التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة المسافر ـ القسم الأوّل)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(28 ـ 8 ـ 2025م)
المقصد الحادي عشر
صلاة المسافر
وفيه فصول:
الفصل الأوّل
[شروط صلاة المسافر]
تقصر الصلاة الرباعيّة بإسقاط الركعتين الأخيرتين منها في السفر([1])، بشروط:
______________________
([1]) هنا مجموعة نقاط من الضروري الإشارة إليها:
بحث السفر بين الفقه الشيعي والسنّي
عندما يتعرّض الفقه السنّي لبحث السفر، فهو يبحث عن أمرين يمثلان فقهَ السفر في الشريعة عنده:
أ ـ القصر والإفطار بالنسبة إلى الصلاة والصوم.
ب ـ الجمع بين الصلاتين (الظهر والعصر ـ المغرب والعشاء) في السفر.
فصلاة المسافر في الفقه السنّي تنشعب إلى جانبَي: القصر والجمع، بينما في الفقه الإمامي لا يتمّ الحديث في العادة إلا عن جانب القصر والإفطار في الصلاة والصيام؛ إذ يرى جمهور فقهاء الإماميّة الرخصة في الجمع في السفر والحضر، بلا فرقٍ بينهما، فلا يكون للسفر أيّ خصوصيّة إضافية زائدة هنا.
وقد كنّا تحدثنا في بحث مواقيت الصلاة عن موضوع الجمع بين الصلاتين، وقلنا بأنّ الأقوى هو ما ذهب إليه الفقه الإمامي من الرخصة في الجمع مطلقاً، لكنّه مخالف للسنّة النبويّة الراجحة وبخاصّة لو صار عادةً وعرفاً، ولهذا سوف نقتصر في بحث السفر هنا على الجانب المرتبط بالقصر؛ تبعاً لفقهاء الإماميّة.
الموقف من أصل الحكم بقصر الصلاة للمسافر
المشهور المعروف بين فقهاء المسلمين بمذاهبهم أنّ السفر بشروطٍ معيّنة يستدعي الإفطار للصائم وقصر الصلاة للمصلّي، على خلافٍ بين المذاهب الإسلاميّة في كون قصر الصلاة رخصة (مذهب أغلب مذاهب أهل السنّة) أو عزيمة (مذهب الأحناف والإماميّة..).
ولكنّ رأياً يعتبر نادراً طرحه أمثال الشيخ محمّد الصادقي الطهراني (2011م)، رأى فيه أنّ إفطار الصائم حال السفر ثابتٌ في الشرع بنصّ القرآن الكريم (البقرة: 185)، لكنّه عنده مقيّد بحال العسر الشديد والضرر. أمّا الصلاة، فيرى الطهراني أنّ آية القصر (النساء: 101)، ليست فقط خاصّة بصلاة الخوف، ولا علاقة لها بمطلق صلاة المسافر، وهو ما يؤيّده فيه بعض الفقهاء كالسيّد الخوئي، بل هو ـ أعني الطهراني ـ يرى أكثر من ذلك، وهو أنّها بمفهومها (بالمصطلح الأصولي للمفهوم)، دالّة على نفي القصر في السفر عند عدم الخوف، وعلى هذا الأساس اعتبرَ أنّ الروايات الدالّة على القصر لعلّة السفر معارِضة للقرآن، وأنّ اتّباع العلماء لها كان نتيجة تراجع القرآن في اجتهاداتهم.
وقد كان الطهراني يرى سابقاً أنّ صلاة القصر ثابتة، لكنّها بمعيار المشقّة الشديدة، كما هي الحال في الصوم عنده، لكنّه لاحقاً عدل عن ذلك إلى رأيه بنفي القصر مطلقاً في غير حال الخوف، وجرت بينه وبين صديقه الشيخ أبو طالب تجليل التبريزي (2008م) محاورة كتبيّة، حول الموضوع، وقد كنتُ شخصيّاً ترجمتُ رسالة الطهراني في قصر الصلاة وبهامشها الرسائل المتبادلة أيضاً بينه وبين الشيخ تجليل التبريزي، ونشرتُها في مجلّة الاجتهاد والتجديد في بيروت، العدد الثاني، لعام 2006م.
