التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة الجماعة ـ القسم الثالث)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(25 ـ 4 ـ 2025م)
الفصل الثاني
[ما يعتبر في انعقاد الجماعة]
يعتبر في انعقاد الجماعة أمور:
الأوّل: أن لا يكون بين الإمام والمأموم حائل، وكذا بين بعض المأمومين مع الآخر ممن يكون واسطة في الاتصال بالإمام، ولا فرق بين كون الحائل ستاراً أو جداراً أو شجرة أو غير ذلك، ولو كان شخصَ إنسانٍ واقفاً. نعم لا بأس باليسير كمقدار شبر ونحوه. هذا إذا كان المأموم رجلاً، أما إذا كان امرأة فلا بأس بالحائل بينها وبين الإمام أو المأمومين إذا كان الإمام رجلاً، أمّا إذا كان الإمام امرأة فالحكم كما في الرجل([1]).
مسألة 795: الأحوط استحباباً المنع في الحيلولة بمثل الزجاج والشبابيك والجدران المخرمة، ونحوها مما لا يمنع من الرؤية، ولا بأس بالنهر والطريق إذا لم يكن فيهما البعد المانع كما سيأتي، ولا بالظلمة والغبار([2]).
الثاني: أن لا يكون موقف الإمام أعلى من موقف المأموم علواً دفعيّاً كالأبنية ونحوها، بل تسريحاً قريباً من التسنيم كسفح الجبل ونحوه. نعم لا بأس بالتسريحي الذي يصدق معه كون الأرض منبسطة، كما لا بأس بالدفعي اليسير إذا كان دون الشبر، ولا بأس أيضاً بعلوّ موقف المأموم من موقف الامام بمقدار يصدق معه الاجتماع عرفاً([3]).
الثالث: أن لا يتباعد المأموم عن الإمام أو عن بعض المأمومين بما لا يتخطّى، بأن لا يكون بين موقف الامام ومسجد المأموم المقدار المذكور، وكذا بين موقف المتقدّم ومسجد المتأخّر، وبين أهل الصفّ الواحد بعضهم مع بعض، والأفضل بل الأحوط عدم الفصل بين موقف السابق ومسجد اللاحق([4]).
مسألة 796: البعد المذكور إنّما يقدح في اقتداء المأموم إذا كان البعد متحقّقاً في تمام الجهات، فبُعد المأموم من جهة لا يقدح في جماعته إذا كان متصلاً بالمأمومين من جهة أخرى، فإذا كان الصفّ الثاني أطول من الأول فطرفه وإن كان بعيداً عن الصف الأوّل إلا أنّه لا يقدح في صحّة ائتمامه، لاتصاله بمن على يمينه أو على يساره من أهل صفّه، وكذا إذا تباعد أهل الصفّ الثاني بعضهم عن بعض، فإنّه لا يقدح ذلك في صحّة ائتمامهم؛ لاتصال كل واحد منهم بأهل الصفّ المتقدّم، نعم لا يأتي ذلك في أهل الصفّ الأوّل، فإنّ البعيد منهم عن المأموم الذي هو في جهة الإمام لما لم يتصل من الجهة الأخرى بواحدٍ من المأمومين تبطل جماعته([5]).
الرابع: أن لا يتقدّم المأموم على الإمام في الموقف، بل الأحوط وجوباً أن لا يساويه، وأن لا يتقدّم عليه في مكان سجوده وركوعه وجلوسه، بل الأحوط وجوباً وقوف المأموم خلف الإمام إذا كان متعدّداً هذا في جماعة الرجال، وأمّا في جماعة النساء فالأحوط أن تقف الإمام في وسطهنّ ولا تتقدّمهنّ([6]).
مسألة 797: الشروط المذكورة شروطٌ في الابتداء والاستدامة فإذا حدث الحائل أو البعد أو علوّ الإمام أو تقدّم المأموم في الأثناء بطلت الجماعة، وإذا شكّ في حدوث واحدٍ منها بعد العلم بعدمه بنى على العدم على الأحوط. (و)مع عدم سبق العلم بالعدم لم يجز الدخول إلا مع إحراز العدم، وكذا إذا حدث شكّ بعد الدخول غفلة. وإن شكّ في ذلك بعد الفراغ من الصلاة فإن علم بوقوع ما يبطل الفرادى أعادها، إن كان قد دخل في الجماعة غفلةً وإلا بنى على الصحّة، وإن لم يعلم بوقوع ما يبطل الفرادى بنى على الصحّة والأحوط ـ استحباباً ـ الإعادة في الصورتين([7]).
مسألة 798: لا تقدح حيلولة بعض المأمومين عن بعضهم وإن لم يدخلوا في الصلاة إذا كانوا متهيّئين للصلاة([8]).
