hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (الخلل في الصلاة ـ القسم الخامس)

تاريخ الاعداد: 8/12/2025 تاريخ النشر: 8/21/2025
660
التحميل

هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(14 ـ 8 ـ 2025م)

 


 

فصل

في قضاء الأجزاء المنسيّة

مسألة 875: إذا نسي السجدة الواحدة ولم يذكر إلا بعد الدخول في الركوع، وجب قضاؤها بعد الصلاة وبعد صلاة الاحتياط إذا كانت عليه، وكذا يقضي التشهّد إذا نسيه ولم يذكره إلا بعد الركوع على الأحوط وجوباً([1])، ويجري الحكم المزبور فيما إذا نسي سجدةً واحدة والتشهّد من الركعة الأخيرة ولم يذكر إلا بعد التسليم والإتيان بما ينافي الصلاة عمداً وسهواً([2])، وأمّا إذا ذكره بعد التسليم وقبل الإتيان بالمنافي فاللازم تدارك المنسيّ والإتيان بالتشهّد والتسليم([3])، ثمّ الإتيان بسجدتي السهو للسلام الزائد على الأحوط وجوباً([4]). ولا يقضي غير السجدة والتشهّد من الأجزاء. ويجب في القضاء ما يجب في المقضيّ من جزءٍ وشرط، كما يجب فيه نيّة البدليّة([5])، ولا يجوز الفصل بالمنافي بينه وبين الصلاة، وإذا فصل أعاد الصلاة، والأولى أن يقضي الفائت قبل الإعادة.

مسألة 876: إذا شكّ في فعله بنى على العدم، إلا أن يكون الشكّ بعد الإتيان بالمنافي عمداً وسهواً، وإذا شكّ في موجبه بنى على العدم.

 

فصل

في سجود السهو

مسألة 877: يجب سجود السهو([6]) للكلام ساهياً....


([1]) بل استحباباً؛ لتعارض النصوص وعدم العثور على دليل غير آحادي بعد هذا التعارض.

([2]) هذا على الأحوط استحباباً أيضاً؛ لعدم وضوح الإطلاق في نصوص غير آحاديّة لمثل هذه الحال.

([3]) ولا يكون من باب قضاء الأجزاء المنسيّة، بل يكون من باب إمكان التدارك وعدم فوت المحلّ، شرط عدم الإتيان بالمنافي وعدم صدق أنّه خرج من الصلاة تماماً وانشغل بغيرها.

([4]) بل استحباباً كما سيأتي إن شاء الله.

([5]) بمعنى أنّ ما أقوم به الآن بعد الصلاة هو السجدة أو التشهّد اللذان فاتاني أثناءها.

 

سهو الأنبياء والأئمّة وعلاقته بمسألة سجود السهو، وقفة حديثيّة فقهيّة مختصرة

([6]) نظراً لترابط الموضوع، فلا بأس بهذه المناسبة أن نعرّج على بحث سهو النبيّ بشكل مختصر عبر مقاربة حديثيّة وفقهيّة، لنرى ما تعطيه في بحث سجود السهو، ثمّ نستعرض مشهد النقاش بين المفيد والصدوق والتستري في القضيّة، فنقول وبالله التوفيق: إنّه قد وردت روايات عدّة في موضوع سهو النبيّ والإمام إثباتاً ونفياً، ولا بد من رصدها وأهمّها:

الرواية الأولى: خبر سعيد الأعرج، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: «إنّ الله تبارك وتعالى أنام رسولَه‘ عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس، ثمّ قام فبدأ فصلّى الركعتين اللتين قبل الفجر، ثمّ صلّى الفجر. وأسهاه في صلاته فسلّم في ركعتين، ثم وصف ما قاله ذو الشمالين. وإنّما فعل ذلك به رحمة لهذه الأمّة لئلا يعيّر الرجلُ المسلم إذا هو نام عن صلاته أو سها فيها، فيقال: قد أصاب ذلك رسول الله‘» (كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 358 ـ 359).

وقد احتمل محقّق كتاب "الفقيه" الشيخُ علي أكبر الغفاري في الحاشية أن يكون تعبير: «وإنّما فعل ذلك به..» إلى آخر الحديث، من إضافات الصدوق أو أحد الرواة. ولكنّ هذا بعيد إذ عبارة: «قال مصنّف هذا الكتاب» جاءت بعد هذه الجملة، ممّا يعني أنّ النسّاخ لاحظوا أنّ هذه الجملة منفكّة عن كلام الصدوق، بل ما يقوّي ما نقول بشكل واضح هو أنّ رواية الأعرج رواها الكليني أيضاً كما سيأتي، وفيها حوار يتضمّن فكرة التعيير، فلا ضرورة لهذا الاحتمال هنا.

الرواية الثانية: صحيحة سعيد الأعرج، التي نقلها الكليني هذه المرّة، قال ـ الأعرج ـ: سمعت أبا عبد الله× يقول: «صلّى رسول الله‘ ثمّ سلّم في ركعتين، فسأله من خلفه: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذلك؟ قالوا: إنّما صلّيت ركعتين، فقال: أكذلك يا ذا اليدين؟ وكان يُدعى ذا الشمالين، فقال: نعم، فبنى على صلاته فأتمّ الصلاة أربعاً. وقال: إنّ الله هو الذي أنساه رحمةً للأمّة، ألا ترى لو أنّ رجلاً صنع هذا لعيّر، وقيل: ما تقبل صلاتك، فمن دخل عليه اليوم ذاك قال: قد سنّ رسول الله‘ وصارت أسوة، وسجد سجدتين لمكان الكلام» (الكافي 3: 357؛ وتهذيب الأحكام 2: 345).

إنّ الرواية الأولى ـ وفقاً لنقل الصدوق ـ دالّة على مفهوم الإنامة والإسهاء الإلهي للنبيّ في أمرٍ يتصل بالصلاة، فهي تتحدّث عن واقعتين: الإنامة المرتبطة بصلاة الفجر. والظاهر أنّ النبي بعد الاستيقاظ قام فقضاها، والإسهاء المرتبط بصلاةٍ رباعيّة؛ لأنّ المفروض أنّ النبي وقف عند ركعتين، فلو كانت صلاة الفجر فلا معنى لوقوع السهو ما دام قد أتمّ ركعتين.

وهذه الرواية ـ وفقاً لنقل الكليني ـ توضح تفاصيل السهو حال الصلاة، فتحكي عن الواقعة الثانية من الواقعتين اللتين تحدّثت عنهما الرواية الأولى، وهي تعلّل بكلّ وضوح بأنّ السبب في ذلك هو أن لا يعيّر الناس بعضهم بعضاً بالسهو وأمثاله.

وقد علّق الشيخ الصدوق على هذه الرواية فقال: «إنّ الغلاة والمفوّضة لعنهم الله ينكرون سهو النبيّ‘، ويقولون: لو جاز أن يسهو× في الصلاة لجاز أن يسهو في التبليغ؛ لأنّ الصلاة عليه فريضة، كما أنّ التبليغ عليه فريضة. وهذا لا يلزمنا؛ وذلك لأنّ جميع الأحوال المشتركة يقع على النبيّ‘ فيها ما يقع على غيره، وهو متعبّد بالصلاة كغيره ممن ليس بنبيّ، وليس كلّ من سواه بنبيّ كهو، فالحالة التي اختصّ بها هي النبوّة والتبليغ من شرائطها، ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يقع عليه في الصلاة؛ لأنّها عبادة مخصوصة والصلاة عبادة مشتركة، وبها تثبت له العبوديّة وبإثبات النوم له عن خدمة ربّه عزّ وجل من غير إرادة له وقصد منه إليه نفي الربوبيّة عنه؛ لأنّ الذي لا تأخذه سنة ولا نوم هو الله الحيّ القيوم. وليس سهو النبيّ‘ كسهونا؛ لأنّ سهوه من الله عزّ وجلّ، وإنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق فلا يتخذ ربّاً معبوداً دونه، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا، وسهونا من الشيطان وليس للشيطان على النبيّ‘ والأئمة صلوات الله عليهم سلطان (إنّما سلطانه على الذين يتولّونه والذين هم به مشركون) وعلى من تبعه من الغاوين. ويقول الدافعون لسهو النبيّ‘: إنّه لم يكن في الصحابة من يقال له: ذو اليدين، وإنّه لا أصل للرجل ولا للخبر. وكذبوا؛ لأنّ الرجل معروف، وهو أبو محمّد بن عمير بن عبد عمرو المعروف بذي اليدين، وقد نقل عن المخالف والمؤالف، وقد أخرجت عنه أخباراً في كتاب وصف القتال القاسطين بصفّين. وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله يقول: أوّل درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبيّ‘، ولو جاز أن تردَّ الأخبار الواردة في هذا المعنى لجاز أن تردّ جميع الأخبار وفي ردّها إبطال الدين والشريعة. وأنا أحتسب الأجر في تصنيف كتاب منفرد في إثبات سهو النبيّ‘ والردّ على منكريه إن شاء الله تعالى» (كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 359 ـ 360).

ويمكن التعليق هنا قليلاً:

1 ـ إنّ الرافضين لسهو النبيّ عند الصدوق هم الغلاة والمفوّضة الملعونون عنده. وهذا يذكّرنا بمقولة العلامة المامقاني عندما قال بأنّ ما كان يعدّ في القرون الأولى من الغلوّ هو اليوم من ضروريّات المذهب.

2 ـ تمييز الصدوق بين سهو النبيّ في الصلاة وسهوه في التبليغ على قاعدة الاشتراك والاختصاص، لا يقوم في تقديري على أساس منطقي، فمجرّد أنّ الصلاة مشتركة بين النبيّ وسائر الناس دون التبليغ، لا يرفع إشكال الآخرين بأنّه لو سها النبي في الصلاة فسوف يسهو في التبليغ؛ إذ أيّ ترابط بين العموميّة والخصوصيّة وبين موضوع بحثنا؟!

لكن يمكن أن يكون مقصود الصدوق شيئاً آخر، وهو أنّ التعيير الذي أشارت إليه الرواية لا معنى له في حالة التبليغ؛ إذ لن يكون هناك مبلّغ للوحي بعد النبيّ حتى إذا سها عيّره الناس، بينما الصلاة التي هي أعظم ما في الدين ـ لو تركنا التبليغ جانباً ـ يمكن فرض التعيير فيها، فالصدوق طرح فكرة الخصوصيّة والعموميّة انطلاقاً من المبدأ الذي جاء في ذيل الرواية، لا لمجرّد الخصوص والعموم.

ولكنّ هذا أيضاً غير مقنع؛ إذ بإمكان الناس أن ترفع التعيير بالقول بأنّ النبيَّ سها في أعظم مهمّة كُلّفَ بها، وهو التبليغ، فكيف لا أسهو أنا في الصلاة؟! وبعبارة أخرى: إشكالنا على الصدوق هنا هو في كليّة التعليل الذي استند إليه، فإنّه إذا كانت فلسفة السهو في الصلاة بملاك رفع التعيير، فإنّ هذا الملاك يمكن تصوّره في التبليغ، ومن ثمّ فسيقول الناس: إنّ النبيَّ سها في التبليغ فذكّره الله، فكيف لا يقع منّا سهوٌ في صلاتنا، والنبيُّ هو النبي والتبليغُ هو التبليغ؟!

ومهما يكن، فيلزم أن يوافق الصدوق ـ عقليّاً ـ على إمكانية التفكيك بين التبليغ وغيره، بمنع عروض الخلل على النبيّ فيه دون غيره، مع أنّه ـ أي الصدوق ـ في العصمة قائل بها مطلقاً ويرفض مثل هذا التمييز!

وقد يدافع عن الصدوق بالقول: إنّ القول بالتفصيل في مقام السهو، وعدم التفصيل في مقام العصمة، لا تهافت فيه؛ لأنّ مقام العصمة غير مقام السهو، وحكمهما لا تلازم بينهما؛ وذلك أنّ السهو في حدّ نفسه ليس بعَيب، ولا يكشف عن سوء السّريرة، ولا ينبغي أن يُذمّ الإنسان بمجرّد صدور السهو منه، ومن هنا أراد الله تعالى أن ینزّل رحمته علی عباده ويُظهر للناس أنّ السهو لا يُعدّ نقصاً، بأن یُصدر السهو من نبيّه، كما أنّه أزال قُبح بعض الأفعال الأخرى، كالتزويج بزوجة الابن المتبنّى، عبر تزویجه بزینب بنت جحش، وأمّا في مورد المعصية فالأمر مختلف، فإنّ العاصي يستحقّ الذمّ بذاته، ولا معنى لشموله بالرحمة الإلهيّة بنحو يقتضي أن يُبتلى النبيّ أيضاً بما يوجب المذمّة لدفع المذمّة عن غيره، وبناءً عليه، فبما أنّ السهو مغايرٌ للمعصية من حيث المنشأ والمحمول، لا تلازم بين القول بالتفصيل في باب السهو، والتفصيل في باب العصمة، حتى يُقال بتهافت كلام الصدوق في المسألتين.

لكن يُجاب بأنّ العصمة في غير التبليغ لا تقتصر على المعصية، بل تشمل السهو والخطأ والاشتباه، كما هو واضح.

لكنّ هذا الكلام كلّه لو غضضنا النظر عن مديات إقناعه، يمكن للصدوق تغييره تماماً والقول بأنّ الفرق هو في ضمانات وصول الرسالة؛ فالنبيّ في غير التبليغ لا ضرر في سهوه أو إسهائه؛ لأنّ أفعاله الإفراديّة ـ أعني كلّ فعلٍ فعل ـ ليست تبليغاً، وإنّما سنّته العامّة هي التبليغ، أو ما انضمّ من أفعاله إلى أقواله التبيينيّة، كما لو قصّر في ذي خُشُب، وانتقد الذين لم يقصروا ووصفهم بالعصاة، وفقاً لما جاء في الرواية، أمّا ما ينقله عن الله ويبيّن به شريعته ودينه فهذا لا يعقل فيه الإسهاء الموجب لصدور غير الحقّ منه؛ لكونه ناقضاً للغرض.

بل يمكن الذهاب في التفصيل هنا في مفهوم السهو والإسهاء حتى في التبليغ، فإنّهم إذا قصدوا منهما أن يغفل النبيّ عن أمرٍ فيصدر منه غيره، فهذا مضرّ بالتبليغ، أمّا لو أُريد منه مطلق النسيان، فأيّ مانع أن ينسى النبيّ الحكمَ الشرعي الذي أمره الله بتبيانه، فلا يقول شيئاً لأنّه ناسٍ، ثم يذكّره الله، فيُعلم الناسَ بالحكم بعد التذكير الإلهي؟! فإذا قصد من مفاهيم السهو والإسهاء المعنى الأوّل فامتناعه مقبول مثلاً، دون الثاني؛ إذ الثاني لا يضرّ حتى بالتبليغ.

3 ـ إنّ تمييز الصدوق بين السهو والإسهاء يخلخل من قراءته للموضوع؛ إذ معنى ذلك أنّ النبيَّ لا يسهو، لكنّ الله تعالى يتدخّل في بعض الأحيان فيُسهيه، لهدفٍ خاصّ ومعيّن، وغرض الصدوق هنا الحيلولة دون جعل السهو من الشيطان، فسهو الناس من الشيطان، بينما سهو النبيّ من الله، وبهذا حافظ الصدوق على حماية النبيّ من الشيطان في عمليّة السهو، وهو بذلك يريد تأكيد عصمته في الوقت الذي يؤيّد إسهاءه، والغرض الإلهي هو أن لا يتصوّر الناس في النبيّ الألوهيّة من جهة وأن يتعلّموا أحكام دينهم من جهة ثانية.

وهنا أمور:

أ ـ لم يثبت أنّ كلّ سهو يعرض البشر يكون من الشيطان، فهذا يحتاج لدليل، نعم نصّت بعض الآيات والروايات على أنّ الشيطان يمكن أن ينسي الإنسان، قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنعام: 68)، وقال سبحانه: ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ (يوسف: 42)، وقال تعالى: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾ (الكهف: 63)، لكنّ هذه النصوص وأمثالها لا تُعطي قاعدةً عامّة حتى يكون سهو النبيّ إذا لم يكن من الله فهو من الشيطان، إذ هو ناشئ من الطبيعة الإنسانيّة. إلا إذا قيل بأنّ هذا السهو حيث وقع داخل أمرٍ عبادي ـ وهو الصلاة ـ فيتقوّى احتمال أنّ مرجعه للشيطان، أو يقال بأنّ كونه من الشيطان يخالف نفي سلطنته على العباد المخلصين.

ب ـ بناءً على ما تقدّم من ثنائيّة مفهوم السهو والخطأ، فهذا يعني أنّ على الصدوق أن يوافق على عروض الخطأ على النبيّ أيضاً لعين الأسباب التي برّر بها السهو عليه، كتعليم الدين ونفي تصوّرهم الربوبية له، فلا مانع أن يقتل النبيُّ مؤمناً خطأ، أو يتصرّف في مال مسلمٍ عن طريق الخطأ والاشتباه بظنّ أنّه ماله، وهكذا. ولا أدري هل يوافق الصدوق على هذا أو لا؟

وليس غرضي هنا هو النقد بل الذهاب مع الصدوق في تحليله، حتى إذا لم يكن يوافق على الخطأ النبويّ لزم النقض عليه به هنا.

ج ـ إنّ فكرة سهو النبيّ لأجل التعليم تبدو لي غير مفهومة، لو أخذت لوحدها بصرف النظر عن المبرّر الثاني، إذ التعليم لا يحتاج لوقوع شخص النبيّ في السهو، بل يمكن أن يقع مباشرة بالتبيان أو بوقوع مؤمن من المؤمنين بالسهو فتكون حادثته بمثابة فرصة تعليميّة لعموم المؤمنين.

وهذه مداخلة ترد على الصدوق والرواية نفسها، في مقام التعقيل أو الفهم التعقيلي.

4 ـ إنّ قول الصدوق بأنّه لو رُدّت الأخبار هنا للزم ردّها في مختلف المجالات، فيه ضربٌ من المبالغة، فإنّ الرادّ للأخبار هنا ينطلق في ردّه من وجود أدلّة مناقضة ولو من العقل، وقد لا يتوفّر هذا بسهولة في أكثر الروايات التي تستوعب الأخلاق والشريعة والتاريخ وكثير من التكوينيات والعقائديّات وغير ذلك.

5 ـ يظهر من بعض العلماء نوع من التمييز بين فكرة الإنامة وفكرة الإسهاء، من حيث شبكة علاقتهما بنظريّة العصمة، كما يظهر أنّ هناك اختلافاً في طريقة تعامل الفقهاء والمتكلّمين مع الروايات هنا، ففي الوقت الذي تُرفض هذه الروايات في علم الكلام، يبدو أنّها تُقبل في علم الفقه، وهذا ما أثار بعض اللبس والنقاش.

وعلى سبيل المثال، فقد علّق الشهيد الأوّل على رواية إنامة النبيّ عن صلاة الفجر بقوله: «لم أقف على رادّ لهذا الخبر من حيث توهّم القدح في العصمة به» (ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة 2: 423). فيما علّق المحدّث البحراني على روايات السهو بقوله: «ثمّ العجب كلّ العجب من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ مع إجماعهم واتفاقهم على عدم جواز السهو على النبيّ‘، حتى أنّهم لم ينقلوا الخلاف في ذلك إلا عن ابن بابويه وشيخه ابن الوليد، وقد طعنوا عليهما في ذلك، وشنّعوا عليهما أتمّ التشنيع، حتى صنّفوا في ذلك الرسائل وأكثروا من الدلائل، ومنها رسالة الشيخ المفيد، وربما نسبت إلى السيد المرتضى، وهي عندي، وفيها ما يقضي منه العجب من القدح في ابن بابويه، فكيف تلقّوا هذه الأخبار بالقبول واعتمدوا على ما فيها من المنقول في مثل هذا الحكم المخالف لاعتقاداتهم؟!.. أقول: قد عرفت صراحة كلام شيخنا المفيد ـ قدّس سرّه ـ في ردّ الأخبار المذكورة، فكيف يُدّعى أنّه لا رادّ لهما؟ وعدم اطّلاعه عليه لا يدلّ على العدم (إذا كان يقصد الشهيدَ الأوّل، فهو لم ينف وجود الرادّ، بل نفى وقوفه عليه). وبالجملة فمقتضى عدم تجويز السهو عليه‘ كما هو ظاهر اتفاقهم، ردّ هذه الأخبار ونحوها أو حملها على التقية..» (الحدائق الناضرة 6: 273 ـ 274).

غير أنّ الذي يبدو لي أنّ إشكال البحراني لا يرد على الشهيد الأوّل، فعبارة الشهيد الأوّل ناظرة للإنامة، فيما كلام البحراني في السهو، نعم التنافي بين سلوك الفقهاء وسلوك المتكلّمين في روايات السهو هنا يستحقّ التوقّف بعد التحقّق منه بالتتبّع التاريخي.

ويشهد لما نقول أنّ الشيخ النجفي أقرّ بالتفريق بين الإنامة والإسهاء، ونسب لبعض المتقدّمين أنّهم ما كانوا يرون مشكلةً في الإنامة، لكنّه لم يوافق على ذلك شخصيّاً، انطلاقاً من مبرّرات أخرى، فقال: «لكن ومع ذلك كلّه، فالإنصاف أنّه لا يجترئ على نسبته إليهم ـ عليهم السلام ـ؛ لما دلّ من الآيات والأخبار، كما نُقل على طهارة النبيّ وعترته ـ عليهم الصلاة والسلام ـ من جميع الأرجاس والذنوب، وتنزّههم عن القبائح والعيوب، وعصمتهم من العثار والخطل في القول والعمل، وبلوغهم إلى أقصى مراتب الكمال، وأفضليّتهم ممن عداهم في جميع الأحوال والأعمال، وأنّهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، وأنّ حالهم في المنام كحالهم في اليقظة، وأنّ النوم لا يغيّر منهم شيئاً من جهة الإدراك والمعرفة، وأنّهم لا يحتلمون، ولا يصيبهم لمة الشيطان، ولا يتثاءبون ولا يتمطّون في شيء من الأحيان، وأنّهم يرون من خلفهم كما يرون من بين أيديهم، ولا يكون لهم ظلّ، ولا يرى لهم بول ولا غائط، وأنّ رائحة نجوهم كرائحة المسك، وأمرت الأرض بستره وابتلاعه، وأنّهم علموا ما كان وما يكون من أوّل الدهر إلى انقراضه، وأنّهم جعلوا شهداء على الناس في أعمالهم، وأنّ ملائكة الليل والنهار كانوا يشهدون مع النبيّ‘ صلاة الفجر، وأنّ الملائكة كانوا يأتون الأئمّة ـ عليهم السلام ـ عند وقت كلّ صلاة، وأنّهم ما من يوم ولا ساعة ولا وقت صلاة إلا وهم ينبهونهم لها ليصلّوا معهم، وأنهم كانوا مؤيّدين بروح القدس يخبرهم ويسدّدهم، ولا يصيبهم الحدثان، ولا يلهو ولا ينام ولا يغفل، وبه علموا ما دون العرش إلى ما تحت الثرى، ورأوا ما في شرق الأرض وغربها، إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله، كما ورد أنهم لا يعرفهم إلا الله ولا يعرف الله حقّ المعرفة إلا هم، وليسوا هم أقلّ من الديكة التي تصرخ في أوقات الصلوات، وفي أواخر الليل؛ لسماعها صوت تسبيح ديك السماء الذي هو من الملائكة..» (جواهر الكلام 13: 75 ـ 76).

بهذا نتأكّد أنّ تمييزاً ما يبدو محتملاً بين فكرتي الإنامة والإسهاء، فمشكلة الإنامة ـ كما يظهر من النجفي الذي بذل قصارى جهده لحشد ما ينفيها ـ ليست في مواجهة نظريّة العصمة، بل في مواجهة صفات أخرى ثابتة للنبيّ وأهل بيته، ولذلك لم يقم النجفي بنسف الإنامة عبر نظريّة العصمة بل وجد نفسه مضطراً لحشد سلسلة طويلة من الأمور بعد حديثه عن العصمة، إحساساً منه ـ في ظنّي ـ أنّ نظريّة العصمة لوحدها غير قادرة على نفي فكرة الإنامة المجرّدة عن السهو، وبهذا يرتفع الإشكال عن كلام الشهيد الأوّل.

بل لنا أن نتوقّف قليلاً مع النجفي نفسه في القرائن التي حشدها، فبعضها لا علاقة له بالإنامة، مثل العصمة عن الذنوب والخطأ والسهو وغير ذلك، وبعضها محلّ كلام، بل تقع هذه الروايات صحيحة السند هنا في مواجهة تلك النصوص وينبغي إجراء مقارنات، بل إنّ كل ما حشده النجفي لا يبطل شيئاً من روايات الإنامة هنا، إذ هي تنافي نومه ولا تنافي الإنامة في أحيان قليلة جداً لغاية إلهيّة، فالنبيّ لا ينام لكنّ الله هنا أنامه، والنبيّ لا يغفل وتوقظه الملائكة و.. لكنّ الأمر لم يحصل هنا، فلماذا لم يتعامل النجفي مع مجموعتَي النصوص هنا بطريقة القاعدة والاستثناء، وبخاصّة أنّ الروايات هنا بنفسها تؤكّد أنّ هذه العملية الاستثنائيّة وقعت لغاية محدّدة وليست قاعدةً؟!

هذا كلّه فضلاً عن وجود خلل منهجي في طريقة تعامل النجفي هنا، فقد عمل بطريقة الحشد العشوائي الهادف لتكثير النصوص، وإلا فما علاقة بول النبي وغائطه بموضوع بحثنا هنا؟! كان ينبغي له ـ لو تمّت هذه الصورة الكاملة الناتجة عن حشد هذه النصوص وأمثالها، مما أكثر منه الكليني في أصول الكافي والصفار في البصائر ـ أن ينفي عن النبيّ ممارسة الجنس والأكل والشرب والعطس والبصاق والموت والتغوّط والتبوّل وغير ذلك!

هذا، وقد ردّ الشيخ محمّد النراقي على مثل كلام صاحب الجواهر، بقوله: «ولا يستلزم تيقّظ قلبه عدم إحساسه الوقت في النوم ولا استواء حالتي النوم واليقظة وعدم تغيّر شيء له ولو من جهة الإدراك، وإن ورد فيه خبر، فهو على معنى عدم تغيّر ما في عادة الناس من نوم قلوبهم واستيلاء الخيال الاضطراري عليها وغفلتها عن شؤون تلك النشأة، فإنّ حالة النوم ولو للحجج المعصومين غير حالة اليقظة، وإلَّا لم يسترح به البدن، وليس هو مجرّد عدم إبصار المحسوسات وعدم سماع الأصوات اللذان يحصلان في اليقظة أيضاً، بغضّ العينين وسدّ الأذنين، بل هو تعطيل النفس عن التصرّفات البدنية والإدراكات الحسّية، وفرقهم عن غيرهم في عدم تعطَّل نفوسهم القدسية عن تصرّفاتها وعدم غفلتهم عن الأعمال القلبية والإدراكات العقليّة دون غيرهم، وهو معنى: ينام عينه ولا ينام قلبه. والالتفات إلى وقت الصلاة من المدركات الحسّية، فلا ينافي عدم نوم قلبه عدم التفاته إليه، وإن كان على خلاف عادتهم بمشيئته سبحانه. وما دلّ على شهود الملائكة معهم عند وقت كلّ صلاة غايته الدلالة عليه عند انتباههم، وليس نصّاً على ذلك ولو في حال نومهم في جميع الأوقات، بحيث يعارض صريح مدلول أخبار الرقود. والنقض بحكاية الديكة أعجوبة، فإنّ كل مخلوق تيسّر لما خلق له، وإلَّا لزم فضلها على المؤمنين الذين يتفق لهم ذلك أحياناً، بلا كلام ولا استبعاد..» (مشارق الأحكام: 492 ـ 493).

ويعزّز ذلك كلّه بما قاله المحقّق الهمداني: «وأنت خبير بأنّ غلبة النوم غير مندرجة في موضوع السهو والخطأ حتّى يندرج في معقد إجماعهم، فيُشكل دعوى امتناعها على الأنبياء عليهم السّلام؛ إذ لا شاهد عليها من نقل أو عقل، عدا ما قد يقال من أنّ نومهم عن الفريضة نقصٌ يجب تنزيههم عنه. وهو غير مسلَّم ، خصوصاً إذا كان من قبل الله تعالى رحمةً على العباد، لئلَّا يعيّر بعضهم بعضاً، كما في بعض الأخبار التصريح بذلك» (مصباح الفقيه 9: 344).

وبهذا وغيره نعرف أنّ دعوى استحالة النوم أو الإنامة عن الصلاة في حقّ النبي غير ثابتة، بخلاف قضيّة السهو التي اشتهرت بينهم.

الرواية الثالثة: مضمرة سماعة بن مهران، قال: سألته عن رجل نسي أن يصلّي الصبح حتى طلعت الشمس، قال: «يصلّيها حين يذكرها؛ فإنّ رسول الله‘ رقد عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس، ثم صلّيها حين استيقظ، ولكنّه تنحّى عن مكانه ذلك، ثم صلّى» (الكافي 3: 294).

والرواية معتبرة الإسناد، والتنحّي فيها هو ـ كما قال المجلسي ـ: «لكراهة ذلك الموضع الذي أغفلهم الشيطان فيه عن الصلاة، كما هو المصرّح في خبر أورده في الذكرى» (مرآة العقول 15: 65).

وهذه الرواية واردة في النوم، وليس فيها إشارة إلى الإنامة، لكنّها لا تمانع فرضيّة الإنامة لو ثبتت بنصوصٍ أخَر.

الرواية الرابعة: خبر عبد الله بن سنان المصحّح عند المشهور، عن أبي عبد الله×، قال: سمعته يقول: «إنّ رسول الله‘ رقد فغلبته عيناه، فلم يستيقظ حتى آذاه حرّ الشمس، ثمّ استيقظ، فعاد ناديه ساعة وركع ركعتين، ثمّ صلّى الصبح، وقال: يا بلال ما لك؟! فقال بلال: أرقدني الذي أرقدك يا رسول الله، قال: وكره المقام، وقال: نمتم بوادي الشيطان» (تهذيب الأحكام 2: 265؛ والاستبصار 1: 286).

والدلالة واضحة في الإنامة، غير أنّ الإضافة التي فيها تكمن في أنّ المؤثر في الإنامة هو الشيطان، وهذا جليّ في الرواية، وليس المورد مورد إنامة الله سبحانه له لمصلحة، وإلا فأيّ معنى لهذا التعبير الوارد في آخرها؟! إلا إذا قلنا بأنّ هذا التعبير يفيد تأثير الشيطان على الصحابة فأنامهم، لأنّه يقول لهم: «نمتم بوادي الشيطان» ولم يقل: «نمنا بوادي الشيطان»، فيكون ساكتاً عن كون نومه كان بتأثير الله سبحانه أو بتأثير الشيطان.

لكنّ السيّد الخوئي رفض هذه الرواية وأمثالها، فقال: «ولكنّ هذه الروايات لا يسعنا أن نصدّقها في مضامينها وإن كان بعضها صحيحاً من حيث السند. ولم يظهر لنا الوجه في صدورها عنهم ـ عليهم السلام ـ لمخالفتها أصول المذهب ودلالتها على القدح في مقامه وعصمته‘، كيف وهو أرقى من أن يغلبه النوم ويمنعه عن القيام بما أمره به ربّه» (المستند في شرح العروة، كتاب الصلاة 1: 500).

وكلامه ـ بعيداً عن فكرة تأثير الشيطان ـ غير مفهوم؛ خاصّة وأنّ النوم مسقطٌ للتكليف، وأنّه لو يؤاخذ النبيّ فعلى تقصيره في توقيت النوم، كما لو نام متأخّراً بحيث صار يعلم بأنّ النوم سوف يغلبه، ولهذا فهم لا يرون أنّ النائم عن صلاة الصبح يرتكب معصيةً أو أنّ عابداً عالماً جليلاً لو غلبه النوم مرّةً أو مرتين في حياته فقد نقص مقامه! بل لماذا لا يكون الوجه هو التقيّة كما قال بعضٌ؟ ولماذا لم يوافق الخوئي على فرضيّة التقيّة بل استغرب صدورها عنهم عليهم السلام؟! إلا إذا قيل بأنّه مخالف القرآن، ومخالفه مما لا يقولونه.

 

وقفة نقديّة مع الميرزا التبريزي

من هنا اعتبر الميرزا جواد التبريزي أنّ فتح باب نوم النبيّ غير مقبول، فقال: «بل نقول: إنّ نوم النبيّ‘ عن الصلاة حتى ولو لم يحصل منه أدنى ضرر فهو غير مقبول عندنا؛ لأنّ عامّة الناس لا يفهمون أنّ هذا النوم رحماني لا شيطاني فيقلّ اعتقادهم فيه‘، وتؤدّي نتيجة ذلك عكس المطلوب لما يثيره هذا الأمر من حالة التنفير منه‘. فاعتقادنا هو أنّ النبيّ‘ والأئمّة عليهم السّلام وسائر الأنبياء عليهم السّلام، معصومون عن السهو والاشتباه ونوم الغفلة، فإنّ وقوعها منهم يستلزم نقض الغرض وخلاف الحكمة، وبه ينفتح الباب أمام أصحاب الحجج الواهية الذين يصطادون في الماء العكر، وسيقولون: إنّ هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ يسهو في أكله وشربه، وفي يقظته ونومه و.. فكيف لا يسهو في التبليغ وما ينزل عليه من وحي الله وآياته؟! وهكذا.. وهذا خلاف الحكمة من جعل النبوّة والإمامة. منشأ وضع هذه الروايات: وهنا شيء يخطر في الذهن توجيهاً لوضع هذه الروايات الضعيفة الباطلة حتى على مذهبهم، وهو أنّهم يريدون أن يُدخلوا في أفكار الناس وأذهانهم أنّ النبيّ‘ يمكن عليه السهو والاشتباه، تمهيداً لرفع ما حصل عند وفاة الرسول‘ من إساءة أدب إليه في محضره الشريف، وذلك حينما طلب من أصحابه الجالسين الدواة والكتف ليكتب لهم كتاباً لا يضلّون بعده أبداً، فقال قائلهم: «إن الرجل ليهجر»! فلم يعقّب الرسول‘ على ذلك بشيء غير أنّه أمرهم بالانصراف عنه والقيام من مجلسه. ولو كتب الكتاب الذي أراد أن يكتبه لما كان لكتابته اعتبار عندهم، ولقالوا: إنّما كتبه اشتباهاً أو سهواً أو أنّه لم يكن في حال الاختيار وما شاكل ذلك من الأعذار، وحتى يرفعوا قبح هذا الجواب الذي أجابوا به الرسول‘ من ذهن الناس جاؤوا بهذه الأحاديث لتدلّ على إمكان حصول الاشتباه والغفلة في حقّه‘، وأنّ قول القائل كان في موضعه!» (الأنوار الإلهيّة في المسائل العقائديّة: 54 ـ 55).