وبتتبّعي التاريخي، ظهر لي وجود قول نادر مطابق أو مقارب جدّاً لما ذهب إليه الطهراني في الموروث الفقهي القديم عند المسلمين، حتى أنّ بعض الصحابة وأمّهات المؤمنين ينقل عنهم شيءٌ قريب من ذلك، وإن نقل عنهم أيضاً نقيضه. كما نجد بعض القرآنيّين المعاصرين، يرى الرأي نفسه، ولا نطيل.
والأقرب بالنظر، هو صحّة ما ذهب إليه جمهور فقهاء المسلمين من ثبوت مبدأ القصر في الصلاة على المسافر بعيداً عن الخوف. أمّا هل معيار القصر هو المسافة، وما هي، أو هو الزمان (بياض يوم ـ يوم وليلة ـ يوم.. مطلقاً أو على معيار وسيلة النقل الأكثر رواجاً..)، أو هو التعب والمشقّة النوعيّان أو غير ذلك؟ فهذا موضوع آخر نتحدّث عنه لاحقاً إن شاء الله تعالى.
وبتعليقٍ مستعجَل، حيث لا يسع المقام، فإنّ الآية: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ (النساء: 101)، لا تفيد المفهوم النافي لمطلق القصر في السفر غير الخوفيّ؛ وذلك لمبرّرات عدّة يُربكُ اجتماعُها ما طرحه ـ رحمه الله ـ، أذكر منها باختصار:
أ ـ إنّ الشرط الأوّل فيها مسوقٌ مساق الغالب أو للتمهيد لبيان موضوع الشرط الحقيقيّ الواقع فيها، بملاحظة السياق التاريخي الجليّ، ويشهد له أنّ تمام الملاك هو الخوف لا السفر والخوف معاً، بمعنى أنّ الآية بصدد تبيين حالة الخوف التي كانت تتحقّق للمسلمين آنذاك في السفر، دون مثل المدينة المنوّرة. ويكفي كون هذا محتملاً جدّاً من الآية ليهدم ظهور المفهوم المدّعى. وعليه فالآية لا تنفي صلاة القصر في السفر، ولكنّها لا تُثبته.
ب ـ إنّه على تقدير ثبوت المفهوم يكفي في رفع اللَّغْوِيَّة وجود موارد للسفر كثيرة ليس فيها قصر (=المفهوم بنحو السالبة الجزئيّة)، وهذا متحقّق كثيراً في فقه السفر المبنيّ على السنّة الشريفة، خاصّة على القول بمعيار المشقّة النوعيّة أو معيار الزمان. وهذا الكلام يغدو أوضح إذا قلنا بأنّ معيار السفر الذي دلّت عليه النصوص إنّما جاء لتأسيس سفرٍ شرعي، لا لتبيين حدود ومصاديق السفر العرفي، فيكون هناك سفر عرفي في كثير من الحالات، لكنّه لا قصر فيه.
وعليه، فالآية لا تحتوي أكثر من إطلاق المفهوم القابل للتخصيص بثبوت القصر في السفر غير الخوفي في الجملة، خاصّة وأنّنا لا نعرف تاريخ نزول الآية مقارنةً بتاريخ تشريع قصر السفر، فيحتمل جدّاً أنّها نزلت قبل تشريع قصر السفر فلا يوجد مشكلة فيها حينئذٍ.
