hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

الفقه السياسي الإسلامي في ضوء نظريّة مقاصد الشريعة

تاريخ الاعداد: 5/12/2025 تاريخ النشر: 5/12/2025
880
التحميل

حيدر حبّ الله([1])

 

تمهيد

ورِثَ الفقه الإسلامي دور الحكمة العمليّة في الفلسفة، فتراجع التفكير الفلسفي العملي بين المسلمين لصالح الحلول الفقهيّة القائمة على هدي الكتاب والسنّة، ولا يزال الفقه الإسلامي يملك ـ نتيجة ذلك ـ نفوذاً غير قليل على الأفراد والجماعات المسلمة، كما ينظر إليه كثيرون على أنّ تطبيق نتائجه (تطبيق الشريعة) يمثل الحلّ الذي يمكنه أن يخرج الأمّة المسلمة من الوضع التي هي فيه.

ولا ينبغي الاستخفاف بدرجة نفوذ الفقهاء على الحياة الفرديّة والاجتماعيّة لكثير من المسلمين، إلا أنّ عاملاً متغيّراً جديداً طرأ في العصر الحديث وضعَ الفقهَ الإسلامي أمام تحدٍّ لم يسبق له أن وُضع في مثله، وهذا العامل مكوّن من ثلاثة عناصر:

أ ـ الحداثة والدولة الحديثة، فقد أفرزت الحداثة نتائج عدّة على غير صعيد، وكان منها تغيير بناءات الدولة وهويتها ودورها وشكلها الذي كان سائداً من قبل، ولا سيما في البلدان المشرقيّة. فالدولة التي نعرفها اليوم ليست إلا نتاجاً للحداثة ومستتبعاتها، وبخاصّة ضمن سياقات مثل الدولة بالحدّ الأعلى للتدخّل، والتي عرفت في النصف الأوّل من القرن العشرين، ثم الدولة بالحدّ الأدنى في سبعينيّات القرن الماضي، ثم النظريّات البديلة التي جاءت بعد ذلك.

ب ـ تطوّر العلوم الصناعيّة، ثم التكنولوجيّة والمعلوماتيّة، إلى جانب العلوم الإنسانيّة، حيث أدّى إلى تغيير الأنماط الاجتماعيّة والاقتصاديّة وإعادة تكوين البناءات الثقافيّة للشعوب.

ج ـ دخول الفقه الإسلامي ساحة الإمساك بالسلطة وإدارة الدولة، كما حصل ـ إلى اليوم أو في بعض الفترات الزمنيّة ـ في بعض البلدان، ومن بينها إيران والمملكة العربيّة السعوديّة وأفغانستان والسودان (الأحوال الشخصيّة والقوانين الجزائية والجنائيّة)، وكذلك ما حصل مع بعض الأنظمة ذات الشكل المختلط الذي دمج بين القانون الحديث والشريعة (الأحوال الشخصيّة) مثل مصر ونيجيريا وغيرها.

أدّت هذه العناصر الثلاثة لخلق مرحلة جديدة في تعامل الفقه مع الحياة، وفرضت عليه التفكير في اجتهادٍ يمكنه إدارة الدولة الحديثة ـ كليّاً أو جزئيّاً ـ في ظلّ تطور العلوم الطبيعية والإنسانيّة على غير صعيد، فالفقه في القرون الإسلاميّة الأولى لم يكن له منافس حقيقي في إدارة البلاد على مستوى الأنظمة القضائية والحسبة والاقتصاد والعقوبات والأحوال الشخصيّة والقوانين المدنيّة، بينما ظهر له منافسون أقوياء في العصر الحديث، الأمر الذي فرض عليه مواجهة هذا التحدّي بطريقة مختلفة، وكان من بينها إعادة إحياء التفكير المقاصدي، بوصفها محاولة لتثوير التراث الإسلامي واستنطاقه في إمكاناته وطاقاته لمعالجة الوضع القائم اليوم. وهو ما سنحاول الحديث عنه في هذه الورقة.

ولا بدّ لي من الإشارة مسبقاً إلى أنّه ليس هدفنا هنا الانتصار للتفكير المقاصدي أو تبرير اجتهاداته الشرعيّة، فهذا موضوع تعرّضنا له بالتفصيل في كتابنا: الاجتهاد المقاصدي والمناطي، إنّما الهدف هو رصد شبكة العلاقة بين الاجتهاد المقاصدي في الشريعة والفهم المقاصدي للدين من جهة، وكلّ من الفقه السياسي وفقه الدولة من جهة ثانية، وتبيان التأثيرات التي يمكن أن يتركها الفهم المقاصدي على العمل السياسي والإدارة المجتمعيّة عموماً، سواء على صعيد دول أم أحزاب إسلاميّة أم تيارات وجماعات.

سوف أجعل البحث ضمن مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى: علاقة الفقه المدرسي بالفقه السياسي وفقه الدولة، وشرح المشكلات القائمة.

المرحلة الثانية: محاولة علاجيّة حديثة لتطوير العلاقة بين الاجتهاد الشرعي والفقه السياسي الحديث (مدرسة ولاية الفقيه).

المرحلة الثالثة: محاولة الاجتهاد المقاصدي المتحالف مع نظريّة عدم شمول الشريعة، في تكوين فقه سياسي إسلامي معاصر.

 

أوّلاً: ما هي مشكلة الفقه المدرسي مع بناء الفقه السياسي (الإدارة والسلطة)؟

ثمّة سؤال مهم جداً لا بدّ لنا من الشروع به في هذه المرحلة الأولى من الحديث، وهو ما هي مشكلة الفقه المدرسي السائد في علاقته بفقه الدولة والعمل السياسي؟ أساساً هل توجد مشكلة هنا أو لا؟ وإذا كانت ثمّة مشكلة فلماذا؟ وما سبب هذه المشكلة؟

يمكن الإشارة لبعض أوجه هذه المشكلة، وأبرزها:

 

1 ـ الفقه المدرسي بين الغياب النسبي عن الواقع ومداريّة مفهوم "براءة الذمّة"

أوّل مشكلة تظهر في الفقه السائد هي نظام الحجيّة، ولكي أشرح هذه المشكلة التي لا يستهان بها لا بدّ لي أن أوضح أنّ فكرة "الحجيّة" بمفهومها في أصول الفقه تستقلّ عن الحجيّة بالمفهوم المنطقي([2])، وهذا ما يدفع لسلسلة من النتائج، فقد اعتقد الأصوليّون بأن حجّية أمرٍ ما غير معنيّة ــ عادةً ــ بإيصالـ هذا الأمر لليقين أو الواقع عندما نترك فعلاً حجيّة اليقين نفسه؛ لأنّ الحجيّة بمفهومها الأصولي مبدأ ينتمي إلى دائرة العقل العملي، إذ تعني تنجّز التكليف على العبد ودخولـه دائرة مسؤوليته من جهة، وعذر العبد في العمل على تقدير عدم إصابة الاجتهاد للواقع في أسوأ الحالات، وهو ما يسمّى: المنجزية والمعذّرية، وَجْهَا الحجيّة. أمّا الحجية بمفهومها المنطقي، فتعني اشتمال دليلٍ ما على درجة معياريّة تسمح بتبنّيه طريقاً إلى الواقع.

إنّ تكوّن الحجيّة بمفهومها الأصولي المنتمي إلى دائرة العقل العملي فيما يلزم ويعذر، ينبغي ولا ينبغي، بمعزل عن الحجية بمفهومها المنطقي المنتمي إلى دائرة العقل النظري الـهادف إلى تحديد الواقع والإنباء عمّا هو كائن.. أدّى إلى أن لا يُعنى الأصولي ـ في كثير من الأحيان ـ بوضع معايير على مستوى العقل النظري تحدّد مدى جدوائية سبيلٍ ما لإثبات الواقع أو للوصول إليه، فالنصّ ليس في حقيقته سوى واقع تاريخي، ومن ثَمّ فالحديث عن وسائل لإثباته يعني الدخول في فلك العقل النظري الذي يُعنى بما هو كائن؛ لأن النصَّ كائنٌ في الزمان والمكان، فعندما ينظر الأصولي إلى أخبار الآحاد والظهورات اللفظيّة وغيرها بمنظار الحجيّة التعبديّة (براءة الذمّة على تقدير العمل بها) فهو غير معنيّ بمدى إصابة خبر الواحد للواقع، ومن ثم فخبر الواحد عنده ليس وسيلةً لإثبات ما هو كائن بقدر ما هو مخرج تقوم على أساس منه (الماينبغيّات)، ولذلك لا يجد الأصولي حرجاً في التصريح بأنّ خبر الواحد مثلاً حجّة يجب العمل به والالتـزام بمضمونه مع أنه لا تُعْلَم إصابته للواقع؛ لأنّ الأصولي غير معنيّ بإصابة الواقع تماماً، وبهذا يكون نظام الحجج الأصولية معنيّاً ببراءة الذمم، ومرتبطاً تلقائيّاً بحركة الفرد في علاقته بربّه وتحصيل النجاة يوم القيامة، فأنا أقوم بالفعل الفلاني الذي ورد الأمر به في رواية آحاديّة؛ لأنّه ينبغي لي القيام به حتى لو لم أكن متأكّداً بأنّه حكم الله الواقعي، والسبب في قيامي به أنّ ذلك ينجيني يوم الحشر عند الله تعالى.

إنّ انعزال نُظم الحجيّة الأصولية ــ بل بما يشمل الأصول العمليّة أيضاً ــ عن الواقع بهذا المعنى المشار إليه آنفاً، وظهور فكرة الحكم الظاهري في مقابل الحكم الواقعي، يجب أن يأخذ امتدادته الطبيعية، وإنّ نظريات الجمع بين الواقع والظاهر يجب أن تجعلنا نقرّ بأنّ مخرَجات الفقه الإسلامي ـ خارج عصر النصّ على الأقلّ ـ يمكنها أن تجنّبني الحدّ الأعلى من الأضرار، لكنّه ليس ما يؤكّد أنّه لو عمل بها الناس لتلاشت مشاكلـهم وحقّقوا التقدّم في كلّ ميادين الحياة دونما نقص أو خلل، إذ لا يُعلم أنّها ـ مخرجات وفتاوى الفقه المتوفرة ـ شريعةُ الله ومنهاجه في الحياة والذي أرسله مع رسوله المصطفى، فالفقه ليس هو الشريعة تماماً، ولهذا يؤخذ على كتّاب تاريخ الفقه الإسلامي أنّهم يبحثون تاريخ الفقه تحت عنوان "تاريخ الشريعة الإسلاميّة" أو "تاريخ التشريع الإسلامي"، في حين "الفقه" ليس أمراً مرادفاً للشريعة، بل قد يلتقي بها وقد يخطأها، وما كان عبر التاريخ من تطوّرات إنّما هي تطوّرات الفقه الذي هو فهوم الفقهاء للنصّ الديني بهدف معرفة الشريعة، وليس هو الشريعة نفسها.

هذا كلّه معناه أنّ من الخطأ استخدام خطاب ديني يدّعي تقديم حلول للبشرية ضمن صيغ إطلاقيّة جازمة؛ لأنّ موازين الاجتهاد الفقهي لا تتحمّل خطاباً كهذا حتى لو تحمّلته الأصول المعرفية للخطاب الديني عموماً، فليس بإمكاني القول بأنّنا لو طبّقنا فقهَ الاقتصاد الإسلامي اليوم (=مجموعة الفتاوى المتعلقة بالحياة الاقتصاديّة) سوف نصل إلى أفضل صيغة للحياة الاقتصادية؛ لأنّنا لا نعرف أنّ هذا الفقه مطابق لما أتى به الرسول وأهل بيته الكرام أو لا؛ فكيف لنا أن ندّعي أنّ العمل بما في هذا الفقه يجرّ إلى سعادة الدارين معاً؟! هذه إشكاليّة ليست بسيطة إطلاقاً.

تجرّ هذه المشكلة إلى ظاهرة يقرّ بها الفقهاء، وبخاصّة الإماميّة، وهي ما يعرف بظاهرة قيامة الفقه على "تأليف المفترقات وتفريق المؤتلفات"، والتي صرّح بها بعض كبار الفقهاء من أمثال الميرزا محمد حسين النائيني (1355هـ)([3])، فالفقيه يلاحق الأدلة التي هي في الغالب ظنيّة، ونتائج الأدلّة كثيراً ما لا تكون متّسقة، فقد يكون اللحم محرّماً لكنّ مرقه حلال، والشيء وما يلاصقه كلّ واحد له حكم مغاير بينما الأشياء المتباعدة لها أحكام متشابهة، وعندما يراد بناء منظومة فقهيّة متكاملة يُواجه الباحث مشكلة عدم الاتساق بين أجزاء النظريّة الواحدة، وهذا ما أدركه وصرّح به بوضوح السيّد محمد باقر الصدر (1400هـ) في "اقتصادنا"، لهذا حاول إجراء عمليّات تلفيق بين الاجتهادات للتوصّل إلى نظريّة فقهية متكاملة ومتسقة([4])؛ لأنّ اجتهاد الفقيه الواحد لن يمكّنَه في العادة من الخروج بنظريّة فقهيّة في الاقتصاد الإسلامي كلّه تتّسم بالاتساق؛ لأنّ نظام الحجج كما قلنا يفصل اللازم عن الملزوم ويفرّق بين المؤتلفات.

إذا أخذنا هذه النتائج نحو الفقه السياسي وفقه الدولة، وحملنا معنا ما قاله الوحيد البهبهاني (1205هـ): «إنّ غالب طرق معرفة الأحكام في أمثال زماننا هذا ظنيّة»([5])، فإنّ المخرَجات الفقهية المدرسيّة ليست حلولاً مضمونة لمعالجة القضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة وأمثالها، وفي الوقت عينه لا ضمانات على تحقيق اتساق فيها يخدم هدفاً واحداً، وبذلك يقف العلماني في مقابل الإسلامي، ففيما يدّعي العلماني أنّه يعتمد نظريات مستدلّة وينتهج توليفة علوم للتوصل إلى نتائجه ووضع مشاريعه، يطرح الإسلامي نظريّته في تفاصيلها دون أن يقول بأنّها مشروع الإسلام الواقعي، ومع ذلك يلزم على الناس لتفريغ ذمّتهم أن تعمل بها. ويترتب على ذلك أنّ الفقيه الإسلامي عندما يجد أنّ تطبيق الشريعة لا يؤمّن المخرَجات المطلوبة والمنشودة، فهو يعمد إلى العناوين الثانوية وأمثالها لسدّ الفجوة القائمة!

الغياب النسبي عن الواقع تسبّب في ظهور الحيل الشرعيّة، فهذه الحيل كان لها وجه واقعي مقبول؛ إذ جاءت بهدف تذليل العقبات وتسهيل الأمور وفتح بعض الانسدادات، لكنّ تضخّمها في الفقه السنّي، وبخاصّة الفقه الحنفي، ثمّ انتقالها إلى الفقه الشيعي، حوّلها إلى مشكلة، فبتغيير بعض الأمور الشكليّة يمكن الوصول لنفس النتائج، وبهذا صار الفقيه المدرسي يهتمّ لشكليات الصور القانونيّة بدل النظر في الواقع والنتائج، فالمعاملة الربويّة إذا كانت محرّمة وتحتوي ظلماً كما وصفها القرآن الكريم، فإنّ تغييرات شكليّة فيها لن يغيّر من النتائج على أرض الواقع شيئاً، في حين الحيل الشرعية تسمح لنا بالوقوع في واقع الربا مع الفرار من التسمية([6]).

وخلاصة الكلام: إنّ البنية الايبستمولوجيّة والمنهجية للاجتهاد الشرعي تساهم في طبيعتها في فردانيّة الفقه من جهة أولى، وربطه ببراءة الذمّة من جهة ثانية، وغيابه النسبي ـ وليس الكامل بالطبع ـ عن الواقع والمخرَجات من جهة ثالثة، وتسهيل اعتماده على العناوين والأسماء بدل المعنونات والواقع العيني من جهة رابعة، وهذه كلّها تعرقل قيامة الفقه السياسي بوصفه منظومة متكاملة متسقة قابلة للتقويم والرصد، تهدف لتحقيق نتائج على أرض الواقع.

