماميّة فانتبه ـ لا يوجد زيادة عن البَريدين، وهما ثمانية فراسخ، بينما في فقه الجمهور نجد رقم ستة عشر فرسخاً، وكذلك لا نجد في فقه الإمامية أكثر من مسير يوم أو مسير يوم وليلة أو بياض يوم، بينما في فقه الجمهور نجد مسير ثلاثة أيام أو يومين وأكثر الثالث، وفي فقه الإمامية لا نكاد نجد القول بمطلق السفر قصيره وقليله، بينما في فقه المذهب الظاهري (داود بن خلف الظاهري) نجد هذه الفكرة، وهكذا.
المرحلة الثانية: في تصنيف الروايات وتفكيكها
يتفق العلماء تقريباً على أنّ الروايات هنا لم تأتِ على شكلٍ واحد، بل تحدّثت عن الموضوع ضمن معايير مختلفة مبدئيّاً. وأعتقد بأنّ تنظيم الروايات بشكل صحيح سوف يساعد جداً في فهم الموضوع. وعمدة المجموعات الحديثيّة التي يمكننا عرضها هنا ـ على طريقتنا في التنظيم والتفكيك ـ هو الآتي:
المجموعة الأولى: وهي المجموعة التي تحدّد معيار السفر الشرعي بالمسافة المعيّنة (المعيار المكاني)، وهذه المجموعة تبيّن المسافة بأشكال:
الشكل الأوّل: ما يدلّ على أنّ المسافة هي البريدان أو أربعة وعشرين ميلاً أو ثمانية فراسخ، مثل خبر معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله×: أدنى ما يقصّر فيه المسافر؟ فقال: «بريد ذاهباً وبريد جائياً» (تهذيب الأحكام 3: 208)، وخبر عيص بن القاسم، عن أبي عبد الله×، قال في التقصير: «حدّه أربعة وعشرون ميلاً»، وخبر عبد الله بن يحيى الكاهلي، قال: «في التقصير في الصلاة: بريد في بريد، أربعة وعشرون ميلاً..» (كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 436)، وغيرها من النصوص التي تزيد عن العشرة روايات في المصادر الإماميّة، وفيها ما هو الصحيح سنداً.
غير أنّ هنا مشكلة داخل هذا الشكل الأوّل، وهو أن تفسير البريدين بأربعة وعشرين ميلاً أو ثمانية فراسخ، نجد ما يقابله في بعض روايات هذه المجموعة، حيث يتمّ تفسير البريد بستة أميال أي بفرسخين، وهو ما جاء في خبر سليمان بن حفص المروزي قال: قال الفقيه×: «التقصير في الصلاة بريدان أو بريد ذاهباً وجائياً، والبريد ستة أميال، وهو فرسخان، فالتقصير في أربعة فراسخ، فإذا خرج الرجل من منزله يريد اثني عشر ميلاً، وذلك أربعة فراسخ، ثم بلغ فرسخين ونيّته الرجوع أو فرسخين آخرين قصّر، وان رجع عما نوى عندما بلغ فرسخين وأراد المقام فعليه التمام، وإن كان قصّر ثمّ رجع عن نيّته أعاد الصلاة» (تهذيب الأحكام 4: 226).
وقد قدّم العلماء تحليلات متعدّدة لهذه الرواية، من نوع وجود فرسخ خراسانيّ، وأنّ الإمام قصد هذا الفرسخ؛ لأنّ السائل هو من بلاد خراسان، وهو يختلف عن الفرسخ الشرعي، وأنكر آخرون وجود فرسخ خراساني مختلف، واحتمل آخرون وجود خطأ من النسّاخ في هذه الرواية، وحاول الطوسي حملها على معانٍ أخر، فيما رجّح بعضٌ ترك هذه الرواية؛ لشذوذها، وما هوّن الخطبَ عند غير واحد هو ضعف سند الرواية بعدم ثبوت وثاقة المروزي، وهكذا.
الشكل الثاني: ما يدلّ على أنّ المسافة هي البريد الواحد أو اثنا عشر ميلاً أو أربعة فراسخ، مثل خبر زرارة، عن أبي جعفر، قال: «التقصير في بريد، والبريد أربعة فراسخ»، وخبر أبي أيوب، قال: قلت لأبي عبد الله×: أدنى ما يقصّر فيه المسافر؟ فقال: «بريد»، وغيرهما من النصوص التي نقلها المحدّثون، وبالخصوص الشيخ الكليني، الذي لم ينقل رواية البريدين أصلاً. وعددُ هذه النصوص يقارب عدد نصوص المجموعة من الشكل الأوّل وفيها ما هو الصحيح سنداً أيضاً.
وقد حلّ الفقهاء مشكلة التعارض المتصوّر هنا بين هذين الشكلين، فقالوا بأنّ فكرة البريد هي تعبير عن بيان المسافة من حيث الذهاب، ومن الطبيعي أنّ العودة ستكون بريداً أيضاً، فشرح الإمامُ الفكرةَ تارةً من حيث مجموع الذهاب والإياب وأخرى من حيث الذهاب المتضمّن حكماً للإياب؛ إذ من البعيد أن يسافر شخص سفراً نهائياً لا يرجع فيه في مسافة صغيرة من هذا النوع، وهذا ما شكّل لدى الفقهاء مفهوم المسافة الامتدادية والمسافة التلفيقيّة، كما سوف نرى، وبهذا تفسّر النصوصُ بعضها بعضاً، بل يؤيّد ذلك خبرُ محمد بن مسلم عن أبي جعفر×، قال: سألته عن التقصير، قال: «في بريد»، قال: قلت: بريد؟ قال: «إنّه إذا ذهب بريداً ورجع بريداً شغل يومَه» (تهذيب الأحكام 4: 224). وبذلك يُفهم أيضاً ما يعرف بروايات القصر في عرفات.
الشكل الثالث: ما حدّد المسافةَ بثلاثة برد، وعمدته رواية ابن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا×، قال: سألته عن الرجل يريد السفر في كم يقصّر؟ فقال: «في ثلاثة برد»، وقد رواها الطوسي معلّقاً عليها بالقول: «فهذا خبر موافق للعامّة، ولسنا نعمل به» (تهذيب الأحكام 3: 209). ولكنّه قول محدود جداً بين أهل السنّة!
الشكل الرابع: ما حدّد المسافة بعشرة فراسخ، وهو خبر الجعفريّات، عن جعفر بن محمّد، قال: «كان أبي [يقول]: يجب التقصير على الرجل في الصلاة، إذا أراد سفر عشرة فراسخ» (مستدرك الوسائل 6: 527).
ومن الواضح أنّ ما يفرض اعتبار هذا الشكل مخالفاً لسائر الأشكال هو الدلالة المفهوميّة في هذه الرواية، وإلا فإنّ جميع الروايات متّفقة على أنّ عبور عشرة فراسخ يوجب القصر، لكنّ مفهوم الرواية هنا يقضي بعدم ثبوت القصر قبل عشرة فراسخ، الأمر الذي يعارض سائر النصوص.
الشكل الخامس: ما حدّد المسافةَ بفرسخٍ واحد، وهما خبران أحدهما خبر عمرو بن سعيد، قال: كتب إليه جعفر بن أحمد يسأله عن السفر وفي كم التقصير؟ فكتب× بخطّه، وأنا أعرفه، قال: «كان أمير المؤمنين× إذا سافر وخرج في سفر قصّر في فرسخ»، ثمّ أعاد من قابل المسألة إليه، فكتب× إليه: «في عشرة أيّام» (تهذيب الأحكام 4: 224).
وقد اضطرب بعض العلماء في التعامل مع هذا النوع من الروايات:
أ ـ فأوّلها بعضٌ كالطوسي.
ب ـ وقال آخرون ـ ومنهم السيد الخوئي ـ بأنّ المراد بيان حدّ الترخّص، وأنّه ما يبعد عن البلد فرسخاً، وليست الرواية في مقام بيان المسافة الشرعيّة، وذهب جماعة ـ ومنهم السيد محسن الحكيم ـ إلى القطع ببطلان تفسير الرواية بحدّ الترخّص؛ انطلاقاً من كون حدّ الترخص هو أقلّ من ذلك بكثير. والحقّ مع السيد الحكيم في هذه النقطة، لكن لا من ناحية كون حدّ الترخص يُقطع بكونه أقلّ من ذلك، بل لأنّ سؤال السائل كان عن التقصير في كم يكون؟ وهذا ظاهر في أنّه يريد فهم معيار القصر، لا نقطة العمل بالقصر، علماً أنّ الجزء الثاني من الرواية (عشرة أيّام) غير منسجم إطلاقاً مع هذه الفرضيّة.
ج ـ وحمل فريقٌ ثالث الرواية على التقيّة، مع أنّه لا يظهر وجود قائل بذلك بين أهل السنّة في عصر النصّ.
د ـ ورجّح فريقٌ رابع طرح الرواية؛ لشذوذها ومخالفتها للروايات الكثيرة.
وأغرب ما في الأمر أنّ الرواية تبدي أنّ الإمام أعطى معيارين متناقضين في زمانين مختلفين، أحدهما عشرة أيام والثاني فرسخ، وهذا قطعاً عدولٌ من رأي إلى آخر، مما يبعّد أيضاً فرضية بيان حدّ الترخّص، فالرواية فيها قدرٌ من الإبهام!
المجموعة الثانية: ما ورد في تحديد المسافة بمسيرة زمانٍ معيّن (المعيار الزماني)، وهذه المجموعة تقع على أشكال أيضاً:
الشكل الأوّل: ما ورد في تحديد المسافة بمسيرة يوم، مثل صحيحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما ـ عليهما السلام ـ في الرجل يشيّع أخاه مسيرة يوم أو يومين أو ثلاثة؟ قال: «إن كان في شهر رمضان فليفطر»، قلت: أيّما أفضل يصوم أو يشيّعه؟ قال: «يشيّعه، إنّ الله عزّ وجل قد وضعه عنه» (الكافي 4: 129)، وغيرها من الروايات التي قد تزيد عن الخمس روايات، ومنها الصحيح سنداً.
لكن هذه الرواية بالخصوص (صحيحة ابن مسلم) لا دلالة لها على أنّ مسيرة يوم أخذت بشرط لا من حيث النقيصة، فلعلّ التقصير يكون في أقلّ من ذلك أيضاً، لكنّه يشمل مسيرة يوم.
الشكل الثاني: ما ورد في تحديد المسافة بما يزيد عن مسيرة يومين، وهو خبر أبي بصير، عن أبي عبد الله، قال: «لا بأس للمسافر أن يتمّ السفر مسيرة يومين» (تهذيب الأحكام 3: 209)، ومن الواضح أنّ مسيرة يومين تختلف عن مسيرة يوم واحد، فكيف يمكن أن يكون القصر في مسيرة يوم ثم يرخّص له أن يتمّ في مسيرة يومين؟!
وقد حمل الشيخ الطوسي هذه الرواية على التقية؛ لموافقتها لأهل السنّة، فيما ناقش آخرون في سندها بأنّ فيه أبا جميلة، وهو ضعيف، وقالوا أيضاً بأنّ هذه الرواية لا تعارض فقط الشكل الأوّل المتقدّم في المجموعة الثانية، بل تعارض أيضاً نصوص تحديد السفر بالفراسخ (الشكل الأوّل من المجموعة الأولى)، فتكون شاذّةً.
الشكل الثالث: ما ورد في تحديد المسافة بمسيرة يوم وليلة، وهو خبر زكريا بن آدم، أنّه سأل أبا الحسن الرضا× عن التقصير، في كم يقصّر الرجل إذا كان في ضياع أهل بيته وأمره جائز فيها يسير في الضياع يومين وليلتين وثلاثة أيام ولياليهنّ؟ فكتب: «التقصير في مسيرة يوم وليلة» (كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 450).
ولكنّ هذه الرواية أخضعت لعلاج ذكره غير واحدٍ من الفقهاء، وهو أنّ طبيعة السفر في تلك العصور كانت تقوم على السير في النهار والجلوس في الليل، فالحديث عن مسيرة يوم وليلة يساوي الحديث عن ثمانية فراسخ، لكنّ بعض المعاصرين ـ وهو السيد محمد رضا السيستاني ـ شكّك في هذا التفسير، وقال بأنّ مسيرة يوم وليلة هو تعبير متعارف في الفقه السنّي ويقصدون به ستة عشر فرسخاً، فليس مسير يوم وليلة هو ثمانية فراسخ، بل المتعارف فيه هو ستة عشر فرسخاً، الأمر الذي يشكّك في إمكانية القبول بتفسير بعض الفقهاء هنا للرواية (بحوث في أحكام صلاة المسافر 1: 129 ـ 131).
غير أنّ إشكال السيستاني يقف في محلّه ـ لو سلّمنا به ـ عند مقارنة مسير يوم وليلة بموضوع ثمانية فراسخ وستة عشر فرسخاً، لكنّ السؤال هو هل أنّ تعبير "مسيرة يوم وليلة" يختلف عن تعبير "مسيرة يوم"؟ بمعنى آخر: هل الشكل الثالث من أشكال المجموعة الثانية هنا يعارض الشكل الأوّل من أشكال هذه المجموعة نفسها، بصرف النظر عن المجموعة الأولى بأشكالها المختلفة أو لا؟
هنا يمكن الموافقة على القول بأنّ التعبيرين غير متعارضين، بل يشيران إلى أمرٍ واحد، وهو المسافة المقطوعة في حركة القوافل خلال أربعة وعشرين ساعة، والتي هي عينها المسافة المقطوعة خلال النهار؛ إذ إنّهم لا يجدّون السير في الليل عادةً، وبهذا لا يتعارض الشكل الأوّل مع الثالث هنا، بل يتعاضدان.
وقد تسأل: ألا يُعدّ ذكر «الليل» إلى جانب «النهار» ـ مع عدم موضوعيّته ـ مخالفاً للظاهر ولغواً؟ إنّ الظاهر الأوّليّ فيما يُذكر في الكلام أنّ له موضوعيّة، إلاّ إذا استطعنا أن نجد وجهاً للعدول عن هذا الظاهر أو الأصل، مضافاً إلى ذلك، هل ثبت لدينا أنّ السير لم يكن يتمّ في الليالي؟ ربّما كان السير يتمّ في الليالي أيضاً، خاصّة في فصول السنة الحارّة، باستخدام النجوم.
والجواب: السير في الليالي لم يكن موجوداً بوصفه عادة، والظاهر أنّ هذا أمرٌ معروف جداً في كتب التاريخ والعرب، لكنّنا لا ننفي أنّهم كانوا يسيرون في الليل أحياناً (وبخاصّة أوّل الليل أو آخره) في حالات الحرّ الشديد جداً أو في ظروف الفرار وتجنّب قطّاع الطرق ونحو ذلك، وكان يسمّى السير ليلاً بالدُّلْجَة، لكنّ السير ليلاً كان استثناءً وليس أصلاً في أسفار العرب، والمسألةُ ليست مسألة معرفة الطريق فقط. أمّا تعبير الليل والنهار، فلا أظنّ أن القضية تؤخذ بنحو الموضوعيّة إذا عرفنا أنّ الليل والنهار هما حركة القافلة في النهار، فقد نقول مثلاً: أنا أنام في اليوم الواحد خمس ساعات، ونقصد الليل والنهار، ونقول: أنام في الليل والنهار خمس ساعات، ونقصد نوم الليل، فهذه التعابير متعارفة، ولا يوجد شاهدٌ معاكس.
الشكل الرابع: ما ورد في تحديد المسافة بمسيرة ثلاثة أيام، ويوجد هنا خبران:
أ ـ خبر سويد بن غفلة، عن عليّ وعمر وأبي بكر وابن عبّاس أنّهم قالوا: «لا تقصير في أقلّ من ثلاث».
وعلّق الحرّ العاملي قائلاً: «فتوى عليّ× معهم محمولة على التقية» (تفصيل وسائل الشيعة 8: 455 ـ 456).