ج ـ إنّه قد تمّ تصوّر أنّ القصر الذي في الآية هو بعينه قصر الصلاة للمسافر، في حين الآية لا تشير لنوع القصر، وهل هو قصر كمّي (نقص عدد الركعات مثلاً) أو هو قصر كيفي (الصلاة إيماءً مثلاً، أو مشياً أو على الدابّة كما تحدّثت عنه الآية 239 من سورة البقرة)، وعليه فيمكن تصوّر تشريع قصر المسافر، ثمّ تشريع قصر إضافي للخوف، فتكون صلاة المسافر القصريّة إيماءً في حال الخوف، أو تصبح ركعةً واحدة مثلاً وهكذا، فصلاة الخوف وأمثالها من صلاة المسايفة والمطاردة المسمّاة بصلاة شدّة الخوف.. لا تجعل الرباعيّة فحسب ناقصةً، بل يمكنها ـ قرآنيّاً ـ أن تجعل الثنائيّة ركعةً واحدة، وهكذا. وهذا بحثٌ نطرحه على مستوى المقاربة القرآنيّة الخالصة موازاةً لما حاول أن يفعله الطهراني، ومن ثمّ فقصر كلّ صلاة بحسبها تبعاً للخوف ودرجته ومتطلّباته، فآية القصر تفيد إطلاق القصر بأنواعه تبعاً لما توجبه حال الخوف، وهذا غير قصر المسافر المحدّد بطريقة معينة ودقيقة.
وأمّا ما أورده أمثال الشيخ جعفر السبحاني، من أنّ هذا التفسير شاذّ من جهة أولى يُنسب فقط إلى ابن عباس وطاووس اليماني، ومخالف لظاهر الآية من جهةٍ ثانية، من حيث إنّ القصر يقع في مقابل الطول، فيصدق على الركعتين في مقابل الأربع، ولا يصدق على الصلاة إيماءً في مقابل الركوع والسجود الحقيقيّين، إذ هذا التخفيف لا يسمّى قصراً (ضياء الناظر في أحكام صلاة المسافر: 9)..
فقابلٌ للمناقشة؛ وذلك أنّنا نبحث في دلالة الآية نفسها فلا يهمّ الشذوذ أو غيره، كما أنّ تفسيرنا للآية هو الأعمّ من قصرها وتخفيفها، وقد قلنا بأنّه من الممكن أن تكون صلاة الخوف ركعةً واحدة، فيصدق عنوان القصر، بل العرف يفهم من تبديل الركوع والسجود بالإيماء أنّه نوعٌ من تقليص الصلاة واختصارها، فيصدق عرفاً أنّه أصبحت أقصر من ذي قبل، وبخاصّة أنّ الزمن المطلوب في الإيماء يكون أقلّ في العادة منه في الفعل الحقيقي، والعرف ببابك فارجع إليه.
إلى غير ذلك من المناقشات الممكنة، والعلم عند الله.
والنتيجة: إنّه لا مانع من الأخذ بفكرة قصر الصلاة في السفر؛ عملاً بدلالة الروايات المتواترة عند الشيعة والسنّة في هذا المضمار.
القصر بين الرخصة والعزيمة
انقسم فقهاء الإسلام في أنّ القصر والإفطار في السفر هل هو رخصة أو عزيمة، وذلك ضمن اتجاهين:
الاتجاه الأوّل: وهم القائلون بأنّ الأمر على سبيل العزيمة، فليس المكلّف مخيّراً بين الأمرين، بل عليه القصر والإفطار، وهذه هي وظيفته الحصريّة، وهذا هو مشهور الإماميّة، وذهب إليه أيضاً جمهور الأحناف، لكنّهم ـ أي الأحناف ـ قالوا بأنّه لو زاد ركعتين سهواً فصلّى القصر أربعاً، ثبت عليه سجود السهو، أمّا لو زادهما عمداً فهنا تفصيل بين ما لو جلس بمقدار التشهّد الكامل في الركعة الثانية وعدمه، فعلى الأوّل تصحّ صلاته قصراً، وتكون الركعتان الثالثة والرابعة بمثابة النافلة، ولكنّه يكون قد ارتكب محرّماً بإتيانه بصلاة القصر رباعيّةً، وأمّا إذا لم يجلس في الثانية بمقدار التشهّد الكامل، فإنّ صلاته تبطل، وعليه الإعادة.
وقد استند الأحناف إلى بعض النصوص كحديث ابن عباس وغيره، فيما اعتمد الإماميّة على نصوص أهل البيت النبويّ، كما سوف نشير إن شاء الله.
