hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

الحوارات

أخلاقيّات الحرب في الإسلام ـ رؤية فقهيّة معاصرة

تاريخ الاعداد: 5/12/2025 تاريخ النشر: 5/12/2025
100
التحميل

حوار مع الدكتور حيدر حبّ الله([1])


هل الإسلام دينٌ جهادي؟

شذرات: على الرغم من أن الجهاد فرع من فروع الإسلام، فهل يمكن القول أن الإسلام اهتم بأخلاقيات الحرب؟ وبعبارة أخرى، ألا يعني كون الجهاد فرع من فروع الدين ـ بجانب الحجّ والزكاة ـ أنّ الإسلام دينٌ جهادي والأصل فیه هو الحرب ولا الصلح؟

حبّ الله: مسألة فروع الدين مصطلح تاريخي أفرزته قراءات علماء الإسلام لمنظومة المفاهيم الإسلاميّة والترتيب والتنظيم بينها من حيث الهويّة والطبيعة والأولويّة، فقامت بإعادة إنتاج ثلاثيّة الأصول والفروع والأخلاق، أو ثنائيّة الأصول والفروع، والرواية المشهورة بين المسلمين والمعروفة بحديث دعائم الإسلام لم تتضمّن عنوان الجهاد، بل تضمّنت مثل الحجّ والصلاة والزكاة، فتصنيف العلماء الفروع مقابل الأصول، ثم جعل الجهاد من الفروع هو جهدٌ بشري، ومن ثم لا يمكن البناء عليه لوحده.

لكن ليس هناك شكّ في أنّ الجهاد مفهومٌ كبير فاعل الحضور في المنظومة الإسلاميّة في الكتاب والسنّة، والنصوص حوله وحول مقامه ومكانته في الدين عالية وكثيرة ومحوريّة.

 

مفهوم الجهاد في الإسلام، من التوسّع إلى الدفاع

غير أنّ السؤال: ما معنى الجهاد المأخوذ في هذه النصوص؟ لقد مال الكثير من علماء الإسلام للاعتقاد بأنّ المقصود بالجهاد ـ حصراً أو شمولاً ـ هو الجهاد الابتدائي الدعوي، في حين ثمّة قراءة أخرى ـ أراها أقرب للصواب ـ تعتبر أنّ الجهاد الذي طرحه الإسلام هو أوّلاً وبالذات مشروع حماية الجماعة وقيمها من التلاشي، فالنبيّ كان يجهاد لبقاء الإسلام؛ لأنّ النبي لو لم يجاهد لزال هذا الدين، ثمّ اتخذ مفهوم الجهاد سعةً أكبر ليعبّر عن حماية الأمّة التي تحمل قيم هذا الدين، ففي فهمي المتواضع الجهادُ هو حرب الدفاع عن الوجود، وليس حرب العدوان أو الهجوم على الآخر. بتعبير أكثر دقّة: الجهاد في المفهوم القرآني والنبويّ وفقاً لملاحظة السياقات التاريخيّة، هو الحرب لتكوين وحفظ وحماية الأمّة التي تحمل المشروع، فإذا كانت الأمّة محفوظة وكائنة بالفعل، لم يكن هناك معنى للجهاد.

من هنا يبدو نظر أمثال العلامة محمّد مهدي شمس الدين(2001م) قريباً جداً لمنطق القرآن والسنّة، وهو أنّ الدولة (السلطة) في الإسلام ليست مقدّساً قائماً بنفسه ترخص له الأرواح، وليس الدفاع عنه أوجب الواجبات، بل الأمّة هي المقدّس بوصفها حاملة الرسالة المقدّسة أخرجت للناس لتكون نوراً بين الأمم بدعوتها للتوحيد والأخلاق والعمل الصالح. وخدمةُ الدولة أو السلطة يجب أن يصبّ في صالح خدمة الأمّة حاملة الرسالة.