مسألة 799: إذا انفرد بعض المأمومين أو انتهت صلاته كما لو كانت صلاته قصراً فقد انفرد من يتصل به، إلا إذا عاد إلى الجماعة بلا فصل([9]).
مسألة 800: لا بأس بالحائل غير المستقر كمرور انسانٍ ونحوه، نعم إذا اتصلت المارّة بطلت الجماعة([10]).
مسألة 801: إذا كان الحائل مما يتحقّق معه المشاهدة حال الركوع لثقب في وسطه مثلاً، أو حال القيام لثقب في أعلاه، أو حال الهوي إلى السجود لثقب في أسفله، فالأقوى عدم انعقاد الجماعة، فلا يجوز الائتمام([11]).
مسألة 802: إذا دخل في الصلاة مع وجود الحائل وكان جاهلاً به؛ لعمى أو نحوه، لم تصحّ الجماعة، فإن التفت قبل أن يعمل ما ينافي صلاة المنفرد ولو سهواً أتمّ منفرداً وصحّت صلاته، وكذلك تصحّ لو كان قد فعل ما لا ينافيها إلا عمداً كترك القراءة.
مسألة 803: الثوب الرقيق الذي يرى الشبح من ورائه حائل لا يجوز الاقتداء معه([12]).
مسألة 804: لو تجدّد البعد في الأثناء بطلت الجماعة وصار منفرداً، فإذا لم يلتفت إلى ذلك وبقي على نية الاقتداء فإن أتى بما ينافي صلاة المنفرد من زيادة ركوع أو سجود مما تضرّ زيادته سهواً وعمداً بطلت صلاته، وإن لم يأت بذلك أو أتى بما لا ينافي إلا في صورة العمد صحّت صلاته كما تقدّم في (مسألة: 802)([13]).
مسألة 805: لا يضرّ الفصل بالصبي المميّز إذا كان مأموماً، فيما إذا احتُمل أنّ صلاته صحيحة عنده([14]).
مسألة 806: إذا كان الإمام في محراب داخل في جدار أو غيره، لا يجوز ائتمام من على يمينه ويساره لوجود الحائل، أمّا الصف الواقف خلفه فتصحّ صلاتهم جميعاً، وكذا الصفوف المتأخّرة، وكذا إذا انتهى المأمومون إلى باب، فإنّه تصحّ صلاة تمام الصفّ الواقف خلف الباب؛ لاتصالهم بمن هو يصلّي في الباب، وإن كان الأحوط استحباباً الاقتصار في الصحّة على من هو بحيال الباب دون من على يمينه ويساره من أهل صفّه([15]).
___________________________
عدم ثبوت شرط عدم الحائل بعنوانه، بل العبرة بشرط صدق الاجتماع
([1]) المستند في مسألة الحائل هو خبرٌ آحاديّ انفرد به زرارة، بل له معارضٌ محتمل، وهو خبر الحسن بن الجهم، بل الذي يحتمل جداً في شرطيّة عدم الحائل أن لا يكون بنفسه عنواناً تعبدياً من شروط انعقاد الجماعة، وإنّما هو تعبيرٌ آخر عمّا يوجب عدم تحقّق عنوان الاجتماع في موضع واحد، فالحائل المانع هو الحائل الذي يصدق معه أنّ من وراء الحائل لا يعبّر عنه بأنّه مجتمعٌ في مكانٍ واحد مع سائر المأمومين في الجماعة، وهذا الاحتمال وإن كان مجرّد احتمالٍ يمثل القدر المتيقّن من دلالة الدليل، لكن بما أنّ المستند هنا آحاديٌّ، فإنّنا نقتصر في الشرطيّة على انعدام عنوان الاجتماع العرفي لا مطلقاً، وعليه فمثل الشجرة أو أساطين المسجد وأعمدته، وكذلك الإنسان الواقف بين الصفوف، وغير ذلك لا يصدق عليه الحائل المانع هنا، وإن كان الأحوط استحباباً اعتباره.
هذا، وبعد تسجيلي هذا التعليق لاحظت تعليقة السيد محمد باقر الصدر على المنهاج حيث قال فيها: «إذا كان الحائل مانعاً عن الصدق العرفي للاجتماع على الصلاة من الإمام والمأموم. وأمّا حيث يكون الصدق العرفي محفوظاً فاعتبار عدم الحائل المانع عن المشاهدة أو المانع عن التخطّي مبنيٌّ على الاحتياط، ولا يبعد جواز ترك هذا الاحتياط. نعم كلّما شكّ في صدق الاجتماع بني على عدم انعقاد الجماعة»، ومثلها ما ذكره في "الفتاوى الواضحة"، مع احتياط. وما ذكره هو الصحيح. والظاهر متابعة السيد محمود الهاشمي والسيد محمد حسين فضل الله له في هذه المسألة.