الاتجاه الثاني: وهو الذي ذهب إلى أنّ القصر رخصة، وأنّ المسافر مخيّر بين القصر والإتمام، وهذا ما ذهب إليه جمهور أهل السنّة عدا الأحناف، لكنّ الحنابلة قالوا بترجيح القصر، وأنّه أفضل من التمام، بل قالت المالكيّة بأنّ القصر سنّة مؤكّدة، وهكذا العديد من الشافعيّة. وذهب مؤخّراً السيد كمال الحيدري من الإماميّة ـ وفق ما نُقل عنه ـ إلى القول بأنّ التقصير رخصة، وليس عزيمة، على قاعدة أنّ الآية الكريمة لا تفيد اللزوم، ومن ثمّ فلا يوجد دليل قرآني على اللزوم.
وحجّة الحنابلة والمالكيّة في التفضيل أو في إثبات السنّة المؤكّدة هو مداومة الرسول‘ على القصر في أسفاره، ولم يثبت عنه أنّه صلّى تماماً في أيّ سفرٍ من الأسفار التي قام بها. وقال بعض علماء الشافعيّة، بترجيح القصر في حالات محدّدة، مثل ما لو رأى المكلّف أنّه يَكْرَه أن يصلّي قصراً، فهنا يرجّح له صلاة القصر. والظاهر أنّ العلّة في ذلك عندهم هو ما ورد عن النبيّ من ذمّ أولئك الذين كرهوا القصر في السفر من بعض الصحابة.
وكان استناد الفريق القائل بالرخصة على أطيافه ـ وبخاصّة الشافعيّة ـ هو أنّه قد ورد في بعض الروايات في "صحيح مسلم" أنّ النبي كان يسافر مع الصحابة فكان بعض الصحابة يتمّ وبعضٌ آخر يقصّر، وهذا شاهد على أنّ المسألة اختياريّة، وليست إلزاميّة، والأمر عينه كان يحصل في الإفطار في السفر، فبعضهم كان يفطر وبعضهم كان يواصل صومه بمرأى النبيّ ومسمعه، بل في رواية عائشة ـ التي أوردها الدارقطني ـ أنّها سافرت مع النبيّ، وأنّ النبيّ أفطر، فيما صامت هي، وصلّى هو قصراً فيما أتمّت هي، بل إنّ الآية الواردة في صلاة القصر ـ وهي واردة في الحقيقة في صلاة الخوف كما قلنا سابقاً ـ تنفي الجُناح عن قصر الصلاة، وهو تعبيرٌ ظاهر في نفي الإلزام بالتمام وإثبات الترخيص بالقصر، لا إثبات الإلزام بالقصر ومنع الإتيان بالتمام.
1 ـ أدلّة القول بأنّ التقصير رخصة
عمدة أدلّة القول بكون التقصير رخصة هو الآتي:
1 ـ الآية الكريمة، حيث قال تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ (النساء: 101)، فإنّ هذه الآية ظاهرة في الترخيص باستخدامها تعبير نفي الجناح، فيكوت التقصير رخصة.
وقد أجيب عن ذلك:
أوّلاً: بأنّ نفي الجناح أعمّ من الوجوب والإباحة والاستحباب (محمد رضا السيستاني، بحوث في أحكام صلاة المسافر 1: 14).
ويناقَش هذا المقدار بأنّ ظاهر نفي الجناح هو إثبات الرخصة في الفعل، فلو كان القصر واجباً لما صحّ التعبير بنفي الجناح، بل لناسَبَ التعبير بلزوم التقصير. نعم نفي الجناح قد يمكن الجمع بينه وبين ما دلّ على الوجوب، لا أنّه بنفسه غير دالّ على الترخيص.