كما ولعلّنا أيضاً نفهم المحاولة التشكيكيّة التي قدّمها بعضٌ قليل من الفقهاء ـ كما يستوحى من كلمات الشيخ محمد حسن النجفي(1266هـ) ـ من أنّ الأصل في الجهاد هو الدين نفسه لا الأرض ولا غيرها، فهو وإن كان كلاماً قابلاً للنقاش من الناحية الفقهيّة،كما ناقشناه في بحوثنا الاستدلاليّة، لكنّني أظنّ بأنّه يريد أيضاً أن يقول بأنّ فكرة الجهاد مرتبطة أوّلاً بحماية أو خدمة المشروع، وإذا كان يلزم خدمة الأمّة أو الأرض الإسلاميّة فلأنّ ذلك يقع في طريق خدمة المشروع الذي هو الإسلام في وجوده العيني الخارجي القائم بالبشر أنفسهم في اجتماعهم السياسي.

أمرٌ آخر علينا الانتباه له هنا هو أنّ عنوان الجهاد يقع تحت عنوان العلاقة مع الجماعات الأخرى، ومن ثم فهو جزء من عنوان أكبر، ولهذا أنت تجد أنّ الجهاد في الأعمال الفقهيّة يتضمّن مختلف مباحث الصلح والسلام ووقف الأعمال الحربيّة والهدنة وغير ذلك، فالتسمية هي في الحقيقة تسمية للشيء باسم أبرز عناصره، ولهذا عنونتُ كتابي في فقه الجهاد بعنوان: «فقه الحرب والسلم في الشريعة الإسلاميّة» فليس الفقه الإسلامي فقه جهاد، بل هو فقه حرب وسلم معاً، وتتضمّن بحوثه مختلف القضايا المتصلة بهذين العنوانين معاً.

من هنا، يمكنني أن أستنتج ـ جواباً عن سؤالكم ـ إنّ وجود فقه الجهاد في الإسلام لا يعني بالضرورة أصالة الحرب، بل يمكن أن يعني أصالة الردع والحماية وفرض الهيبة، وأنّنا أمّة لا تقبل الإهانة والمسّ بكرامتها وقيمها، وأنّنا أمّة عصيّة ومتأبّية على الخنوع والخضوع والإزالة. 


العلاقة بين أخلاقيات الحرب وفقه الحرب

شذرات: ما العلاقة بين مفهوم أخلاقيات الحرب وفقه الحرب في الإسلام؟

حب الله: العلاقة بين أخلاق الحرب وفقه الحرب هي صورة مصغّرة عن كليّة العلاقة بين الأخلاق والفقه، وبتعبير أكثر عموميّة: بين الأخلاق والقانون، وهذه العلاقة تتبع تعريفنا لهذين المفهومين وتحديدنا لدور كلّ واحد منهما في ضبط العلاقات الإنسانيّة، ففقه الحرب لا يلزمه أن يكون ممارساً لأعلى مستويات الفعل الأخلاقي، لكن يلزمه أن لا يكون مناقضاً مناقضة كليّة للمعايير الأخلاقية الأساسيّة.

وربما يمكنني إعادة إنتاج هذه الفكرة عبر القول: إنّه لا يمكن تقويم أخلاقيّة فعل تقويماً نهائيّاً دون النظر في مختلف العوامل ذات الصلاة بالفعل وتأثيراته، بحيث يلزم في العادة أن يكون هناك جانب من جوانب هذا الفعل يبدو غير أخلاقي، لكن حاصل ضرب العناصر ببعضها يلزم أن يكون أخلاقيّاً.

هذا يعني أنّه لا يمكنني تقويم أخلاقيّة فعل من زاوية واحدة، بل يلزم أخذ جميع الزوايا معاً ثم تقويم حاصل المجموع، وما يحدث اليوم في المناقشات والمساجلات بين التيارات المختلفة ـ حيث يتم تسليط الضوء على زاوية واحدة، ثم تقويم السلوك أخذاً بعين الاعتبار هذه الزاوية لوحدها، ويتمّ نقد فقه الحرب في الإسلام عبر هذه الطريقة المجتزأة ـ ما يحصل ليس منهجياً ولا أكاديمياً. إنّ تسجيل النقاط عمليّة نقدية مشوّهة؛ وهي أقرب لتصفية الحسابات منها لدراسة أكاديمية موضوعية مستوعبة.