وهنا وقفات:

أ ـ لم أفهم من هم أولئك الناس الذين سيقلّ اعتقادهم بالنبيّ لمجرّد أنّه نام مرّةً أو مرّتين عن صلاة الصبح، دون أن يتبيّنَ لهم أنّ سبب ذلك هو الشيطان، وكلّ البشر يغلبهم النعاس أحياناً؟! فليعرض هذا على الناس هل سيرفضون نبوّة شخص لمجرّد هذا السبب؟!

بل بعض علماء الإماميّة لم يخطر هذا في بالهم، وعلى سبيل المثال فقد قال الطبرسي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنعام: 68)، قال: «قال الجبائي: وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول الإماميّة في جواز التقيّة على الأنبياء والأئمّة، وأنّ النسيان لا يجوز على الأنبياء (غالب الظنّ أنّ الجبّائي انطلق هنا من أنّه لو كان النسيان على النبيّ من المستحيلات بالغير، لكانت مخاطبة النبيّ ـ ولو بالجملة الشرطيّة ـ أمراً غير معقول ولا فصيح ولا حكيم، فهذا كقولك لرجلٍ ـ وأنت تقصد بيان الحكم لنسائه ـ: يا زيد، إذا رأيت الدم فلا تصلّ، وانتظر حتى تغتسل فإذا نقيت فاغتسل ثم صلّ ولا يجب عليك يا زيد القضاء. لكنّ مخاطبة الآخر عبر شخص معلوم عدم تحقّق شرط الخطاب فيه ممكن، ويشهد له مخاطبة القرآن للنبيّ في أمر والديه، فتأمّل، إلا إذا قيل بأنّ معقولية هذا الخطاب مع عدم وجود والديه واقعاً مشروطة بعلم الجميع بعدم حياة والديه، وإلا فما يفهم هو وجود والديه وحياتهم حقّاً، فهل كان المسلمون في عصر النبيّ واضحاً لهم عصمته عن النسيان مطلقاً، كوضوح وفاة والديه؟!) وهذا القول غير صحيح ولا مستقيم؛ لأنّ الإمامية إنّما تجوّز التقية على الإمام، فيما تكون عليه دلالة قاطعة توصل إلى العلم، ويكون المكلّف مزاح العلّة في تكليفه ذلك، فأمّا ما لا يعرف إلا بقول الإمام من الأحكام، ولا يكون على ذلك دليل إلا من جهته، فلا يجوز عليه التقية فيه. وهذا كما إذا تقدّم من النبيّ بيان في شيء من الأشياء الشرعيّة، فإنّه يجوز منه أن لا يبيّن في حال أخرى لأمته ذلك الشيء، إذا اقتضته المصلحة. ألا ترى إلى ما روي أن عمر بن الخطاب سأله عن الكلالة فقال: يكفيك آية السيف! وأمّا النسيان والسهو، فلم يجوّزوهما عليهم، فيما يؤدّونه عن الله تعالى، فأمّا ما سواه فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه، أو يسهوا عنه، ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل، وكيف لا يكون كذلك، وقد جوّزوا عليهم النوم والإغماء، وهما من قبيل السهو؟ فهذا ظنّ منه فاسد، وإنّ بعض الظنّ إثم» (مجمع البيان 4: 81 ـ 82).

فالطبرسي لم يجد أيّ إرباك في نسبة النسيان إليهم ما لم يصل إلى حدّ الإخلال بالعقل، إذ هذا الحدّ هو الذي يوجب انهيار الوثوق وعدم إمكان الأخذ منه. بل قبل الطبرسي قال الطوسيُّ الأمرَ عينَه عند حديثه عن الآية نفسها: «واستدلّ الجبائي أيضاً بالآية على أنّ الأنبياء يجوز عليهم السهو والنسيان. قال: بخلاف ما يقوله الرافضة بزعمهم من أنّه لا يجوز عليهم شيء من ذلك. وهذا ليس بصحيح أيضاً؛ لأنّا نقول: إنّما لا يجوز عليهم السهو والنسيان فيما يؤدّونه عن الله، فأمّا غير ذلك فإنّه يجوز أن ينسوه أو يسهو عنه مما لم يؤدّ ذلك إلى الإخلال بكمال العقل، وكيف لا يجوز عليهم ذلك وهم ينامون ويمرضون ويُغشى عليهم، والنوم سهوٌ، وينسون كثيراً من متصرّفاتهم أيضاً وما جرى لهم فيما مضى من الزمان، والذي ظنَّه فاسدٌ» (التبيان 4: 165 ـ 166).

بل هذا الشيخ المفيد في الرسالة المنسوبة إليه في نفي السهو، وهو الخصم الأبرز للصدوق نراه يقول: «ولسنا ننكر بأن يغلب النوم الأنبياء عليهم السلام في أوقات الصلوات حتى تخرج، فيقضوها بعد ذلك، وليس عليهم في ذلك عيب ولا نقص؛ لأنّه ليس ينفكّ بشر من غلبة النوم، ولأنّ النائم لا عيب عليه. وليس كذلك السهو؛ لأنه نقص عن الكمال في الإنسان، وهو عيب يختص به من اعتراه» (عدم سهو النبيّ: 28).

ب ـ إنّ التحليل التاريخي للشيخ التبريزي غير منسجم في تقديري؛ وذلك أنّ مفهوم الهجر والهذر مختلف عن مفهوم النوم والسهو، فمن يريد تبرير واقعة يوم الخميس عليه أن يخترع مرويّات تؤكّد أنّ النبيّ أحياناً كان يتكلّم بكلام غير منطقي عندما كان مريضاً أو في حال مرض أو عندما يكون نعساناً أو مستقيظاً من النوم للتوّ وغير ذلك، فوضع روايات في نومه عن صلاة الصبح أو سهوه في الصلاة لتبرير واقعة الخميس يبدو لي أنّه تحليل تاريخي احتمالي فرضي ليس ثمّة مؤشرات على قوّة معقوليّته التاريخيّة.

ج ـ صوّر لنا التبريزي أنّ هذه المرويّات سنيّة، وكأنّه تجاهل أنّها موجودة بكثرة في أمّهات المصادر الشيعيّة وبأسانيد شيعيّة خالصة وبنصوص صحيحة السند! ولو قال بأنّها صدرت تقيّةً فلماذا لم يصدر في نفي مضمونها ما هو مثلها وأضعافها من أهل البيت، وهو من أوجب الواجبات عليهم؛ تصحيحاً لعقائد الناس؟! وقد تقدّم كلام الطبرسي في أنّ التقية إنّما تجوز حيث يكون الحقّ مما يمكن الوصول إليه، فتأمّل جيّداً، فإنّ عدم ظهور روايات معاكسة يبدو في غاية الغرابة هنا، لو فرضنا هذه الروايات تقيّةً. بل علّق الشيخ آصف محسني هنا بأنّ الحمل على التقية فرع التعارض بين الأخبار، وليس لهذه الأخبار معارض برأيه (انظر: صراط الحقّ 3: 109).

د ـ إنّ تحليل التبريزي يبدو متناقضاً، فمن جهة يريد تبرير حادثة الخميس، وفي الوقت عينه يقول بأنّهم وضعوا هذه الروايات كي يقولوا لاحقاً بأنّ النبيّ لو كتب كتاباً لأمكن أن يكون كتبه سهواً وغفلةً، وهذا غير مفهوم لي؛ فإنّ هذه الروايات تنسجم أكثر مع فرضيّة الكتابة يوم الخميس، لا مع فرضيّة عدم الكتابة، وإذا كان الواضع يريد تبرير سلوك عمر بن الخطّاب في قوله بأنّ النبيّ ليهجر، فإنّ هذه الروايات لا تبرّر هذا السلوك كما هو واضح. وبين هجر النبيّ وسهوه ونومه فرقٌ واضح بالوجدان العرفي والعقلائي.

الرواية الخامسة: خبر الشهيد الأوّل، قال: روى زرارة في الصحيح، عن أبي جعفر×، قال رسول الله‘: إذا دخل وقت صلاة مكتوبة، فلا صلاة نافلة حتى يبدأ بالمكتوبة. قال: فقدمت الكوفة، فأخبرت الحكم بن عتيبة وأصحابه فقبلوا ذلك منّي، فلما كان في القابل لقيت أبا جعفر×، فحدّثني: «أنّ رسول الله‘ عرّس في بعض أسفاره، فقال: من يكلؤنا. فقال بلال: أنا. فنام بلال وناموا حتى طلعت الشمس، فقال: يا بلال ما أرقدك؟ فقال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بأنفاسكم، فقال رسول الله‘: قوموا فتحوّلوا عن مكانكم الذي أصابكم فيه الغفلة، وقال: يا بلال، أذّن، فأذّن فصلّى رسول الله‘ ركعتي الفجر، وأمر أصحابه فصلّوا ركعتي الفجر، ثم قام فصلّى بهم الصبح، ثمّ قال: من نسي شيئاً من الصلاة فليصلّها إذا ذكرها، فإنّ الله عز وجل يقول: وأقم الصلاة لذكري». قال زرارة: فحملت الحديث إلى الحكم وأصحابه، فقال: نقضت حديثك الأوّل! فقدمت على أبي جعفر× فأخبرته بما قال القوم، فقال: «يا زرارة، ألا أخبرتهم أنّه قد فات الوقتان جميعاً، وأنّ ذلك كان قضاء من رسول الله‘» (ذكرى الشيعة 2: 422).

والخبر رغم تصحيح الشهيد الأوّل له غير أنّه لم يتمّ العثور عليه في أيّ مصدر متوفّر بين أيدينا اليوم، ولعلّه من مخطوطاتٍ وصلته ولم تصلنا، وهذا موجود، وعليه فالخبر بالنسبة إلينا مرسلٌ ولو صحّحه الشهيد الأوّل.

أمّا عن الدلالة، فهو واضح في نوم النبي وليس لمفهوم الإنامة حضور فيه، بل تعبير الغفلة موجود وإن كان منسوباً لغير النبيّ.

وقد يقال: بأنّ اختلاف الروايات في سبب النوم هل هو الشيطان أو واديه أو الغفلة أو الله، يوجب سقوطها عن الوثوق، لاختلافها في الحيثيات التفصيليّة للحدث.

ولكنّ هذا الكلام غير صحيح؛ إذ هو ـ لو تمّ على إطلاقه ـ متفرّع على كون الروايات تتكلّم عن حادثة واحدة، فيما يبدو أنّها تتكلّم عن حوادث متعدّدة، أو على الأقل محتملٌ جدّاً كونها كذلك، فلا داعي لتساقطها. هذا بالإضافة إلى أنّ تبيين إحدى الروايات خاصيةً معيّنة دون الأخرى أمرٌ شائع في النصوص الناقلة لحدثٍ واحد، فنأخذ القدر المتيقّن من مجموع الروايات ونترك ما تفرّدت به كلّ رواية على حدة، وهذا سينفع الآخذ بهذه الروايات؛ لأنّ الجامع بينها هو ثبوت الإسهاء أو النوم.

وقد يُشكل بإشكال متنيّ على روايات التعيير هنا، بأنّه لو كانت العلّة صحيحةً، للزم منها التعميم والتخصيص، وبهذا يمكن القول بأنّ النبيّ يلزم أن يسهو في التبليغ أيضاً كي لا يعيّر أحدٌ أحداً لو سها في تبيان أمرٍ ديني، بل يلزم نسبة مختلف النواقص البدنيّة وغيرها للنبيّ؛ للتبرير نفسه.

غير أنّه يُجاب بجوابين:

الجواب الأوّل: إنّ تعليل الرواية ليس من نوع تعليل التشريعات والذي يكون بنفسه بياناً للعموم في بعض الحالات، بل هو تعليل لحادثة معيّنة، ومن ثمّ فمجرّد أنّ الله قرّر أن يُسهي نبيَّه في الصلاة لرفع تعيير الناس بعضهم بعضاً لا يعني أنّه بالضرورة يلزمه ذلك دوماً، فلعلّ تزاحم المصالح والمفاسد في غير هذه الحال مَنَع من التعميم، بل لعلّ السهو في الصلاة كافٍ لإيصال رسالة بأنّ النبيّ إذا سها في صلاته فهذا مبرّر كافٍ لتبرير سهو الناس في مختلف أعمالهم، كيف والصلاة عمود الدين، فتكون الحادثة ذات بُعدٍ رمزيّ شامل، فلا حاجة لتكرارها في مختلف المجالات، تماماً كما أنّ النبي يأكل ويمشي في الأسواق بيانٌ رمزي كافٍ عن بشريّته بلا حاجة لذكر تمام العوارض التي تعرض البشر.

الجواب الثاني: أيّ مانع أن يُسهي الله نبيّه في التبليغ إذا كان سيذكّره فوراً؟! وبرهان الوثوق لا يشمل هذه الحال، إذ سيصبح لدينا ـ كي نثق بنقل النبي الدينَ لنا ـ أمرٌ مركّبٌ من عنصرين: صدق النبيّ وغلبة تذكّره وعدم سهوه من جهة، والتعهّد الإلهي بتصحيح سهوه لو وقع منه سهو في حالات قليلة من جهة ثانية، وأيّ ضيرٍ في ذلك؟! وما الفرق بينه وبين صدور بعض النصوص عن أهل البيت على خلاف الواقع تقيّةً، مع تبيانهم الحقَّ في مناسبة أخرى؟!

 

محاولة دفاعيّة عن المحقّق التستري

قال المحقّق التستري: «فإن قيل: إنّ السهو مطلقاً نقصٌ، والنقص لا ينبغي للنبيّ|. قلتُ: ذلك لو لم يعرضه وجه حَسَنٌ، فكثيراً ما يعرض لما هو قبيح في نفسه ونقص في ذاته ما يرفع قبحه ونقصه. فالكذب ـ وهو قبيحٌ ـ إذا قارنه مصلحةٌ، كإصلاح ذات البَيْن وغيره، يكون حَسَناً. والنسيان نقصانٌ، وفي بعض الموارد يكون لُطْفاً، قال الصادق× للمفضَّل: وأعظمُ من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمةُ في النسيان، فإنّه لولا النسيان لما سلا أحد عن مصيبته، ولا انقضت له حسرةٌ، ولا مات له حقدٌ، ولا استمتع بشيءٍ من متاع الدنيا مع تذكُّر الآفات، ولا رجا غفلةً من سلطان، ولا فترةً من حاسد. وبيَّنت الأخبار ضروب المصلحة في إسهائه، منها: أن لا يتّخذ ربّاً؛ ومنها: أن يتعلَّم الناس أحكام السَّهْو؛ ولئلاّ يعيِّر أحدٌ أحداً بوقوع سَهْو منه، كما عرفت. فكما أنّ أصل وجود النبيّ| لطف من الله تعالى على عباده يكون تسليط السَّهْو عليه في ذلك المورد أيضاً لطفاً، غاية الأمر أنّ وجوده لطفٌ واجب وفرض، وهذا فضلٌ ونضل، وألطافه بلا حَدٍّ، ونعماؤه بلا عَدٍّ» (التستري، رسالة في سهو النبيّ، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 42: 91).

وقد أشكل بعضهم على محاولة التستري هذه من وجوه، أهمّها:

الوجه الأوّل: إنّ هذا يصحّ لو قلنا بالإسهاء مع أنّ بعض الروايات المتقدّمة واضحة في دور الشيطان هنا (انظر: صادق المالكي، العصمة بين المبدأ الشيعي والمفاد الروائي: 72).

لكنّ التستري بإمكانه القول بأنّ الروايات الدالّة على تأثير الشيطان في نسيان النبيّ، لو سلّمنا دلالتها، ساقطة عن الاعتبار؛ لعدم سلامة مضمونها، لكنّ هذا لا ينفي الأخذ بالروايات المطلقة أو تلك التي تصرّح بالإسهاء الإلهي للرسول.

بل لنا أن نذهب أبعد من ذلك ونقول بأنّ غاية ما تدلّ عليه النصوص والأدلّة العامّة هو تنزّه النبيّ عن تأثير الشيطان عليه، لكنّ هذه الروايات هنا تفرض تخصيصاً أو استثناءً بتقديرٍ إلهي لمصلحة إلهيّة، فهذا التوفيق أفضل من طرح النصوص، وأيّ مانع من ذلك؟! وهذا التوفيق على طبق القواعد.

الوجه الثاني: لا داعي لأن يحقّق الله اللطف بهذه الطريقة، بل يمكنه إيصال نفس الفكرة بطرق أخرى كثيرة (انظر: العصمة بين المبدأ الشيعي والمفاد الروائي: 72 ـ 73).

والجواب: إنّ مجرّد وجود طُرق أخرى لا يوجب بطلان هذه الروايات، فالله اختار هذه الطريقة، وما دامت تصلح مصداقاً للطف وطريقاً من طرق تحقيق هذه الغايات، فما المانع من اختيار الله لها؟! فالتسليم بكونها من اللطف الإلهي ثمّ دعوى عدم الحصر، ثم الخروج بنتيجة بطلان الروايات.. يبدو غريباً للغاية، فهذا أشبه شيء بأنّ نقول بأنّ الواجب التخييري باطل؛ لأنّ القول بوجوب الفرد الأوّل مع إمكان تحقيق المطلوب بالفرد الثاني عبثيٌّ مثلاً!

ثمّ بعد فرض وجود الروايات الصحيحة ألا يكون مثل هذا الكلام اجتهاداً في مقابل النصّ؟! ألا يكون القول بأنّ الله قادر على تحقيق اللطف بغير هذه الطرق اجتهاداً في مقابل النصّ؟!

 

سهو النبيّ، نقد تفسير السيد عبد الحسين اللاري

حاول بعض العلماء، وهو السيد عبد الحسين النجفي اللاري (1342هـ)، أن يقدّم تفسيراً لظاهرة السهو النبوي تقرّ في روحها بواقعة السهو ظاهريّاً، وفي الوقت عينه تدرأ عن النبيّ كلّ لوازم إثبات السهو عليه. وحاصل ما أفاده هو أنّ ترك النبيّ للصلاة كان تكليفَه الشرعيّ في ذلك اليوم، وأنّ الواقع والحكم الواقعي قد تغيّر بالنسبة إليه في ذلك اليوم لفترةٍ محدودة، فالملاكات والمصالح الواقعيّة تغيّرت بالنسبة إليه ولم تتغيّر بالنسبة للناس، فصار تكليفه الشرعي الواقعي هو ترك الصلاة في ذلك اليوم وفي ذلك الوقت، كما أنّه كان مكلّفاً أيضاً بأن لا يُظهر هذه الحقيقة للناس، بل يتركهم يتصوّرون أنّه سها، تماماً من نوع تكليم الناس على قدر عقولهم (انظر: اللاري، المعارف السلمانيّة في كيفيّة علم الإمام وكميّته: 91 ـ 92).

غير أنّ هذه المحاولة التفسيريّة للواقعة تبدو في غاية الغرابة والتكلّف؛ وذلك أنّها ـ من جهة أولى ـ مجرّد تأوّل لا يوجد عليه أيّ شاهد ولا دليل، بل بناء عليه يمكن فرض أنّ النبيّ يزني ويسرق ويرتكب الفواحش للحظات من عمره بتغيّر الحكم الواقعي في حقّه، دون أن يعلم الناس بذلك حتى لو كانت فواحشه بمرأى الناس ومسمع! كما أنّ إشكاليّة سهو النبيّ ـ من جهة ثانية ـ لا تختصّ بالجانب الذاتي فيه من حيث علمه وغير ذلك، كما لعلّه هو منظور السيد اللاري، بل تتصل في جوهرها أيضاً، وعلى أصول متكلّمي الإماميّة، ببرهان الوثوق، فكيف يمكن للسيّد اللاري حلّ هذه المشكلة، وبخاصّة أنّه يصرّ على أنّ تكليف النبيّ كان عدم كشف الحقيقة الواقعيّة للناس، بل جميع المعاصي المتصوّرة يمكن الموافقة على صدورها ولو علناً دون إخبار النبيّ لنا بحقيقة الحال!

وغالب الظنّ أنّ زاوية نظر السيد اللاري هو تحييد نصوص السهو عن أن تؤثر في إثبات الغيبوبة المعرفيّة للنبيّ، لأنّ كتاب اللاري مخصّص لفكرة العلم، فنظره إلى تأثير السهو على غياب العلم النبويّ أو غيبوبة النبيّ معرفيّاً، فهو يريد تنزيه النبي عن ذلك، لكنّه غفل عن التأثيرات السلبيّة الأخرى الناجمة ـ على مباني متكلّمي الإمامية ـ عن سهو النبي ولو سهواً ظاهريّاً متراءى لعموم الناس.

الرواية السادسة: صحيحة سماعة بن مهران، قال: قال أبو عبد الله×: «من حفظ سهوه فأتمّه فليس عليه سجدتا السهو؛ فإنّ رسول الله‘ صلّى بالناس الظهر ركعتين، ثمّ سها فسلّم، فقال له ذو الشمالين: يا رسول الله، أنزل في الصلاة شيء؟ فقال: وما ذاك، قال: إنّما صلّيت ركعتين، فقال رسول الله‘: أتقولون مثل قوله؟ قالوا: نعم، فقام‘ فأتمّ بهم الصلاة وسجد بهم سجدتي السهو»، قال: قلت: أرأيت من صلّى ركعتين وظنّ أنّهما أربع فسلّم وانصرف، ثمّ ذكر بعد ما ذهب إنّما صلّى ركعتين؟ قال: «يستقبل الصلاة من أوّلها»، قال: قلت: فما بال رسول الله‘ لم يستقبل الصلاة، وإنّما أتمّ بهم ما بقي من صلاته؟ فقال: «إنّ رسول الله‘ لم يبرح من مجلسه فإن كان لم يبرح من مجلسه فليتمّ ما نقص من صلاته إذا كان قد حفظ الركعتين الأولتين» (الكافي 3: 355 ـ 356؛ والاستبصار 1: 369؛ وتهذيب الأحكام 2: 346).

الرواية واضحة الدلالة على وقوع سهو النبيّ في الصلاة، دون أيّ حديث لا عن إسهاءٍ شيطاني ولا رحماني.

غير أنّه قد يقال بأنّ الروايات نفسها كشفت لنا عن أنّ كلّ سهو في الصلاة هو من الشيطان، ومن هذه الروايات صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر×، قال: «إذا كثر عليك السهو فامض في صلاتك؛ فإنّه يوشك أن يدعك، إنّما هو من الشيطان» (الكافي 3: 359؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 1: 339؛ وتهذيب الأحكام 2: 343)، وخبر علي بن أبي حمزة، عن العبد الصالح×، قال: سألته عن الرجل يشكّ فلا يدري أواحدة صلّى أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، تلتبس عليه صلاته؟ فقال: «كل ذا؟» فقلت: نعم، قال: «فليمض في صلاته، وليتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فإنّه يوشك أن يذهب عنه» (كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 350 ـ 351؛ والاستبصار 1: 374؛ وتهذيب الأحكام 2: 188). وهذا كلّه يؤكّد أنّ السهو النبويّ هنا هو سهوٌ شيطاني وليس إسهاء رحمانيّاً، ومن ثمّ فلا يمكن العمل بهذه الروايات (هذا، وإنّ هاتين الروايتين لا تفيدان أنّ كلّ سهو في الصلاة فهو من الشيطان، بل هما ناظرتان لكثرة الشكّ والسهو أو للشكّ الوسواسي، وفرق كبير، فلاحظ سياقهما وانتبه).

ولن تنفع المحاولة العامّة التي ذكرها المحقق التستري هنا؛ لتفادي هذه المشكلة، بادّعاء أنّ سهونا من الشيطان وسهو النبيّ من الرحمن؛ عملاً بسائر الروايات الواردة هنا والدالّة على الإسهاء (انظر: رسالة في سهو النبيّ، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 42: 76 ـ 77)، والسبب في ذلك أنّ النبيّ هنا قام بأداء سجدتي السهو، والمعلوم من الروايات أنّ سجدتي السهو تسمّى بالمرغِمتين، لأنّهما ترغمان أنف الشيطان، ففي صحيحة معاوية بن عمار، قال: سألته عن الرجل يسهو فيقوم في حال قعود أو يقعد في حال قيام، قال: «يسجد سجدتين بعد التسليم، وهما المرغمتان ترغمان الشيطان» (الكافي 3: 357؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 1: 339؛ وتهذيب الأحكام 2: 343). وبهذا نكتشف أنّ السهو النبويّ في مثل هذه الرواية هو سهوٌ شيطاني، فتكون الرواية مخالفة لآية التطهير وأمثالها ومخالفة لما دلّ على عدم سلطنة الشيطان على النبيّ، فلا بدّ من طرحها أو تأويلها.

لكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ غاية ما تفيده روايات تسمية سجدتي السهو بالمرغمتين، هو أنّ سجودهما يرغم أنف الشيطان، وليس في الروايات ما يفيد أنّ السهو أو الشكّ كانا بفعل الشيطان وتأثيره على الإنسان، فهما يرغمان أنف الشيطان لأنّهما سجود، والشيطان يأنف من السجود لله، فإذا أصاب الإنسانَ سهو أو شكّ فسجد فهذا يُزعج الشيطان، وكأنّ الروايات تريد أن تقول بأنّ الشيطان سيغدو مسروراً بسهوك وشكّك، فأرغِم أنفه بسجدتي السهو، وهذا غير أنّه هو الذي قام بإيقاعك بالشكّ أو السهو، فتأمّل جيّداً.

وبهذا يظهر خطأ ما فهمه أمثال السيّد الخوئي من روايات المرغمتين، حين قال: «ويرشدك إلى ما ذكرناه إضافة السجدتين إلى السهو وتوصيفهما بالمرغمتين في غير واحد من الأخبار؛ باعتبار إرغام أنف الشيطان الكاره للسجود مجازاةً له على فعل السهو وإلقاء المصلّي فيه..» (المستند (كتاب الصلاة) 6: 363)، وقوله: «ويؤكّده أيضاً تسميتهما بالمرغمتين في غير واحد من النصوص، فإنّها تكشف عن أنّ الوجوب إنّما نشأ عن مصلحة أخرى مغايرة لمصلحة أصل الصلاة، وهي إرغام أنف الشيطان المبغض للسجود، مجازاةً له على إلقاء المصلّي في السهو» (المستند (كتاب الصلاة) 6: 372)، فإنّ فكرة المجازاة هذه غير موجودة في الروايات أساساً، بل هي تحليل من إضافة أمثال السيّد الخوئي.

وعليه، فغاية ما تعطيه الروايات هنا من نوع صحيحة سماعة بن مهران، أنّ النبي وقع منه السهو ولا ندري سببه، فلعلّه من الله ولعلّه لعارضٍ طبيعي في تكوين البشر، والشيطان يفرح بذلك، فالنبيّ سجد سجدتي السهو ليرغم أنف الشيطان ويزعجه، فلا يكون في ذلك أيّ منافاة لتنزّهه عن الشيطان وتأثيراته، وبهذا نكتشف كيف قامت رواية سعيد الأعرج بالجمع بين الإسهاء الإلهي وسجدتي السهو دون وقوع تهافت فيها خلافاً لما تصوّره بعضٌ (انظر: العصمة بين المبدأ الشيعي والمفاد الروائي: 81).

 

وقفة مع خبر زرارة النافي لسجود النبيّ ومطلق الفقيه سجدتَي السهو قطّ

نعم، صحيحة سماعة وأمثالها تفيد سجود النبي سجود السهو، وهذا يعارض خبر زرارة، قال: سألت أبا جعفر×: هل سجد رسول الله‘ سجدتي السهو قطّ؟ فقال: «لا، ولا يسجدهما فقيه» (تهذيب الأحكام 2: 350 ـ 351). ولهذا عقّب الشيخ الطوسي مباشرةً على هذه الرواية بقوله: «الذي أفتي به ما تضمّنه هذا الخبر، فأمّا الأخبار التي قدّمناها من أنّ النبيّ‘ سها فسجد، فإنّها موافقة للعامّة، وإنّما ذكرناها؛ لأنّ ما تتضمّنه من الأحكام معمول بها على ما بيّناه». وهذا ما فعله غير الطوسي حيث تركوا هذه الروايات لمصلحة خبر زرارة، ومنهم السيد الخوئي (انظر: المستند (كتاب الصلاة) 6: 329).

وكثيرون صحّحوا خبر زرارة هنا، لكنّه ضعيف السند عندي بعدم صحّة طريق الطوسي لمحمّد بن علي بن محبوب في التهذيب. والرواية تفرّد الطوسي بنقلها، فلو تركنا المباني العقليّة الكلاميّة فإنّ تقديم تلك الروايات مع تعدّد طرقها وتكثر مصادرها؛ لأجل رواية واحدة تفرّد الطوسي بنقلها، يبدو لي غريباً عن المنهجيّة الحديثيّة!

 

مناقشة متنيّة حول خبر زرارة النافي لسجود مطلق الفقيه سجودَ السهو

بل ثمّة ملاحظة أيضاً على رواية زرارة هنا، وهو أنّه ما معنى أنّه «لا يسجدهما فقيه»؟ فكيف يعقل أنّ الفقهاء لا يسجدون سجود السهو؟!

حاول بعضٌ تفسير الفقيه في هذه الرواية بالإمام المعصوم ولو بنحو الاحتمال، قال العلامة المجلسي: «لعلّ المراد بالفقيه المعصومُ، أي من فقهاء أهل البيت عليهم السلام. أو الفقيه الكامل العامل الذي لا يغفل عن صلاته فيسهو فيها» (ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار 4: 557). ويذهب السيد البروجردي والشيخ التبريزي أيضاً لهذا التفسير (انظر: نهاية التقرير في مباحث الصلاة 3: 51؛ والأنوار الإلهيّة: 44).

لكنّ الشيخ آصف محسني رفض هذا التفسير واعتبرَه تخرّصاً، الأمر الذي يوجب عنده إجمال رواية زرارة، بل وبصرف النظر عن ذلك حاول الجمعَ بين الروايات بأنّ روايات السهو النبويّ نحملها على الإسهاء الإلهي، بينما خبر زرارة هذا نحمله على السهو (المشكلة هنا أنّ سجدتي السهو يجب أن نثبت أنّهما تفرضان في السهو وليس في الإسهاء الإلهي، فخبر زرارة مشكلته في نفي سجود السهو، لا في نفي السهو، فما قاله الشيخ المحسني محلّ تأمّل)، فلا داعي لتأوّل الخبر هنا أو طرح تلك الروايات (انظر: صراط الحقّ 3: 109).

لكنّ المدافعين عن تفسيرهم هنا لرفع إجمال الرواية ذهبوا إلى أنّ الفقيه بنحو مطلق هو الإمام، فهناك فرق بين مطلق الفقيه والفقيه المطلق، أو قالوا بأنّه ما دام لا يصدق الفقيه هنا على غير الإمام لزمنا حصره بالإمام، مع إقرارهم بأنّ تعبير الفقيه في الروايات يرد مقصوداً به غير الإمام (انظر: العصمة بين المبدأ الشيعي والمفاد الروائي: 84 ـ 85).

إلا أنّ المحتمل قريباً هو حمل الرواية على ما هو المتداول في النصوص من كلمة "الفقيه"، وربما يكون المراد منها ليس من الضروري أن يكون ما نفهمه نحن من الفقاهة اليوم، وإنّما إشارة للواعي الفاهم، فالعارف بالدين لا يجدر أن يصلّي سجود السهو، فهذا مثل أن تقول: لم يزنِ النبيّ قطّ ولا يزني مؤمن، فكأنّك تريد أن تقول بأنّه كلّما كنت مؤمناً كان احتمال صدور الزنى منك أقلّ وأضعف، في إشارة في رواية زرارة إلى أنّ السهو يقلّ صدوره من العارف الفاهم المدرِك لصلاته، فيرتفع الإجمال عن الرواية خلافاً لما حاوله الشيخ آصف محسني. والعلم عند الله. وربما هذا هو ما استهدفه المجلسيّ في تفسيره الثاني الآنف الذكر، وإلا فسيكون تفسيره هذا متكلّفاً جدّاً.

 

قراءة الشيخ التستري لرواية زرارة، تحليل وتعليق

بدوره، حاول الشيخ التستري التعليق على الشيخ الطوسي في تقديمه خبر زرارة هذا على مجموعة النصوص الواردة في سهو النبيّ في الصلاة، فقال: «أمّا ما ذكره من إفتائه بمضمون خبر ابن بُكَيْر (مقصوده خبر زرارة الذي رواه عنه ابن بكير) ففيه: إنّه خبر واحد، وراويه فطحيّ. وقد نَقَلَ في عُدَّته إجماع العصابة على أنّه لو عارضه خبرُ إماميّ وجب طرحه والعمل بخبر الإماميّ. وكيف وقد عارضه أخبار كثيرة، بالغة حدّ الاستفاضة، بل التواتر، كما تقدّم؟! مع أنّ حمل خبر ابن بُكَيْر على ما أراده من عدم اتّفاق السَّهْو للنبيّ| والإمام× تأويلٌ يحتاج إلى دليلٍ، بل ظاهره عدم مشروعية سجدة السَّهْو رأساً؛ لقوله «ولا يسجدها فقيهٌ». ويعارضه في خصوص الإمام ما رواه محمد بن إدريس [الحلّي]، في مستطرفاته، من كتاب محمد بن عليّ بن محبوب، عن العبّاس، عن حمّاد بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، [عن الفضيل]، قال: ذكرت لأبي عبد الله× السَّهْو، فقال: «وينفلت من ذلك أحدٌ، ربما أقعدتُ الخادم خلفي حتّى يحفظ عليَّ صلاتي»..» (التستري، رسالة في سهو النبي، مجلّة الاجتهاد والتجديد 42: 79 ـ 80).

والحقّ أنّ إشكاله الأوّل في محلّه لو ثبتت فطحيّة ابن بُكير، لكن يمكن أن يقال بأنّ الطوسي لم يرجّح خبر ابن بكير إلا لسببٍ خارجي، وهو بطلان مضمون تلك الأخبار عنده انطلاقاً من الأدلّة الكلاميّة على العصمة، ففي الحقيقة لم يكن الترجيحُ الطوسيُّ ترجيحاً بمعايير الحديث والرواية وقواعد أصول الفقه، بل ترجيحاً بمعايير علم الكلام ومرجعه لصيرورة التعارض بين الحجّة واللاحجّة، فلا يرد عليه هذا الإشكال على إطلاقه.

وأمّا إشكاله الثاني، فهو محتمل بمعنى أنّ مراد الإمام نفي فكرة سجود السهو عبر نفي سجود النبيّ والفقيه له، فيصير الخبر موهوناً جدّاً بمعارضته للكثير من الروايات الواردة في سجود السهو في كتب السنّة والشيعة..

