hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة الجماعة ـ القسم الخامس)

تاريخ الاعداد: 5/14/2025 تاريخ النشر: 5/15/2025
180
التحميل

حيدر حبّ الله

 

هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(8 ـ 5 ـ 2025م)

   

الفصل الثالث

[شروط إمام الجماعة]

...

الأوّل: الرجولة إذا كان المأموم رجلاً، فلا تصحّ إمامة المرأة إلا للمرأة، وفي صحّة إمامة الصبيّ لمثله إشكال، ولا بأس بها تمريناً([1]).

الثاني: العدالة فلا تجوز الصلاة خلف الفاسق، ولا بدّ من إحرازها ولو بالوثوق الحاصل من أيّ سبب كان، فلا تجوز الصلاة خلف مجهول الحال([2]).

__________________________

([1]) ذكر السيد الماتن شرط الرجولة، وفي مقابله تحدّث عن إمامة المرأة من جهة وإمامة غير البالغ من جهة أخرى، ولعلّه يقصد من شرط الرجولة ما يشمل "البالغ الذكر"، وعلى أيّة حال، فنحن نبحث ذلك في مقامين:

 

المقام الأوّل: في شرط الذكورة في إمام الجماعة

بعد وضوح إمكان إمامة الرجل للرجال وللنساء مطلقاً، يأتي البحث في شرط الذكورة، وهنا تارةً يكون هذا الشرط لجماعةٍ فيها ولو ذكر واحد، وأخرى لخصوص جماعة النساء، فهنا أمران:

 

الأمر الأوّل: إمامة المرأة لجماعةٍ فيها ولو ذكر واحد

تُعتبر هذه القضية من القضايا المثيرة للجدل في العصر الحديث، وبخاصّة بعد أن قامت أمينة ودود عام 2005م بإمامة صلاة الجماعة في أمريكا وكان المأمومون خليطاً من الرجال والنساء، وأدّى هذا الأمر لزوبعة واسعة من النقد في العالم الإسلامي، ثم حدث هذا الأمر عدّة مرّات لاحقاً مع شخصيّات أخرى، مثل كاهنة بهلول التي أمّت جماعة الرجال في باريس، وأستاذة العلوم السياسية إلهام مانع التي أمّت الجماعة في برلين عام 2017م، وراحيل رضا التي أمّت في بريطانيا، وشيرين خانكان وصالحة فتّاح في الدانمارك، وغيرهنّ.

وينقل بعضهم أنّ أوّل إمامة للمرأة في التاريخ كانت من قبل غزالة الشيبانية أو الحرورية، وهي امرأة من الخوارج كانت في عهد الحجاج بن يوسف الثقافي، أمّت جماعة الرجال في مسجد الكوفة، والله العالم.

 

1 ـ أدلّة القول بعدم مشروعيّة إمامة المرأة لجماعة الرجال

والمعروف الذي لا إشكال فيه عندهم هو عدم إمامة المرأة لجماعة الرجال، ويستدلّ لذلك بجملة أدلّة عند مختلف المذاهب:

1 ـ الإجماع والتسالم الإسلامي، حتى قالوا بأنّ هذا من المسلّمات الواضحة التي لا تحتاج إلى دليل.

ولا شكّ في أنّ هذا الأمر من المشهورات في الفقه الإسلامي على مستوى المذاهب المختلفة، لكنّ إثبات الإجماع التامّ قد يواجه بعض التفصيلات التي سوف نراها عند الحديث عن وجهة النظر الأخرى. هذا فضلاً عن وضوح مدركيّة هذا الإجماع.

2 ـ أصالة عدم المشروعيّة.

وهنا:

أ ـ قد قلنا سابقاً بأنّ أصالة المشروعيّة تجري هنا في كلّ مورد يكون محلاً للابتلاء، ويتوقّع فيه السؤال والجواب، ومع ذلك لم يرد فيه شيء، وإمامة المرأة وإن كانت في نفسها قد تقع محلّ الابتلاء، لكنّ الثقافة العامّة في تلك الأزمنة تجعل الحديث عن إمامة المرأة للرجال بمثابة الترف الفكري؛ لأنّ الناس لا تقدّم النساء للصلاة، فهو أمرٌ غير عرفي وغير مستساغ، من هنا لا يكون سكوت النبيّ أو الإمام موجباً لانعقاد أصل المشروعيّة في إمامة المرأة، بخلاف ما لو كان المجتمع يتقبّل شيئاً من ذلك، أو أنّه وقع بالفعل شيء من ذلك، فإنّ السكوت شاهدٌ على جريان أصل المشروعيّة في هذا المورد.

ب ـ هذا، إذا لم نقل بأنّ الإسلام لو كان يرى مشروعيّة إمامة المرأة فلماذا لم يُشر أيّ نصّ لذلك؛ لرفع التباس العدم، وبخاصّة في دائرة إمامتها لمحارمها كأبنائها وإخوتها مما لا ضير فيه ولا بأس يعتريه، فيكون السكوت دليلاً على منع إمامة المرأة.

لكن قد يقال في مقام الجواب على (ب): إنّ عدم إشارة الإسلام لشرعيّة إمامة المرأة قد يكون مرجعه إلى أنّ شرعيّة إمامتها قد تكون مرتبطة بمقبوليّة إمامتها العرفيّة، بمعنى أنّ العرف إذا لم يقبل إمامة المرأة، فإنّ الإسلام لا يحثّ على إمامتها، بل يترك الأمر لعرف الناس وتبانيهم ما دام الجميع راضياً، بمن في ذلك النساء أنفسهنّ، فسكوت النصوص ليس مرجعه لعدم شرعيّة إمامة المرأة مطلقاً في أصل الشرع، بل لكون شرعيّة إمامتها رهينة بمقبوليّة إمامتها العرفيّة، ويكفي هذا الاحتمال في رفع الاستدلال بسكوت النصوص هنا.