 

2 ـ غياب مصالح الأحكام، والتقابل بين الإدارة العقلانية والتعبّدية

قضيّة أخرى يواجهها الفقه المدرسي، وبخاصّة في المذهب الإمامي، وهي أنّ معرفة ملاكات الأحكام وخلفيّاتها من المصالح والمفاسد التي نشأ الحكم منها، يعدّ أمراً صعباً للغاية، وكثير من النصوص التي بيّنت علل الأحكام لم تحظَ بقبول الفقهاء المجتهدين، وكانت الفكرة المهيمنة تقضي بأنّ العقل الإنساني غير قادر على معرفة المصالح والمفاسد الكامنة خلف التشريعات، فالمطلوب منه العمل بشرع الله حتى ولو خيّل له أنّ هذا الحكم أو ذاك ليست فيه مصلحة بل فيه مفسدة؛ لأنّ شرع الله لا يُقاس بالعقول الناقصة. بل ذهب بعضٌ ـ مثل الفيض الكاشاني (1091هـ)([7]) ـ إلى أنّ علم الفقه هو علم المقرّبات والمبعّدات عن الآخرة، وكأنّه يقول بأنّ هذا العلم لا علاقة له ببناء الدنيا، وربما من هنا تلتقي النقطة السابقة (فكرة براءة الذمّة بوصفها فكرة محوريّة) مع هذه النقطة الثانية هنا.

عندما نحمل هذا النمط من التفكير إلى مجال العمل السياسي والاقتصادي وبناء فقه الدولة، فهذا يعني أنّ على حاكم المسلمين العمل بالشريعة، حتى لو رأى أنّه لا توجد مخرجات لذلك؛ فلو أجرينا قانون العقوبات الإسلامي، ثم لاحظنا أنّه لا يعطي نتائجه في الحدّ من الجريمة أو الرذائل الأخلاقيّة، فإنّ علينا الاستمرار به حتى لو توفّر قانونٌ آخر يمكنه تأمين الغاية نفسها. بهذه الطريقة سوف نجد أنفسنا أمام منهجين إداريّين للسلطة: المنهج العقلاني في الإدارة القائم على المحاسبات والمراجعات والإحصاءات ورصد النتائج والمخرَجات وإجراء تعديلات دائمة، ومنهج تعبدي قائم على الالتزام بنتائج الفقه الإسلامي بعيداً عن أيّ مراجعة ميدانيّة، ومن الطبيعي أنّ الإدارة التعبّديّة للدولة أمرٌ غير معقول، ولهذا يعاني الفقه هنا من القدرة على التوليف بين تعبديّته وعقلانيّة الإدارة، وفي حالات من هذا النوع نجد الفقهاء يلجؤون ـ وفقط عند الضرورات القصوى ـ إلى العناوين الثانوية لفضّ الاشتباك.

من هنا، يمكن التعريج أيضاً على نقطة مفصليّة في أدبيات الخطّ الإسلامي، وهي فكرة أداء التكليف الآتية من هذا البناء الاجتهادي النمطي في الفقه الإسلامي، فكأنّ المطلوب منّا هو القيام بأداء التكاليف دون أن نكون مطالبين بالنتائج، وهي فكرة كان أثارها أيضاً شخصٌ لديه رؤية تجديديّة مختلفة كما سنرى قريباً، وهو السيد روح الله الخميني (1989م) في أواخر حياته، في بيانه الشهير بـ "بيان شباط". إنّ فكرة أنّني ملزم ـ فرداً كنت أو جماعة ـ بأداء التكليف لا بالنتائج، تقع على النقيض من التفكير المقاصدي في مجال الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة؛ لأنّ بناء الدول والأنظمة والهياكل والسياسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة يقوم على المحاسبات والدراسات ومقارنة الواردات بالمخرَجات، ووضع معايير للنجاح والفشل، كما في أيّ عمل إداري صغير أو كبير، بينما فكرة أداء التكليف، يمكنها أن تتحكّم بتصرفات فردٍ من الأفراد هنا أو هناك في حالة أو حالات، غير أنّها لا يمكن تطبيقها على مستوى المجتمع أو بناء الدولة على أساسها؛ لأنّ هذا معناه أنّ الفشل لم يعد له معيار، والغاية من وراء بناء الدولة لم تعد تحكم على أداء المسؤولين فيها ولا على السياسات العامّة. إنّ هذه الفكرة تشبه تماماً الفكرة التي تقول بهيمنة ثقافة الاحتياط على المستوى المجتمعي، وهي فكرة كان انتقدها السيّد الصدر([8])؛ لأنّ الاحتياط يمكن أن نفهمه في سياق نشاط فردي خاصّ، لكنّ المجتمع والدولة إذا كان الأصل في نشاطهما على مختلف الصعد هو الاحتياط، فهذا يعني شلّ حركة الإنتاج على جميع المستويات وموت التنمية.

بهذا نكتشف أنّ غياب المعرفة بغايات التشريعات وهمينة فكرة أداء التكليف والابتعاد عن عقلانية الإدارة، هي نتائج تلقائية لنمط الاجتهاد المدرسي، وغالب الظنّ ـ والعلم عند الله ـ أنّ العديد من الفقهاء التقليديّين الشيعة لا يتحمّسون لفكرة تطبيق الشريعة، انطلاقاً من إحساسهم العميق ـ إلى جانب أسباب أخرى ـ بأنّ الفقه الذي يستخرجونه غير مضمون في مجال التطبيق على المستوى المجتمعي والعام؛ بسبب هذه العقبات، وكأنّنا نعيش في عصر البدائل الاضطراريّة، فنعمل في هذا العصر بالحدّ الأقلّ الممكن، وهو تيسير إيمان الأفراد وسلوكياتهم الشخصيّة ما أمكن، حتى يأتي الفرج من الله تعالى.

 

3 ـ معضلة العناوين الثانويّة ودلالاتها

أحد الحلول الأساسيّة التي يعمد الفقه المدرسي إليها لفضّ الاشتباكات التي يواجهها على أرض الواقع، هي نظرية العناوين الثانوية مثل نفي الحرج ونفي الضرر وقواعد التزاحم وأمثال ذلك. ولا شكّ في أنّ هذه العناوين في غاية الأهميّة وتكشف عن مرونة الفقه وقدرته على التكيّف، لكنّ السؤال اليوم هو أنّه إذا ارتفع منسوب استخدام العناوين الثانوية إلى حدّ تمّ تجميد عشرات بل مئات من الأحكام الشرعيّة لمصالح وقتيّة ضاغطة، ألا يعني ذلك أنّ الفقه (الأوّلي) غير قابل للتطبيق اليوم؟ فإذا كانت أنظمة العقوبات ـ لسببٍ أو لآخر ـ نُجري فيها العناوين الثانوية فنقوم بتجميدها، ليس في حالةٍ أو حالتين، وليس ليومٍ أو يومين، ألا يعني ذلك أنّ هذه المنظومة التشريعيّة غير قابلة للتطبيق اليوم، ومن ثم فنحن عمليّاً نقوم بتطبيق نظام المصالح والأولويّات أكثر من تطبيق أصل الشرع في صيغته الأوّليّة، ومن ثم فيمكن استقراض أنظمة علمانيّة منتِجة وتطبيقها بعناوين ثانوية؟!

يقول المرجع الديني المعاصر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، في نصٍّ مهمّ بالنسبة لنا هنا: «إنّ بعض العناوين الثانويّة مما تختصّ بحالة الضرورة وشبهها، لا يمكن الأخذ بها في كلّ حال، وجعلها كقانون مستمرّ في حال الاختيار، ولا يمكن بناء أكثر أحكام الشرع عليها، وحلّ جلّ المشكلات بها، بل لا بدّ من اللجوء إلى العناوين الأوّليّة والقوانين المتخذة منها فإنّها العمدة في حلّ المعضلات الاجتماعيّة، ولو بذلنا الجهد في هذا السبيل لظفرنا بالمقصود قطعاً، ثم نأخذ من العناوين الثانويّة لحالات خاصّة وظروف معيّنة، والحاصل: إنّ القول بأنّه لا تدور رحى المجتمعات البشريّة اليوم إلا على مدار عناوين الضرورة والاضطرار والضرر والضرار قولٌ فاسد، ومفهومه أنّ حياة الإسلام وقوانينه ـ نعوذ بالله ـ قد انقضت، ودورها قد انتهى، فيكون كالمريض الذي لا تستمرّ حياته إلا بالتغذية عن طريق وريده فقط»([9]).

من الواضح لي أنّ مكارم الشيرازي يريد أن ينتقد وضعاً قائماً في التجربة القانونيّة الإيرانية وفي الحركة الفقهيّة في الحوزة العلميّة معاً، فهو يلاحظ حجم توظيف العناوين الثانويّة، بحيث بدا له أنّ الأحكام الشرعيّة الأصليّة بدأت تغيب تماماً عن مجال التطبيق والتنفيذ، وهو أدرك أنّ هذا الأمر معناه انتهاء عصر الشريعة، فالنقطة المهمّة في كلامه ـ مضافاً لانتباهه للوضع القائم ـ هي أنّ توسعة مجال عمل العناوين الثانويّة في فقه الدولة وسنّ القوانين الاجتماعيّة والاقتصادية وغيرها، يفضي تلقائيّاً إلى انتهاء عصر الشريعة الأوّليّة، ولهذا كان حريصاً على أصل الشرع منتقداً لهذه الظاهرة.

عصارة الفكرة أنّ المحاولة العلاجيّة التي يعتمدها الفقه المدرسي لتفادي مشاكله المتقدّمة ـ وهي الاعتماد على العناوين الثانوية ـ هي بحدّ نفسها تصبح مشكلة يعاني منها الفقه إذا اتسع نطاق تطبيقها وتنشيطها، الأمر الذي يكشف أنّ الفقه المدرسي غير قادر بطبيعته على تسييل مخرَجاته اليوم على أرض الواقع، ولهذا سمعتُ شخصيّاً ـ مراراً وتكراراً ـ من أستاذنا المرحوم السيد محمود الهاشمي الشاهرودي (2018م) الرئيس الأسبق للسلطة القضائية في إيران، أنّ الدولة لا يمكن تسييرها بمجموعة الفتاوى الموجودة في كتاب "تحرير الوسيلة" أو "منهاج الصالحين".

 

4 ـ تشابك معطيات علمَي: الكلام والفقه، وتعطيل فقه الدولة

تعتبر هذه القضيّة من أكثر القضايا حساسيةً في التاريخ الشيعي، فقبل القرن العشرين كان السائد لدى الكثير من فقهاء الشيعة ما يُعرف في الأدبيات الروائية الشيعيّة بـ "عصر الهدنة" أو "عصر االتقية". في هذا العصر الذي هو عصر غيبة الإمام الثاني عشر، لم تكن فكرة الدولة حاضرة إطلاقاً في الفقه الإمامي؛ ولم تكن هناك كتابات حول الأحكام السلطانيّة على غرار ما كتبه أبو الحسن الماوردي (450هـ) والقاضي أبو يعلى ابن الفرّاء (458هـ)؛ لأنّ إقامة الدولة ليست ضمن واجبات الشيعة في هذا العصر، كما أنّ المعارضة المسلّحة أو مواجهة السلطات القائمة كان أمراً محرّماً نتيجة سلسلة من الروايات التي نهت عن الخروج قبل قيام المهدي، وهو ما جعل المقاومة الإماميّة مقاومةً سلبيّة صامتة بعكس المقاومة الزيديّة والإسماعيليّة. هذا الأمر تزامن مع سلسلة من المواقف الفقهيّة التي عطّلت أجزاء أساسيّة من فقه الدولة والعمل السياسي، فبعض الفقهاء اعتبر أنّ القوانين الجزائية (الحدود والتعزيرات) لا تقام إلا بحضور الإمام الثاني عشر، كما أنّ صلاة الجمعة والعيدين والجهاد ونحو ذلك تسقط في عصر الغيبة، إمّا بمعنى حرمتها فيه، أو بمعنى سقوط الوجوب على أقلّ تقدير..

هذه التوليفة جعلت الفقيه غير محاكٍ للواقع في دراسة قضايا فقه الدولة والعمل السياسي، وجعلت الفقه الإمامي فقه تقية وتمرير وقت حتى قيام المهدي، على عكس الفقه الزيدي الذي اعتقد بوجوب القيام وبأنّ كلّ فرد من أفراد المسلمين هو مهديُّ هذه الأمّة، وأنّ علينا أن لا ننتظر أحداً لكي يخرج.

لا أريد هنا الانتصار للفقه الزيدي الثوري، لكن ما أقصده هو أنّ غياب الفقه الإمامي عن منظومة الأحكام السلطانية، كان إلى حدّ أنّ فقهاء العصر الحديث الذين مالوا للتفكير النهضوي الثوري، من أمثال الشيخ حسين علي المنتظري (2009م)، استعانوا كثيراً بكتابات الفقه السنّي في بناء أطروحة فقه الدولة في الاجتهاد الشيعي الحديث، يظهر ذلك واضحاً من أعمالهم وكتاباتهم؛ لأنّ هذه الاستعارة كانت ضرورة انتقاليّة بعد غياب طويل عن التفكير السلطاني بالمعنى الكلاسيكي للكلمة.

لا يعني ذلك أنّ الفقه الإمامي لم يدرس الكثير من القضايا المرتبطة بالحياة الاقتصادية والاجتماعيّة والسياسيّة، لكن المقصود أنّه لم يولها اهتماماً كبيراً في غير ما يتعلق بالجانب الفرديّ منها، ولهذا نجد أنّ بعض كتب الفقه حذفت كتاب الجهاد بشكل متعمّد؛ وكأنّها إشارة لعدم كونهه محلّ ابتلاء في عصر الغيبة. وربما هذا ما يفسّر اتساع رقعة كتاب العبادات بالتدريج عبر الزمن إلى جانب الأحوال الشخصيّة مثل الزواج والطلاق والإرث والوصايا، فيما يتراجع الاهتمام بكتاب الحدود والتعزيرات والقصاص والديات والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء والشهادات وغيرها.

هذا يعني أنّ البنية الكلاميّة الشيعيّة التي برّرت الحاجة للإمام المنصوص المعصوم بكونه الشخص الوحيد القادر على إدارة المجتمع، رأت نفسها في عصر الغيبة غير قادرة على كسر هذا النظام الكلامي، عزّز ذلك جملة اجتهادات فقهيّة، الأمر الذي أضرّ ببناء فقه دولة وإدارة مجتمعيّة عند الإماميّة، عدا ما نجده في القرنين الأخيرين، إلى جانب بعض الاستثناءات هنا وهناك، كما فيما حصل في بعض فترات العصر الصفوي، ولهذا قد يرى بعضٌ أنّ الحركة الثوريّة الشيعية في القرن العشرين، والتي ظهرت مع مثل السيد الخميني والسيد الصدر وأمثالهما، هي حركة إماميّة لكن بطَعمٍ ومذاقٍ زيدي، معتبرينها تحوّلاً كلامياً في العقل الشيعي قبل أن تكون تحوّلاً فقهيّاً أو سياسيّاً، ولا أقلَّ من كونها تفتح الطريق أمام تحوّلٍ كلاميّ آتٍ..

وعليه، فهذه العناصر الأربعة التي أشرنا إليها في هذه المرحلة من الحديث، ساهمت في تراجع قدرة الفقه المدرسي على تكوين فقه سياسي متكامل أو فقه دولة وإدارة قادرَين على الحكم وممارسة السلطة؛ لهذا فكّر العديد من العلماء المتأخّرين في نظريّاتٍ بديلة، تُعيد تكوين العلاقة بين الفقه والحياة السياسيّة بطريقة أفضل بما يخدم الطرفين معاً، وهو ما سوف نشير ـ في المرحلة الثانية من هذه الورقة ـ إلى عيّنةٍ من عيّنات هذه النظريات، إن شاء الله.

 

ثانياً: بعضٌ من محاولات استجابة الفقه للدولة الحديثة (رؤية مدرسة ولاية الفقيه)

قبل أن أدخل مباشرةً في دور المقاصد في تكوين علاقة الفقه بالسلطة عموماً، من الضروري رصد بعض المحاولات التي تحمل مسحةً من التفكير المقاصدي؛ لنرى ماذا أنتجت هذه المحاولات؟ وهل نجحت في حلّ الموقف أو لا؟ فلا شكّ أنّ تجربة العمل السياسي والاجتماعي إلى جانب تجربة إدارة السلطة من قبل بعض التيارات الإسلاميّة في العالم الإسلامي، وبخاصّة إيران وأفغانستان والسودان وغيرها.. أفرز وعياً مضافاً حول علاقة الشريعة بالسلطة وكيفيّة الارتقاء بهذه العلاقة لتكون أكثر معقوليّةً ونجاحاً، وواحدة من أفضل المخرَجات التي مورست عمليّاً من قبل بعض التيارات الإسلاميّة كانت التجربة الإسلاميّة في إيران، ولا بأس ـ مع اختصارٍ شديد ـ برصد أبرز عناصر إدارتها لعلاقة الشريعة بالسلطة والإدارة والعمل السياسي وفهم محتواها.