لكنّ هذا الاحتمال على وجاهته في رأيي، يظلّ يثير تساؤلاً حول هل الراوي قصد بسؤاله الاستفسار عن أصل سجود السهو، أو أنّ المركوز في ذهنه ثبوت سجود السهو، وهو يستفسر عن فعل النبيّ له؟! فهناك فرق بين الأمرين، إذ في الحالة الأولى يكون جواب الإمام بتفسير التستري كاملاً مكتملاً، بينما في الحالة الثانية يكون جواب الإمام غير قويّ في دفع أصل فكرة سجود السهو؛ إذ نفي سجود النبيّ والفقيه له ليس قويّ الدلالة في نفي مشروعيّة سجود السهو لشخصٍ جاء يسأل والمفروض مركوزيّة سجود السهو في ذهنه؛ لأنّ نفي المشروعيّة غير مرتبط بنفي فعل الفقيه، بل بنفي قوله.

وأمّا إشكاله الثالث، فهو صحيح لو وقفنا في منطقة محايدة؛ لكنّه لا يصلح جواباً على الطوسي؛ لأنّ خبر الفضيل سيكون طرفاً في المعارضة عند الطوسي، وسيُجري عليه الطوسي ما أجراه على سائر روايات الباب من ترجيح خبر ابن بكير عليها، وبخاصّة لو فسّر الطوسي الفقيه في الرواية بالإمام، فتأمّل جيّداً.

 

إشكاليّة منافاة بعض روايات السهو للضرورات الفقهيّة الثابتة

تواجه رواية سماعة هنا، وعدد من روايات السهو النبويّ، مشكلتين على صعيد البحث الفقهي، وهما:

أ ـ إنّ النبي تكلّم مع المأمومين الذين نبّهوه لسهوه، وبعد ذلك قام وأكمل صلاته، وهذا مقطوع الفساد؛ إذ الكلام العمدي موجب لبطلان الصلاة، فكيف أكمل النبيّ صلاته؟!

ب ـ إنّ رواية سماعة ويُفهم من غيرها بنوعٍ ما، تفهمنا أنّ المسلمين سجدوا مع النبيّ سجود السهو جماعة، والثابت في الفقه أنّ الجماعة تكون في الصلوات اليوميّة، لا في مثل سجود السهو.

إلا أنّنا لو أردنا السير على طرائق الفقهاء في هذا الموضوع، يمكننا الجواب، وذلك:

أوّلاً: لا مانع من ثبوت حادثة السهو بتفاصيلها، غاية الأمر أنّ الأحكام التي يقال بأنّها من القطعيّات والضروريّات في الفقه نعتبرها ناسخةً للأحكام السابقة. وحادثة السهو وقعت قبل النسخ، وهذا ليس بعزيز؛ جمعاً بين النصوص، ويصبح هذا الاحتمال معقولاً جداً لأنّنا نتكلّم عن الفترة النبويّة التي حدثت فيها تحولات في التشريعات وتعديلات جزئيّة بشكل تدريجي، فأيّ مانع من ذلك؟! وما هو الموجب لطرح الروايات هنا؟!

ثانياً: إنّ نسبة هذه النصوص لنصوص بطلان الصلاة بالكلام العمدي هي نسبة العام والخاص، فنقول بأنّ الكلام العمدي موجب لبطلان الصلاة مطلقاً إلا في حال الجماعة عند سهو الإمام وتنبيه المأمومين له، أو أنّه لو ظنّ الإنسان الفراغ من الصلاة فتكلّم ثمّ تبيّن له عدم الفراغ أمكنه الإكمال. وأيّ مانع من ذلك؟! بل إنّ بعض الفقهاء أفتى بذلك فعلاً، فهذا الحرّ العاملي يضع عنوان باب بطلان الصلاة بالكلام العمدي على الشكل الآتي: «باب بطلان الصلاة بالكلام عمداً، لا نسياناً ولا مع ظنّ الفراغ، وبتعمّد الأنين» (تفصيل وسائل الشيعة 7: 281).

وقد وردت في ذلك روايات، منها خبر عبيد بن زرارة ، عن أبي عبد الله×، في رجلٍ دخل مع الإمام في الصلاة وقد سبقه بركعة، فلما فرغ الإمام خرج مع الناس، ثمّ ذكر أنّه فاته ركعة، قال: «يعيد ركعة واحدة» (تفصيل وسائل الشيعة 8: 198). وخبر الحارث بن المغيرة النصري، قال: قلت لأبي عبد الله×: إنّا صلّينا المغرب فسها الإمام فسلّم في الركعتين، فأعدنا الصلاة. فقال: «ولم أعدتم؟ أليس قد انصرف رسول الله‘ في ركعتين فأتمّ بركعتين؟ ألا أتممتم؟!» (تفصيل وسائل الشيعة 8: 198). إذ من الواضح هنا أنّهم ما كانوا ليعيدوا الصلاة إلا لأنّهم أحسّوا بأنّهم قطعوها، مما يعطي للجماعة حكمها الخاصّ. واللافت أنّ الإمام هنا كان بإمكانه أن يفتي دون حاجة للاستشهاد بحادثة النبيّ، فلو كان في مقام التقية فلماذا أضاف الحادثة؟! بل الغريب أنّ السامع يبدو عليه أنّه يعرف الحادثة أيضاً ولم يسأله عنها شيئاً ولم يستغرب من سهو النبيّ، مما يوحي بمركوزيّة هذا الأمر في أذهانهم في ذلك الوقت.

وأيضاً خبر محمّد بن مسلّم، عن أبي جعفر× في رجل صلّى ركعتين من المكتوبة، فسلّم، وهو يرى أنّه قد أتمّ الصلاة، وتكلّم، ثم ذكر أنّه لم يصلّ غير ركعتين، فقال: «يتمّ ما بقي من صلاته ولا شيء عليه» (تفصيل وسائل الشيعة 8: 200 ـ 201). وغير ذلك من الروايات التي أفتى بمضمونها بعض الفقهاء بالفعل، فتصوير المشهد وكأنّ الأخبار هنا نكرات غريبة ونادرة غيرُ صحيح.

ولعلّ العائق الوحيد أمام جوابنا هذا هو القول بأنّ الراوي الذي سمع هذه القصّة من الإمام لم يثر أيّ سؤال حول الموضوع، فكيف لم يسأل: أهل يجوز للنبيّ إكمال الصلاة بعد قطعها؟ لكنّ هذا العائق صار جوابه واضحاً وهو أنّ هذه الفكرة ربما تكون مركوزة في أذهانهم نتيجة الروايات الأخرى التي أشرنا لبعضها آنفاً.

وبهذا كلّه يظهر الحال في موضوع الجماعة في سجدتي السهو، فلا نطيل.

الرواية السابعة: خبر زيد بن علي، عن آبائه، عن عليّ، قال: «صلّى بنا رسول الله÷ الظهر خمس ركعات، ثم انفتل، فقال له بعض القوم: يا رسول الله، هل زيد في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قال: صلّيتَ بنا خمس ركعات، قال: فاستقبل القبلة وكبّر وهو جالس، ثمّ سجد سجدتين، ليس فيهما قراءة ولا ركوع، ثم سلّم. وكان يقول: هما المرغِمتان» (تهذيب الأحكام 2: 349 ـ 350؛ والاستبصار 1: 377).

وقد ورد ما يشبه هذا الخبر تماماً في مصادر أهل السنّة، ففي خبر علقمة، عن عبد الله، عن النبيّ‘، أنّه صلّى الظهر خمساً، فقيل: زيد في الصلاة شيء؟! فقال النبيّ‘: وما ذاك؟ قال: إنّك صلّيت خمساً. فسجد سجدتين بعدما سلّم» (صحيح ابن حبان 6: 400 ـ 401؛ وانظر: الطبراني، المعجم الكبير 10: 29 ـ 30). بل رويت في كتب الصحيح والسنن عن عبد الله بن مسعود كالآتي ـ (مع اختلافات طفيفة، وأنا أنقل هنا نصّ صحيح البخاري) ـ: صلّى النبيّ‘، قال إبراهيم (هو الراوي عن علقمة الراوي عن عبد الله بن مسعود، حيث يظهر أنّه هو نسي ما أخبره به علقمة من أنّ النبيَّ زاد أو نقص): لا أدري زاد أو نقص (انقسام الرواية نفسها (خبر علقمة) وفقاً للنقل المتعدّد بين ما قال فيه بأنّه زاد، وبين ما كان إبراهيم فيه متردّداً، مع أنّ إبراهيم موجود في جميع الأسانيد، يوجب الرَّيب في الرواية، إلا إذا قيل بأنّ إبراهيم تارةً كان متذكّراً فنقل لبعضٍ، وأخرى لم يكن كذلك فنقل لآخرين، وهذا أيضاً مستبعد)، فلما سلّم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: «وما ذاك»، قالوا: صلّيت كذا وكذا، فثنى رجله واستقبل القبلة وسجد سجدتين، ثمّ سلّم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: «إنّه لو حدث في الصلاة شيء لنبّأتكم به، ولكن إنّما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكّروني..» (صحيح البخاري 1: 104 ـ 105؛ وصحيح مسلم 2: 84، 85 ـ 86؛ وسنن ابن ماجة 1: 380؛ وسنن أبي داود 1: 230 وغيرها من المصادر).

وقد علّق الشيخ الطوسي على هذا الخبر ـ بصيغته في المصادر الشيعيّة ـ بالقول: «هذا خبر شاذ لا يعمل عليه؛ لأنّا قد بيّنا أنّ من زاد في الصلاة وعلم ذلك يجب عليه استيناف الصلاة، وإذا شكّ في الزيادة فإنّه يسجد السجدتين المرغمتين، ويجوز أن يكون عليه السلام إنما فعل ذلك لأنّ قول واحدٍ له لم يكن مما يقطع به، ويجوز أن يكون كان غلطاً منه، وإنّما سجد السجدتين احتياطاً» (تهذيب الأحكام 2: 350).

وعلّق المحدّث البحراني عليه بالقول: «وهو ضعيف، لا يعوّل عليه، وشاذّ نادر من جهات عديدة فلا يُلتفت إليه. وحُمل على أنّه‘ تشهّد ثمّ قام إلى الخامسة. والأظهر عندي حمله على التقيّة؛ فإنّ مذهب العامّة صحّة الصلاة مع زيادة الخامسة سهواً جلس بعد الرابعة أو لم يجلس..» (الحدائق الناضرة 9: 117).

أمّا السيد الخوئي، فقال معلّقاً: «لكنّها بالرغم من صحّة سندها غير ثابتة عندنا؛ لمنافاة مضمونها مع القواعد العقليّة، كما لا يخفى، فهي غير قابلة للتصديق» (مستند العروة (كتاب الصلاة) 6: 42).

وبهذا يظهر غرابة ما قاله الشهيد الأوّل: «وقال أكثر العامة: تصحّ الصلاة مطلقاً؛ لما رووه عن ابن مسعود أنّ النبيّ‘ صلّى بنا خمساً، فلما أخبرناه انفتل فسجد سجدتين ثم سلّم، وقال: إنّما أنا بشر أنسى كما تنسون. وهذا الحديث لم يثبت عندنا، مع منافاته للقواعد العقليّة» (ذكرى الشيعة 4: 33 ـ 34). فإنّه أوحى بأنّ الحديث رواه الجمهور مع أنّه وارد في مصادر الشيعة بطريق صحيح بتصريح الخوئي. وهو ما يذكرنا بما يشتهر بين الشيعة من نسبة حديث نسخ التلاوة لأهل السنّة، واعتبارهم أنّ مصادره سنيّة، مع أنّه وارد بطرق الشيعة الصحيحة، وذلك مثل صحيحة عبد الله بن سنان التي رواها غير واحد: قال: قال أبو عبد الله×: «الرجم في القرآن قولُ الله عزّ وجل: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة» (الكافي 7: 177)، وكذلك خبر سليمان بن خالد، قال: قلت لأبي عبد الله×: في القرآن رجم؟ قال: «نعم»، قلت: كيف؟ قال: «الشيخ والشيخة فارجموهما البتّة فإنّهما قضيا الشهوة» (كتاب من لا يحضره الفقيه 4: 26)، وغيرهما.

وعلى أيّة حال، يمكننا التعليق هنا:

أوّلاً: إنّ الرواية ـ خلافاً لما يقوله السيد الخوئي ـ ليست صحيحة السند، فقد وقع في طريقها الحسين بن علوان، ولم تثبت وثاقته على التحقيق.

ثانياً: إنّ تخريج الطوسي بأنّه لعدم كفاية قول الواحد أو لغلطه احتاط النبيّ بالسجدتين، مجرّد حمل ليس في الرواية أيّ شيء يفيده، وقد كان يمكن اختياره بوصفه فرضيةً لفضّ التنازع بين هذه الرواية وسائر الأحكام المتصلة بالزيادة الركنيّة، لولا أنّ الرواية نفسها دالّة على العكس، وذلك أنّ الراوي هنا هو الإمام عليّ بن أبي طالب، وهو يصرّح في مطلعها ـ كما يصرّح عبد الله بن مسعود في مطلع الرواية الواردة من طرق أهل السنّة ـ يصرّح بأنّ النبيّ صلّى بهم خمس ركعات، فماذا يفعل الشيخ الطوسي مع تصريح الإمام علي بما وقع؟! ويؤيّد ذلك بالرواية المتكرّرة في المصادر السنيّة حيث يصرّح فيها النبيُّ بالنسيان.

إلا إذا قيل بأنّ تأكّد الإمام عليّ لا يناسب القول بغلط الذي أخبر النبيَّ، لكنّه ينسجم مع القول بعد كفاية قول الواحد للنبيّ، فالنبيّ لم يتأكّد ولكنّ عليّاً تأكّد، وهذا وإن كان محتملاً غير أنّ النبيّ كان بإمكانه بسهولة التأكّد، ولو عبر سؤال البقيّة من الحاضرين، كما يفهم من وقائع مشابهة، والمفروض أنّه قد كان في الحاضرين عليُّ بن أبي طالب.

ثالثاً: إنّ الحمل على أنّه تشهّد وقام إلى الخامسة كما نقله البحراني، يبدو لي أنّه يريد أن يحافظ على رفع تعارض الرواية مع سائر النصوص والأحكام هنا من حيث بطلان الصلاة بالزيادات الركنيّة ولو سهواً، فافترض الحامل هنا أنّ النبي أنهى صلاته في الرابعة، بل نحن نفترض أنّه أنهى التشهّد والتسليم، لكنّ سهوه وقع عن طريق زيادة ركعة بعد إنهاء الصلاة، الأمر الذي لا يفرض إعادة الصلاة. وهذا كلامٌ جميل حتى لو لم يكن عليه دليل؛ وذلك أنّنا أمام حادثة صامتة، ونريد التوفيق بينها وبين نصوص أخرى في موضوع زيادة ركعة والزيادة الركنيّة، فمجرّد وجود هذا الافتراض يمنع عن طرح الرواية، حتى لو لم يتمكّن من إثبات نفسه، الأمر الذي يبقي هذه الرواية قابلة للاستدلال بها في موضوع سهو النبيّ، بعد ارتفاع تعارضها مع نصوص فقهيّة في مجال الزيادات.

بل قد يقال بأنّ هذا التخريج ثمة مؤشّر له في الرواية؛ وذلك أنّ الصحابة لو ترك النبي التشهّد في الرابعة ووقف للخامسة، لكان من الطبيعي أن ينبّهوه، رغم أنّ الرواية لا تشير لشيءٍ من ذلك إطلاقاً، فافتراض أنّه تشهّد وسلّم فأنهى الصلاة، ثم وقف، لا يجعلهم يفعلون ذلك؛ لتضاؤل احتمال أنّه سها ولهذا سألوه عن موضوع الزيادة في الصلاة.

لكن قد يقال في مقابل هذا المؤشر، لا في مقابل سلامة الافتراض، بأنّ عدم تنبيههم له راجع أيضاً لظنّهم تغيّر الصلاة ونزول شيء فيها، وهذا متساوي النسبة إلى كلّ من تشهّده وتسليمه في الرابعة وعدمهما، فانتبه.

رابعاً: إنّ فرضية التقية التي طرحها البحراني معقولة هنا، فالفقه السنّي يذهب مشهوره لثبوت سجدتي السهو مع زيادة ركعة زيادةً سهويّة، وهو ما يدخل فيما يصطلح عليه الفقه المالكي بـ "ترقيع الصلاة"، ونوعيّة الموضوع قد يقال بأنّها حسّاسة؛ لاتصالها بموضوع سهو النبيّ، فما قاله البحراني له رجحان لو وقعت المعارضة، رغم أنّني من جهة لا أميل كثيراً لفرضية التقيّة، ولا أجد تعارضاً بين النصوص هنا من جهة ثانية، فغالبيّة النصوص لصالح سهو النبيّ، وهي موافقة للقرآن في بعض نصوصه حول الأنبياء كما في قصّة موسى والعبد الصالح، والترجيح بالموافق أرجح. نعم تبقى قضيّة مخالفة العقل وقد حقّقنا في محلّه أنّه لا دليل في العقل على استحالة السهو النبويّ في الجملة.

وعليه، فهذه الرواية ـ بصرف النظر عن سندها ـ لا يوجد ما يوهنها، بل ورودها بطرق الشيعة والسنّة معاً يوجب رفع قوّة الوثوق بها.

الرواية الثامنة: خبر عبد الرحمن بن العرزمي، عن أبيه، عن أبي عبد الله×، قال: «صلّى عليٌّ× بالناس على غير طُهرٍ، وكانت الظهر، ثم دخل فخرج مناديه أنّ أميرَ المؤمنين صلّى على غير طُهر، فأعيدوا، وليبلغ الشاهد الغائب» (تهذيب الأحكام 3: 40؛ والاستبصار 1: 433).

وقد علّق الطوسي بالقول: «فهذا خبرٌ شاذّ مخالفٌ للأخبار كلّها، وما هذا حكمه لا يجوز العمل به، على أنّ فيه ما يُبطله، وهو أنّ أمير المؤمنين× أدّى فريضةً على غير طُهر ساهياً عن ذلك، وقد آمننا من ذلك دلالةُ عصمته×..» (تهذيب الأحكام 3: 40؛ والاستبصار 1: 433).

كما علّق الخوئي هنا بالقول: «وفيه مضافاً إلى ضعف سندها؛ لعدم ثبوت وثاقة والد العرزمي، أنّ مضمونها غير قابل للتصديق؛ لمنافاته العصمة، وعدم انطباقه على أصول المذهب. ولا يكاد ينقضي تعجّبي من الشيخ والكليني لدى الظفر بهذه الرواية وأمثالها مما يخالف أصول المذهب أنّهما كيف ينقلانها في كتب الحديث المستوجب لطعن المخالفين على أصولنا. على أنّ مضمون هذه الرواية مقطوع البطلان، كيف ولو كانت لهذه القصّة أيّ شائبة من الحقيقة لنقلها أعداؤه ومناوؤه في كتبهم، واشتهرت بينهم؛ لتضمّنها أكبر طعنٍ وتشنيع عليه×، مع حرصهم على تنقيصه بكلّ ما تيسّر لهم ولو كذباً وافتراءً. ﴿يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون﴾ مع أنّها ليست مشهورة عندهم ولا منقولة في كتبهم إلا نادراً. وكيفما كان فهذه الرواية من الضعف والسقوط بمكان» (مستند العروة (كتاب الصلاة) ج5، ق2: 362).

يضاف إلى ذلك كلّه أنّ الحكم الفقهي في هذه الرواية مخالف للثابت فقهيّاً من عدم وجوب الإعادة على المأمومين، وقد دلّت على ذلك مثل رواية الحلبي عن أبي عبد الله× ـ في حديث ـ قال: «.. من صلّى بقومٍ وهو جنب أو على غير وضوء فعليه الإعادة، وليس عليهم أن يُعيدوا، وليس عليه أن يُعلمهم، ولو كان ذلك عليه لهلك..» (كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 404).

ويمكننا التعليق هنا:

أوّلاً: إنّ الرواية ضعيفة الإسناد بوالد العرزمي؛ حيث لم تثبت وثاقته، وفاقاً للسيد الخوئي.

ثانياً: إنّ ما ذكره السيّد الخوئي غير واضحٍ، بل فيه مبالغة؛ فإنّ مضمون الرواية في ثقافة القوم لا يمثل نقصاً أساساً حتى يستغلّوا هذه الرواية في الطعن على الإمام عليّ، وذلك أنّ المتداول بينهم جداً سهو النبيّ نفسه، ولا يرون في ذلك أيّ عيب، وهذا ما يفسّر أنّهم لم يتوقّفوا عند مثل هذه الروايات للطعن على أهل البيت النبويّ.

ثالثاً: إنّ محاولة السيّد الخوئي التشنيع على الكليني والطوسي وغيرهما أنّهم رووا مثل هذه الروايات التي يستفيد منها الآخرون للطعن في أصول المذهب، أيضاً غير واضحة، بل ينبغي للخوئي أن يعتبر ذلك من علامات نزاهة المحدّثين الشيعة، ولو كان المحدّثون الشيعة كلّهم يريدون دوماً أن يحذفوا الروايات الصحيحة الإسناد وغيرها والتي تأتي مخالفةً لما اعتقدوه هم من دليلٍ عقليّ أو نقليّ، لكان ذلك خيانة كبيرة للأجيال اللاحقة التي ربما لا تؤمن بمثل عقيدتهم، كيف وقضيّة السهو كانت محلّ خلاف بينهم أنفسهم في ذلك الزمان، فطريقة مقاربة الخوئي للموضوع غير مقنعة. ويظهر لك ذلك بوضوح لو أنّ المخالفين في المذهب فعلوا هذه العمليّة نفسها وحذفوا النصوص الصريحة الصحيحة الدالّة على إمامة أهل البيت؛ لأنّها مخالفة لعقيدتهم وبعض أدلّتهم العقليّة مثلاً، فهل كان الخوئي سيعتبر الحذف خيانةً أو أمانة؟!

نعم، إنّ معارضة هذه الرواية لما دلّ على عدم بطلان صلاة المأمومين نتيجة عدم صحّة الجماعة أو عدم صحّة صلاة الإمام هو أمرٌ قائم بالفعل، والروايات هناك متعدّدة، غير أنّ ما يدلّ على لزوم إعادة المأمومين لو كان الإمام على غير طهرٍ ليس هذه الرواية فقط، كما قد يتصوَّر، بل إلى جانبها روايات أخَر، حتى أنّه ذهب الإسكافي والسيّد المرتضى ـ فيما هو المنسوب لهما ـ إلى الإفتاء بلزوم الإعادة، ومن تلك الروايات خبر معاوية بن وهب ـ المصحّح عند المشهور ـ قال: قلت لأبي عبد الله×: أيضمن الإمام صلاة الفريضة، فإنّ هؤلاء يزعمون أنّه يضمن؟ فقال: «لا يضمن، أيّ شيء يضمن؟! إلا أن يصلّي بهم جنباً أو على غير طهر» (تهذيب الأحكام 3: 277 ـ 278. وإن وقع نقاش في دلالاتها أصلاً)، وخبر الدعائم المرسَل عن عليّ× «أنّ عمر صلّى بالناس صلاة الفجر، فلما قضى الصلاة أقبل على الناس، فقال: يا أيها الناس، إنّ عمر صلّى بكم الغداة وهو جنب، فقال له الناس: فماذا ترى؟ فقال: عليّ الإعادة ولا إعادة عليكم، فقال علي×: بل يجب عليك الإعادة وعليهم، إنّ القوم بإمامهم يركعون ويسجدون، فإذا فسدت صلاة الإمام فسدت صلاة المأمومين» (دعائم الإسلام 1: 152).

الرواية التاسعة: خبر ابن إدريس الحلّي من كتاب محمّد بن علي بن محبوب بسنده إلى الفضيل، قال: ذكرت لأبي عبد الله× السهوَ، فقال: «وينفلت من ذلك أحد؟! ربما أقعدت الخادم خلفي عليّ يحفظ (يحفظ عليَّ) صلاتي» (مستطرفات السرائر: 614؛ وتفصيل وسائل الشيعة 8: 252).

فهذه الرواية صريحة في نفي خلوّ أحد من السهو بمن في ذلك الإمام نفسه، حتى أنّه وصل لمرحلة متقدّمة في السهو تفرض عليه وضع خادمه إلى جانبه حتى يساعده في ضبط سهوه. والرواية مصحّحة السند عند كثيرين.

وقد علّق العلامة المجلسي على هذه الرواية بالقول: «لعلّه محمولٌ على أنّه× كان يفعل ذلك لتعليم الناس. وظاهره موافق لمذهب الصدوق. ويدلّ على استحباب تعيين أحد لمن خاف السهو أو الشك، وعلى جواز الاعتماد على الغير حتى في الأوليين» (بحار الأنوار 85: 230).

وعلّق أيضاً الحرُّ العاملي على الرواية في هامش الوسائل بقوله: «اعلم أنّ إقعاده الخادم لا يدلّ على جواز السهو عليه، فضلاً عن وقوعه، بل ذلك إمّا لأجل حصول الثواب للخادم، أو لتتعلّم منه الصلاة، أو لتعليم الاعتناء بها، أو لبيان جواز الاعتماد على قول الغير في عدد الركعات، أو لتتعلم منه الخادم القراءة والأدعية والأذكار، أو لئلا يخلو وحده في بيت، كما روي في بعض الأخبار، أو للحثّ على التحفّظ من السهو، أو لئلا يعيّر أحدٌ أحداً بالسهو، كما وقع التصريح به أيضاً، أو لغير ذلك من الحكم. وهو نظير أمر الله الحفَظَة بكتابة أعمال العباد وحفظها، وما كان ربّك ناسياً لا يضلّ ربّي ولا ينسى. واستحالة السهو على المعصوم مطلقاً متفق عليه من الإماميّة، لم يخالف فيه إلا ابن بابويه، وهو أولى بالسهو من النبيّ×، وقد صرّحوا بذلك، وأوردوا له أدلّة عقليّة ونقليّة، وصنّفوا في ذلك كتباً، منها نفي السهو عن النبيّ لأحمد بن إسحاق المقري، ذكره النجاشي» (تفصيل وسائل الشيعة 8: 252، الهامش رقم: 1).

ويمكن التعليق هنا بأمور:

1 ـ إنّ حمل الرواية على أنّه كان يفعل ذلك للتعليم كما قاله العَلَمان، في غاية الغرابة؛ فإنّ سياق الرواية ومطلع جواب الإمام ينفيان قطعاً هذا الافتراض، فالإمام نفى أن يخلو أحد من ذلك ثمّ بيّن أنّه هو يفعل ذلك، وهذا نصّ في عدم وجود شيء حول التعليم هنا، فلسنا هنا أمام فعلٍ فحسب، بل أمام قولٍ أيضاً من الإمام نفسه ينقل فيه ـ ضمن سياق واضح ـ فعلَه.

كما أنّ حمل الفعل على إرادة حصول الخادم على الثواب بعيدٌ للغاية؛ لعين ما قلناه آنفاً؛ إذ قد نسِي الحرّ العاملي أنّنا لسنا أمام فعلٍ محض، بل أمام سياقٍ قوليّ يُخبرنا عن حال هذا الفعل.

والأبعد من ذلك تأويل الموقف بأنّه يُقعد الخادم حتى لا يصلّي في البيت وحده! ألا يناقض هذا تعليلَ الإمام نفسه وتبيينه علّة إقعاده الخادم؟! فهو بنفسه يبيّن أنّه يُقعده لأجل أن يحفظ عليه صلاته، فكيف نتجاهل تصريح الإمام بالعلّة ونخترع نحن علّةً من عندنا، وهي أنّه لا يريد الصلاة لوحده في البيت؟! وتعليل الإمام هنا يصلح جواباً عن أغلب ما قالوه أيضاً.

2 ـ إنّ قول الحرّ العاملي بأنّ العلّة هو أن لا يعيّر أحدٌ أحداً بالسهو، يقع على النقيض مما يريده هو، فإنّه لا معنى للتعيير لو كان الإمام واقعاً لا يسهو ويستحيل عليه السهو، فالتعيير قائم على واقعيّة السهو، بل هذه هي حجّة الصدوق في موضوع الإسهاء، ولا أدري كيف فاتت الحرّ العاملي هذه المسألة؟!

ويُشبهه في ذلك أنّ الله يجعل حفظة، مع أنّه لا ينسى، فهذا من التأويلات البعيدة؛ إذ الفارق في غاية البعد، فالله يجعل حفظة تنظيماً للخلق تماماً كما يجعل الوسائط والمدبّرات، بينما الإمام يجعل حافظاً لا لكي ينظّم له أمراً متعلّقاً بالآخرين بل هو يصرّح بأنّه لكي ينظّم له صلاته، فما معنى هذا التشبيه؟! وهل كان الإمام يرتّب أثراً على عمليّة الحفظ التي تأتي من الخادم ويضعها في سجلّات مثلاً ويتعامل على أساسها مع الناس حتى نعرف ما هي الثمرة من وراء ذلك والمفروض أنّه لا ينسى؟! ومتى عُرف عن أهل البيت أنّ لديهم مثل هذه العادة في وضع خدّامهم لمثل هذا؟!

يضاف إلى ذلك أنّ تخصيصه القائلين بإثبات السهو بابن بابويه غير صحيح، فهناك غيرُه ـ كشيخه ابن الوليد ـ قالوا بذلك. واتفاقُ الطائفة يعارِض ليس فقط هذه الروايات، بل يعارض سلسلةً طويلة من النصوص الضعيفة والصحيحة معاً، فلا تعالج الأمور بهذه الطريقة المستعجَلة، خاصّة وأنّ اتفاق الطائفة مقطوع المدركيّة، إذ لا يمكن الوصول لنتيجة نهائيّة من الأدلّة العقلية والنقليّة قبل البتّ في جميع هذه الأمور ومعارِضاتها، وقد ذكرنا في محلّه مناقشة جميع أدلّتهم العقلية والنقليّة في موضوع السهو.

الرواية العاشرة: خبر ابن القدّاح، عن أبي عبد الله، عن أبيه ـ عليهما السلام ـ قال: «صلّى النبيُّ‘ صلاةً، وجهر فيها بالقراءة، فلما انصرف، قال لأصحابه: هل أسقطت شيئاً في القراءة؟ (قال:) فسكت القوم، فقال النبيّ‘: أفيكم أبي بن كعب؟ فقالوا: نعم، فقال: هل أسقطت فيها بشيء؟ قال: نعم، يا رسول الله. إنه كان كذا وكذا، فغضب‘ ثمّ قال: ما بال أقوامٍ يُتلى عليهم كتاب الله، فلا يدرون ما يُتلى عليهم منه ولا ما يترك! هكذا هلكت بنو إسرائيل، حضرت أبدانهم وغابت قلوبهم، ولا يقبل الله صلاةَ عبدٍ لا يحضر قلبه مع بدنه» (البرقي، المحاسن 1: 260 ـ 261).

فالرواية واضحة في أنّ النبيّ أسقط شيئاً سهواً.

لكنّ بعض العلماء ذكر بعض التعليقات هنا، فالعلامة المجلسي قال: «في هذا الحديث، مع ضعف سنده، إشكالٌ من حيث اشتماله على التعيير بأمرٍ مشترك (مراده أنّ النبيَّ كيف يعيّرهم بشيءٍ وقع هو فيه؟! وهو النسيان)، إلا أن يقال: إنّه‘ إنّما فعل ذلك عمداً ليُنبّههم على غفلتهم، وكان ذلك لجواز الاكتفاء ببعض السورة، كما ذهب إليه كثيرٌ من أصحابنا، أو لأنّ الله تعالى أمره بذلك في خصوص تلك الصلاة لتلك المصلحة، والقرينة عليه ابتداؤه‘ بالسؤال، أو يقال: إنّما كان الاعتراض على اتفاقهم على الغفلة واستمرارهم عليها» (بحار الأنوار 17: 106).

ورغم ذكره هذه التفاسير المحتملة في موضعٍ من البحار غير أنّه يبدو أنّه غفل عنها أو نسيها أو أعرض عنها في موضعٍ آخر، حيث قال مرّةً أخرى ـ معلّقاً على الرواية عينها ـ: «هذه الرواية مخالفةٌ للمشهور بين الإماميّة من عدم جواز السهو على النبيّ، وموافقةٌ لمذهب الصدوق وشيخه. ويمكن حملها على التقية بقرينة كون الراوي زيديّاً، وأكثر أخباره موافقة لرواية المخالفين، كما لا يخفى على المتتبّع» (بحار الأنوار 81: 242).

ويظهر من المحدّث النوري موافقة المجلسي، غير أنّه أضاف فقال: «ويحتمل أن يكون‘ اكتفى في الآية والآيات المذكورة بأدنى الجهر، وأخفى عليهم؛ امتحاناً واختباراً لحالهم» (مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل 4: 112).

وهنا وقفات:

1 ـ إنّ الرواية ضعيفة السند، على الأقلّ بجعفر بن محمّد الأشعث، والأصحّ أنّه الأشعري، وقد أقرّ بضعفها السنديّ غير واحدٍ، ومنهم الشيخ آصف محسني (انظر: صراط الحقّ 3: 105).

2 ـ إنّ افتراض أنّ ما به التعيير أمرٌ مشترك بين النبيّ والمأمومين فلا يصحّ التعيير هنا، هو افتراضٌ معقول جدّاً، غير أنّ احتمالاً معقولاً أيضاً يمكن طرحه هنا، وهو أنّ النبيّ ندّد بغفلتهم جميعاً عما وقع، فكأنّه قال بأنّني لو سهوتُ في الصلاة والقراءة فإنّ عدم انتباهكم جميعاً غريبٌ، ويدلّ على أنّكم أساساً غير مركّزين نظركم على الصلاة والقرآن، والأمر هنا يصبح معقولاً. ولا يعني ذلك أنّه عيّرهم رغم أنّه هو سها مع أنّ مصلحة الإسهاء تكمن في نفي التعيير، كما ورد في بعض النصوص السابقة، لأنّه لم يعيّرهم بالسهو والنسيان، بل عيّرهم بقلّة الانتباه وغيابهم جميعاً عن التركيز، بحيث لا يمكن تفسير هذا الأمر إلا بغفلتهم التامّة عن حضور القلب في الصلاة. وبهذا نفهم أنّ التعيير ليس للنسيان المرفوع عن الأمّة، بل للغفلة الناتجة عن عدم الإقبال بالقلب على الصلاة. واللافت أنّ المجلسي أشار لهذا الأمر في آخر كلامه الأوّل بما يهدم إشكاله السابق، فراجع.

3 ـ إنّ افتراض السلوك العمدي من النبيّ بمعنى أنّه أنقص من القراءة شيئاً عمداً ـ وهو ما وافق عليه الشيخ آصف محسني أيضاً (انظر: صراط الحقّ 3: 105 ـ 106) ـ يحتاج لتأمّل؛ وذلك أنّ السؤال الذي وجّهه النبيّ لهم هو «هل أسقطت شيئاً من القراءة؟»، وهذا يعني أنّ ما فعله النبيّ لو كان عمديّاً فإمّا أنّه جائزٌ في أصل الشرع ولا يُبطل الصلاة أو لا، فإن كان جائزاً في أصل الشرع فلا يُسمّى إسقاطاً، بل غايته أنّه قرأ بعض الآيات وترك بعضاً، وهذا بناء على جواز قراءة أقلّ من سورة لا بأس به، فلماذا عبّر بكلمة «الإسقاط»؟! ولماذا سأل عنه أصلاً؟! وإن لم يكن جائزاً فكيف أبطل النبيُّ صلاته لأجل تنبيههم. وادّعاء خصوصية سمحت له بذلك هنا أمرٌ لا دليل عليه. ودعوى أنّه قرأ بأقلّ الجهر، كما قال النوري، تبدو غريبة لا شاهد لها في النصّ إطلاقاً، وبخاصّة أنّ النبيّ لم يقل لهم بعدها إنّه أراد امتحانهم وأنّه لم يُنقص شيئاً في الواقع، وإذا كان من المقرّر أن نعمل على التأويل كيفما كان، فإنّ اليد مبسوطة لتفسير النصوص كيفما نريد! فيحقّ لغير الشيعي تأويل حديث الغدير بأنّه لمجرّد بيان المحبّة!