هذا كلّه على مباني القوم، أمّا على مبانينا من عدم شمول الشريعة، فنقول بأنّ الشريعة في ظلّ تلك الأعراف لم تبيّن موقفها من مسألة إمامة المرأة، ولعلّ ذلك لكونها لا موقف لها غير الموقف العرفي التوافقي، ومن ثمّ فإذا تغيّر العرف وصار يرى مقبوليّة إمامة المرأة مع مراعاة تمام الحيثيّات الأخرى، فإنّ الشريعة ليس لديها حظر على هذا الأمر، وبهذا لا يمكننا الاستناد إلى سكوت النصوص لإثبات عدم شرعيّة إمامة المرأة، بل غايته أنّ الشريعة لم تثبت شرعيّة إمامتها، فيرجع الكلام إلى النقطة الأولى، والتي هي أصالة عدم المشروعيّة الراجعة لصلاة الجماعة لا لذات إمامة المرأة، بمعنى أنّنا لا نملك دليلاً من الشريعة على أنّها ترفض إمامة المرأة، أو لديها حساسية منها، بل كلّ ما بايدينا أنّنا لا نملك دليلاً في باب صلاة الجماعة يشمل إمامة المرأة، بمعنى صحّة آثار الجماعة على إمامتها، والنتيجة تختلف مفهوميّاً وفكريّاً.

نعم، يمكن القول بأنّ منع إمامة المرأة للرجال كان مشهوراً منقولاً عن الكثير من الفقهاء منذ نهايات القرن الأوّل الهجري، ومع ذلك لم يصدر عن أهل البيت النبويّ أيّ موقف مختلف، يبيّن أنّ إمامتها ليست ممنوعة في أصل الشرع، وهذا يكشف عن الموافقة ـ بدرجةٍ ما ـ عن نتائج إعمال أصل عدم المشروعيّة هنا.

3 ـ النصوص الخاصّة.

والظاهر أنّه ليس بيدنا خبرٌ معتبر في مصادر المسلمين يمنع مباشرةً عن إمامة المرأة للرجال، وتقريباً يمكن اعتبار خبر جابر الأنصاري هو الخبر الوحيد الذي يتحدّث مباشرةً عن هذا الموضوع، فقد روى ابن ماجة في (السنن 1: 343)، بسنده إلى جابر بن عبد الله، قال: خطبنا رسول الله‘، فقال: «يا أيها الناس، توبوا إلى الله قبل أن تموتوا.. ألا لا تؤمنّ امرأةٌ رجلاً، ولا يؤمّ أعرابيٌّ مهاجراً، ولا يؤمّ فاجرٌ مؤمناً، إلا أن يقهره بسلطان، يخاف سيفه وسوطه».

لكنّ هذا الحديث ضعيف الإسناد باعتراف غير واحد، فإنّ فيه علي بن زيد بن جدعان، وعبد الله بن محمد العدوي، وهما ممّن لم تثبت وثاقتهما، بل نصّ بعضٌ على الضعف فيهما، وفي طريق آخر للحديث نجد عبد الملك بن حبيب، وهو متّهم.

من هنا، حاول بعضهم أن يستدلّ هنا بنصوص إمامة المرأة للنساء، وذلك عبر طريقين:

أ ـ إنّ نصوص إمامة المرأة للنساء يفهم منها أنّ السائل كان مفروغاً عنده ارتكازاً عدم جواز إمامة المرأة، فإنّ نفس السؤال عن إمامة المرأة للنساء يظهر منه أنّ السائل كان مفروغاً لديه عدم جواز إمامتها للرجال، وإلا فلماذا قيّد سؤاله بذلك؟!

ب ـ إنّنا لو قلنا بعدم كفاية إمامة المرأة للنساء، نظراً للنصوص المانعة، كان ذلك دليلاً واضحاً على عدم إمامتها للرجال، وسيأتي أنّه يوجد كلام في إمامتها للنساء أيضاً.

ويمكن أن يجاب عنه بأنّه ولو كان صحيحاً على تقدير المنع عن إمامة المرأة للنساء لو قلنا به، لكنّ دعوى ارتكاز المنع في أذهان السائلين غير كافية؛ لأنّ السائل إنّما يسأل عن إمامة المرأة للمرأة لأنّه لم يعهد إمامة النساء في الحياة الاجتماعيّة، وكانت إمامتها للرجال مستهجنة وغريبة، لهذا ظنّ السائل أنّها لا تؤمّ النساء، فسأل عن ذلك، وإنّما لم يسأل عن إمامتها للرجال لا لوضوح الأمر عنده شرعاً بالضرورة، بل للغويّة مثل هذا السؤال بعد كون العرف قائماً وبقوّة على رفض شيءٍ من هذا القبيل. ويكفي هذا الاحتمال لمنع الاستدلال هنا. نعم إذا قلنا بمنع إمامة المرأة للنساء أمكن قبول المنع هنا، وسيأتي أنّه لم يثبت المنع.

4 ـ إنّ صلاة الجماعة نوع ولاية، وولاية المرأة على الرجال مسلوبة، حيث نصّ القرآن على كون الرجال قوّامين على النساء، مضافاً إلى النصوص التي تسلب المرأةَ الولاية وأنّه لا يُفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة، ولعلّ أوّل من طرح هذا الدليل الشافعيُّ في كتاب الأمّ، ثم تبعه الآخرون بعده.