 

1 ـ ثلاثية: المصلحة، والزمان والمكان، وإطلاق ولاية الأمر، بمثابة صيغة علاجيّة

واحدة من أبرز المحاولات في العصر الحديث هي التجربة الإيرانية بقيادة السيد روح الله الخميني (1989م)، فقد اعتمدت هذه التجربة ـ بوحي من أفكار الخميني وتوجيهاته ـ على أركان عدّة أساسيّة أهمّها ثلاثة:

أ ـ مفهوم المصلحة، وهو مفهوم يقرّبنا من التفكير المقاصدي بعض الشيء، فالسيد الخميني اعتبر أنّ الركن الذي تعمل الدولة على أساسه هو ركن المصلحة، غير أنّ الإضافة التي وضعها كانت مهمّة للغاية، وذلك أنّه وضع تركيباً جديداً أطلق عليه "مصلحة النظام"، فالمصلحة التي تدور الحركة السياسيّة السلطوية في التجربة الإيرانيّة هي مصلحة السلطة أو النظام نفسه؛ والسبب في ذلك أنّ الأطروحة السياسيّة الفقهيّة للسيد الخميني تعتبر أنّ مجموعة التشريعات الإسلاميّة تصبّ كلّها في صالح مصلحة التكوين السياسي للمجتمع، فكلّ المسائل الفقهيّة المبعثرة الموجودة في الفقه لا ينبغي النظر إليها في ظرف تبعثرها، بل يُنظر إليها في ظرف إيجاد توليفة كاملة منها. ويرى الخميني أنّ هذه الصورة النهائية الناتجة عن هذا التوليف هي صورة السلطة الإسلاميّة السياسيّة، فالفقه هويته الحقيقيّة هي بناء السلطة السياسيّة، وتجلّيه الحقيقي لا يمكن رؤيته إلا في ظلّ مفهوم الدولة، وهذا يعني أنّ المقصد الأساس للفقه هو الدولة الإسلاميّة، ومن الطبيعي في هذه الحال أن تؤخذ مصالح المقصَد بعين الأولويّة والاعتبار، الأمر الذي يولّد بطبيعته مفهوم "مصلحة النظام". وقد نتج عن ذلك تأسيس ما يُعرف اليوم بـ "مجمع تشخيص مصلحة النظام"، فالفكرة أخذت لنفسها حضوراً دستوريّاً في تكوين النظام السياسي في التجربة الإيرانيّة.

ب ـ دور الزمان والمكان في الاجتهاد، هذه النظرية التي ألمح اليها في كلامٍ مختصر السيدُ الخميني أيضاً، اتّخذت تفسيرات عدّة في وسط الباحثين، لكنّ أهم التفاسير وأكثرها دقّةً في نظري هو أنّ الخميني يعتبر أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة لموضوعاتها، وهذا مفهوم تمّ تأصيله في أصول الفقه الإسلامي، غير أنّ الأمر الذي أضافه هو أنّ الموضوعات تظلّ بفعل الزمان والمكان في حالة من الصيرورة والتغيّر التدريجي الخفيّ، بحيث يبدو لنا أنّ الأمور ثابتة؛ لأنّنا لم نفقه الزمان والمكان، في حين لو وعينا الزمان والمكان جيداً، لفهمنا أنّ الحالة قد تغيّرت، الأمر الذي يستدعي تغيّر الحكم بتغيّر موضوعه وحالته، فنظريّة الزمان والمكان في فهم الخميني لا ترتبط بفكرة تاريخيّة التشريعات، كما فسّرها بعضهم بذلك، بل الأرجح أنّه يريد ربطها بالحاضر لا بالتاريخ؛ ليؤكّد أنّ الموضوعات تسير اليوم في حال من التغيّر، وأنّه لا طريق لإحراز الدولة والفقيه لتغيّر الموضوعات سوى وعي الزمان والمكان الحاضرين والمستقبليَّين. وعبر هذه الطريقة يسمح الخميني للفقه بإجراء تحوّلات ليست اجتهاديّة في العمق، بل فتوائيّة تابعة لرؤية المتغيّرات الخارجية، فقد يرى الفقيه ـ وهذا مجرّد مثال ـ أن الفائدة البنكيّة شيءٌ مغاير لظاهرة الربا مغايرةً اقتصاديّة جذرية، وأنّ اعتبار الفائدة البنكية ربا هو ناتج عن عدم وعي التحوّلات الاقتصاديّة التي تُفهمنا حقيقة ظاهرة البنك وفوائده بوصفها ظاهرة حديثة.

ج ـ الولاية المطلقة للفقيه، فالسيّد الخميني لم يقتصر على طرح نظريّة "الولاية العامّة للفقيه" والتي تمنحه السلطة في الحياة السياسيّة العامّة، لكنّه أضاف لاحقاً مفهوم "الولاية المطلقة للفقيه"، وهو مفهوم أُعيد إنتاجه في صيغة الدستور الإيراني المعدّلة والتي جرى الاستفتاء عليها بُعيد وفاة الخميني. ومن المهم أن نعرف السبب في إضافة "الإطلاق" على "العموم" في نظريّة ولاية الفقيه؛ لنفهم كيف أنّ فقهاء الدولة الإسلاميّة في إيران أرادوا بذلك ـ في الحقيقة ـ تذليل العقبات بمنح الفقيه سلطة عليا قادرة على التدخّل لحلّ أيّ أزمة قانونيّة أو ميدانيّة، فـ "الإطلاقُ" هنا اتخذَ ـ من خلال تاريخ المساجلات السياسيّة والثقافية والفقهيّة خلال العقود الثلاثة الأخيرة في إيران ـ ثلاثةَ أشكال:

الشكل الأوّل: إنّ سلطة الوليّ الفقيه أعلى من سلطة الدستور، فهي مطلقة من حيث بنود الدستور نفسه، ولهذا فهو قادر على إصدار القرارات التي تهمّ النظام الإسلامي ولو كانت مناقضةً لبعض بنود الدستور. وهذه كانت إحدى موادّ الاختلاف الأسياسيّة بين فقهاء التيارين: المحافظ والإصلاحي في إيران، ولا سيما في فترة رئاسة السيد محمّد خاتمي.

الشكل الثاني: إنّ سلطة الولي الفقيه أعلى من سلطة الشعب، بمعنى أنّ ولايته غير مقيّدة بإرادة الشعب له أو موافقة الشعب على قراراته الكبرى. وهذه هي نقطة الافتراق بين مدرسة السيّد الخميني ومدرسة الشيخ المنتظري؛ لأنّ المنتظري قدّم مقاربة عقليّة لنظريّة الولاية العامّة للفقيه، فلم يرد الذهاب نحو الفقه السنّي في سلطة الرجل المتغلّب ولو كان فاسقاً، ولا الذهاب نحو الفقه الشيعي التقليدي الذي يحصر السلطة بالإمام المعصوم المنصوص، فابتكر حلاً وسطاً انطلق فيه من أنّه لا يُعقل أنّ الشريعة تركت أمر الحكومة ولم تبيّن الحكمَ فيه، بل نحن على يقين أنّها ترى ضرورة الحكومة. والقدرُ المتيقّن للحكومة ـ في عصر الغيبة ـ هو حكومة الفقيه المنتخَب من قبل الشعب، وهذا ما تخطّاه السيد الخميني لاحقاً وفقاً لتفسير الولاية المطلقة للفقيه بأنها التي لا تتقيّد بالشعب، والكلّ يعرف أنّ عبارات السيد الخميني وكلماته في علاقة الشعب بالسلطة مضطربةٌ ومبهة ومتأرجحة، بحيث يصعب فهم رأيه الكامل والنهائي من هذا الموضوع.

الشكل الثالث: إنّ سلطة الولي الفقيه أعلى من سلطة الأحكام الشرعية الأوّلية؛ لأنّ هذه الأحكام ليست سوى أجزاء لتكوين النظام الإسلامي، والمصلحة الراجعة للنظام تمنح الوليّ الفقيه سلطة تجميد أحكام أوليّة بما فيها الحجّ، وهذا ما يجعل ثمة مقاربة بين نظريّة الإمام نجم الدين الطوفي (716هـ) في تقديم المصلحة على النصّ، والإمام الخميني في الولاية المطلقة بتفسيرها الثالث([10]).

اعتماداً على مثل هذه المبادئ التي قدّمتها مدرسة ولاية الفقيه، ذهب بعض الباحثين المعاصرين لمقاربة المشهد من زاوية علم ـ اجتماعيّة، حيث اعتبر أنّ هذه المبادئ وأمثالها مما أفرزته حركة التحديث التي رافقت الثورة الإسلاميّة في إيران تتّجه بالفعل نحو استبدال "الفقه الجواهري" بنوعٍ من عَلمنة الشريعة (Secularization)، بمعنى إحالتها من مجال العقل الديني القدسي الماورائي إلى مجال العقل البشري العملاني الدنيوي([11]). وهذا يعني أنّ المدماك الذي وضعه السيد الخميني لبناء قراءته الجديدة يمكنه أن يطيح مستقبلاً بالفقه الجواهري الذي يدافع عنه هو نفسه ويعتبره أساساً. وربما أراد هذا الباحث أن يقول بأنّ ثمّة تناقضاً بين طرح مرجعيّة الفقه الجواهري الذي يعبر عن آليات الاجتهاد النمطية في المدرسة الإماميّة وطرح مثل هذه المبادئ بوصفها حلولاً لتعايش الشريعة مع الحداثة وإفرازاتها على مستوى الدولة والمجتمع والعمل السياسي.

 

2 ـ وقفات تأمّليّة مختصرة مع الرؤية العلاجيّة لمدرسة ولاية الفقيه

ليس هناك من شكّ في أنّ هذه العناصر الثلاثة التي قدّمتها مدرسة ولاية الفقيه الشيعيّة يمكنها حلّ الكثير من المشاكل التي تواجه الدولة الدينية في العصر الحديث، وتكوين فقه سياسي مَرِن، بل قد رأينا بالفعل أنّ الفقيه عدّل العديد من التشريعات المرتبطة بالديات والعقوبات وأمثالها بناء على قانون إطلاق سلطة الفقيه فوق الأحكام الأوليّة، ففي إيران اليوم دية غير المسلم تساوي دية المسلم، وهذا مخالف للفتاوى النمطيّة الموروثة منذ قرون، والتي أفتى بها الفقهاء الثوريّون أنفسهم، لقد جرى تعديل الكثير من التشريعات والفتاوى على قانون الأركان الثلاثة السابقة، وتمّ مدّ جسور بين الدولة الحديثة والدولة الدينيّة عبر هذه الأركان الثلاثة بحيث غدت الدولة الدينيّة أكثر مرونة نتيجة ذلك.

لكنّ هذا الحلّ ـ رغم الروح المقاصديّة التي فيه ـ قد يواجه بعض الأسئلة، ومنها:

 

2 ـ 1 ـ نظريّة جديدة في تطبيق الشريعة أو نظريّة في فهمها؟!

إنّ أهمّ نقطة في هذه الأطروحة أنّها لم تدخل في عمق الاجتهاد الفقهي نفسه، لتجري فيه تعديلاً يفرض بنفسه نتائج متكيّفة مع متطلّبات الواقع، بل هي قبلت بالاجتهاد الفقهي المدرسي. والسيد الخميني وأنصاره مصرّون إلى اليوم على الدفاع عمّا سمّاه هو بـ "الفقه الجواهري"، الذي يعبّر عن النمط المدرسي للاجتهاد الفقهي عند الإماميّة. كلّ ما حاولته هذه الأطروحة هو أنّها أخذت نتائج الفقه التقليدي، ثمّ في مرحلة التطبيق منحت الفقيه سلطة التصرّف والتعديل على قانون المصلحة الآتية من فهم اللحظة الحاضرة (الزمان والمكان)، فالأطروحة في جوهرها عبارة عن نظريّة جديدة في تطبيق الشريعة لا في فهم الشريعة نفسها، فهي تمنح الفقيه سلطة التعديلات المؤقّتة، وهذا يعني أنّها ما تزال تطبّق نظاماً فقهيّاً قديماً نشأ قبل حوالي ألف عام، على موضوعات نعيشها اليوم، ومن دون إجراء تعديل في النظام الاجتهادي نفسه، وهذا على عكس بعض الاتجاهات المقاصديّة الأخرى التي سوف نرى أنّها تذهب أبعد من ذلك في حلّ المشكلة القائمة.

هذا ما يذكّرنا بالاختلاف المنهجي في فقه النظريّة بين السيد محمّد باقر الصدر والشيخ محمّد مهدي شمس الدين (2001م)، ففيما حافظ الصدر على نمطيّة الاجتهاد القائم في المؤسّسة الدينيّة الرسميّة، محاولاً إيجاد تركيب من نتائج هذا الاجتهاد، لتشييد فقه النظريّة في مجال الاقتصاد الإسلامي، قام شمس الدين بالانطلاق ممّا أسماه "أدلّة التشريع العليا" لتكوين فقهٍ متناسب معها، فحركة الصدر كانت من الأسفل على الأعلى (من المسائل إلى النظرية) فيما حركة شمس الدين كانت من الأعلى على الأسفل (من الكلّيات على التفاصيل)، الأمر الذي جعلها أقرب للمقاصديّة.

وعليه فالسؤال الأوّل هنا: هل نظريّة ولاية الفقيه بأركانها الثلاثة المتقدّمة تؤسّس منهجاً اجتهاديّاً جديداً في الفقه عامّة والفقه السياسي خاصّة، أو أنّها تضع صيغة لإدارة الشريعة في مرحلة التطبيق؟ هذا سؤال منهجيّ بالغ الأهميّة.

 

2 ـ 2 ـ معضلة صيرورة الشرع تحت رحمة الإنسان (السلطة)

إنّ جعل عنصر الإطلاق في ولاية الفقيه وإن ساهم في تذليل بعض العقبات والمشاكل، لكنّه قد يولّد مشاكل من نوعٍ آخر، وعلى سبيل المثال، تصبح الشريعة تحت رحمة الإنسان بدل أن يكون الإنسان تحت توجيهات الشريعة، فنحن هنا نمنح الاجتهاد البشريّ في الإدارة المجتمعيّة السلطةَ على الشريعة نفسها، فكيف يمكن تبرير ذلك من الناحية الدينيّة؟ فإذا كان الفقيه بإمكانه وفق ما يرى من المصلحة أن يوقف شرع الله، فهذا معناه أنّنا على المدى البعيد أخضعنا الشريعة لفهومنا الخاصّة لإدارة الحياة ولم نُخضع حياتنا لإدارة الشريعة! نعم إذا كان المقصود أنّ الفقيه لا يمارس قراءته للمصلحة من منطلقات ذاتية بل هو يطبق فقط فقه الأولويات، فهذا أمر مقبول؛ لأنّ فقه الأولويّات هو حركة داخل الشريعة وليس فوقها، لكنّه عود إلى قضيّة العناوين الثانويّة التي تحدثنا عنها عند التعليق على الفقه المدرسي وعلاقته بالفقه السياسي المعاصر.

إنّ الملاحظة هنا أنّ أهم أدلّة القائلين بتشكيل الدولة الدينية هو أنّها تهدف لإجراء الأحكام الشرعيّة، إذ بدونها سوف نحرم من إمكانيّة إجراء هذه الأحكام، في حين أنّ التكوين اللاحق للنظريّة والتطبيق معاً يعطي أنّ العناوين الثانويّة وكذلك التشريعات المصلحيّة صارت لها هيمنة، وبذلك صارت الدولة الدينية فاقدة ـ بمعنى من المعاني ـ لغاية وجودها، وهي تطبيق الأحكام الشرعيّة، وقد صرحّ الشيخ هاشمي رفسنجاني (2017م) بأنّ أغلب القوانين التي تُسنّ في إيران قائمة على معيار المصلحة!([12])، فإذا كانت الدولة الدينيّة تهدف لتطبيق الشريعة فكيف أصبحت الشريعة تحت سلطان الدولة الدينيّة في إلغائها بشكل متواصل قد يمتدّ لعقود أو لقرون حسبما المتطلّبات؟!