قد تقول: إذا كان معيار صحّة الصلاة هو أن يكون المصلّون مجتمعين في مكانٍ واحد بنظر العرف، فهل يتحقّق هذا المفهوم ـ أي الاجتماع في مكان واحد ـ في الحالة التي يكون فيها قسم النساء والرجال مفصولاً بستائر عالية أو بحواجز، ولا سيّما في المواضع التي يؤدّي فيها المصلّون صلاة الجماعة في طابقين أو أكثر، أم لا؟ مضافًا إلى ذلك، إنّ «المکان» مفهومٌ مبهم، وصدق الوحدة المکانیّة عرفاً متوقّف على تعيين ما هو المقصود بالمکان، فمثلاً، إذا اعتبرنا المکان غرفةً، فإنّ الأفراد الذین هم خارج الغرفة لا یکونون في مکانٍ واحد مع الذين هم في الداخل، ولکن إذا اعتبرنا المکان هو البیت، فإنّ الأفراد الذین هم خارج الغرفة یُعدّون داخلین في المکان الواحد، وأما الأفراد الذین هم خارج البیت فهم خارجون عن المکان الواحد، وإذا وسّعنا مفهوم المکان لیصل إلى الحيّ أو المدینة، فإنّ أولئك الأفراد یکونون أيضاً مجتمعین في مکانٍ واحد، وبناءً على ذلك، فإنّ "المکان الواحد" سیکون مبهماً بتبع إبهام مفهوم المکان نفسه، ویعتمد على ما ینصرف إلیه المفهوم في نظر العرف الذي نجعل معیار "الوحدة المکانیّة" بیده، فإن کان الانصراف إلى مکانٍ واسعٍ کالبناء، فإنّه یکون صادقاً في نظره، أمّا لو کان الانصراف إلى الغرفة، فإنّ المفهوم یکون أضیق نطاقاً عنده.
والجواب:
أوّلاً: إنّه لولا الدليل الخاص لما صحّت جماعة النساء مع الفاصل من الستار أو الجدار، لكنّ النصوص الخاصة هي التي استثنت. وكأنّها تريد تقديم العفاف العام على مبدأ الاجتماع الواحد.
ثانياً: إنّ المقصود من وحدة الاجتماع ليس وحدة المكان بالمعنى الذي يجعل المكان معياراً، بل بالعكس، بمعنى أنّه إذا صلّوا معاً صلاةً يصدق فيها أنّهم ملتقون، كان معنى ذلك أنّهم في مكان واحد عرفاً، فلو صلّى عشرة في بيت وصلّى عشرة آخرون في بيتٍ آخر منفصل تماماً، فلا يقال: إنّهم اجتمعوا متلاقين في مكان واحد، رغم أنّهم مجتمعون في مدينة واحدة، بينما لو التقى الجميع في مسجدٍ وصلّوا معاً، فهنا يقال بتحقّق عنوان وحدة الاجتماع بينهم حتى لو ابتعد كلّ واحد منهم عن الآخر مترين مثلاً، فليس العرف بالذي يقوم باعتبار المكان، ثم بعد هذا الاعتبار يُسقط عنوان الوحدة على اللقاء، بل العكس هو الصحيح، فالعرف ينظر لطبيعة لقائهم معاً، ثم يستنبط منه أنّهم مجتمعون معاً أو لا.
([2]) قد صار الأمر واضحاً بعدما تقدّم في التعليق السابق، وما ذكره الماتن هنا تطبيقات لعنوان السترة والجدار وأمثالهما مما ورد في النصّ.
عدم ثبوت شرط تعبّدي مستقلّ في علوّ الإمام عن المأموم وبالعكس
([3]) المستند هنا خبرٌ آحادي، هو رواية عمار الساباطي المضطربة في متنها، وكذلك في أشكال نقلها، ونظراً لآحاديّتها ـ ومعها ما لم يلتزموا به من خبر محمد بن عبد الله ـ نأخذ القدر المتيقّن، وهو عبارة عن صدق الاجتماع في مكانٍ واحد، سواء كان الإمام مرتفعاً أو منخفضاً كثيراً أو قليلاً، أو كان الانخفاض والارتفاع بين المأمومين أنفسهم، وسواء كان بشكل دفعي أو تدريجي، بين النساء والرجال، أو بين النساء، أو بين الرجال خاصّة، فما دام يصدق أنّهم مجتمعون في مكان واحد، فلا بأس، وإلا أشكل الأمر، ولعلّه تساعد عليه رواية علي بن جعفر أيضاً حيث عبّر بالمعِيَّة. نعم، لا بدّ من إحراز شرط الاجتماع هذا، كما هو واضح.