ويناقَش بأنّ صلاة الجماعة لا دليل على احتوائها في ذاتها أيّ ولاية، بل هي عبارة عن نوع من المتابعة، والولاية المسلوبة عن المرأة ـ لو صحّت ـ تعني نوع سلطنةٍ اجتماعيّة أو أسريّة، فلا بدّ من إثبات أنّ صلاة الجماعة في ذاتها ـ لا فيما يحتفّ بها أحياناً، كتولّي إمامة مسجد أو غير ذلك ـ مما يطلق عليه عرفاً أنّه نوع ولاية مجتمعيّة أو أسريّة، وهو غير واضح، وما لم نتمكّن من إثبات ذلك، فلا يمكن الاستدلال هنا.

5 ـ ما ورد في بعض الروايات عند أهل السنّة ـ كما في صحيح مسلم ـ منقولةً عن أبي هريرة عن النبيّ الأكرم، من أنّ خير صفوف النساء المتأخّر وشرّها المتقدّم، فإذا كانت المرأة التي تقف مباشرةً خلف صفوف الرجال تقف في شرّ صفوف النساء، وأنّ المطلوب منهنّ التأخّر ما أمكن عن صفوف الرجال، فبطريق أولى يفهم أنّ الشريعة لا ترضى بتقدّم المرأة لإمامة الجماعة التي فيها الرجال.

وقد يجاب ـ كما ذكر الشيخ حسن الترابي ـ بأنّ المنع عن تداخل صفوف الرجال والنساء مرجعه لاحتكاكهم بعضهم ببعض، الأمر الذي يكون مثار الفتنة، لهذا يطلب من النساء التأخّر، وليس لكون المرأة بذاتها متأخّرة عن الرجال.

لكنّ هذا الجواب قابلٌ للردّ، وذلك أنّه إذا كان الأمر هو أنّ الاحتكاك مثارٌ للفتنة، فأن تصلّي المرأة أمام الرجال هو الآخر مثارٌ للفتنة، فنأخذ بالنكتة التعليليّة التي فهمها الترابيُّ نفسه، ونقوم بتعميمها على موضوع صلاة المرأة إماماً. هذا علماً أنّ الرجال والنساء تتداخل صفوفهم في الحجّ وفي المطاف والبيت الحرام، ولم يقل أحد أنّه يلزم التأخّر والتقدّم، ولا طُرح هذا الموضوع منذ العصر النبويّ، وإن كان بعض السلفيّة ـ على ما أذكر ـ تحدّث في السنوات الماضية عن ضرورة إعادة بناء المسجد الحرام بطريقة لا يختلط فيها الرجال والنساء.

ولعلّ الأفضل في الجواب عن أصل الاستدلال هنا هو أنّ الحديث ـ لو صحّ سنداً ـ ليس ناظراً لبيان شرطٍ من شروط الجماعة، بقدر ما هو ناظر لبيان ضرورة مراعاة مسألة العفّة واختلاط الرجال والنساء، بدليل أنّ ما وصفه رسول الله بأنّه شرّ الصفوف لا يبطل الكونُ فيه صلاةَ الجماعة، كما أنّ شرّ صفوف الرجال هو المتأخّر، ومع ذلك لا يكون التأخّر موجباً لبطلان الجماعة، فالحديث في الأصل ليس بناظرٍ لشرطٍ وضعي في باب الجماعة هنا، حتى نستفيد منه أنّ تقدّم المرأة للإمامة باطل وأنّ الذكورة شرط، بل غايته مرجوحيّة إمامة المرأة بملاحظة العفّة، لا بملاحظة بيان شرط مستقلّ هنا يوجب فقدُه بطلانَ الجماعة.

6 ـ عدم وقوع إمامة النساء للرجال في العصر النبويّ ولا في الصدر الإسلامي الأوّل، فلو كان هذا جائزاً لوقع ولو مرّة واحدة، الأمر الذي لا يعهده أحدٌ من المسلمين، فلماذا لم تتقدّم نسوة أهل البيت النبوي أو أمّهات المؤمنين وكذلك فقيهات الإسلام عبر القرون الثلاثة الأولى للإمامة ولو مرّة واحدة؟!

وقد يجاب بأنّ علينا تحليل جميع الأسباب المحتملة لهذه الظاهرة، فإذا انحصر بالسبب الديني أمكن الاعتماد على هذا الدليل، لكن من المحتمل أنّ السبب يرجع للعرف، والأعراف لها سلطة فاعلة في المجتمعات، فإنّ عرف الناس في ذلك الزمان لم يكن ليستسيغ إطلاقاً إمامة المرأة ووقوفها أمام الرجال، ومن ثمّ فما دامت إمكانيّة دخول العرف على الخطّ قائمة فلا يصحّ هذا الاستدلال هنا، فهذا تماماً مثل أنّ العرف اليوم لا يستسيغ إمامة الجماعة في المسجد من قبل شخص يستر عورته فقط، ولم يحصل أن سمعنا بشيء من هذا القبيل، فهل لنا أن نستدلّ بأنّ الشريعة لا تجيز إمامة ساتر العورة فقط في المساجد؟!

7 ـ إنّ إمامة المرأة مدعاةٌ للفتنة حيث ينظر إليها الرجال وهي أمامهم تركع وتسجد، وهذا مما يعلم من روح الشريعة أنّه مرفوض.

والجواب إنّ هذا وإن كان صحيحاً في الجملة، لكنّ الشريعة وضعت باباً لحلّ هذه المشكلة، وهو وجود الساتر بين الرجال والنساء، فحيث كان هذا الأمر ممكناً، أمكن جعل إمامة المرأة عبر ساتر بينها وبين الرجال الذين يقفون من خلفها ولا ضير في ذلك، أمّا صوتها فلم يثبت أنّه عورة يحرم كشفها، علماً أنّ هذا الأمر أيضاً قابل للحلّ عمليّاً، وبخاصّة أنّ المرأة يجوز لها الإخفات في الجهريّة حتى على القول بوجوب الجهر والإخفات. هذا كلّه مضافاً إلى أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى؛ إذ لا يشمل إمامة المرأة لزوجها أو محارمها.