من هنا، قد ينتقد بعضُ أنصار التيّار المدرسي في الحوزات العلميّة نظريةَ ولاية الفقيه بصيغتها هذه، فيعتبر أنّها رفعت الفقيه إلى مستوى المعصوم، ومنحته سلطةً تشريعيّة لا تمنح إلا للرسول الأكرم، ولهذا ربما يقول هؤلاء بأنّ نظريّة ولاية الفقيه من شأنها أن تحدث خللاً في المستقبل يؤثر على نظريّة الإمامة نفسها وامتيازها المتعالي في العقل الشيعي. ولا يسمح لنا المجال بالإطالة في الحديث عن هذه النقطة التي تستحقّ في نفسها التوقّف عندها وتقويمها.

 

2 ـ 3 ـ "إطلاق السلطة" بمثابة تهديد للتجربة

إنّ جعل المنقذ لأزمة العلاقة بين الفقه والدولة الحديثة هو الولي الفقيه، الذي يُمنح سلطةً عامّة ومطلقة معاً، مع اعتبار النظام السياسي نفسه مقدّساً يتمّ العمل على حفظ مصالحه (مجمع تشخيص مصلحة النظام)، يضع الدولة الدينيّة على حافّة الاستبداد؛ وهذا أمر يهدّد بإجهاض التجربة وانهيار الزواج الناجح بين الفقه وإدارة الحياة اليوم، فإذا كان هذا الفقيه أو ذاك يجيدان ممارسة السلطة بعيداً عن الاستبداد، لكنّه لا ضمانات كافية ـ وفق هذه المنظومة ـ في أن لا يأتي فقيه يُسقط التجربة في مستنقع الاستبداد من حيث شعر أو لم يشعر، ونحن هنا نتكلّم عن النظريّة نفسها، من حيث تكوينها الداخلي، في عدم اشتمالها على ضمانات كافية، ولا علاقة لنا بالتطبيق.

إنّ ولاية النصب التي اختارتها عمليّاً مدرسة ولاية الفقيه القائمة اليوم، مقابل ولاية الانتخاب التي اختارها أمثال الشيخ المنتظري، تُعرّض الدولة لإمكانات الاستبداد، بعكس نظريّة المنتظري التي لا ترى أيّ شرعيّة لأيّ فقيه أو غيره لا يريده الشعب، مما يجعلها قريبة جداً من أطروحة "ولاية الأمّة على نفسها" للشيخ محمّد مهدي شمس الدين، وإن كانت الثانية أكثر سعةً من الأولى. بل إنّ إضافة الشيخ شمس الدين هنا تبدو على النقيض من قراءة مدرسة السيد الخميني؛ وذلك في عدم اعتباره الدولة أمراً مقدّساً في الإسلام، وإنّما المقدّس هو الأمّة([13])، في حين أنّ أنصار مدرسة الخميني يعتبرون النظامَ السياسي نفسَه مقدّساً، كما هو الرائج في أدبيّاتهم السياسيّة، وهذه نقطة اختلاف جوهريّة.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الملاحظة الثالثة تتوجّه على بعض صيغ نظرية ولاية الفقيه العامّة، وليس على أصل النظريّة بمطلق صيغها وأشكالها، فاقتضى التوضيح.

 

ثالثاً: دور الاجتهاد المقاصدي وحدود الشريعة في تكوين الفقه السياسي الإسلامي

سوف أحاول في هذه المرحلة الثالثة من الحديث تناول الرؤية المركّبة التي أعتقد بأنّ الاجتهاد المقاصدي يمكنه من خلالها أن يقدّم خدمة غير قليلة للفقه الإسلامي عامّة والفقه السياسي خاصّة، وسوف أتحدّث باختصار أوّلاً عن الاجتهاد المقاصدي، ثمّ نعبر للحديث عن أركان رؤيته الممكنة في موضوع بحثنا.

 

1 ـ هل يمكن أن يؤول الاجتهاد المقاصدي إلى شكل من أشكال تحوّل الباراديم وفقاً لتوماس كون؟

يرى المفكّر الأمريكي المتخصّص بمجال فلسفة العلم وتاريخه توماس كون ـ أو كوهن ـ (1996م) أنّ العلم لا يسير بشكل تراكمي تدريجي، بل تحدث فيه ثورات، وليس ثورة واحدة، وذلك أنّ ما يحدث عبارة عن نظريّة كبرى أو أطار مرجعي كبير مثلاً يجيب عن الأسئلة، لكنّ حادثة جزئيّة تخرج عن سياق هذا الإطار المرجعي فتبدأ التأويلات، ثم يواجه العلماء حادثة ثانية يحار فيها هذا الإطار المرجعي مرّةً أخرى، وعندما تتالى الحوادث والأسئلة التي يعجز هذا الإطار المرجعي أو النظريّة الكبرى عن الإجابة عنها يبدأ ما يسمّيه كوهن بتحوّل البارادايم (Paradigm shift)، فتحدث ثورة على الإطار المرجعي المهيمن، ثم يتهاوى هذا الإطار وينهار وتكون الثورة الكبرى التي تغيّر مسار هذا العلم كلّه. وهذا ما حدث في تطوّرات العلوم الطبيعيّة من وجهة نظر كوهن، مغيّراً بذلك التصوّرات النمطية عن كيفيّة حدوث تحوّلات في العلوم، وناسفاً فكرة وجود ثورة علميّة واحدة، بل هي سلسلة ثورات متتالية، إنّ الأمر أشبه بحمولة تزداد على سفينة، فعندما تكثر الحمولة بوتائر متسارعة، تنهار السفينة وتغرق، وتظهر لها بدائل قادرة على الجواب عن الأسئلة المستجدّة.

ربما يمكنني القول بأنّ شيئاً شبيهاً بهذا صائر للحدوث أو حدث جزئيّاً في العقل الإسلامي خلال القرنين الماضيين، فالأسئلة والإشكاليّات والتجارب تضغط بثقلها على العقل الإسلامي بشكل أصبح من شبه المستحيل تقديم أجوبة ـ بالطريقة والمرجعيّة السابقة نفسها ـ عن كلّ هذه الأسئلة الهائلة في عددها وسياقاتها المختلفة، وهو ما تطلّبَ وما يزال حركةَ تفكير خارج الصندوق في مجال الفكر الإسلامي عامّة، والشريعة الإسلاميّة خاصّة. وسوف نرى من خلال العرض القادم كيف أنّ الاجتهاد المقاصدي يمكنه ـ بتوليفة عناصر وتطويرات ـ أن يشكّل خطوة مهمّة باتجاه حصول تحوّل للباراديم في فهم الدين والشريعة.

التفكير المقاصدي كان محاولة ظهرت في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين لتفادي التصادم مع الحداثة وإفرازاتها، فتمّ إحياء أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (790هـ) من جديد على يد أمثال الشيخ محمّد عبده (1905م) والشيخ محمّد رشيد رضا (1935م) وغيرهما من رجالات النهضة، لكن ورغم الكثير من الإنجازات التي حقّقها التفكير المقاصدي غير أنّه ما يزال يترنّح اليوم غير قادر على وضع صورة متكاملة لمشروع كبير، فغلب على عدد غير قليل من الكتابات المقاصدية طابع التنظيرات الكليّة الترويجيّة التبجيليّة والتعريفيّة العامّة، ومن ثم عاد الاشتباك بين التفكير المدرسي الاجتهادي والتفكير المقاصدي الذي بات يُتهم بالفوضويّة والتهريج أحياناً، حتى أنّ بعض أنصار التفكير المقاصدي ـ مثل الدكتور أحمد الريسوني والشيخ شمس الدين والسيد فضل الله ـ حذروا من استغلال المقاصد للوقوع في فخّ الحداثة وقيمها المتنافية مع الإسلام.

على المقلب الشيعي، ظهرت العديد من المحاولات لإجراء زحزحة في آليات التفكير الفقهي، غير أنّ المشهد ظلّ بطيئاً جدّاً داخل المؤسّسة الدينيّة التي كانت لديها منذ قديم الأيّام تحفّظات على هذا النوع من التفكير الاجتهادي، انطلاقاً من كونه قائماً ـ من وجهة نظرها ـ على مجرّد الظنون والتخمينات من جهة أولى، ولتوريطه الاجتهادَ ـ من جهة ثانية ـ في لوثة القياس والاستحسان والمصالح والرأي والتعدّي عن النصّ وغير ذلك مما رفضه علم أصول الفقه الإمامي منذ أن رسمت مدرسة بغداد على يد أعلامها الثلاثة ـ المفيد (413هـ) والمرتضى (436هـ) والطوسي (460هـ) ـ في القرن الخامس الهجري الخطوطَ الكليّة والإطار المرجعي العام للاجتهاد.

يهدف التوجّه المقاصدي إلى جعل القوانين في الدولة المسلمة مستنبطة من الكتاب والسنّة وفي الوقت عينه قابلة للإجراء نوعاً، بحيث ينخفض لدينا معدّل توظيف المصلحة والعناوين الثانوية الأخرى بوصفها مخارج للحلّ.

 

2 ـ علاقةٌ مفترضة بين المقاصديّة وموقع الدولة الحديثة داخل نظريّة "الحكم الرشيد"

لكي أوضح العلاقة بين المشروع المقاصدي والدولة الحديثة يمكن أن أقدّم مدخلاً مهماً، وهو أنّه بعد نظريّة تدخّل الدولة بالحدّ الأعلى في النصف الأوّل من القرن العشرين، ثمّ نظريّة تدخّل الدولة بالحدّ الأدنى في سبعينيّات القرن نفسه، اتجه الكثير من علماء الاجتماع والفكر السياسي والاقتصادي إلى تبنّي ما عُرف بنظرية الحُكم الرشيد (Good Governance)، وهي نظريّة ترى أنّ المجتمع ـ ومعه الدولة ـ يخضعان لنظام ميكانيكي، يقوم على أربعة أركان: قاعدة البيانات (Data)، والأداء (Performance)، والمسار العملي (Process)، والتغذية الراجعة (Feedback).، فنحن أمام نظام ميكانيكي مرتبط ببعضه. هذه القراءات النظامية (systematic) للدولة وما يرتبط بها يجعل وظيفة الدولة جزءاً من كلّ، فالدولة معنية باستخراج وتوزيع الموارد، وتعيين المصالح الاجتماعية وميزان تكاملها، وتوفير شبكة الاتصال السياسي، وغير ذلك. يعني ذلك أنّ الدولة الناجحة هي تلك التي تتلقّى قاعدة البيانات من المجتمع والمحيط، ثمّ تقوم بتفكيك هذه المعلومات والبيانات ضمن نظامها الداخلي، لتضع إجابة لها وتقدّمها بوصفها تغذية راجعة، فعندما تتلقّى الدولة ـ بوصفها جزءاً من هذا النظام الميكانيكي ـ قاعدة بيانات من الشعب تتطلّب سلسلة أمور، ثم تتجاهل هذه المعطيات الواردة ولا تصبح هذه المعطيات جزءاً من النظام الداخلي الميكانيكي للدولة ومؤسّساتها، لإيجاد مخرَجات لها، فإنّ الدولة سوف تصاب بالعطب الكامل، وتنشأ بالتدريج ثنائية الدولة ـ الأمّة، وهي الثنائية التي تتحوّل إلى تصادم بمرور الوقت ينتج عنه انهيار الدولة. وهكذا إذا كان النظام الميكانيكي داخل الدولة يقدّم معطيات ومخرجات لا علاقة لها بقاعدة البيانات الآتية من الأمّة، فإنّ أزمة أخرى تقع بين الطرفين، ومن ثمّ فالدولة تفقد موقعها الطبيعي في هذا النظام الميكانيكي عندما لا تتلقّى داخلها البيانات الآتية من الأمّة أو لا تكون مخرجاتها متسقة مع قاعدة البيانات هذه ولا مستجيبة لها. وعبر هذا كلّه نعرف أنّ فعالية وإنتاجيّة الدولة تكمن في قدرتها على تحقيق الإدارة العامّة وممارسة السلطة بما يلعب الدور الطبيعي في هذا النظام الميكانيكي الكبير.

هذا الوضع يجرّنا إلى تعريف إنتاجيّة الدولة؛ لأنّ الإنتاجيّة هذه مرهونة بحجم العلاقة بين سلوك الدولة والأهداف المرسومة، والمشكلة كلّ المشكلة تقع في الأهداف عينها، لكن مهما ناقشنا في الأهداف وأنّها رضا الناس أو غير ذلك، فإنّ مقياس نجاح الدولة في عملها يكمن في تحقيق الأهداف التي وضعتها، فإذا تمكّنت من تحقيقها، فهذا يعني أنّها قد نجحت، وإلا فهي دولة فاشلة.

هذا الوضع يربطنا بالتفكير المقاصدي تلقائياً عندما ندخل سياق الدولة ـ الدين، لأنّ قياس درجة نجاح الدولة ـ دينيّاً ـ مرتبط بقياس مستوى تحقيقها للأهداف التي وضعها الدين، فكلّما لم تؤمّن هذه الدولة هذا الأمر عنى ذلك أنّها فاشلة، مهما رفعت شعارات دينية، ومهما طبّقت الفتاوى الجزئية بحرفيّاتها، وهذا يتطلّب تفكيرا ًمقاصدياً، أعني به وضع أهداف محدّدة ودقيقة يُطلب من الدولة تحقيقها، ثم إجراء تقويم متواصل لأداء الدولة في سياق تحقيق هذه الأهداف، وهنا نتمكّن من جعل عمل الدولة الدينيّة عقلانيّاً وتحديد درجة نجاحه، فالتفكير المقاصدي يسمح لنا باكتشاف الغايات والمآلات، لجعلها بمثابة مؤشرات تقويمية لعمل السلطة، أمّا ثقافة أداء التكليف وبراءة الذمّة أو القيام بالوظيفة أو غير ذلك، فإنّه لا يحدّد لي مدى نجاح الدولة وقدرتها على الاستمرار؛ لأنّه يربط عمل الدولة، ولو نسبيّاً، بسياق خارج ـ دنيوي، وهو السياق الأخروي، فعندما أضع العدالة الاجتماعيّة بمثابة غاية للسلطة في الإسلام، فإنّ الدولة تفقد جوهرها الديني ـ قبل أيّ شيء آخر ـ إذا لم تتمكّن من تحقيق العدالة الاجتماعيّة، وتكتسب هويّتها الدينيّة بقدر نسبة تحقيقها لهذه العدالة، وهكذا عندما نقول بأنّ غاية السلطة في الإسلام عبارة عن إحياء الحياة الروحيّة الحقيقيّة، وليس مجرّد الحياة الطقوسيّة، فإنّ إسلاميّة السلطة مرتهنة بدرجة استجابتها لتحقيق هذا الأمر في المجتمع. وهذا هو ما ينتج أنّ الدولة جزء من تركيبة: الدين (الغايات والأهداف والمعايير والمقاصد العامّة) والمجتمع والمخرَجات.

 

3 ـ أركان الفهم المقاصدي للدين في علاقته بالسلطة والفقه السياسي

كان هذا عبارة عن مدخل تنظيري عام، لكن كيف يمكن للاجتهاد المقاصدي أن يحقّق هذه الغاية، وهل يحتاج لعناصر أخر تسانده في تحقيق غاية بناء الدولة على قاعدة عقلانيّة قابلة للمحاسبة والمراجعة؟

ما أزعمه هنا هو أنّ هناك ركنين يمكنهما تحقيق المساهمة الفاعلة في ذلك:

 

3 ـ 1 ـ منطقة الفراغ التشريعي أو حدود الشريعة الحقيقيّة

منذ قديم الأيام سكنت العقل الإسلامي فكرة مفادها أنّ الشريعة تغطّي جميع وقائع الحياة، وتمّ التعبير عن هذه الفكرة لاحقاً بقاعدة: «ما من واقعة إلا ولها حكم». لقد ساقت هذه الفكرة الفقهاءَ المسلمين ورجال القانون الإسلامي إلى التفتيش عن تبرير ديني لكلّ قانون يمكن تشريعه من جهة أولى، ولكلّ سلوك فردي أو اجتماعي يمكن للإنسان القيام به من جهة ثانية، وهذا يعني أنّ القوانين تخضع دائماً لتبرير شرعي ديني في ذاتها وجوهرها ومحتواها، وقد اعتبر هذا الأمر بمثابة نوع من تجلّي التوحيد الإلهي في عالم القانون والسلوك، فليس هناك مشرّع إلا الله، وهو ما سدّ باب التشريع أمام البشر مطلقاً، وجعل القانون حكراً على الفقهاء الذين يتولّون معرفة اكتشاف القوانين الإلهيّة من النصوص والقواعد الشرعيّة.