ولا أدري لماذا يحتاج الإمام عليّ× إلى ممارسة التقية في إفتائه بهذه المسألة على شبه فتوى أبي بكر وعمر، وهو الذي رويت عنه في مصادر الشيعة والسنّة عشرات الروايات التي تدلّ على مخالفته الفقهيّة لهم أو رجوعهم إليه مع بيانه رأياً مختلفاً عنهم في فتوى أو في قضاء؟! فمثل هذا الحمل في الرواية يحتاج لمزيد مراجعة تاريخيّة؛ للتأكّد من معقوليّته التاريخيّة.
ب ـ خبر البزنطي، قال: وسألته ـ أي الرضا× ـ عن الرجل يريد السفر إلى ضياعه، في كم يقصّر؟ فقال: «(في) ثلاثة» (قرب الإسناد: 383؛ وتفصيل وسائل الشيعة 8: 497)، وعلّق عليه المجلسي قائلاً: «لعلّ الثلاثة محمول على ما إذا لم يبلغ حدّ مسافة التقصير قبلها، فإنّ من يخرج إلى ضيعته للتنزّه يسير متأنّياً ومتدرّجاً، ويمكن حمله على التقية؛ فإنّه قريب من مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ويمكن حمله على إقامة ثلاثة في الضيعة فإنّه ذهب جماعة من العامّة إلى أنّه إن نوى الإقامة ثلاثة أيام قصّر، وإن زاد عليها أتمّ» (بحار الأنوار 86: 34 ـ 35).
المجموعة الثالثة: ما ورد فيه ذكر معيارَي الزمان والمكان معاً، وهو ما حدّد المسافة الشرعيّة ببريدين، وأنّهما عبارة عن مسيرة يوم أو بياض يوم، مثل خبر أبي أيوب، عن أبي عبد الله، قال: سألته عن التقصير، قال: فقال: «في بريدين أو بياض يوم» (تهذيب الأحكام 3: 210)، وخبر سماعة، قال: سألته عن المسافر في كم يقصّر الصلاة؟ فقال: «في مسيرة يوم، وذلك بريدان، وهما ثمانية فراسخ، ومن سافر قصّر الصلاة وأفطر إلا أن يكون رجلاً مشيّعاً لسلطانٍ جائر أو خرج إلى صيد أو إلى قرية له يكون مسيرة يوم يبيت إلى أهله لا يقصّر ولا يفطر» (الاستبصار 1: 222 ـ 223)، وخبر الفضل بن شاذان ـ في العلل ـ عن الرضا×قال: «أنّ الصلاة إنّما قصرت في السفر؛ لأنّ الصلاة المفروضة أوّلاً إنّما هي عشر ركعات، والسبع إنّما زيدت فيها بعد، فخفّف الله عزّ وجل عن العبد تلك الزيادة؛ لموضع سفره وتعبه ونصبه واشتغاله بأمر نفسه وظعنه وإقامته، لئلا يشتغل عما لا بدّ منه من معيشته رحمةً من الله عزّ وجل وتعطّفاً عليه، إلا صلاة المغرب، فإنّها لا تقصر؛ لأنّها صلاة مقصرة في الأصل. وإنّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقلّ من ذلك ولا أكثر؛ لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم، ولو لم يجب في مسيرة يوم، لما وجب في مسيرة ألف سنة؛ وذلك لأنّ كلّ يوم يكون بعد هذا اليوم فإنّما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره؛ إذ كان نظيره مثله لا فرق بينهما..» (كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 454 ـ 455). وغيرها من الروايات التي تبلغ أو تزيد عن السبع.
هذه هي عمدة المجموعات الحديثيّة وما يتفرّع عنها من مجموعات صغيرة أو بيانات مختلفة، وقد استقرّ نظر مشهور الإماميّة على الأخذ بالشكل الأوّل والثاني من أشكال المجموعة الأولى عبر تبيين فكرة المسافة الامتدادية والتلفيقيّة كما أشرنا، فيما اعتبروا سائر الروايات إمّا مشيرةً للمعيار الحقيقي الذي تبنّوه، أو شاذّة، أو محمولة على التقيّة، أو مُعرضاً عنها موهونة، أو ضعيفة الإسناد أو نحو ذلك.
المرحلة الثالثة: في التعليق على بعض الآراء وكيفيّة بنائها على المجموعات الحديثيّة
في هذه المرحلة سوف نقوم بالدمج بين الآراء الفقهيّة السائدة أو المطروحة والنصوص الحديثيّة التي عملنا على تفكيكها وفرزها، لنرى ما هي أبرز المؤاخذات المسجّلة أو التي يمكن تسجيلها على هذا الرأي أو ذاك، وأيٌّ من هذه الآراء يبدو غير قابل للقبول، وأيّها يحظى بعنصر قوّةٍ هنا أو هناك؛ تمهيداً لتقديم قراءتنا للنصوص في المقام، وذلك كلّه باختصارٍ شديد.
وتوجد هنا نقاط:
1 ـ في تحفّظات بعض الفقهاء على إرجاع معيارٍ لآخر، والتعليق على ذلك
لم يوافق العديد من العلماء على اعتبار المعيار المكاني راجعاً إلى المعيار الزماني أو بالعكس، وذلك اعتماداً على أصالة الموضوعيّة في العناوين، فالنصوص التي تأخذ المعيار الزماني ظاهرها اعتباره هو المعيار لا غير، فيما النصوص التي تأخذ المعيار المكاني ظاهرها اعتباره هو المعيار لا غير، وإرجاع أحدهما إلى الآخر بأن يكون أحدهما هو الموضوع، والثاني طريقٌ وأمارة لهذا الموضوع يقع على خلاف الأصل اللفظي.
ونتيجة هذه الملاحظة هو اختيار أحد ثلاثة مواقف: إمّا حصرية المعيار المكاني وطرح نصوص المعيار الزماني، أو حصريّة المعيار الزماني وطرح نصوص المعيار المكاني تماماً، أو القول بكون كلّ منهما معياراً مقبولاً، فيؤخذ بإطلاقهما، فأيّهما تحقّق قبل الآخر أوجب ثبوت أحكام القصر والإفطار، كما هو رأي بعضٍ أيضاً، وفق ما شرحناه في المرحلة الأولى.
لكنّ هذه الملاحظة قابلة للنقاش البدوي؛ وذلك أنّها نظرت فقط وفقط إلى البيانات اللفظيّة في النصوص، ولم تلاحظ الواقع الخارجي، من حيث تطابق المعايير خارجاً وعدمه، فكما وافقوا على أنّ الشكل الأوّل والثاني من أشكال المجموعة الأولى لا تعارض بينهما؛ لأنّ أحدهما يبيّن البريدين فيقصد الذهاب والإياب، فيما الآخر يبيّن البريد فيقصد الذهاب فقط، لتطابق الاثنين معاً في المحصّلة النهائيّة، كذلك الحال هنا، فإذا أثبتنا أنّ مسيرة يوم في حركة القوافل تقع في العادة ضمن ثمانية فراسخ، فهذا معناه أنّ تبيين الإمام للحكم بشكلين ربما يكون لكون ناتجهما واحداً، تماماً كما تقول بأنّ حساب المساحة في الكرّ يتطابق مع حساب الوزن فيه، فيمكن التعبير عن الكرّ بحساب المساحة تارةً وبحساب الوزن أخرى؛ لتطابق النتيجة، فإذا كانت النتيجة متطابقة في أرض الواقع، ولم يكن مطروحاً ما نعرفه اليوم من عدم التطابق بفعل تطوّر وسائل النقل، فإنّ فرضيّة وجود أحدهما فيما يكون الثاني أمارة لا تكون مخالفةً لظواهر الأدلّة وكيفيّة تبيين الحكم، نعم لو اختلفت النتائج، بأن كان مسير يوم وليلة ثمانية فراسخ تارةً وأكثر أو أقلّ أخرى ـ مثل ما لو أخذنا بالحسبان اختلاف طول النهار في فصول السنة ـ ففي هذه الحال يكون إشكال المستشكلين هنا في محلّه.
يُضاف إلى ذلك أنّه لو كان المعيار هو أحد المعيارين المكاني أو الزماني، لكان تبيين الإمام لموجبِ القصر غير صحيح؛ فإنّه إذا سئل الإنسان عن موجب القصر فإنّ القول بأنّه مسير يوم يكون مخلاً؛ لأنّ المفروض أنّ مسير يوم قد يكون أكثر من ثمانية فراسخ، وعليه فسوف يقوم المتلقّي بإتمام صلاته بعد ثمانية فراسخ، مع عدم انتهاء مسيرة اليوم؛ إذ السؤال عن موجب القصر ليس سؤالاً عن المسافة المحدّدة أو الزمان المحدد بشرط لا من حيث الزيادة فقط، بل ظاهر الجواب أنّ المسافة المحدّدة أو الزمان المحدّد هما معاً بشرط لا من حيث الزيادة والنقيصة معاً، وعليه فيكون تبيين معيار "أحدهما" بعينه بهذه الطريقة غير صحيح.
2 ـ في تحليل فكرة أنّ الزمان تعبيرٌ آخر عن المسافة، والتعليق عليها
ذهب العديد من الفقهاء ـ كصاحب الجواهر ـ إلى أنّ التعبير بمسيرة يوم ليس المراد منه خصوصيّة الزمان، بل هو تعبير آخر عن المسافة، وهذا معناه أنّهم قديماً كانوا يشرحون المسافة بين الكوفة والبصرة ـ كمثال فرضي ـ بطرق متعدّدة: ثمانية فراسخ، بريدان، أربعة وعشرون ميلاً، مسيرة يوم، فكلمة "مسيرة يوم" تشكّلَ لها في الذهن معنى مكاني، لا أنّ لديها معنى زماني، فبدل أن يقولوا: ثمانية فراسخ، قالوا: مسيرة يوم، ويقصدون بذلك ثمانية فراسخ، وعلى هذا الأساس فالكلمتان تعبير عن معنى مكاني، وهو أربعة وعشرون ميلاً، وليس للزمان حضور أصلاً هنا، حتى نتكلّم عن أنّه أيّ المعيارين يؤخذ به: الزمان أو المكان؟
لكنّ هذه المحاولة غير كاملة؛ وذلك أنّ بعض الروايات يُفهم منها غير ذلك، مثل خبر عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبد الله×، قال: .. فقلت له: في كم أدنى ما تقصر فيه الصلاة؟ قال: «جرت السنّة ببياض يوم»، فقلت له: إنّ بياض يوم يختلف، فيسير الرجل خمسة عشر فرسخاً في يوم، ويسير الآخر أربعة فراسخ وخمسة فراسخ في يوم؟ فقال: «إنّه ليس إلى ذلك ينظر، أما رأيت سير هذه الأميال (الأثقال) بين مكّة والمدينة؟ ثم أومى بيده أربعة وعشرين ميلاً تكون ثمانية فراسخ» (تهذيب الأحكام 4: 222)، فإنّه لو كان مصطلح بياض يوم دالاً على وحدة مكانيّة، لا على وحدة زمانيّة، لما كان معنى لسؤال السائل، وهذا يؤكّد أنّ مفهوم بياض اليوم أو مسير اليوم لا دليل على كونه وحدة قياس مكاني حصراً، بل هي في الحقيقة وحدة قياس زماني مستقلّ، غاية الأمر أنّه متطابق آنذاك غالباً مع وحدة القياس المكاني.
وهكذا الحال في خبر سماعة، قال: سألته عن المسافر في كم يقصّر الصلاة؟ فقال: «في مسيرة يوم، وذلك بريدان، وهما ثمانية فراسخ..» (الاستبصار 1: 222 ـ 223)، فلو كان اليوم والليلة وحدة مكانية متداولة بينهم، فما هي الحاجة لتوضيح أنّهما بريدان؟! ما لم نقل بأنّه يريد مزيد تبيين لا أكثر.
وكذا خبر الصدوق، قال: وسئل× عن رجل أتى سوقاً يتسوّق بها، وهي من منزله على سبع (أربع) فراسخ، فإن هو أتاها على الدابّة أتاها في بعض يوم، وإن ركب السّفن لم يأتها في يوم؟ قال: «يتمّ الرّاكب الذي يرجع من يومه صومَه، ويفطر (ويقصّر) صاحب السّفن» (المقنع: 199)، فإنّه لو كانت العبرة بالمسافة، فما هو الفرق بين استخدام الدابّة وغيرها؟! مما يعني أنّ مسيرة اليوم تختلف حتى في الأحكام، فضلاً عن التحديد المكاني. وقد حاول الحرّ العاملي تفسير هذا الحديث فقال: «ولعلّ وجه إتمام صاحب الدابة أنّه يرجع قبل الزوال أو يخرج بعده لما يأتي في الصوم، بخلاف صاحب السفينة» (تفصيل وسائل الشيعة 8: 467)، والتكلّف واضح عليه.
وكذا خبر الفضل بن شاذان ـ في العلل ـ عن الرضا×قال: «.. وإنّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقلّ من ذلك ولا أكثر؛ لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم، ولو لم يجب في مسيرة يوم، لما وجب في مسيرة ألف سنة؛ وذلك لأنّ كلّ يوم يكون بعد هذا اليوم فإنما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره؛ إذ كان نظيره مثله لا فرق بينهما..» (كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 454 ـ 455)، فإنّ طبيعة التعليل الوارد في هذه الرواية يعطي أنّ المدار على الزمان لا على المكان، حيث جرى تفسير الرواية بأنّ مسيرة يوم سوف تنقطع بالليل فيستراح فيه، فيكون اليوم الثاني وكأنّه بداية سفر جديد، وهكذا، وهذه الخصوصيّات لا تتناسب مع فكرة المكان، بل مع فكرة الزمان، مما يؤيّد أنّ فكرة المكان والزمان غير متطابقتين مفهوماً في الذهن الشرعي.
وعلى هذا المنوال، خبر عبد الله بن يحيى الكاهلي، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول في التقصير في الصلاة، فقال: «بريد في بريد أربعة وعشرون ميلاً»، ثم قال: «إنّ أبي كان يقول: إنّ التقصير لم يوضع على البغلة السفواء أو الدابّة الناجية، وإنّما وضع على سير القطار» (تهذيب الأحكام 4: 223؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 1: 436)، والمراد بالسفواء والناجية هو الخفيفة السريعة، أمّا سير القطار فهو سير قافلة الجمال المحمّلة عادةً بالأثقال. وقد شرحوا المراد هنا فقالوا بأنّ الإمام في مقام بيان أنّ تحديد المسافة بمسير يوم يقصد منه سير القطار فقط، فعندما تعبّر الروايات بمسير يوم فالمقصود مسير القافلة يوماً لا مسير الحصان السريع يوماً، ومسير القافلة يوماً كاملاً يكون عادةً ثمانية فراسخ.
ووفقاً لذلك فإنّ هذه الرواية تكشف عن أنّ فكرة مسيرة يوم غير واضحة؛ إذ لو كان مسير يوم هو تعبير آخر في الذهن العرفي آنذاك عن ثمانية فراسخ، فلا معنى لوقوع الالتباس والاشتباه في معيار تعيين اليوم وأنّه القافلة أو الدابّة الناجية، وهذا كلّه يكشف أنّ تعبير "مسيرة يوم" ليس تعبيراً مكانيّاً كما اشتهر بين بعضهم، بل هو تعبير زماني يحتاج إلى توضيح، ليُطابق التعبيرَ المكاني خارجاً.
وهذه النصوص وأمثالها نستدلّ بها لا من باب حجيّة الرواية، وإن كان بعضها معتبراً عند كثيرين، بل من باب كونها شاهداً تاريخيّاً معاكساً لفكرة أنّ مسيرة يوم هي معيار مكاني في وعيهم العام آنذاك، مما يشكّكنا في مثل هذه النتيجة التي توصّلوا إليها، لو سلّمنا أنّه قام عليها دليلٌ أصلاً.