وعليه، فيتبيّن من مجموع ما تقدّم أنّه لا يوجد دليل معتدّ به على منع إمامة المرأة، غير التشبّث بأصالة عدم المشروعيّة.

 

2 ـ القول بمشروعيّة إمامة المرأة لجماعة الرجال، الآراء والأدلّة

وفي مقابل هذا الرأي، يُنسب إلى الطبري وابن عربي والمزني وأبي ثور صحّة إمامة المرأة للرجال مطلقاً، فيما عدا خطبة وصلاة الجمعة، وذكر بعضٌ أنّ أحد الأقوال في مذهب أحمد بن حنبل هو جواز إمامتها لمحارمها في النافلة إذا كانت أقرأ منهم. ولكن توجد نقاشات في دقّة النسبة لهؤلاء، وأنّها على إطلاقها أو في خصوص صلاة التراويح، وأيضاً ثمّة من يرى أنّ أبا ثور كان يرى عدم لزوم إعادة الصلاة التي صلاها الرجل خلف المرأة، وهذا كلام قد يفتح على احتماليّة أنّه لا يريد تجويز إمامتها بقدر ما يريد تصحيح الصلاة على تقدير تحقّقها، وكأنّه يمنع عن ذلك، لكن لو وقع صحّت الصلاة، بل فسّر كلامهم بأنّ المراد هو من صلّى خلف المرأة غير عالم بأنّ الإمام امرأة، وبعض الذين قيل عنهم أنّهم يرون صحّة إمامتها نقل عنهم أنّها تقف خلف الرجال وتؤمّهم. وفي العصر الحديث أفتى عددٌ قليل ـ مثل الشيخ حسن الترابي ـ بجواز إمامة المرأة للصلاة.

وعلى المستوى الإمامي، ثمّة من ينسب إلى الشيخ ابن حمزة الطوسي المتوفى في القرن السادس الهجري، أنّه كان لا يرى شرط الذكورة في إمام الجماعة شرطاً لازماً، بل يظهر من ابن إدريس الحلي (598هـ)، أنّه يرى وجود احتمال في تجويز إمامة المرأة للرجال، وإن مال في نهاية المطاف إلى التحريم، وقد أفتى الشيخ يوسف الصانعي، بجواز إمامة المرأة للرجال والنساء معاً، وذكر ذلك في تعليقته الفتوائية على كتاب تحرير الوسيلة.

وعلى أيّة حال، فقد يستدلّ هذا الفريق بعدّة أدلّة، أبرزها:

1 ـ قاعدة الاشتراك، على ما أفاده الشيخ الصانعي، والظاهر أنّ مراده أنّ الأحكام مشتركة بين الرجال والنساء، وهنا الأمر كذلك، فحيث لا يثبت بدليلٍ التمييزُ يفترض أن يكون حكم الإمامة في المرأة كحكمها في الرجل.

وهذا الدليل يستبطن عدم وجود مشكلة في أصالة مشروعيّة الجماعة، وإلا فإذا بني أنّ الجماعة على خلاف الأصل، ولم يقم إطلاق أو عموم على مشروعيّتها، فإنّ صورة المسألة سوف تتغيّر، كما هو واضح، وقد قلنا آنفاً بأنّنا نشكّك في جريان أصل المشروعيّة في إمامة المرأة.

2 ـ إطلاق أخبار الجماعة وعموماتها الدالّة على استحباب الجماعة مطلقاً، وهذا يفترض أنّه يوجد عموم وإطلاق في أدلّة الجماعة، وأنّ المستدلّ لا يرى أصالة عدم المشروعيّة بالشكل الذي يراه بعض الفقهاء الآخرين، وقد شكّكنا آنفاً في جريان أصل المشروعيّة.

3 ـ ما ذكره الشيخ الصانعي أيضاً من التمسّك بالأخبار الناهية عن الصلاة إلا خلف من تثق به، فإنّ هذه الأخبار تدلّ على أنّ الشرط في صحّة الجماعة كون الإمام موثوقاً به، وأنّ هذا هو المناط في الصحّة، رجلاً كان أو امرأة.

ويناقَش بأنّ نظر هذه النصوص ليس لجنس إمام الجماعة أو غير ذلك، بل نظرها للحيثيّة الدينية والتدينيّة في إمام الجماعة، فلا ينعقد لها إطلاق، علماً أنّ الإطلاق فيها هو في المستنثنى منه دون المستثنى؛ لأنّ الملاحظ فيها والمنظور هو النهي عن الصلاة خلف غير الموثوق، لا الحثّ على الصلاة خلف الموثوق، فتكون في مقام البيان بملاحظة عقد المستثنى منه، ولا يحرز كونها في مقام البيان من تمام الجهات في عقد الاستثناء نفسه.

4 ـ أمر النبيّ لأمّ ورقة بنت نوفل الأنصاريّة أن تؤمّ أهل دارها وجعل لها مؤذّناً، فهذه الرواية التي ينقلها أحمد بن حنبل في مسنده وكذلك غيره، يفهم منها ترخيص النبيّ لأمّ ورقة أن تكون إماماً لأهل دارها، وفيهم الرجال والنساء والغلام والمؤذّن، مما يدلّ على أنّ إمامة المرأة للرجال مشروعة. وعنوان "الأهل" أعمّ من النساء.