وأمّا مسألة الابتداء بالسؤال، فليس بدليل على كونه فَعَلَ ذلك متعمّداً؛ لأنّه من الممكن أنّه أحسّ بأنّه أنقص شيئاً وحصل له تردّد فأراد التأكّد، والأصل في التعامل مع الوقائع هو التعامل الطبعي الحائز على المعقوليّة العادية والتاريخيّة، وما نقوله منسجم مع الواقعة تماماً بلا حاجة لتأويل.

بل ما يبعّد ذلك هو أنّ النبيّ إذا أراد أن ينبّههم فلا يعقل أن ينبّههم بما يُفضي إلى قناعتهم بوقوع السهو منه، وبالتالي وقوع خلل في عقيدتهم، فانتبه.

4 ـ إنّ قضيّة الحمل على التقية لكون الراوي زيديّاً، هو أمرٌ يسري في جميع الأبواب التي لا يرى الفقيه أو المتكلّم أنّ الرواية منسجمة مع مبانيه وأفكاره المشهورة في الطائفة، واحتماليّة التقية واردة، غير أنّ اللافت في الرواية أنّه لا يوجد فيها سياق ولا حتى سؤال، بل كأنّها ابتداء من الإمام الصادق، وهذا يُبعد فرضية التقية. أضف إلى ذلك أنّ ابن القداح لم يثبت كونه زيديّاً فإنّ الرواية التي رواها الكشي فيه ضعيفة السند، وفيها أنّه كان يقول بالتزيّد، وهذا ربما يكون ميلاً منه لبعض أفكار الزيديّة لو ربطناها بالزيديّة أصلاً، من نوع الميل للمنطق الثوري، لا أنّه زيديٌّ بطريقة رسميّة. وربما يكون المنشأ أنّ الكثير من رواياته فيها سندٌ منتهٍ إلى النبيّ، وهذا من قرائن عدم إماميّة الرجل، لكنّها قرينة غير قاطعة؛ لاحتمال أنّه يهتمّ لمثل هذه الروايات لتأكيد الاحتجاج بها لدى من لا يعتقد بإمامة الإمام الصادق أو الباقر، كما لعلّه أيضاً دأب الأئمّة أنفسهم في التعامل مع غير المعتقدين بهم. فاحتماليّات التقية هنا افتراضيّة لا غير، كيف وفي الرواية طعنٌ في الصحابة وهو يقع على خلاف التقيّة، فتأمّل جيّداً.

الرواية الحادية عشرة: صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله×، قال: «اغتسل أبي من الجنابة، فقيل له: قد أبقيت لمعةً في ظهرك لم يصبها الماء، فقال له: ما كان عليك لو سكت، ثم مسح تلك اللمعة بيده» (الكافي 3: 45).

وتقترب من هذه الرواية رواية الدعائم ونوادر الراوندي، حيث قال: وروّينا «أنّ رسول الله‘ اغتسل من جنابةٍ، فلما فرغ من غسله نظر إلى لمعة بقيت في جسده لم يصبها الماء، فأخذ من بلل شعره فمسح عليها» (دعائم الإسلام 1: 115؛ وانظر: النوادر: 190).

الرواية من حيث السند لا غبار عليها، وهي معتبرة عند الجميع، وقد صحّحها العلامة المجلسي (انظر: مرآة العقول 13: 138)، كما رواها الشيخ الطوسي بسندٍ آخر ينتهي بأبي بصير، وهو سند معتبر عند كثيرين أيضاً (تهذيب الأحكام 1: 365)، فمن حيث السند والمصدر، لا إشكال في هذه الرواية عند أحد فيما أعلم.

أمّا من حيث المعنى والدلالة، فهناك اتجاهان أساسيّان في فهمها:

الاتجاه الأوّل: وهو الاتجاه الذي ربط الرواية بباب السهو أو منافيات العصمة بأساسيّاتها، فالإمام سها عن غسل تلك اللمعة في ظهره، فتكون هذه الرواية دليلاً على جواز السهو على الإمام، وتضاف إلى أدلّة جواز السهو على المعصوم، ونتيجة هذا التفسير، وقع القائلون بشمول نظريّة العصمة لباب السهو في الموضوعات ـ بما فيها الموضوعات العمليّة الشرعيّة ـ في بحث وتحليل، وحاولوا اعتبار هذه الرواية منافيةً للعصمة وأدلّتها، فلابدّ من تأويلها بتأويلٍ يرفع هذا الإشكال فيها، وذكروا هنا بعض المحاولات، أهمّها وأشهرها:

أ ـ القول بأنّ الإمام فعل ذلك لمصلحة أو من باب تعليم الآخرين، لا أنّه لم يلتفت للموضوع، فهو يعلم بواقع الحال لكنّه فعل ذلك لكي يلتفت الآخر مثلاً، فيسأله، فيمسح الإمام بعد ذلك، ويشير له إلى عدم وجوب إخبار الآخرين (انظر: السبزواري، مهذّب الأحكام 3: 70).

لكنّ هذا التفسير محض تأويل مُسقَط على الرواية إسقاطاً، وليس في الرواية ما يشير إلى هذا الموضوع أصلاً، وإنّما هو افتراض تمّ اسقاطه عليها بهدف محاولة التوفيق بين أدلّة العصمة العامّة وبين مفاد هذه الرواية، وإلا فأيّ شخص يقرأ هذه الرواية ينسبق إلى ذهنه أنّ الإمام لم يكن يدرك بأنّه ترك هذه اللمعة ولم يغسلها. وربما لما قلناه استبعد المحدّث البحراني هذا التفسير للرواية حين قال: «ولا يخفى بُعده» (الحدائق الناضرة 3: 85).

ب ـ ما حاوله بعض العلماء ـ كالفاضل الهندي والمحقّق النجفي وغيرهما ـ من القول بأنّ الرواية لا تشير إلى أنّ الرجل قد أصاب في زعمه أنّ الإمام لم يغسل تلك اللمعة.

وهذا ما يبدو لي محاولة غريبة، فإنّه لو لم يكن قد أصاب فما معنى ردّة فعل الإمام بالمسح عليها بعد إخبار الرجل له؟ وهل يفهم القارئ العادي هذه الاحتمالات عندما يقرأ هذه الرواية؟ ولماذا يخبرنا الإمام اللاحق بهذه الحادثة؟ أعتقد أنّها تأويلات تريد فقط الفرار بأيّ طريقة من أزمة منافاة هذه الرواية للعصمة. ولهذا فهم السيد محمد باقر الصدر الروايةَ بطريقة عاديّة في بحثه الفقهي، حين قال: «.. أنّ ظاهر الرواية كون الخبر مطابقاً للواقع؛ ولهذا ذكر الإمام× في ذيلها أنّ أباه× مسح تلك اللمعة، وهذا يعني وجودها كما أخبر المخبر..» (بحوث في شرح العروة الوثقى 2: 94).

ج ـ ما ذكره بعض العلماء أيضاً، مثل المحدّث البحراني (الحدائق الناضرة 3: 85)، من أنّ الإمام لم يكن قد أنهى غسله عندما رآه الرجل، ولهذا قال له: لماذا لم تسكت، بمعنى أنّني أعلم بالأمر، وأنا بعدُ لم أُكمل غسلي.

وهذا ما ذكره المحدّث النوري أيضاً، تعليقاً على رواية الدعائم المتقدّمة، حيث قال: «ليس فيه ما يوهم منه خلاف العصمة؛ فإنّ غسله كان ترتيباً، وغسل الأعضاء بالصبّ، ولا ترتيب في أجزاء الأعضاء، فإذا فرض فراغه من غسل القدم اليسرى، يتوهّم الناظر أنّه‘ فرغ، وعدم وصول الماء بالصبّ إلى بعض ما فوقها لا يستلزم النسيان، وهذا ظاهر بحمد الله تعالى» (مستدرك الوسائل 1: 482).

ولكنّ هذا التفسير غير واضح أيضاً، فإنّه لو كانت القضيّة كذلك فلماذا قال له الإمام: ما كان عليك لو سكتّ، ثم قام بمسح اللمعة بعد إخبار الرجل؟! إنّ هذه الجملة معناها أنّ سكوتك مبرّر شرعاً، ولا حاجة لأن تعلمني بذلك. ثمّ ما الفائدة في نقل الإمام الابن هذه القصّة عن الأب حينئذٍ؟ وما الخصوصيّة في الموضوع؟ يبدو لي أنّ سبب هذه التكلّفات هو شعورهم بأنّ هذه الرواية تنافي العصمة، وإلا لو ترك الأمر على الفهم العرفي المنسبق لدى أيّ قارئ بعيد عن تأثيرات أيديولوجيا العصمة ما أظنّه كان مضطراً للذهاب خلف هذه التفاسير. نعم الرواية غير صريحة ولا هي بالنصّ في الموضوع، لكنّها ظاهرة جدّاً.

الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي يربط الرواية ببابي: علم الإمام وخطئه في الموضوعات لا بباب السهو، وهذا هو الاتجاه الصحيح من وجهة نظري في فهم هذه الرواية، فالرواية تفيد ربط القضيّة بالعلم بالموضوعات، وأنّ الإمام لا يعلم بتمام الموضوعات؛ لأنّه لا يعلم بالغيب، فهو اغتسل فَحَسِبَ أنّ الماء وصل إلى تمام ظهره؛ لأنّ المفروض أنّ شغله اليقيني فرض عليه الفراغ اليقيني، فالخطأ حصل في تصوّر تحقّق الفراغ اليقيني الذي هو موضوع خارجي، لا أنّه نسي أن يوصله إلى تمام ظهره، وفرقٌ بينهما، لكنّ الرجل ألفت نظره إلى أنّه لم يوصل الماء إلى تمام ظهره، فحصل له علمٌ بعد حُسبانٍ غير صحيح، فلا تُنافي الرواية أصل العصمة، بمعنى أنّها لا تثبت ارتكابه لذنب، ولا تبليغه للدين خطأً، ولا سهوه عن شيء، ولكنّها تنفي علمه بالغيب؛ فإنّه لو كان يعلم الغيب ما جهل بقاء مقدار من ظهره لم يصله الماء، وما أخطأ في تقدير وصول الماء إلى ظهره.

وهذا هو الفهم الأقرب لهذه الرواية، فهي تنفي العلم بالغيب من جهة، وتنفي العصمة في الموضوعات الخارجيّة من جهة ثانية، لا أصل العصمة المتفق عليه، وكلتا هاتين المسألتين (العلم بالغيب ـ العصمة في الموضوعات الخارجيّة) محلّ خلاف بين علماء الإماميّة أنفسهم إلى يومنا هذا كما هو معروف.

وبناءً على هذا التفسير:

1 ـ فإذا بنى شخص على عدم علم الإمام بالغيب مطلقاً، وأنّه يعلم بعض الغيب دون بعض، فيكون مضمون هذه الرواية صحيحاً عنده من هذه الناحية. ونحن سبق أن قلنا في محلّه بأنّ الأرجح عدم ثبوت علم النبي والأئمّة بمطلق الغيب، وأنّ هذا ـ بعد فقدان الدليل العقلي الحاسم هنا ـ هو الواضح من كتاب الله تعالى والذي عليه تُعرض الأخبار المتعارضة في هذا الموضوع، فيرجّح ما وافقها، بقانون الترجيح بموافَقَةِ الكتاب، فلا مانع من عدم اطّلاعه على بعض الموضوعات الخارجيّة، كعدم علمه بوجود زيد في الشارع الفلاني الآن، أو عدم معرفته ببعض الفنون والمهن مثل النجارة والحدادة والخياطة وغير ذلك، فإذا احتاج لهذه المعرفة لسببٍ أو لآخر، فإنّه قادر على التوجّه إلى الله تعالى، والله يستجيب له بإعلامه بما يحتاج إليه إن شاء الله. وسيرة الأنبياء والأئمة قائمة على التعامل مع الأمور بالطريقة العادية هذه وترتيب الآثار على هذه الطريقة. هذا من ناحية ارتباط هذه الرواية بمسألة العلم بالغيب.

2 ـ وإذا بنى شخص على عدم عصمة النبيّ أو الإمام في الموضوعات الخارجيّة بما فيها الموضوعات الخارجيّة الشرعيّة، فهذه الرواية تصبح مقبولةً عنده تماماً، أمّا إذا قال باستحالة خطأ الإمام في الموضوعات الخارجيّة، لا سيما الشرعيّة منها، فإنّ هذه الرواية تعارض استنتاجاته، ويجب عليه أن يقارن بينها وبين أدلّته؛ ليصل بعد ذلك إلى النتيجة النهائيّة.

الرواية الثانية عشرة: خبر حمّاد بن عثمان، أنّه سأل أبا عبد الله× عن رجلٍ أجنب في شهر رمضان من أوّل اللّيل، وأخّر الغسل إلى أن طلع الفجر؟ فقال: «كان رسول الله‘ يجامع نساءه من أوّل اللّيل، ثمّ يؤخّر الغسل حتّى يطلع الفجر. ولا أقول (تقول) كما يقول هؤلاء الأقشاب (جمع قشب، وهو من لا خير فيه من الرجال)، يقضي يوماً مكانه» (الصدوق، المقنع: 189).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية مبنيٌّ على أنّ تأخير الغسل حتّى يطلع الفجر مبطلٌ للصوم، فكيف يُعقل أنّ النبيَّ كان يفعله؟! وهذا معناه أنّه لابدّ من فرض أنّ ذلك كان يقع منه سهواً، مما يُثبت السهوَ النبويّ.

وتخضع هذه الرواية لمناقشات:

المناقشة الأولى: ما ذكره السيد الخوئي محقّاً، من أنّ الرواية ضعيفة السند بالإرسال (مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 1: 178)، حيث لم يذكرها الصدوق عدا في كتاب "المقنع". ولم ينقلها أحدٌ غيره في الكتب الحديثيّة.

المناقشة الثانية: إنّ ظاهر الرواية حصول ذلك منه‘ عمداً وبنحو العادة المتكرّرة، لا أنّه كان يحصل منه ذلك سهواً، فتكون الروايةُ معارضةً للروايات التي تدلّ على مبطليّة البقاء على الجنابة حتى يطلع الفجر، لا أنّها مثبتة للسهو النبوي هنا.

المناقشة الثالثة: ما ذكره السيد الخوئي، حيث قال: «إنّ مضمونها غير قابل للتصديق، بل إنّ مضمون هذه مقطوع العدم، إذ المفروض فيها جنابته‘ من أوّل الليل حتى مطلع الفجر، لا من بعد صلاة الليل.. إذاً فمتى كان يصلّي صلاة الليل، ووجوبُها عليه من مختصّاته‘» (مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 1: 178؛ والتنقيح (كتاب الطهارة) 5: 368).

وهذا الكلام معقول جداً إلا إذا قلنا ـ كما ذهب إليه بعضٌ ـ بأنّ صلاة الليل وقتها ممتدّ من بعد العشاء الآخرة إلى الفجر، فيكون قد صلّى ونام أوّله، فيرتفع الإشكال، لكن حيث السيد الخوئي ممن يبني على أنّ بداية وقت نافلة الليل هو منتصف الليل، خلافاً لمثل السيّد علي السيستاني الذي يراه أوّل الليل، لهذا فالإشكال تامّ على مبانيه، لكن كان يلزمه القول بأنّ هذه الرواية تقع معارِضة لدليل منتصف الليل، لا أنّها تقع ساقطةً من الأوّل، فانتبه.

المناقشة الرابعة: ما حاول السيد الخوئي تفسير الرواية به، حيث قال: «ولا يبعد أن يكون المراد ـ على تقدير صحّة الرواية ـ هو الإنكار، بأن يكون معنى قوله: كان رسول الله‘ الخ، أكان رسول الله على سبيل الاستفهام الإنكاري، وأنّ هذا الأمر هو الذي يقوله هؤلاء الأقشاب، أمّا أنا فلا أقول ذلك، بل أقول: إنّه يقضي يوماً مكانه، فيكون قوله×: يقضي يوماً الخ، جملة ابتدائيّة إنشائيّة، لا مقولاً للقول» (مستند العروة الوثقى، كتاب الصوم 1: 178 ـ 179؛ والتنقيح (كتاب الطهارة) 5: 369).

وهذا الاحتمال وارد؛ غير أنّه ليس في كلام حماد ما يشير للسؤال عن الموضوع النبويّ، بل هو يسأل عن الحكم نفسه، ولعلّ الرواية عن الموضوع النبوي متداولة في الوسط السنّي أو غير الإمامي فتعرّض لها الإمام لذلك، ولعلّها هي سبب سؤال حمّاد. على أنّه لو صحّ هذا وأردنا المراهنة على حرفيّات تعبير الرواية لكان العطف في قوله: «ولا أقول»، غير مناسب، بل يلزمه أن يقول: «فلا أقول» أو «لا أقول».

المناقشة الخامسة: ما ذكره الخوئي أيضاً، حيث قال: «إنّ ظاهر الرواية أنّ النبيّ‘ كانت عادته ذلك، حيث عبّر فيها بأنّه كان النبي يجامع.. لا أنّ ذلك اتفق في حقّه صدفةً. ومن المقطوع به عندنا خلاف ذلك؛ لأنّ البقاء على الجنابة إلى طلوع الفجر في شهر رمضان لو لم يكن محرّماً مبطلاً للصوم، ولا أقلّ أنّه مكروه، وكيف يصدر المكروه من النبيّ‘ طيلة حياته؟!» (التنقيح (كتاب الطهارة) 5: 368).

وهذه المناقشة فيها مبالغة، فإنّ المكروه هنا لا دلالة على أنّه صدر طيلة حياته، بل كل ما يفيده النص أنّه صدر متكرّراً، فلو قرأنا الرواية بطريقة من يريد الاستدلال على صحّة الصوم فإنّ معناها أنّ النبي كان يجامع وينام ويصحّح صومه، لا أنّ النبي كان من عادته دوماً أنّ يجامع وينام طيلة حياته، فانتبه، هذا مضافاً إلى عدم وجود دليل مقنع على عدم صدور المكروه من النبيّ أو الإمام في الجملة ولو من دون مزاحم أهمّ، كما أشرنا لذلك مطلع البحث في صلاة الجماعة.

المناقشة السادسة: ما ذكره الخوئي أيضاً، حيث قال: «إنّ الرواية تضمّنت أنّ القول بحرمة ذلك ووجوب القضاء به من قول الأقشاب. وليت شعري من المراد بالأقشاب؟! فهل هم الأئمّة الباقون ـ العياذ بالله ـ حيث صدرت منهم الأخبار في حرمة البقاء على الجنابة في شهر رمضان ووجوب قضاء الصوم حينئذ أو المراد بهم جميع الشيعة القائلين بحرمة البقاء ووجوب القضاء معه؛ لما مرّ من أنّه أمرٌ متفق عليه بينهم، ولم ينقل الخلاف في ذلك عن أحد من أصحاب الأئمّة، بل العلماء الأقدمين سوى الصدوق ـ قدّس سرّه ـ ولا ندري قائلاً بذلك غير الأئمّة الباقين وأصحابهم، يعني الشيعة، فكيف وصفهم الإمام× بالأقشاب؟! .. فلا مناص معه من حملها على التقيّة؛ لذهابهم إلى ذلك» (التنقيح (كتاب الطهارة) 5: 368 ـ 369).

لكن لعلّ الإمام انتقد غلاة الشيعة هنا أو بعض تياراتهم، وأيّ مانع من ذلك، فيكون هذا مؤشراً على وضع تلك الروايات على ألسنة أهل البيت.

الرواية الثالثة عشرة: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر×، قال: «إنّ عليّاً× طافَ طواف الفريضة ثمانية، فترك سبعة، وبنى على واحد، وأضاف إليه ستّة، ثمّ صلّى الركعتين خلف المقام، ثم خرج إلى الصفا والمروة، فلما فرغ من السعي بينهما رجع فصلّى ركعتين للذي (الركعتين اللتين) ترك في المقام الأوّل» (تهذيب الأحكام 5: 112؛ والاستبصار 2: 218 ـ 219).

الرواية الرابعة عشرة: صحيحة معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله×، قال: «إنّ عليّاً× طاف ثمانية، فزاد ستّة، ثمّ ركع أربع ركعات» (تهذيب الأحكام 5: 112؛ والاستبصار 2: 218).

يبدو للوهلة الأولى أنّ الإمام عليّاً سها فطاف ثمانية بدل سبعة، فتكون الروايتان من أدلّة سهو الإمام.

لكنّ هذا الظهور، بل هذه الرواية، وقع موقع النقاش، فقد علّق عليها الحرّ العاملي بالقول: «ما تضمّنه هذا والذي قبله من السهو محمولٌ على التقية في الرواية، مع أنّه غير صريح في السهو» (تفصيل وسائل الشيعة 13: 365). وقد طرح احتمال التقية الشيخ النجفي والسيّد الخوئي والسيد الكلبايكاني أيضاً (انظر: جواهر الكلام 19: 367؛ والمعتمد في شرح المناسك 4: 377؛ وكتاب الحجّ 2: 84). وقد احتمل السيد أحمد بن زين العابدين العلوي العاملي (1060هـ)، أن تكون الرواية من باب تعليم الإمام للآخرين (مناهج الأخيار في شرح الاستبصار 3: 459)، وهو ما استبعده المحقّق السبزواري (1090هـ) (انظر: ذخيرة المعاد ج1، ق3: 636).

أمّا المحقّق النراقي فقال: «وحمل فعله× على التعليم بارد، وعلى التقية فاسد؛ لعدم داعٍ عليها. أقول: يمكن الجواب عن الأخيرتين بأنّ فعل عليّ× لعلّه من باب القِران، إمّا بين النافلتين ـ كما تحتمله أولاهما ـ أو الفريضة والنافلة ـ كما تحتمله ثانتيهما ـ وهما جائزان كما يأتي، ومن أين علم أنّ قصده الزيادة في الطواف الواحد حتى يكون من مفروض المسألة؟!» (مستند الشيعة 12: 92 ـ 93).

وقال السيد محمد رضا الكلبايكاني: «لكنّ الروايتين لا تدلان على سهوه×، فيمكن أن يكون× أتى بطوافين أحدهما طواف الفريضة وثانيهما طواف النافلة، والظاهر أنّ الثاني منهما كان طواف الفريضة، ولذا أتى بالسعي والتقصير بعده، كما يظهر من الرواية الثانية ـ أعني صحيحة زرارة ـ فلذا لم يأت بالسعي والتقصير للطواف الأوّل؛ لأنّه كان مندوباً، بل أتى بركعتي الطواف فقط» (كتاب الحجّ 2: 85).

ويمكن التعليق هنا:

أوّلاً: إنّ الحمل على التقية لابدّ له من مبرّرات معقولة، وهي غير مفهومة هنا، فبإمكان الإمام تبيين الحكم تقية دون النسبة لعليّ بما يفضي لمشكلة عقائديّة إضافيّة، وأمّا التقية لبيان أنّ الأئمّة غير معصومين، فليس عليها شاهد، بل الغريب أنّ زرارة ومعاوية بن وهب وهما من أكابر الرواة والأصحاب لو كانوا يدركون أنّ هذا تقية فرضها المجلس على الإمام الباقر أو الصادق، فلماذا نقلوه دون توضيح، وهو ينافي الأمر العقائدي وموجب للتشويش؟ وأمّا إذا كانوا يعرفون أنّه لا موجب للتقيّة فكيف سكتوا ولم يسألوا عن غرابة الموقف؟! الأمر الذي يشير إلى أنّ المركوز في أذهانهم كان عدم عصمة الإمام عن السهو في غير بيان الدين. وهذا يضرّ بما يريده المستدلّ هنا ضرراً كبيراً. بل لماذا لم نجد أيّ تعليق على هذه الروايات إلا في القرن الخامس الهجري وما بعد؟! وأمّا فرضية أنّ الإمام عليّاً نفسه فعل ذلك تقيةً فهذا أبعد؛ إذ لو حصل هذا فلماذا لم يُنقل من غير طريق أهل البيت أنفسهم في التاريخ؟ بل لماذا لم يُشر الإمام الصادق والباقر للتقية في فعل عليّ ما دام فعله كان عن تقية وليس بيانهما؟ بل ما هو مبرّر التقية في فعل عليٍّ في موضوع لا يمثل أيّ حساسية في ذلك الوقت؟!

ثانياً: إنّ فرضيّة تعليم الآخرين واضحة البُعد، وأنّها مجرّد افتراضات مخترعة، وقد سبق أنّ علّقنا على ما يشبهها فلا نعيد.

ثالثاً: إنّ فرضية العمدية هنا وإرادة القِران بين طوافين، مخالفة لظاهر التعابير في الروايتين، فإنّهما عبّرتا بطاف ثمانية، فلو كان عمداً فعل ذلك ثم زاد ستّة، فلماذا التعبير بطاف ثمانية ثمّ زاد ستة، إذ من الأوّل يقال بأنّه طاف طوافين متتاليين؟! وهذا أوضح في صحيحة زرارة حيث عبّر بـ «ترك سبعة»، فتأمّل جيّداً.

لهذا ففي تقديري أرجح التفاسير المعقولة والعرفيّة للروايتين هو السهو، والعلم عند الله.

الرواية الخامسة عشرة: خبر أبي الصلت الهروي، قال: قلت للرضا×: يا ابن رسول الله، إنّ في سواد الكوفة قوماً يزعمون أنّ النبيّ‘ لم يقع عليه السهو في صلاته، فقال: «كذبوا ـ لعنهم الله ـ إنّ الذي لا يسهو هو الله الذي لا إله إلا هو..» (عيون أخبار الرضا 2: 219 ـ 220).

فهذه الرواية صريحة في نقد فكرة نفي السهو، وهي تنسب هذه الفكرة للفضاء الكوفي.

لكنّ هذه الرواية ضعيفة السند جدّاً، فبعد أن لم يروها عدا الصدوق في كتابٍ واحد، فإنّه وقع فيها تميم بن عبد الله بن تميم القرشي، وهو غير موثق على الصحيح، بل ضعّفه ابن الغضائري والعلامة الحلي (انظر: رجال ابن الغضائري: 45؛ وخلاصة الأقوال: 329)، وأمّا ترضّي الصدوق عليه أو روايته بعض الروايات الحسنة أو رواية الصدوق عنه.. فكلّه لا يكفي للتوثيق كما حقّقناه في مباحث قواعد علم الرجال والجرح والتعديل، فالرجل مجهول الحال لا يُعتمد على أخباره منفردةً.

بل لو صرفنا النظر عنه، فإنّ والده الواقع في السند، وهو عبد الله بن تميم، في غاية الإهمال، وكذلك الحال في أحمد بن علي الأنصاري الذي يروي عنه والد تميم القرشي، فهو أيضاً مهمل، وقد أقرّ بعدم ذكرهما حتى الشيخ النمازي الشاهرودي (انظر: مستدركات علم رجال الحديث 1: 370 ـ 371، و 4: 495).

الرواية السادسة عشرة: خبر سُليم بن قيس الهلالي، قال: ..ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب، ثم دفعه، فدخل، فاستقبلته فاطمة÷، وصاحت: «يا أبتاه يا رسول الله»، فرفع عمر السيف وهو في غمده، فوجأ (أي لَكَزَ وضرب) به جنبها، فصرخت: «يا أبتاه»، فرفع السّوط فضرب به ذراعها، فنادت: «يا رسول الله، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر»، فوثب عليّ× فأخذ بتلابيبه، ثم نتره (التلابيب هي أطراف الثوب من الأعلى، فكأنّه جمع له ثوبه من طرف الرقبة والمنحر، يريد أن يضربه، والنترُ بمعنى الجذب بشدّة)، فصرعه ووجأ أنفه ورقبته، وهمَّ بقتله، فذكر قولَ رسول الله‘ وما أوصاه به، فقال: «والذي كرّم محمّداً بالنبوّة، يا بن صهاك، لولا كتابٌ من الله سَبَق وعهدٌ عهده إليّ رسولُ الله‘ لعلمت إنّك لا تدخل بيتي..»، فأرسل عمر يستغيث، فأقبل الناس حتى دخلوا الدار.. (كتاب سليم بن قيس الهلالي: 150).

فإنّ هذه الرواية توحي بأنّ الإمام عليّاً غاب عنه عهد النبيّ، وأنّه في لحظة معيّنة تذكّر ذلك، فتدلّ على جواز السهو والنسيان عليه. وهذا ما اعتبره بعضٌ من موجبات ضعف كتاب سليم.

لكنّ بعض المعاصرين حاول النقاش هنا بالقول بأنّ كلمة «فذكر» لا تستلزم دوماً تحقّق النسيان والغفلة، «بل قد يستعمل بمعنى الخطور الذهني بغض النظر عن وجود سهو في البَين، وقد وردت بعض الروايات بهذا المعنى منها.. داود الرقي قال: ..«إنّي ما شربت ماء بارداً إلا ذكرت الحسين×». ويُعلم من هذا أنّ التذكّر يكون على نوعين، فمرّة يكون بأن يكلّف الإنسان بشيء ثم يغفل عن ذلك الأمر، ثمّ يتذكّره بعد فواته، وبعد أن خالف المطلوب منه نسياناً وسهواً، وهذا هو الممنوع على المعصوم، ومرّة يكون من قبيل تذكّر الإنسان ما وقع في الأيّام الخوالي والأزمنة الغابرة، أو التذكّر للأمر الإلهي قبل فوات المطلوب، وهذا نظير ما ورد في الروايات العديدة من غضب بعض الأئمّة عليهم السلام عما يرتكبه بعض خدمهم، ثمّ كظمهم للغيظ، فلا منافاة بين تحقّق الغضب كما في مقامنا هذا حيث اعتدى القوم على الزهراء÷ وبين إمساك الامام× عن القتل.. والقول بسهو الإمام علي× عما أمره النبيّ‘ إنّما يصحّ منعه وإبطاله إذا كان متحقّقاً وواقعا في الخارج، والرواية ليس فيها ما يدلّ على ذلك، بل فيما ما يدلّ على عدم وقوعه، ولهذا التزم الإمام× بوصيّة النبيّ‘» (هاشم الهاشمي، حوار مع فضل الله حول الزهراء: 420 ـ 421).

ويمكن التعليق:

أوّلاً: إنّه لم يثبت نسبة كتاب سُليم الموجود بين أيدينا اليوم إليه، فالرواية ضعيفة الإسناد.

ثانياً: إنّ ظاهر كلمة «فذكر»، في سياقها الموجود في الرواية، يدلّ على أنّه× همّ بالشيء ناسياً أو غير ملتفت للعهد النبوي ثمّ التفت، وهذا يتضمّن بشكل جسدي ونفسي وذهني تحقّق النسيان والسهو تكويناً.

ثالثاً: إنّ التمييز الذي ذكره بعض المعاصرين في مسألة السهو النبوي مهمٌّ، وفي الوقت نفسه غير دقيق؛ فإنّه يدخل في تحليل أنواع السهو، فهو يوافق على فكرة غياب الحضور الذهني للمعصوم عن شيءٍ ما، لكنّه يمنع عن تحقّق هذا الغياب حين الابتلاء بالفعل، وهذا يعني أنّ السهو الممنوع ليس حصول حالة الغياب الذهني والغفلة الذهنيّة، بل اجتماع هذه الحالة مع الفعل بحيث يقع الفعل في لحظته قاصراً أو ناقصاً بسبب هذه الغفلة، كما لو كان يصلّي فسها فزاد أو نقص.

وهنا يمكنني طرح سؤالين:

السؤال الأوّل: وهو يدخل في الميكانيزم الذهني والنفسي للنبيّ والإمام، هل منع السهو والنسيان عنهما معناه حضور تمام المدرَكات والمعلومات عندهما في لحظةٍ واحدة ودائماً؟ هذا ما يبدو أنّ المعاصر المشار إليه لا يوافق عليه، إذاً فالنبيّ يمكن أن ينسى أشياء كثيرة في غير لحظة الحاجة إلى التذكّر. وهذا كلام منطقي جداً؛ لأنّ دعوى حضور تمام المدرَكات عنده في لحظةٍ واحدة ودوماً أشبهُ بضربٍ من الخيال، ويدفعنا للحديث عن مخلوقٍ آخر فوق إنساني. وإن كنت أعتقد بأنّ بعض النزعات العرفانيّة والفلسفيّة الشيعيّة لا توافق على هذا التفصيل الذي ذكره هذا المعاصر.

السؤال الثاني: إذا كان التمييز الذي وضعه هذا المعاصر صحيحاً، فلماذا نمنع سهو النبيّ في الصلاة ما دام المطلوب لا يفوت حيث الوقت ما يزال موجوداً؟! إذ معياريّة الفوات والإخلال بالمطلوب لا تتحقّق إلا عندما يكون السهو النبويّ مستمراً بحيث ينقضي وقت الصلاة وهو لم يأت بالفرد الصحيح منها، وأمّا في غير ذلك فالمفروض الصحّة والقبول! وهذا يعني تصحيح أغلب ـ إن لم نقل جميع ـ روايات السهو؛ إذ ليس في غالبها شيء يُفسد هذه القاعدة. وأمّا القول بأنّه يلزم شكّ الناس به وضعف الوثوق به لأنّه ينسى، ولهذا لا نوافق على روايات السهو النبوي، كما هي طريقتهم في الاستدلالات العقلية هنا، فهذا يصدق في مورد حادثة بيت فاطمة÷ أيضاً؛ إذ كيف يُعقل أنّ الإمام عليّاً ينسى عهداً نبويّاً بهذه الأهميّة بمرأى من الناس ومسمع، ويتذكّره في اللحظة الأخيرة؟! فلولا هذا التذكّر في اللحظة الأخيرة لقُتِل عمر بن الخطاب. ألا يضرّ هذا بالوثوق؟! أليس تصحيح السهو النبويّ في الصلاة أخفّ من هذا؟! أليس القول بأنّ الأنبياء والأئمّة يسهون وينسون، لكنّ الله يصحّح نسيانهم ويقوّم ما وقعوا فيه، بحيث لا يقع في نهاية المطاف ضرر.. أفضل من مثل هذه التكييفات؟!