3 ـ إشكاليّة الغموض والاضطراب في المعيار الزماني ومديات الحلّ
أشكل العديد من العلماء على فكرة معياريّة الزمان، وذلك على أساس أنّ هذا المعيار غير منضبط؛ فإنّ اليوم أو بياض اليوم يختلف من حيث الطول باختلاف فصول السنة، وفي كثير من الأحيان يكون الاختلاف لساعتين أو ثلاث أو أربع ساعات أو أزيد في البلاد المعتدلة، فضلاً عن البلدان الشماليّة على سبيل المثال، كما أنّ حركة اليوم والليلة غير منضبطة من ناحية السرعة والبطء، فقد يسرع شخص، فيقطع خمسين كيلومتراً فيما يخفف السرعة آخر فيقطع عشرين، وتختلف في أنّ اليوم والليلة زمان فعليّة حركة السير أو تشمل فترات الاستراحة القصيرة، بل قد تختلف القضية من ناحية معنى اليوم أو بياض اليوم، فهل معناهما واحد أو متعدّد؛ إذ يحتمل أنّ بياض اليوم هو الوقت الأكثر وضوحاً فيه، لا مثل بُعَيد الفجر أو قُبيل الغروب، كما أنّ اليوم غير واضح، فهل يشمل الفجر إلى غروب القرص أو إلى الحمرة المشرقيّة، أو أنّ البداية هي من الشروق وليس الفجر؟ أو غير ذلك، وهو ما اختلف فيه الفقهاء أنفسهم هنا، كما أنّ حركة السير في البرّ تختلف عنها في البحر، وهذا كلّه فضلاً عن الإشكاليّة المعاصرة التي تجعل حركة اليوم والليلة أكبر بكثير جداً في المسافة من حركة اليوم والليلة في الأزمنة السابقة. وهذا كلّه بخلاف فكرة الفراسخ فإنّها منضبطة شديدة الانضباط وواضحة، وإذا التبست فبمقدارٍ بسيط جداً.
وبتعبير آخر: إنّه ينبغي أن يؤخذ بالمعيار المكاني أصلاً، ويُرجع إليه المعيار الزماني، وهو مسافة يوم سفر؛ والسبب في ذلك أنّ القانون والحكم الشرعي بطبيعتهما يجب أن يكونا أمراً ثابتًا لا نسبيّاً، والمعيار المكاني يتصف بهذه الصفة، فهو ثمانية فرسخ في كلّ حال لا يتغيّر، أمّا المعيار الزماني فيبدو ـ على الأقلّ ـ نسبيّاً من جهتين: إحداهما: اختلاف الفصول، فإن لم تكن مسافة اليوم راجعة إلى مسافة مكانيّة معروفة، وأخذنا مسافة يوم بمعناها الزماني فقط، فإنّ هذه المسافة تختلف طبيعيّاً بين فصل الصيف الذي تطول فيه الأيام، وفصل الشتاء الذي تقصر فيه، فإذا كان المعيار واحداً، فلا بد أن يكون مكانيّاً. وثانيتهما: إن لم تكن مسافة اليوم مرتبطة بمسافة مكانيّة محدّدة معروفة، فسوف تختلف باختلاف الأشخاص والقوافل، وفقًا لأحوالهم البدنيّة، والمشاكل التي تصادفهم في السفر، وقدرتهم على الحركة، وهدفهم من السفر، وغير ذلك، فلهذا كلّه يكون المعيار المكاني أليق بالمعيارية من الزمان.
وقد أخذ هذا المرجّح (الانضباط) بالحضور لصالح المعيار المكاني على الزماني، منذ القرن العاشر تقريباً، بل نُسب للشهيد الأوّل أيضاً قبل ذلك.
هذه الإشكالية قد يمكن لأنصار المعيار الزماني الجواب عنها بالآتي:
أ ـ إنّ الروايات تتنوّع بين اليوم وبياض اليوم، وهذا ما يستدعي الأخذ بالقدر المتيقّن وهو فترة بياض النهار، فلا تشمل ما بين طلوع الفجر والشمس، بل يكون المعيار ما بين طلوع الشمس وغروبها، كما مال إليه أمثال الشيخ الأنصاري والشيخ الهمداني، بل هذا هو المتعارف في حركة سير القوافل آنذاك.
وإذا قلت بأنّ هذا الكلام لا يرفع إشكال النسبيّة وإبهام "اليوم"، تماماً كما أنّ الأخذ بالقدر المتيقَّن لا يُزيل إبهامَ الملاك، لكونه طريقةً لحلّ الإبهام في مقام العمل، لا في مقام النظر.
قلنا: المدّعى أنّنا متردّدون في المراد من تعبيرَي: يوم وبياض يوم، مع احتمالٍ قويّ في أن يراد بهما أمر واحد، والقدر المتيقّن منه هو طلوع الشمس الى الغروب، وغيره غير واضح.
ب ـ عندما نحسب مجموع النصوص الزمانيّة والمكانية نفهم المراد من اليوم في النصوص الزمانيّة، بل هذا ما شرحته رواية ابن الحجّاج المتقدّمة أيضاً، فإنّ ثمانية فراسخ هي اليوم، وهذا يعني أنّ مسيرة قافلة الجمال ثمانية فراسخ تعتبر اليوم المقصود في روايات الزمان، وهذا ما سوف يسهّل عمليّة فهم الموضوع، فليس مفهوم اليوم مضطرباً، بل هو القطعة الزمنيّة التي تمشي فيها الجمال المحمّلة مسافة ثمانية فراسخ، ولو حسبنا ذلك لرأينا أنّ المقصود باليوم هو اليوم المعتدل في البلدان المعتدلة، لا في ذروة فصل الشتاء، ولا ذروة فصل الصيف، وهذا ما دفع الكثير من الفقهاء للحديث عن اليوم "المعتدل" في روايات مسيرة اليوم الواحد. هذا إذا لم نقل ـ كما ألمح له بعضهم، كالسيد كاظم الحائري في بحثه المختصر المنشور في مجلة فقه أهل البيت ـ من أنّ السفر آنذاك كان دائماً عبارة عن بريدين، سواء كان النهار طويلاً أم قصيراً، فلا يسيّرون الجمال أكثر من ذلك، وهذا يعني أنّ مسيرة الجمال لثمانية فراسخ آنذاك، هو المدى الزمني المنظور في نصوص اليوم أو بياض اليوم، فيمكننا اليوم رصد المدّة الزمنيّة لحركة الجمال المتعارفة لثمانية فراسخ، ونعتبرها المعيار في الحكم ويرتفع الإشكال.
وقد تقول: إنّ هذا الجواب الذي قُصد به رفع إبهام "اليوم" على أساس المسافةِ المتعارفة، هو في الحقيقة اعترافٌ بأنّ الملاكَ الأصلي هو المسافةُ المكانيّة، وأنّ مسافةَ "يوم" إذا أُخذت ناظراً إلى حالةٍ متعارفةٍ أو معتدلة، فإنّها يمكن أن تكون خاليةً من الإبهام من خلال الإحالة إلى مسافةٍ معيّنة.
والجواب: إنّنا هنا لا نحيل اليوم الى المكان، بل نعرف المراد باليوم نفسه من خلال اتحاده مع المسافة في حركة سير القوافل، وهناك فرقٌ بين الأمرين.
ج ـ إنّ اختلاف حركة وسائل النقل سرعةً وبطأ، يمكن حلّه بالطريقة نفسها، كما فعل العديد من الفقهاء، فإنّ الروايات صرّحت بأنّ المنظور هو حركة قوافل الجمال التي هي الوسيلة النقليّة المتعارفة في الأسفار الحقيقيّة قديماً، كما نتكلّم اليوم مثلاً عن الباصات بوصفها وسيلة السفر البعيد، دون مثل الدراجة الهوائيّة والناريّة، ولهذا يمكن لهذا الفريق أن يقول بأنّ المقصود هو وسيلة السفر المتعارفة في اليوم المتعارف بالسرعة المتعارفة.
د ـ وعلى هذا المنوال تأتي سائر الأمور، مثل نوعيّة الطريق من حيث الوعورة والسهولة، كما أشار له بعض الفقهاء كالشهيد الثاني، فالمعيار هو الاعتدال.
هـ ـ الأمر عينه يجري في مفهوم اليوم الواحد، من حيث هل يلزم أن يكون كلّه سفراً أو أنّه يشمل الوقفات المتخلّلة لقضاء الحاجة أو لتناول الطعام أو لاستراحةٍ خفيفة، وهنا أيضاً قال بعض الفقهاء بأنّ المراد هو ما يشمل مثل هذه الفترات الزمنيّة؛ لأنّ السفر المعروف بسفر يوم وليلة كان يشمل مثل هذه الأمور، فلا نحسب سفر يوم على أنّه يوم كامل كلّه حركة سفريّة، بل يشمل الاستراحات أيضاً. وقد أشار لهذ غير واحد من الفقهاء، ليس آخرهم السيد البروجردي.
وبهذا يكون المراد من مسيرة يوم هو السير المتعارف من طلوع الشمس إلى غروبها سيراً معتدلاً بوسيلة النقل المتعارفة للسفر بحركة متعارفة في السرعة والتوقّفات المتخلّلة في اليوم المعتدل المتوسّط.
على هذا الأساس ينبغي اليوم الأخذ بعين الاعتبار الوسيلةَ الأكثر رواجاً في الأسفار، فإذا أخذنا ـ وهذا مجرّد مثال ـ الباصات، فإنّ حركة سائقي الباصات بسرعة معتدلة في اليوم المعتدل مع تخلّل الوقفات للاستراحة بطريقة معتدلة ستكون مثلاً حوالي 500 كلم، أو أكثر أو أقلّ، فنحسب هذه العمليّة ونقول بأنّ المسافة الشرعيّة اليوم هي كذا وكذا، بينما كانت قبل تطوّر وسائل النقل ثمانية فراسخ فقط.
4 ـ إشكاليّة الغموض والاضطراب في المعيار المكاني، وإمكانات الحلّ
أشكل بعضٌ قليل من العلماء على الرأي المشهور (معياريّة المكان)، بأنّها تعاني من مشاكل، أبرزها أنّ تقدير الفراسخ والأميال هو محلّ اضطراب، ففي الوقت الذي قدّر فيه بعضهم الميل بأربعة آلاف ذراع، قدّره آخرون بثلاثة آلاف، وهو اختلاف فاحش جداً، ولا يسعنا المجال لشرح اختلافاتهم الكثيرة في معنى الفرسخ والميل والبريد والمنزل والمرحلة، واضطراب الكلمات جداً في ذلك ، بل إنّهم كانوا يحدّدون البريد وغيره بمسيرة يوم، فكان الحكّام يرسلون ساعي البريد لإيصال رسالة فكان يقطع في اليوم بريداً أو بريدين وهكذا، فهذه المسافة التي تقطع في اليوم أطلقوا عليها اسم البريد، فالزمان يبدو أنّه كان أساساً في فهم المسافات وليس العكس، الأمر الذي يزيد المسألة تعقيداً واضطراباً. بل حتى تبديل الفرسخ والبريد وغيرهما بالكيلومتر في العصر الحديث هو الآخر لم يكن سهلاً، حيث اختلفت فيه الأقوال بين فقهاء السنّة والشيعة وبين الباحثين المختصّين أيضاً، ولهذا فليس من السهل القول بأنّ أربعة فراسخ هي 22 كيلومتراً، ومن هنا وجدنا اختلافات أيضاً بين الفقهاء في العقود الأخيرة على هذا الصعيد، حتى أنّ بعض الباحثين جعل الفرسخ ثمانية كيلومترات، وهذا يعني أنّ أربعة فراسخ تساوي أكثر بكثير من المسافة المقرّرة المعروفة (لمراجعة هذه التفاصيل كلّها ونقل الكلمات المرتبطة باضطراب المعيار المكاني، انظر: كديور، نماز مسافر: 53 ـ 68).
وربما يتمكّن أنصار الرأي المشهور من الدفاع عن أنفسهم بأنّهم لو لم يتمكّنوا من حسم معاني هذه المفردات والمسافة الدقيقة التي تقدّمها، فإنّ بإمكانهم الأخذ بالقدر المتيقّن، وإجراء استصحاب حكم التمام إلى اليقين بكون المسافة هي سفرٌ حقيقيّ شرعي، فليست هذه مشكلة فقهيّة حقيقية غير قابلة للحلّ عندهم.
5 ـ التعليق على إشكاليّة عدم إمكان الأخذ بالتخيير في العصر الراهن
ذهب بعض المعاصرين إلى أنّ الأخذ بروايات التخيير بين المعيار الزماني والمكاني، والتي استخدمت حرف العطف (أو) هو أمرٌ معقول في الأزمنة الماضية، حيث كان المعياران متطابقين في العادة، فمسيرة يوم تساوي ثمانية فراسخ، أمّا في العصر الراهن، فقد اختلف الأمر اختلافاً فاحشاً؛ فإنّ مسيرة يوم في الباصات تقارب الخمسمائة كيلومتر، وفي البحر تقارب الأربعمائة، وفي الجوّ تزيد عن ذلك وهكذا، وهذا يعني أنّ فكرة التخيير بينهما لم يعد لها معنى اليوم؛ لأنّ النصوص إنّما أشارت لهما لوحدة الناتج عنهما في ذلك الزمان (انظر: كديور، نماز مسافر: 92 ـ 93).
وربما يحاول أنصار التخيير الدفاع عن أنفسهم هنا بالقول بأنّ التخيير الذي نفهمه هو أنّه متى تحقّق أحدهما ثبت القصر، وهذا ما تفيده هذه الروايات، ويفيده حاصل الجمع بين مجموع النصوص في الباب، بل إنّ بعض نصوص القائلين بـ (أحدهما) يفهم منها ذلك حتى في الزمن القديم، بمعنى أنّه في بعض الموارد قد يصل الإنسان إلى ثمانية فراسخ قبل مرور يوم لأنّ وسيلة السفر هي الفرس مثلاً، فيلزمه القصر، وقد يمرّ يوم ولا يصل؛ لعارضٍ ما، كما لو كان يسافر مشياً، فيلزمه القصر وهكذا، فبالنسبة إليهم التخيير لا يعني اختيار أحدهما، بل كفاية أحدهما. ولا يعني ذلك الدوران بين الأقلّ والأكثر؛ لأنّه من الممكن تحقّق مسيرة يوم قبل ثمانية فراسخ، والعكس ممكن أيضاً. ولا يوجد مانع ثبوتي من شيء من هذا القبيل.
وعليه، فإنّ رفض نصوص التخيير أو رفض فهم فكرة التخيير أو كفاية أحدهما، يجب أن يُبنى مسبقاً على كون نصوص الترديد كاشفة عن وحدة المسافة المأخوذة، أو عن وحدة الزمان، وأنّ الترديد إنّما جاء نتيجة وحدة الاثنين، ولو لم نثبت ذلك في المرحلة الأولى لما أمكن الإيراد على القول بكفاية أحدهما بمثل هذا الإيراد، والمفروض أنّ القائلين بالتخيير لا يرون ذلك ضرورةً.
6 ـ النتائج الفقهيّة لتطوّر وسائل النقل وتأثيرها على تغيّر مفهوم السفر
قد يقال: إنّ الأسفار بين المدن قديماً كانت تُحسب بالأيّام، بينما هي الآن تحسب بالساعات، فسابقاً كنّا نقول: سافرت من مكّة إلى البصرة في عشرة أيام، بينما اليوم نقول: سافرت من مكّة إلى البصرة في عشرة ساعات، فتطوّر وسائل النقل غيّر الوحدة الزمنيّة للسفر نفسها، ومن النادر أن تجد سفراً بالأيّام في العصر الحديث، وهكذا الحال في المعيار المكاني، فإنّ قطع عشرة كيلومترات لا يسمّى اليوم سفراً، وقطع خمسة وعشرين كيلومتراً لا يُسمّى سفراً، فلا أقول: سافرتُ من مدينة صور إلى مدينة صيدا، بل أقول: ذهبت إلى صيدا، وإنّما أقول: سافرت من بغداد إلى طهران، أو سافرت من شيراز إلى مشهد، أو سافرت من عمّان إلى المدينة المنوّرة، فالمسافة المطلوبة لتحقّق عنوان السفر اليوم باتت تختلف، حتى أنّك لو أطلقت عبارة "مسافر" على شخص انتقل ليومٍ واحد من بيروت إلى طرابلس، لاستغرب الناس منك، فهذه التحوّلات اللغويّة في التداول العرفي سببها حدوث تحوّلات في المعايير الزمانيّة والمكانيّة نتيجة التحوّلات في وسائل النقل وسهولة أو صعوبة الانتقال بين المدن.