ويعتبر هذا الدليل من أكثر الأدلّة رواجاً في الفقه السنّي هنا، بل قد استدلّ به بعض فقهاء الشيعة لجواز إمامة المرأة لمثلها.

وقد يناقَش:

أوّلاً: إنّ القدر المتيقّن، من هذا الحديث ـ لو ثبت ـ هو إمامتها للنساء في البيت، فإنّ الرواية في نقل (سنن أبي داود 1: 142؛ ومسند أحمد 6: 405) مطلقة «تؤمّ أهل دارها»، ولكنّها في (سُنن الدارقطني 1: 284) مقيّدة «وتؤمّ نساءها»، ومع تردّد النقل لا يمكننا التعميم.

ثانياً: إنّ أقصى ما يدلّ عليه هذا الحديث هو جواز إمامة المرأة للرجال المحارم أو من بحكمهم لا مطلقاً، ولا يحرز أنّ الشيخ المؤذّن كان يصلّي معها جماعة. وقد مال الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ عبد الكريم زيدان لتجويز إمامة المرأة لمحارمها من الرجال والنساء. وإمكان التفكيك معقولٌ؛ نظراً لكون الشريعة محتاطة جداً في قضيّة العفّة والاختلاط، بل والتفريق بين الشأن المنزلي الخاصّ والشأن الاجتماعي العام معقولٌ، فتسرية الموقف قياس مع الفارق.

ثالثاً: إنّ المصدر الأساس للحديث هو الوليد بن عبد الله بن جميع، وهو ممن وثقة بعض وغمز فيه آخرون، والظاهر أنّ شخصيّة أم ورقة غير معروفة إلا من خلال هذا الرجل، الأمر الذي يثير تساؤلات تستحقّ التوقّف عندها.

رابعاً: إنّه خبر آحادي منفرد في بابه، فلا يحتجّ به لوحده.

والنتيجة إنّه لم يقم دليل يمنع إمامة المرأة لجماعة الرجال عدا أصل عدم المشروعيّة، وهذا الأصل يعني أنّه لا يمكن ترتيب آثار الجماعة على الصلاة خلف المرأة، لكن لو تقدّمت المرأة الرجال وصلّوا خلفها دون ترتيب آثار الجماعة فلا يرتكبون محرّماً بالعنوان الأوّلي، فالمسألة مرتبطة بالحكم الوضعي أكثر من ارتباطها بالأحكام التكليفيّة. كما أنّ النتيجة التي توصّلنا إليها لها تأثير من زاوية أخرى، وهي أنّه لا يوجد دليل أنّ الإسلام سجّل موقفاً مانعاً هنا، كلّ ما في الأمر أنّنا لا نملك دليلاً على مشروعيّة الجماعة في هذه الحال، فيُرجى الانتباه.

 

الأمر الثاني: إمامة المرأة لجماعة النساء حصراً

والمشهور هو الجواز، وخالف في ذلك المالكيّة فقالوا باشتراط الذكورة في إمامة الجماعة مطلقاً.

وقد اختلفت النصوص في هذه المسألة على مجموعات ثلاث:

المجموعة الأول: ما دلّ على الجواز مطلقاً، مثل خبر سماعة، قال: سألت أبا عبد الله× عن المرأة تؤمّ النساء؟ فقال: «لا بأس به».

المجموعة الثانية: ما دلّ على عدم الجواز مطلقاً، مثل خبر زرارة، عن أبي جعفر، قال: قلت له: المرأة تؤمّ النساء؟ قال: «لا، إلا على الميّت إذا لم يكن أحد أولى منها تقوم وسطهنّ معهنّ في الصفّ فتكبّر ويكبرن».

وإنّما اعتبرنا هذه الرواية من المجموعة المطلقة؛ لأنّ صلاة الميّت ليست بصلاة حقيقةً، بل هي أذكار ودعاء، كما تقدّم في محلّه، وإلا لزم جعل المجموعات أربعاً كما هو واضح، بإضافة مجموعة التفصيل بين صلاة الميّت وغيرها.

المجموعة الثالثة: ما دلّ على التفصيل بين النافلة والمكتوبة، مثل خبر هشام بن سالم، سأل أبا عبد الله×، عن المرأة هل تؤمّ النساء؟ قال: «تؤمّهنّ في النافلة.. فأمّا في المكتوبة فلا، ولا تتقدّمهن ولكن تقوم وسطهنّ».

وقد جمع المحدّث البحراني (الحدائق 11: 189) بين النصوص بأنّ المقصود من النافلة والفريضة هو الجماعة التي تكون مستحبّة أو واجبة، وليس الصلاة الواجبة أو المستحبّة، فجعل النافلة والمكتوبة وصفَين للجماعة دون الصلاة. والجماعة المكتوبة الواجبة ما كان مثل صلاة الجمعة، فإنّ الجماعة فيها واجبة، فلا تجوز إمامة المرأة فيها، وأمّا الجماعة في الصلاة اليوميّة فهي مستحبّة، وفي مثلها يجوز أن يكون الإمام امرأةً.

ونوقشت هذه المحاولة بأنّ تعبير النافلة والمكتوبة يستخدمان وصفاً للصلاة دون الجماعة، بل إنّ الرواية الأخيرة قالت: تؤمّهنّ، والموصوف بوصف النافلة هنا محذوف، وكلمة الجماعة ليست مذكورة سابقاً حتى تكون هي المقدَّر. بل المناسب هو الصلاة حيث قال: هل تؤمّ النساء؟ أي في الصلاة. فكلمة الصلاة مقدّرة، والمقدَّر في حكم الموجود، فتكون النافلة وصفاً للصلاة، بخلاف الجماعة فإنّها ليست مقدّرةً سابقاً.