عدم ثبوت مسافة محدّدة بعنوانها بين المصلّين في الجماعة
([4]) أخذت هذه المسألة أهميّة مضاعفة في الفترة الأخيرة بفعل انتشار فيروس كورونا، وتعدّدت الآراء بين العلماء وفقهاء المسلمين بمذاهبهم المختلفة، في كيفيّة إقامة صلاة الجماعة مع الحفاظ على التباعد الاجتماعي المطلوب للوقاية من الإصابة بالفيروس.
وعلى أيّة حال، وبصرف النظر عن موضوع الفيروسات، فإنّ الأقرب بالنظر هو أنّ العبرة في صحّة صلاة الجماعة وانعقادها هو صدق الاجتماع خلف إمامٍ على الصلاة عرفاً، وفاقاً لما يُفهم ممّا طرحه السيّد محمّد باقر الصدر في تعليقته على منهاج الصالحين، وتابعه فيه السيد محمود الهاشمي، وهو المنسوب لبعض الفقهاء المتقدّمين أيضاً، بل لعلّه المفهوم من ذهاب العديد من الفقهاء المتأخّرين والمعاصرين للاحتياط الوجوبي ـ وليس الفتوى ـ في ضرورة أن يكون الفاصل بمقدار لا يزيد عن الخطوة وأمثالها.
وعليه، فالمهم هو أن يصدق أنّ هذه المجموعة من الناس مجتمعون في مكانٍ واحد يؤدّون الصلاة معاً، حتى لو كان بين كلّ واحد منهم ما يزيد عن شبر، أو عن مرقد عنز، أو يتجاوز مسافة ما يُتَخَطّى، أو يَتَخَطّى المتر وخُمس المتر، أو حتى بضعة أمتار. أمّا لو لم يصدق أنّهم في مكانٍ واحد ولم يصدق أنّهم مجتمعون فيه على الصلاة عرفاً، بحيث كانت المسافات متباعدة جدّاً، كما لو التحق شخصٌ بالجماعة القائمة في المسجد من بيته، مع أنّ بيته يقع في مدينةٍ أخرى أو حيّ آخر منفصل تماماً (بصرف النظر عن مسألة الحائل)، أو التحق بالجماعة في المسجد الحرام وهو في الطريق الذي يفصله عن المسجد مئات الأمتار مثلاً، أو ما يفعله بعض الناس من الالتحاق بالجماعة عبر التلفاز.. ففي مثل هذه الحالات لا تصحّ الجماعة ولا تصدق، ولا تترتّب عليها أحكامها.
نعم، الراجح في الجماعة هو أن لا يكون بين المصلّين فُرَج أو خلل أو ما يزيد عن الخطوة وأمثالها، بل تكون صفوفهم متراصّة ملتصقة، لكنّ ذلك ليس شرطاً في صحّتها وترتيب الآثار عليها.
وقد يطرح هنا سؤال: ألا تعتبر المسافة الكبيرة حائلاً، ومن ثمّ لا داعي لفرض وجود شرطين أحدهما عدم الحائل والثاني عدم التباعد؟
والجواب: إنّ الحائل مفهومٌ مختلف عن مفهوم المسافة الكبيرة، فلا يقال: بين المجموعتين يوجد حائل، بل يقال بأنّهما متباعدتان.
وقد تقول: إنّ الصدق العرفي للمفاهيم يتغيّر بمرور الزمن، وهذا التغيّر قد يحصل تدريجيّاً أو دفعةً واحدة، وعلى سبيل المثال، نحتمل أنّ مفهوم الاجتماع في مکانٍ واحد لم يكن صادقاً ـ قبل انتشار فيروس كورونا ـ في الحالة التي يقف فيها الأفراد مع تباعدٍ بمقدار مترين، ولكن من الممكن ـ بعد انتشار الفيروس، وبعد أن قامت بعض الجماعات، سواء أكان فعلها صحيحاً أم خاطئاً، بإقامة الصلاة بهذه الكيفية (أي مع فاصل مترين أو ثلاثة أمتار) ـ أن يتغيّر الارتكاز العرفي، بحيث يصبح بإمكان العرف أن يتصوّر صدق الاجتماع في مکانٍ واحد في هذه الحال أيضاً، فهل يُشكِل تحوّل صدق المفاهيم ـ على فرض وقوعه ـ في تحقّق موضوع التکليف؟
ونجيب: ليس فعل الناس في زمن الكورونا هو الذي جعلنا نلتفت إلى هذا، بدليل أنّ بعض الفقهاء اعتقدَ منذ عقود، وبعضهم منذ قرون، بعدم خصوصيّة مسافة المتر أو مربض العنز، وبخاصّة في الفقه السني؛ حيث لديهم الكثير من مثل هذا. كما أنّه لا ضير في فرض تغيّر تطبيق العرف لفكرة الموضوع الواحد؛ فإنّ الإسلام لم يضع محدّدات هندسيّة لصلاة الجماعة، بل ما يهمّه هو اجتماع الناس معاً على الصلاة بحيث يكونون معاً في صلاة واحدة.