انطلاقاً من ذلك يمكنني الحديث عن نقطة أخرى لكنّها كلية وعلينا فهمها جيّداً، هل أخلاقيّات الحرب هي من نوع القوانين الدستوريّة فيما فقه الحرب من نوع القوانين الجزئيّة، بحيث يكون لأخلاقيّات الحرب سلطة على فقهه أو لا؟ وسواء قبلنا بهذه السلطة أم رفضناها، يظلّ هناك سؤالٌ آخر ملحّ وهو من يحدّد أخلاقيّات الحرب: النصّ الديني أو العقل الإنساني المخارج للنص؟ وإذا كان العقل الإنساني المخارج فما هو معياره في تقدير أنّ الفعل الفلاني هو فعل أخلاقي أو غير أخلاقي؟

هذه الأسئلة بحاجة لدراسة، فلو أجبتكم الآن بأنّ أخلاقيات الحرب مقدّمة على الفقه، فهذا أمرٌ منسجم مع بارادايم العصر الحديث، وسوف يُسعد العديد من الناس؛ لأنّه سوف يحرّرهم من التصادم مع قيم العصر الحديث، إذ هو في الحقيقة سوف يعيد منح قيم العصر الحديث سلطةً على الفقه الإسلامي، وهذا أيضاً منسجم مع النزعة العلمانيّة في الأخلاق والسلطة. إنّني أعتقد بأنّ هذه الطريقة غير صحيحة منهجيّاً، وهي أقرب للهزيمة النفسيّة منها للفعل البحثي الموضوعي، وأقرب للصراع السياسي لكن في أروقة العلم والثقافة.

لا يمكنني الجواب عن هذه الأسئلة كلّها؛ لأنّ ذلك سوف يدخلنا في موضوع مختلف تماماً وبحاجة لكلام طويل ومستقل، لكنّ هذا لا يعني أنّني لا أوافق على نوعٍ من سلطة الأخلاق على الفقه، في دائرة إعادة تنظيم النصوص الدينية وفرزها إلى نصوص عامّة دستورية وأخرى تفصيلية مرحليّة أو جزئيّة.


هل في أخلاق الحرب الإسلاميّة جانبٌ إنساني؟

شذرات: هل لأخلاق الحرب في الإسلام جانب إنساني يمكن أن يصل إليه كلّ إنسان مهما كان دينه، أم أنها أخلاق خاصّة متجذّرة في النصوص الدينية الإسلاميّة؟ وإذا كان لها جانب ديني فهل هي مشترکة بين الديانات الإبراهيميّة أم أن لأخلاقيّات الحرب في الإسلام خصوصيّات تميّزها؟

حبّ الله: لا أظنّ أنّ أخلاقيات الحرب أمر محتكَر دينيّاً أو غير قابل للفهم العقلاني المستقلّ القائم على التجربة البشريّة اليوم، فلو رصدنا أخلاقيّات الحرب في الإسلام فلن نجد أنّها تتعالى عن التعقيل والتفسير، أو عن إمكانية وصول الإنسان اليوم إليها، لكن هنا نقطة لها صلة بموضوع الدين والأخلاق عموماً أيضاً، من غير الزاوية الفلسفيّة الخالصة، وإنّما هذه المرّة من الزاوية التاريخيّة الانثروبولوجية؛ وذلك أنّنا بحاجة ـ من منطلق كوننا مؤمنين ـ للنظر التاريخي المعمّق للبحث في أنّ الإنسان في مسار تطوّره عبر التاريخ، هل ساهمت الأديان في ولادة ضميره الأخلاقي أو تكوين ضميره الأخلاقي تكويناً تطوّرياً أو لا؟ أنا لا أقول بأنّ الأديان احتكرت بناء الضمير الأخلاقي للإنسان أو أنّها هي التي كوّنته حصراً، بل أتحدّث عن المشاركة التاريخيّة في هذا التكوين على قانون التطوّر، إنّنا بحاجة للتأكّد من أنّ ما نسمّيه اليوم ضميراً أخلاقيّاً أو وجداناً أخلاقيّاً أو شهوداً أخلاقيّاً هل هو بالفعل وليدٌ فطري تكويني جاء مع الإنسان من اللحظة الأولى، أو أنّه استعداد فطري لم يكن له ليصبح ضميراً أخلاقياً دون تجربة تاريخيّة بشرية ساهمت الأديان عبر التاريخ في تكوينها، وبتعبير آخر: قبل أن أفصل تماماً الأخلاقَ الإنسانيّة عن الدين عليّ البحث في أنّ ما أسمّيه "الأخلاق الإنسانيّة" هل كان حصيلة فعل تجريبي تاريخي تطوّري ساهم في تكوينه الحكماء والصالحون وكذلك الوحي السماوي، بحيث نقل الوحي السماوي الإنسان من مرحلة إلى مرحلة على وفق قانون التطوّر أو لا؟