وبناءً عليه، فإنّ العمل بثمانية فراسخ يعني تجاهلاً للتحوّل الذي حصل في هويّة السفر نفسه، بمعنى أنّ قطع ثمانية فراسخ اليوم لم يعد يعتبر سفراً أساساً ولم يعد يصنّفه العرف سفراً، فضلاً عن قطع مسافة أربعة فراسخ ذهاباً وأربعة إيّاباً، وسبب تلاشي مفهوم السفر هنا هو التحوّل في وسائل النقل والتغيّر في المعيار الزمني والمكاني معاً، وهذا يتقوّى بأنّ الشريعة لم تؤسّس مفهوم السفر، بل إنّما وضعت قيوداً عليه؛ لتكون له أحكام شرعيّة مثل القصر والإفطار، وإلا فإنّ مفروض النصوص هو وجود سفر عرفي، فإنّ هذا كان مركوزاً في أذهانهم وفي تداولهم اللغوي، ومع تغيّر السفر العرفي وعدم صدق عنوان المسافر ـ لو تجرّدنا عن الذهن المتشرّعي المأنوس بالفقه الإسلامي ومعاييره ـ فإنّ تطبيق المعيار المكاني هنا (ثمانية فراسخ) يعدّ خطأ حقيقيّاً.
ينتج عن هذا كلّه أنّ أيّ تصوّر للمعيار الزماني أو المكاني يلزم أن يكون متضمّناً فيه عنوان السفر العرفي، وإلا فإنّنا بذلك سوف نقوم بسلخ قيد متصل بُنيت النصوص كلّها عليه، وهو صحّة إطلاق السفر على هذا الانتقال من مكان إلى مكان.
قد تقول: إنّ هذا الكلام لازمه تغيّر العناوين التي وضعتها الشريعة، وهذا يحتاج الى دليل.
والجواب: إنّ هذا الكلام كلّ ما يُقصد منه هو أنّ مختلف نصوص الحديث في الباب أُخذ فيها ضمناً مفهوم السفر عرفاً، مما جعل المعيار الزماني والمكاني الموجودين في النصوص منسجمين مع عنوان السفر، أمّا لو انعدم عنوان السفر عرفاً، فهل تشمل النصوص قطع مسافة ثمانية فراسخ أو لا؟ هذا ما يحتاج إلى دليل، وليس العكس.
قد تقول: إنّ هذا لا يمكن أن يُعدّ جواباً على الإشكال؛ لأنّ أخذ المفهوم العرفي للسفر في الأدلّة هو أوّل الكلام؛ إذ ليس من المعلوم أنّ الروايات شارحةٌ لمفهوم السفر العرفي، بل يحتمل أن تكون الروايات بصدد بيان ملاك القصر والإفطار الذي يُطلق عليه "السفر الشرعي". والجواب لا يكون تامّاً إلا إذا كان لدينا دليلٌ على أنّ المعايير المذكورة إنّما هي بيانٌ لمعيار السفر العرفي، أو على الأقلّ لجزءٍ منه، بوصفه حِصّةً مقيَّدةً بهذا العنوان نفسه، لتكون معياراً للسفر الشرعي.
والجواب: إنّ المقصود هنا هو أنّ النصوص مبنيّةٌ على إطلاق عنوان السفر على هذه المسافة التي اعتبرها الشارع موجبةً للقصر والإفطار، فإنّهم يستخدمون كلمة السفر في الأسئلة والأجوبة بشكل واضح وعرفي، بعيداً عن الجانب التعبّدي والاعتباري.
7 ـ معرّفية المعيار الزماني والمكاني بين المشكلة الثبوتيّة والإثباتيّة، تعليق ونقد
ذكر المحقّق الإصفهاني أنّ المعيار الزماني والمكاني لا يمكن ثبوتاً أن يكونا مجرّد معرّفين وطريقين لمعيارٍ حقيقيّ يقف خلفهما (صلاة المسافر: 6).
وقد ناقشه بعض المعاصرين، بأنّ ذلك معقول؛ وهو فرض أنّ المعيار الحقيقي هو التعب والمشقّة النوعيّة، ويكون المعيار الزماني والمكاني معرّفين عنه في ذلك العصر، ثم علّق المعاصر فقال بأنّ المشكلة في ذلك إثباتيّة، وليست ثبوتيّة، خلافاً للإصفهاني الذي اعتبر المشكلة ثبوتيّةً، ومعنى أنّ المشكلة إثباتيّة هو أنّ ظاهر الأدلّة كون المعيار الزماني والمكاني قد أُخذا على نحو الموضوعيّة لا الطريقيّة (محمد رضا السيستاني، بحوث في أحكام صلاة المسافر 1: 191 ـ 193).
وقد تقدّم منّا وسيأتي مزيد تعليق حول فكرة أخذ المعيار الزماني والمكاني على نحو الموضوعيّة، فلا نطيل.
8 ـ شواهد عدم معياريّة الزمان مستقلاً ونتائجها، تحليل وتعليق
ذهب بعضٌ إلى أنّ روايات مسيرة اليوم لا يمكن الأخذ بها بوصفها معياراً مستقلاً؛ لأنّ هناك روايات تقيّد معياريّة مسيرة اليوم بثمانية فراسخ، ولا يعقل أن يقال بأنّ مسيرة اليوم هي المعيار، ثمّ يتمّ تقييدها بمسير ثمانية فراسخ، فإنّ هذا في الحقيقة رجوع لمعيار الفراسخ، وهذه الروايات هي:
الرواية الأولى: خبر ابن الحجّاج المتقدّم، عن أبي عبد الله×، قال: .. فقلت له: في كم أدنى ما تقصر فيه الصلاة؟ قال: «جرت السنّة ببياض يوم»، فقلت له: إنّ بياض يوم يختلف، فيسير الرجل خمسة عشر فرسخاً في يوم، ويسير الآخر أربعة فراسخ وخمسة فراسخ في يوم؟ فقال: «إنّه ليس إلى ذلك ينظر، أما رأيت سير هذه الأميال (الأثقال) بين مكّة والمدينة؟ ثم أومى بيده أربعة وعشرين ميلاً تكون ثمانية فراسخ» (تهذيب الأحكام 4: 222)، فإنّ هذه الرواية تفيد أنّه لا عبرة بمسير يوم إذا لم يكن متضمّناً لمسير ثمانية فراسخ.
الرواية الثانية: خبر أبي ولاد، قال: قلت لأبي عبد الله×: إنّي كنت خرجت من الكوفة في سفينة إلى قصر ابن هبيرة، وهو من الكوفة على نحو عشرين فرسخاً في الماء، فسرت يومي ذلك أقصر الصلاة، ثم بدا لي في الليل الرجوع إلى الكوفة، فلم أدرِ أصلّي في رجوعي بتقصيرٍ أم بتمام؟ وكيف كان ينبغي أن أصنع؟ فقال: «إن كنت سرت في يومك الذي خرجت فيه بريداً فكان عليك حين رجعت أن تصلّي بالتقصير؛ لأنّك كنت مسافراً إلى أن تصير إلى منزلك، قال: وإن كنت لم تسر في يومك الذي خرجت فيه بريداً فإنّ عليك أن تقضي كلّ صلاة صلّيتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام من قبل أن تريم من مكانك؛ ذلك لأنّك لم تبلغ الموضع الذي يجوز فيه التقصير حتى رجعت، فوجب عليك قضاء ما قصرت، وعليك إذا رجعت أن تتمّ الصلاة حتى تصير إلى منزلك» (تهذيب الأحكام 3: 298 ـ 299)، فإنّ الرواية واضحة في أنّه رغم مسيره، فإنّه لا يقصر إذا لم يسر مسافة تلفيقيّة بريدين.
الرواية الثالثة: خبر سماعة المتقدّم، قال: سألته عن المسافر في كم يقصّر الصلاة؟ فقال: «في مسيرة يوم، وذلك بريدان، وهما ثمانية فراسخ..» (الاستبصار 1: 222 ـ 223)، فإنّه لو كان مسير يوم هو المعيار فإنّ ذكر البريدين يصبح بلا معنى، بل إضافة لا حاجة إليها.
الرواية الرابعة: خبر زرارة ومحمّد بن مسلم، عن أبي جعفر×، قال: «.. وقد سافر رسول الله‘ إلى ذي خشب، وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان، أربعة وعشرون ميلاً، فقصّر وأفطر، فصارت سُنّة..» (كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 434 ـ 435)، وهي تشبه الرواية الثالثة في طريقة الاستدلال (بحوث في أحكام صلاة المسافر 1: 216 ـ 219).
ويمكن أن يناقش:
أوّلاً: إنّ الرواية الثالثة والرابعة لا تدلان على شيء هنا، بل غايتهما بيان أنّ مسيرة يوم تساوي كذا وكذا، لتأكيد أنّ المعيار في حساب المسيرة هو القوافل وليس شيئاً آخر.
ثانياً: غاية ما يدلّ عليه الخبران الأوّلان هو أنّ مسيرة يوم لا توجب القصر إلا إذا حقّقت ـ في ضمنها ـ مسافة ثمانية فراسخ، ولكنّ هذا لا يوجب كون ثمانية فراسخ معياراً نهائيّاً للقصر، ولو مع عدم تحقّق مسير يوم، بل ينسجم ذلك مع فرضيّة كون المركّب منهما هو موجب القصر لا أحدهما، وهي فرضية غير مستحيلة، بل قد تلوح ـ بنحو الطرح العلمي ـ من كلمات بعض الفقهاء هنا وهناك.
قد تقول: إنّه فيما يتعلّق بالرواية الأولى، يظهر أنّها تدلّ على نفي كون "اليوم" معياراً؛ لأنّ السائل لمّا طرح مسألة اختلاف السير في يومٍ واحد، أجاب الإمام: «ليس إلى ذلك ینظر»، وفي المقابل طرح مقدار سير القوافل، وهو ما يعادل ثمانية فراسخ، ومقتضى هذا الجواب أنّ الزمان وسير يومٍ واحدٍ ليسا معياراً، بل المعيار هو قطع المسافة التي تقطعها القوافل في يومٍ واحد، وعليه، فإنّ عبارة «ليس إلى ذلك ینظر» واستبدالها بمقدار سير القوافل تلازم نفيَ معيارية "اليوم"، بحيث إنّ من يقطع نفس تلك المسافة في دقيقةٍ واحدة، يصدق عليه حكم القصر، وهذا عينُ نفي كون "اليوم" هو المعيار.
والجواب: إنّ تعبير الإمام بأنّه ليس إلى هذا يُنظر، لا يقصد به نفي معيارية اليوم مطلقاً، بل يقصد به أنّ العبرة باليوم الذي يكون يوماً في نظر سير القوافل وأهلها، وإلا فسوف يتهافت جواب الإمام الأوّل: «جرت السنّة ببياض يوم»، مع جوابه الثاني، فلاحظ.
لكن قد يُشكل مرّةً أخرى، فيقال: إنّ مجرّد قول الإمام للراوي إنّ "اليوم" ليس ملاکاً لمن يقطع المسافة مثلاً على فرس، بل المعيار لهذا الشخص أيضًا هو مسافةُ يومِ قافلةٍ من الجمال، معناه أنّ "اليوم" ليس هو المعيار في حقّ هذا الشخص، بل المعيار هو قطع المسافة التي تقطعها القافلة في يومٍ واحد، ولذلك، إذا قطع هذا الشخص نفس مسافة يوم القافلة في ساعةٍ واحدة، فقد تحقّق الملاك في حقّه؛ إذ الملاك بالنسبة إلیه أیضاً یوم القافلة.
وأكتفي بهذه التعليقات طلباً للاختصار.
المرحلة الرابعة: الرأي المختار في معيار القصر والإفطار
بعد مجمل المراحل التي تقدّمت، والملاحظات التي أوردناها على بعض المواقف والكلمات، وحيث إنّ المقام مقام اختصار، وإلا فالبحث قابل للإطالة جداً؛ لهذا نحاول هنا اختصار تصوّرنا للمسألة؛ وذلك عبر توليفة نقدّمها على الشكل الآتي:
أوّلاً: فيما يستفاد من النصّ القرآني
نصّ القرآن الكريم على أنّ الذي يكون على سفر يمكنه الإفطار أو يجب عليه الإفطار، قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: 185).
هذه الآية تشير إلى سقوط الصوم عن المسافر وتضعه في مصاف المريض، ثم تعلّل بأنّ الله يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وهذا التركيب يفهم منه عرفاً أنّ وضع الصوم على المريض مما فيه عسر نوعي، وكذلك وضع فريضة الصوم على المسافر فإنّ ذلك مما فيه عسر نوعي، ولو بمرتبة معيّنة من العسر، وقد استخدم القرآن شبيه هذا التركيب في تشريعه للتيمّم، حيث قال تعالى: ﴿.. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (المائدة: 6)؛ فإنّ التذييل بأنّ الله لا يريد أن يجعل عليكم حرجاً، يُفهم منه أنّ هذه التكاليف لم تُجعل؛ لأنّ جعلها سيكون حرجاً ولو نوعيّاً.
نستنتج من المقاربة القرآنية للموضوع أنّ تشريع الإفطار في السفر هو تشريعٌ تخفيفي ناتج عن أنّ السفر بنوعه ـ أي بأغلب أو بالكثير جداً من أفراده ـ كان سوف يسبّب كُلفة على الناس، وسيفرض عليهم نوعَ ضيق، فخفّف الله عنهم وطلب منهم القضاء.
ولم يتعرّض القرآن ـ كما قلنا سابقاً ـ لتشريع قصر الصلاة في غير حال الخوف (والتي هي حال حرجيّة وضرريّة شديدة الاحتمال)، لكن المقدار الذي تعرّض فيه للصوم يفهم منه أمران:
أ ـ إنّ المعيار هو ما يفهمه العرف سفراً؛ لأنّ القرآن لم يقم بتعريف السفر، بل ترك فهم الكلمة ومصداقها للوعي العقلائي والعرفي، فيكون قد أحال التعريف للناس، فكلّ ما يصدق عليه أنّه سفرٌ عرفاً، بلحاظ الزمان والمكان والظرف والحال، فإنّ تشريع الإفطار فيه ثابت، والعكس صحيح.
ب ـ إنّ نكتة تشريع الإفطار للمسافر ليست مطلق السفر بما هو هو، بل يُفهم من تركيب التعليل والمعلَّل أنّ السفر يلاحظ فيه عند المقنّن كونه ـ ولو نوعاً ـ موجباً لقدر إضافي من العسر والمشقّة، فيخفّف الله عنهم التكاليف، ولهذا تسقط الكثير من النوافل في السفر؛ لأنّ الناس تكون مشغولةً بأمورها ومتعبة عادة.
ثانياً: فيما يُستفاد من النصّ الحديثي
إنّ ما نفهمه من النصوص الحديثية هو أنّها بصدد تقديم معيار بالحدّ الأدنى للسفر الموجب نوعاً للتعب والنصب، بحيث يكون القصر نوعاً من التخفيف، وذلك أنّه مضافاً لتأثير الفهم القرآني المشار إليه آنفاً على فهم قضيّة أحكام المسافر في الحديث، بحيث يساهم القرآن في فهم الحديث وفلسفة قوانينه، فإنّ النصوص الحديثية تشير لتعليلٍ مهمّ هنا، ومن هذه النصوص:
الرواية الأولى: خبر الفضل بن شاذان ـ في العلل ـ عن الرضا×قال: «أنّ الصلاة إنّما قصرت في السفر؛ لأنّ الصلاة المفروضة أوّلاً إنّما هي عشر ركعات، والسبع إنّما زيدت فيها بعد، فخفّف الله عزّ وجل عن العبد تلك الزيادة؛ لموضع سفره وتعبه ونصبه واشتغاله بأمر نفسه وظعنه وإقامته، لئلا يشتغل عما لا بدّ منه من معيشته رحمةً من الله عزّ وجل وتعطّفاً عليه، إلا صلاة المغرب، فإنّها لا تقصر؛ لأنّها صلاة مقصرة في الأصل. وإنّما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقلّ من ذلك ولا أكثر؛ لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم، ولو لم يجب في مسيرة يوم، لما وجب في مسيرة ألف سنة؛ وذلك لأنّ كلّ يوم يكون بعد هذا اليوم فإنّما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره؛ إذ كان نظيره مثله لا فرق بينهما..» (كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 454 ـ 455).