لكنّ توسّع رقعة الوقائع ودخول شعوب وأمم كثيرة في الإسلام، وظهور طبقة القضاء الأوائل وبذور المختصّين بالفقه ـ كما يسمّيهم الدكتور وائل حلاق ـ في نهايات القرن الأوّل الهجري، ثم ظهور فقهاء الأمصار وفقهاء المذاهب الشخصيّة والمؤسّسة القضائيّة بشكل فاعل في العصر العباسي منذ القرن الثاني، وضع فقهاء الإسلام أمام تحدٍّ كبير، لقد كان لزاماً على القضاة الأوائل ومن ثمّ فقهاء القرن الثاني الهجري وما تلاه أن يستخرجوا الأجوبة الشرعيّة لوقائع ما كانوا ليروها في أحلامهم قبل مائة عام، لقد تدفّق الواقع بأسئلته التي لا تتوقّف، وزاد الأمر أشكلةً تيار عرفته مدرسة أهل الرأي في العراق منذ النصف الأوّل من القرن الثاني الهجري، وكان يطلق عليه "الأرأيتيّون"، حيث أدخلت كثرة الوقائع الفقهاء في عالم من الخيال الافتراضي، ليتدرّبوا على مواجهة مستجدّات يفرضونها فرضاً، فظهر ما يعرف بالفقه الفرضي، بمعنى الفقه القائم على فرضيات ليست واقعة حالياً لكنّها قد تقع.

كان تدفّق الوقائع، إلى جانب تدفّق الفرضيات، بمثابة تحدّ من نوع آخر، فالنصوص القرآنية ومعها النصوص الواصلة من السنّة النبويّة ظهرت للفقهاء غير كافية للجواب عن ذلك كلّه، فتبلورت فكرةٌ تقول بالتمييز بين النصّ والحكم، بمعنى أنّه من الممكن أن تكون الواقعةُ ليس فيها نصّ لكنّه يوجد لله فيها حكم، وجرّ ذلك فقهاءَ الإسلام للتفتيش عن هذا الحكم خارج سياق دلالات النصوص المباشرة، فظهر ما يعرف بنظام الاستدلال ـ أو اجتهاد المعنى ـ في الفقه السنّي، ويعني هذا النظام استخدام مجموعة من القواعد والمعدّات الاجتهاديّة التي يمكنها نقلنا من المنصوص إلى غير المنصوص أو يمكنها التجسير مرّةً أخرى بين العقل الإنساني والحكم الإلهي، وبهذا وجد الفقهاء أنفسهم بمرور الزمن أمام أنظمة: القياس الفقهي، والمصالح المرسلة، وسدّ الذرائع، والاستحسان وأمثال هذه النظريات، ذلك كلّه استجابة للمصادرة القبليّة التي تمّ البناء عليها، وهي أنّه لا بدّ أن يكون لله في هذه الواقعة أو تلك حكمٌ شرعيّ.

لكنّ هذه الأنظمة الأصوليّة الاجتهاديّة التي ولدت بفعل ضغط الواقع لم تكن ولادتها عادية، بل كانت عسيرةً وقيصريّة، فقد ضجّت الحواضر العلمية في القرن الثاني الهجري وصولاً للقرن السادس بالكثير من النقاشات الصاخبة حول هذه القواعد المساعِدة، بين من قَبِلَها ومن تحفّظ عليها، ومن ذهب لوضع شروط لها، وأخذ الاجتهادُ الإسلامي الذي وافق على هذه القواعد ينحتها بشكلٍ تجديدي واضعاً شروطاً وقواعد داخلية لها، فتطوَّرَ القياسُ الذي كان بدائياً في القرن الثاني الهجري يعتمد على محض التشابهات البسيطة بين المنصوص وغير المنصوص، لما بات يعرف لاحقاً بالقياس العِلّي، وتبلورت مسالك التعليل في القياس والتي تعدّ واحدة من أوسع وأعقد البحوث الأصوليّة عند أهل السنّة في مجال وضع ضوابط لممارسة القياس الفقهي، وهنا ظهر المذهبان: الظاهري والإمامي، بوصفهما من الرافضين ـ جملةً وتفصيلاً ـ للقياس وللكثير من هذه المعايير الاجتهاديّة.

لكن إذا كان القياس وغيره مرفوضاً في مدرسة أهل البيت وفقاً للقراءة الإماميّة([14])، فكيف يمكن لهذه المدرسة أن تستجيب لضغط الواقع المستجدّ ولفقه النوازل الذي لم يهدأ يوماً منذ عصر القضاة الأوائل وفقهاء التابعين؟

عندما نراجع النصوص الإماميّة الأولى المنقولة عن أهل البيت أو التي خطّها العلماء أنفسهم، فنحن نجد أنّ فكرة الإمامة كانت البديل الذي تحدّث عنه الاجتهاد الإمامي، بمعنى أنّ الناس لجأت للقياس ولهذه الأنظمة البديلة؛ لأنها لم تصلها النصوص النبويّة الكافية، والحال أنّ النصوص النبويّة ومجمل الإرث النبوي كان موجوداً عند أهل البيت، وأنّ الناس كان عليها الرجوع لأهل البيت لأخذ الأجوبة، بعيداً عن إعمال الرأي والقياس والمصالح وغيرها. لقد اعتبرت هذه المحاولة بمثابة حلّ للمأزق، لكنّ هذا الحلّ ـ في تقديري ـ عاد واصطدم بالمشكلة عينها التي اصطدمت بها مدارس فقه الجمهور في القرن الثاني الهجري، فبعد غيبة الإمام الثاني عشر غيبةً كبرى ـ وفق التصنيف الإمامي المتعارف ـ وذلك في الربع الثاني من القرن الثالث الهجري، وجد الشيعة أنفسهم أمام مأزق مشابه، وأخذ هذا المأزق يزداد يوماً بعد يوم، كان فقهاء مدرسة بغداد في القرن الخامس الهجري يحاولون الإجابة عن الأسئلة وفي الوقت عينه الحفاظ على موقفهم الرافض للقياس، لكنّ تياراً صغيراً في الإمامية ـ يقوده فيما يبدو ابن الجنيد الإسكافي (ق 4هـ) ـ انفتح مجدّداً على القبول بالقياس أو ببعض أنواعه، وبصرف النظر عن هذا المشهد، فإنّ مرور الوقت يجعلنا نلاحظ أنّ الفقه الإمامي أخذ يعتمد العقل في الوصول إلى النتائج الفقهيّة، في مجال البراءة والاستصحاب والاحتياط وغير ذلك، وهو ما تكشفه لنا مدوّنات مدرسة الحلّة في القرنين السابع والثامن الهجريّين، كنسخة مطوّرة ومعدّلة لمدوّنات مدرسة بغداد قبلها، إلى أن وصلنا للقرن الثاني عشر الهجري ليأتي الوحيد البهبهاني (1205هـ) ويعلن ـ وإلى اليوم ـ فكرة "الأصول العمليّة" بالشكل الذي نعرفه اليوم، والتي تعني الاعتراف بعدم وجود دليل على الحكم الشرعي، غاية الأمر أنّ وظيفتنا في حالة فقدان الدليل ليست القياس ولا غيره، وإنّما البراءة أو الاحتياط أو التخيير أو الاستصحاب حسب الحالة.

هذا يعني ـ في تقديري ـ أنّ الفقه الإمامي عاد وواجه ظاهرة شحّ النصوص التي واجهتها المدارس السنيّة سابقاً من وجهة نظره، لكنّه حاول الالتفاف عليها بطريقة تجنّبه التورّط في القياس وأمثاله.

ليس بحثنا هنا في تاريخ أصول الفقه أو الفقه الإسلامي، بل ما أريد أن أصل إليه هو أنّ الذي جرّ فقهاء الإسلام لهذا كلّه اعتقادٌ خفيّ كامن يدّعي أنّ الشريعة تغطّي جميع وقائع الحياة، لهذا فتّشوا عن طرق للوصول أو لتحديد الموقف عندما لا نعرف حكم الله في واقعةٍ من الوقائع. لكن لنرجع قليلاً إلى الوراء، ونسأل الفقهاء المسلمين: من قال بأنّ الشريعة أساساً جاءت لتغطّي جميع وقائع الحياة؟ ومن أين جاءت هذه الفكرة؟ ومن قال بأنّ العقل الإنساني ليس متاحاً له ممارسة فعل التقنين في غير ما شرّعته الشريعة نفسها؟

المفاجأة الكبرى التي يراها المراجع لتاريخ الفقه وأصوله عند المسلمين أنّ هذه القاعدة نفسها "ما من واقعة إلا ولها حكم" لم تحظَ بدراسة مستقلّة جادّة، لا في علم الكلام الإسلامي ولا في علمَي الفقه وأصوله، بل كانت تشير إليها كلمات هنا أو هناك، وتؤخذ مفروضاً قبليّاً عند الفقيه المسلم، عدا عدد قليل جداً ممن لاحظنا عنده عبارات قد توحي بعدم اعتقاده بهذه القاعدة أساساً. إنّه لأمرٌ مثير للعجب أن لا يبحث الفقهاء وعلماء أصول الفقه والكلام مسألة بهذا الحجم من الخطورة، لهذا قد يعتبر بعضنا أنّ هذا المشهد هو أكبر دليل على أنّ هذه القاعدة راسخة في العقل الإسلامي منذ العصر النبويّ، ولوضوحها وجلائها لم يبحثوها، غير أنّ هذا التبرير قد يتصادم مع فرضيات تاريخية ـ اجتماعية أخرى، من نوع أنّ المسلمين في نهايات القرن الأوّل مع القرن الثاني الهجري، كانوا يبحثون في الحقيقة عن مبرّرٍ لإلزاميّة القانون، ولم يكونوا قد عثروا في اجتهاداتهم القانونيّة على تبرير أفضل من نسبة القانون نفسه للشريعة، فالذي حرّكهم لا شعوريّاً نحو اتخاذ هذا المسار يمكن أن يكون سعيهم لتبرير إلزاميّة القوانين، إذ من غير هذا السبيل يمكن التشكيك في إلزاميّة القانون، ولهذا وجدنا أنّ المسلمين كانوا يرغبون دائماً في نسبة الأشياء للنبيّ، بما في ذلك الطبّ؛ لأنّ السلطة الروحية للدين لديها القدرة الكافية على منح الشرعيّة والمقبوليّة والإلزام لأيّ شيء.

لكن ماذا يعني هذا كلّه اليوم؟ وما علاقته بفقه الدولة والعمل السياسي؟

إنّه يعني أنّ بناء الدولة يقف ـ إسلاميّاً ـ أمام خيارين:

الخيار الأوّل: إسناد كلّ القوانين والمواقف إلى الشريعة، ومن ثمّ علينا الرجوع للفقهاء في كلّ صغيرة أو كبيرة، ومصوّبات البرلمانات الإسلاميّة لا شرعية لها إذا لم يوافق عليها الفقهاء في كلّ صغيرة وكبيرة على المستوى القانوني.

الخيار الثاني: إنّ القوانين تنقسم إلى قسمين: قوانين مأخوذة من الشرع، وقوانين ليس لها وجود في الشرع، وإنّما يقوم العقل البشري بسنّها على شرطين:

الشرط الأوّل: أن لا تتصادم مع قانون شرعي ثابت في محلّه.

الشرط الثاني: أن تقع في سياق تحقيق المقاصد العامّة والغايات الكبرى للدين والشريعة.

هذا يعني أنّ هناك مساحة غير قليلة يتحرّك فيها العقل البشري من خلال تجاربه وخبراته في سياق سنّ القوانين المتناسبة مع كلّ زمان ومكان، دون أن ينسب هذه القوانين إلى الله، ومن ثمّ فمناقشة هذه القوانين أو الاعتراض عليها أو الدعوة لتغييرها، لسببٍ أو لآخر، لن يكون اعتراضاً على الله تعالى، بل هو نقاش بشري في منتَج قانوني بشري خالص، والفقهاء لهم الحقّ ـ فقط ـ في إثبات أنّ هذا القانون أو ذاك يصادم حكماً شرعيّاً ثابتاً، ونحن نعرف أنّ هناك فرقاً كبيراً بين أن يكون القانون جزءاً من شرع الله، وأن لا يصادم شرعَ الله، فإنّ عدم المصادمة معناه أنّ هذا القانون مغاير لشرع الله، لكنّه متوافق معه. هذه الطريقة تجعل التفكير المقاصدي يلتقي مع العقل البشري غير المتصادم مع الشريعة للمساهمة في بناء الدولة وقوانينها.

عبر تفنيد نظريّة شمول الشريعة، تظهر أمامنا مساحة غير قليلة من الحياة الإنسانية في العصر الحديث لا ينبغي الضغط على النصوص لأخذ أجوبة منها حولها، بل علينا الرجوع للعقل الإنساني فيها بحيث يحافظ في مواقفه القانونيّة حولها على عدم التصادم مع الشرع في مكانٍ ما. ولا أريد هنا الحديث عن مبرّرات نظريّة عدم شمول الشريعة؛ لأنّني أرجع القارئ الكريم إلى كتابي المستقلّ حول هذا الموضوع، والذي حمل عنوان: "شمول الشريعة، بحوث في مديات المرجعيّة القانونيّة بين العقل والوحي"([15]).

 

3 ـ 2 ـ قواعد الاجتهاد المقاصدي ضمن ثنائيّة: التعدّي عن حرفيّة النص، وربط الوسائل بالغايات

هذا الركن الثاني الذي ينبني عليه فقه الدولة والفقه السياسي وفقاً لقراءتنا، يعني أنّنا بحاجة في عمليّات فهم النصوص نفسها إلى زحزحة، ولكي أشرح هذه القضيّة يمكنني أن أبدأ بمقارنة ثلاثية تاريخيّة حصلت بالفعل في تاريخ الفقه الإمامي بين: مدرسة بغداد، ومدرسة الحلّة، ومدرسة الأصوليّين الجُدد في القرن الثالث عشر الهجري، وذلك أنّنا عندما نقرأ طبيعة النزاع بين مدرسة بغداد المتمثلة بأعلامها الثلاثة ـ المفيد والمرتضى والطوسي ـ وابن الجنيد الإسكافي على خلفيّة موضوع القياس، نكتشف أنّ مدرسة بغداد كانت رافضة للقياس إلى درجة متشدّدة للغاية، ولكي نأخذ عيّنةً دالّة يمكننا ملاحظة موقف مدرسة بغداد من القياس منصوص العلّة، فهذا القياس كان مرفوضاً بشدّة عندها، كما يظهر من مواقف المرتضى والطوسي في كتبهما الأصوليّة([16])، لكنّ مدرسة الحلّة أجرت تعديلاً، فوافقت في الجملة على القياس منصوص العلّة محاولةً إخراجه عن دائرة القياس المنهيّ عنه من قبل أهل البيت([17])، لكن عندما نصل إلى عصر الوحيد البهبهاني (1205هـ) وهو بداية عصر المدرسة الأصوليّة الجديدة، نكتشف أنّ البهبهاني يصرّح بأنّ التعدي عن النصّ حرام ولكنّه في الوقت عينه واجب([18]). لقد أدرك البهبهاني أنّ تحريم التعدّي عن النصّ بقولٍ مطلق هو جريمة في حقّ النصّ نفسه وفهم حرفي له أحياناً، لهذا كان لا بدّ من التعدّي عنه، وهو ما لاحظنا خلال القرنين الأخيرين محاولات لدى أصوليّي الإماميّة لتعديل طريقة فهمهم للنص وتطويرها بما يسمح بنوعٍ من التعدّي عن حرفيّة النصّ مع الإبقاء على شعار "الفهم العرفي واللغوي الصحيح للنص"، ولهذا ظهرت عندهم بقوّة مجدّداً أفكار كان بعضها يُحسب سنيّاً أحياناً ومخالفاً للتوجّه الإمامي الأصيل أخرى، من نوع: إلغاء الخصوصيّة، وإلغاء الفوارق، ومناسبات الحكم والموضوع، ودليل الاستقراء، والطريقية والمثاليّة، وغير ذلك.