وقد استدلّ لكون الآية في مقام بيان الوجوب، بخبر زرارة ومحمّد بن مسلم أنّهما قالا: قلنا لأبي جعفر×: ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي؟ وكم هي؟ فقال: «إنّ الله عز وجل يقول: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة)، فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر»، قالا: قلنا: إنّما قال الله عز وجل: (فليس عليكم جناح)، ولم يقل: افعلوا، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال×: «أوليس قد قال الله عز وجل في الصفا والمروة: (فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطّوّف بهما)؟ ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض لأنّ الله عز وجل ذكره في كتابه وصنعه نبيّه× وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبيّ‘ وذكره الله تعالى ذكرُه في كتابه»، قالا: قلنا له: فمن صلّى في السفر أربعاً أيعيد أم لا؟ قال: «إن كان قد قُرأت عليه آية التفسير (التقصير) وفسّرت له فصلّى أربعاً أعاد، وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه، والصلوات كلّها في السفر الفريضة ركعتان كلّ صلاة إلا المغرب فإنّها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول الله‘ في السفر والحضر ثلاث ركعات. وقد سافر رسول الله‘ إلى ذي خُشب ـ وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان، أربعة وعشرون ميلاً ـ فقصّر وأفطر، فصارت سنّة، وقد سمّى رسول الله‘ قوماً صاموا حين أفطر: العصاة، قال عليه السلام: فهم العصاة إلى يوم القيامة، وإنّا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا». (كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 434 ـ 435).
ويمكننا أن نناقش في هذه الرواية بأنّها مخالفة في ظاهرها لدلالة الآية الكريمة، فإنّ ظاهر الآية هو نفي الحرمة عن صلاة القصر لا إثبات الوجوب، بل حتى لو ضممنا فعلَ النبيّ، فإنّ الآية إذا نفت الحرمة عن التقصير، ثم قصّر النبيّ، كان تقصيره توكيداً لنفي الحرمة، لا إثباتاً للوجوب، فهذا هو المنطق الطبيعي لتحليل الجمع بين الأمرين. بل إنّ استشهاد الإمام ـ بحسب نقل هذه الرواية ـ بآية السعي هو الآخر استشهادٌ ضعيف؛ فإنّ آية السعي تدلّ أيضاً على نفي الحرمة، ولهذا لا تكون بنفسها دليلاً على وجوب السعي، بحيث إذا لم نملك أيّ دليل آخر على وجوب السعي فهي بالتأكيد لا تكون دليلاً عليه، بل قد وردت رواية تفهمنا أنّ نفي الجناح جاء في سياق توهّم الحظر؛ لكون الأصنام كانت موجودة في المسعى آنذاك، فتكون دالّةً على الترخيص وعدم الحرمة بطريق أولى وأوضح، فكيف يمكن الاستدلال بآية السعي لإثبات الوجوب في آية التقصير مع أنّ آية السعي بنفسها لا تدلّ على الوجوب، وما دلّ على وجوب السعي هو أدلّة أخرى؟! نعم آية السعي ـ بناءً على توهّم الحظر ـ ترفع المانع لتسمح للوجوب الثابت مسبقاً بدليلٍ آخر أن يجري، وهذا غير دلالتها على الوجوب، بل يتطلّب الأمر بيان أنّ القصر في الصلاة في السفر كان مركوزاً في الأذهان لحظة نزول الآية بحيث كان واجباً جليّاً ـ كوجوب السعي ـ بين المسلمين الذين كانوا يعرفونه حتى قبل الإسلام، وإثبات ذلك هنا في غاية الصعوبة.
وربما من هنا قدّم بعض العلماء محاولات في فهم القضيّة، أبرزها:
المحاولة الأولى: إنّ نفي الجناح في القرآن قد يراد منه نفي الإلزام، وقد يراد منه إثبات الوجوب والعزيمة، فببركة هذه الرواية هنا نفهم ذلك، ونُثبت أنّ نفي الجناح في آية السعي وآية التقصير يدلّ على الوجوب، لا على مجرّد نفي الحرمة. وهذا ما ذكره العديد من المتأخّرين.
والجواب: إنّ مجرّد ورود رواية في تفسير الآية، لا يعني أنّ اللغة العربيّة قد تغيّرت قواعدها، فأيّ مطّلع على لغة العرب يعرف أنّ نفي الحرمة هو المفهوم من نفي الجناح في الإتيان بفعلٍ من الأفعال، ولا يمكن لرواية آحاديّة منفردة أن تُثبت تعديلاً في البناء اللغوي العربي، أمّا إذا أريد أنّ الرواية تدلّ على بطنٍ من بطون القرآن لا أنّها تفسّر الدلالة اللغويّة الظاهريّة، فهذا أمرٌ آخر سبق أن تعرّضنا له أكثر من مرّة، وقلنا بأنّه غير مقبول إذا كانت ظواهر الآيات لا تتحمّله.
