hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة الجماعة ـ القسم الأوّل)

تاريخ الاعداد: 4/12/2025 تاريخ النشر: 4/17/2025
460
التحميل

حيدر حبّ الله


هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(10 ـ 4 ـ 2025م)

 

المقصد التاسع

الجماعة

وفيه فصول:

الفصل الأوّل

 

تستحبّ الجماعة في جميع الفرائض غير صلاة الطواف، فإنّ الأحوط لزوماً عدم الاكتفاء فيها بالإتيان بها جماعة مؤتماً. ويتأكّد الاستحباب في اليوميّة، خصوصاً في الأدائيّة، وخصوصاً في الصبح والعشائين. ولها ثوابٌ عظيم، وقد ورد في الحث عليها والذمّ على تركها أخبار كثيرة، ومضامين عالية، لم يرد مثلها في أكثر المستحبّات([1]).

مسألة 772: تجب الجماعة في الجمعة والعيدين مع اجتماع شرائط الوجوب، وهي حينئذ شرطٌ في صحّتها، ولا تجب بالأصل في غير ذلك، نعم قد تجب بالعرض لنذرٍ أو نحوه، أو لضيق الوقت عن إدراك ركعة إلا بالائتمام، أو لعدم تعلّمه القراءة مع قدرته عليها أو لغير ذلك([2]).

مسألة 773: لا تشرع الجماعة لشيءٍ من النوافل الأصليّة، وإن وجبت بالعارض لنذرٍ أو نحوه، حتى صلاة الغدير على الأقوى، إلا في صلاة العيدين مع عدم اجتماع شرائط الوجوب، وصلاة الاستسقاء([3]).

________________________

([1]) هنا أمور:

الأمر الأوّل: مشروعيّة الجماعة وحدودها

لا إشكال في مشروعيّة صلاة الجماعة في الجملة، ولا في استحبابها، لكن وقع الكلام بينهم في أنّه هل يوجد عموم يمكن التمسّك به لإثبات مشروعية الجماعة في مختلف الصلوات زائداً على اليوميّة، إلا ما خرج بدليل، وكذلك التمسّك به لإثبات مشروعيّة الجماعة في الصلوات اليوميّة بملاحظة الحالات المختلفة، وعلى سبيل المثال فليس لدينا رواية مباشرة في مشروعيّة الجماعة فيما لو كان المكلّف ناوياً الانفراد من بداية الصلاة، فهل لدينا عموم أو مرجع أعلى يمكن الاستناد إليه للتصحيح والمشروعيّة؟ فنحن أمام نوع من العموم الأفرادي والأحوالي.

وقد ادّعى بعض الفقهاء أنّه لا يوجد مثل هذه العموم، فتكون صلاة الجماعة على خلاف الأصل فيؤخذ بها في موردها المتيقّن فقط، غير أنّ بعضاً آخر حاول العثور على عموم من هذا النوع، فذكروا أنّنا نستند إلى رواية زرارة وفضيل، قالا: قلنا له ـ أي الإمام الصادق ـ: الصلاة في جماعةٍ فريضة هي؟ فقال: «الصلاة فريضة، وليس الاجتماع بمفروض في الصلوات (الصلاة) كلّها، لكنّه سنّة، من تركها رغبةً عنها وعن جماعة المؤمنين من غير علّة فلا صلاة له»، وقالوا بأنّ هذه الرواية معتبرة من حيث الإسناد، أمّا على مستوى الدلالة، فقد عطفت: «ولكنّه سنّة» على «وليس الاجتماع بمفروض»، فصار معنى الرواية: «الصلاة فريضة والاجتماع سنّة في الصلوات كلّها»، وهو يثبت العموم الذي نريده.

وبهذا يظهر عدم صحّة ما ذكره الشيخ عبد الكريم الحائري من انصراف الرواية إلى خصوص الصلوات اليوميّة دون غيرها، فإنّ تعبير «في الصلوات كلّها» غير مختصّ باليوميّة.

كما أنّ دعوى الشيخ الهمداني، أنّ الرواية ناظرة إلى مسألة الاستحباب والوجوب، وأنّ الجماعة هل هي مستحبّة أو واجبة، وليست ناظرة إلى مشروعيّة الجماعة في كلّ الصلوات أو بعضها، غير صحيحة؛ فإنّ السؤال والجواب وإن كانا ناظرين إلى الوجوب والاستحباب، لكنّ الإمام أضاف ما يفيد العموم هنا بالبيان الذي ذكرناه، فإنّ استحباب الجماعة في مختلف الصلوات يتضمّن مشروعيتها فيها جميعاً.