الرواية السابعة عشرة: خبر ابن عبّاس، قال: لما مرض رسول الله‘ وعنده أصحابه.. ثمّ قال: «إنّ ربي عزّ وجل حكم وأقسم أن لا يجوزه ظلم ظالم، فناشدتكم بالله أيّ رجل منكم كانت له قبل محمّد مظلمة إلا قام فليقتصّ منه، فالقصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في دار الآخرة على رؤوس الملائكة والأنبياء». فقام إليه رجلٌ من أقصى القوم، يقال له: سَوَادَةُ بنُ قَيْس، فقال له: فداك أبي وأمي يا رسول الله، إنّك لما أقبلت من الطائف استقبلتُك وأنت على ناقتك العضباء (الناقة العضباء هي المشقوقة الأذُن، لكنّهم يقولون بأنّ هذا اسمٌ لناقة الرسول، رغم أنّها لم تكن مشقوقة الأذن)، وبيدك القضيب الممشوق (وهو القضيب الطويل الدقيق)، فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فلا أدري عمداً أو خطأ. فقال: «معاذ الله أن أكون تعمّدت». ثمّ قال: «يا بلال، قم إلى منزل فاطمة فأتني بالقضيب الممشوق». فخرج بلال وهو ينادي في سكك المدينة: معاشر الناس، من ذا الذي يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة؟ فهذا محمّد‘ يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة! وطرق بلال الباب على فاطمة÷، وهو يقول: يا فاطمة، قومي فوالدك يريد القضيب الممشوق.. ثمّ ناولت بلالاً القضيب، فخرج حتى ناوله رسول الله‘، فقال رسول الله‘: «أين الشيخ؟» فقال الشيخ: ها أنا ذا يا رسول الله، بأبي أنت وأمّي؟ فقال: «تعالَ فاقتصّ منّي حتى ترضى». فقال الشيخ: فاكشف لي عن بطنك يا رسول الله، فكشف‘ عن بطنه، فقال الشيخ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك؟ فأذن له، فقال: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول الله من النار يوم النار. فقال رسول الله‘: «يا سَوَادة بن قيس، أتعفو أم تقتصّ؟» فقال: بل أعفو يا رسول الله. فقال‘: «اللهمّ اعفُ عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيّك محمّد..» (أمالي الصدوق: 732 ـ 737).

فالرواية تدلّ على سهو النبيّ لكن بمعنى غفلته، بل تدلّ على عدم عصمته عن الخطأ في الموضوعات الخارجيّة.

غير أنّ هذه الرواية تعرّضت، وقد تتعرّض، لمناقشاتٍ، أبرزها:

المناقشة الأولى: إنّ الرواية ضعيفة من حيث الإسناد، فقد ورد فيها سلسلة من المجاهيل الذين لا نعرف حالهم، فلا يحتجّ بها. بل تفرّد شيعيّاً بنقلها الصدوق في الأمالي. أمّا سُنيّاً فالرواية مضطربة تارةً تتكلّم عن وقوع الحادثة قبيل وفاة النبيّ، وأخرى في معركة بدر.. وتارة تتكلّم عن سوادة بن قيس، وأخرى تقول بأنّ اسمه سواد بن عمرو، وثالثة سواد بن غزية، وغير ذلك.

المناقشة الثانية: إنّ في داخل الرواية مؤشرات على الركاكة أو الوضع (بعض هذه المناقشات ذكره الشيخ محمد هادي معرفت، تفسير ومفسران 2: 67 ـ 70. وسوف نعلّق على كلّ مناقشة على حدة داخل هذه المناقشة):

منها: إنّه من المستحيل أن يقع خطأ من النبيّ مثل هذا في الطائف ويقرّه الله عليه ولا ينبّهه حتى آخر عمره عبر هذه الواقعة، بل كيف يمكن وقوع هذا الخطأ والنبيّ لم يلتفت، وإذا التفت لوقوعه فمن غير المعقول أن لا يبادر لتصحيح الموقف، وهو المشهود له بنصّ الكتاب بأنّه على خلق عظيم (انظر: العصمة بين المبدأ الشيعي والمفاد الروائي: 113 ـ 114).

والجواب إنّ ما يستحيل أن يقرّه الله عليه هو ما يرتبط بالتبليغ، ولا دليل على أنّ الأخطاء السهويّة مثل هذه يستحيل أن يقرّه الله عليها، فهذا كأنّه محلّ البحث وأوّل الكلام، فكيف يفرض دليلاً أو نقاشاً هنا؟! علماً أنّ ظاهر الرواية لا يفيد أنّ النبي التفت إلى وقوع الخطأ حاله، إن لم نقل بأنّ ظاهرها العكس، بل سيكون خُلُق النبي نفسه شاهداً على قوّة احتمال أنّه لم يلتفت لوقوع الخطأ في حينه، ولهذا تمّ تنبيهه الآن.

ومنها: إنّ الراوي يقول بأنّ سوادة صرّح بأنّ النبي كان يريد ضرب الناقة، وهذا يعني أنّ ضربه وقع خطأ، لكنّه بعد ذلك مباشرةً يقول بأنّه لا يعرف هل النبيّ فعل ذلك عن خطأ أم عن عمد؟ فهذان التعبيران فيهما تناقض.

لكنّني أعتقد بأنّه لا يوجد تناقض هنا؛ لأنّ الرجل يقول بأنّ النبيَّ كان يريد ضرب الناقة، فربما في هذه اللحظة أراد ضربها فوجد أنّ سوادة يقف مانعاً، فضربه على بطنه، كي يتنحّى، فيقوم النبيّ بضرب الناقة، وهذا معقول. وأيّ غرابة في ذلك؟! فإرادة ضرب الناقة لا تعني الإقرار بالخطأ، بل تعني أنّ الفعل وقع في سياق هذه الإرادة.

ومنها: إنّ النبيّ طلب من بلال أن يأتي بالقضيب الممشوق من بيت فاطمة، ولا نفهم لماذا كان القضيب الممشوق في بيتها وليس في بيت النبيّ نفسه؟! أليس هذا غريباً؟ ألا يعطي إيحاءً بأنّ الواضع للحديث يريد الطعن بفاطمة، والربط بينها وبين العنف والقسوة؟!

لكنّ هذه المناقشة أيضاً غير موفّقة؛ إذ الرواية لا تسمح للإنسان وهو يقرأها إلا بتعظيم سلوك النبيّ، لا بالشعور بأنّه شخص وحشي أو عنيف، فإقحام اسم فاطمة هنا لا يوجد مؤشر على أنّه يريد الغمز فيها. وما المانع أن تكون بعض أغراض النبيّ التي قلّ ما يستعملها ـ إذ يتوقّع أن يستعملها في الأسفار خاصّة ـ موجودة في بيت فاطمة؟! بل لعلّ هذا خير دليل على وحدة حال بيت النبيّ وبيت فاطمة، فهي للمدح أقرب منها للذمّ.

ومنها: لو سلّمنا أنّ النبي كان يستخدم القضيب لضرب الناقة، إذ هذا ينافي الرأفة والرحمة عنده، لكن كم كان طول هذا القضيب حتى أنّه وصل لبطن سوادة في حينه؟! أليس هذا غريباً؟!

وهذه المناقشة معقولة لكن مع ذلك ليست بتلك القويّة، إذ الجالس على الناقة يحتاج لقضيب طويل حتى يطال طرف رقبتها الأعلى، فيمكن أن يكون القضيب طويلاً بعض الشيء فيصل لبطن سوادة الذي من الممكن أن يكون هو طويلاً أيضاً، بل من الممكن أن يكون جلس النبي في آخر الناقة من الخلف فيكون منخفضاً أيضاً، فكيف يمكن أن ننقد متن روايةٍ بمثل هذه المناقشات؟! أضف إلى ذلك أنّ ضرب النبيّ للناقة لا يدل على عدم أخلاقيّته، فالضرب لا يعني الجلد العنيف، بل تُضرب الحيوانات ولو للتنبيه على ضرورة السير ضرباً خفيفاً، وهذا متعارف جدّاً، كما في مثل تحريك الساقين على بطن الحمار من قبل راكبه ليفهم الحمار أنّ عليه السير، وأيّ شيء في ذلك ينافي الرحمة؟!

ومنها: إنّ القصاص إنّما يكون في مورد الجناية العمديّة، لا في مورد الخطأ، فأيّ معنى، بعد تصريح النبيّ بأنّه لم يفعل ذلك عمداً، أن يقتصّ منه المجنيُّ عليه، فهذا خلاف القواعد الشرعيّة.

ولكنّ هذا الكلام قابل للنقاش أيضاً؛ إذ من الواضح أنّ الحادثة لا تُجري محاكمة قضائيّة، والمقام مقام تضحية نبويّة، لا مقام محاكمة، وإلا لوكانت هناك محاكمة لطالبه النبيّ بالبيّنة. والنبيُّ بنفسه طلب القضيب الممشوق، لا أنّه أقرّ له أنّ لك الحقّ في الاقتصاص، فالسياق سياق أخلاقي تربوي، وليس سياقاً فقهيّاً قانونيّاً. كما ومن الواضح أنّ سوادة لم يكن يريد الاقتصاص، بل كان يجعل ذلك مجرّد طريق لتقبيل بطن النبيّ والاستشفاع به.

ومنها: إنّ سوادة بن قيس شخص غير معروف أنّه في أصحاب النبيّ أساساً، ولهذا نجد أنّ الأسماء تتغيّر في أشكال نقل الرواية، كما أشرنا، بل في بعضها أنّ الرجل اسمه عكاشة.

والنتيجة: إنّ الرواية من حيث المتن لا أجد فيها شيئاً، ونقطة ضعفها الأساسيّة تكمن في ضعف السند جداً، وفي إبهام شخصيّة سوادة بن قيس، وربما يكون صحابيّاً قليل الحضور في المدينة، والعلم عند الله.

الرواية الثامنة عشرة: خبر الحسن بن صدقة، قال: قلت لأبي الحسن الأوّل×: أسلّمَ رسولُ الله‘ في الركعتين الأولتين؟ فقال: «نعم»، قلت: وحاله حاله (أي في الجلالة والمكانة)؟ قال: «إنّما أراد الله عزّ وجلّ أن يفقّههم» (الكافي 3: 356؛ وتهذيب الأحكام 2: 345).

هذه الرواية تدلّ على سهو النبيّ، وقد استند إليها المحقّق التستري في رسالته في السهو (انظر: رسالة في سهو النبي، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 42: 69)، وقد بيّن ذلك الفيض الكاشاني بقوله: «تعجّبَ السائلُ من سهوه‘ مع كونه معصوماً عن الخطأ، فأجابه×، بأنّه كان في ذلك مصلحة للأمّة بأن يفقهوا بمثل هذه الأمور معالم دينهم، ويعلموا أنّ البشر لا ينفكّ عن السهو والنسيان، وأنّ المخلوق محلّ للغفلة والنقصان، وإنّما المنزّه عن جميع صفات النقص هو الله سبحانه» (الوافي 8: 955). وعلّقَ العلامة المجلسي هنا بالقول: «وهذا هو الإسهاء الذي جوّزه الصدوق رحمه الله، وأنكر سائر الفقهاء والمتكلّمين عليه، وحملوا الأخبار على التقية» (ملاذ الأخيار 4: 547).

والرواية بقرينة سائر الروايات يُفهم منها السهو، ويبدو أنّ قصّة النبيّ كانت متداولة بين أصحاب الأئمّة، ولكنّ هذه الرواية ضعيفة السند بعدم ثبوت وثاقة منصور بن العباس. وأمّا الحمل على التقية فقد أجبنا عنه سابقاً، فلا نعيد.

الرواية التاسعة عشرة: خبر جميل (الصحيح السند عند المشهور)، قال: سألت أبا عبد الله× عن رجل صلّى ركعتين، ثمّ قام؟ قال: «يستقبل»، قلت: فما يروي الناس؟ فذكر له حديث ذي الشمالين، فقال: «إنّ رسول الله‘ لم يبرح من مكانه، ولو برح استقبل» (تهذيب الأحكام 2: 345 ـ 346).

فهذه الرواية تدلّ عل تقرير حادثة ذي الشمالين، فبضمّها للروايات الأخرى يُفهم المقصود منها بوضوح.

غير أنّ السيّد الخوئي علّق هنا، بالقول: «لا يقدح اشتمال هذه الروايات على حكاية سهو النبيّ‘ المنافي لأصول المذهب في صحّة الاستدلال بها، فإنّ الإمام× لم يصدّق السائل ولم يقرّره في تلك الحكاية، كما يُشعر به جوابه بما يشتمل على كلمة (لو) في قوله: ولو برح.. الخ، التي هي للامتناع، غايته أنّه× لم يكذّبه فيما زعمه، فلتكن محمولة على التقية من هذه الجهة. وأمّا بيان الحكم الكلّي وهو أنّ المصلّي لو برح استقبل، الذي هو مناط الاستدلال فهو حكم واقعي ولا تقية فيه، وإن كان التطبيق على المورد بعدم التكذيب مبنيّاً عليها كما عرفت» (مستند العروة (كتاب الصلاة) 6: 80).

ولكنّ كلامه قابل للنقاش، وذلك أنّ الإمام يصرّح معلّقاً بأنّ الرسول لم يبرح من مكانه، وهذا وفقاً للسياق تصريح بأنّه يصدّق قصّة ذي الشمالين، وكلمة «لو» هنا للامتناع من حيث كونه برح أو لا، لا من حيث أصل وقوع الحادثة التي يدلّ النصّ على تصديقها، فلا يحتاج تصديق شخص لحادثة إلى أن يقولها هو، بل في مثل هذا السياق لا شكّ في التصديق، فلو لم تكن الحادثة مشتملة على سهو النبيّ هل كان السيد الخوئي سيشكّك في دلالة جواب الإمام على تصديق الحادثة؟! فلنقل بأنّ الرواية دالّة على التصديق غايته صدرت بنحو التقية، وهذا أمر آخر، إذ لا فرق في التقية بين التصديق وعدم التكذيب.

وأمّا فكرة التقية، فليس لها مبرّر واضح هنا، فالراوي هو جميل الشيعي الثقة الجليل الذي هو من الخواصّ، ولو كانت القصّة غير صحيحة فكيف يحتجّ بها جميل أمام الإمام، دون أن يعرف ـ وهو من الخواص ـ أنّها غير واقعيّة؟! بل لماذا لا يشرح لنا جميل أنّ الإمام عندما قال هذا الكلام كان في محضر جماعة بحيث يكون أميناً في النقل نتيجة تأثير هذا الأمر على فهم الرواية؟

الرواية العشرون: خبر أبي بصير (الصحيح السند عند المشهور)، قال: سألت أبا عبد الله× عن رجلٍ صلّى ركعتين، ثمّ قام، فذهب في حاجته؟ قال: «يستقبل الصلاة»، فقلت: ما بال رسول الله‘ لم يستقبل حين صلّى ركعتين؟ فقال: «إنّ رسول الله‘ لم يَنْفَتِل (ينتقل) من موضعه» (تهذيب الأحكام 2: 346).

والكلام في هذه الرواية يشبه سابقتها، فلا نعيد.

الرواية الواحدة والعشرون: خبر زيد الشحام أبي أسامة، قال: سألته عن الرجل صلّى العصر ست ركعات أو خمس ركعات، قال: «إن استيقن أنّه صلّى خمساً أو ستاً فليعد، وإن كان لا يدري أزاد أم نقص، فليُكبّر وهو جالس، ثم ليركع ركعتين يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب في آخر صلاته، ثمّ يتشهّد، وإن هو استيقن أنّه صلّى ركعتين أو ثلاثاً، ثمّ انصرف فتكلّم فلم يعلم أنّه لم يتم الصلاة قائماً، عليه أن يتم الصلاة ما بقي منها، فإنّ نبيّ الله‘ صلّى بالناس ركعتين، ثمّ نسي حتى انصرف (ربما يمكن القول بأنّه مع تحقّق الانصراف، تصبح هذه الرواية معارِضة، لما تقدّم من روايات، وهذه ستكون جهة ضعفٍ فيها، إلا إذا قيل بأنّ الانصراف هو الخروج من الصلاة لا الحركة والانتقال)، فقال له ذو الشمالين: يا رسول الله، أحدث في الصلاة شيء؟ فقال: أيّها الناس أصدق ذو الشمالين؟ فقالوا: نعم، لم تصلّ إلا ركعتين، فقام فأتمّ ما بقي من صلاته» (تهذيب الأحكام 2: 352).

وجاءت الرواية في بعض مصادر أهل السنّة بالسند إلى ابن شهاب الزهري، أنّ أبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة أخبره أنّه بلغه أنّ رسول الله‘ صلّى الركعتين ثم سلّم، فقال ذو الشمالين بن عبد: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال رسول الله‘: «لم تقصر الصلاة ولم أنسَ». فقال ذو الشمالين: قد كان بعض ذلك يا رسول الله. فأقبل رسول الله‘ على القوم، فقال: «أصدق ذو الشمالين؟» فقالوا: نعم، فقام رسول الله‘ فأتمّ ما بقي من الصلاة، ولم يسجد السجدتين اللتين تُسجدان إذا شكّ الرجل في صلاته حين لقاه الناس (البيهقي، السنن الكبرى 2: 358؛ وانظر: ابن عبد البر، التمهيد 11: 202 ـ 203).

ودلالة الرواية صارت واضحة، لكنّها تعاني من مشاكل سنديّة، فالرواية الشيعيّة ورد في سندها أبو جميلة المفضل بن صالح، وهو رجل ضعيف متهم بالوضع والكذب، والرواية السنيّة مرسلة في بعض المصادر، وضعيفة في أخرى.

الرواية الثانية والعشرون: خبر أبي سعيد القماط، قال: سمعت رجلاً يسأل أبا عبد الله× عن رجلٍ وجد غمزاً في بطنه أو أذى أو عصراً من البول، وهو في الصلاة المكتوبة في الركعة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة، قال: فقال: «إذا أصاب شيئاً من ذلك فلا بأس بأن يخرج لحاجته تلك، فيتوضأ، ثم ينصرف إلى مصلاه الذي كان يصلّي فيه، فيبني على صلاته من الموضع الذي خرج منه لحاجته، ما لم ينقضِ الصلاةَ بكلامٍ»، قال: قلت: وإن التفت يميناً أو شمالاً أو ولّى عن القبلة؟ قال: «نعم، كلّ ذلك واسع، إنّما هو بمنزلة رجل سها، فانصرف في ركعةٍ أو ركعتين أو ثلاث من المكتوبة، فإنّما عليه أن يبني على صلاته»، ثم ذكر سهو النبيّ‘ (تهذيب الأحكام 2: 355).

والرواية من حيث الإسناد ضعيفةٌ بموسى بن عمر بن يزيد وغيره، وقد ذكر غير واحد من العلماء بأنّ مضمونها الفقهي معارَض بالإجماع والنصوص ومعرَض عنه عند الأصحاب (انظر ـ على سبيل المثال: الخميني، الخلل في الصلاة: 124 ـ 125؛ والخوئي، مستند العروة الوثقى (كتاب الصلاة) 4: 437 ـ 438)، لهذا لم يمانع مثل السيد محسن الحكيم طرحها أو حملها على التقية (انظر: مستمسك العروة 6: 526؛ والسبزواري، مهذب الأحكام 7: 165؛ والحرّ العاملي، تفصيل وسائل الشيعة 7: 237)، كما رفضها الشيخ مرتضى الحائري لأسباب منها أنّها تتضمّن ممارسة قياسيّة ممنوعة، حيث تمّ قياس مفروض المسألة على حالة السهو، والقياس باطل (انظر: خلل الصلاة وأحكامها: 95).

وقد تقدّمت بعض تعليقاتنا على ما يشبه بعض هذه المداخلات النقديّة، فلا نعيد، غير أنّني أقرّ بضعف سند الرواية وتفرّد الطوسي بنقلها.

الرواية الثالثة والعشرون: خبر أبي بكر الحضرمي، قال: صلّيتُ بأصحابي المغرب، فلما أن صلّيت ركعتين سلّمت، فقال بعضهم: إنّما صلّيت ركعتين، فأعدتُ، فأخبرتُ أبا عبد الله×، فقال: «لعلّك أعدت؟» فقلت: نعم، فضحك، ثمّ قال: «إنّما يجزيك أن تقوم وتركع ركعة؛ إنّ رسول الله‘ سهى في ركعتين»، ثم ذكر حديث ذي الشمالين، قال: «ثمّ قام فأضاف إليها ركعتين» (تهذيب الأحكام 2: 180؛ والاستبصار 1: 370).

وكالعادة حُملت الرواية على التقيّة، حيث قال الحرّ العاملي معلّقاً: «ذكر السهو في هذا الحديث وأمثاله محمولٌ على التقية في الرواية كما أشار إليه الشيخ وغيره؛ لكثرة الأدلّة العقليّة والنقليّة على استحالة السهو عليه مطلقاً، وقد حقّقنا ذلك في رسالة مفردة وذكرنا لذلك محامل متعدّدة» (تفصيل وسائل الشيعة 8: 199).

وقد تقدّم التعليق على مثل هذه المحاولات، لكنّ سند الرواية ضعيف لا أقلّ بعدم ثبوت وثاقة أبي بكر الحضرمي على التحقيق. علماً أنّ الشيخ الكليني روى هذه الرواية بعينها دون ذكر شيء مما في آخرها من قصّة السهو النبويّ، حيث جاء فيها: صلّيت بأصحابي المغرب، فلما أن صلّيت ركعتين سلّمت، فقال بعضهم: إنّما صلّيت ركعتين، فأعدت، فأخبرتُ أبا عبد الله×، فقال: «لعلّك أعدت؟» قلت: نعم، قال: فضحك، ثمّ قال: «إنّما يجزئك أن تقوم فتركع ركعة» (الكافي 3: 351). وملتقى الحديث بينهما هو فضالة بن أيّوب، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي، فهل وصلت نسختان مختلفتان أو حذف الكلينيُّ الذيلَ أو سها الطوسيُّ فأضاف هذا الذيل، بظنّ أنّه لهذه الرواية مثلاً؟ العلم عند الله.

الرواية الرابعة والعشرون: صحيحة الحرث (الحارث) بن المغيرة النصريّ (النضري)، قال: قلت لأبي عبد الله×: إنّا صلّينا المغرب فسها الإمام، فسلّم في الركعتين، فأعدنا الصلاة. فقال: «ولم أعدتم؟ أليس قد انصرف رسول الله‘ في ركعتين فأتمّ بركعتين؟ ألا أتممتم؟!» (تهذيب الأحكام 2: 180؛ والاستبصار 1: 370 ـ 371؛ وتفصيل وسائل الشيعة 8: 198).

والدلالة واضحة من حيث الإشارة لحادثة تكرّر تداولها في الروايات، ولم يكن حاجة لذكرها على تقدير التقية، والسند معتبر.

الرواية الخامسة والعشرون: خبر الفقه الرضوي، حيث جاء فيه: وكنتُ يوماً عند العالم×، ورجل سأله عن رجلٍ سها فسلّم في ركعتين من المكتوبة، ثمّ ذكر أنّه لم يتمّ صلاته، قال×: «فليتمّها (فليقمها) وليسجد سجدتي السهو». وقال×: «إنّ رسول الله‘ صلّى يوماً الظهرَ فسلّم في ركعتين، فقال ذو اليدين: يا رسول الله، أمرتَ بتقصير الصلاة أم نسيت؟ فقال رسول الله‘ للقوم: صدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، لم تصلّ إلا ركعتين، فقام فصلّى إليها ركعتين، ثم سلّم وسجد سجدتي السهو» (فقه الرضا (الفقه الرضوي): 120).

والرواية واضحة الدلالة، غير أنّها ضعيفة الإسناد؛ لعدم ثبوت نسبة هذه الروايات للأئمّة إذا افتقدت السند في مصادر أخرى.

الرواية السادسة والعشرون: خبر عبد الله بن سنان (المصحّح عند المشهور، ونصّ على تصحيحه المجلسي في مرآة العقول 24: 217)، قال: لما قدم أبو عبد الله× على أبي العباس، وهو بالحيرة، خرج يوماً يريد عيسى بن موسى، فاستقبله بين الحيرة والكوفة، ومعه ابن شُبرمة القاضي، فقال له: إلى أين يا أبا عبد الله؟ فقال: «أردتك»، فقال: قد قصر الله خطوك، قال: فمضى معه، فقال له ابن شبرمة: ما تقول يا أبا عبد الله في شيء سألني عنه الأمير فلم يكن عندي فيه شيء؟ فقال: «وما هو؟» قال: سألني عن أوّل كتاب كتب في الأرض، قال: «نعم، إنّ الله عزّ وجلّ عَرَض على آدم× دريته (ذريته) عرض العين في صور الذرّ، نبيّاً فنبيّاً وملكاً فملكاً ومؤمناً فمؤمناً وكافراً فكافراً، فلما انتهى إلى داود×، قال: من هذا الذي نبئته وكرمته وقصرت عمره؟ قال: فأوحى الله عزّ وجل إليه هذا ابنُك داود عمره أربعون سنة، وإني قد كتبت الآجال وقسمت الأرزاق، وأنا أمحو ما أشاء وأثبت وعندي أمّ الكتاب، فإن جعلت له شيئاً من عمرك ألحقت له. قال: يا ربّ قد جعلت له من عمري ستين سنة تمام المائة، قال: فقال الله عزّ وجل لجبرئيل وميكائيل وملك الموت: اكتبوا عليه كتاباً، فإنّه سينسى، قال: فكتبوا عليه كتاباً وختموه بأجنحتهم من طينة عليّين، قال: فلما حضرت آدم الوفاة أتاه مَلَك الموت، فقال آدم: يا ملك الموت ما جاء بك، قال: جئت لأقبض روحك، قال: قد بقي من عمري ستون سنة، فقال: إنّك جعلتها لابنك داود، قال: ونزل عليه جبرئيل وأخرج له الكتاب، فقال أبو عبد الله×: فمن أجل ذلك إذا خرج الصكّ على المديون ذلّ المديون، فقبض روحه» (الكافي 7: 378 ـ 379).

والرواية واضحة الدلالة على سهو الأنبياء، بناءً على نبوّة آدم، وقد علّق عليها المجلسي بالقول: «في هذا الخبر إشكال من وجهين: أحدهما: الاختلاف الوارد في هذه القضيّة في المدّة التي وهبها، ففي بعضها ستون، وفي بعضها أربعون، وفي بعضها خمسون. وثانيهما: مخالفته لأصول الشيعة من جواز السهو على الأنبياء عليهم السلام، وإن قلنا بعدم النسيان فيلزم الإنكار والجحد مع العلم وهو أشكل، إلا أن يقال: إنّه× لم ينسه ولم يجحد، وإنّما سأل ورجا أن يكون له ما قرّر له أوّلاً من العمر، مع أنّ الإسهاء قد جوّزه الصدوق (ره) عليهم عليه السلام، ولا يبعد حمله على التقية؛ لاشتهار هذه القصّة بين العامة، رواه الترمذي وغيره من رواتهم» (مرآة العقول 24: 217 ـ 218).

وتعليق المجلسي فيه جوانب من النقد، فالرواية تصرّح بأنّ الله قال للملائكة بأنّ آدم سوف ينسى، فما معنى طرح احتمالات في موقف آدم؟! وما قيمة موقف آدم بعد التصريح الإلهي في الرواية؟! وأمّا اختلاف الروايات في هذه القصّة في عدد السنوات فهو لا يوجب سقوط الرواية، كيف ومثله في الأخبار أكثر من أن يحصى، ومع ذلك قبلوه، فمثل هذه الاختلافات التي قد تنشأ من بعض التفاصيل الجزئيّة لا يضرّ بأصل القصّة لو ثبتت، وبخاصّة ـ وفقاً لطريقة الكثيرين ـ لو كان هناك بين القصص واحدة ذات سندٍ صحيح مثل هذا السند عند المشهور. وأمّا قصّة الحمل على التقية فقد صار واضحاً موقفنا من هذه الطريقة التي يستخدمها الكثير من العلماء كلما واجهوا مشكلةً في روايةٍ معيّنة دون تقديم أيّ تبريرات معقولة للتقية، فما الموجب أن يقول الإمام لابن شُبرمة هنا هذه القصّة مع إضافة فكرة النسيان؟! فلو لم تكن فكرة نسيان آدم صحيحة لكان بإمكان الإمام أن يقول له بأنّ الله أمرهم بتدوين صكّ، وانتهى الموضوع. طبعاً هذا إذا كان هناك معنى لتدوين صكّ بين الله والملائكة والنبيّ آدم، والمفروض أنّهم جميعاً لا ينسون ولا يخطأون ولا يعصون! فإمّا القصّة مختَلَقة من أساسها أو لو كانت صحيحة فلا معنى لها إلا أن يكون آدم ينسى بالفعل، كما صرّحت الرواية نفسها، فأيّ معنى للتقية في البين؟!

فالإنصاف أنّ الدلالة تامّة، غير أنّ الرواية عندي ضعيفة السند؛ بعدم ثبوت وثاقة محمّد بن خالد البرقي على التحقيق، فضلاً عن تأمّلات في متن الرواية وطريقة تركيبها بما يوحي بعلائم الوضع فيها.

هذه تقريباً عمدة الروايات الشيعيّة التي يمكن أن تُذكر في باب سهو النبي أو الإمام، وقد تبيّن أنّ هناك أكثر من عشرين رواية لها دلالة على وقوع السهو من النبيّ أو الإمام، وأنّ من روايات الإنامة توجد روايتان صحيحتان سنداً، وأمّا روايات السهو فالصحيح سنداً منها هو خمسة بل قد تبلغ السبعة، واللافت أنّ الكثير من روايات السهو ذات الدلالة مرويّة في الكتب الأربعة أو بعضها، علماً أنّها أيضاً مرويّة في كتب ومصادر أهل السنّة بأسانيد متعدّدة، كما صار واضحاً، ونحن اقتصرنا على الرواية الشيعيّة، معزّزةً ببعض النقل من الرواية السنيّة كما تقدّم، حتى لا يطول بنا المقام.

لكن ينبغي عدم البتّ بهذا الموضوع ـ حديثياً ـ بمجرّد النظر في مجموع هذه النصوص المتقدّمة، وإن كانت في نفسها واضحة الدلالة والصدور على ثبوت السهو، بل لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار النصوص المعارضة، وقد عمل بعض العلماء ـ ومن أبرزهم الحرّ العاملي في كتابه (التنبيه بالمعلوم (البرهان على تنزيه المعصوم عن السهو والنسيان): 81 ـ 108، تحقيق: محمود البدري، نشر بوستان كتاب، قم، إيران، الطبعة الثانية، 1430هـ) ـ على جمع النصوص الحديثيّة الدالة ـ برأيه ـ على نفي السهو والنسيان عن الأنبياء والأئمّة، وبلغ بها العشرات، ولكنّ التأمّل فيها يفضي على خروج الكثير منها عن الموضوع، شبه ما نقلناه عن مثل المحقّق النجفي سابقاً وأشكلنا عليه، لكنّ بعضاً قليلاً جداً منها يصرّح بنفي السهو، بل بعضه قابلٌ للجمع بين نظريّة نفي السهو وإثبات الإسهاء، مما يتطلب مزيد توسّع.

والنتيجة: إنّ التراث الحديثي الإمامي ـ فضلاً عما لو ضممنا له التراث الحديثي الإسلامي العام ـ فيه ما يثبت إمكان السهو على النبيّ والإمام، بل وقوعه، لكنّ الخروج بنتيجة كلاميّة نهائية في هذا الموضوع، يحتاج لتوسّع في الجانب القرآني والعقلي، مما لا يسعه المقام هنا.

 

هل روايات سهو النبيّ أو الإمام تثبت وجوب سجدتي السهو؟

المراجعة لمجمل هذه النصوص يؤكّد لنا أنّه لم يدل دليل معتبر من بينها جميعها على فكرة وجوب سجود السهو، انطلاقاً من قصة سهو النبيّ أو الإمام، فأغلبها لم يتعرّض لسجود السهو، وما تعرّض له لم يبيّن إلا فعل النبيّ له لا وجوب الفعل، فلعلّه مستحبّ مؤكّد ليس بواجب.

والنتيجة: إنّ الاستدلال بحوادث سهو الأنبياء والأئمّة على وجوب سجود السهو غير تامّ، فلا بدّ من النظر في الأدلّة اللفظيّة الأخرى.

 

موقفٌ للسيّد الخوئي في قضيّة العصمة عن السهو في الموضوعات الخارجيّة

طرحت وجهة نظر تتحدّث عن أنّ السيّد الخوئي لا يرى عصمة الأنبياء عن السهو في الموضوعات الخارجيّة. وتستند وجهة النظر هذه إلى نصّ استفتاء وجّه له، وكان له جوابٌ فيه.

جاء في نصّ الاستفتاء وجوابه: «ما هي حقيقة الحال في مسألة إسهاء النبيّ‘ عن صلاة الصبح، وهل يلزم أن يسهي الله تعالى نبيّه‘ ليعلم أنه ليس بإله، والله تعالى يقول: ﴿وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق..﴾ (الفرقان: 7) إلى آيات أخرى تدلّ على أنّه بشر، علاوة على ولادته ووفاته‘؟ ثمّ هل يلزم أن يسهي الله تعالى رسوله‘ لتكون رحمة للأمة لكي لا يعيّر أحد أحداً إذا نام عن صلاته، وقد أجرى الله سبحانه كثيراً من أحكامه على أناس آخرين لا على الرسول نفسه‘، هذا إذا لاحظنا أنّه‘ كان قد (أنيم) وليس (نام) والفرق واضح بين الحالتين؟ وهل صحيح أنّ ذا اليدين الذي تدور عليه روايات الإسهاء أو السهو لا أصل له؟ وأنه رجل مختلق كما يذهب إلى ذلك الشيخ الحرّ العاملي (قدّس سره) في رسالته التنبيه بالمعلوم من البرهان على تنزيه المعصوم عن السهو والنسيان؟ الخوئي: القدر المتيقّن من السهو الممنوع على المعصوم هو السهو في غير الموضوعات الخارجيّة، والله العالم» (صراط النجاة 1: 461 ـ 462).

وقد نشر هذا الاستفتاء في كتاب "صراط النجاة" دون أن يعلّق الشيخ جواد التبريزي أيضاً عليه، ممّا يوحي بموافقته كذلك، لكنّه في موضع آخر من الكتاب بيّن لاحقاً أنّه يرى شمول العصمة وامتدادها وسعتها للموضوعات الخارجيّة (التبريزي، صراط النجاة 5: 287).

وقد حاول بعض المعاصرين الاستفادة من هذه العبارة للسيد الخوئي كي يؤكّد وجود انقسام معاصر إماميّاً حول بعض مساحات نظريّة العصمة، فيما انبرى الفريق المخالف لذلك لتأكيد أنّ السيد الخوئي يوافق المشهور في شمول العصمة للسهو بتمام مساحاته.

وأبرز المحاولات التي يمكن أن تُذكر هنا هو الآتي:

المحاولة الأولى: ما ذكره الشيخ التبريزي والسيد جعفر مرتضى العاملي وغيرهما، من أنّ قصد السيد الخوئي هنا من كلمة «القدر المتيقّن» هو القدر المتفق عليه بين الإماميّة؛ لأنّ السهو في الموضوعات الخارجيّة مختلفٌ فيه؛ نتيجة ذهاب الشيخ الصدوق وأستاذه ابن الوليد لتجويزه على المعصوم (انظر: جعفر مرتضى العاملي، مختصر مفيد 4: 138 ـ 139؛ و10: 192؛ والتبريزي، صراط النجاة 5: 287؛ والأنوار الإلهيّة في المسائل العقائديّة: 106. وهذا مذكور أيضاً في بعض أجوبة السيد محمد صادق الروحاني والسيد علي الميلاني).