المحاولة الثانية: ما ذكره بعض المعاصرين، من أنّه يكفي أن يكون الفعل مما يقتضيه الطبع حتى لا يكون نفي الجناح موجباً لنفي الوجوب، ومثّل لذلك بأنّ من طبع الوالد أن ينفق على ولده، فإذا كان الولد سيء الأخلاق، ثم جاء النص ليقول: لا جناح عليك أن تُنفق عليه، لم يدلّ نفي الجناح هنا على نفي الوجوب وإثبات الترخيص، والأمر هنا على الوتيرة نفسها، فإنّه لما دلّ الدليل على شرعيّة التقصير في الصلاة، فإنّ طبع الناس أن تقصّر، والحالات القليلة النادرة هي التي تُتمّ، ولو بقصد فعل الخير الزائد، فنفي الجناح عن التقصير في هذه الحال يكون دالاً على الترخيص العام، لكنّه لا يكون نافياً للوجوب، ثم ختم كلامه بقوله: «فليتأمّل» (محمد رضا السيستاني، بحوث في أحكام صلاة المسافر 1: 62 ـ 63).
ويناقش:
أوّلاً: إنّ هذا يحتاج أوّلاً لإثبات أنّ شرعيّة القصر كانت ثابتة قبل نزول الآية الكريمة ومركوزة في أذهانهم، فجاءت الآية لنفي الجناح عن القصر في السفر، وهذا أمر لم يقم صاحب هذه المحاولة بتقديم شواهد له.
ثانياً: إنّه في مورد المثال الذي ذكره فإنّ الطبع كان يقتضي شيئاً قبل نزول نفي الجناح عن الإنفاق على الولد سيء الخلق، والذي خلق توهّم الحظر، أو ما يشبهه، أمّا هنا فالآية بنفسها تقوم بتأسيس حكم القصر، فلو قلنا بأنّ بيان نفي الجناح فيها ـ وهي في مقام بيان الحكم في المورد ـ لا ينفي الوجوب، لكان معنى ذلك أنّ كل دليل دلّ على الترخيص في شيءٍ بتعبير نفي الجناح، لا يعارض دليل وجوب ذلك الشيء مطلقاً حتى لو لم يكن الفعل من مقتضى الطبع، وإطلاق هذا الكلام غريب!
ثالثاً: لو كان القصر معروفاً لديهم وكان الميل الطبعي متحقّقاً فيه قبل نزول الآية، فما هو الشيء الذي دفع لنزول هذه الآية كي ترفع من توهّم شيء معيّن، حتى نقول بأنّها تشبه قصّة إنفاق الوالد على ولده، مع أنّ الظاهر كونها في مقام أصل التشريع؟!
رابعاً: إنّ غاية ما تثبته هذه المحاولة هو عدم تعارض نفي الجناح مع إثبات الوجوب، لكنّها لا تثبت أنّ دليل نفي الجناح هو بعينه دليل الوجوب، كما يفهم من رواية زرارة.
ولعلّ مثل هذه الإشكاليات هو ما دفع صاحب هذه المحاولة للدعوة للتأمّل في آخرها، كما قلنا، وسيأتي مزيد كلام.
المحاولة الثالثة: إنّه لا مانع أن تكون بداية تشريع القصر في السفر بنحو الترخيص، ثم بعد ذلك جاء الإلزام، وهذا غير عزيز (محمد رضا السيستاني، بحوث في أحكام صلاة المسافر 1: 63).
وهذا كلام متين مع تعقّب الإلزام لنفي الجناح زمنيّاً، غير أنّ هذا لا يصحّح رواية زرارة ومحمد بن مسلم الظاهرة في أنّ آية نفي الجناح في باب القصر دالّة بنفسها على الوجوب.