هذه المقارنة الثلاثيّة التاريخيّة تعلّمنا أنّ مدرسةً أصوليّة واحدة ـ وهي المدرسة الإماميّة ـ خرجت من أعلى مستويات تجريم التعدّي عن النصّ إلى مستويات أقلّ خلال رحلة ألف عام تقريباً، مما يفتح الطريق لتجديد الاجتهاد في قواعد فهم النصوص.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل كانت تجربة الفقهاء في فهم النصّ القانوني صحيحةً أو لا؟ وهل حقّاً ما يتصوّره كثيرون اليوم من أنّ هذه هي الطريقة الوحيدة في فهم النصوص عبر نظام الإطلاق والتقييد والعام والخاص والمفهوم والمنطوق والمجمل والمبين إلى جانب الملازمات العقليّة وغير ذلك؟

إنّ الفهم المقاصدي للشريعة يدّعي أنّ هناك طريقة أخرى لفهم النص والحكم لا تتصادم ـ بالضرورة ـ مع طريقة الفقهاء، لكنّها تتداخل معها وتكمّلها، وهي طريقة فهم النصوص على قواعد التمييز، وهذه القواعد تقع على أنحاء:

التمييز بين الوسائل الغايات

التمييز بين النصوص الحاكمة والمحكومة

التمييز بين نصوص التعليل وغيرها

التمييز بين النصوص التبليغيّة والنصوص التدبيريّة الزمنيّة و..

 

أ ـ التمييز بين الوسائل والغايات

يعتمد التفكير المقاصدي على نوع من قراءة التشريعات الدينية ضمن ثنائيّة "الوسائل والغايات"، فبعض النصوص تفهم على أنّها بصدد بيان الوسائل، فيما بعضها الآخر يفهم على أنّه بصدد بيان الغايات، والنتيجة التي نخرج بها من عملية التمييز هذه أنّ العرف والعقلاء يقدّمون نصوص الغايات على نصوص الوسائل عند تصادمهما ما لم يكن في نصّ الوسائل قرينة أو شاهد مباشر على أنّ هذه الوسيلة هي الوسيلة الوحيدة أو الحصرية التي تعتمدها الشريعة للوصول إلى الغايات.

فلسفة هذا الموقف تقوم على أنّ الوسيلة من حيث كونها وسيلة ليست لها قيمة خاصّة، بل تكمن قيمتها في إيصالها إيّانا إلى الغاية التي جعلت من أجلها، فإذا جمدنا على الوسيلة وأدّى ذلك ـ لظرفٍ سياقي معيّن هنا أو هناك ـ إلى التضحية بالغاية، فهذا فهم خاطئ لتشريعات المشرّع، فلا يمكن أن تكون الوسيلة ذات قدرة على فرض التضحية بالغاية لأجلها، بل هذا هو الجمود القاتل عينه من وجهة نظر المقاصديّين.

هذه الثنائيّة المقاصدية تشابه في أصول الفقه الإمامي ـ ولو بشكل جزئي ـ التمييز بين الموضوعيّة والطريقيّة، فرؤية الهلال أخذت طريقاً لإثبات خروجه من المحاق وإشراقه على الأرض، فلا يمكن التضحية بمعياريّة إشراق الهلال على الأرض لصالح معيار الرؤية بالعين المجرّدة الذي هو مجرّد طريق ووسيلة للوصول إلى المعيار الحقيقي الكامن خلفه.

في هذا السياق، تُنقل قصّة عن المرجع الديني الراحل السيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي (2016م)، وذلك أنّه كان في فترة حياة السيد روح الله الخميني رئيساً للسلطة القضائيّة في إيران، وقد تداول مع السيد الخميني سؤالاً يقول: ماذا لو لم تتمكّن قوانين العقوبات الجزائيّة (الحدود) المنصوصة في الشرع من تحقيق النتائج المرجوّة؟ فعقوبة السرقة لم تتمكّن من الحدّ من وقوع جريمة السرقة، وعقوبة الزنا لم تتمكّن من تقليل جريمة الزنا وارتكاب الفواحش، في حين عثرنا على طريقة أخرى متناسبة مع زماننا يمكنها أن تحقّق الغايات المنشودة من وراء قوانين العقوبات الجزائيّة، فهل يحقّ لنا التخلّي عن الشكل القانوني لنظام العقوبات لصالح الغاية أو لا؟ فكان ردّ السيد الخميني: «نعم، إنّه من البديهي أنّ شكل العقوبات مأخوذ على نحو الطريقيّة».

هذه القصّة تشرح لنا نمط تفكير معيّن، ونأخذها هنا مجرّد مثال، بصرف النظر عن المناقشة في المثال نفسه، فإنّ جواب الخميني جاء في سياق ثنائيّة الغايات والوسائل، أو ثنائية الطريق وذي الطريق، وقد أقرّ هذا الجواب بأنّ الغاية لا يمكن التضحية بها والإصرار على الوسيلة، بل بالعكس هو الصحيح. نعم، إذا كانت الغاية والوسيلة متناسبتين بحيث كانت الوسيلة تحقّق الغاية فلا بأس في هذه الحال من المحافظة عليهما معاً.

هذا النمط من التفكير مقاصديٌّ بامتياز، فهو لا يسمح بالتمسّك بإطلاقات وعمومات نصوص العقوبات، فيقول: إنّ نص العقوبة المعيّنة مطلقٌ أو عام، فلا بدّ من الأخذ بإطلاقه، بل هو يرصد نوعيّة العلاقة بين الحكم وغايته؛ وذلك أنّ البشر والعقلاء لديهم تجربة سابقة حول العقوبات الجزائيّة، فلم تأت الشريعة من لحظة فراغ لتؤسّس نظام عقوبات، وهذا يعني أنّ البشر يفهمون نظام العقوبات الذي جاءت به الشريعة ضمن سياق فهمهم العام لفكرة العقوبات في حياتهم، وحيث إنّ هذه الفكرة تقوم على غائيّة الحدّ من الجريمة، فإنّ هذا الأمر يجعل العقلاء يفهمون نصوص العقوبات على أنّها مغيّاة بغاية الحدّ من الجريمة، ولا يفهمون فيها إطلاقاً يقع على النقيض من ذلك، الأمر الذي يعطّل إمكانيّة الجزم بوجود إطلاق في هذه النصوص لحالة تناقض الغاية مع الوسيلة، وهذا يعني أنّه لم يعد بأيدينا إطلاق يشمل العمل بنظام العقوبات في حالة كونها غير منتِجة للحدّ من الجرائم المعاقب عليها.

عبر هذه الطريقة يؤمّن التفكير المقاصدي للدولة والعمل السياسي قدرة الحركة ضمن المتغيّر الزمني على قاعدة أولويّة الغاية على الوسيلة، وتخرج التجربة الإداريّة الإسلاميّة من حيّز حرفية تطبيق الشريعة إلى حيّز الغايات، الأمر الذي يمكّننا من مراقبة النتائج ورصد المحاسبات لمعرفة مديات نجاحنا في تحقيق الغاية على أرض الواقع أو لا، بما يمكّن من تحقيق الإدارة العقلانيّة دون التصادم مع الشرع.

 

ب ـ التمييز بين النصوص الحاكمة والمحكومة (تكوين الفقه الدستوري)

سبق لنا أن ألمحنا إلى نقطة اختلاف جوهريّة بين منهجَي: الشيخ شمس الدين والسيد باقر الصدر في موضوع فقه النظريّة، وأريد هنا الإضاءة على هذه القضيّة في سياق القدرة على تأمين فقه إداري متناسب ومتناسق، لكن لكي نفهم هذا الموضوع علينا التوقّف بدايةً عند الفكرة التي ردّدها العديد من كبار علماء أصول الفقه الإمامي، كما أشرنا سابقاً، والتي تقول بأنّ الفقه مبنيٌّ على تأليف المفترقات وتفريق المؤتلفات. فماذا تعني هذه الفكرة؟

إنّ نظام التنجيز والتعذير وبراءة الذمّة الذي أشرنا له سابقاً يجعل الفقه يعاني ـ جزئيّاً ـ من البعثرة وعدم التناسق بين الأجزاء، كما أنّ كثرة عروض التخصيصات والتقييدات على القواعد والعمومات فاق كلّ تصور حتى قالوا جملتَهم المشهورة: «ما من عام إلا وقد خُصّ، وما من مطلق إلا وقد قُيّد». وعندما عكف السيد باقر الصدر على وضع فقه النظرية اكتشف بالتجربة أنّ هذه العمليّة ليست سهلة، فثمّة نتائج يصل إليها الفقيه لا تكون متّسقة مع نتائج أخرى، فتحول دون إمكانيّة خلق نظريّة متكاملة لا تعاني من تهافتات داخليّة، الأمرُ الذي ألجأ الصدرَ إلى القول بأنّ بإمكاننا أن نستعين بفتاوى القدماء ونحن نضع فقهَ النظريّة؛ لاختيار فتوى ولو غير مشهورة تكون متناسبة في موقعها مع عمليّة التكوين المتناسق للنظرية في الاقتصاد أو السياسة أو غير ذلك.

إنّ الحلّ الذي وضعه الصدر يبدو لي مؤقّتاً ويعالج المشكلة على مستوى السطح، وقد كان الصدر مضطراً لذلك وليس أمامه علاجٌ آخر، لكنّ الطرح الذي قدّمه أمثال شمس الدين يمكنه أن يساهم في معالجة المشكلة ولو بدرجة معينة على الأقلّ؛ وذلك أنّ شمس الدين اعتبر ـ في تحليلنا لفكرته ـ أنّ الاجتهاد يجب أن يبدأ من فرز النصوص إلى نصوص حاكمة عبّر عنها شمس الدين بـ "أدلّة التشريع العليا" ونصوص محكومة، وهي أدلّة التشريعات التفصيليّة المختلفة، فالاجتهاد حكماً يبدأ من أدلّة التشريع العليا ـ وهو ما كان يعبرّ عنه محمّد رضا الحكيمي (2021م) بأنّ الاجتهاد يبدأ من الأهداف، لا من التفاصيل ـ ثمّ ينزل نحو أدلّة التفصيل الفقهي، فإذا كانت الأدلّة التفصيلة متسقة مع النصّ الحاكم كان ذلك هو المطلوب، وأمّا إذا لم تتسق معه، مطلقاً أو في حالات، لزم تطويع الدليل التفصيلي لكي يكون متسقاً مع أدلّة التشريع العليا، فكأنّ شمس الدين يفكّر بوصفه فقيهاً دستوريّاً، ويرى أنّ القوانين التفصيليّة التي تسنّها المجالس التشريعيّة لا يمكنها وليست لديها طاقة مواجهة بنود الدستور نفسه، بل العكس هو الصحيح، فإذا فهمنا من نصوص "الأخوّة الدينيّة" أنّها نصوصٌ حاكمة ولها هيمنة وذات طابع دستوريّ، كان بإمكانها تطويع أيّ نصّ يخلق انقساماً سلبيّاً في المجتمع ويدمّر ولو جزئيّاً الحكمَ الدستوري، مثل نصوص جواز غيبة السُنّي أو لعنه أو غير ذلك من وجهة نظر شمس الدين، وانطلاقاً من هذا نادى شمس الدين المذاهب مراراً ـ وبخاصّة الشيعة ـ لضرورة الخروج من مفهوم "الجماعة" إلى مفهوم "الأمّة"؛ لأنّ مفهوم الأمّة مقدّس يهيمن على جميع المقدّسات الاجتماعيّة الصغيرة([19]).

هذا الاجتهاد المقاصدي لكن بشكل مختلف، عندما يأتي إلى بناء فقه الدولة والعمل السياسي لا يخلق تشظّياً ولا يسمح للتفاصيل القانونيّة الصغيرة أن تربك القواعد الدستوريّة، ولكنّ هذه العملية التي يطرحها شمس الدين تتطلب جهداً غير عادي؛ لأنّها تستدعي ممارسة اجتهادٍ دستوريّ في نصوص الدين كلّه، لمعرفة أيّ من النصوص تقدّم لنا بنداً من بنود الدستور، وأيّ منها هو عبارة عن قانون تفصيلي فرعي، وهو عمل شاقّ ومجهد لا تكفي فيه الأمزجة والاستنسابات، بل لعلّه لم يُطرق بشكلٍ جادّ إلى اليوم في الاجتهاد المدرسي.

إنّ السلطة السياسيّة والمجتمعيّة بحاجة لتناسق قانوني يجعل عملها انسيابياً ويجعل تطبيق القانون معقولاً وغير متصادم مع نفسه، فلا يُجهض قانونٌ قانوناً آخر، وبطريقة التمييز بين النصوص الدستوريّة وغيرها أو النصوص الحاكمة وغيرها أو أدلّة التشريع العليا وغيرها، يمكننا الوصول إلى شيء مهم على هذا الصعيد.

 

ج ـ التمييز بين نصوص التعليل وغيرها (النصّ بمثابة رحم لولادة فقه العلل)

يشتمل الموروث النصّي الديني ـ الكتاب والسنّة ـ على مئات من النصوص التي تسمّى بنصوص التعليل، فهي نصوص تبيّن لنا العلّة من وراء تشريعٍ هنا وآخر هناك، فتقول بأنّ الله حرّم كذا لأجل كذا، أو أوجب كذا لأجل كذا، وقد جمع محمّد بن علي بن الحسين ابن بابويه المعروف بالشيخ الصدوق (381هـ) العديدَ من هذه النصوص في كتابه "علل الشرائع". ولستُ هنا أُريد الخوض في بحوث على مستوى أصول الفقه الإسلامي، فقد تعرّضتُ لذلك بالتفصيل في محلّه من كتاب "الاجتهاد المقاصدي والمناطي"، لكنّني أودّ أن أشير إلى أنّ الاجتهاد الإمامي لم يتفاعل بإيجابيّة وحماس مع أغلب هذه النصوص، انطلاقاً من تمييزه بين فكرة علّة الحكم وحِكمة الحكم، فاعتبر أنّ هذه النصوص تشير لحكمة الحكم، ومن ثمّ لا يمكننا استخراج نتائج منها على مستوى استنباط أحكام الشريعة.

وبعيداً عن التفاصيل البحثيّة في مجال أصول الفقه، فإنّني أعتقد بأنّ هذه النتيجة التي هيمنت على التفكير الإمامي أجهضت مئات النصوص التي كان يمكنها أن تساعدنا في معرفة علل الأحكام ومناطاتها، في مختلف الأبواب الفقهيّة، الأمر الذي يمكنه أن يحرّك الفقه من دائرة الشكل إلى دائرة المضمون، ومن دائرة الوسيلة إلى دائرة الغاية، ومن دائرة الصيغة إلى دائرة المناط الحقيقي للحكم، فعندما يقول النصّ ـ وهذا مجرّد مثال فرضي ـ بأنّ الله جعل الشريعة أو الإمامة لأجل العدل، فهذا معناه أنّ جوهر وفلسفة السلطة في الإسلام تكمن في تحقيق العدل بين الناس، فأيّ سلطة لا تكتسب شرعيّتها من خلال نصّ تنصيبها، بل تكتسب شرعيّتها من خلال نوعيّة عملها من حيث تحقيق الغاية من وراء فلسفة وجودها، وهي العدالة الاجتماعيّة، هكذا يتحرّك التفكير المقاصدي في فهمه للأشياء، فلا يهمّ فقط من هو الحاكم، بل المهم أيضاً كيف هو الحُكم؟ وما هي نتائجه؟

إنّ تغييب نصوص التعليل عن حركة الاجتهاد الفقهي وإدراجها ضمن نشاط عمل الكتّاب والخطباء والمنبريّين فقط، فوّت على الاجتهاد الفقهي الكثير من حركة الفهم المقاصدي للتشريعات، واللافت للنظر أنّنا عندما نراجع الأغلبيّة الساحقة من نصوص العلل هذه، فإنّنا نجدها عللاً معروفة ومعقولة بشريّاً وليست غيبيّات وأسراريّات، وهذا ما يفتح الطريق على أنّ النظرة النمطيّة السائدة في مجال فهم الشريعة على أنّها أحكام أسراريّة ووراءها علل ومصالح خفيّة أمرٌ مقبول في الجملة ومن حيث المبدأ، لكنّ الغالب ـ أو الكثير ـ من أحكام الشريعة مفهومٌ واضح وفقاً لطبيعة نصوص التعليل هذه، وهذا ما يجعل حركة الفقه في مجال الدولة وعمل الإدارة والنشاط السياسي أكثر معقوليّة وأبعد عن الرمزيّات والأسراريّات والغيبيّات وراء الالتزام بهذا التشريع أو ذاك.