وإذا قلت بأنّ مقصودنا هو أنّ العرف صار يقبل بعد كورونا كون الاجتماع يصدق أيضاً على هذا التباعد الضروري.
قلنا: هناك فرق بين صدق الاجتماع في حال الكورونا وغيره وبين القول بأنّ الاجتماع في حال الكورونا هو الفرد الاضطراري للاجتماع لا الاختياري، وما أدّعيه هو أنّ الاجتماع فيهما معاً واحد وصادق، لا أنّه لأجل الكورونا ظهر فردٌ اضطراري للاجتماع.
([5]) ما ذكره الماتن صحيحٌ على مبناه، وعلى مبنانا صار الأمر أوضح، فلا حاجة للإطالة.
حول شرط تقدّم الإمام على المأموم
([6]) ذكر الفقهاء في شروط انعقاد جماعة الرجال في الصلاة أن لا يتقدّم المأموم على الإمام في الموقف، ولكنّهم اختلفوا في تساويهما بمعنى وقوف المأموم إلى جانب الإمام تماماً لا يتقدّم عليه في الموقف ولا يتأخّر عنه (كما ولا يتقدّم عليه في السجود والجلوس أيضاً لو قلنا بأنّ المنع عن تقدّم المأموم لا يختصّ بالموقف، بل يشمل موضع السجود والجلوس)، فلو وقفا الى جانب بعضهما تماماً فهل تصحّ الجماعة أو لا؟ فيه خلاف.
قال جمعٌ من الفقهاء بالجواز، بل نُسب ذلك إلى المشهور. ومن المتأخّرين القائلين بالجواز: السيد اليزدي، والشيخ محمّد جواد مغنيّة، والشيخ محمّد تقي بهجت في بعض رسائله العمليّة، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ يوسف الصانعي، والسيد صادق الشيرازي (لكنّه احتاط وجوباً لو كانت المساواة في الموقف تستلزم تقدّم موضع سجود المأموم على موضع سجود الإمام؛ لطول قامة المأموم مثلاً)، وغيرهم.
واحتاط وجوباً جماعة مثل السيد محسن الحكيم، والسيد الخوئي (رغم تبنّيه في بحوثه الاستدلاليّة شرط تقدّم الإمام، لا شرط عدم تقدّم المأموم فقط)، والسيد علي السيستاني، والشيخ فاضل اللنكراني، والشيخ محمّد علي الأراكي، والسيد محمّد الروحاني، والشيخ محمد أمين زين الدين، والسيد محمد سعيد الحكيم، والسيد محمّد محمّد صادق الصدر، والسيد موسى الشبيري الزنجاني، والشيخ جواد التبريزي، والشيخ حسين علي المنتظري، والشيخ نوري الهمداني، والسيّد محمود الهاشمي، والسيد علي الخامنئي، والشيخ عبد الله جوادي الآملي، والشيخ محمد الصادقي الطهراني، وغيرهم.
وظاهر عبارة بعضهم الإطلاق في الحكم هنا، لكنّ كثيرين أيضاً صرّحوا بالتفريق بين المأموم الواحد والمتعدّد، وقالوا بأنّ المنع عن تساوي الموقفين يكون في المأموم المتعدّد. كما أنّ هذا البحث كلّه في غير جماعة النساء، حيث لها تفصيلٌ آخر.
والأقرب بالنظر هو جواز تساوي المأموم والإمام في الموقف، فضلاً عن تأخّر المأموم، بلا فرق بين ما لو استلزم تقدّمَه عليه في موضع السجود والجلوس أو لا، وإن كان مقتضى الاحتياط الاستحبابي هو عدم التساوي.