فإنّ هذه الرواية واضحة في بيان التعليل بالتعب والنصب ووعث السفر، وقد شرح البروجردي هذه الرواية فقال: «ومراده× أنّ ما يوجب الترخيص في القصر، أعني المشقّة الزائدة الحاصلة بالسفر، إنّما تتحقّق في حال السير فقط. فكلّ يوم يتحقّق فيه بالسير مشقّة زائدة على حال الحضر، وهي التي توجب القصر، وهذه المشقة ترتفع في الليل بالاستراحة، وتتجدّد في اليوم الثاني بالسير وهكذا. فإذا لم يكفِ المشقّة الحاصلة في يوم لإيجاب القصر لم يكف المشقّة الحاصلة بعد هذا اليوم أيضاً. وبعبارة أخرى: الناس في الحضر أيضاً يتحمّلون المشاقّ لتأمين المعاش، غاية الأمر أنّ السفر يزيد المشقّة، فثبت القصر لتلك المشقّة الزائدة، ومشقّة كلّ يوم ترتفع بالاستراحة في الليل، فلو لم يكن هذا المقدار من المشقّة موجباً للقصر لما وجب في مسيرة ألف سنة أيضاً لحصول الفترة بين المشقّات بالاستراحة في الليل» (البدر الزاهر: 101).
وأُشكل على هذه الرواية بأنّ السفر فيه مشقّة زائدة ولو مع الاستراحات، فليس الحال أنّه إذا استراح في الليل فكأنّ اليوم الثاني يشبه اليوم الأوّل، بل هو لا يشبهه؛ فإنّ اليوم الرابع في السفر لا يشبه اليوم الأوّل، حتى لو كان هناك استراحة في الليل.
ولكن قد يُجاب بأنّ الرواية لعلّها تريد بيان الوحدة الأصليّة للتعب الذي يأتي به السفر، بمعنى أنّ الحصّة التي تعتبر الحدّ الأدنى من التعب في السفر نوعاً هي سفر يوم، فإذا لم يجب فيها القصر فلا يجب في غيرها، ولهذا أضفنا في تقريبنا أعلاه أنّ السفر الذي يوجب القصر هو الذي فيه الحدّ الأدنى النوعي من التعب والمشقّة، فبتحقّقه يتحقّق القصر، أو فقل: إنّ الرواية ناظرة للإجهاد الفعلي المتواصل بوصفه معياراً.
الرواية الثانية: صحيحة ابن سنان قال: سألت أبا عبد الله× عن الرجل يسافر في شهر رمضان ومعه جارية له فله أن يصيب منها بالنهار؟ فقال: «سبحان الله، أما تعرف حرمة شهر رمضان، إنّ له في الليل سبحاً طويلاً»، قلت: أليس له أن يأكل ويشرب ويقصر؟ فقال: «إنّ الله تبارك وتعالى قد رخّص للمسافر في الإفطار والتقصير رحمةً وتخفيفاً لموضع التعب والنصب ووعث السفر، ولم يرخص له في مجامعة النساء في السفر بالنهار في شهر رمضان، وأوجب عليه قضاء الصيام، ولم يوجب عليه قضاء تمام الصلاة إذا آب من سفره» ثمّ قال: «والسنّة لا تقاس، وإنّي إذا سافرت في شهر رمضان ما آكل إلا القوت وما أشرب كلّ الريّ» (الكافي 4: 134).
الرواية الثالثة: صحيحة معاوية بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله×: إنّ أهل مكّة يتمّون الصلاة بعرفات، فقال: «ويلهم ـ أو ويحهم ـ وأيّ سفرٍ أشدّ منه؟! لا، لا يتمّ (تتمّ)» (الكافي 4: 519؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 1: 447؛ وتهذيب الأحكام 3: 210).
وغيرها من الروايات، ومن أهمّها روايات ثبوت القصر عندما "يجدّ السير" بالمكاري والجمّال، والتي سوف يأتي البحث عنها مفصّلاً عند الحديث عمّن عمله في السفر أو من عمله السفر، والتي وصفها الماتن هناك بـ "الكثيرة"، وهي تفيد أنّ المكاري والجمّال إذا لم يتخلّل في سفرهما الاستراحة المعروفة، بل واصلا الطريق، فإنّهما يقصّران؛ لأنّ هذا السفر ليس سفراً معتاداً لهما، بل فيه مشقّة إضافيّة على ما اعتاداه من السفر.
فهذه الروايات لها لسان ـ أو محتوى ـ تعليلي سياقي، يُفهمنا أنّ فكرة القصر والإفطار جاءت في سياق المشقّة النوعيّة، ولا أقلّ من أنّها تخلق قدراً متيقّناً من فهم مجموع النصوص في الباب. وسوف يأتي ما هو مقصودنا من المشقّة النوعيّة هنا.
ثالثاً: فيما يستفاد من مناسبات الحكم والموضوع
إنّ النصّ القرآني والنصوص التعليلية، يعزّزهما هنا الفهم العرفي القائم على مناسبات الحكم والموضوع، فالصلاة واجبة ولا تتسامح الشريعة فيها بأيّ حال، وعندما نرصد الموارد التي تجري فيها تعديلات وتسامحات في الشريعة على الصلاة فإنّنا نجدها قائمة على فكرة المشقّة والحرج أو الضرر وعدم القدرة، مثل صلاة المطاردة وصلاة الخوف وصلاة الإيماء وصلاة الغريق وغير ذلك، وعندما يلاحظ العرف تخفيف الصلاة من أربع ركعات إلى ركعتين في أمرٍ هو بطبيعته يحمل مشقّة وتعباً، فإنّه يفهم من هذه القضية ارتباطها بهذا العنوان، وأنّه لا يُعقل كون هذا التشريع جاء خارج سياق المشقّة، بل يتلقّاه العرف كذلك، وفي ذلك الزمان كان معيار اليوم ـ المساوي في العادة في الأسفار الحقيقيّة الكبرى لمسير ثمانية فراسخ أو أقلّ بقليل أو أكثر ـ هو معيار الحدّ الأدنى من التعب المسبَّب عن السفر، فتعاملت الشريعة معه وخفّفت الحكم. فادّعاؤنا هنا هو أنّ الفهم العرفي الأوّلي لقضيّةٍ من هذا النوع يأتي في سياق فهم معياريّة التعب ونكتة التخفيف؛ فإذا انعدمت هذه النكتة تماماً لم يكن معنى لهذا التشريع في الذهن العرفي، فضلاً عن انعدام عنوان السفر نفسه عرفاً في بعض الموارد.
رابعاً: فيما يُستفاد من النظر الاستقرائي داخل فقه السفر
إنّ النظر الاستقرائي في البُنية الفقهيّة لأحكام صلاة وصوم المسافر، تعزّز هذا الاستنتاج، فلو وصل المسافر إلى وطنه أتمّ، والوطن هو ـ نوعاً ـ موضع راحة الإنسان، ولو أقام عشرة أيّام أتمّ، وهي مدّة كافية للمسافرين آنذاك للراحة، ولو كان سفره معصية أتمّ؛ لأنّ في القصر تخفيفاً ورعايةً ومحبّة ورفعاً للمشقّة، فلم يناسب رفعها عن العاصي، إذ من المبرّر أن يؤخذ بأشقّ الأحوال، ولو كان ممّن بيته معه لم يكن عليه قصر؛ لأنّ هؤلاء لا يشعرون أساساً بالتعب الإضافي؛ إذ هذه هي طبيعة حياتهم، ومثلهم من يعمل في السفر وهكذا، فإنّ هذه الشواهد والقرائن وغيرها تعزّز الفهمَ العرفي ومناسبات الحكم الموضوع المتقدّمة، وتقوي النصوص التعليليّة، وتشترك مع دلالة النصّ القرآني.
خامساً: فيما يستفاد من السياق التاريخي واحتماليّة قرينيّة الموجود
إنّ السياق التاريخي ـ وهو كون هذه الأسفار تشكّل مشقّةً نوعيّة آنذاك ـ يندرج ضمن احتمال قرينيّة الموجود، بمعنى أنّ الذهن العرفي آنذاك قد يكون قد فهم القصر بنكتة المشقّة النوعيّة، فخاصيّة المشقّة المقترنة بهذه الأسفار قد تكون شكّلت قرينةً لبيّة متصلة في الذهن العرفي آنذاك. وهذا ليس مجرّد احتمال فرضيّ، بل تُسعفه كلّ العناصر التي تقدّمت أيضاً، بما يجعله احتمالاً موضوعيّاً معتدّاً به، وهذا كافٍ في شلّ قدرة الإطلاق والعموم في الجملة؛ لأنّ احتمال قرينيّة الموجود المتصل توجب الإجمال الذي يفرض الأخذ بالقدر المتيقّن، وهو عدم شمول الأحكام لحالة وسائل النقل المعاصرة التي أخرجت السفر الشرعي تماماً عن حالة التعب النوعي، بل أحياناً أخرجته عن صدق عنوان السفر عرفاً.
والنتيجة الأوّليّة: إنّ النكتة التعليليّة التي يفهمها العرف منطلقاً للقصر والإفطار، يمكن أن توسِّع الشريعةُ دائرتها أو تضيّق قليلاً هنا أو هناك، فمثلاً من المعقول ثبوتاً أن يحكم بقصر الصلاة في مورد ليس فيه تعب شخصي ولا نوعي، لكنّ هذه الموارد تقع على هامش الحكم الأصلي، أمّا أن يُصبح أصل تشريع القصر والغالبيّة الساحقة من مصاديقه خارجة عن عنوانيّة المشقّة، فهذا شيء غير مفهوم عرفاً ولا عقلائيّاً، وفقَ ما تقدّم.
وبناءً عليه، فإنّ السفر الموجب للقصر والإفطار هو السفر الذي يحوي مشقّةً نوعيّة، وحيث إنّه لم يعد يمكن حسابها بالمكان بالطريقة الفقهية المتداولة (ثمانية فراسخ مثلاً)، وإنّما يمكن حسابها بالزمان، فإنّ المتعيّن تطبيق النكتة التعليلية على معيار الزمان الوارد في النصوص، وتكون النتيجة: إنّ سفر عشر ساعات في اليوم مع الاستراحات المتعارفة، بأيّ وسيلةٍ كان السفر، موجبٌ للقصر والإفطار، أمّا ما هو أقلّ من ذلك فلا.
سادساً: مداخلات نقديّة محتملة على تصوّرنا الخاصّ
لكن قبل أن نستكمل رؤيتنا للموضوع، لا بدّ من عرض مداخلات نقديّة محتملة قد ترد على تصوّرنا:
المداخلة الأولى: ما هو المعروف من أنّ النصوص التعليليّة هنا جاءت بوصفها بياناً للحكمة، دون العلّة التي يدور الحكم مدارها، وحيث لا نملك دليلاً على العليّة ـ بمعنى المناطية والمداريّة هنا ـ فيجب علينا التمسّك بإطلاقات النصوص الواردة في بيان الزمان أو المكان.
ويجاب: إنّ النصوص التعليلية ـ ومعها الاستقراءات ومناسبات الحكم والموضوع العرفيّة ـ تشكّل قرينة، لا أنّنا ندّعي أنّها هي المعيار، والفرق بينهما هو أنّ القول بمعياريّة المشقّة النوعيّة مطلقاً يلزم منه انعدام الحكم أو وجوده تبعاً للمشقّة لا غيرها، بينما الذي نريد ادّعاءه هنا هو مستوى أقلّ، وهو أنّ العناصر التعليليّة التي أشرنا إليها تمنع عن انعقاد إطلاق في سائر النصوص لحالة صيرورة السفر الموجب للقصر غير متعبٍ نوعاً، فهناك فرق بين أن نقول بأنّ التعب النوعي يُثبت القصر وعدمُه ينفي القصر مطلقاً، وبين أن نقول بأنّ التعب النوعي المأخوذ في سياق التعليلات يفرض منع وجود إطلاق في سائر النصوص لحالة ما إذا تحوّل السفر الشرعي في غالب مصاديقه إلى سفر غير متعب نوعاً، كما هي الحال اليوم وفق فتوى الفقهاء، وكأنّنا ندّعي شلّ قدرة الإطلاق في النصوص عن الشمول لهذه الحال التي نعاصرها اليوم، أو التشكيك الحقيقي في وجود إطلاق من هذا النوع، فانتبه.
وحتى مع احتمال المناطيّة بهذا المعنى، فقد أشرنا قبل قليل لكفاية احتماليّة قرينيّة الموجود، فراجع حتى لا نعيد.
وقد تقول ـ كما قال بعض المعاصرين ـ: إنّه حتى لو أصبح المعيار المكاني نادراً اليوم بملاحظة نكتة التعليل التي هي حكمة، لكن لعلّ الشريعة أرادت الإبقاء على حكم القصر رعايةً للسنّة النبوية التي هي ملاكٌ آخر، فأريد الإبقاء على ما فعله النبيّ بحرفيّته على أساس أنّ في ذلك مصلحة مستقلّة، حتى لو انعدمت مصلحة التخفيف ورفع المشقّة (السيستاني، بحوث في أحكام صلاة المسافر 1: 238).
ويجاب بأنّ هذا مجرّد خلق فرضيات ذهنيّة خالصة لا نعرف لها مثيلاً تطبيقيّاً؛ بل السنّة النبوية ليست ملاكاً قائماً بنفسه ليُتّبع؛ بل يقف خلف سنّة النبيّ وفعله ملاكٌ هو الذي كان متبعاً للنبيّ نفسه، فأيّ معنى لاتّباع سنّة النبي في أمرٍ، لم يعد لسنّة النبيّ فيه اليوم ذلك الموضوع والملاك الذي كان يتّبعه النبيّ في حينه؟!
وقد تقول مرّةً ثانية ـ كما قال المعاصر أيضاً ـ: إنّه وإن لم يكن هناك مشقّة اليوم في سفر ثمانية فراسخ بالباصات، يوازي المشقّة التي كانت آنذاك، لكن على كلّ حال هناك قدرٌ ولو بسيط من المشقّة، فلعلّ الشريعة لاحظت هذا، فجعلت هذا القدر بديلاً عن ذاك (بحوث في أحكام صلاة المسافر 1: 238).
ويجاب بأنّ الكلام ليس في كون هذا بديلاً عن ذاك، بل صدق عنوانيّة المشقّة عرفاً، فإنّ الواقع اليوم لا يصدق معه المشقّة عرفاً في مثل هذا السفر الذي يقطع فيه 22 كيلومتراً ذهاباً وإياباً بوسيلة نقل مريحة، وإلا لو صدق هذا لكان يمكن لقائلٍ أن يقول بأخذ عموم عنوان المشقّة وتطبيقه على من كان يعمل في بيته فتعب قليلاً جداً، فيقصّر في صلاته؛ فهل نقول بأنّ عنوان المشقّة له شمول لمطلق التعب ولو الخفيف الذي لا يصدق عليه عرفاً أنّه سفر شاقّ أو عمل شاقّ؟! أليس الأقرب للفهم العرفي والذوق العقلائي هو جعل معيار المشقّة حاكماً ـ ولو في الجملة ـ على إطلاقات النصوص المكانيّة، بدل تكلّف ممارسة توسعة اعتباريّة من خلال مجرّد إطلاقات النصوص المكانيّة لتشمل مصداقاً للمشقّة خفيفاً لا يصدق عليه عرفاً أنّه مشقّة سفريّة؟!
المداخلة الثانية: إنّه لو كانت المشقّة هي المعيار في القصر والإفطار، فلماذا ذُكرت المسافة في النصوص، بينما كان من المفترض ذكر المشقّة التي تختلف من شخصٍ لآخر؟! بل حتى لو كانت المشقّة المقصودة هنا نوعيّةً لا شخصيّة، فلماذا لم تترك الشريعة الأمر للعرف، وتقول له: إنّ السفر الموجب للقصر هو السفر الذي في نوعه وعادةً متعب؟! فهذا ما لم نجده في النصوص، بل وجدنا تدخّل النبيّ والإمام في تفاصيل التفاصيل في المسافة والزمان وغير ذلك من الأمور الجزئيّة الأخرى، الأمر غير المفهوم لو قلنا بمعياريّة المشقّة الشخصيّة أو النوعيّة.