كما أنّ دعوى السيد البروجردي أنّ الرواية ناظرة لخصوص الصلاة التي ثبت فيها ـ مسبقاً ـ مشروعيّة الجماعة، على أساس أنّ زرارة وفضيل قالا له: الصلاة في جماعةٍ فريضة؟ فصيغة السؤال تدلّ على أنّهما كانا فارغين عن مشروعيّة الجماعة، ويسألان عن وجوبها في الموارد التي هي مشروعة فيها.. هذه الدعوى قابلة للنقاش أيضاً؛ لأنّ تعبير الإمام: ولكنّه سنّة في الصلوات كلّها، يدلّ على استحباب الجماعة ـ فضلاً عن مشروعيّتها ـ في مختلف الصلوات. وبهذا تكون دلالة الرواية كافية في إفادة المطلوب على مستوى العموم الأفرادي، نعم هي غير ناظرة للأحوالي.

وهذا الوجه الذي ذكروه لا بأس به، غير أنّه خبر آحادي منفرد، والأفضل الاستناد ـ معه ـ إلى دليل طبيعة الأشياء، فإنّه لو بُنيت الجماعة على أن تكون خلاف الأصل، لظهرت أسئلة المتشرّعة بوضوح في كلّ مورد يُراد فيه القيام بالجماعة، ولا نجد رواية تفصّل هنا وهناك في مثل هذه القضايا، وحتى موضوع النوافل سوف يأتي التعليق عليه، من هنا نعتقد بأنّ الشريعة لما شرّعت الجماعة في الصلاة دون تبيين تفصيلي، وفي المقابل دون وجود ما يُشعر في ذهن المتشرّعة بأنّ ثمة حاجة للسؤال في كلّ صلاة، عنى ذلك تعاضد هذا الاستنتاج مع خبر زرارة والفضيل لإثبات المطلوب، لكن لو قامت قرينة ـ ولو لم تكن حاسمة ـ تشكّك في شرعيّة الجماعة في مورد أو حال معيّن، فإنّ هذا الدليل لن ينهض في مثل هذه الحال.

وبعبارة أخرى: كلّ مورد يتوقّع فيه إتيان الناس بالجماعة فيه، فيكون في معرض الوقوع، فإنّ سكوت النصوص عنه وغياب الأسئلة حوله كاشف عن المشروعيّة ما لم تقم قرينة خاصّة مورديّة، وهذا يعني أنّ الأمور الابتلائية بالفعل أو تلك القابلة للوقوع بالإمكان الوقوعي التاريخي، تكون مشمولة لأصل المشروعيّة الثانوي مقابل أصل عدم المشروعيّة الأوّلي، وأمّا ما لم يكن ابتلائيّاً بالمرّة، ولم يكن في معرض الوقوع، بل لا يحتمل في العادة وقوعه، ولو وقع فهو في غاية الندرة، فإنّ سكوت النصوص عنه لا يكشف عن أصل المشروعيّة الثانوي، فنبقى فيه مع أصل عدم المشروعيّة الأوّلي.

 

الأمر الثاني: عدم مشروعيّة الجماعة في صلاة الطواف

ذهب بعض الفقهاء، ومنهم السيد الماتن في بحوثه الاستدلاليّة، إلى أنّه لا تشرع الجماعة في صلاة الطواف، لا لأنّ عموم صحيحة زرارة وفضيل قاصرٌ عن الشمول لها، وإنّما لوجود مقيّد متصل، وهو أنّ النبيّ‘ لم يعهد منه الإتيان بصلاة الطواف جماعة، فلو كانت الجماعة مشروعة ومستحبّة فيها، لأتى بها جماعة؛ إذ هو لا يتخلّف عن فعل المستحبّات. وحجّة الوداع التي نقل لنا التاريخ جزئيّاتها لم ينقل فيها أنّه‘ أتى بصلاة الطواف فيها جماعة، فهذا ما يصلح أن يكون بمثابة المخصّص المتصل لعموم الصحيحة.

لكن يمكننا مناقشته بأنّ عدم فعل النبيّ ـ أو غيره ـ ذلك ربما كان على أساس أنّ الجماعة هنا تُزاحِم الطائفين، إذ هم لا يفرغون من طوافهم معاً، حتى يتسنّى اجتماعهم خلف النبيّ، وما لم نجزم بكون السبب هو عدم المشروعيّة، فلا يمكننا فرض السيرة النبوية مقيّداً متصلاً. هذا مضافاً لعدم ثبوت عدم تخلّف النبيّ عن فعل المستحبات بوصف ذلك من شروط العصمة أو ما فوقها؛ خلافاً لمبنى السيد الماتن الذي أشار له مراراً في بحوثه، علماً أنّ عدم فعل النبي ذلك مرّة أو مرّتين ربما كان لظرفٍ طارئ، ولو لم نعرفه، فكيف نُحرز ما هو أكثر من ذلك؟!