والتفصيل في محلّه، فلا نطيل، لكنّ مستند كلام الماتن خبرٌ آحادي منفرد نقله محمّد بن مسلم، تعارضه بعض الروايات ذات الدلالة مع ضعف الإسناد أو مع ضعف الدلالة أيضاً. والقدر المتيقّن هو عدم جواز تقدّم المأموم، مع إمكان تأخّره تماماً أو تأخّره قليلاً عن يمين الإمام أو يساره، أو مساواته للإمام يميناً أو يساراً، بلا فرق بين المأموم الواحد والمتعدّد. هذا في إمامة الرجل، أمّا إمامة المرأة فقد دلّت مجموعة نصوص على أنّها تقف في وسطهنّ ولا تتقدّمهنّ، لكنّ هذه النصوص تعاني من معارضات من طرف بعض فقراتها الأخرى، لهذا فاحتياط الماتن في محلّه، دون الإفتاء.
ما ثبت وما لم يثبت من شروط انعقاد الجماعة
([7]) حيث إنّنا توصّلنا فيما مضى إلى أنّ عمدة هذه الشروط أنّها شروط راجعة لأصل انعقاد الجماعة وصدقها العرفي، لهذا يمكننا التعليق بالآتي:
1 ـ إنّ شرطيّة هذه الشروط ليست حقيقيّة؛ بمعنى أنّ الشرط الحقيقي هو صدق عنوان الاجتماع والإمامة والاقتداء عرفاً، فهذا هو الذي ينبغي أن يكون المدار في جريان الأصول والاستصحابات وغيرها.
2 ـ إنّه من الواضح عدم الفرق في لزوم تحقّق عنوان الاجتماع والإمامة والاقتداء بين الحدوث والبقاء.
3 ـ إنّ الشك في حدوث المانع بعد العلم بعدمه، ينبغي فيه التفصيل، وفقاً لما قلناه آنفاً في فهم حقيقة هذه الشروط ومآلاتها، فإنّ علم بتحقّق عنوان الاجتماع والإمامة والاقتداء، أي حصل العلم بعدم المانع، منذ بداية الجماعة، ثمّ حصل الشك فيه، فهنا لا شك في إمكان إجراء استصحاب الاجتماع والصدق العرفي للجماعة، بلا حاجة لاستصحاب عدم المانع وإن قلنا بإمكانه في هذه الحال، من باب أنّه الوجه الآخر للقضيّة، لكن لو علم بعدم المانع قبل انعقاد الجماعة، ثمّ شكّ في حدوثه لحظة انعقادها، وهو الآن في الصلاة، فهذا الشكّ مرجعه للشكّ في صدق العنوان عرفاً أو لا، والمفترض هو استصحاب عدم الصدق؛ الأمر الذي يُنتج أنّ الجماعة لم تتحقّق تعبّداً في لحظة حدوثها، والنتيجة عدم إمكان ترتيب آثار الجماعة حتى لو تحقّق العنوان بعد الحدوث. وهذا ليس من باب الأصل المثبت، بل من باب أنّ المانع وعدمه ليس هو موضوع الحكم حتى نستصحبه، لهذا قمنا بتغيير شكل الاستصحاب متناسباً مع الموضوع الحقيقي للحكم.
هذا كلّه إذا لم نقل بأنّه يمكن استصحاب عدم المانع، وإثباتُ صدق الاجتماع والعنوان به وإن كان من باب الأصل المثبت، لكن حيث نبني في الأصول على أنّ الأصول المثبتة التي تكون الواسطة فيها غير ملاحظةٍ من قبل العرف، يمكن الأخذ بها عقلائيّاً وعرفاً، فهنا يمكن استصحاب عدم المانع، ونُثبت به تحقّق الصدق العرفي للاجتماع منذ بداية الصلاة.
لكن يرد على كما قلناه أخيراً أنّه لا وضوحَ في كون الواسطة هنا مما يحذفه العرف، من هنا نقوم بتعديل الصيغة وتصحيح الفكرة عبر القول بأنّ عدم المانع معناه قبل الصلاة صدق تحقّق عنوان الاجتماع، فأستصحب هذا الصدق لما بعد الشروع في الصلاة.
4 ـ إنّ صورة الشكّ بعد الفراغ هي كما أفاده الماتن، وفقاً للقدر المتيقّن من قاعدة الفراغ الذي يحمل خصوصيّة الأذكريّة المفقودة مع الغفلة، فلا نطيل، وقد سبق أن أشرنا إليها في بعض البحوث السابقة.
([8]) وقع الكلام في أنّ تكبير المأمومين للدخول في الجماعة، هل يلزم أن يكون بنحو الترتيب: الأوّل ـ وهو الأقرب إلى الإمام ـ ثمّ الثاني فالثالث، بحيث لو كبّر قبله لم يتحقّق منه الدخول في الجماعة، أو أنّه يكفي لتكبير الثاني تهيّؤُ الأوّل للدخول في الجماعة.