لكنّ هذه المحاولة لوحدها غير مقنعة؛ لأنّنا جميعاً نعرف السياق المقامي وطبيعة التعابير الفتوائيّة، فلو كان السيّد الخوئي يسأل عن رأي علماء الشيعة لكان مناسباً هذا التفسير، لكنّه يُسأل عن رأيه، فالجواب بالقدر المتيقّن يفهم منه أنّ لديه نظراً في غير هذا القدر المتيقّن، ولا يعني ذلك أنّه يجزم بعدم العصمة، بل يفيد ـ في الحدّ الأدنى ـ أنّ العصمة غير ثابتة عنده خارج القدر المتيقّن. وأدبيات تعابير الفقهاء معروفة في هذا السياق فلا معنى للتأويل.

المحاولة الثانية: أن يُصار لرصد نصوص السيد الخوئي حول الموضوع بهدف فهم عبارته هذه، وهذه أبرز مواقفه:

1 ـ ذكر السيد الخوئي في مباحث الصلاة الآتي: «ومنها ما روى عن زيد بن علي عن آبائه عن علي× المشتمل على حكاية سهو النبيّ‘ وزيادته الخامسة في صلاة الظهر وإتيانه بسجدتَي السهو بعد أن ذكّره الأصحاب، ولكنّها بالرغم من صحّة سندها، غير ثابتة عندنا؛ لمنافاة مضمونها مع القواعد العقليّة، كما لا يخفى، فهي غير قابلة للتصديق» (مستند العروة (الصلاة) 6: 42).

لكنّ هذا النصّ قد يُدّعى أنّه لا يفرض علينا تعديل ما نفهمه من نصّه الآخر؛ لأنّ هناك فرقاً بين الإسهاء عن أصل الصلاة والإسهاء داخل الصلاة أمام المسلمين، فإذا كان فعل النبيّ حجّة فإنّ ما فعله في زيادة الركعة الخامسة يوجب تشويشاً في بيان التكاليف، بينما مفروض السؤال في الاستفتاء يتحدّث عن شيء مختلف تماماً ولا يوجب تشويش بيان الأحكام الشرعيّة للناس، فلعلّ الخوئي يرى أنّ موضوع الاستفتاء من الأمور الخارجيّة وهذا بعكس موضوع رواية الزيادة في الصلاة.

2 ـ ما ذكره الخوئي في مباحث الصلاة أيضاً، حيث قال: «وبإزاء هذه الأخبار روايات أخرى كثيرة أيضاً فيها الصحيح والموثق قد دلّت على البطلان، فمنها صحيحة جميل عن رجل صلّى ركعتين، ثم قام، قال: يستقبل، قلت: فما يروي الناس، فذكر حديث ذي الشمالين، فقال: إنّ رسول الله‘ لن يبرح من مكانه، ولو برح استقبل، ونحوها موثقة أبي بصير وسماعة. ولا يقدح اشتمال هذه الروايات على حكاية سهو النبي‘ المنافي لأصول المذهب في صحّة الاستدلال بها، فإنّ الإمام× لم يصدّق السائل ولم يقرّره في تلك الحكاية، كما يشعر به جوابه بما يشتمل على كلمة (لو) في قوله: ولو برح.. الخ، التي هي للامتناع، غايته أنّه× لم يكذّبه فيما زعمه، فلتكن محمولةً على التقية من هذه الجهة» (مستند العروة (الصلاة) 6: 80).

3 ـ ما ذكره في بحوث الزيادة السهويّة في الطواف، حيث قال: «نعم هنا إشكال آخر وهو منافاة الإتيان بالشوط الثامن سهواً لعصمة الإمام× حتى في الأمور الخارجيّة. وذلك مناف لمذهب الشيعة، فيمكن إخراج هذه الرواية مخرج التقيّة في إسناد السهو إلى أمير المؤمنين×، ومثل ذلك غير عزيز في الأخبار فلا ينافي ثبوت أصل الحكم» (المعتمد 4: 377).

4 ـ ما ذكره أيضاً في مباحث الصلاة حيث قال: «ومنها رواية العرزمي عن أبيه عن أبي عبد الله×، قال: «صلَّى عليّ× بالناس على غير طهر، وكانت الظهر، ثمّ دخل فخرج مناديه أنّ أمير المؤمنين× صلَّى على غير طهر فأعيدوا، وليبلّغ الشاهد الغائب». وفيه مضافاً إلى ضعف سندها؛ لعدم ثبوت وثاقة والد العرزمي، أنّ مضمونها غير قابل للتصديق؛ لمنافاته العصمة، وعدم انطباقه على أصول المذهب. ولا يكاد ينقضي تعجّبي من الشيخ والكليني لدى الظفر بهذه الرواية وأمثالها ممّا يخالف أصول المذهب أنّهما كيف ينقلانها في كتب الحديث المستوجب لطعن المخالفين على أصولنا. على أنّ مضمون هذه الرواية مقطوع البطلان، كيف ولو كانت لهذه القصّة أيّ شائبة من الحقيقة لنقلها أعداؤه ومناوئوه في كتبهم، واشتهرت بينهم؛ لتضمّنها أكبر طعن وتشنيع عليه× مع حرصهم على تنقيصه بكلّ ما تيسّر لهم ولو كذباً وافتراءً» (مستند العروة (الصلاة) ج 17 من الموسوعة: 313).

وبهذا نجمع بين نصوص الخوئي، لنؤكّد وجهة نظر واحدة هي عبارة عن موافقته لمشهور الشيعة.

ويخطر في البال أمران:

أ ـ أن يقال بأنّ الخوئي عدل عن رأيه المدوّن في كتبه الاستدلاليّة؛ لأنّ الاستفتاء جاء متأخّراً زمناً عن كلّ هذه النصوص، فهو مؤرّخ بـ 21 ـ 1 ـ 1408هـ، أي قبل وفاته بحوالي خمس سنوات تقريباً (انظر مخطوطة الاستفتاء وقد نشرها عادل كاظم عبد الله، في كتابه العصمة عند السيد الخوئي وعند المشكّكين: 73). واحتمالُ عدوله في قضيّةٍ عقائديّة غير ممتنع، فأيّ استحالة في ذلك؟! بل منطق التحقيق التاريخي يفرض هذا الأمر.

ب ـ أن نميّز بين الموضوعات الخارجيّة الخالصة وبين الموضوعات المتصلة بالأحكام، فيكون مراد السيّد الخوئي في جواب الاستفتاء أنّ كلّ موضوع خارجي لا صلة له بالأحكام الشرعيّة كأن ينسى الإمام أين وضع حذاءه، فهو غير داخل في المتيقّن من العصمة، وكلّ موضوع خارجي له صلة بالتشريعات وبيان الدين مثل الصلاة أمام الناس ونحو ذلك، فهو مشمول للقدر المتيقّن، وبهذا ربما يتمّ التوفيق بعض الشيء بين نصوص الخوئي وفي الوقت عينه لا يكون قائلاً بالعصمة في الموضوعات الخارجيّة المحضة.

وهذا الوجه رغم كونه معقولاً جداً لكن ربما لا تتحمّله بعض العبارات.

وعلى أيّة حال، فأغلب نصوص السيد الخوئي في كتبه ترفض سهو النبي في الموضوعات الخارجيّة، فلا نطيل.

 

الخلاف الإمامي ـ الإمامي حول سهو النبيّ (الصدوق والمفيد والتستري)، عرض ومقارنة وتحليل

هذا القسم من البحث هو تقرير لثلاث محاضرات ألقيتُها في مرفأ حوار، عبر تطبيق زووم، بتاريخ (12 ـ 19 ـ 26) ـ 10 ـ 2022م، وقد قام بتحريرها وتنظيمها الشيخ علي حمام، ثمّ راجعتُها وأضفتُ عليها، ورأيتُ أنّه لا بأس بعرضها هنا؛ إكمالاً للبحث من بعض الجوانب.

موضوع سهو النبيّ من الموضوعات التي وقع كثيرٌ من الكلام فيها داخل الإماميّة، وتنوّعت فيه المواقف والآراء. سأتناول هذه المسألة باختصار من خلال ثلاث شخصيّات لطالما ظلّ اسمها مطروحًا عند معالجة هذا البحث، حيث طرح الشيخ محمد بن علي بن الحسين الصدوق (381هـ) نظريّته في موضوع السهو متابعًا أستاذه ابن الوليد، لكنّ الشيخ المفيد (413هـ) في رسالةٍ منسوبةٍ إليه تحت عنوان «عدم سهو النبيّ»، ردّ على الصدوق ومن ذهب مذهبه، ثمّ وفي القرن العشرين صنّف الشيخ محمّد تقي التستري (1405هـ) ـ رادًّا على المفيد ـ رسالةً مستقلّة تحت عنوان «رسالة في سهو النبيّ» أدرجت غير محقّقة في الجزء الأخير من كتابه "قاموس الرجال" بطبعة جامعة المدرّسين، ثمّ حُقّقت أخيرًا ونشرت في العدد الثاني والأربعين من مجلة الاجتهاد والتجديد في بيروت.

ما سأحاوله هنا هو تقديم مشهد توصيفيّ ـ تحليلي حول هذا الجدل الثلاثيّ الأطراف، وأستهدف من خلاله العرض والمقارنة بين منهجين مختلفين في علم الكلام التراثيّ: منهج علم الكلام العقليّ، ومنهج علم الكلام النقليّ؛ لتحليل كيفيّة تعاملهم مع هذا الموضوع، مع شيء من التعليق دون إطناب في مناقشة الاستدلالات ولا إعطاء رأي نهائيّ فيها؛ لأنّ الغرض الأساس هو تشريح الأفكار دون تقويمها.

 

أوّلاً: موقف الشيخ الصدوق من مسألة سهو النبيّ، عرض وتحليل وتعليق

النصّ العمدة الذي يطرحه الصدوق في هذا الموضوع هو ما جاء في كتابه "كتاب من لا يحضره الفقيه"، وهو يعلّق على صحيحة سعيد الأعرج، وهي إحدى الروايات التي تُعتمد في إثبات وقوع سهو النبيّ كما سيأتي، حيث قال: «إنّ الغلاة والمفوّضة لعنهم الله ينكرون سهو النبيّ‘، ويقولون: لو جاز أن يسهو‘ في الصلاة لجاز أن يسهو في التبليغ؛ لأنّ الصلاة عليه فريضة، كما أنّ التبليغ عليه فريضة. وهذا لا يلزمنا؛ وذلك لأنّ جميع الأحوال المشتركة يقع على النبيّ‘ فيها ما يقع على غيره، وهو متعبّد بالصلاة كغيره ممن ليس بنبيّ، وليس كلّ من سواه بنبيّ كهو، فالحالة التي اختصّ بها هي النبوّة والتبليغ من شرائطها، ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يقع عليه في الصلاة؛ لأنّها عبادة مخصوصة والصلاة عبادة مشتركة، وبها تثبت له العبوديّة وبإثبات النوم له عن خدمة ربّه عزّ وجل من غير إرادة له وقصد منه إليه نفي الربوبيّة عنه؛ لأنّ الذي لا تأخذه سنة ولا نوم هو الله الحيّ القيوم. وليس سهو النبيّ‘ كسهونا؛ لأنّ سهوه من الله عزّ وجلّ، وإنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق فلا يتخذ ربًّا معبودًا دونه، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا، وسهونا من الشيطان وليس للشيطان على النبيّ‘ والأئمة صلوات الله عليهم سلطان (إنّما سلطانه على الذين يتولّونه والذين هم به مشركون) وعلى من تبعه من الغاوين. ويقول الدافعون لسهو النبيّ‘: إنّه لم يكن في الصحابة من يقال له: ذو اليدين، وإنّه لا أصل للرجل ولا للخبر. وكذبوا؛ لأنّ الرجل معروف، وهو أبو محمّد بن عمير بن عبد عمرو المعروف بذي اليدين، وقد نقل عن المخالف والمؤالف، وقد أخرجت عنه أخبارًا في كتاب وصف قتال القاسطين بصفّين. وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله يقول: أوّل درجة في الغلوّ نفي السهو عن النبيّ، ولو جاز أن تردَّ الأخبار الواردة في هذا المعنى لجاز أن تردّ جميع الأخبار، وفي ردّها إبطال الدين والشريعة. وأنا أحتسب الأجر في تصنيف كتابٍ منفرد في إثبات سهو النبيّ‘ والردّ على منكريه إن شاء الله تعالى» (كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 359 ـ 360).

إجمال ما ذكره الصدوق يتلخّص بالقول: إنّ وقوع السهو من النبيّ‘ لا محذور فيه، وأمّا الإشكال على ذلك بأنّه يلزم منه السهو في تبليغ الأحكام الشرعيّة فلا نوافق عليه؛ لأنّه ينبغي أن نميّز بين الحالات المشتركة للنبيّ مع غيره من الناس، والحالات الخاصّة، فالصلاة من الحالات المشتركة يقع على النبيّ فيها ما يقع على غيره من الناس، وأمّا التبليغ فهو من الحالات الخاصّة؛ إذ لا مبلّغ للوحي غيره. ومن شروط الرسول عدمُ السهو في أداء الرسالة. ثمّ يوضح الصدوق بأنّ السهو الذي وقع به النبيّ ليس كسائر حالات السهو التي يقع بها الناس، فهو سهوٌ من الله لا من الشيطان الذي ليس له سلطان إلا على أتباعه الغاوين، ومحمّد‘ ليس منهم، وإنّما هو إسهاء من الله لحكمةٍ بالغة، فكما أنّ الله أنام رسوله عن الصلاة حذرًا من تأليهه ـ وهذا موضوع آخر وقع فيه خلاف أيضًا ـ حيث إنّ الله لا تأخذه سنة ولا نوم، كذلك أسهاهُ الله في الصلاة لنفي الربوبيّة عنه. ومن حكمة ذلك أيضًا بيانُ أحكام السهو للناس، ودفع التعيير عنهم بعدم قبول صلاتهم بسبب السهو كما أشارت إلى ذلك الرواية التي سيأتي التعرّض لها. ثمّ يعلّق الصدوق أخيرًا على من أنكر وقوع حادثة السهو تاريخيًّا بإنكار وجود شخصيّةٍ حقيقية لصاحب القصّة، بأنّه شخص معروف في التاريخ نقل عنه السنّة والشيعة ومن بينهم الصدوق نفسه، وبأنّ إنكار الروايات بهذه الطريقة يُفضي بنا إلى ردّ جميع الروايات في الشريعة.

من تحليل هذا النصّ يمكن ذكر الآتي:

1 ـ الصدوق ونسبة السهو للغلاة والمفوّضة

إنّ فكرة السهو ينسبها الصدوق للغلاة والمفوّضة، وليست هذه أوّل مرّة ينسب فيها شيئًا إليهم في كتبه، وأمّا تحديد من هم المفوّضة والغلاة برأي الصدوق وبرأي أستاذه ابن الوليد، ومدرسة قم في القرن الثالث الهجري؟ وما هو تعريفه لهم؟ فهذا أمرٌ آخر.

لكنّ السؤال الذي يخطر بالبال في طريقة بدء تعرّض الصدوق لهذه المسألة، بوصفه شاهدًا على عصره: هل يُعقل أن يكون جمهور الإماميّة قد تلقّوا فكرة نفي السهو وكانت واضحةً بالنسبة إليهم في كونها جزءًا أساسيًّا من عقيدتهم، كما هي اليوم كذلك، بحيث يجيبُك عنها أيّ واحد من عوام الشيعة.. هل يعقل أن يكون الأمر كذلك آنذاك ثمّ ينسب الصدوق هذا الرأي لمن أسماهم الغلاة والمفوضّة دون إشارة منه إلى وجود أحد من علماء الإماميّة قال بذلك، أو وجود أحد من الإماميّة قد تأثر برأيهم؟! هل هذا التعبير يساعدنا على افتراض شهرة إثبات السهو بين الشيعة أو على الأقلّ وجود انقسام حقيقي في الرأي بينهم؟ على الأقلّ في رؤية الصدوق للمشهد التاريخي. وهل استخدام الصدوق تعبير "الغلاة" هنا ـ بما له من دلالة إخراج عن الملّة أو عن التشيّع ـ يعني أنّه غير مقتنع بنسبة القول بنفي السهو لجمهور علماء الشيعة في زمانه أو أنّ هذا التعبير منه فيه مبالغة أو مجرّد توصيف عابر؟

ما يعزّز أنّ الصدوق يرى المشهد مختلفًا عمّا نراه نحن اليوم، بمعنى أنّه يرى نفي السهو مجرّد رأي مطروح في الوسط الشيعي، وليس منسوبًا لكبار العلماء ورموز الطائفة.. هو لعنه للغلاة والمفوّضة الذين ينسب إليهم ذلك، مع استبعاد لعنه علماء الشيعة ورموزهم. والسؤال هنا: إلى أيّ مدى يمكن أن يكون الصدوق تصوّر مشهد الرأي في زمانه بين الشيعة وفي الوقت عينه قام بلعن هؤلاء؟! وهذا يفتح الباب على احتمال أنّ نفي السهو عن النبيّ لم يكن مجمعًا عليه من وجهة نظر الصدوق، بل ليس مشهورًا، بل يُستبعد أن تكون عدّة من كبار العلماء المعتدّ بها قائلة به، وبالتالي جاءت شهرة هذه الفكرة في مدرسة بغداد التي أصّل لها المفيد لاحقاً، ثمّ تابعه المرتضى والطوسي.

ثمّة احتمال آخر في تحليل موقف الصدوق هنا، وهو أنّه يريد تشويه صورة القول بنفي السهو، ولو عبر مثل ما يُعرف في علم المنطق التطبيقي بمغالطة المنشأ، فنَسَبَه للغلاة والمفوّضة، ثمّ لعنهم، لا أنّه يقصد أنّ كل من قال بسهو النبيّ فهو من الغلاة والمفوّضة، بمعنى أنّ القول بنفي السهو قولٌ آمنت به أيضًا الغلاة، لا أنّه رأي حصريٌّ لهم، فنسبته الرأيَ للغلاة نوعٌ من محاولة تحقير هذا القول أو التخويف منه أو تشويهه، تمامًا كما لو أنّ لبعض علماء الشيعة في مسألةٍ اليوم رأيًا مخالفًا للسائد ففي مقام إبعاد الناس عنه وتحذريهم منه يقال هو رأيُ المذهب السلفي التابع لمحمد بن عبد الوهاب، ثمّ يُنتقد من باب حشر الخصوم الداخليّين في الزاوية.

هذا الاحتمال معقولٌ في تحليل عبارة الصدوق، ومعه فلا يمكن أن نستنتج أنّه يرى المشهد الإماميّ منفصلًا عن القول بالسهو، وأنّ فكرة نفي السهو من مختصّات الغلاة والمفوّضة، بل لعل ثمّة تيّاراً واسعاً من الإماميّة في زمانه قائل بنفي السهو عن النبيّ، غاية الأمر أنّ الصدوق بواسطة نسبة رأيهم للغلاة أراد تضعيف موقفهم.

غير أنّني أعتقد أنّ هذا الاحتمال ـ رغم معقوليّته ـ مرجوحٌ؛ وبخاصّة لو لاحظنا مرّةً أخرى ذيل النصّ الذي نقلناه عن الصدوق عندما تحدّث عن شيخه ابن الوليد ورأيه في أوّل درجات الغلوّ، فهذا يعني أنّ فكرة السهو هي فكرة غلاة الشيعة برأي الصدوق، وأنّه يمكن أن يكون قال بها بعضُ علماء الشيعة من غير الغلاة والمفوّضة بمعنى أنّها تسرّبت إليهم وتورّطوا بها، لكنّها تظّلّ فكرة مغالية ومنتسبة لتيار الغلوّ الذي يجب الانتباه إلى أنّه كان متغلغلًا في الشيعة وليس منفصلًا عنهم كانفصال الشيعة عن السنّة لاحقاً.

نعم، بعد فترة زمنيّة من وفاة الصدوق سنرى أنّ كلمات العلماء تنصّ على وجود إجماع شيعيّ على نفي السهو عن النبيّ، وهذا ليس أمرًا غريبًا بل له نظائر كثيرة في الفقه والكلام.

2 ـ تمييز الصدوق بين التبليغ والصلاة على قاعدة العموميّة والخصوصيّة

يميّز الصدوق بين سهو النبيّ في الصلاة وسهوه في التبليغ على قاعدة الاشتراك والاختصاص كما تقدّم، وهنا قد يُطرح سؤال نقدي عليه، وهو أنّ مجرّد كون الصلاة مشتركة بين النبيّ وسائر الناس دون التبليغ لا يرفع إشكال الآخرين بأنّه لو سها النبيّ في الصلاة فسوف يسهو في التبليغ؛ إذ أيّ ترابط بين العموميّة والخصوصيّة وبين موضوع بحثنا؟! ومجرّدُ خلع صفة العموميّة والخصوصيّة على نوعين من الأفعال لا يكفي لمنع عبور السهو من الأمر المشترك إلى الأمر الخاصّ! فماذا يريد الصدوق من وراء استخدام ثنائيّة العموم والخصوص في منع استدلال نفاة السهو؟!

يمكن أن يكون مقصود الصدوق شيئًا آخر، وهو أنّ التعيير الذي أشارت إليه الرواية لا معنى له في حالة التبليغ؛ إذ لن يكون هناك مبلّغ للوحي بعد النبيّ حتى إذا سها عيّره الناس، فليس للتعيير حينئذ ظروف موضوعيّة. بينما الصلاة التي هي عمودُ الدين يمكن فرض التعيير فيها من قبل الناس، وبالتالي تقبل أن يدفَع المُعيَّرُ عن نفسِه التعييرَ بسهوه في الصلاة بوقوع ذلك من النبيّ، فالصدوق طرح فكرة الخصوصيّة والعموميّة انطلاقًا من المبدأ الذي جاء في ذيل الرواية، لا لمجرّد الخصوص والعموم.

وربما لا يكون هذا الكلام مقنعًا أيضًا لخصوم الصدوق؛ فدفع التعيير ليس بالضرورة أن يكون بالأمر المشترك، إذ بإمكان الناس أن ترفع التعيير بالقول بأنّ النبيَّ سها في أعظم مهمّة كُلّفَ بها، وهو التبليغ، فكيف لا أسهو أنا في الصلاة؟ بل دفع التعيير من خلال السهو في التبليغ سيكون أقوى وأجدى. وبالتالي فلا يرتفع الإشكال بمجرّد إدخال مفهوم التعيير.

والسؤال الأبرز هنا في تحليل موقف الصدوق هو أنّه لو صحّ كلامه عقلًا في إمكانيّة التفكيك بين التبليغ وغيره من الأفعال، بمنع عروض الخلل على النبيّ في التبليغ دون غيره، فإنّ تحليل الصدوق لباب العموميّة والخصوصيّة في المقام لا يسمح بحصر الموضوع في السهو فقط، وإنما يفتحه على الخطأ، فهل سيوافق في نظريّة العصمة عمومًا على تمييزٍ من هذا النوع فيقول بإمكان الخطأ على النبيّ في غير التبليغ دونه؟! وبعبارة أخرى: إذا كانت العمومية والخصوصية قد أسعفت الصدوق في تمييز السهو في الصلاة عن السهو في التبليغ، فهل يوافق على أن تسعفه العمومية والخصوصية في تمييز خطأ النبيّ في التبليغ عن خطئه في غيره؟ وهل يوافق الصدوقُ الإماميُّ على عدم العصمة في غير التبليغ في مجال الخطأ أو أنّه بهذه المحاولة الجوابية أوقع نفسه في تناقضٍ داخلي في نظريّته العامّة في العصمة؟!

لو أردت السير خلف احتمالات ما يدور في ذهن الصدوق، فربما نخمّن أنّه يرى أنّ الفرق هو في ضمانات وصول الرسالة؛ فالنبيّ في غير التبليغ لا ضرر في سهوه أو إسهائه؛ لأنّ أفعاله الإفراديّة ـ أعني كلّ فعلٍ فعل ـ ليست تبليغًا، وإنّما سنّته العامّة هو التبليغ، أو ما انضمّ من أفعاله إلى أقواله التبيينيّة، كما لو قصّر في ذي خُشُب، وانتقد الذين لم يقصروا ووصفهم بالعصاة، وفقًا لما جاء في الرواية، أمّا ما ينقله عن الله ويبيّن به شريعته ودينه فهذا لا يعقل فيه الإسهاء الموجب لصدور غير الحقّ منه؛ لكونه ناقضًا للغرض.

بل يمكن الذهاب في التفصيل هنا في مفهوم السهو والإسهاء حتى في التبليغ، بطريقة لا ندري موقف الصدوق فيها وما هو مبرّر رفضه عقليًّا وإمكانيًّا لها بعد كلامه هنا، وذلك أنّهم إذا قصدوا من السهو والإسهاء أن يغفل النبيّ عن أمرٍ فيصدر منه غيره، فهذا مضرٌّ بالتبليغ، أمّا لو أُريد منه مطلق النسيان، فأيّ مانع أن ينسى النبيّ الحكمَ الشرعي الذي أمره الله بتبيانه، فلا يقول شيئًا لأنّه ناسٍ، ثم يذكّره الله، فيُعلِم الناسَ بالحكم بعد التذكير الإلهي؟! فإذا قصد من مفاهيم السهو والإسهاء المعنى الأوّل فامتناعه مقبول مثلًا، دون الثاني؛ إذ الثاني لا يضرّ حتى بالتبليغ، فهل يقول الصدوق بذلك؟!

3 ـ الصدوق بين نظريّة السهو الشيطاني والإسهاء الإلهي

إنّ الصدوق يميّز هنا بقوّة بين السهو والإسهاء؛ ومعنى ذلك أنّ النبيَّ لا يسهو، لكنّ الله تعالى يتدخّل في بعض الأحيان فيُسهيه، لهدفٍ خاصّ ومعيّن، وغرض الصدوق هنا الحيلولة دون جعل السهو من الشيطان، فسهو الناس من الشيطان، بينما سهو النبيّ من الله، وبهذا حافظ الصدوق على حماية النبيّ من الشيطان في عمليّة السهو، وهو بذلك يريد تأكيد عصمته في الوقت الذي يؤيّد إسهاءه، والغرض الإلهي هو أن لا يتصوّر الناس في النبيّ الألوهيّة من جهة وأن يتعلّموا أحكام دينهم من جهة ثانية.

وهنا أسئلة هدفنا منها محاولة اكتشاف ما الذي يتوقّع أن يكون رأي الصدوق فيها:

أ ـ هل يعتقد الصدوق بأنّ السهو ـ بوصفه ظاهرة بشريّة عامّة ـ إمّا رحماني أو شيطاني ولا ثالث لهما؟ وإذا كان يعتقد ذلك فما هو الدليل عنده عليه؟

لقد نصّت بعض الآيات والروايات على أنّ الشيطان يمكن أن ينسي الإنسان، قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنعام: 68)، وقال سبحانه: ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ (يوسف: 42)، وقال تعالى: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾ (الكهف: 63).

لكنّ هذه النصوص وأمثالها لا تُعطي قاعدةً عامّة حتى يكون سهو النبيّ إذا لم يكن من الله ـ بالطريقة التي فهمها الصدوق في موضوع سهو النبيّ ـ فهو من الشيطان بالضرورة، إذ هو ناشئ من الطبيعة الإنسانيّة والتركيبة الجسديّة والعصبيّة والدماغية للبشر.

يحتاج هنا نخوض أكثر في فهم تحليل الصدوق وجوابه عن هذا السؤال المفترض. لكن ثمّة ما يجعلنا نخصّص الدائرة ونطرد الاحتمالات الأخرى؛ لأنّ الصدوق يتعامل هنا مع الروايات الدالة على سهو النبيّ في الصلاة، وهنا من الممكن له أن يقول بأنّ هذا السهو حيث وقع داخل أمرٍ عبادي ـ وهو الصلاة ـ فيتقوّى احتمال أنّ مرجعه للشيطان، أو يقال بأنّ كونه من الشيطان يخالف نفي سلطنته على العباد المخلصين، أو يستعان بروايات سجود السهو وإطلاق تعبير «المرغِمتان» عليهما في الروايات ونحو ذلك، ومع انحصار الموضوع في هذين الاحتمالين نسب الإسهاء إلى الله؛ لحماية الدائرة النبويّة.

ب ـ السؤال الآخر الذي يمكن طرحه على الصدوق في هذه الحواريّة المفترَضة هو أنّه إذا كان الصدوق يفصل بين مفهوم السهو ومفهوم الخطأ، فهذا يعني أنّ عليه أن يوافق على عروض الخطأ على النبيّ أيضًا لعين الأسباب التي برّر بها السهو عليه، كتعليم الدين ونفي تصوّرهم الربوبيّة له، فلا مانع أن يقتل النبيُّ مؤمنًا خطأ، أو يتصرّف في مال مسلمٍ عن طريق الخطأ والاشتباه بظنّ أنّه ماله، وهكذا. ولا أدري هل يوافق الصدوق على هذا أو لا؟ وهذا ما أورده عليه خصومه كما سنلاحظ بعدُ.

ليس غرضي هنا حاليًّا هو النقد، بل الذهاب مع الصدوق في تحليله، حتى إذا لم يكن يوافق على الخطأ النبويّ لزم النقض عليه به هنا؛ لنرى ما هي تصوّراته عن تفكيك المواقف.

ج ـ إنّ فكرة سهو النبيّ لأجل التعليم تبدو لي غير مفهومة، لو أخذت وحدها بصرف النظر عن المبرّر الثاني، إذ التعليم لا يحتاج لوقوع شخص النبيّ في السهو، بل يمكن أن يقع مباشرة بالتبيان أو بوقوع مؤمن من المؤمنين بالسهو فتكون حادثته بمنزلة فرصة تعليميّة لعموم المؤمنين، فلماذا يعرّض الله النبيّ نفسه للسهو بهدف تعليم الناس حكمًا شرعيًّا؟! إنّ هذا يظلّ في قائمة الاحتمالات المنطقية الخالصة، في حين نحن نفضّل أن نبحث عن العوامل الموضوعيّة التي تتطلّبها طبيعة الأشياء.

د ـ إنّ قول الصدوق بأنّه لو رُدّت الأخبار هنا للزم ردّها في مختلف المجالات، نابع في تقديري عن مقاربته للنصوص الحديثية التي وردت في موضوع سهو النبيّ من حيث الكمّ ونوعية المصادر والأسانيد، ومن حيث التعاضد. لكنّ السؤال هو أنّ الرادّ للأخبار هنا ـ وهي تزيد عن عشرين رواية بينها أكثر من خمس روايات صحيحة الإسناد ـ ينطلق في ردّه من وجود أدلّة مناقضة ولو من العقل، ولا يتوفّر هذا بسهولة في أكثر الروايات التي تستوعب الأخلاق والشريعة والتاريخ وكثير من التكوينيات والعقائديّات وغير ذلك. وبعبارة ثانية: لم ينبّه الصدوق هنا على أنّ خصومه الرافضين لسهو النبيّ لا يتعاملون مع هذه الروايات من نفس المنطلق الذي تعامل معه هو، بل يتعاملون معها على أنها روايات تخالف حكم العقل، وبخاصة أنّها جاءت في مجال البحث العقديّ لا في الفقه أو الأخلاق أو التاريخ، الأمر الذي يضعّف من قوّتها. وكان ينبغي عليه أن يفصّل بين موضوعنا هنا حيث تكون الروايات في مظنّة مخالفة حكم العقل وبين سائر الموضوعات، فلا يصح حينئذ إشكاله بأنّ ردّ الروايات هنا يستلزم ردّها في سائر الأبواب دون تفصيل بين نمطين من الروايات. فما هو موقف الصدوق من ردّ الروايات ولو الكثيرة لمناقضتها للعقل؟ ألم يقم هو نفسه بذلك في مواضع أُخَر؟ هل من المعقول أنّه لم يكن ملتفتًا للمبرّرات الموضوعيّة التي طرحوها رغم أنّه أشار لمبرّر عقلي لهم في بداية كلامه كما قلنا؟!

 

ثانياً: موقف الشيخ المفيد وقراءته النقديّة للصدوق

في عرض وتحليل موقف المفيد وقراءته النقديّة، تستوقفني مجموعة نقاط:

1 ـ الطعن الشخصي وتجريد الصدوق من خبرويّة البحث!

في الرسالة المنسوبة للمفيد في نفي السهو، وهي رسالة مختصرة جدًّا، يظهر لنا المفيد عنيفًا أيضًا في التعامل مع الشيخ الصدوق، ففي بداية الرسالة، وبعد عرضه كلام الصدوق، قال: «وسألت ـ أعزّك الله بطاعته ـ أن أثبت لك ما عندي فيما حكيته عن هذا الرجل، وأبين عن الحقّ في معناه، وأنا مجيبك إلى ذلك، والله الموفّق للصواب. إعلم، أنّ الذي حكيت عنه ما حكيت، مما قد أثبتناه، قد تكلّف ما ليس من شأنه، فأبدى بذلك عن نقصه في العلم وعجزه، ولو كان ممّن وفّق لرشده لما تعرّض لما لا يحسنه، ولا هو من صناعته، ولا يهتدي إلى معرفة طريقه، لكنّ الهوى مودٍ لصاحبه، نعوذ بالله من سلب التوفيق، ونسأله العصمة من الضلال، ونستهديه في سلوك منهج الحقّ، وواضح الطريق بمنّه» (المفيد، عدم سهو النبيّ: 20، تحقيق: محمّد رضا الجلالي، نشر دار المفيد، بيروت، الطبعة الثانية، 1993م).

لا يحتاج الموقف إلى تعليق، وليست هذه أوّل مرّة يتعامل فيها المفيد مع خصومه داخل المذهب، فضلًا عن خارجه، وبخاصّة مع الصدوق، بهذه الطريقة المألوفة في تلك القرون! وقد فَعَلها مع ابن الجنيد وغيره. لكنّ السؤال: لماذا هذا التمهيد بالطعن في "الرجل"؟

لأنّ هذه هي وسائل إسقاط الأفكار عبر إسقاط الرجال، فكما طعن الصدوق في نفاة السهو طعنًا غير مباشر عبر إقحام الغلاة والمفوّضة مستخدمًا أسلوب اللعن، في نوع من الاغتيال الاجتماعي والفكري، جاءه الردّ على طريقةٍ مشابهة، ليتّهمه بأنّه لا يملك خبرة في مثل هذه القضايا، ولا يمكنه الاعتماد على خبراته الناقصة وعلمه المحدود.