وربما يقال بأنّ صحيحة زرارة والفضيل لا تشمل الصلوات التي لا ضابط زمنيّاً محدّداً لها؛ لأنّها تشير إلى التنديد بالمتخلّفين عن الجماعة، وصلاة الطواف ليس لها وقت زمنيّ معيّن يجتمع له الناس. لكننا قلنا بأنّ الدليل لا يقف عند حدود هذه الرواية.

من هنا، قد يقال بمشروعيّة الجماعة في صلاة الطواف، غاية الأمر أنّهم لم يقوموا بذلك لعدم التمكّن منه عادةً في المواسم الكبرى، مع إمكان قيامهم به واحتماليّته ولو في غير المواسم الكبرى، فيكون مشمولاً لأصل المشروعيّة الثانوي، وإن كان الاحتياط لا ينبغي تركه هنا.

 

وقفة مع عدم ارتكاب المعصوم للمكروه وعدم تركه للمستحبّ

وبهذه المناسبة لا بأس بإطلالة سريعة على موضوع شمول العصمة لباب المستحبّات والمكروهات، أو بتعبير آخر: عدم ترك النبيّ وأهل بيته المستحبّ وعدم فعلهم المكروه، فإنّ هذا البحث له جانبٌ كلامي وآخر أصولي:

أمّا الجانب الكلامي، فللبحث فيه شكلان:

الشكل الأوّل: أن يكون هذا الموضوع بحثاً في حدود العصمة، بمعنى أنّ أدلّة العصمة العقليّة والنقليّة هل تشمل موارد المستحبّ والمكروه أو لا؟

الشكل الثاني: أن نعتبر أنّ هذا البحث لا علاقة له أساساً بالعصمة، فإنّ جميع أدلّة العصمة لا يمكنها إثبات هذا الأمر، بل هي مقتصرة على بحث الخطأ والذنب والسهو والنسيان في الموضوعات والأحكام، وهذا خارجٌ عن مجالها، لكن مع ذلك يعتبر هذا البحث بحثاً مضافاً، فهل يلزم ـ مضافاً إلى عصمتهم ـ أن لا يتركوا مستحبّاً ولا يفعلوا مكروهاً أو لا؟

وعلى أيّة حال، يمكن أن يكون البحث في أنّه هل يشمل جميع الأنبياء والأوصياء أو أنّه مختصّ بالنبيّ محمّد والأئمّة الطاهرين وفق المعتقد الإمامي؟ والسبب في قولنا ذلك هو تحديد شبكة العلاقة بين موضوع بحثنا ومسألة "ترك الأولى" المعروفة في مباحث العصمة في علم الكلام، فإنّ علماء الإماميّة اشتهر بينهم تخريج الكثير مما ظاهره مخالفة نظريّة العصمة في نصوص الكتاب والسنّة على قاعدة "ترك الأولى" وأنّه ليس معصية، ومن ثم فلم يتم خرق نظريّة العصمة، ويأتي السؤال هنا في أنّ ترك المستحبّ أليس تركاً للأولى؟ الأمر الذي قد يفتح الطريق على حصر "ترك الأولى" بالأنبياء السابقين، فيما موضوعنا هنا خاصّ بالنبي محمّد وأهل بيته، كما سنرى أنّه توحيه عبارة الشيخ لطف الله الصافي.

وأمّا الجانب الأصولي، فله علاقة بدلالات فعل النبي وأهل بيته، أي بمديات توظيف السنّة العمليّة في مجال الاستدلال الفقهي، على وفق اتجاهات ثلاثة محتملة:

أ ـ فإذا قلنا بأنّهم لا يتركون المستحبّ، عنى ذلك ـ أوّليّاً ـ أنّنا لو وجدناهم تركوا شيئاً، فهذا يعني أنّه ليس بمستحبّ، وإذا فعلوا شيئاً فهذا يعني أنّه ليس بمكروه.

ب ـ وإذا قلنا بأنّهم يتركون المستحبّ ويفعلون المكروه، لكنّهم لا يواظبون على ترك المستحبّ وفعل المكروه، لم يعد يمكن الاستناد لتركهم فعلاً ما بهدف إثبات أنّه ليس بمستحبّ، إلا إذا واظبوا على تركه.

ج ـ وأمّا إذا قلنا بأنّه لا مانع من تركهم المستحبّ، بل ومواظبتهم على تركه، سقط مجال الاستدلال بأفعالهم في باب المستحبّات والمكروهات إلا بقرينة حافّة لها دلالة، كما لو أدّوا صلاةً معيّنة، والمفروض أنّها عبادة، فإنّ هذا مثبتٌ لاستحبابها ولو بعنوان عام، وهكذا.