ويمكن أن يجاب بأنّ أحداً لا يدّعي هنا معيارية المشقّة الشخصيّة، فهذا واضح من النصوص، لكنّ الكلام في المشقّة النوعيّة، وهنا يأتي السؤال: هل يمكن وضع تبرير معقول لتدخّل الشريعة في المكان والزمان بدل الاكتفاء بذكر معيار المشقّة النوعيّة؟
والجواب بالإيجاب، بل إنّ الشريعة فعلت ذلك في عشرات المواضع، وهو الذي سمّيناه بالشخصيّة الموضوعيّة للمعصوم؛ أي الشخصية التي يتدخّل فيها لوضع محدّدات زمكانية وظرفيّة؛ لضبط عمليّة تنزيل المناط والمعيار الحقيقي في أفضل صيغة ممكنة في زمانه، وقد أشرنا لذلك سابقاً في غير مناسبة، فلا نعيد، فالنبيّ أو الإمام لاحظا هنا أنّ طرح معيار المشقّة النوعية قد لا يكفي لإلقائه للناس، إذ قد يسبّب ارتباكاً في عمليّة الفهم والضبط، لهذا قاما بالتدخّل بوضع ما هو معيار غالبي في ذلك الزمان يوجب تحقّق المشقّة النوعية المرادة للشارع، وقد لا يكون هذا المعيار دائميّاً، حيث قد يقع معه قصرٌ بلا مشقّة هنا أو إتمامٌ معها هناك، لكنّ هذه العملية التقنينيّة تظلّ لها ضروراتها، مع إشارة المشرّع للنكتة التي جعلته يضع هذا الحكم وهو عبارة عن النكتة التعليليّة كما بيّن القرآن والسنّة، والأحكام والتشريعات مبنيّة في غالب الموارد على الأعم الأغلب، وبهذا يكون ذكر معيار الزمان والمكان غير منافٍ لمعياريّة المشقّة النوعية، بل غايته أنّه يتطلّب اليوم من الفقهاء أو مجلس الفقاهة والخبرة في الأمّة أن يدرسوا الموضوع ويتخذوا إجراءً مماثلاً لما فعله النبيّ والإمام غاية الأمر يكون متكيّفاً مع زماننا الراهن، فيقولون مثلاً: إنّه قد تمّ اعتبار مسافة خمسمئة كيلومتر معياراً للقصر وهكذا، أو ربما يفصّلون بين وسائل النقل وغير ذلك؛ لأنّ الأمور اليوم أصبحت أكثر تعقيداً بسبب كثرة وسائل النقل العامّة وتنوّعها.
المداخلة الثالثة: إنّه إذا قبلنا بأنّ محور الحكم هو المشقّة النوعيّة، فإنّنا حينئذ لا نملك وسيلةً لفهم مقدار هذه المشقّة التي جعلها الشارع معياراً لحكم القصر؛ إذ إنّ السفر بوسائل العصر الحديث كالسيّارة والحافلة والطائرة ـ وخاصةً مع وجود محطّات للاستراحة ووسائل الرفاهيّة والمرافق الصحيّة المتوفّرة في الطريق ـ قد لا ينطوي أصلاً على تلك المشقّة، ومن ثمّ فقد يصبح حكم القصر بلا مصداقٍ في الأسفار المعاصرة، فما هو الطريق لفهم مقدار المشقّة التي اعتُبرت معياراً للحكم؟ وهل ينبغي أن نقوم بتجربة سفرٍ يُحاكي أسفار الأزمنة السابقة لتقويم درجة المشقّة؟ وفي هذه الحال، من الذي يُعدّ مقياساً في تقويم تلك المشقّة؟ وهل للعرف إدراكٌ عامّ وشائع للمشقّة الشديدة؟!
والجواب: إذا تركنا معيارية الزمان، وفرضنا أنّها أيضاً لم تعد تشتمل على مشقّة غالباً، فالمطلوب في هذه الحال هو إجراء دراسة مقارنة بين المشقّة التي كانت في ذلك الزمان لمسير يوم واحد مثلاً وما يوازيها في عصرنا، ونقوم بإنشاء حكم على وفق ذلك، كما ألمحتُ عند حديثي عما يقوم به مجلس فقهاء الأمّة مثلاً، وعلى تقدير الانعدام المطلق بحيث لم يعد هناك سفرٌ شاقّ أصلاً في الوجود، ينعدم الحكم، تماماً كانعدام أحكام الرقيق بانعدام موضوعها.
قد يقال: إذا اعتمدنا على المشقّة النوعيّة بوصفها ملاكاً، فلماذا نبحث عن معیار القصر في أحد الجانبين فقط: إمّا الزمان أو المكان، ونتغافل عن العامل الكيفي؟ بمعنى أنّ المعيار الزماني، وإن كان أقرب إلى مناط الحكم، إلا أنّه لم يُلاحظ فيه العامل الكيفي؛ إذ إنّ مقدار المشقّة التي كان يسبّبها السفر ليومٍ كاملٍ قبل ألف سنة، لا يُقاس بمشقّة السفر ليومٍ كامل في عصرنا الحاضر، عند استخدام سيارة مريحة أو قطار حديث تتوفّر فيه جميع وسائل الراحة، فالمسافر في القطار يمكنه استئجار مقصورة ذات سرير، وقضاء معظم الرحلة في راحةٍ ونوم، أو التسلية بمشاهدة الأفلام، فضلاً عن توفّر المطعم ودورات المياه وغير ذلك من التسهيلات، وعليه، قد يكون السفر في زماننا هذا، ولا سيما باستخدام بعض وسائل النقل الحديثة، غيرَ مُستتبِعٍ لمشقّةٍ نوعيّة أصلاً، فينتفي بذلك موضوع قصر الصلاة من الأساس!
والجواب: إنّه على هذا التقدير نوافق على انعدام الحكم في عصرنا، لكنّ الكلام في صحّة هذه الدعوى؛ فأغلب الناس ـ بمن فيهم الذين يسيرون في القطارات والطائرات ـ يتعبون في العادة في غير من عمله السفر واعتاد على السفر، ولا يُعلم أنّ حجم التعب بالنسبة للناس في ذلك الزمان يقلّ أو يزيد عن حجم التعب في هذا الزمان ولو في الطائرة، وفقاً لتغيّر طاقات الأجسام نوعاً.
المداخلة الرابعة: إنّه لو صحّ أنّ المشقّة كانت مأخوذة جزءاً من المناط الرئيس للحكم في باب السفر، فلماذا لا نجد وفرةً في الأسئلة من قبل الرواة تتعلّق بأنواع الأسفار من حيث المشقّات؟! إنّ عدم وجود ذلك كاشف عن أنّهم تلقّوا حكم السفر إمّا على المعيار المكاني أو الزماني حصراً، دون أيّ علاقة بخصوصيّاتٍ أخرى.
والجواب: إنّنا لا نستبعد أنّ الصحابة والأصحاب فهموا من أحكام باب السفر دور المشقّة في التشريع بنحو المناطيّة، ولكنّهم لم يسألوا لأنّ هذا الموضوع لم يكن له حضور في حياتهم؛ إذا غالب أسفارهم كانت تقوم على الجمال وأمثالها، وكانت في العادة تشتمل على المشقّة المأخوذة في معياريّ الزمان والمكان، وفقاً لتطبيقهما في ذلك العصر، بل لو فرضنا أنّهم لم يفهموا فكرة المشقّة وغابت عنهم، فإنّ المشرّع غير ملزم بتنبيههم إلى هذه الخصوصيّات بأكثر من المقدار الذي ورد في الكتاب والسنّة مما أشرنا له سابقاً، إذ تنبيههم لن يكون له تأثير يُذكر في زمانهم على تطبيق حركة معيارَي: الزمان والمكان على الواقع الخارجي، إنّما يأتي السؤال عندما يحدث التهافت بين الزمان والمكان، كما في مثل عصرنا الحاضر، ولهذا لما انفصل الزمان عن المكان، انتبه الفقهاء المتأخّرون لهذا الأمر، فأعادوا قراءة النصوص فلاحظوا ـ كما نقلنا عن الميلاني ـ فكرة المشقّة، وظهرت أمام أعينهم بشكل أبرز، وبهذا نتفهّم تاريخيّاً لماذا غابت الأسئلة حول المشقّة.
سابعاً: عمليّة تنزيل النكتة التعليليّة على معيارَي الزمان والمكان اليوم وفقاً لتصوّرنا
إذا انتهينا من هذه المرحلة ننتقل إلى المرحلة التالية، وهي أنّ معيار الزمان كان مطابقاً غالباً لمعيار المكان في عصر النصّ، فإذا انفصلا لزم ملاحظة أيّهما أقرب لنكتة التعليل ويحظى بحضورها فيه. وفي العصر الحاضر نلاحظ أنّ معيار الزمان يظلّ أقرب لنكتة التعليل ومناسبات الحكم والموضوع من المعيار المكاني، بل المعيار المكاني مباين لنكتة التعليل اليوم عندما نأخذ حدّه الأدنى بعين الاعتبار، وهو ثمانية فراسخ، وهذا يعني ترجيح الأخذ ـ اليوم ـ بالمعيار الزماني على المعيار المكاني، أي التخلّي عن المعيار المكاني في ظرف اختلافهما، نتيجة ابتعاد المعيار المكاني عن نكتة الحكم النوعيّة، فلا تكون له إطلاقات شاملة لحالتنا الراهنة كما قلنا سابقاً، وينتج عن ذلك أنّ السفر الذي يتواصل بياضَ يومٍ معتدل أو ما بمقداره ولو كان في الليل، يكون هو الأوفق بنكتة التعليل، بلا فرق بين وسيلة النقل.
وبهذا نتحرّر تماماً من موضوع تحويل الزمان إلى مكان كما فعل أمثال السيد الزنجاني وغيره؛ لأنّ ثنائيّة الزمان والمكان إنّما جاءت في ذلك العصر لتطابقهما الغالبي، ولكون مسافة أقلّ من ثمانية فراسخ مما لا يوجب نوعاً جهداً وتعباً.
لكن هنا بحثٌ وهو أنّ لدينا أربعة مفاهيم:
أ ـ المشقّة النوعيّة.
ب ـ الزمان (يوم).
ج ـ المكان (ثمانية فراسخ).
د ـ وسيلة النقل (سير القافلة).
السؤال هنا: لماذا حدّد الإمام مسير يوم بالقافلة حتى يخرج بثمانية فراسخ؟ بينما لو حدّد مسيرة يوم بالحصان لخرج ربما بعشرين فرسخاً، ولو حدّدها بالمشي لخرج بفرسخٍ واحد مثلاً، فما الذي جعله يحدّد مسير اليوم بقافلة الجمال ليتوصّل إلى ثمانية فراسخ، فيحدّد القصر بثمانية فراسخ أو بمسير يوم؟! إذا كان الزمان معياراً فلا فرق بين الحصان والمشي والقافلة، وإذا كان المكان معياراً وهو ثمانية فراسخ، فلماذا اضطرّ الإمام لتفسير ثمانية فراسخ بحركة القافلة، على تقدير كون ثمانية فراسخ هي الموضوع التام المستقلّ؟! إنّ المكان الذي تلتقي فيه فكرتا الزمان والمكان هنا هو مسير القافلة، مما يكشف عن مداريّة مسير القافلة، والسؤال: بأيّ لحاظ كان مسير القافلة أساساً في معياريّ الزمان والمكان آنذاك؟!
والجواب عن هذا السؤال هو أنّ الناس آنذاك لم يكونوا ليعرفوا المشي أو الحمار على أنّهما من وسائل السفر، لهذا من النادر السفر ماشياً بمعزل عن قافلة الجمال، كما أنّ أخذ أيّ وسيلة حيوانيّة أخرى معياراً ـ كالحصان مثلاً ـ يعني أنّ مسير يوم سوف يساوي مسير يومين أو ثلاثة من مسير قافلة الجمال، الأمر الذي يجعل معيار الحصان أشقّ على قوافل الجمال، يُضاف إلى ذلك أنّ الجمال هي ـ كما يقول جواد علي ـ «واسطة النقل في جزيرة العرب، وهي قطار القوم وسياراتهم في ذلك العهد» (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام7: 246، طبعة دار إحياء التراث العربي)، لهذا فعندما نقول: وسيلة السفر، فإنّ المتعارف لديهم والغالب هو قوافل الجمال، وهي التي تكون فيها المشاقّ عادةً، بخلاف الحصان فإنّ حركته سريعة ولا يتنقل فيه أحد إلا لأغراض خاصّة ومحدودة، ولهذا ورد في الرواية المتقدّمة بأنّ القصر لم يوضع على الدابّة السفواء والناجية بل على سير القطار، تماماً كما نقول اليوم بأنّ الغواصات ليست من وسائل السفر في العصر الحديث، بخلاف السفن والقطارات والطائرات والسيارات والباصات وهكذا، ولا يستخدمُ التنقّلَ في الغواصات إلا أشخاص محدّدون ولدواعٍ محدّدة، فحتى يضع المقنّن قانونه لا يمكنه أن يبنيه على الحال النادرة التي لا تشكّل حالةً عامّة، لهذا تمّ اختيار قوافل الجمال؛ لأنّ السفر يكون بها، وكثيراً ما تكون هي المحفوفة بالمخاطر، ولهذا كانت القوافل تتحرّك برجالٍ أشداء يقومون بحمايتها من النهب والسرقة والقتل، كما كانت القوافل تدفع أموالاً لقبائل العرب عندما تمرّ في مناطقهم؛ لأجل تأمين حمايتهم لمرورها، وهكذا، فالقافلة هي وسيلة السفر المتعارفة المحفوفة بالمشاقّ والجهد والعناء والمتطلّبات آنذاك. وبهذا نعرف لماذا تمّ اعتماد القافلة في تحديد الزمان والمكان وتطابقهما أو تقاربهما الكبير، فإنّه بهذا يكون المقنّن أقرب لنكتة التعليل المنصبّة على الحال الغالب.
وبناءً على هذا التحليل المتقدّم، وإذا أردنا اليوم تنزيل هذه العمليّة، فعلينا أن نلاحظ ما يعدّ من وسائل السفر الغالبة اليوم، وسوف نرى أنّ القطارات والطائرات والباصات والسيارات هي وسائل سفر غالبة في أغلب البلدان، دون الدراجات الهوائيّة أو الغوّاصات، وحيث إنّ الفارق بين هذه جميعها ما يزال كبيراً جداً لو أردنا تقريب الزمان للمكان وبالعكس، وليس كما هي الحال في عصر النصّ، فمسير يوم بالطائرة يختلف عن مسير يوم بالباص اختلافاً فاحشاً، وكلاهما وسائل نقل سفريّة متعارفة اليوم، كتعارف وسيلة الجمال في السفر آنذاك، لهذا لا معنى لأخذ الباصات معياراً ـ كما فعل بعضهم ـ فإنّ العبرة ليس بما هو الأغلب، بل العبرة بما هو الغالب في مقابل النادر، إذ هذه هي الحال تاريخيّاً، والمفروض أنّ هذه جميعها يعتبر السفر فيها له غلبة كبيرة، والتقارب بينها كبير في نسبة استخدامها في الأسفار، فلا يقال اليوم بأنّ السفر في الطائرات نادرٌ أو قليل، كما في السفر على الحصان آنذاك، حتى نعتمد الباصات ونترك الطائرات. وعليه تسقط هذه الآليّة عن التطبيق اليوم، ولا يكون معنى لتنزيل الموقف على آليّة واحدة بعد كثرة أنواع وسائل النقل المتعارفة في الأسفار اليوم.