واللافت أنّه بنفسه أقرّ في آخر كلامه بأنّ نفي الجناح لا يعطي الوجوب ولا تكون آية التقصير قرينة عليه، لكنّه حاول مرّة أخرى تخريج رواية زرارة بأنّها لا تفيد دلالة الآية على الوجوب، على أساس أنّ قراءة آية التقصير عليه وتفسيرها له لا يعني أنّ الآية تدلّ على وجوب القصر، بل المراد بالتفسير هو بيان الأدلّة الأخرى الدالة على وجوب القصر غير آية التقصير. ولعلّه تابَعَ في ذلك السيد البروجردي (محمد رضا السيستاني، بحوث في أحكام صلاة المسافر 1: 63 ـ 65؛ والبروجردي، البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر: 92 ـ 93).
وهذا ما يبدو لي غير مفهوم، فإنّ مطلع الرواية هو بيان الآية، ثم قال: فصار القصر واجباً، وهذا يفهم منه العرف أنّ وجوب القصر أتى من الآية، بل إنّ نفس سؤالهما بعد ذلك عن عدم دلالة الآية على الوجوب، فكيف فهم الإمام الوجوبَ منها، شاهد فهمهم دلالة الآية على الوجوب من كلام الإمام، ثم بعد ذلك لو أكملنا الرواية لدلّت على أنّ وجوب القصر أتى من مركّب الآية والفعل النبويّ، وهذا لا يقول به أحد فيما نعلم، بمن فيهم صاحب هذه المحاولة.
فالأقرب بالنظر أنّ رواية زرارة ومحمّد بن مسلم آحاديّة منفردة وغريبة المتن مخالفة لظاهر القرآن أو غير منسجمة معه، فتُطرح أو يوكل علمها إلى أهلها، ولا يُعمل بها.
والنتيجة: إنّه حتى لو سلّمنا ـ ولا نسلّم ـ أنّ الآية واردة في بحث صلاة المسافر بقطع النظر عن صلاة الخوف أو عن حال الخوف في السفر، فإنّ غاية ما تفيد جواز القصر، وليس فيها دلالة على وجوبه، أمّا نسبتها لأدلّة الوجوب، فتختلف بين ما لو جاء تشريع الوجوب بعد نزول الآية، فيكون معقولاً، وما لو جاء قبلها فيكون من الصعب قبوله أو يكون الأمر مشكلاً. وعليه فالأقرب أنّ الآية لا علاقة لها بإثبات أن القصر عزيمة أو رخصة للمسافر بمجرّد السفر.
2 ـ خبر عائشة أنّها قالت: اعتمر رسول الله‘ وأنا معه، فقصّر وأتممت الصلاة، وأفطر وصمت، فلما دنوت إلى مكّة، قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قصرت وأتممت، وأفطرت وصمت، فقال: «أحسنت يا عائشة»، وما عابه عليّ (سنن الدارقطني 2: 167). وقد صحّح جمعٌ هذا الحديث، رغم أنّ بعضهم ناقش فيه.
3 ـ خبر عائشة الآخر، قالت بأنّ «النبيّ‘ كان يسافر فيتمّ الصلاة ويقصّر» (مجمع الزوائد 2: 157).
وهذا الخبر اختلفوا فيه من حيث الصحّة السنديّة، على أنّه من المحتمل ـ ولو ضعيفاً ـ أنّها تريد أن تبيّن أنّه ليس كلّ سفر بموجبٍ للقصر، بل الأسفار على نوعين: موجب للقصر وما ليس موجباً له.
إلى غيرها من الروايات التي ـ كما قلنا ـ وردت في صحيح مسلم وغيره حول سلوك الصحابة في العصر النبويّ وبعده.
2 ـ عمدة أدلّة القول بأنّ التقصير عزيمة
وهنا مجموعة من الأدلّة، وبخاصّة في الوسط الإمامي:
1 ـ الاستناد لإجماع الطائفة الإماميّة.
وهو واضح المدركيّة، فلا نطيل.
2 ـ النصوص التي ادّعي تواترها ـ ولو الإجمالي ـ والمرويّة عن أهل البيت النبويّ، وهي كثيرة جداً موزّعة في الأبواب المختلفة.