 

د ـ التمييز بين النصوص التبليغيّة والنصوص الزمنيّة والسلطانيّة

ترجع فكرة التمييز بين ما يبيّنه النبيّ من موقع كونه مبلّغاً لدين الله، وما يبيّنه من موقع كونه حاكماً أو قاضياً أو مديراً للجماعة، إلى حوالي ثمانية قرون سابقة، فقد أطلق الإمام شهاب الدين أحمد بن إدريس القَرافي المالكي (684هـ) هذه الفكرة في كتابه "الفروق"([20])، فاتحاً ما عُرف بعد ذلك بـ "مقاصد الرسول". لقد انتبه الفقه الإسلامي إلى هذه الفكرة بالتدريج قبل القرافي، ضمن ثنايا مفهوم "اجتهاد النبي"([21])، ثم تلقّاها فقهاء الإماميّة منذ القرن الثامن الهجري على يد محمّد بن مكّي العاملي المعروف بالشهيد الأوّل (786هـ) في كتابه "القواعد والفوائد"([22])، لتبلغ أوجها في العصر الحديث مع محمد باقر الصدر وابن عاشور والقرضاوي والخميني والمنتظري وشمس الدين وعلي السيستاني وعشرات غيرهم.

لقد تنبّهت هذه الفكرة إلى ما يمكننا تسميته بـ "تنوّع شخصيّة النبيّ والإمام"، فالفقه الإسلامي اعتاد على فهم كلّ فعل أو قول يصدر من النبيّ على أنّه بمثابة بيان للأحكام الإلهيّة الموحاة التي جاءت للمسلمين إلى يوم الدين، وكأنّه لم يتم الالتفات إلى أنّ النبيَّ في الوقت الذي يكون مبلّغاً لدين الله هو أيضاً مديرٌ للجماعة المسلمة، وهو قاضٍ يفضّ النزاعات والخصومات، وهو مرشدٌ روحيّ ينصح ويوجّه وفقاً للحالات الآتية إليه وغير ذلك، لكن شيئاً فشيئاً انتبهوا إلى ضرورة التمييز في شخصه، وصولاً إلى أكثر العلماء تمييزاً، وهو محمد الطاهر بن عاشور (1973م) الذي وضع أحد عشر دوراً للنبيّ إلى جانب دوره بوصفه مبلّغاً للدين الموحى إليه([23]).

إماميّاً، أخذ الشهيدُ الأوّل فكرةَ القرافي، لكنّ فقهاء الإماميّة لم يتلقّفوا الفكرة بجدّية عالية، بل حصروها في مواضع محدودة وغالباً في قضايا تتبع باب القضاء ونحوه، غير أنّ تجربة العمل السياسي الشيعي في العصر الحديث غيّرت نظرتهم لشخصيّة النبيّ والإمام، وبخاصّة أنهم اهتمّوا في هذا العصر كثيراً بدراسة سيرة النبيّ والإمام دراسة سرديّة وتحليليّة معاً، هذا الأمر فتح أعينهم اكثر على أنّ النبيّ ليس مجرّدَ جهاز ضبط صوت يقول ما يوحى إليه دِيناً، بل هو أيضاً مدير للجماعة وقائد ميداني وموجّه روحي ومعلّم ومربٍّ، وكلّ هذه الشخصيّات والأدوار تستدعي صدور أشياء منه تتبع طبيعة عمله ووظيفته في هذه اللحظة أو تلك، وليست بالضرورة وحياً إلهيّاً يبلَّغ به النبيّ ديناً بالمعنى الممتدّ للكلمة.

هذه الفكرة هي التي تميّز بين الحكم الإلهي في النصّ النبوي ونصوص الأئمّة وبين الحكم الحكومي أو الولائي، وفقاً للتسمية الشيعيّة، هي فكرةٌ رغم بساطتها لكنّها شكّلت تحوّلاً غير عادي؛ لأنّها شرّعت الباب مفتوحاً أمام إمكانية فهم الكثير من النصوص على أنها زمنيّة وسلطانيّة تعالج وضعاً كان قائماً في العصر النبويّ أو قريبه أو ما شابهه، وعلى سبيل المثال، عندما تنصّ الروايات العديدة في التراث الحديثي الإمامي على أنّ الزكاة لا تُعطى لغير الشيعي الاثني عشري إلا من سهم المؤلّفة قلوبهم.. فهذا قد يفتح سؤالاً حول مواطنيّة غير الشيعي في الدولة المسلمة، بحيث يحرَمون من الخمس والزكاة، وهما الضريبتان الأساسيّتان في الدولة، لمجرّد الاختلاف العقائدي ضمن الدائرة المسلمة، فضلاً عن غير المسلمين، كيف يمكن إدارة بلدٍ بنظامٍ ماليّ من هذا النوع اليوم؟! هذا السؤال يبدو صعباً، وحتى لو أعطيناهم من سهم المؤلّفة قلوبهم، ألا يعني ذلك أنّ هؤلاء يُعطون من الأموال التي تؤخذ منهم هم أيضاً ومن محاصيلهم الزراعيّة وثرواتهم الحيوانيّة، يُعطون منها فقط لنقرّبهم ليصبحوا شيعة اثني عشرية أو لنأمن شرّهم، لا لأنّهم مواطنون أدّوا واجباتهم تجاه الدولة، وعلى الدولة تأمين معيشتهم!

لكنّ فهماً آخر لهذه القضيّة ـ كتبتُ حولَه في محلّه([24]) ـ يغيّر نظرتنا للموضوع تماماً، ويكشف أنّ هذه النصوص جاءت في سياقٍ تاريخي على شكل أحكام سلطانيّة إدارية تدبيريّة من الأئمّة انطلاقاً من أنّ الشيعة كانوا محرومين من عطاءات السلطة القائمة، فأراد الأئمّة أن يتداولوا أموالهم بينهم لسدّ حاجاتهم ومعالجة مشكلات فقرائهم.

هذا المثال يمكن أن نجد مئات الأمثلة المشابهة له في الفقه الإسلامي، لا بمعنى تأويل النصوص بطريقةٍ عشوائيّة، كما يفعل بعض الناس اليوم، بل بمعنى حمل الفرضيّة التدبيرية والزمنية والسلطانيّة معنا في مشوار قراءتنا للنصوص، والأصلُ في هذا الأمر هو الفهم السياقي العام للنصّ، والذي منه ما سمّاه السيد الصدر "الفهم الاجتماعي للنصّ"([25])؛ لأنّ الفهوم السياقيّة للنص والتي تضعه ضمن مساره التاريخي ومحيطه الزمكاني تستطيع أن تفهم وتلتفت إلى شبكة علاقاته بوقائع التاريخ، وليس فقط إلى شبكة علاقاته المتصلة والمنفصلة بالنصوص الدينيّة الأخرى كما يفعل الفقه المدرسي. وفي مجال الفهم السياقي للنصّ نكتشف أيضاً التشريعات التي أصدرها النبيّ والأئمّة بوصفهم حكّاماً ومديرين للجماعة المسلمة، الأمر الذي يمنحنا صورةً عن كيفيّة تعاملهم مع الوقائع ويعطي للدولة المسلمة مؤشّرات عامة في سياستها في التعامل مع الوقائع أيضاً.

إنّ نظرية "مقاصد الرسول" التي اشتغل عليها الفكر المقاصدي منذ قرونٍ بشكل تدريجي، تشكّل مفتاحاً كبيراً من مفاتيح حيويّة الفقه في تعامله مع الجانب الإداري والسلطوي والسياسي في حياة المسلمين. والأمثلة في هذا الموضوع كثيرة، لكنّ المجال لا يسع للإطالة.

 

4 ـ من مخرَجات التأثير المقاصدي في فقه العمل السياسي

ولكي نولّف هذه التركيبة المتقدّمة يمكن القول:

أوّلاً: إنّ الشريعة لم تتدخل تفصيليّاً في جميع مرافق الحياة وتفاصيلها، بل رسمت معالم عامّة، ثم دخلت في بعض التفاصيل في العبادات وغيرها أيضاً، وعلى هذا الأساس نفتح الطريق للاجتهاد البشري خارج سياق النصّ، دون أن ينسب هذا الاجتهاد البشري نفسه لله وللشريعة، بل يظلّ في حدود بشريّته يحاول اجتراح أفضل القوانين الممكنة من وجهة نظره ونتيجة خبرته. والاجتهاد البشري خارج سياق النصّ كما أنّه ليس اجتهاداً دينيّاً حتى يكون وظيفة الفقهاء حصراً، هو أيضاً ليس اجتهاداً معارضاً للدين، ويجب أن لا يكون كذلك؛ وهناك فرق بين الاجتهاد في مقابل النصّ والاجتهاد خارج النص (حيث لا نصّ)، فالأوّل مرفوض من حيث كونه مواجهةً للوحي السماوي، فيما الثاني لا موجب لرفضه من حيث إنّه سبيلٌ متاح خارج سياق ما أبدت الشريعةُ فيه موقفاً.

إذا كوّنا هاتين الدائرتين: دائرة ما هو من الشريعة، ودائرة ما هو خارج الشريعة، ومنحنا فقهاء الشريعة وعلماءها الحقّ في تقديم اجتهاداتهم في مجال الدائرة الأولى، وفي تعيين ما إذا كانت القوانين داخل الدائرة الثانية معارِضة للقوانين داخل الدائرة الأولى أو لا، ثمّ منحنا الخبرات الإنسانيّة مجال سنّ القوانين في غير ما دلّت عليه النصوص، بدل تطويع النصوص والسعي لبثّ طاقة دلاليّة مبالغاً بها فيها، في مثل هذه الحال سوف نكون قد أمّنا للفقه السياسي والإداري مساحةً واسعة من النشاط العقلاني البشري الذي يخضع للرصد والمراجعة الدوريّة والمحاسبة.

ثانياً: إنّ ما هو من ضمن الدائرة الأولى (دائرة الشريعة)، يخضع لمركّب الاجتهادَين: المدرسي والمقاصدي معاً، وعلى هذين الاجتهادين تفهُّم بعضهما بعضاً وفتح المجال لبعضهما بعضاً بالعمل، وعلى هذا الأساس يمكن للفهم المقاصدي أن يوفّر وعياً أفضل بالغايات التشريعيّة وبالعلل التي تكمن خلف التشريعات أو تدور التشريعات مدارها، كما يوفّر فهماً أفضل بطبيعة التشريعات الموجودة في النصوص وهويّتها ومديات تاريخيّتها، وبهذه الطريقة تنحسر مجالات تصادم النصّ القانوني مع الواقع؛ لأنّ الفهم المقاصدي لديه من القابليّة ما يحرّك شكليّات الأحكام عند تصادمها مع الغايات بما يكون لمصلحة الغايات نفسها.

هنا نحن لسنا بحاجة لسلطةٍ بشريّة تفرض نفسها على الشريعة، ولسنا نكتفي بنظريّةٍ ترسم شكل تطبيق الشريعة، بل نقدّم رؤيةً لكيفيّة فهم الشريعة نفسها بما يمكّنها من تلافي نسبة غير قليلة من تصادم الشرع مع متطلّبات الدولة الحديثة، لا بمعنى أنّنا نريد استنساخ الدولة العلمانية كاملة الأوصاف ضمن تمام المعايير المأخوذة في التجربة الغربية مثلاً، بل نحافظ على قدرٍ من التمايز والخصوصيّة، لكن المهم أن لا نصل بالتجربة في مجال نفوذ الدين في الحياة إلى نقطة الفشل أو الاستبداد أو التلاعب بالدين نفسه.

ينتُج عن هذا:

أ ـ إنّ الاجتهاد المقاصدي يُخضع عمل السلطة ومطلق العمل السياسي لقانونَي: الاختبار والعقلانيّة الإداريّة، فقد أصبح بإمكاننا أن نضع غايات الشريعة بمثابة مؤشّرات على قدرة السلطة على النجاح أو الفشل، واختبار هذه السلطة، ونتيجة هذا الاختبار تقترب هذه السلطة أو تبتعد عن الصفة الدينيّة، على عكس الفقه المدرسي الذي يعتبر أنّ دينيّة السلطة تكمن في تطبيق الأحكام الشرعيّة الجزئيّة والفتاوى مهما كانت النتائج؛ لأنّ الغاية هي براءة الذمّة، دون أن يحدّد لنا أنّ تطبيق هذه الفتاوى هل حقّق نجاحات على أرض الواقع؟ وكيف؟ وما هي المعايير؟

هنا تظهر قضيّة التعبّد والتعقّل في العمل السياسي، فالفقيه المقاصدي هو الذي ترتفع في قراءته للشريعة والدين مستوياتُ التعقّل، بمعنى القدرة على الفهم والتفسير، فيما الفقيه المدرسي يغلب على فهمه للشريعة المنهج التعبّدي الأسراري الذي يتحذّر من فهم خلفيّات التشريعات وسياقاتها المولِّدة لها.

ب ـ ينتج عن النقطة السابقة أنّ الفقه المقاصدي يفتح الطريق أمام شفافيّة السلطة والقدرة على الوصول إلى المعلومات المتعلّقة بنشاطها ثم محاسبتها برمّتها؛ لأنّه يضع معياراً في محاسبتها؛ فإذا كانت السلطة يمكن اختبارها وتحديد مديات نجاحها واستجابتها وعدم ذلك، فإنّ بإمكاننا مساءلتها ومحاسبتها، أمّا في الفقه المدرسي فإنّ السلطة لو أجرت القوانين الجزئيّة، ثم نتج عن ذلك فشل اقتصادي مثلاً، فلن يكون من السهل محاسبتها؛ لأنّها ستقول بأنّه لعلّ المصلحة في ذلك، ونحن عملنا بالتكليف، وكذلك مثل نظريّة ولاية الفقيه العامّة والمطلقة؛ لأنّ المفروض أنّ وليّ الأمر لديه سلطة مطلقة لا تسقط إلا بفسقه الشخصي، فأيّ محاسبة له ستكون نوعاً من الاعتراض على حكم الله؛ لأنّ الرادّ عليه رادٌّ على الله كما جاء في مقبولة عمر بن حنظلة([26])؛ ولهذا نحن لا نعرف شيئاً عن محاسبات ومساءلات الفقهاء أو ولاة الأمر ضمن إطار النظريات الكلاسيكيّة إلا في مثل سياق الفسق أو الجنون، فالفسق الشخصي يمكنه إسقاط سلطة وليّ الأمر، لكنّ الفشل عاجز عن إسقاطه؛ لأنّه إذا قام بوظيفته وفقاً لتشخيصه، ولكن فشلت النتائج، فإنّه من غير السهل ـ فقهيّاً ـ إثبات انعزاله عن منصبه. والموضوع طويل لا داعي للخوض فيه هنا حتى لا نستطرد.

إنّ هذا الذي تعطيه المقاربة المقاصديّة للعمل السياسي والسلطوي يفتح الطريق كذلك للمراجعة الدوريّة الدائمة، ويرفع من مستوى ثقة الجمهور بالدولة، لأنّه لا يميّز في قوانين: الشفافية ـ والحق في الوصول للمعلومات ـ والمراجعة ـ والمحاسبة و.. بين مسؤول وآخر، بل الكلّ سواسية في ذلك.

ج ـ يذلّل الاجتهاد المقاصدي أمام السلطة والنشاط السياسي عموماً عقبة التصادم بين الأحكام الجزئيّة والغايات الكليّة؛ لأنّه يقدّم قانون الغاية على قانون الوسيلة، بالمعنى الإيجابي للكلمة، فالموضوع لم يعد موضوع عنوان ثانوي ـ وإن كان توظيف العناوين الثانوية في حالات خاصّة هو أمرٌ طبيعي ـ بل يغدو الموضوع على صلة بالعناوين الأوليّة نفسها؛ لأنّ الأحكام الجزئيّة تأخذ إطلاقاتها وسعتها من درجة تناسقها مع الكليّات والغايات، فعند التصادم لا يكون الحكم الجزئي موجوداً من الأوّل. وبعبارة أخرى: الأحكام الجزئيّة مقيّدة من الأوّل بعدم تصادمها مع الغايات المقاصديّة للشرع.