من هنا ولكي أجيب عن سؤالكم، يمكنني ملاحظة المشهد من زاويتين:

الزاوية الأولى: أخذ حصيلة أخلاقيات الحرب التي بين أيدينا اليوم والنظر في أنّها هل هي قابلة لوصول العقل الإنساني إليها أو أنّها ذات خصوصيّة ولون لا يمكّنها أن تنشأ من قبل العقل الإنساني اليوم إلا مع الأخذ بعين الاعتبار النصَّ الديني الذي بين أيدينا؟ هذا الجانب فعليٌّ وحاليّ، بمعنى أنّني أنظر اليوم إلى الإنسان وإلى منظومة أخلاقيّات الحرب ثم أُجري مقارنة.

وفي تقديري فإنّني لا أجد في الإسلام ـ على مستوى أخلاقيّات الحرب ـ أمراً يتعالى عن إمكانيّة وصول الإنسان إليه في لحظتنا التاريخية هذه. وهذا شيء كنت قد قلتُه في كتابي حول فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث توصّلت في نتائج الكتاب إلى أنّ مجمل الأخكام المرتبطة بفقه الأمر بالمعروف وآليّاته ـ وفقاً لما توصّلتُ إليه ـ هي أمور عقلائيّة مفهومة ومتوقّعة، وليس ثمة شيء تعبّدي متعالٍ عن التعقيل.

الزاوية الثانية: وهي ذات جانب تاريخي سياقي، فأنا هنا لا أنظر إلى المخرَجات القائمة بالفعل، بل أنظر إلى المسار التاريخي، وأسأل: هل كان يمكن للعقل الإنساني ـ لولا تدخّل الوحي السماوي عبر آلاف من السنين ـ أن ينهض لوحده في تنمية استعداداته الأخلاقيّة ووعي ما هو صالح وما هو غير صالح على طول الخطّ؟ هذا سؤال لا أملك جواباً يؤكّده أو ينفيه، لكنّ حالة اللاأدريّة هذه تدفعني للتواضع وعدم استعجال الزعم بأنّ الأخلاق نتيجٌ علماني إنساني منفكّ تماماً عن الدين.

أمّا فيما يتعلّق بالشقّ الثاني من سؤالكم، والمرتبط بأخلاقيّات الحرب في الأديان، فالذي أُلاحظه ـ بمقارنة النصّ الإسلامي والنص اليهودي ـ هو وجود فوارق كبيرة إلى جانب التشابهات، بحيث لم يظهر لي أنّ منظومة القيم الأخلاقيّة الحربيّة في الإسلام يمكن اصطيادها من النص الديني اليهودي التوراتي والتلمودي، ما لم تكن هناك قراءة هرمنوطيقيّة جديدة قد تغيّر مخرجات الفقه اليهودي على هذا الصعيد، لهذا يبدو لي أنّ الإسلام أقرب من بعض الجهات إلى أخلاقيّات الحرب المعاصرة من الثقافة التوراتيّة التلموديّة.


حدود وسعة أخلاقيّات الحرب في الإسلام

شذرات: هل أخلاقيات الحرب هي فقط أخلاق الجانب المنتصر في الحرب أم أنها شيء أكثر من ذلك وهل تتعلق أيضاً بالمقاتل نفسه والطرف المهزوم في الحرب أو حتى الناظرين للحرب؟

حب الله: أخلاقيات الحرب قيمٌ وسلوكيات أخلاقيّة منشودة مرتبطة بالحرب بوصفها موضوعاً، سواء كانت العلاقة معها علاقة مشاركة أم نظر ومشاهدة، وسواء كان الفرد منتصراً أم مهزوماً أم لا هذا ولا ذاك، فالجميع إزاء واقعة الحرب مسؤول أخلاقيّاً، لكن من الطبيعي أنّ المشاركين لديهم مسؤوليّة مباشرة.