وغالب الظنّ أنّ المعركة هنا هي معركة أهل الحديث مع أهل العقل، أو معركة المعتزلة مع أهل الحديث، فالمفيد ينظر للصدوق على أنّه لا خبرة له في مجال علم الكلام، بل هو رجلٌ محدّث راوية، وعلمُ الكلام يحتاج لأدواته العقليّة المعروفة؛ لأنّ مفهوم علم الكلام عند مثل المفيد متقوّم بالنزعة المعتزلية العقليّة والجدليّة، كما سنرى هنا أيضًا في هذه الرسالة نفسها.

2 ـ نقد مرجعيّة أخبار الآحاد، مدخل منهجي

الخطوة المنهجيّة الأولى التي يشرع بها المفيد هنا ترتبط بعدم حجيّة خبر الواحد، حيث عرفنا أنّ الصدوق ينطلق من ذهنيّة المحدّثين المشتغلين على مرجعيّة الأخبار في تناول القضايا الكلاميّة، بينما ينطلق المفيد من ذهنيّة المتكلّمين الذين يأسّسون بحثهم على مرجعيّة العقل والنصوص الكبرى في الكتاب والسنّة، وليس على أخبار الآحاد. لذلك يقول نافيًا مرجعيّة خبر الواحد: «الحديث الذي روته الناصبة، والمقلّدة من الشيعة، أنّ النبيّ‘ سها في صلاته، فسلّم في ركعتين ناسيًا، فلما نبّه على غلطه فيما صنع، أضاف إليها ركعتين، ثم سجد سجدتي السهو، من أخبار الآحاد التي لا تثمر علمًا، ولا توجب عملًا، ومن عمل على شيء منها فعلى الظنّ يعتمد في عمله بها دون اليقين، وقد نهى الله تعالى عن العمل على الظنّ في الدين، وحذّر من القول فيه بغير علم ويقين.. وإذا كان الخبر بأنّ النبيّ‘ سها من أخبار الآحاد التي من عمل عليها كان بالظنّ عاملًا، حرُم الاعتقاد بصحّته، ولم يجز القطع به، ووجب العدول عنه إلى ما يقتضيه اليقين من كماله‘ وعصمته، وحراسة الله تعالى له من الخطأ في عمله، والتوفيق له فيما قال وعمل به من شريعته، وفي هذا القدر كفاية في إبطال مذهب من حكم على النبيّ‘ بالسهو في صلاته، وبيان غلطه فيما تعلّق به من الشبهات في ضلالته» (عدم سهو النبيّ: 20 ـ 22).

والمفيد هنا يعمل على وفق القاعدة التي كرّرها مرّاتٍ كثيرة في كتبه من عدم حجيّة خبر الواحد، لا في علمٍ ولا في عمل، أي لا في عقائد وأمثالها ولا في فقهٍ وأخلاق وشرائع، وبالتالي فنقده لكلام الصدوق يصبّ في أصل المنهج المعرفيّ الذي اعتمد عليه لإثبات سهو النبيّ.

ونحن نوافق المفيدَ في أصل المنهج والقاعدة، لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا اعتبر المفيد أخبار السهو آحاديّةً ظنيّة مع أنّه يتعامل مع غيرها من الروايات التي وردت بهذا الكمّ والكيف معاملة موثوق الصدور؟!

في تحليلي يوجد منطلقان محتملان هنا:

المنطلق الأوّل: إنّه رصد الموروث الحديثيّ المتّصل بقضية سهو النبيّ، فرأى أنّها أخبار آحاد قليلة العدد لا ترقى بتعاضدها إلى مرتبة اليقين ولا يطمأنّ بصدورها، فطبّق عليها قاعدته المنهجيّة في عدم الأخذ بأخبار الآحاد.

المنطلق الثاني: أنّه اطّلع عليها ووجدها وافرة العدد ولكنّه رآها معارضة لما دلّ باليقين على العصمة من العقل والنقل جميعًا، فوصفها بأنّها آحاد لسقوطها بالمعارضة عن قوّة الاحتمال إلى درجة الظنّ وأمثاله، وهو ما قد تشير إليه عبارته حول العدول من الظنّ إلى اليقين.

إذا أخذنا بالمنطلق الأوّل وهو محتمل هنا ولو احتمالًا بدويًّا؛ لأنّ المفيد يُفرد عبارة "الرواية"، وفي مطلع الرسالة يتحدّث عن خبرٍ آحادي وهو صحيحة سعيد الأعرج (الكافي 3: 357؛ وتهذيب الأحكام 2: 345)، التي جاء تعليق الصدوق في الحقيقة عليها في كتاب "الفقيه".. إذا أخذنا هذا المنطلق فمن الواضح أنّ المفيد:

أ ـ إمّا أنّه لم يطّلع على روايات سهو النبيّ عند الشيعة، وظنّ أنّ الرواية ليست إلا صحيحة الأعرج، وهذا يكشف عن قلّة تتبّعه في نصوص السهو، وإن كان سيظهر منه أنّه مطّلع على غير خبر سعيد الأعرج.

ب ـ أو أنّه اطّلع عليها، ولكنّه أراد إيهامنا ـ لغرض النقد الجدليّ ـ بأنّها ليست إلا أخبارًا آحاديّة، مع أنّها تزيد عن عشرين رواية عند الشيعة فقط، فضلًا عما عند أهل السنّة، ووردت في الكتب الأربعة، وفيها أكثر من خمس روايات صحيحة الإسناد، وعليه فليس للمفيد الحقّ في عمليّة الإيهام هذه، بل هو تصرّف غير مبرّر لو كان قد قصده، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مثل هذه الدوافع قد احتملها السيّد محمّد رضا السيستاني عند الحديث عن قيمة توثيقات الشيخ المفيد الرجاليّة وعلّقنا عليها في محلّه من كتابنا "منطق النقد السندي"، فراجع.

ج ـ أو أنّه يعتبر أنّ هذا العدد من الروايات أيضًا خبر آحادي لا يرقى لمستوى اليقين، وهذا أمر معقول منه، لكنّ السؤال هو أنّ المفيد في عشرات المواضع من كتبه عمل بما هو أقلّ عددًا من هذه الروايات، والمفروض أنّه يعتمد على العلم واليقين. ما لم نقل بأنّ الإجماع والشهرة مع مثل هذا العدد من الروايات هما اللذان كانا يسعفانه في تحصيل الوثوق بصدور تلك الروايات، أما هنا فليس الموضوع إجماعيًّا ولا مشهورًا فلعلّه لذلك رفض الروايات.

إذن نحن أمام احتمالات متعدّدة في تحليل موقف المفيد من آحاديّة روايات السهو، واللافت هنا أنّه نسب هذه الرواية في السهو إلى النواصب ومقلّدة الشيعة. ولعلّه يريد من النواصب أنّ رواية السهو من أهل السنّة فعبّر عنهم بالنواصب! وإلا فإنّ خبر سعيد الأعرج ليس في سنده أيّ من النواصب، بل عمدة روايات السهو الشيعيّة لا نجد في أسانيدها أحدًا متهمًا ولو برائحة النصب، بل كثير منها رواته شيعة، وصحيح الإسناد حتى على معايير خبر العدل. ولعلّه فعل هنا كما فعل الصدوق حين استخدم مغالطة المنشأ لينبّه على أنّها جاءت من النواصب ثمّ بعد ذلك وُضعت الأحاديث من قبل غيرهم تأثّرًا بهم.

أمّا إذا أخذنا بالمنطلق الثاني، فهو أكثر منطقيّةً على قواعد النقد المتني، لكن لا يحسن التعبير هنا بأنّها أخبار آحاديّة من جهة الاصطلاح، بل ليس تعبيرًا متعارفًا، بل ينبغي أن يقال في مثل هذه الحالات بأنّها أخبار كثيرة غير أنّنا نطرحها أو نكِل علمها إلى أهلها؛ لكونها مخالفة للمقطوع به من الكتاب والعقل مثلًا، فإقحام مفهوم خبر الواحد غير صحيح على هذا التقدير وفقًا لأدبيات التعابير التراثيّة.

3 ـ النقد المتني على أخبار السهو النبويّ

الخطوة الثالثة التي يمارسها المفيد هنا هو النقد المتنيّ على أخبار السهو النبويّ، يفنّد فيها سيناريو أحداث الروايات وتفاصيلها، ويبرز فيها نقاط الضعف والخلل لينتهي إلى عدم إمكان الاعتماد عليها بوجهٍ من الوجوه، فيقول: «على أنّهم قد اختلفوا في الصلاة التي زعموا أنّه‘ سها فيها، فقال بعضهم: هي الظهر. وقال بعضٌ آخر منهم: بل كانت عشاء الآخرة. واختلافهم في الصلاة ووقتها دليلٌ على وهن الحديث، وحجّة في سقوطه، ووجوب ترك العمل به وإطراحه. على أنّ في الخبر نفسه ما يدلّ على اختلاقه، وهو ما رووه من أنّ ذا اليدين قال للنبيّ‘ لما سلّم في الركعتين الأولتين من الصلاة الرباعيّة: أقصرت الصلاة يا رسول الله، أم نسيت؟ فقال على ما زعموا: "كلّ ذلك لم يكن". فنفى‘ أن تكون الصلاة قصرت، ونفى أن يكون قد سها فيها. فليس يجوز عندنا وعند الحشويّة المجيزين عليه السهوَ، أن يكذب النبيّ‘ متعمّدًا ولا ساهيًا، وإذا كان قد أخبر أنّه لم يسهُ، وكان صادقًا في خبره، فقد ثبت كذب من أضاف إليه السهو، ووضح بطلان دعواه في ذلك بلا ارتياب» (عدم سهو النبيّ: 22 ـ 23).

ثمّ تابع المفيد سلسلة مقارباته النقديّة على المتن قائلًا: «ومما يدلّ على بطلان الحديث أيضًا اختلافهم في جبران الصلاة التي ادّعوا السهوَ فيها، والبناء على ما مضى منها، أو الإعادة لها. فأهل العراق يقولون: إنّه أعاد الصلاة؛ لأنّه تكلّم فيها، والكلام في الصلاة يوجب الإعادة عندهم. وأهل الحجاز ومن مال إلى قولهم يزعمون أنّه بنى على ما مضى، ولم يُعد شيئًا قد تقضى، وسجد لسهوه سجدتين. ومن تعلّق بهذا الحديث من الشيعة يذهب فيه إلى مذهب أهل العراق؛ لأنّه متضمّن كلام النبيّ‘ في الصلاة عمدًا، والتفاته عن القبلة إلى من خلفه، وسؤاله عن حقيقة ما جرى، ولا يختلف فقهاؤهم في أنّ ذلك يوجب الإعادة. والحديث يتضمّن أنّ النبيّ‘ بنى على ما مضى (ولم). وهذا الاختلاف الذي ذكرناه في هذا الحديث أدلّ دليل على بطلانه، وأوضح حجّة في وضعه واختلاقه» (المصدر نفسه: 24).

والحاصلُ أنّ في متن هذه الروايات اضطراباتٍ متعدّدة تمنع من الأخذ بها، وهي باختصار: الاختلاف في تحديد الصلاة التي وقع فيها السهو ففي بعض الروايات صلاة الظهر وفي بعض آخر العشاء الآخرة؛ لزوم نسبة الكذب فيها إلى النبيّ‘؛ لأنّها جمعت بين نفيه لوقوع النسيان والسهو منه ونفيه لنزول حكم القصر في الصلاة حيث قال‘: "كلّ ذلك لم يكن" مع أنّ ذلك غير صحيح؛ لأنّ الأمر دائر بين وقوع السهو منه أو نزول الحكم بوجوب قصر الصلاة. ونسبة الكذب إلى النبيّ‘ لا يقول به أحد ويتنافى مع جميع الفرق حتّى مع الحشويّة الذين نسبوا إليه السهو؛ وأيضاً اشتمالها على ما لا يمكن الموافقة عليه ممّا يخالف مرتكزات الفقه الجعفريّ في وجوب إعادة الصلاة وهو مذهب أهل العراق، حيث إنّ الروايات نصّت على أنّه‘ بنى على ما مضى وسجد سجدتي السهو ولم يعد، مع أنّ الأدلّة قائمة على بطلان الصلاة في مثل هذه الحالة، وغير ذلك ممّا سيأتي لاحقًا. وهذا التهافت كاشفٌ ـ بتقدير المفيد ـ عن ركاكة الحديث بل دالّ على وضعه واختلاقه.

وربما يناقش كلام المفيد هنا من جهات متعدّدة:

أوّلًا: إنّ اختلاف الروايات في تحديد الصلاة ـ لو سلّمنا أنّه موجودٌ في الرواية الشيعيّة أيضًا وليس فقط في الرواية السنّيّة ـ لا يوجب إبطال الحديث؛ لأنّ إمكانيّة سهو الراوي في روايةٍ هنا أو هناك على مستوى تفصيل أنّها صلاة الظهر أو صلاة العشاء، لا يوجب الشكّ فيه أو الطعن بالوثوق في نقله أو ادّعاء اختلاق الرواية، إذ غاية ما يمكن أن يقال بأنّ الحادثة وقعت غير أنّ تحديد نوع الصلاة غير مؤكّد لاختلاف الروايات ولا يلزم من ذلك سقوطها عن الحجيّة والاعتبار، فإنّ مثل هذه الاختلافات الطفيفة كثيرٌ للغاية في مختلف روايات المسلمين، وفي الكثير جدًا من الروايات الشيعيّة التي يعمل بها المفيد وغيره. ويتضح هذا الأمر بسهولة عندما ندرك أنّ الناقل المشتبه في هذا التفصيل الصغير ليس هو الراوي الأوّل حتّى نقول بأنّه لا يُعقل أن يسهو عن نوعيّة الصلاة، بل قد يكون الراوي الثاني أو الثالث الواقعَين في سلسلة السند، وأيّ ضيرٍ في ذلك؟! كيف وقد ذكر بعض الباحثين المعاصرين في مجال علم الحديث أنّ نسبة الاختلافات اللفظيّة والزيادة والنقيصة في حديث الثقلين في المصادر الشيعيّة فقط بلغت 234 اختلافًا متنيًّا (انظر: مهدي مهريزي، حديث پژوهى 1: 193 ـ 194، وقد نقل هذه الإحصائيّة عن عليرضا برازش، في "طرح جامع الأحاديث")، وهو ما ينشأ في العادة عن النقل بالمعنى أو السهو الطفيف أو ما شابه ذلك، بل لعلّه يمكننا ادّعاء أنّ بناء الرواية في التراث الحديثي الإسلامي هو على ذلك.

ثانيًا: إنّ إشكال المفيد على الرواية التي وردت فيها صيغة: "كلّ ذلك لم يكن"، غايته سقوط هذه الرواية بهذه الصيغة عن الحجيّة والاعتبار؛ لكنّ أغلب الروايات الشيعيّة والسنيّة ليس فيها هذا التعبير أساسًا، فلا يصحّ لمبرّر وجود إشكال على صيغة محدّدة من صيغ نقل الرواية، إسقاطُ الرواية برمّتها عن الاعتبار في صيغها كلّها، وهذا واضح.

ثالثًا: إنّ الذي يقول بسهو النبيّ في الموضوعات لا يمكن أن نُشكل عليه بإشكاليّة الكذب هذه؛ لأنّ الكذب فيه قبحٌ فعليّ وقبحٌ فاعلي، والقبح الفعلي تابعٌ للكذب خارجًا ولا ينسب للفاعل إلا مع قصده أو تقصيره، أمّا القبح الفاعلي فهو بحاجة للقصد والالتفات من الفاعل حتى يُتهم به، والقائل بسهو النبي في الموضوعات إنّما ينفي عنه القبح الفاعلي في الكذب، أمّا القبح الفعلي في الكذب، والذي يكون أحد مصاديقه الاشتباه والخطأ، فهذا إنّما يرفضه القائلون بالعصمة مطلقًا، بخلاف القائلين بعدم العصمة في الموضوعات الخارجيّة ـ وهنا جوابُ النبيّ متصلٌ بموضوعٍ خارجيّ، وهو أنّه صلّى بهذه الطريقة أو تلك ـ فلا يُشكل عليهم بصدور الكذب من النبيّ بهذا المعنى، بل قاعدةً يفترض بمن يرى سهو النبيّ أن يوافق على أنّه لو سُئل حال كونه ناسيًا أن يجيب بما لا يطابق الواقع، وإلا فلن يكون ناسيًا، فإشكال المفيد غير عامّ، بل يتوجّه ضدّ من يرى العصمة عن الخطأ مطلقًا، أمّا من لا يراها، كبعض متكلّمي وفقهاء وأصوليّي أهل السنّة، فلا.

رابعًا: إنّ إشكاليّة الموقف من إعادة الصلاة وعدمها في هذه الحال أقصى ما فيه هو أنّ الأدلّة والروايات الدالّة على إعادة الصلاة في مثل هذه الحال، نتيجة الالتفات عن القبلة أو الكلام مع الآخرين بكلام الآدميين ونحو ذلك.. تعارض روايات سهو النبيّ، لا أنّها تثبت بطلان هذه الروايات، فنحن لا نستطيع أن نثبت وجوب إعادة الصلاة في مثل هذه الحالات قبل أن نحسم موضوع روايات السهو نفسها فهي من أدلّة عدم وجوب الإعادة، وحينئذ فالروايات الدالة على وجوب الإعادة تكون معارضة لروايات السهو لا أنها راجحة عليها رأسًا؛ لأنّ لها دورًا في حسم الحكم بالوجوب، ومن ثمّ فبعد المعارضة يجب علينا النظر في أيّ من المجموعتين ينبغي ترجيحه؟ وهل يمكن الجمع العرفي بينهما أو لا؟ لا أنّ ذلك يوجب سقوط روايات السهو عن الحجيّة وبطلانها واختلاقها كما عبّر المفيد، فهذا من نوع اتخاذ حكمٍ مسبق، ثمّ محاكمة الأدلّة المعارضة على وفق الحكم المسبق، مع أنّ هذا غير صحيح منطقيًّا.

ولعلّ الطرف الآخر يقول بأنّ ما دلّ على وجوب إعادة الصلاة في هذه الحال يخصَّص بغير حال سهو إمام الجماعة؛ لأنّ النسبة هنا هي بين المطلق (أدلّة الإعادة) والمقيّد (روايات سهو النبيّ)، أو ربما يقول بأنّ فعل النبي تمّ نسخه بعد هذه الحادثة، أو غير ذلك، فالاستعجال بالحكم مباشرة على روايات السهو النبويّ غيرُ صحيح.

4 ـ إلحاق المفيد روايات السهو بالروايات القادحة في الأنبياء و..

يطرح المفيد فضاءً حديثيًا نقليًّا في الوسط الإسلامي، ويرى أنّ روايات السهو النبويّ تنتمي لهذا الفضاء، ومن ثمّ يلزم الصدوق أن يؤمن بهذا الفضاء كلّه حتّى لا يكون مغاليًا بحسب دعواه! فيقول: «إنّ الرواية له من طريقي الخاصّة والعامة، كالرواية من الطريقين معًا: أنّ النبيّ‘ سها في صلاة الفجر وكان قد قرأ في الأولى منهما سورة النجم، حتى انتهى إلى قوله: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى)، فألقى الشيطان على لسانه (تلك الغرانيق العلى، وإنّ شفاعتهنّ لترتجى) ثمّ تنبّه على سهوه فخرّ ساجدًا، فسجد المسلمون، وكان سجودهم اقتداءً به. وأمّا المشركون فكان سجودهم سرورًا بدخوله معهم في دينهم. قالوا: وفي ذلك أنزل الله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنِيَّتِه) يعنون في قراءته، واستشهدوا على ذلك ببيتٍ من الشعر وهو:

تمنّى كتاب الله يتلوه قائمًا

وأصبح ظمآنًا وقد فاز قاريا

وليس حديث سهو النبيّ‘ في الصلاة أشهر في الفريقين من روايتهم أنّ يونس× ظنّ أنّ الله تعالى يعجز عن الظفر به، ولا يقدر على التضييق عليه، وتأوّلوا قوله تعالى: (فظنّ أن لن نقدر عليه) على ما رووه واعتقدوه فيه. وفي أكثر رواياتهم أنّ داود× هوى امرأة أوريا بن حنان، فاحتال في قتله، ثم نقلها إليه. وروايتهم أنّ يوسف بن يعقوب ـ عليهما السلام ـ همّ بالزنا، وعزم عليه. وغير ذلك من أمثاله. ومن رواياتهم التشبيه لله تعالى بخلقه، والتجوير له في حكمه. فيجب على الشيخ ـ الذي حكيت أيّها الأخ عنه ـ أن يدين الله بكلّ ما تضمّنته هذه الروايات، ليخرج بذلك عن الغلوّ على ما ادّعاه، فإن دان بها، خرج عن التوحيد والشرع، وإن ردّها ناقض في اعتلاله، وإن كان ممن لا يحسن المناقضة، لضعف بصيرته، والله نسأل التوفيق» (عدم سهو النبيّ: 25 ـ 27).

وحاصل ما يريد المفيد أن يقوله: إنّ روايات السهو النبويّ تنتمي إلى هذه المجموعة من الأحاديث القادحة بمنزلة الأنبياء، ولا فرق بينها وبين أمثال رواية الغرانيق التي عبّرت عن النبيّ أنّه سها فخرج منه هذا الكلام، وبالتالي فلا يصحّ أن نفصّل فنأخذ بروايات السهو ونترك ما عداها، بل إذا قبلت واحدةً من هذه المجموعة فعليك أن تقبل الباقي، وهذا خروج من الملّة، وإلّا فجميعها مرفوض مردود.

ويمكن التعليق على كلام المفيد بتوليفةِ ملاحظات مجتمعةً:

أوّلًا: إنّ رواية الغرانيق من باب سهو النبيّ في مقام التبليغ، وهو مرفوض عند الصدوق الذي يميّز بين الحالات المشتركة والحالات الخاصّة كما تقدّم في تحليل مطلع كلامه، ففي مقام التبليغ وبخاصّة تبليغ القرآن لا يمكن السهو عليه، ولا الخطأ؛ لأنّ هذا هو القدر المتيقّن من عصمة النبيّ المطلقة، فيما الذي نحن فيه لا علاقة له بالتبليغ وبيان الدين في الصلاة، وبخاصّة أنّ النبيّ لم يكن في مقام تعليمهم كيفيّة الصلاة، وإنّما كان يصلّي على الشريعة التي بيّنها لهم من قبل. فلا يلزم أن يتّحد الموقف في التعامل مع الروايتين.

ثانيًا: إنّ روايات التشبيه والتجسيم وقصص يونس وداود ويوسف لا علاقة لها ببحث السهو أصلًا، لأنّها تنتمي إلى مسألة توحيد الله تعالى وصفاته أو مرتبطة ببحث العصمة عن الذنوب والآثام وما أشبه ذلك، وأيّ ربط بين الأمرين حتى نعيّر الصدوق بها؟!

ثالثًا: لعلّ المفيد ـ وهو راجحٌ من كلامه ـ يقصد أنّ الصدوق إذا أراد العمل بروايات أهل السنّة في مسألة سهو النبيّ، فعليه أن يعمل برواياتهم في قصص الأنبياء وفي التشبيه والتجسيم أيضًا، فالكلّ رواية لهم، فلماذا يعمل بهذه دون تلك؟!

ولكنّ هذا الإشكال من المفيد في غاية الغرابة؛ وذلك أنّ الرجل يعمل بروايات الشيعة هنا وليس بروايات السنّة، وهذا ما يجعلنا حائرين ـ كما قلنا سابقًا ـ في أنّ المفيد يعرف الروايات الشيعيّة أو لا يعرفها أو يتجاهلها أو يمارس نقدًا جدليًّا فقط هنا أو نحو ذلك؟! ثم لو فرضنا أنّ الصدوق عمل بالرواية السنّية في موضوع السهو، فلماذا يجب عليه أن يعمل بجميع الروايات؟ إذ من الممكن أن لديه أدلّة قطعيّة على نفي الذنوب مطلقًا عن الأنبياء وكذلك على نفي التجسيم، فيردّ روايات أهل السنّة الواردة في ذلك، وليس لديه نافٍ لروايات سهو النبيّ فلا يردّها.

والأغرب من ذلك أنّ كتب المفيد في الأمالي والإرشاد وغيرهما مليئةٌ برواياتٍ غير شيعيّة، بل مصادرها كلّها كتب الحديث والتاريخ والرواة السنّة، فلماذا يجوز له الأخذ وتداول هذه المرويّات ولا يجوز للصدوق ذلك؟!

بل توجد روايات تفتح الطريق على الأخذ من مصادر أهل السنّة، نذكر بعضها بصرف النظر عن سندها، ولعلّها مستند الصدوق هنا في أخذه بروايات سنيّة، وقد تعرّضنا لها بالتفصيل في بعض كتبنا، فراجع (الحديث الشريف، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 1: 168 ـ 174):

منها: مرسل الطوسي، عن الإمام جعفر الصادق أنّه قال: «إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما رووا عنّا، فانظروا إلى ما رووا عن عليّ×، فاعملوا به» (العدّة في أصول الفقه 1: 149 ـ 150).

ومنها: خبر هشام بن سالم، قال: قلت لأبي عبد الله×: جعلت فداك، عند العامة من أحاديث رسول الله‘ شيء يصحّ؟ قال: فقال: «نعم، إنّ رسول الله‘ أنال وأنال وأنال، وعندنا معاقل العلم وفصل ما بين الناس» (بحار الأنوار 2: 214. وانظر روايات شبيهة بهذه، في: المصدر نفسه 2: 214 ـ 215؛ والاختصاص: 307 ـ 308).

5 ـ المفيد وإشكاليّة الإنامة

تعرّض المفيد أيضًا لقضيّة النوم النبويّ، وقارنها بقضيّة السهو، فقال: «والخبر المرويّ أيضًا في نوم النبيّ× عن صلاة الصبح من جنس الخبر عن سهوه في الصلاة، وإنّه من أخبار الآحاد التي لا توجب علمًا ولا عملًا، ومن عمل عليه فعلى الظنّ يعتمد في ذلك دون اليقين، وقد سلف قولنا في نظير ذلك بما يغني عن إعادته في هذا الباب. مع أنّه يتضمّن خلاف ما عليه عصابة الحقّ؛ لأنّهم لا يختلفون في أنّه من فاتته صلاة فريضة فعليه أن يقضيها أيّ وقت ذكرها، من ليل أو نهار ما لم يكن الوقت مضيّقًا لصلاة فريضة حاضرة. وإذا حرم على الإنسان أن يؤدّي فريضة قد دخل وقتها ليقضي فرضًا قد فاته، كان حظر النوافل عليه قبل قضاء ما فاته من الفرض أولى. هذا مع الرواية عن النبيّ× أنّه قال: «لا صلاة لمن عليه صلاة». يريد أنّه لا نافلة لمن عليه فريضة. ولسنا ننكر بأن يغلب النوم الأنبياء ـ عليهم السلام ـ في أوقات الصلوات حتى تخرج، فيقضوها بعد ذلك، وليس عليهم في ذلك عيب ولا نقص؛ لأنّه ليس ينفكّ بشرٌ من غلبة النوم؛ ولأن النائم لا عيب عليه، وليس كذلك السهو، لأنّه نقص عن الكمال في الإنسان، وهو عيب يختصّ به من اعتراه. وقد يكون من فعل الساهي تارةً، كما يكون من فعل غيره، والنوم لا يكون إلا من فعل الله تعالى، وليس من مقدور العباد على حال، ولو كان من مقدورهم لم يتعلّق به نقص وعيب لصاحبه لعمومه جميع البشر، وليس كذلك السهو؛ لأنّه يمكن التحرّز منه. ولأنّا وجدنا الحكماء يجتنبون أن يودعوا أموالهم وأسرارهم ذوي السهو والنسيان، ولا يمتنعون من إيداع ذلك من يغلبه النوم أحيانًا، كما لا يمتنعون من إيداعه من يعتريه الأمراض والأسقام. ووجدنا الفقهاء يطرحون ما يرويه ذو السهو من الحديث، إلا أن يشركهم فيه غيرهم من ذوي التيقّظ، والفطنة، والذكاء، والحصافة. فعلم فرق ما بين السهو والنوم بما ذكرناه» (عدم سهو النبيّ: 27 ـ 28).

وهنا تعليقات:

التعليق الأوّل: مسألة عدم إمكان الإتيان بالنافلة مع وجود القضاء، مسألةٌ خلافيّة بين فقهاء الشيعة أنفسهم، وكثيرون لا يقولون بها إلى يومنا هذا، وغايته أنّ رواية الإنامة هنا تكون ضمن المجموعة الدالّة على الجواز، فلا بدّ من حلّ التعارض، لا افتراض القضيّة محسومةً مسبقًا، ثمّ الحكم على روايات الإنامة بعد ذلك.

التعليق الثاني: إنّ دعوى أنّ النوم من الله والسهو ليس كذلك مطلقًا، لم يُقم عليه المفيد دليلًا، وقد تحدّثنا عن هذا الموضوع سابقًا فلا نعيد. وسيأتي عند تعليق المفيد على تمييز الصدوق بين الإسهاء الشيطاني والإسهاء الرحماني كلامٌ، فاصبر.

التعليق الثالث: إنّ طريقة مقاربة المفيد لموضوع السهو تحتوي مغالطةً واضحة، فإنّ هناك فرقًا بين السهو والسهو الكثير، والأمثلة التي أتى بها المفيدُ ترتبط بكثير السهو والنسيان وقليل الضبط والحفظ، وإلا فأين عيّر البشر بعضهم بالسهو من حيث المبدأ؟! فالبشر لا يعيّرون بعضهم بمبدأ السهو، كما لا يعيّرون بعضهم بمبدأ غلبة النوم. وكما يعيّرون بعضهم بكثرة السهو أو السهو غير المبرّر، كذلك يعيّرون بعضهم بكثرة النوم أو النوم غير المبرّر، كما لو نام قبيل الفجر حيث يعتبرونه تهاونًا بالصلاة.

وعليه فلو صحّ من إشكالات المفيد شيءٌ هنا، فلعلّه الإشكال المنهجي؛ لقلّة عدد روايات الإنامة ـ بعكس روايات السهو ـ واندراجها في أخبار الآحاد الظنيّة.

6 ـ السهو النبويّ واللوازم الفاسدة

يفتح المفيد البابَ على اللوازم الباطلة التي يمكن أن تجرّنا إليها فكرة سهو النبي. إنّه يقول: «ولو جاز أن يسهو النبيّ‘ في صلاته، وهو قدوة فيها، حتّى يسلّم قبل تمامها وينصرف عنها قبل كمالها، ويشهد الناس ذلك فيه ويحيطوا به علمًا من جهته، لجاز أن يسهو في الصيام حتّى يأكل ويشرب نهارًا في رمضان بين أصحابه، وهم يشاهدونه ويستدركون عليه الغلط، وينبّهونه عليه، بالتوقيف على ما جناه، ولجاز أن يُجامع النساء في شهر رمضان نهارًا ولم يؤمَن عليه السهو في مثل ذلك حتى يطأ المحرّمات عليه من النساء وهو ساهٍ في ذلك ظانّ أنهم أزواجه، ويتعدّى من ذلك إلى وطي ذوات المحارم ساهيًا. ويسهو في الزكاة فيؤخّرها عن وقتها ويؤدّيها إلى غير أهلها ساهيًا، ويخرج منها بعض المستحقّ عليه ناسيًا. ويسهو في الحجّ حتى يجامع في الإحرام، ويسعى قبل الطواف ولا يحيط علمًا بكيفيّة رمي الجمار، ويتعدّى من ذلك إلى السهو في كلّ أعمال الشريعة حتى يقلبها عن حدودها، ويضيّعها في أوقاتها، ويأتي بها على غير حقائقها، ولم ينكر أن يسهو عن تحريم الخمر فيشربها ناسيًا أو يظنّها شرابًا حلالًا، ثم يتيقّظ بعد ذلك لما هي عليه من صفتها، ولم ينكر أن يسهو فيما يخبر به عن نفسه وعن غيره ممن ليس بربّه بعد أن يكون مغصوبًا في الأداء. وتكون العلّة في جواز ذلك كلّه أنّها عبادة مشتركة بينه وبين أمّته، كما كانت الصلاة عبادة مشتركة بينهم، حسب اعتلال الرجل ـ الذي ذكرتَ أيّها الأخ عنه ما ذكرت من اعتلاله ـ ويكون أيضًا ذلك لإعلام الخلق أنّه مخلوق ليس بقديم معبود. وليكون حجّة على الغلاة الذين اتخذوه ربًّا. وهذا ـ أيضًا ـ سببًا لتعليم الخلق أحكام السهو في جميع ما عددناه من الشريعة، كما كان سببًا في تعليم الخلق حكم السهو في الصلاة، وهذا ما لا يذهب إليه مسلمٌ ولا مليّ ولا موحّد، ولا يجيزه على التقدير في النبوّة ملحدٌ، وهو لازم لمن حكيت عنه ما حكيت، فيما أفتى به من سهو النبيّ‘، واعتلّ به، ودالٌّ على ضعف عقله، وسوء اختياره، وفساد تخيّله. وينبغي أن يكون كلّ من منع السهو على النبيّ‘ في جميع ما عددناه من الشرع، غاليًا كما زعم المتهوّر في مقاله أنّ النافي عن النبيّ‘ السهوَ غالٍ، خارج عن حدّ الاقتصاد. وكفى بمن صار إلى هذا المقال خزيًا» (المصدر نفسه: 29 ـ 30).

وبالجملة، فإنّ المفيد يرى أن القول بإمكان سهو النبيّ يلزم منه القول بإمكان وقوع جميع المنكرات منه حتّى يقلب الشريعة رأسًا على عقِب، وكفى بذلك دليلًا على بطلان القول بالسهو.

ويمكن التعليق على كلام الشيخ المفيد بالآتي:

أوّلًا: إنّ هذا الإشكال:

أ ـ إذا كان الخطابُ موجّهًا فيه إلى الصدوق نفسه، فهو لم يناقش في الاحتمالات العقليّة الصرفة وإنّما ما يهمّه هو الذي وقع خارجًا مع النبيّ لا الذي كان يمكن أن يحدث معه؛ فقد يقول الصدوق بعدم امتناعِ سهو النبيّ في جميع هذه الموارد، ولكن هذا كلّه في عالم الإمكان دون أن يقول بأنّه ثبت ذلك خارجًا ووقع من النبيّ، وذلك لأنّ الله تعالى حماه وعصمه، ولا يخرج عن ذلك إلا ما ثبت بالنصّ أنّه سها فيه، وسيجيء توضيح لذلك أكثر في كلام الشيخ التستري.

ب ـ وإن كان الخطابُ موجَّهًا للعموم فهذا أقرب للتحريض الإعلامي منه للنقاش العلميّ.