يُنتج هذا الأمر ارتفاعَ مستويات التناسق والاتساق بين التشريعات والقوانين، فتغدو منسجمةً مع بعضها؛ لأنّ الذي يولّد هذا الانسجام متوفّر، وهو هيمنة الدستور على القوانين التفصيليّة أو هيمنة المقاصد على الأحكام الفرعية، وبهذا يقدّم الاجتهاد المقاصدي خدمةً كبيرة أيضاً لما يُسمّى بفقه النظرية أو فقه النُّظُم، ويعطي نوعاً من التكامل داخل اللوحة القانونيّة الفسيفسائيّة الناتجة عنه.

ويتفرّع عن ذلك أيضاً أنّ الاجتهاد المقاصدي يساعد في تنظيم فقه الأولويات؛ لأنّه يحدّد درجات الغايات وفقاً لما يتوفّر لديه من أدلّة، ومن ثمّ فإذا تعارضت ـ في مجال التطبيق ـ المفاهيمُ والقيمُ والغاياتُ والتشريعاتُ، كان الفقه المقاصدي أحد العناصر التي تساهم في وضع سلّم للأولويات يقدّم بعضَها على بعض. وقد تعرّض المقاصديّون عبر التاريخ للحديث عن سُلّم الأولويات، كما تعرّضوا للحديث عن العلاقة بين المقاصد نفسها من حيث الأولويّة.

د ـ تحييد فقه الحيل، وهو الفقه الترميمي (قصّ ولصق)، الذي يحاول معالجة مشاكل الأفراد بطريقة الالتفاف على التشريعات، مع بقاء النتائج والمخرَجات العمليّة على حالها، فإذا كان اجتثاث النظام الربوي ـ وهذا مجرّد مثال ـ من أكبر مقاصد الشرع في فقه الاقتصاد، فإنّ تقديم الحيل الشرعية لهذا المكلَّف أو ذاك لن يغيّر من مضارّ الربا في الحياة الاقتصاديّة، فالأمر يمكن قبول الحيل الشرعية فيه بصفتها علاجات مؤقتة أو تعبيراً عن العجز عن تقديم حلول شاملة، لكنّ الدولة والسلطة لا يمكنها ممارسة الحيل الشرعيّة التي تجهض الغايات والمخرَجات العمليّة وتعيد إنتاج الوضع نفسه بقُبّعةٍ إسلاميّة.

هـ ـ تقديم مقاربات أكثر معقوليّة لفقه النوازل أو مستحدثات المسائل، فالفقيه المقنّن اليوم يتعامل ـ في كثير من الأحيان ـ مع أخطر مستحدثات المسائل الآتية من تطوّر العلوم الطبيعية والتكنولوجيّة وعلوم الطبّ والحياة، بطريقة التمسّك بإطلاق حديث شريف هنا أو آية كريمة هناك، غير أنّ الاجتهاد المقاصدي لا يكتفي بمثل هذه المعالجات، بل يحلّل الظاهرة الجديدة في سياق شبكة علاقتها مع الغايات والأهداف الشرعيّة، ومع درجة تناسقها وعدم تصادمها مع الأحكام الشرعيّة الأخرى، وبهذا ـ ووفقاً لعدم شمول الشريعة، كما قلنا ـ فهو لا يكتفي بمجرّد إطلاق هنا أو هناك، وكثيراً ما يكون إطلاقاً وهميّاً، بل يضع الظواهر ضمن سياقات الرؤية الاستراتيجيّة القانونيّة للدولة، ويدرس الظاهرة دراسة عقلانيّة ـ أخلاقيّة من حيث نتائجها مستعيناً بمختلف الخبرات البشريّة. دون أن يشعر أنّه مضطرّ لنسبة كلّ شيء يقنّنُه للشريعة في موضوعاتٍ لم يكن يتخيّلها الناس في العصر القديم أساساً.

إنّ الفقيه المقاصدي الذي لا يؤمن بشمول الشريعة يتعامل بطريقة أكثر واقعيّة ـ من وجهة نظره ـ مع النصوص الدينيّة، ولا يقوم بتطويعها والضغط عليها لاستنطاقها كما لا يقوم باستحلابها قهراً، فهو يرى أنّ النصوص الدينية ليس فيها حديث تفصيلي وقانوني مباشر أو شبه مباشر حول قضايا من نوع التلقيح الصناعي، وبنوك المنيّ، والاستنساخ، وأسلحة الدمار الشامل، وقوانين التعامل مع الفضاء، وقوانين المياه الدوليّة، والملاحة البحريّة والجويّة، والتعامل مع التسلّط على الكواكب الأخرى، وقضايا اللحوم المصنّعة مخبريّاً، وإجارة الرَّحِم، وقوانين البيئة وغير ذلك الكثير، بل يرى أنّ لدينا هنا نصوصاً مقاصديّة وغايات شرعيّة عامّة وقواعد دستوريّة كليّة، وعلينا دراسة هذه الظواهر دراسةً بشريّة موضوعية وسنّ "قوانين بشريّة" مرتبطة بها، تحقّق المقاصد الشرعيّة والأخلاقيّة من جهة أولى، ولا تصادم حكماً إلهيّاً ثابتاً في موضِعِه من جهةٍ ثانية.

 

كلمة أخيرة

كانت هذه الوريقات محاولة أوليّة مختصرة لشرح مديات قدرة التفكير المقاصدي على مساعدة فقه الدولة وفقه العمل السياسي بطريقة يتفاديان فيها المشكلات الموجودة في الفقه المدرسي وكذا في بعض المحاولات العلاجيّة المتأخّرة، لكنّ نقطة التحدّي الكبرى أمام الفقه المقاصدي تظلّ في الجهد الاجتهادي للكشف عن الغايات والعلل الحقيقيّة للتشريعات الجزئيّة أو للمنظومات العامّة للشريعة، ولعلّ بإمكاني القول بأنّنا على هذا الصعيد ما زلنا في بداية الطريق رغم جهود غير قليلة بُذلت، وما لم تتمّ مواصلة هذه الطريق ـ أعني تنشيط الاجتهاد المقاصدي بوصفه فعلاً استنباطيّاً حقيقيّاً ـ فمن الصعب القول بإمكان الوصول إلى شيء عبر المشروع المقاصدي. ومن هنا تكمن أهميّة أن تدرس المؤسّسات البحثيّة الإسلامية والحوزات العلميّة والمعاهد الدينية الفكرَ المقاصدي بطريقة جادّة لتطويره ومعالجة نقاط ضعفه، وما دامت المعاهد والحوزات العلميّة تتعامل مع هذا الفكر بحذرٍ أو باستخفاف، فإنّنا قد لا نشهد تحولاً إطاريّاً حقيقيّاً في الزمن القريب على هذا الصعيد.

ولا تدّعي هذه الورقة أنّ التفكير المقاصدي المتحالف مع نظريّة عدم شمول الشريعة يمكنه حلّ المشاكل كلّها على مستوى علاقة الفقه الإسلامي بالعمل السياسي عموماً، حتى لا نتكلّم بلغة مثاليّة أو طوباوية أو شعبويّة، بل غاية ما تدّعيه أنّ مستوى المشكلات أو ألوان الفشل الموجود في القراءة المقاصدية العِلليّة أقلُّ بكثير منه في القراءات الأخرى والمحاولات العلاجيّة الأخرى، لكنّ مجال العمل ما يزال طويلاً، والفقه الإسلامي أمامه طريق وعرة للوصول إلى شكل أفضل قادر ليس على التكيّف مع الحياة العصريّة، بل على تغييرها ايجابيّاً لمصلحته بما يحقّق الغايات الإنسانيّة والدينيّة والروحيّة المنشودة. لسنا نهدف إلى سلطة علمانيّة بالمطلق لديها مشكلة مع كلّ ما هو روحي أو معنوي أو ديني، بل الهدف هو سلطة يمكنها خلق فضاء مناسب لنموّ الحياة الروحيّة في هذا الزمن المادي الذي حوّل حتى البشر إلى مجرّد أشياء وأرقام (التشييء)، وليس لنموّ الشكليات الدينية والحياة الطقوسيّة فقط مع موت الحياة الروحية وتعطّل نموّ الحياة الدنيويّة.

_________________________________

([1]) نشر هذا البحث في كتاب "الفكر السياسي الإسلامي بين الموروث وتحدّيات العصر"، والذي أصدره "مركز البيدر للدراسات والتخطيط" في بغداد ـ العراق، في طبعته الأولى عام 2025م، وقد شارك في الكتاب نخبةٌ من الكتّاب والباحثين، وصدر الكتاب بإشراف الدكتور صائب عبد الحميد والدكتور أسامة الشبيب، وذلك في 374 صفحة.

([2]) انظر حول المفهومين: المنطقي والأصولي للحجيّة: محمّد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول 4: 27، تقرير بقلم: السيد محمود الهاشمي، مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، إيران، الطبعة الثالثة، 1417هـ.

([3]) انظر: النائيني، فوائد الأصول 3: 91، تقرير بقلم: محمد علي الكاظمي الخراساني، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، إيران، الطبعة الخامسة، 1404هـ.

([4]) انظر: اقتصادنا: 392 ـ 399، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، 1982م.

([5]) البهبهاني، محمّد باقر بن محمّد أكمل، الرسائل الأصوليّة: 28، نشر: مؤسّسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني، قم، إيران، الطبعة الأولى، 1416هـ.

([6]) لم تقتصر نظريّة الحيل الشرعية على مثل القضايا المالية، كما قد يتصوّر بعض الناس، بل كانت لها امتدادات واسعة في الفقه الإسلامي، وبهذه المناسبة لا بأس بالإشارة إلى ما يُنقل عن أحد الفقهاء المتأخّرين ـ رحمه الله ـ عندما سأله شخص يعيش في الغرب عن موضوع حلق اللحية، فوجده ذلك الفقيه حليقاً، فقال له: إنّك الآن بلا لحية، لأنّك حلقتها، وبإمكانك ـ للفرار من حرمة حلق اللحية لاحقاً ـ أن تمرّر آلة الحلاقة كلّ يوم صباحاً على موضع اللحية، وبهذه الطريقة لا يصدق عليك أنّك تحلق اللحية؛ لأنّه لا توجد لحية أصلاً! فقد أُخذت عمليّة الحلق غاية للتحريم، فيما يرى مقاصديوّن أنّ التحريم لو ثبت فهو لكون الرجل بلا لحية، لا لنفس عمليّة الحلق. وهكذا ما يُنقل عن بعض الفقهاء المتأخّرين أيضاً من أنّه يمكن التمتّع بامرأة تمتّع بها شخص آخر ودخل بها، وذلك بأن يتزوّجها الذي كان زوجاً لها مرّةً ثانية ثم يهبها المدّة بلا دخول، فتعقد على زيد لمدّة يوم، فيدخل بها في ذلك اليوم، ثم تعقد عليه في اليوم التالي لمدّة ساعة، ولا يدخل بها، فيمكن لعمرو أن يتزوّجها فور انتهاء مدّة عقدها الثاني مع زيد بلا حاجة لعدّة؛ لأنّ المفروض أنّها الآن بعد انتهاء العقد الثاني كالمطلقة غير المدخول بها، فلا عدّة لها، بينما التفكير المقاصدي الذي يعتبر أنّ العدّة هي احتياط من موضوع الحمل، تغدو مثل هذه الحيل بالنسبة إليه نوعاً من التلاعب، وهكذا إلى عشرات ومئات الأمثلة التي من هذا النوع على امتداد مدارس الفقه الإسلامي.

([7]) انظر: محمد محسن الكاشاني، المحجّة البيضاء في تهذيب الإحياء 1: 59 ـ 60، حقّقه وعلّق عليه: علي أكبر الغفاري، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، إيران، الطبعة الثانية (بدون تاريخ).

([8]) الصدر، بحوث في علم الأصول 4: 444.

([9]) ناصر مكارم الشيرازي، بحوث فقهيّة هامّة 1: 504، نشر مدرسة الإمام عليّ، قم، إيران، الطبعة الأولى، 2001م.

([10]) راجع نظرية الطوفي في العلاقة بين النصّ والمصلحة في كتابه: رسالة في رعاية المصلحة: 45 ـ 47، تحقيق: أحمد عبد الرحيم السايح، الدار المصريّة اللبنانيّة، الطبعة الأولى، 1993م؛ وقد كنت بحثتُ بالتفصيل في شرح ومقارنة نظريّة الطوفي ونظرية الخميني في العلاقة بين النصّ والمصلحة وذلك في كتابي: فقه المصلحة مدخلاً لنظريّة المقاصد واجتهاد المبادئ والغايات: 337 ـ 389، دار روافد، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2019م.

([11]) انظر: جهانكَير صالح بور، فرآيند عرفي شدن فقه شيعه، مجلّه كيان، العدد 24: 20 ـ 21، عام 1995م. وهذا الاسم مستعار فالكاتب الحقيقي هو سعيد حجّاريان أحد أكبر رموز الحركة الإصلاحيّة في إيران، والذي تعرّض لمحاولة اغتيال في إيران عام 2000م، أقعدته.

([12]) انظر: علي أكبر هاشمي رفسنجاني، مجلّة فقه أهل البيت، العدد 31: 107، السنة الثامنة، تقرير حول الملتقى العلمي التخصّصي حول الفقه والفلك.

([13]) انظر حول رأي شمس الدين في الدولة والأمّة من هذه الناحية مقالتَه: المقدّس وغير المقدّس في الإسلام، مجلّة المنطلق، بيروت، لبنان، العدد 98: 9 ـ 10، 13، لعام 1993م.

([14]) راجع ـ لمزيد توسّع حول القياس ومعناه وتحديد موقف أهل البيت منه، والنقاشات التاريخية في ذلك ـ: حيدر حبّ الله، الاجتهاد المقاصدي والمناطي، المسارات والأصول والعوائق والتأثيرات 2: 201 ـ 419، دار روافد، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2020م.

([15]) صدر هذا الكتاب بطبعته الأولى في 820 صفحة عن دار روافد في بيروت، وذلك عام 2018م.

([16]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: أبو جعفر الطوسي، العدّة في أصول الفقه 1: 376، تحقيق: محمد رضا الأنصاري القمي، مطبعة ستاره، قم، إيران، الطبعة الأولى، 1417هـ.

([17]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: المحقّق نجم الدين الحلّي، معارج الأصول: 185، تحقيق: محمد حسين الرضوي الكشميري، مطبعة سرور، إيران.

([18]) انظر: البهبهاني، الفوائد الحائريّة: 289، 293، نشر: مجمع الفكر الإسلامي، قم، إيران، الطبعة الأولى، 1415هـ.

([19]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: حوار شمس الدين مع مجلّة الكلمة، العدد 5: 124 ـ 125.

([20]) انظر: كتاب الفروق أنوار البروق في أنواء الفروق 1: 346 ـ 350، و 4: 1180 ـ 1184، دراسة وتحقيق: محمّد أحمد سراج وعلي جمعة محمّد، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 2001م.

([21]) حول مسألة اجتهاد النبيّ والنقاشات حولها، راجع: حيدر حبّ الله، حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 369 ـ 501، مؤسّسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2011م.

([22]) انظر: القواعد والفوائد في الفقه والأصول والعربيّة 1: 214 ـ 217، تحقيق: عبد الهادي الحكيم، منشورات مكتبة المفيد، قم، إيران (دون تعيين رقم الطبعة ولا تاريخها).

([23]) انظر: ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلاميّة: 207 ـ 230، تحقيق ودراسة: محمّد الطاهر الميساوي، دار النفائس، الأردن، الطبعة الثانية، 2001م.

([24]) انظر: حيدر حبّ الله، دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر 4: 337 ـ 391، دار الفقه الإسلامي المعاصر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2011 ـ 2015م.

([25]) انظر: الصدر، الفهم الاجتماعي للنص في فقه الإمام الصادق، موسوعة الإمام الشهيد الصدر 17: 185 ـ 192.

([26]) انظر: محمّد بن الحسن الحرّ العاملي، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 27: 137، تحقيق ونشر: مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، إيران، الطبعة الأولى، 1412هـ.