نقد بعض التجارب "الجهاديّة" المعاصرة

وهنا يجب أن نشير إلى أنّ مشكلة بعض الحركات المناضلة أو الجهاديّة أو غير ذلك ما شئت فعبّر، أنّها ونتيجة سلطة العسكر داخلها أصبح قرار الحرب ووقائعها فيها بيد من يدير الحرب، بحيث ما يراه هو نافعاً لتحقيق غاياته العسكريّة يكون صالحاً وما لا يراه نافعاً لا يكون، وهذا خللٌ كبير؛ لأنّه نوع من الاستبداد بتقويم الحرب. دعني أشرح هذه النقطة الحسّاسة التي لاحظتُها وأنا أكتب كتابي "فقه الحرب والسلم في الشريعة الإسلاميّة"، إنّك تلاحظ أنّ الحديث عن ضرورة الانضباط الأخلاقي للمقاتلين قد يثير السخرية عند بعضهم، وكأنّ هذا الكلام كلامٌ نظريّ مثالي، حتى أنّ بعضهم قد يعبّر بأنّه ما هي الضرورة لفقه الحرب ووضع قوانين تحكم أخلاقيّة أفعال المقاتلين؟! إنّ هؤلاء بلغوا في تفكيرهم أنّ القائد العسكري هو صاحب القرار النهائي في كلّ شيء، في حين أنّه مجرّد مقاتل عليه أن ينضبط للقيم والأخلاق والشريعة والقوانين. إنّ شعور المقاتلين والعسكر أنّهم من يملك القرار في اتخاذ الخطوات المناسبة هنا أو هناك، مرجعه في تقديري إلى غياب الدرس الأخلاقي والشرعي من جهة وتأثير التفكير العسكري على التفكير السياسي من جهة أخرى بدل العكس، مع أنّ قيمة الأديان أنّها جاءت لتضبط حركة الإنسان حتى في أكثر اللحظات انفعاليّةً كلحظات الحروب والقتال، فالشريعة حثّت على ذكر الله تعالى أثناء القتال، وهذا يعني أنّ المقاتل لا يقاتل للقتال فحسب، أو لمصالح فئويّة، بل هو يعمل لله، فالله بوصفه المطلق الأخلاقي الأعلى هو نصب عينيه، ومن ثم لا يحقّ له أن يفعل ما يريد بحجّة ضرورات الحرب، بل عليه أن يدرس الأمور بدقّة قبل أن يتمّ تقرير أنّ هذا بالفعل ضرورة من ضرورات الحرب أو لا.

وما يؤكّد ما نقول أنّ علماء أصول الفقه الإسلامي أنفسهم وكذلك علماء مقاصد الشريعة، يقرّون بأنّ تحديد الأهم والمهمّ من التشريعات ليس عمليّةً سهلة ولا هيّنة، بل لا يمكن أن يحدّدها في العادة إلا شخصٌ مشبع بالثقافة الدينيّة والقانونيّة، فهل الصوم أهمّ أو الحجّ؟ وهل ترك الزنا أهمّ أو ترك الربا؟ إنّ الموضوع قد وضعت له معايير كثيرة في كتب المسلمين، وقد بحثتُها في كتابي "فقه المصلحة"، ويبدو أنّ هناك مساحة غير بسيطة ما تزال غامضة في تحديد الأولويّات والأهمّ والمهم فيها، ومن ثمّ فإذا كانت القضية كذلك كيف يمكنني إحالة تقدير الأهمّ والمهم لمن قد لا يملك الخبرة الكافية في فهم الإسلام ومعاييره ومحاسباته، وتفويض تقدير الأمور مطلقاً إليه، بدل تحديد المعايير له ليكون منضبطاً لها؟