وجمع السيد محسن الحكيم في المستمسك بحمل الروايات المانعة مطلقاً أو في خصوص الفريضة، على الكراهة، ليخرج بنتيجة أنّه تكره إمامة المرأة في الصلاة، غايته في خصوص الفريضة دون الصلاة المستحبّة؛ وذلك بقرينة الروايات الموجودة.

ونوقش بأنّ هناك جمعاً أقرب من جمعه، وهو أن تحمل الروايات المانعة مطلقاً على الفريضة، والمجوّزة مطلقاً على النافلة، بقرينة روايات المجموعة الثالثة المفصّلة. لكنّ السيد الخوئي أجاب عن هذه المناقشة بأنّ حمل المجوّزة على خصوص النافلة غير تامّ؛ لأنّه حملٌ على الفرد النادر؛ إذ الجماعة في النافلة إنّما تجوز في موردين: الاستسقاء والمعادة، وهما نادرتان. وهذا على مبنى المشهور من عدم مشروعية الجماعة في النافلة صحيحٌ، لكنّنا قلنا بأنّ الجماعة في النافلة مشروعة بالعنوان الأوّلي.

والتحقيق أنّ الروايات مضطربة ومتعارضة، وحمل المطلقة فيها على المفصّلة غير واضح؛ إذ المطلقة غير بيّنة في دلالتها على التفصيل، والحقّ أنّه مع هذا الاضطراب نرجع إلى مقتضى الأصل، ونقول بأنّ أصل عدم المشروعية لا يجري هنا؛ لكون المسألة ابتلائيّة، ولهذا نميل إلى جواز إمامة المرأة للنساء مطلقاً في المكتوبة والنافلة، وفاقاً للسيد الماتن.

 

المقام الثاني: في شرط البلوغ في إمام الجماعة

هذا الشرط وافق عليه بعضٌ، ورفضه آخرون، واحتاط فيه جماعة ثالثة. وتوجد هنا مجموعتان من النصوص، تفيد الأولى ـ وهي حوالي ثلاث روايات ـ جواز إمامة الصبيّ للرجال، مثل خبر غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد الله×، قال: «لا بأس بالغلام الذي لم يبلغ الحلم أن يؤمّ القوم..»، فيما تفيد الثانية عدم الجواز، وتحكم بفساد الصلاة، مثل خبر إسحاق بن عمار، عن أبي جعفر عن أبيه: «إنّ عليّاً كان يقول: لا بأس أن يؤذّن الغلام قبل أن يحتلم، ولا يؤمّ حتى يحتلم، فإن أمَّ جازت صلاته وفسدت صلاة من خلفه».

والظاهر تعذّر الجمع العرفي بينهما؛ لأنّ الثانية صرّحت بفساد صلاة المأمومين، فتتساقط الطائفتان، ونرجع لأصل المشروعيّة؛ انطلاقاً من أنّ إمكانية تحقق صلاة البالغ وراء غير البالغ ـ ما دام مميّزاً لا طفلاً ـ ليست مسألة نادرة الوقوع، بل لعلّ ورود الروايات في ذلك شاهدُ الابتلاء والإمكانيّة الوقوعيّة، فيُحكم بالمشروعيّة على طبق القاعدة.

وبهذا نستنتج جواز إمامة غير البالغ ـ الذي يمكن تأتّي الصلاة كاملةً منه ـ للبالغ ولغير البالغ معاً، ولعلّه لهذا ورد في خبر سماعة بن مهران التقييد بأن يبلغ عشر سنوات، في إشارة لكونه واعياً ومميّزاً وموثوقاً بأدائه الصلاة الصحيحة.

([2]) هنا أمور:

 

الأمر الأوّل: في أصل القول بشرط العدالة في إمام الجماعة

هذا هو المشهور من مذهب الإماميّة، بل قيل بأنّه من متفرّداتهم وإن كان هناك قول للحنابلة بعدم صحّة إمامة الفاسق. ولعلّه من العسير للغاية العثور على من شكّك في هذا الشرط هنا من الإماميّة.

والمستند عدة روايات كلّها قابلة للنقاش:

الرواية الأولى: ولعلها أهمّ رواية في المقام، وهي رواية سماعة، قال: سألته عن رجل كان يصلّي، فخرج الإمام وقد صلّى الرجل ركعة من صلاة فريضة، قال: «إن كان إماماً عدلاً فليصلّ أخرى، وينصرف ويجعلها تطوّعاً، وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو، وإن لم يكن إمام عدل فليبنِ على صلاته كما هو ويصلّي ركعة أخرى ويجلس قدر ما يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله، ثمّ ليتمّ صلاته معه على ما استطاع، فإنّ التقية واسعة».

ومعنى الرواية أنّه إذ دخل الإمام وكان الرجل قد صلّى ركعة منفرداً، فإن كان الإمام عادلاً قلبها إلى نافلة وسلّم، ثمّ دخل مع الإمام، وإن لم يكن الإمام عادلاً استمرّ في صلاته إلى أن يجلس للتشهّد، فيتشهّد، ثمّ يتم صلاته شكلاً مع الإمام، وبذلك تكون الركعة الأولى للإمام ثالثة للمأموم والثانية رابعة له، وكأنّه بهذه الطريقة أرادت الرواية أن يقرأ المأموم لنفسه في الركعتين الأوليين، وبعد ذلك لا بأس أن يتمّ معه الصلاة في الركعات الباقية؛ لعدم حاجته للقراءة.

لكنّه قيل بأنّ هذه الرواية ضعيفة دلالةً باعتبار احتمال أن يكون المراد من إمام العدل، هو الشيعي مقابل غيره، ولا يراد به ما يقابل الفاسق، ومما يؤيّد هذا الاحتمال التعبير بالعدل دون العادل، وكذلك التعليل في ذيل الرواية: فإنّ التقية واسعة.