والتحقيق في هذه النصوص أنّها على أشكال، أهمّها:
أ ـ ما ورد فيه تعبير الوجوب.
وهذا جيّد، لكنّه في العديد من الأحيان لا يُفهم من الوجوب الإلزام، وإن أشعر به، بل الثبوت، كما هو مقتضى الدلالة اللغويّة، فلو قال: إذا عبرت مسافة كذا وكذا فقد وجب القصر، يمكن أن يفهم منه ثبوت القصر، لا الحكم بالإلزام به. وهكذا صيغ الأمر بالقصر قد تكون فيها دلالة لا بأس بها، لكنّها تحتمل ثبوتَه لا لزومه.
ب ـ ما ورد فيه أمر بإعادة ما صلاه تماماً في السفر، فلو كان القصر غير عزيمة لما كان هناك معنى لوجوب الإعادة.
ج ـ ما ورد بوضوح في أنّه عليك كذا وكذا في حال السفر، مما يفيد تعيّن التقصير والإفطار.
د ـ ما يفيد أنّ خيار الأمّة هم الذين يقصرون في السفر.
لكنّه لا يدلّ على الإلزام، بل على الرجحان.
هـ ـ ما ورد من أنّ التقصير والإفطار تصدّق من الله على الأمّة، وأنّه لا ينبغي للإنسان أن يردّ هذه الصدقة.
ولكنّ هذا النوع من الروايات قد لا يدلّ بوضوح؛ لأنّ غايته المرجوحيّة، بل لا يصحّ الأخذ بإطلاق قانون عدم ردّ الصدقة الإلهيّة، فإنّ كلّ المباحات والمستحبّات صدقات من الله لمصالحنا، فلو أخذ بهذا القانون للزم الحكم بوجوبها.
و ـ ما دلّ على أنّ النبي سمّى من لم يفطروا في السفر مع كونه هو قد أفطر وقصّر، بأنّهم عصاة، وهذا التعبير يدلّ بالدلالة الالتزامية على تركه ما أمر الله به وجوباً؛ إذ لا يُطلق في الأدبيّات الدينيّة على تارك المباح أو المستحبّ بأنّه عصى الله.
ولكنّ هذه الرواية لا علاقة لها ببحث الصلاة، بل هي ناظرة إلى الصوم، فلا يمكن فهم التعميم منها، فراجع، وسيأتي ما يتعلّق بذلك فاصبر.
ز ـ ما ورد في حدود وشروط وتفاصيل أحكام السفر والمسافر، مثل أنّه يبقى على القصر حتى يرجع إلى حدّ الترخّص أو العكس وهكذا.
ولكنّ هذه النصوص ليس فيها حديث عن أصل الحكم بالإلزام، بل غايته أنّها دالّة على أنّ مشروعيّة أو ثبوت القصر أو الإفطار أو غيرهما منوطٌ بكذا وكذا، فليست ناظرة لأصل الحكم.
من هنا، فالنصوص في المجموعتين (ب ـ ج) هي الأقوى دلالةً، ولا معارض لها، والباقي قد يصلح للتأييد على اختلاف في قوّة التأييد الآتي من هذه الرواية أو تلك، وبخاصة المجموعة (أ). بل يؤيّد ذلك أيضاً، ببعض الروايات التاريخيّة التي تكلّمت عن إتمام عثمان بن عفان في السفر، واعتراض المسلمين عليه، دون أن يقدّم تبريراً بأنّ القصر رخصة وليس عزيمة، بل قدّم تبريرات أخرى، وإن ذكرت بعض الروايات القليلة أنّه تمّ تقديم تبرير أنّ القصر رخصة وليس عزيمة، فراجع. كما يتعزّز ذلك كلّه بنصوص وجوب الإفطار في السفر، فلو كان الإفطار عزيمة والقصر رخصة، لظهر ذلك وبان وعُرف.
والنتيجة: إنّ الراجح، بملاحظة مرجعيّة أهل البيت النبويّ، هو أنّ القصر في السفر ـ مع تحقّق شروطه ـ عزيمة، وليس رخصة، وفاقاً للإماميّة والأحناف.