ونتيجة ذلك سقوط فكرة اعتماد وسيلة نقل محدّدة لجعلها معياراً في تطبيق الزمان على المكان من خلالها، بأن نقول بأنّ الباصات هي وسيلة النقل المعتمدة فننزّل زمانها (مسير يوم) على مكانها (500 كيلومتر مثلاً)، فيكون المعيار هو (500 كيلومتر)، فهذا غير صحيح؛ إذ لم يعد لهذا موضوعٌ اليوم، بعكس ما كان في السابق، بل المفروض أن نرجع لأصل نكتة المشقّة، لننظر فيما هو الأقرب من معياري الزمان والمكان اليوم في تنزيلها، وسنكتشف أنّ الأقرب هو الزمان، وأنّ المكان لم يعد له معنى ومصداق، وبهذا نقول: إنّ السفر لمدّة عشر ساعات ـ ولو مع استراحات قصيرة متخلّلة تقتضيها طبيعة السفر ـ يوجب القصر، سواء كان هذا السفر بالطائرة أم بالقطار أم بالسيارة أم بالباصات أم بالسفينة وهكذا، فهذا هو تجلّي تنزيل نكتة التعليل اليوم على معيارَي الزمان والمكان، ويكون ما قلناه من اختلاف مصاديق العناوين المأخوذة في النصوص (مثل عنوان: مسير اليوم) بملاحظة اختلاف مصاديقها زمكانياً، وهو كثير في الفقه كما هو معروف.
ويتعزّز هذا بصحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر×، قال: سألته عن التقصير، قال: «في بريد»، قال: قلت: بريد؟ قال: «إنّه إذا ذهب بريداً ورجع بريداً شَغَل يومه» (تهذيب الأحكام 4: 224)، ما يرجّح كون الزمان أساساً في المكان. ووجودُ رواية أخرى تقول بأنّه إذا ذهب بريداً ورجع بريداً، صارا بريدين، لا ينفي كون رواية محمد بن مسلم تلاحظ الزمان أساساً في المكان، فإنّها توضيح برتبة تالية ولا إشكال فيه، بل رواية ابن مسلم لها تقدّمٌ ونظر على رواية البريدين وكأنّها تقول بأنّه بقطعه بريدين شغل يومه أيضاً.
ومثل هذه الرواية في تعزيزها الموقف، خبر (المقنع: 215) قال: وسئل× عن رجل أتى سوقاً يتسوّق بها، وهي من منزله على سبع (أربع) فراسخ، فإن هو أتاها على الدابّة أتاها في بعض يوم، وإن ركب السّفن لم يأتها في يوم؟ قال: «يتمّ الرّاكب الذي يرجع من يومه صومه، ويفطر (ويقصّر) صاحب السّفن»، فهي تجعل معيار الزمان مقدّماً على غيره، رغم وحدة المكان. ونحو ذلك أيضاً خبر الفضل بن شاذان المتقدّم، فراجع. بل ذكر الفيومي في (المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي 1: 282) فقال: «وقال بعض المصنّفين: أقلّ السفر يوم، كأنّه أخذ من قوله تعالى: ﴿ربنا باعد بين أسفارنا﴾، فإنّ في التفسير كان أصل أسفارهم يوماً يقيلون في موضع، ويبيتون في موضع، ولا يتزوّدون..»، وهذا يعني أنّ مسيرة يوم ـ وفقاً لهذا النقل ـ هي لتأكيد مفهوم السفر عرفاً ولغةً.
قد تقول: لماذا جعلتم المدّة الزمنيّة عبارة عن عشرة ساعات، مع أنّ متوسّط بیاض الیوم في مختلف البلدان يبلغ حوالي 12 ساعة؟!
والجواب: إنّه ليس واضحاً لنا بالدقّة كم هي القطعة الزمنيّة، لهذا فهذا الإشكال في محلّه، وبخاصّة أنّه مقتضى الاستصحاب، لكن من الصعب في الشتاء أن يكون 12 ساعة، وقد كانت للعرب أسفارٌ في الشتاء والصيف، ووفقاً لما يبني عليه بعض العلماء فإنّ العرب تسير على منوالٍ واحد في كلّ السنة، طال النهار أم قصر، بمعنى أنّهم في النهار الطويل لا يسيرون أكثر من النهار القصير، وهذا لو صحّ يستدعي حساب النهار القصير ـ في البلدان المتوسطيّة ـ ولا أظنّه يزيد عن العشر ساعات، والظاهر أنّ السير على وزانٍ واحد مرجعه ليس لمدّة النهار، بل لطاقات المسافرين، وكذلك الجمال والحمولة، والله العالم.
ثامناً: مقتضى الأصل في المسألة
لو حصل لدينا شكّ فما هو مقتضى الأصل في هذه المسألة؟ من الواضح إمكان تقديم أكثر من صيغة لمقتضيات الأصول هنا، لكنّنا نكتفي بواحدة منها، وهي استخدام الاستصحاب، فإنّنا نشكّ في أنّ اعتماد ثمانية فراسخ يوجب القصر اليوم أو لا ـ وذلك بملاحظة مجمل ما تقدّم ـ فنستصحب التمام حتى نجزم بالقصر، والجزم بالقصر يكون عبر تنزيل نكتة التعليل على معيار الزمان اليوم، فهذا يصدق عليه عرفاً أنّه سفر يوجب المشقّة النوعيّة، ولو لم يوجب المشقّة الدائمة، وغيره مشكوك.
وقد يصاغ الأصل هنا لفظيّاً، بأن يقال بأنّ عمومات الصلاة تدل على القيام بها تماماً خرج منه ما هو متيقّن التخصيص ـ وهو ما قلناه ـ وغيره يظلّ تحت العام؛ لأنّ الأصل هو العام في حال دوران أمر الخاصّ بين الأقلّ والأكثر، إلا إذا قيل ـ وهو ضعيف ـ بأنّ النصوص قامت على : الحاضر يتمّ، والمسافر يقصّر، فهنا لا يمكن ممارسة هذا التأصيل.
هذا، وأمّا الاستدلال لأيّ طرف من الأطراف هنا بالإجماع والتسالم وغير ذلك من التعابير، فالإنصاف أنّه غير واضح الحجيّة بعد كون المسألة اجتهاديّة بامتياز، بل في غاية الإشكال.
وقد تقول: إنّ الاستصحاب يمكن أن يجري بطريقة مختلفة، وهي أنّنا كنّا نعلم في السابق أنّ قطعَ مسافة ثمانية فراسخ كان يُوجِب قصرَ الصلاة، وأمّا الآن فنحن نشكّ في أنّ هذا القطع لا يزال موجباً للقصر أو لا؟ فنُجري استصحابَ موجبيّة الثمانية فراسخ، ونحكم بأنّها لا تزال موجبةً لثبوت القصر في الصلاة، وأمّا استصحابُ بقاء الصلاة تامّةً (أي عدم القصر)، فهو في رتبة المسبَّب مقارناً لاستصحاب موجبيّة الثمانية فراسخ للقصر، ولذا يكون في رتبة متأخّرة عنه.
والجواب: إنّنا عندما وصلنا ـ وفق ما تقدّم ـ إلى مرتبة الأصل العملي، فنحن في الحقيقة لا نعلم بأنّ الثمانية فراسخ هي ـ بعنوانها ـ موجبة للقصر آنذاك أو لا، حتى نستصحب موجب القصر فيها، فانتبه.
ولا ندّعي أنّ هذا التصوّر الذي خرجنا به يقدر على حلّ تنازع جميع الروايات مع بعضها أو التوفيق بينها بأكملها، فمن الصعب تحقّق ذلك لأيّ فريق؛ لكنّنا نجد أنّ هذا الفهم هو الأليق والأقرب بملاحظة النكات التي أشرنا إليها من قبل، ولديه القدرة على حلّ التنازع بين أغلب النصوص في الباب، والله العالم.
تاسعاً: الرأي المختار، خلاصات مكثفة وتوضيحات ضرورية وتطبيقات تبيينيّة
هدفي من هذا العنوان هو توضيح أطراف وتطبيقات ما توصّلنا إليه، ويمكنني جعل الأمر كالآتي:
1 ـ إنّنا لا نقول بكون المشقّة معياراً حصريّاً للقصر، حتى يُدّعى بأنّه يلزم القصر في المشقّة الحاصلة في الحضر لسببٍ ما، بل ما ثبت في الشرع هو قصر الصلاة في "السفر المعتبر نوعاً شاقاً"، فالسفر حيثيّة تقييديّة.
2 ـ إنّنا لا نقصد من المشقّة والعسر هنا مفهومهما في باب قاعدة نفي الحرج، بل المراد أنّ السفر يشتمل على قدرٍ من التعب والإجهاد والانشغال، بحيث يصدق عليه أنّه سفرٌ فيه تعب ومشقّة، كما يقال للراجع من السفر: كيف كان سفرك؟ فيقول: لا يخلو من تعب وإجهاد كالعادة، وأنّ الشريعة لاحظت هذا الأمر في قصرها الصلاة فيه وحكمها بالإفطار.
وبناءً عليه، لا يوجد ضبط دقّي حدّي للمشقّة المأخوذة هنا، حتى في ذلك الزمان، فإنّ الذين يسافرون في القوافل كان بعضهم يسير ماشياً مع القافلة، وبعضهم يجلس في الهودج، وبعضهم يجلس على الجمال متعرّضاً لأشعّة الشمس، وبعضهم على الحصان، وبعضهم يعمل أكثر من بعض وهكذا، والشريعة لا تدخل في تفاصيل هذه الأمور بل تأخذ الحالة العامّة، وهي اعتبرت أنّ الحدّ الأدنى الغالب كافٍ في هذا المقام، بحيث يصدق عرفاً أنّ هذا السفر مجهد ومتعب، والأمر عينه نأخذه اليوم في عمليّة تنزيل الحكم على الواقع، وبهذا لا يأتي إشكال أنّه كيف نعرف درجة المشقّة التي كانت موجودة في ذلك الزمان حتى نقوم بالتماهي معها في تجربةٍ حديثة اليوم؟! فإنّ الجواب هو أنّ العبرة بالصدق العرفي النوعي المتفاوت بين الأفراد، والدخول في هذه التفاصيل يخرج طبيعة التشريع عن عرفيّته.
3 ـ إنّنا لا ننفي نصوص الزمان والمكان، بل بالعكس نرى أنّ هذه النصوص لها دورٌ عظيم في تحديد الدرجة السفريّة التي توجب القصر، ومن ثم تحديد الدرجة الإجهاديّة والمشقّة المتضمَّنة في السفر المقصود هنا شرعاً، كلّ ما في الأمر أنّنا نعتبر أنّ الزمان والمكان ليسا معيارين منفصلين عن قيدٍ ثالث بُنيا عليه، وهو قيد العسر والإجهاد والتعب والنَصَب. وينتج عن ذلك أنّ على الفقيه الالتزام بهذين المعيارين ما داما متوافقَين خارجاً ومحقّقين معاً بدرجةٍ واحدة عنوان المشقّة والجهد السفري، فإذا انفصلا أمكنه الالتزام بأيّهما ولو على سبيل البدل (أحدهما بعينه أو لا بعينه) ما دام كلّ واحد منهما يشتمل على النكتة التعليليّة المقصديّة، والتي هي المشقّة والتعب، أمّا إذا سقطت هذه النكتة التعليليّة سقوطاً نوعياً من أحد المعيارين، بحيث صار هذا المعيار مما لا يصدق عليه أنّ فيه تعباً وإجهاداً سفريّاً أصلاً، والسفر وعدمه لا فرق بينهما بالنسبة لقاطع هذا المعيار، ففي هذه الحال لا نملك دليلاً على وجود إطلاق في نصوص هذا المعيار يشمل هذه الحال. وهذا ما طبقناه اليوم على معيار ثمانية فراسخ قياساً بأغلب أفراد البشر في الكرة الأرضيّة، فإنّ هذا المعيار لم يعد يصدق عليه نوعاً أنّ فيه إجهاداً وتعباً أساساً، بل يسخر الناس ممن يقول ذلك، لهذا يسقط معيار المكان لهذه النكتة، لا لترجيحٍ في دليل معيار الزمان عليه، بل لسقوطه بذاته نتيجة انعدام نكتة التعليل منه، لكن لو كان هناك من لا يزال يستخدم وسائل سفريّة محاكية للماضي، بحيث يصدق في حقّه أنّ سفر ثمانية فراسخ متعب ومجهد نوعاً، لزمه الاعتماد عليه والتقصير على وفقه.
وبهذا يتضح أنّنا نريد استخدام المناط هنا (المشقّة) للتخصيص، وليس للتعميم، فلا نريد أخذ الروايات التعليليّة لإدارة الحكم مدارها، بل شلّ إطلاقات النصوص عندما تفتقد النكتة التعليليّة، وفي كل موردٍ نشكّ في تحقّق النكتة النوعيّة فالأصل هو العود لإطلاقات التمام.
وينتج عن هذا أمر مهمّ، وهو أنّه لو اعتمد شخصٌ وسيلة سفر مجهِدة بطبعها وصدق على سفره أنّه سفرٌ مجهد ومتعب وكان أقلّ من عشر ساعات، وأكثر من ثمانية فراسخ، فإنّ القول بلزوم القصر في حقّه وجيهٌ، كما في الدراجات الهوائيّة التي قد يسافر فيها بعضهم في بعض البلدان لساعات، لكنّنا نحتاط في هذا المورد.
4 ـ إنّ تطبيق الإمام فكرة الزمان والمكان على سير القوافل أو ما يشبهها كسير الجيوش، كان بملاحظة كونها الأداة الرسميّة للسفر، وغيرها يندر أو يقلّ السفر فيه، ولا يعتمد أداةٍ للسفر، ومن ثم فتطبيق الأمر على أحد وسائل النقل اليوم ـ كالحافلات ـ يعتبر خطأ؛ لاختلاف الموضوع وخصوصيّات الحالة، بل يلزم الانتقال ـ كما قلنا ـ من المكان إلى الزمان تماماً.
5 ـ إذا فرضنا أنّ المكان والزمان كليهما لم يعودا ليعبّرا عن السفر المحتوي لمشقّةٍ أو تعبٍ إضافي، فإنّ اللازم في مثل هذه الحال القيام بعملية محاكاة لمعرفة درجة المشقّة المفترضة في السفر وتطبيقها، ولو فرضنا أنّه لم يعد هناك سفرٌ شاقّ ومتعب أصلاً في الوجود، انعدم حكم القصر والإفطار بانعدام موضوعهما ومدارهما.
6 ـ وفقاً لكلّ ما تقدّم، نذكر مثالين تطبيقيّين؛ للتوضيح:
أ ـ إنّ من يخرج من بيته للسفر بالطائرة مثلاً، ويكون المطار على بعد ثلاثين كيلومتراً مثلاً من المدينة التي يسكنها، وربما كان أكثر، فإنّ عليه أن يبدأ بحساب الزمان من لحظة خروجه من المدينة، لا من لحظة انطلاق الطائرة من على مدرج المطار، وكذلك على هذا الشخص أن يحسب لحظة وصوله لا من زمان نزول الطائرة في المطار/المقصد، بل من زمان دخوله القرية أو المدينة التي يريد الوصول إليها، فقد يستغرق السفر بالطائرة من مسقط إلى كوالالمبور سبع ساعات مثلاً، لكنّ خروجه من البيت ـ وهو يسكن في نزوى ـ ليصل إلى مطار مسقط، وقيامه بإجراءات السفر في المطار مغادرةً ووصولاً، إلى حين وصوله للمدينة التي يريد النزول فيها في ماليزيا، يستغرق أكثر من عشر ساعات، فيقصّر في هذه الحال.
ب ـ إنّ الكثير من رحلات الطائرة، وكذلك سفن نقل الركاب والقطارات، تتخلّلها عمليّة نزول من وسيلة النقل والبقاء في المحطّة لساعة أو ساعتين، ثم الصعود على متن طائرة أخرى أو قطار آخر، أو رسو السفينة في ميناء لساعة أو ساعتين، ثم التحرّك مجدداً نحو المقصد. إنّ هذه الفترات المتعارفة التي تكون في الأسفار، تُحسب ضمن زمان السفر المحدّد شرعاً، على أن لا تكون بطريقةٍ تجعل السفر يسيراً للغاية نوعاً.
هذا، وسوف تأتي تطبيقات مهمّة لما توصلنا إليه، وذلك ضمن تفاصيل أحكام السفر وشروطه وقواطعه، فانتظر.