ثانيًا: ثمّة إشكال نقضي يمكن تسجيله هنا، وهو أن نطبّق عين ما قاله المفيد على غير المعصومين من الفقهاء والعلماء عبر التاريخ، فنقول بأنّهم ما داموا غير معصومين عن السهو، إذًا فيمكن أن يصدر منهم سهو في تبيين الدين والرأي الفقهي، فبدل أن يقولوا: يحرم الزنا، يقولون: يجوز الزنا، سهوًا، بل يمكن أن يسهوا جميعهم أيضًا في مختلف أمور حياتهم. وتصوّروا إذا كان مجموع العلماء واقعين في هذا السهو فترى كلّ واحدٍ منهم كلَّ أسبوع أو أسبوعين يسهو، فيزني وهو لا يعرف، ويقتل وهو ناسٍ أنّه قتل الأخ المؤمن حرام، ويبول في الطريق أمام الناس عاريًا ناسيًا الحكم الفقهي والأخلاقي هنا، وهكذا.. فهل يقبل المفيد هذه الصورة الإمكانيّة؟! بل هو وافق على غلبة النوم فهل يمكنه أن يقول بأنّه من الممكن أن ينام النبيّ طيلة حياته؟!

إنّ مشكلة المفيد هنا تكمن في بارادايم الإمكان المنطقي، فلو خرج من هذا البارادايم نحو بارادايم إمكانات الوقوع احتماليًّا، فسوف تنتهي المشكلة عنده. وجليّ جدًّا أنّ الصدوق بنى مقاربته الكلاميّة على النقل، بخلاف المفيد الذي بناها على العقل، وهذا يساهم بشكل كبير في محاولة الكشف عن الفوارق الرئيسة في المنهج الكلاميّ لكلِّ منهما.

7 ـ إبطال المفيد تمييز الصدوق بين السهو الشيطاني والإسهاء الرحماني

قبل أن يختم المفيد رسالتَه يتعرّض لفكرة منشأ السهو من الله أو الشيطان، فيقول: «ثمّ من العجب حكمه على أنّ سهو النبيّ‘ من الله، وسهو من سواه من أمّته وكافّة البشر من غيرهم من الشيطان بغير علم فيما ادّعاه، ولا حجّة ولا شبهة يتعلّق بها أحدٌ من العقلاء، اللهم إلا أن يدّعى الوحي في ذلك، ويبين به ضعف عقله لكافّة الألبّاء. ثمّ العجب من قوله أنّ سهو النبيّ‘ من الله دون الشيطان؛ لأنّه ليس للشيطان على النبيّ‘ سلطان، وإنّما زعم أنّ سلطانه على الذين يتولّونه، والذين هم به مشركون، وعلى من اتّبعه من الغاوين. ثم هو يقول: إنّ هذا السهو الذي من الشيطان يعمّ جميع البشر ـ سوى الأنبياء والأئمّة ـ فكلّهم أولياء الشيطان وإنّهم غاوون، إذ كان للشيطان عليهم سلطان، وكان سهوهم منه دون الرحمن، ومن لم يتيقّظ لجهله في هذا الباب، كان في عداد الأموات» (المصدر نفسه: 30).

والحاصل أنّ الصدوق لم يبيّن لنا كيف عرف أنّ السهو المزعوم الذي وقع فيه النبيّ كان من الله، فيما سواه من السهو الذي يقع من سائر الناس هو سهو من الشيطان، فكلّ من هو غير معصوم حينئذ سيكون من الغاوين ومن أتباع الشياطين! من أين جاء بهذا الادّعاء؟

وأيضًا يمكن التعليق على المفيد هنا:

أولًا: إنّ كلام المفيد غريبٌ جدًّا، فالروايات نفسها ـ ومنها خبرا سعيد الأعرج ـ تصرّح بأنّ الله هو الذي أسهاه رحمةً للأمّة، فكيف يُشكل عليه بأنّه لا معرفة له بذلك إلا من طريق الوحي ينزل عليه؟! فإمّا أنّ المفيد لم يطّلع فعلًا على الروايات كلّها أو أنّه سها هنا، وهذا واضح بمراجعة صحيحة سعيد الأعرج، التي نقلها الكليني هذه المرّة، قال ـ الأعرج ـ: سمعت أبا عبد الله× يقول: «صلّى رسول الله‘ ثمّ سلّم في ركعتين، فسأله من خلفه: يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذلك؟ قالوا: إنّما صلّيت ركعتين، فقال: أكذلك يا ذا اليدين؟ وكان يُدعى ذا الشمالين، فقال: نعم، فبنى على صلاته فأتمّ الصلاة أربعًا. وقال [أي أبو عبد الله]: إنّ الله هو الذي أنساه رحمةً للأمّة، ألا ترى لو أنّ رجلًا صنع هذا لعيّر، وقيل: ما تقبل صلاتك، فمن دخل عليه اليوم ذاك قال: قد سنّ رسول الله‘ وصارت أسوة، وسجد سجدتين لمكان الكلام» (الكافي 3: 357؛ وتهذيب الأحكام 2: 345).

فكون سهو النبيّ قد جاء من الله هو ما صرّحت به النصوص، ولم يتبرّع به الصدوق من عنده.

ثانيًا: إنّ المفيد فهم كلام الصدوق بطريقة عكسيّة، فالصدوق لم يقل ـ أو على الأقلّ يمكن تفسير كلامه بأنّه لم يقل ـ بأنّ كلّ من هو غير معصوم فهو من أولياء الشيطان، بل قال بأنّ المعصوم ليس من أولياء الشيطان، وهذه عبارته التي نقلناها سابقًا: «وسهونا من الشيطان وليس للشيطان على النبيّ والأئمّة صلوات الله عليهم سلطان (إنّما سلطانه على الذين يتولّونه والذين هم به مشركون) وعلى من تبعه من الغاوين».

فذكره للآيات لا لكي يُثبت أنّ كلّ من هو غير معصوم فهو مشرك غاوٍ بالضرورة؛ إذ هذا لا يُتوقّع أن يشتبه به مثل الصدوق، بل يمكن القول بأنّ الصدوق يرى أنّ كلّ من يسهو سهوًا غير رحماني، فهو أسير للشيطان ولو بدرجةٍ ما، وللشيطان على سائر الناس من غير المعصومين سلطنة ولو بدرجات متفاوتة، فما الإشكال في ذلك؟ بل هذا من استدلالات الإماميّة على عصمة الأنبياء بمثل آية المخلَصين وأمثالها هنا، فراجع.

ثالثًا: لنفرض أنّه ليس أمام الصدوق دليلٌ مباشر من الروايات على التمييز في السهو، لكن يكفيه أن يثبت عدم كون سهو النبيّ من الشيطان بآيات نفي سلطنته على مثل النبيّ، بصرف النظر عن سلطنته على غير المعصومين أو لا. نعم يلزمه هنا أن يُثبت أنّ الشيطان له طريق لإسهاء بني آدم، وهذا في الجملة ثابتٌ بالنصوص القرآنيّة، كما تقدّم سابقًا.

8 ـ المفيد ودعواه أنّ ذا اليدين شخصيّة وهميّة

يختم المفيد رسالته بادّعاء اختلاق شخصيّة ذي اليدين، فيقول: «فأمّا قول الرجل المذكور: إنّ ذا اليدين معروف، وأنّه يقال له: أبو محمّد، عمير بن عبد عمرو، وقد روى عنه الناس. فليس الأمر كما ذكر، وقد عرّفه بما يدفع معرفته من تكنيته وتسميته بغير معروف بذلك، ولو أنّه يعرف بذي اليدين، لكان أولى من تعريفه بتسميته بعمير. فإنّ المنكر له يقول: من ذو اليدين؟ ومن هو عمير؟ ومن هو ابن عبد عمرو؟ وهذا كلّه مجهول غير معروف. ودعواه أنّه قد روى الناسُ عنه، دعوى لا برهان عليها، وما وجدنا في أصول الفقهاء ولا الرواة حديثًا عن هذا الرجل، ولا ذكرًا له. ولو كان معروفًا كمعاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة، وأمثالهم، لكان ما تفرّد به غير معمول عليه، لما ذكرناه من سقوط العمل بأخبار الآحاد، فكيف وقد بيّنا أنّ الرجل مجهولٌ غير معروف، والخبر متناقضٌ باطل بما لا شبهة فيه عند العقلاء. ومن العجب بعد هذا كلّه، أنّ خبر ذي اليدين يتضمّن أنّ النبيّ‘ سها، فلم يشعر بسهوه أحدٌ من المصلّين معه من بني هاشم، والمهاجرين، والأنصار، ووجوه الصحابة، وسراة الناس، ولا فطن لذلك وعرفه إلا ذو اليدين المجهول، الذي لا يعرفه أحد، ولعلّه من بعض الأعراب. أو شعر القوم به فلم ينبّهه أحد منهم على غلطه، ولا رأى صلاح الدين والدنيا بذكر ذلك له إلا المجهول من الناس. ثمّ لم يستشهد على صحّة قول ذي اليدين فيما خبّره به من سهو إلا أبا بكر وعمر، فإنّه سألهما عما ذكره ذو اليدين، ليعتمد قولهما فيه، ولم يثق بغيرهما في ذلك، ولا سكن إلى أحد سواهما في معناه. وإنّ شيعيًّا يعتمد على هذا الحديث في الحكم على النبيّ‘ بالغلط والنقص وارتفاع العصمة عنه من العناد (العباد) لناقصُ العقل، ضيف (ضعيف) الرأي، قريب إلى ذوي الآفات المسقطة عنهم التكليف. والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل» (عدم سهو النبيّ: 31 ـ 32).

وعليه، فما أجاب به الصدوق في محاولته لتعريفنا بهذه الشخصيّة المختلقة لم ينفع في تعريفها! بل حتّى لو كان بمنزلة كبار الصحابة فإنّنا لا نأخذ بمتفرّداته لأنّه من أخبار الآحاد، وما يزيد الشكّ في أمر هذا الرجل أنّه هو الوحيد الذي تنبّه لوقوع النبيّ في السهو من بين جميع الناس وبينهم بنو هاشم، وأنّه ينقل لنا أنّ النبيّ لم يستشهد على صحّة كلامه إلا أبا بكر وعمر؟ ألا يقرّبنا ذلك من كونها رواية مختلقة لدواعٍ مذهبيّة؟!

ويمكن التعليق هنا:

1 ـ سأؤجّل الحديث عن شخصيّة "ذو اليدين" لما سيأتي من كلام الشيخ التستري، لكن لديّ تعليق على طريقة المفيد في نقد الصدوق، فهو قال: من هو ذو اليدين؟ فيجاب بأنّه عمير بن عبد عمرو، فإذا كان الناس لا يعرفونه بكنيته فكيف سيعرفون اسمه؟! وإذا لم يثبت وجوده بكنيته فكيف ثبت باسمه؟!

وهذه طريقة غير دقيقة في النقد؛ لأنّ الذي يذكر اسم ذي اليدين يقصد بذلك أنّ هذه الكنية تعرّض لها الباحثون والعلماء منذ القرون الأولى، وذكر أهل التراجم والرجال والفهارس اسم صاحبها بالتفصيل، فلسنا أمام «ذو اليدين» الذي لا يُعرف أصله ولا اسمه ولا نسبه، فهذا هو مقصود الصدوق هنا، وهذا طبيعي، فأنت تسأل مثلًا: من هو القلانسي؟ فيجيبك شخصٌ بأنّه الحسين بن المختار، ويقصد بذلك أنّ الشخص معروف، وأنّك لو راجعت كتب الحديث والرجال والتراجم ستجد تفصيلًا عنه وعن هويّته، فذكر الصدوق لهذا التفصيل ليس عبثيًّا في هذه الحال، إذ ليس هذا من التعريفات المنطقية حتّى يورد عليه بأنه تعريف بالأخفى.

2 ـ إنّ المفيد وضعنا أمام خيارين: إمّا أن يكون ذو اليدين مثل معاذ بن جبل في المعروفيّة أو لا وجود له، وهذا نوعٌ من المغالطات المعروفة بمغالطة الثنائيّات، فلا يدّعي أحدٌ شهرته بهذا الحدّ، بل غايته أنّ مثله مثل كثير من الصحابة والرواة الذين ذكروا بعض المرّات القليلة لكنّهم لم يكونوا معروفين جدًّا، وأنا أسأل المفيد: ما هو الموقف من سليم بن قيس الهلالي؟ وهل يوافق عليه؟ فأين ذكر هذا الرجل؟ وما تاريخ علاقته بأمير المؤمنين؟ وأين قاتل وحارب؟ لا أحد يكاد يعرف عنه شيئًا إلا كتابه المتناقل، ومع ذلك وافق عليه المفيد والنجاشي وأمثالهم، وعلى مثل هذه المعيار فإنه لا يكفي أن نتأكّد من وجود الراوي حقيقةً حتى لو ذكره العلماء باسمه ونسبه وكنيته وسائر أوصافه، بل لو صحّ إشكال المفيد ـ في المقارنة بينه وبين معاذ بن جبل ـ للزم طرح آلاف من الرواة والأسماء، لأنّ أغلبهم ليس بمثل هذه المنزلة.

هذا كلّه، مع تسليمي بمبدأ إمكانية فتح الحديث عن اختلاق أسماء كثيرة في التاريخ، لا وجود لها أصلًا، سواء من الصحابة أم غيرهم.

3 ـ ما يلفت النظر في كلام المفيد ـ ويرجّح مرّةً أخرى أنّه لم يطّلع على مجمل روايات سهو النبيّ ـ هو قوله بأنّه لماذا لم يلتفت الصحابة وبنو هاشم؟! فالروايات جملة منها واضحة في أنّهم كانوا ملتفتين، غاية الأمر أنّه قد سبق إلى التكلّم مع النبيّ ذو اليدين، ولعلّه كان قريبًا جدًّا منه، فأيّ غرابة في ذلك؟! وهذا يحدث بالفعل في المساجد أحيانًا كثيرة، حيث يسهو الإمام فيلتفت العديدُ من المصلّين لكنّه عادةً يتكلّم أو يتنحنح أحدهم أو اثنان منهم، يكونان قريبين منه أو نحو ذلك. فراجع الروايات لترى كيف أنّ النبي سألهم فأكّدوا له قول ذي اليدين! وأمّا موضوع أبي بكر وعمر، فهو وارد في عدد قليل من هذه الروايات لا في جميعها، ومن الطبيعي في تاريخ الحديث أنّ تكون هناك رواية، ثم يأتي الآخرون فيضيفون أسماء أو جزئيّات تنفعهم، ولعلّ هذا منها. بل إنّ سؤال النبيّ لأبي بكر وعمر ليس من الضروري أن يكون تخصيصًا لهما؛ إذ الحادثة غير متكرّرة عشرات المرّات حتى نفهم ذلك، فلعلّهما صادف أن كانا قريبين منه، فسألهما، دون أن يعني ذلك بالضرورة أنّ النبيّ لا يثق بغيرهما.

4 ـ إنّ كلام المفيد أنّ ذا اليدين غيرُ مشهور فلا يُعتمد على ما تفرّد به؛ لكونه من أخبار الآحاد، هو سهوٌ منه رحمه الله؛ وذلك أنّ روايات السهو النبويّ لم يروها ذو اليدين حتى نُسقط رواياته بالآحاديّة هذه، بل رواها في الغالب غيرُه، وأخبروا أنّه هو ـ أعني ذا اليدين ـ الذي تكلّم مع النبيّ، فحصل خلطٌ من قبل المفيد بين الراوي والشخص الذي كان جزءًا من الحادثة المرويّة من قبل الراوي.

وأختم هنا بأنّ اللافت للنظر أنّ المفيد لم يستعن بالإجماع الشيعي، كما هي عادة المتقدّمين في أمثال ذلك، مما قد يكشف عن وجود انقسام، وإن كانت عبارة الطوسي في تفسير قوله تعالى: ﴿وإمّا ينسينّك الشيطان﴾، تفيد نقل الجبائي (أبو علي 303هـ ـ وأبوهاشم 321هـ) عن الرافضة نفي السهو، غير أنّ الطوسي والطبرسي رفضا ما قاله الجبائي عن الشيعة، وخصّصا نفي السهو بالتبليغ.. بل المرتضى في تنزيه الانبياء ذكر أنّ الشيعة تقول بنفي السهو في خصوص التبليغ وهو ما فهمه العلامة المجلسي بأنّه ظاهر في عدم وجود إجماع.

 

ثالثاً: موقف المحقّق التستري وقراءته النقديّة للمفيد

صنّف الشيخ محمّد تقي التستري (1405هـ) رسالةً في إثبات سهو النبيّ‘ تضمّنت نقد تعليقات المفيد على الصدوق في رسالته المنسوبة إليه، وقد شرع فيها بنقل أمّهات الأفكار التي قالها المفيد، وأعقب ذلك بتعليقاته عليه، وأغلبها ينتمي إلى مجال تخصّصه بوصفه رجاليًّا وخبيرًا في الحديث والتاريخ.

ولكي نتوقّف قليلًا عند هذه الرسالة، يمكننا الحديث عنها من خلال عدّة نقاط:

1 ـ رفع الطعن عن الصدوق

توقّف التستري عند قول المفيد بأنّ الكلام في موضوع السهو ليس من صنعة الصدوق، فقال: «إنّه ليس كلّ مَنْ لم يعرف اصطلاحات المتكلِّمين لا يعرف الكلام في شيء، كيف وقد أشار إليه الحجّة صلوات الله عليه في الرؤيا ـ ورؤيانا للمعصوم من النبيّ والإمام× من الرؤيا الصادقة، حَسْبَ ما نطقت به أخبار الصادقين صلوات الله عليهم أجمعين ـ بتصنيف كتاب في الغيبة ردًّا على المخالفين، كما صرَّح به في أوّل [كتاب] إكمال الدين. وقد ولد رضوان الله عليه بدعاء الحجّة، وهو صاحب ثلاثمائة مصنَّف، وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حَدَث السنّ، وكان وجه الطائفة بخراسان، وكان جليلًا، حافظًا للأحاديث، بصيرًا بالرجال، ناقدًا للأخبار، لم يُرَ في القمِّيين مثله، في حفظه وكثرة علمه. واستناده في تأليفاته وإنْ كان في الأكثر إلى الأحاديث، إلاّ أنّ كلمات المعصومين ـ عليهم السلام ـ في الأحاديث لمّا كانت ككلمات الله تعالى في آيات الكتاب، متضمِّنةً للحجج العقليّة، اقتصر عليها، مع أنّه تعلَّق بها كثيرًا في كتبه» (رسالة في سهو النبيّ، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 42: 68).

ورغم أنّ كلام التستري من حيث المبدأ مقبول، وبخاصّة أنّ للصدوق مداخلات كلاميّة متعدّدة متفرّقة في كتبه، لكن يمكن التعليق على ما ذكره:

أوّلًا: لو سلّمنا أنّ كلّ من رأى المعصوم في المنام فقد رآه حقيقةً، فإنّ مجرّد رؤية الصدوق في المنام أنّ الإمام يدعوه لتأليف كتاب "كمال الدين" لا يعني أنّه صار خبيرًا في علم الكلام، وبخاصّة أنّ الكتاب في معظمه روايات ونصوص حديثيّة، في حين أنّ إشكال المفيد كان على خبروية الصدوق الكلامية بالمعنى الخاصّ لها في ذلك العصر.

بل لو لاحظنا ما ذكره الصدوق في مقدّمة "كمال الدين"، فسنرى أنّ الإمام يريده ذكر الغيبة من خلال غيبة الأنبياء السابقين، وبالتالي اللجوء إلى المرويّات التاريخيّة والتركيز على النقل لرفع الحيرة بين الشيعة بنقل الأخبار لهم كما كان يفعل الصدوق.

قال الصدوق: «إنّ الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا، أنّي لما قضيت وطري من زيارة عليّ بن موسى الرضا صلوات الله عليه رجعت إلى نيسابور وأقمت بها، فوجدت أكثر المختلفين إليّ من الشيعة قد حيّرتهم الغيبة، ودخلت عليهم في أمر القائم عليه السلام الشبهة، وعدلوا عن طريق التسليم إلى الآراء والمقائيس، فجعلت أبذل مجهودي في إرشادهم إلى الحقّ وردّهم إلى الصواب بالأخبار الواردة في ذلك عن النبيّ والأئمّة صلوات الله عليهم، حتى ورد إلينا من بخارا شيخٌ من أهل الفضل والعلم والنباهة ببلد قم، طالما تمنيت لقاءه واشتقت إلى مشاهدته لدينه وسديد رأيه واستقامة طريقته، وهو الشيخ نجم الدين أبو سعيد محمد بن الحسن بن محمد بن أحمد بن علي بن الصلت القمي ـ أدام الله توفيقه ـ وكان أبي يروي عن جدّه محمّد بن أحمد بن علي بن الصلت ـ قدّس الله روحه ـ ويصف علمه وعمله وزهده وفضله وعبادته، وكان أحمد بن محمد بن عيسى في فضله وجلالته يروي عن أبي طالب عبد الله بن الصلت القمي ـ رضي الله عنه ـ وبقي حتى لقيه محمد بن الحسن الصفار، وروى عنه، فلما أظفرني الله تعالى ذكره بهذا الشيخ الذي هو من أهل هذا البيت الرفيع شكرت الله تعالى ذكره على ما يسّر لي من لقائه وأكرمني به من إخائه وحباني به من ودّه وصفائه، فبينا هو يحدّثني ذات يوم إذ ذكر لي عن رجل قد لقيه ببخارا من كبار الفلاسفة والمنطقيّين كلامًا في القائم عليه السلام قد حيّره وشكّكه في أمره لطول غيبته وانقطاع أخباره، فذكرت له فصولًا في إثبات كونه عليه السلام، ورويت له أخبارًا في غيبته عن النبيّ والأئمة عليهم السلام سكنت إليها نفسه، وزال بها عن قلبه ما كان دخل عليه من الشكّ والارتياب والشبهة، وتلقّى ما سمعه من الآثار الصحيحة بالسمع والطاعة والقبول والتسليم، وسألني أن أصنّف (له) في هذا المعنى كتابًا، فأجبته إلى ملتمسه ووعدته جمع ما ابتغى إذا سهّل الله لي العود إلى مستقرّي ووطني بالريّ. فبينا أنا ذات ليلة أفكّر فيما خلفت ورائي من أهل وولد وإخوان ونعمة إذ غلبني النوم فرأيت كأنّي بمكّة أطوف حول بيت الله الحرام وأنا في الشوط السابع عند الحجر الأسود أستلمه وأقبّله، وأقول: أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة. فأرى مولانا القائم صاحب الزمان ـ صلوات الله عليه ـ واقفًا بباب الكعبة، فأدنو منه على شغل قلب وتقسّم فكر، فعلم عليه السلام ما في نفسي بتفرّسه في وجهي، فسلّمت عليه، فردّ عليّ السلام، ثم قال لي: لم لا تصنّف كتابًا في الغيبة حتى تكفي ما قد همّك؟ فقلت له: يا ابن رسول الله قد صنّفتُ في الغيبة أشياء، فقال عليه السلام: ليس على ذلك السبيل آمرك أن تصنّف (ولكن صنّف) الآن كتاباً في الغيبة واذكر فيه غيبات الأنبياء عليهم السلام. ثم مضى صلوات الله عليه، فانتبهت فزعًا إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى إلى وقت طلوع الفجر، فلما أصبحت ابتدأت في تأليف هذا الكتاب ممتثلًا لأمر ولي الله وحجّته..» (كمال الدين: 3 ـ 4).

ثانيًا: كون الصدوق ـ كما أخبرنا هو ـ قد ولد بدعاء الحجّة لا يصحّح مقولاته ولا يجعله خبيرًا في علم الكلام، والمدح الذي ذكره فيه التستري من كونه وجهًا بخراسان أو بصيرًا بالرجال وغير ذلك لا علاقة له بنقد المفيد، فالمفيد يركّز نقده على الجانب الكلامي والخبرة الكلاميّة في تناول موضوعٍ كلاميّ بامتياز، فما علاقة ذلك بحشد امتيازات للصدوق خارج هذا السياق؟!

ثالثًا: مجرّد اشتمال كلمات النبيّ وأهل البيت على حجج عقليّة، لا يعني أنّ الصدوق عالم بعلم الكلام، ولا دليل على كونه اقتصر على الروايات لأجل ذلك، بل ربما الأقرب أنّه محدِّث يكتفي بنقل الأحاديث ويتعبّد بمضمونها، وأين هذا من أن يكون خبيرًا في علم الكلام؟! بل إنّ العديد من الأحاديث يتصل بقضايا فلسفيّة في مضمونها أيضًا فهل هذا يعني أنّ الصدوق فيلسوف؟!

فالجواب الأساس الذي يمكن تسجيله على المفيد هو أن نؤكّد له أنّنا لو استخرجنا المحاججات الكلاميّة التي تضمّنتها جملة من كتب الصدوق، كفى ذلك في إثبات أنّ له خبرويةً ما في علم الكلام، ولو لم يكن مسلكه ـ بالتأكيد ـ مسلك المتكلّمين العقليّين الناهجين نهج المعتزلة، كما هي الحال مع المفيد والمرتضى.

2 ـ النقد على كون أخبار السهو آحاديّة

يعلّق التستري على المفيد في أنّ أخبار السهو آحادية روتها الناصبة ومقلّدة الشيعة، فيقول: «إنّه روى ذلك من الشيعة: سماعة بن مهران، والحسن بن صدقة، وسعيد الأعرج، وجميل بن درّاج، وأبو بصير، وزيد الشحّام، وأبو سعيد القمّاط، وأبو بكر الحضرميّ، والحرث بن المغيرة النصريّ. وكلّهم من الثقات والأجلاّء، وبعضهم ممَّنْ أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه، والإقرار له بالفقه. وجميل أفقه الستة الثانية من أصحاب الصادق×. وقد اعترف نفسه، في عدديّته، في بعضهم، كزيد الشحّام وسماعة بن مهران، بكونهما من فقهاء أصحاب الصادقين، الذين لا مطعن فيهم أصلًا. فكيف عدَّهم مقلِّدةً، وأخباره أكثر من كثير من الأخبار التي ادُّعي التواتر فيها في الفقه؟! وعقد الكلينيُّ لها بابًا، فقال: (باب مَنْ تكلَّم في صلاته أو انصرف قبل أن يتمّها)..» ثم ينقل اثني عشر حديثًا في السهو مؤكّدًا تصحيح أربعة منها، وواحد حسن (رسالة في سهو النبيّ، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 42: 68 ـ 72).

وإشكالات التستري هنا محكمة، وسننقل بعد قليل شطرًا آخر من كلامه ذا صلة بهذه القضيّة، وقد تكلّمنا على هذا الموضوع سابقًا فلا نعيد. لكنّ تعليقنا هو أنّ عدد الأحاديث أكبر من ذلك وعدد الصحيح منها أكبر، وقد قلنا ذلك سابقًا، فلا نعيد.

3 ـ مرجعية الحديث عند الصدوق والتستري

يركّز التستري في أكثر من موضع على أنّ ما دفع الصدوق للقول بسهو النبيّ هو ورود الدليل على ذلك، فلا يمكنك أن تفرض عليه لوازم لم يرد بها دليل، فما ذكره المفيد ممّا نقلناه عنه سابقًا من جهة الملازمة بين إمكان سهو النبيّ وإمكان نسبة المنكرات له، هو إلزام بشيء لم ترد فيه نصوص أصلًا ولم يدلّ عليه دليل، ومعه كيف يُشكل عليه بالالتزام بذلك؟

وهذا يكشف عن اختلاف الباراديم بين الصدوق والتستري من جهة، والمفيد من جهة ثانية؛ لأنّ المفيد ينطلق من الإمكان للإبطال، بينما ينطلق المحدّثان من الوقوع التاريخيّ للإثبات كما مرّت الإشارة إلى ذلك.

4 ـ نقد التستري لقضيّة جهالة ذي اليدين

يعلّق التستري مطوّلًا على ما ذكرناه عن المفيد من جهالة ذي اليدين وعدم اكتفائه بما ذكره الصدوق، بأن ذلك يجري في جميع أحوال الرجال الذين لم ينقلوا بالتواتر، فكلّ راوٍ لم تُعرف تفاصيله بالتواتر يمكن أن نشكّك في أصل وجوده حينئذ على رأي المفيد! وهذا يلزم منه ردّ جميع الأخبار التي رواتها من هذا القبيل، ثمّ إن تشكيك المفيد برواية الصدوق عن ذي اليدين مخالف لما صرّح به الصدوق نفسه، «فقد صرّح بأنّه أخرج بنفسه عنه أخبارًا في كتاب وصف قتال القاسطين بصفين، وليس الصدوق ممَّنْ يكذب، فكان عليه أن يراجع ذاك الكتاب».

ثمّ يعرض التستريّ مسردًا مطوّلًا يبيّن فيه التفاصيل الشخصية لذي اليدين، فيقول: «مع أنّ الرجل معروفٌ باسمه، وأسماء آبائه، وعشيرته، وحليفه، وأخيه العقديّ، وباسم أمّه، واسم أمّ أمّه، وجدّ أمه، وعشيرة أمّه، وأحواله من شهادته يوم بدر، وقاتله. ذكره محمد بن إسحاق، صاحب المغازي، من معاصري المنصور، أوّل مَنْ ألَّف في السِّيَر، على نقل ابن عبد البرّ، في عنوان ذي الشمالين. وذكره مصعب بن الزبير، من معاصري مروان (هارون)، في نسب قريشه. وذكره ابن قتيبة في معارفه في الصحابة. وذكره الطبريّ في ذيله، وابن عبد ربّه في عقده، وابن عبد البرّ في استيعابه، والمبرّد في كامله. وذكره قبل الجميع الزهريّ. فهل شهرةٌ ومعروفية فوق هذا؟.. فتلخّص أنّ الرجل كنيته أبو محمد، واسمه عمير، وأبوه عبد عمرو، وهو من خزاعة، وأجداده إلى خزاعة، وفوقها معلومون، وله لقبان: ذو الشمالين؛ وذو اليدين، وهو حليف لبني زهرة، وأمّه من بني زهرة نعمى بنت عبد الحارث بن زهرة، وأخته ريطة، وزينب بنت مظعون زوجة عمر ابنة اخته، وابن عمير وحفصة زوج النبيّ| ولدا ابنة أخته، وأخوه العقديّ يزيد بن حارث الخزرجيّ، وهو من شهداء بدر كأخيه العقديّ، وقاتله أسامة الجشميّ. والصحيح أنّه الراوي لحديث السَّهْو، كما قاله الصدوق منّا، والمبرّد، كما مرّ كلامه، والزّهريّ من العامّة».

ثمّ يعلّق التستري بعد ذلك على جملة من كلمات العلماء الذين توقّفوا حول بعض كلمات الصدوق وناقشوه فيردّها ويُشكل عليها ولا نطيل بذكرها.

5 ـ الموقف من ردّ الأخبار لمنافاتها العقل

يحاول التستريّ بعد ذلك أن يقوّض ما يعيق الاستدلال بهذه الروايات من قبل نفاة السهو ـ بعد الفراغ عن تماميّتها وسلامتها عن التشكيك التاريخيّ ـ بدعوى معارضتها للعقل تارة، أو بدعوى أن نسبة السهو للنبيّ نقص، وبالتالي سقوطها عن الحجيّة والاعتبار.

وخلاصة ما ذكره في المقام، أنّ ردّ هذه الأخبار رغم صحّتها بحجّة مخالفتها للعقل أمر مرفوض، لأنّ «المسلَّم من دلالة العقل منع سَهْوه‘ في تبليغ الأحكام، الذي هو وظيفة النبيّ من حيث هو نبيٌّ، دون أداء العبادات التي هو أحد المكلَّفين بها، مثل أمّته» ومعه فلا يمكن الالتزام بممانعة العقل عن القبول بهذه الأخبار طالما أنّها لم ترد في شأن التبليغ.

 وكذلك لا يمكن ردّ هذه الأخبار بحجّة أنّ السهو مطلقًا ولو في غير مقام التبليغ هو نقص في النبيّ، والنقص لا ينبغي للنبيّ، وذلك لأنّ السهو قد يعرضه وجه حسن، إذ كثيرًا ما يعرض لما هو قبيح في نفسه ونقص في ذاته ما يرفع قبحه ونقصه، فالكذب على سبيل المثال قبيح، ولكن قد تقارنه مصلحة كإصلاح ذات البَيْن وغيره فترفع قبحه، وكالنسيان فهو نقصانٌ، ولكن في بعض الموارد قد يكون لُطْفًا. قال الصادق‘ للمفضَّل: «وأعظمُ من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمةُ في النسيان، فإنّه لولا النسيان لما سلا أحد عن مصيبته، ولا انقضت له حسرةٌ، ولا مات له حقدٌ، ولا استمتع بشيءٍ من متاع الدنيا مع تذكُّر الآفات، ولا رجا غفلةً من سلطان، ولا فترةً من حاسد».

هذا، وقد نصّت الأخبار في المقام على وجوه المصلحة في إسهائه‘، من عدم اتّخاذه إلهًا وتعليم الناس أحكام السهو، وعدم تعيير أحد أحدًا بوقوع السهو منه، وقد علّقنا على ذلك كما تقدّم.

6 ـ عباراتٌ أخيرة للتستري حول المفيد

يذكر التستريّ تقويمه النهائيّ لما ذكره المفيد في رسالته محاوِلًا أن ينصفه في سائر كتبه ومصنّفاته، فيقول: «وبالجملة فكلامه في هذة الرسالة في غاية الاختلال، وإنْ كانت سائر مصنَّفاته ثمينة نفيسة، ممتازة من كتب سائر الأصحاب بجودة التقرير والتحرير، فإنّ أكثر الموضوعات التي كتب فيها قد بلغ فيها الغاية والنهاية. ومن خصوصيات مؤلَّفاته أنّه لا يبقي فيها مجالًا لمخالفٍ، مليًا كان أو طبيعيًا، حيث إنّه يشفع دعاواه ببراهين عقلية ونقلية، لكنّ الجواد قد يكبو، والصارم قد ينبو، والمعصوم مَنْ عصمه الله».

ثمّ يبيّن التستريّ أنّ موقفه من هذه المسألة ليس دفاعًا عن الصدوق وإيمانًا منه بأنّه لا يخطئ، بل على العكس، ثم ذكر بعض مآخذه على الصدوق.

7 ـ التستري خاتماً ببعض النتائج

وقد أنهى التستري بحثه بذكر ثلاث نتائج:

النتيجة الأولى: إنّ وقوع السهو من النبيّ ممّا لم يمنع منه العقل، ودلّ عليه النقل، فلا مناص من الالتزام به.

النتيجة الثانية: إنّ القول بجواز سهو النبيّ في صلاته كان مسألة إجماعيّة عند الشيعة الإماميّة ولم يختلف في جوازها أحد قبل المفيد، وأوّل من منع منها هو الشيخ المفيد.

النتيجة الثالثة: لا يضرّنا أنّ القول بعدم سهو النبيّ صار من ضروريّات المذهب، كما في عدد من المسائل نظير جزئيّة الشهادة بالولاية في الأذان، ونظير مشروعيّة الصلاة والصوم الاستيجارتين وفق رأيه، طالما أنه لم يقم عليها دليل مقنع، فالحقّ أحقّ أن يُتّبع.

بهذا ينهي التستري موقفه من نزاع الصدوق والمفيد.

نكتفي بهذا القدر، فالمقام ليس هو المقام، لنعود لبحثنا الفقهي في مسألة سجود السهو.