الموقف من محاسبة المناضلين والمقاومين! هل المجاهدون فوق النقد؟

الأمر الآخر ذي الصلة هنا أيضاً والذي كثيراً ما نقع في أخطاء على صعيده، هو محاسبة المقاتلين على إخفاقاتهم أو عدم أخلاقيّتهم أو ارتكابهم سلوكاً مخالفاً لقانون الحرب وأخلاقها هنا أو هناك. إنّ تقديس المجاهدين والشهداء لا يلغي ـ في المنظور الإسلامي ـ واجب محاسبتهم على تقدير تقصيرهم أو خطئهم ـ وفرقٌ بين نوعَي المحاسبة هنا ـ فكما نقدّرهم عندما ينتصرون وننحني إجلالاً لجهودهم، علينا أيضاً أن نحاسبهم عندما يُخفقون ولا نعمل على تغطية الأخطاء أو تضليل الناس، فمن حقّ الأمّة أن تعرف وتفهم، وهذا ليس شيئاً ترجوهم الأمّة أن يتصدّقوا عليها به، بل هو حقّها الطبيعي الكامل، بل قد يكون واجبهم أن يتنحّوا عند الإخفاقات الكبرى.

إنّ إدارة الحرب كإدارة شركةٍ اقتصاديّة، فعندما يخفق مدير الشركة ويعود بالخسائر الكبرى عليها، فهنا علينا محاسبته، لا بمعنى تخوينه، بل حتى لو لم يكن مقصّراً من الطبيعي أن نحاسبه مع حفظ حرمته وكرامته وتقدير جهوده، وقد نأتي بفريق عمل آخر، فنحن هنا لسنا في جمعيّة خيرية تتصدّق بالمناصب والمسؤوليات على الناس.

إنّ شعوبنا مرهفة الإحساس، وربما تشعر بجرحٍ نرجسي وبسلوك غير أخلاقي عندما تحاسب المجاهدين والمناضلين، لكنّ هذا الإحساس مضلِّلٌ رغم أنّ منطلقاته نبيلة وصادقة وطيبة، بل سوف يسبّب مشاكل أكبر، فليس لدينا شيء اسمه "الجهاد حسنة لا تضرّ معها سيئة"، بل علينا الاحتكام للشريعة والقانون في التعامل مع هذه القضايا، وإلا فالسير وراء مثل هذه الأحاسيس قد يكرّس الأخطاء إلى زمن بعيد.


الروح الأخلاقيّة للحرب في الإسلام بكلمة مختصرة

شذرات: إذا أردنا تلخيص الروح الحاكمة لأخلاقيات الحرب في الأديان في جمل قصیرة فماذا نقول؟

حب الله: الحرب عمليّة جراحيّة تفرضها الضرورة هدفها تعافي جسد الإنسانيّة، فهي وظيفة إنسانيّة كوظيفة الطبيب لكنّها تتطلّب جراحة مؤلمة، وعندما تكون الحرب ضدّ الإنسانيّة وإنقاذها تفقد معناها النبيل.

والحرب بقعة ابتلاء من الطراز الأوّل حيث يفرض على من يعيش أعلى درجات التوتر والانفعال أن ينضبط للأخلاق ويعمل لله لا لنفسه، شبه القصّة المنقولة عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في منازلته لعمرو بن ودّ العامري، فالحرب ساحة جهاد النفس أيضاً.


موقفٌ من استخدام المدنيّين دروعاً بشريّة

شذرات: وفقاً لمعايير الأخلاق الحديثة هل يجوز الدفاع عن أحکام مثل التترس أو استخدام الحيل التي وردت في فقه الحرب؟

حب الله: وفقاً لبحثي الذي عقدته حول موضوع التترس وأمثاله في كتاب "فقه الحرب والسلم في الشريعة الإسلاميّة"، فإنّني أعتقد ـ وخلافاً لبعض فقهاء الإسلام على امتداد المذهب الفقهيّة ـ بأنّ التترّس بالمدنيّين وأمثالهم غير مشروع، ويحتاج لحالة استثنائيّة تتطلّب موقفاً غير عادي لتبريره في هذه اللحظة أو تلك، وأنّ الأصل هو "تحييد المدنيين المسلمين وغيرهم" عن الحرب، من هنا فإنّني أختلف تماماً مع بعض الحركات الجهاديّة التي لا تعتبر خسائر الناس المدنيّين، في أرواحهم وأرزاقهم، جزءاً من خسائرها، بل كلّ ما يهمّها هو حجم خسائر الجسم العسكري عندها، فهذا هو المعيار عندها! وعندما لا يعتبر الجيش أنّ خسائر أمّتـه ومدنيّيه هي جزء من خسائره، فهذا يعني أنّنا أمام كارثة في التقويم الأخلاقي.