الرواية الثانية: خبر عمر بن يزيد، سأل أبا عبدالله× عن إمامٍ لا بأس به في جميع أموره عارف غير أنه يُسمع أبويه الكلام الغليظ الذي يغيظهما، أقرأ خلفه؟ قال: «لا تقرأ خلفه ما لم يكن عاقاً قاطعاً». وذلك أنّ هذه الرواية لم تجعل المدار على غلظة الكلام، بل على القطع والعقوق وهما محرّمان، فيُفهم من ذلك أنّ العدالة شرطٌ.

ويناقش بأنّ موردها العقوق والقطيعة، وهما من الكبائر العظيمة، فلعلّ لهما خصوصيّة من بين الذنوب، فلا يمكن التعدّي منهما إلى غيرهما، وعلى تقديره فيتعدّى إلى الشخص الذي يرتكب كبائر الذنوب لا مطلقاً.

الرواية الثالثة: خبر عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن عليّ×، قال: «الأغلف لا يؤمّ القوم وإن كان أقرأهم؛ لأنّه ضيّع من السنّة أعظمها، ولا تقبل له شهادة، ولا يصلّى عليه، إلا أن يكون ترك ذلك خوفاً على نفسه»، فهذه الرواية دلّ على أنّ كلّ من ضيَّع السنّة فلا يجوز الاقتداء به، وما ذاك إلا لأنّه فاسق، فيُفهم اعتبار العدالة في الإمام.

ويناقش بأنّ الرواية لم تُعبّر بـ: لأنّه ضيّع السنّة، حتى يُتعدّى إلى كلّ تضييع لها، وإنّما عبّرت: «لأنه ضَيَّع من السنّة أعظمها»، وعدم جواز الاقتداء بمن ضيّع أعظم السنّة لا يستلزم التعدّي إلى من ضيّع الأخفّ.

الرواية الرابعة: خبر سعد بن إسماعيل، عن أبيه، قال: قلت للرضا×: رجل يقارف الذنوب وهو عارف بهذا الأمر أصلّي خلفه؟ قال: «لا».

وقد يناقش السند بأنّ سعد بن إسماعيل ووالده مجهولا الحال ولم تثبت وثاقتهما، بل قد تناقش الدلالة بأنّ عنوان "المقارف للذنوب"، لا يصدق على من ارتكب ذنباً واحداً أو ذنبين، خصوصاً مع وجود الفاصل الزمني الكبير بينهما، وإنّما يصدق على من يرتكب الذنوب ويزاولها بكثرة، فلا تدلّ على شرط العدالة بالمعنى المطروح عندهم هنا.

وإلى جانب هذه النصوص التي هي العمدة، توجد بعض النصوص الأخرى، وهي على ثلاثة أقسام:

أ ـ قسمٌ منها لا دلالة فيه أصلاً على شيء هنا.

ب ـ وقسم آخر دالٌّ على عدم الائتمام بشارب الخمر أو الفاجر أو نحو ذلك من العناوين.

ج ـ وقسمٌ ثالث يدلّ على عدم الصلاة خلف الفاسق مطلقاً.

وهنا: أمّا القسم الأوّل والثاني فلا يعطيان أكثر مما توصّلنا إليه من النصوص الثلاثة الأخيرة المتقدّمة، وسنشير إليه قريباً، وأمّا القسم الثالث فرواياته ضعيفة الإسناد جداً، قليلة العدد، فراجعها وأمثالها في مثل الباب الحادي عشر من أبواب صلاة الجماعة من "الوسائل".

وبهذا يظهر أنّ النصوص لا تدلّ على شرط العدالة، بمعنى ترك جميع المحرّمات وفعل جميع الواجبات، فضلاً عن مرحلة المَلَكَة، بل غايتها الدلالة على مانعيّة أن يكون إمام الجماعة شخصاً فاجراً متهتّكاً مرتكباً لكبائر الذنوب وأمثال ذلك، فهذا هو القدر المتيقّن منها، وأمّا ما دلّ على كليّة شرط العدالة وعدم الفسق، مثل الرواية الأولى المتقدّمة، فهو ـ لو تمّ دلالةً ـ خبرٌ آحاديّ قليلٌ للغاية.

قد تقول بأنّنا نستند للإجماع وأصل عدم المشروعيّة.

والجواب:

أ ـ أمّا الإجماع، فهو واضح المدركيّة، فلا نطيل.

ب ـ وأما أصالة عدم المشروعية، فمن الصعب التمسّك بها هنا، لما قلناه فيما مضى، وذلك أنّ مسألة الجماعة شديدة الابتلاء، وعدم عدالة بعض الأئمة أيضاً أمرٌ كثير الوقوع، وبخاصّة بالتعريف المتداول بينهم للعدالة، وبالأخصّ على مبنى الملكة، فلو كانت العدالة شرطاً لوقع التساؤل عنها، كما هي الحال في زماننا، فإنّ الأسئلة كثيرة عن عدالة الشخص في زماننا بسبب ذكر هذا الشرط في الفتاوى، ومع ذلك لا نجد شيئاً من هذا القبيل في النصوص، بل نجد نصوص السؤال عن غير الشيعي أكثر من نصوص السؤال عن العدالة.