انقسام المسافة إلى امتداديّة وتلفيقيّة، المبدأ والتفريعات
([3]) في الوقت الذي يظهر من مشهور فقهاء أهل السنّة أنّه لا يوجد شيء اسمه المسافة التلفيقيّة، يرى مشهور فقهاء الإماميّة ثبوتها، والبحث هنا يقع في عدّة مقامات:
1 ـ في أصل ثبوت المسافة التلفيقيّة
وقد تقدّم منّا سابقاً الإشارة إلى ذلك، وهو وجود مجموعة من الروايات صريحة في هذا المضمار، كما أنّ الجمعَ بين رواية البريد والبريدين، يُظهر هذا الناتجَ المسمّى بالمسافة التلفيقيّة.
وتوضيح ذلك: إنّ الروايات هنا يمكن أن تُفهم ضمن هذا الترتيب:
1 ـ إنّ النصوص العامّة والمطلقة التي تبيّن مفهوم الثمانية فراسخ، ظاهرة في كون المراد منها الامتداد دون التلفيق، فبصرف النظر عن بعض القرائن هنا وهناك، فإنّه على الأقلّ لا يفهم منها أنّها ناظرة إلى حالة التلفيق، فلو قال لك شخص: قصّر في ثمانية فراسخ، فإنّ القدر المتيقّن المفهوم عرفاً، هو حالة كون المسير ثمانية فراسخ بعيداً عن نقطة الانطلاق. ودعوى أنّه يشمل التلفيق غير واضحة.
2 ـ إنّ مجموعة الروايات التي تقول بأنّ معيار القصر هو قطع أربعة فراسخ ظاهرة في معياريّة الأربعة في حدّ نفسها، ومن ثم فهي تعارض روايات الثمانية.
3 ـ إنّ مجموعة الروايات التي تبيّن التفصيل بين الأربعة ذهاباً والأربعة إياباً، هي التي تصلح لكي تفسّر كلاً من نصوص الثمانية فراسخ ونصوص الأربعة، كما قلنا سابقاً، ومن ثم يكون المقصود هو قطع مسافة ثمانية فراسخ ذهاباً وإياباً، أو قطع ثمانية ذهاباً لو لم يكن هناك إيابٌ أساساً.
وبهذا يتبيّن أنّه وفقاً لنصوص أهل البيت فإنّه توجد مسافة امتداديّة وأخرى تلفيقيّة، والفرق الدقيق بينهما أنّ المسافة الامتدادية لا يلزم على صاحبها أن يرجع من حيث انطلق، بل يكفيه أنّه قطعها، فتترتّب عليه آثار المسافر الشرعيّة، دون أيّ شرط إضافيّ، بينما المسافة التلفيقيّة يشترط ـ حتى تترتب عليها الآثار الشرعيّة ـ أن يعود قبل مضي عشرة أيام من سفره إلى النقطة التي انطلق منها، بمعنى أن لا يقطع سفره بأحد قواطع السفر قبل أن يعود من حيث انطلق، وإلا فإنّ مجرّد سفره أربعة فراسخ لن يكفي في هذه الحال.
2 ـ في كيفيّة حساب المسافة التلفيقيّة
والمقصود بذلك أنّه هل يلزم أن يكون كلّ من الذهاب والإياب عبارة عن أربعة فراسخ فصاعداً، أو لا يشترط ذلك أو أنّ في المسألة تفصيلاً، وهنا عدّة أقوال:
القول الأوّل: أن لا يقلّ الذهاب والإياب عن أربعة فراسخ، فلو كان الذهاب عبارة عن فرسخين والإياب عبارة عن ستة فراسخ، لم يثبت القصر في هذه الحال رغم أنّ المجموعَ ثمانية فراسخ، والعكس كذلك، وهذا ما ذهب إليه جماعة من الفقهاء، منهم السيد الماتن.
ومستند هذا القول واضح، وفقاً لما أفاده القائلون به، ومنهم السيد الماتن في بحوثه؛ وهو أنّ النصوص التي تمّ اعتمادها أساساً في قبول فكرة المسافة التلفيقيّة قدرها المتيقّن، بل دلالة بعضها بوضوح على فكرة الأربعة ذهاباً والأربعة إياباً أو بريد في بريد، فيؤخذ بهذا المقدار بوصفه القدر المتيقّن من مفهوم المسافة التلفيقيّة، وغيره يحتاج لدليل.
القول الثاني: عدم اشتراط كون أيّ من الذهاب أو الإياب أربعة فراسخ، بل العبرة بكون المجموع ثمانية فراسخ، فلو كان ذهابه خمسة فراسخ وإيابه ثلاثة، كفى، والعكس صحيح. وهذا ما ذهب إليه جماعة، مثل السيد اليزدي في العروة.
وعمدة مستند هذا الفريق هو أنّ تعبير أربعة في أربعة أو بريد في بريد إنّما يتمّ بناؤه على مقتضى الحالة الطبيعيّة، فالإمام بصدد الإشارة للثمانية بحسب المجموع، فأعطى الحالة الطبيعيّة، وهي أن تذهب أربعة فراسخ وترجع أربعة فراسخ، بل بعض الروايات يفيد أنّ هذا الذهاب والإياب يحقّق شغل يومه، مما يعني أنّ العبرة بصدق الثمانية في مجموع اليوم، لا الأربعة ذهاباً والأربعة إياباً بحرفيّتها.
القول الثالث: أن يكون الذهاب أربعة فراسخ فصاعداً، أمّا الإياب فلا إشكال في جواز كونه أقلّ، ما دام المجموع ثمانية، وهذا ما ذهب إليه بعض الفقهاء، منهم السيد البروجردي الذي قدّم تقريباً لا حاجة للإطالة بذكره.
والراجح بالنظر هنا ـ بعد اعتبار المسافة المعيّنة هي المعيار في القصر ـ هو اشتراط أمرين:
أ ـ صدق أنّه سافر من بلده، لا أنّه خرج من البلد فقط، فلو خرج مسافةً قصيرة للغاية، ثم رجع من طريقٍ يُكمل الثمانيةَ فراسخ، بحيث لم يصدق عليه عنوان أنّه مسافر أساساً، كما لو كان ىدور حول القرية التي خرج منها من مسافة قصيرة جداً، فإنّه يشكل صدق الأحكام عليه؛ لأنّ ظاهر مجموع النصوص أنّه سافر عن البلد الذي هو فيه.
ب ـ أن يكون في مجموع حركته السفريّة قد قطع ثمانية فراسخ.
والنتيجة ترجيح القول الثاني من هذه الأقوال، وعدم وضوح خصوصيّة تعبديّة لموضوع البريد ذاهباً والبريد جائياً، بعد وضوح الحمل على كونه في مقام البيان المتعارف، وعدم وضوح كونه في مقام التحديد التعبّدي.
أمّا على ما ذهبنا إليه في هذه الأعصار، فإنّ العبرة بصدق السفر عليه مع كونه قد شغل يومه مسافراً.
3 ـ في اشتراط التلفيق بوقوعه في اليوم الواحد وعدمه
هذا الموضوع له أهميّة مضاعفة، وذلك أنّ الفقهاء الذين بنوا على معياريّة المكان قالوا بأنّ المسافة الامتدادية لا تحتاج إلى زمان؛ لأنّ العبرة فيها بالمكان فقط، فلو قطع ثمانية فراسخ ـ أو قصد قطع ثمانية ـ وجب عليه القصر حتى لو كان قطع هذه المسافة قد أخذ منه يوماً أو بعض يوم أو يومين أو ثلاثة؛ إذ ما دامت العبرة بالمسافة والمكان فلا أهميّة للزمان في الحكم على معياريّة المكان.
والمستند في ذلك إطلاقات النصوص تارةً، وبعض الروايات الخاصّة أخرى، وأهمّها رواية إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا الحسن× عن قومٍ خرجوا في سفرٍ، فلما انتهوا إلى الموضع الذي يجب عليهم فيه التقصير، قصروا من الصلاة، فلما صاروا على فرسخين أو على ثلاثة فراسخ أو أربعة، تخلّف عنهم رجلٌ لا يستقيم لهم سفرهم إلا به، فأقاموا ينتظرون مجيئه إليهم، وهم لا يستقيم لهم السفر إلا بمجيئه إليهم، فأقاموا على ذلك أيّاماً، لا يدرون هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون، هل ينبغي لهم أن يتمّوا الصلاة أو يقيموا على تقصيرهم؟ قال: «إن كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ، فليقيموا على تقصيرهم، أقاموا أم انصرفوا، وإن كانوا ساروا أقلّ من أربعة فراسخ، فليتمّوا الصلاة، (ما) أقاموا (أو انصرفوا)، فإذا مضوا فليقصروا» (الكافي 3: 433؛ والمحاسن 2: 312؛ وعلل الشرائع 2: 367، 383).
غير أنّهم تناقشوا في المسافة التلفيقيّة، وأنّه هل يلزم أن يكون قطعها في يومٍ واحد أو ليلة واحدة أو أنّه يمكن أن تترتّب أحكام القصر حتى لو خرج لأربعة فراسخ، ولم يرجع إلا بعد يومين أو أكثر؟ وقد ذهب السيد الماتن وكثيرون إلى عدم اشتراط تحقّق الرجوع في اليوم الواحد؛ وربما يجوز لنا القول بأنّه قد توسّع المتأخّرون في بحث هذه المسألة كثيراً.
والصحيح ـ وفقاً لمعياريّة المسافة كما عليه المشهور ـ هو ما ذهب إليه الماتن من عدم الاشتراط، أمّا وفقاً لمعياريّة الزمان أو لمعياريّة الزمان المعلَّل بالمشقّة التي أخذ فيها اليوم بوصفه الحدّ الأدنى ـ كما اخترناه سابقاً ـ فإنّ الاكتفاء بذلك في غاية الإشكال، فلا يبعد القول بالتمام في حال عدم العود من يومه أو ليلته.
قد تقول: إنّ بعضَ الروايات التي استندتُم إليها بوصفها دليلاً أو شاهداً على كون المشقّةِ ذات دور في الملاك أو المناط، ومنها على وجهِ الخصوصِ رواية: «إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُتِمُّونَ الصَّلاَةَ بِعَرَفَاتٍ، فَقَالَ: وَيْلَهُمْ أَوْ وَيْحَهُمْ، وَأَيُّ سَفَرٍ أَشَدُّ مِنْهُ، لاَ تُتِمَّ»، تدلّ على أنّ دور المشقّة في المعيار، وهذا يُنافي المبنى الذي اعتمدتُم عليه، وهو اعتبارُ «مسيرةِ يوم» معياراً؛ فإنّ الجمعَ بين هذه الرواية وكون «اليوم» هو الملاك، يقتضي القولَ بأنّه إذا سافرَ شخصٌ مثلاً خمسَ ساعاتٍ، ثم قضى بقيّةَ يومه في المكان الذي سافر إليه، وكان يُعدّ في حالِ سفرٍ لا بمعنى قطع المسافة، بل بمجردِ كونه مسافراً، فإنّ صلاتَه تكونُ قصراً، استناداً إلى ملاكِ المشقّة، وبناءً عليه، فلو خرجَ أحدٌ من قُم إلى إصفهان في الصباحِ، ووصلها عند الظهر، وبقي فيها إلى المساءِ على حالِ السفر، فإنّ صلاتَه ستكونُ قصراً، بمقتضى هذه الروایة.
والجواب: إنّ ما اخترناه سابقاً ليس ذات كلّيّ المشقّة، بل المشقّة الكامنة في المسافة أو الزمان على تقديرهما، وحيث إنّ المكان ـ بالمفهوم الفقهي السائد له ـ قد خرج عن حيّز التطبيق، كما شرحنا سابقاً، فنبقى على معياريّة الزمان المتضمّن للمشقّة، لا على معيارية كليّ المشقّة. نعم لو زال المكان والزمان عن التعنون بعنوان المشقّة تماماً، زال الحكم فيهما، ولزم أخذ عنوان آخر لتطبيق المشقّة الموازية للزمان والمكان في ظرفهما عليه كما قلنا سابقاً. والرواية المشار إليها ـ والتي جعلناها أحد الشواهد على ما طرحناه في معيار القصر في السفر ـ ساكتةٌ عن كون الرجوع لغير يومه، فلا يقع أيّ تهافت بين استشهادنا بها هناك وموضوع البحث هنا؛ لأنّها لا تدخل طرفاً في معارضة شيء، بلا حاجة لموضوع التبعيض في الحجيّة.
وقد تقول مرّةً أخرى: إنّ أهمّ دليلٍ اعتمد عليه السيّد الخوئي في مختارِه هنا هو رواياتُ عرفات، فإذا كنتم أيضاً تقبلون بصحّة وكثرة ووثوقِ رواياتِ عرفات، فيبدو أنّ الجمعَ بين هذه الرواية وبين الأدلّة التي ذكرتموها في مسألةِ حدّ القصر، يقتضي أن لا نقول: «السيرُ لعشر ساعاتٍ مع التوقّفاتِ العرفيّة هو الملاك»، بل نقول: «الميزان هو أن يكون الشخصُ في حالِ السفر العرفي ــ لا السير الفعلي فقط ــ مدّةً لا تقلّ عن عشر ساعات، بشرط أن تتحقّق فيه مشقّة نوعيّة»، فلو ذهبَ الشخصُ خمسَ ساعاتٍ، ثمّ بقي خمسَ ساعاتٍ أخرى في حالِ سفرٍ ـ أي في المدينة التي سافر إليها، لكن مع بقائه على حكم المسافر ـ فهو يُعدّ مسافراً شرعاً، نعم، يُمكن أن يُطرح الإشكال: ماذا لو سافرَ نصفَ ساعةٍ فقط، ثمّ بقي تسعَ ساعاتٍ ونصفاً في المدينة؟
والجواب: الفكرة هنا هو أنّه مشغول بالسفر ـ ولو مع الاستراحات ـ في مدّة بياض يوم، وروايات عرفات لا تنافي ذلك، غايته أنّهم استبعدوا أنّها تشير لخصوص العودة من يومه، مع أنّ المفترض جمعها مع سائر نصوص الباب.
وبمزيد توضيح: إنّ العديد من المتقدّمين ذهبوا للتمام إذا لم يرجع ليومه، والمستند في ذلك أنّ النصوص بعضها يفهم منه عدم شرطيّة العودة ليومه (ولو اليوم التلفيقي) ـ على نقاش بينهم في الدلالة، وعمدتها روايات عرفات ـ وبعضها الآخر يفهم منه شغل اليوم بالذهاب والإياب «فقد شغل يومه»، وقد قال المتأخّرون ـ ومنهم السيد الماتن ـ بأنّه من البعيد جداً أنّ كلّ روايات عرفات وذُباب وأمثالها قصد منها الرجوع ليومه، بل إنّ الروايات التي تقول بالبريد ذاهباً وجائياً فقد شغل يومه ـ ومن أهمّها صحيحة محمد بن مسلم ـ لا يقصد منها فعليّة شغل اليوم، بل المراد بيان مسافة الثمانية فراسخ، كما أشرنا لرأيهم هذا عند البحث في أصل المسألة هنا.
ولكنّ النقاش في أنّ استبعاد الرجوع ليومه من روايات عرفات وأمثالها في غير محلّه، بل هي تحتمل ذلك، نعم بعض النصوص لا يحتمل ذلك بحسب ظاهره، ولكنّه معارَض بمثل صحيحة محمد بن مسلم، فنرجع لأصالة التمام فيما لو لم يرجع ليومه، بل إنّ تحليل السيد الماتن في بحوثه لفكرة «شغل يومه» وأنّ المراد بها ليس الشغل الفعلي، مخالفٌ للظاهر؛ لأنّه مبني على كون بيان الزمان جيء به لبيان المسافة والمكان، وقد سبق أن ناقشنا في ذلك، بل الظاهر الأوّلي هو تحقّق شغل اليوم بالبريد ذاهباً والبريد جائياً بنحو الفعل الماضي المفيد للتحقّق وهكذا، ولهذا ملتُ لرأي المتقدّمين بالقول بالتمام، ولا سيما مع انسجامه مع تحليلنا العام لمعيار القصر والإفطار، بل هذا القول بالتمام منسوبٌ للشيخ الأنصاري وغيره، على ما أفاده الماتن في بحوثه أيضاً.