نحن نعرف أنّ الكثير من هذه الأمور وقع مع الأسف الشديد، وما زلنا إلى اليوم لا يجرؤ أحد على المطالبة بمحاسبة أخلاقيّة وشرعيّة لمثل هذه الجنايات أو الأخطاء التي تسبّبت في العديد من البلدان بوقوع كوارث، وكما قلت لكم قبل قليل فإنّ مشكلتنا أنّنا شعوب تشعر بالخزي والعار على محاسبة المناضلين في أخطائهم، مع أنّ هذا المفهوم غير صحيح، فقد ندّد القرآن الكريم بسلوكيّات بعض المسلمين في معركة أحد، ورغم أنّه تعامل في النهاية بعطفٍ معهم، لكنّه قرّعهم وأدانهم إدانةً ظلّت للتاريخ. وكذلك أدانهم في حُنين وكشف لهم غرورهم، ولم يقل بأنّ هذه الإدانة هي جريمة أخلاقيّة.

ولعلّ السبب في التهاون بقضايا المدنيّين عند بعضهم يرجع تارةً لعدم أخذ المعايير الشرعيّة بجدّية عالية، وتفويض تقدير الأمور لمن لا يعرفون الشريعة أو لا يُدرَّبون على مراعاتها في الحرب، أو لوهم الضرورة، أو لمبرّر فقهي يراه هذا الفقيه أو ذاك انطلاقاً ـ كما قلتُ آنفاً ـ من أنّ هناك وجهة نظر فقهيّة تسمح بمثل التترّس. إنّ مقاومة العدو ليست مطلقة في الإسلام، بل يجب أن تخضع لقواعد الشرع والأخلاق.

 

حول مدى شمول حيل الحرب للجمهور المسلم نفسه!

أمّا بالنسبة لموضوع الحيل، فإنّه لا شكّ ـ وفقاً لما دلّت عليه النصوص الحديثيّة والتاريخيّة ـ في شرعيّة استخدام الخدعة ضدّ العدو بهدف إلحاق الهزيمة به، وكذلك في شرعيّة استخدام التضليل الإعلامي والحرب النفسيّة ضدّه، بل هذا من الطرق التي استخدمها رسول الله أكثر من مرّة في سيرته الحربيّة، غير أنّه يوجد هنا أمرٌ مرتبطٌ بخدعة المسلمين أنفسهم، وهذه قضيّة مهمّة، فهل يجوز للحاكم المسلم أن يخدع جمهور المسلمين بهدف طمأنتهم أو لمصالح نوعيّة أو أنّ هذا الأمر غير مبرّر؟

ثمّة رواية تعرّضتُ لها في محلّه ـ وهي رواية عَدِي بن حاتم التي نقلها الشيخان الكليني والطوسي ـ توحي بأنّ الإمام عليّاً مارس نوعاً من خدعة المقاتلين الذي كانوا إلى جانبه، فألقى خطاباً على هذه الطريقة، لكنّ الرواية منفردة في بابها وضعيفة من حيث الإسناد، ومن الصعب بناء قاعدة عليها، لهذا فالخديعة والكذب وتزوير الحقائق أمام الرأي العام المسلم هو أمرٌ خطير جداً، ولا يمكن الموافقة عليه إلا في ظروف استثنائية قاهرة تحتاج لتبرير. هذا يعني أنّ الأصل في علاقة ولاة المسلمين وقادتهم بشعوبهم هي علاقة الصدق والشفافية، لا أن يصبح المسلمون أنفسهم هدفاً لتضليل أئمّتهم والتلاعب بمشاعرهم وعواطفهم، وجعلهم في حالة انفصام عن الواقع، قد تفضي إلى انهيارات شاملة في لحظاتٍ صعبة.