اختار السيد الماتن والسيد محسن الحكيم وغيرهما كفاية التهيّؤ، وعدم لزوم تكبير الأوّل لصحّة تكبير من بعده، واستُدلَّ لذلك بسيرة المتشرعة؛ حيث إنّ المصلّين في الجماعات يكتفون بالتهيّؤ، ولا ينتظر الثاني تكبيرَ الأوّل.
لكن قد يناقش بصعوبة إحراز اتصال هذه السيرة تاريخيّاً، فليس بيدنا أيّ معطى تاريخي يمكنه تأكيد أو نفي ذلك، ومعه نحتمل أنّها نشأت من فتاوى الفقهاء.
واستدلّ آخرون بوجهين آخرين ـ أقرب للدقّة والصحّة، ويؤيَّدان باحتماليّة قيام السيرة الآنفة ـ وهو أنّنا نجزم بأنّ بعض الجماعات كانت في العصور الأولى كبيرةً جداً، كما في مسجد الكوفة في عصرهم ـ عليهم السلام ـ وغيره، فلو كانت صحّة تكبير الثاني مشروطة بتكبير الأوّل، لزم عدم إمكان انعقاد مثل هذه الجماعات الكبيرة؛ لأنّ تكبير كلّ متأخر على متقدّم يحتاج إلى فترة زمنيّة ومع كثرة العدد لن يتمكّن المتأخّر الالتحاق بالجماعة قبل انتهاء الإمام من الركوع، كما أنّ المسألة شديدة الابتلاء، فلو كان الترتيب شرطاً لنُبّه عليه في الروايات، ووقع محلاً للسؤال والجواب، في حين لا عين له ولا أثر.
حكم انفراد أحد المأمومين أثناء الجماعة
([9]) ذكر العديد من الفقهاء أنّه لو كانت الجماعة قائمةً وانفرد أحد المأمومين أو انتهت صلاته؛ لأنّه كان يصلّي قصراً مثلاً، ففي هذه الحال يصبح كلُّ من اتصل بالجماعة من خلاله فقط منفرداً أيضاً، ولا يمكنه بعد ذلك ترتيب آثار الجماعة على صلاته؛ لأنّ من شروط الجماعة عدم التباعد، ومفروض المسألة تحقّق التباعد بعد صيرورة هذا المنفرد أجنبيّاً، وإلا فلا إشكال في الصحّة. بل في بعض الصور يتحقّق عنوان الحائل أيضاً، كما لو فرضنا أنّ جميع من في الصفّ الأوّل انفرد، فإنّهم يشكّلون حائلاً ثابتاً بين المأمومين في الصفّ الثاني وبين الإمام، ولهذا تعرّض غير واحدٍ من الفقهاء لهذه المسألة ضمن عنوانين: التباعد والحائل.
لكنّ الفقهاء اختلفوا في أنّ المنفرد لو عاد والتحَقَ بالجماعة بعد فاصلٍ زمني قصير، مثل ما لو أنهى ركعتي القصر، ثمّ قام فوراً والتحق بالركعة الثالثة من صلاة الجماعة، فإنّ الفاصل قصير جداً، وهنا:
أ ـ ذهب بعضهم إلى بطلان الجماعة مطلقاً ولو كان الفاصل قصيراً، ومن هؤلاء: السيد روح الله الخميني، والشيخ فاضل اللنكراني، وغيرهما.
ب ـ فيما ذهب آخرون إلى صحّة الجماعة واستمراريّتها بالنسبة للآخرين الذين اتصلوا بالجماعة عبر هذا المنفرد، ومن الفقهاء القائلين بذلك: السيد محسن الحكيم، والسيد الخوئي، والسيد محمود الهاشمي، والسيد محمّد باقر الصدر، والسيد محمّد الروحاني، والسيد محمّد صادق الروحاني، وغيرهم.
ج ـ ويظهر من بعضٍ نوعٌ من التفصيل أو التشقيق أو الاحتياط، فمثلاً ذكر السيد السيستاني فقال: «إذا انفرد بعض المأمومين أو انتهت صلاته كما لو كانت صلاته قصراً وبقي في مكانه، فقد انفرد من يتصل به، إلا إذا عاد إلى الجماعة بلا فصل، هذا إذا لم يتخلّل البعد المانع عن انعقاد الجماعة بسبب انفراده وإلا كما لو كان متقدّماً في الصفّ فلا يجدي عوده إلى الائتمام في بقاء قدوة الصفّ المتأخّر على الأحوط». وقريب من السيستاني بعض الشيء ما ذهب إليه الشيخ الوحيد الخراساني.