نعم، قد يلتزم بالمقدار الذي ذكرناه للعدالة، وهو أن لا يكون فاعلاً لأعظم المحرمات أو متهتّكاً، كما ويؤخذ بحسن الظاهر والسياقات المحيطة، ككونه إمام مسجدٍ يرجع إليه المؤمنون للصلاة خلفه، وهكذا. وقد كنّا سمعنا عن الشيخ ناصر مكارم الشيرازي قوله بأنّ شرط العدالة ـ كما هو مذكور ومبيَّن في الكتب الفقهيّة ـ يفرض أن لا تتوفّر إمكانيّة لإثبات عدالة أيّ أحد للصلاة خلفه في طهران كلّها، عدا واحدٍ أو اثنين!

 

الأمر الثاني: مدى قدح ترك جميع المستحبّات في ثبوت العدالة

تعرّض لهذه المسألة المتأخّرون، وحصل نقاشٌ بينهم فيها، فنُسب إلى بعضٍ ـ ومنهم الشهيد الأوّل ـ أنّه يقول بأنّ ترك جميع المستحبّات يقدح في العدالة، حتى لو التزم الشخص بفعل الواجبات وترك المحرّمات، لكنّ المشهور رفض هذه الفكرة، وهذا هو الحقّ؛ إذ لم يثبت في النصوص شيءٌ من هذا القبيل، بل في بعض النصوص ما اعتبروه إشارة لعدم قدح المعصية الصغيرة بالعدالة فكيف تقدح المستحبّات بها؟! وفي بعض النصوص أنّه لو أتى الإنسان بالواجبات فإنّه لا يُسأل عن غيرها، بل ذات المستحب المتضمّنة لجواز الترك تقتضي في كلّ مستحبٍ إمكان تركه، فما معنى الإلزام ببعض المستحبات في الجملة؟! كما لم يثبت أنّ ترك جميع المستحبات أو فعل جميع المكروهات أمرٌ محرّم، فضلاً عن أن يكون من الكبائر! بل حتى لو تهاون الشخص بالمستحبّات فانطلق تركه لها من تهاونه بها واستخفافه بأمرها، لم يثبت قدحه في العدالة هنا، خلافاً لمن استثنى هذه الحال، وقال بأنّها تقدح في العدالة؛ إذ مجرّد الاستخفاف بالمستحبّ لا دليل على كونه قادحاً، ما لم يعني تكذيب النبيّ أو نحو ذلك.

وربما انطلق هؤلاء من أنّ ترك جميع الناس لجميع المستحبات هو تعريضٌ للشريعة للخطر، وهذا الكلام لو تمّ يثبت الأمر بعنوان ثانوي موردي، لا بالعنوان الأوّلي، علماً أنّه لو أنّ الشريعة تريد فعل بعض المستحبات في كلّ عصر، لألزمت بها بنحو الوجوب الكفائي مثلاً أو غير ذلك، ولا عين ولا أثر في النصوص لشيءٍ من هذا القبيل.

ويظهر من بعضهم أن قادحيّة ترك المستحبات في العدالة ليس لكون هذا الترك محرماً، بل لكونه خلاف المروءة.

لكن يمكن الإشكال عليه كبرويّاً على أقلّ تقدير، حيث لم يثبت أنّ المروءة شرطٌ في العدالة أو في إمامة الجماعة.

 

الأمر الثالث: مجهول الحال

هل العدالة شرطٌ في إمام الجماعة أو أنّ الفسق مانع؟

تظهر تأثيرات هذا السؤال في مجهول الحال، فلو رأينا إماماً لا نعرف حاله، فبناءً على شرط العدالة لا يجوز الاقتداء به؛ إذ نشكّ في اتصافه بوصف العدالة، ولا مثبت لتحقّق الوصف، بينما بناءً على مانعيّة الفسق يجوز الاقتداء به؛ إذ نشكّ في اتصافه بالفسق، والأصل عدمه.

والأقرب القول بالمانعيّة؛ لأنّ عمدة الدليل على اعتبار العدالة إن كان هو الإجماع والضرورة، فهما لُبّيّان يقتصر على المتيقّن منهما، وهو مانعيّة الفسق، بل لو رجعنا إلى الروايات أمكن استفادة المانعية منها أيضاً، فإنّ بعضها عبَّر بـ: ما لم يكن عاقّاً قاطعاً، ولو أردنا التعدّي إلى بقية الذنوب، فالأنسب القول بمانعيّة الذنب لا بشرطيّة عدمه. وهكذا رواية: الأغلف لا يؤمّ القوم.. فهو المتصف بالذنب، فيثبت بذلك مانعيّة الفسق دون شرطيّة العدالة، بل رواية سعد أوضح حيث قالت: رجلٌ يقارف الذنوب، فالممنوع هو الصلاة خلف مرتكب الذنب.

نعم، الرواية الأولى هنا يمكن أن يقال باستفادة شرطيّة العدالة منها، حيث ذكرت الترديد بين العادل وغير العادل، لكن سبقت مناقشة دلالتها عند بعضٍ، على أنّها خبر آحادي منفرد.

وقد تقول: يمكن الأخذ برواية يزيد بن حماد، عن أبي الحسن×: قلت له: أصلّي خلف من لا أعرف؟ فقال: «لا تصلّ إلا خلف من تثق بدينه».

وأجاب بعضٌ بأنّها مرتبطة بسلامة العقيدة، دون سلامة السلوك، وبخاصّة مع التعبير فيها بـ «دينه» دون «تديّنه»، علماً أنّها ضعيفة السند.

والنتيجة: لم تثبت شرطيّة العدالة في إمام الجماعة، بل ثبتت المانعيّة، فإذا قلنا بمذهب المشهور فمانعيّة مطلق الفسق تضرّ بالإمامة هنا، وأمّا على مسلكنا فالمانعيّة تثبت لعناوين مثل الفجوز والتهتّك وارتكاب أعاظم الذنوب، ومع هذا كلّه فمجهول الحال تجوز الصلاة خلفه.