 

شذرات: هل تختلف أخلاقيات الحرب في الفكر الشيعي عن السنّي؟

حبّ الله: وفقاً لقراءتي المتواضعة، فإنّ الاختلاف موجود لكنّه ليس كبيراً، فقد نجد في بعض مدارس الفقه السنّي مشهداً عنفيّاً بعيداً عن المعاملة الإنساني ـ بالمفهوم المعاصر للكلمة ـ فيما لا نجد هذا المستوى في الفقه الإمامي. 


عن مدى احتكار الفقه لقواعد الحرب والسلم

شذرات: باعتبار أن السلام والحرب عمل سياسي واجتماعي، فهل يجب أن يدرس في إطار علم الفقه؟ ألا تفرض وجهة النظر هذه قیوداً على مسألة أخلاقيات الحرب؟

حبّ الله: بالتأكيد، يجب أن يدرس في الفقه الإسلامي وقد درسه بالفعل علماء المسلمين، وهناك كتب موسّعة جداً في تفاصيل قضايا السلم والحرب في الفقه الإسلامي، وإن كان المشهد مع الأسف أقلّ على المستوى الإمامي، حيث لم يتمّ الاعتناء بالقدر الكافي بفقه الجهاد، ولا أظنّ ذلك من باب التقصير، بل غالب الظنّ أنّ السبب في ذلك هو سببٌ تاريخي، مضافاً لهيمنة فكرة أنّ الجهاد هو من شؤون الإمام المنصوص، فهذان العنصران ساهما في تقليل اهتمام فقهاء الإماميّة بباب الجهاد في بحوثهم الفقهيّة، حتى وجدنا أنّ بعضهم كان يحذف الحديث عن فقه الجهاد لعدم اعتقاده بأنّ له ضرورة أو أنّه ليس محلّ ابتلاء حقيقيّ، لكن بمجرّد أن حدثت زحزحة على صعيد هذين العنصرين، لاحظنا خطوات جديدة في دراسة فقه الحرب والسلم نأمل أن تواصل وتتقدّم.

أمّا أنّ دراسة قضايا الحرب والسلم في الفقه قد تترك تأثيراً سلبيّاً ـ كما أستوحي من سؤالكم ـ على أخلاقيّات الحرب، فلا أوافقكم على ذلك، وكأنّ في السؤال إيحاءً بأنّ تسليم زمام قوانين الحرب والسلم للفقه يلحق الضرر بأخلاقيّات الحرب، نظراً لما يُعرف عن الفقه الإسلامي من أنّه يختزن في تاريخه الكثيرَ من العنف في القضايا المرتبطة بالآخر. لكنّني أعتقد بأنّ فقه الحرب والسلم فيه قابليّة عالية لتقاربٍ كبير مع الأخلاق المعاصرة، وهناك قراءات جديدة متعدّدة لفقه الحرب والسلم تقدّم صورةً مختلفة عن السائد تاريخياً من نتائج عند علماء المسلمين، إنّني بالعكس أعتقد بأنّه من الضروري تعاون الفقه والأخلاق معاً في دراسة قضايا السلم والحرب، وإعادة فهم النصوص والتاريخ ضمن السياقات الحافّة، وبالإمكان الخروج بقراءات ممتازة على هذا الصعيد.. إنّني أتحدّث عن تجربتي في بحث فقه الحرب والسلم، وهي تجربة متواضعة جداً، لكنّها تؤكّد لي أنّ هناك الكثير من المساحات القابلة لتجديد النظر في الفقه الموروث إزاء قضايا الآخر الديني عموماً والحرب والسلم خصوصاً، وأعتقد بأنّ علماء الإسلام التجديديّون، ومنذ أواسط القرن التاسع عشر، أجروا مراجعات واسعة، تستحقّ أن نراكمها ونهتمّ بها، في إنتاج نظريّة فقهية أكثر تطوّراً وعمقاً في باب الحرب والسلم.

_______________________________

([1]) هذا الحوار أعدّه وأجراه الدكتور حميد رضا تمدّن، ونُشر في مجلّة "شذرات"، التابعة للعتبة العلويّة في العراق، العدد الأوّل، مايو(أيار)، عام 2025م.