وذهب الشيخ محمّد إسحاق الفياض ـ ونصّ على ذلك غير واحدٍ أيضاً ـ إلى أنّه لو انفرد أحد المأموين وتقدّم المأموم الآخر بحيث اتصل فوراً بالصفّ فلا إشكال.
والأقرب هو أنّه:
1 ـ لو لم يخلّ وجوده منفرداً بصدق الاجتماع عرفاً فلا بأس به وتصحّ الجماعة.
2 ـ أمّا لو كان يخلّ بصدق الاجتماع عرفاً، فهنا:
أ ـ إن كان الفاصل الزمني قصيراً عرفاً، وعاد المنفرد للائتمام، فإنّ الجماعة لا تبطل، بلا فرقٍ في ذلك بين قضيّة الحائل وقضيّة البُعد، فيمكن لسائر المأمومين البقاء على صلاة الجماعة وترتيب آثارها، كما يمكنهم الاقتراب فوراً من الصفّ لو تسنّى لهم ذلك وتحقّق بمدّة زمنية قصيرة عرفاً، وتصحّ صلاتهم كذلك، ولا فرق في ذلك بين الصفّ المتقدّم مع من خلفه، وبين المأموم مع مأموم آخر بجانبه، فالكلّ له حكمٌ واحد.
ب ـ وأمّا إذا كان الفاصل الزمني طويلاً ـ والمفروض أنّ انفراده يخلّ بصدق الاجتماع عرفاً ـ بطلت جماعة من تأثر بانفراد هذا المنفرد.
والمسألة فيها تفصيل استدلالي لا يسعه المقام، لكنّ الناظر في النصوص لا يفهم ـ بنظري المتواضع ـ أنّها تلاحظ حالات الحائل بفاصل زمني قصير أو التباعد اللحظي الذي يكون لمدّة زمنية بسيطة، بل هي تنظر للجماعة التي تقام على أساس الموانع بين الصفوف أو على أساس التباعد الفاحش بينها، فكما أنّ الحائل غير المستقرّ ـ مثل مرور إنسان بين المأمومين ـ لا يوجب البطلان عندهم؛ لانصراف النصوص عنه، وقد أفتوا بذلك، والحقّ معهم في هذه الفتوى، فكذلك الحال هنا، فتأمّل في النصوص وراجع لسانها العرفي.
وليس المستند هنا هو السيرة، كما ذكره بعضٌ؛ إذ إحراز السيرة المتصلة على بقاء صلاة الجماعة مع الفاصل الزمني القصير، في غاية الصعوبة، والتفصيل في محلّه فلا نطيل.
([10]) وفقاً لما ذكرناه في فهم مانعيّة الحائل وأنّها راجعة لشرط صدق عنوان الاجتماع والإمامة والاقتداء عرفاً، فإنّ الحائل غير المستقرّ ـ وكذا المستقرّ ـ لا ضير فيهما ما دام يصدق على مجموع الواقفين في الصلاة أنّهم مجتمعون معاً ويصلّون صلاةً واحدة معاً، وإلا أشكل الأمر. والمرجع في ذلك هو الصدق العرفي دون نظر الفقيه.
([11]) بناءً على ما تقدّم في فهم مسألة الحائل، فإنّ مثل هذه الفروض يُرجع فيها للعرف في صدق عنوان الاجتماع الواحد أو لا، ولا داعي لجعل المرجع فيها هو نظر الفقيه.
([12]) قد أصبح واضحاً ـ وفق ما بنينا عليه ـ أنّ هذه المسألة وكثير أمثالها ليست محطّاً لنظر الفقيه، بل هي من شؤون العرف في تشخيصه للموقف.
([13]) ينبغي فهم هذه المسألة ـ وكذلك (المسألة رقم: 802) ـ وفقاً لما بنينا عليه، فالمسألتان نظريّاً صحيحتان، لكنّ طريقة تطبيقهما ستكون مختلفة، فانتبه.
([14]) أو عندنا.
هذا، بصرف النظر عن أنّ مثل هذا الفاصل ـ أعني مثل صبيٍّ واحد ـ لا يضرّ بصدق الاجتماع عرفاً، ولا موضوعیّة هنا للصبي و غیره، نعم إذا کان الفصل بینه و بین الجماعة بحیث لا یصدق الاجتماع إلا إذا کانت صلاة الصبي صحیحةً، كان للمسألة وجهٌ خاصّ.
([15]) وفقاً لما بنينا عليه في فهم مسألة الحائل، فالعبرة هنا بصدق الاجتماع والإمامة والاقتداء عرفاً، والمرجع هو العرف وليس نظر الفقيه، وبخاصّة مع دوران بحثهم هنا على رواية واحدة منفردة، وقد أصبح الأمر واضحاً فلا نطيل.