ويلزم توضيح أمرين هنا أيضاً؛ للمزيد من جلاء البحث، وهما:

1 ـ إنّ المتكلّمين ـ ومعهم الأصوليّون ـ يفترض أن لا يمانعوا من أن يترك النبيّ والإمام مستحبّاً لعنوانٍ ثانوي، كما في حالات التزاحم الامتثالي، لكنّهم على أيّة حال يعتبرون أنّ ما قام به الإمام في حالات التزاحم هذه هو الأولى بأن يُفعل، فهو لم يخرج عن قانون عدم تركه لما هو أولى بالفعل وعدم فعله لما هو أولى بالترك، غاية الأمر أنّ تطبيق الأولويات غيّر الموقف وفرض نفسه بطريقة أخرجنا عن مقتضى ما هو الأولى بالعنوان الأوّلي لولا المزاحمات.

2 ـ إنّ الأصوليّين يبحثون هنا عن مقتضى القاعدة، وإلا فلو كانت هناك قرينة لصالح الاحتمال المعاكس للقاعدة التي يؤمنون بها، فإنّهم يعملون على وفق القرينة، وهذا واضح.

يقول الشيخ لطف الله الصافي الكلبايكاني: «وأمّا العصمة عن الخطأ والنسيان والسهو في الأمور العادية وترك الأولى لغير نبيّنا والأئمّة عليهم السلام من الأنبياء الماضين فغير ثابتة، بل ربما يستظهر من بعض الآيات والأحاديث صدور هذه الأمور من بعضهم، وهذا وإن كان قابلاً للتأويل، إلا أنّه ليس في البحث عنه كثير فائدة؛ لأنّ مثل ذلك غير مضرّ بشؤون رسالاتهم ومقاماتهم العليّة الثابتة، وليس من الأمور الاعتقاديّة التي تجب معرفتها، فيكفينا الاعتقاد في ذلك ـ إن قيل بوجوب الاعتقاد فيه ـ بما هو الواقع. نعم لما قلنا: إنّ العصمة هي أعلى مراتب حضور العبد عند مولاه ونورانيّة نفسانية ملكوتيّة تذهب بكلّ الظلام، وتشرق كلّ وجود صاحبها، فلا شك أنّ لهذه النورانية مراتب ودرجات أعلاها ما حصل للنبيّ والأئمّة عليهم السلام، وأدناها ما يصون الشخص عن المعاصي عمداً وسهواً، وعن الاشتباه والسهو والنسيان في أمر الرسالة وشؤونها، فعلى هذا يمكن أن يوجد في عظماء الأنبياء نورانية وعناية ربانيّة دائمة تصرفهم عن ترك الأولى وتدفع عن قلبهم غطاء السهو وحجاب النسيان. وأمّا بالنسبة إلى نبيّنا‘ وأوصيائه وخلفائه الاثني عشر عليهم السلام، فحيث إنّهم في أعلى مراتب القوّة القدسيّة والنورانية الربانيّة، ولا تفوق رتبتهم في الحضور عند المولى والجلوس على بساط قربه وأنسه رتبة، فعدم صدور ترك الأولى عنهم كعدم صدور المعاصي في نهاية الوضوح، يظهر ذلك لكلّ من درس تاريخ حياتهم النورانية وأخلاقهم الإلهيّة، وأدعيتهم ومناجاتهم، وخشيتهم من الله تعالى وإنابتهم إليه وانقطاعهم عن الخلق، فهم أكمل المظاهر لإخلاص العبد وترك الاشتغال بغير الله تعالى، لا يصدرون إلا عن أمره كلّ فعالهم محمودة مرضية وكلّ حالاتهم حميدة شريفة، لا تؤثر في وجودهم الدواعي إلا داعي الله وعن الاشتغال بغيره وامتثال أوامره ونواهيه، قد خرقت أبصار قلوبهم حجب النور فوصلت إلى معدن العظمة، وصارت أرواحهم معلّقة بعزّ قدسه، جباههم ساجدة لعظمته وعيونهم ساهرة في خدمته، ودموعهم سائلة من خشيته وقلوبهم متعلّقة بمحبّته وأفئدتهم منخلعة من مهابته، انقطعت همّتهم إليه، وانصرفت رغبتهم نحوه، لقاؤه قرّة أعينهم وقربه غاية سؤلهم، إذاً فكيف يصدر ترك الأولى ممن بعض شؤونه وحالاته ما سمعت. رزقنا الله تعالى محبتهم وولايتهم وشفاعتهم وحشرنا في زمرتهم. ولا يخفى عليك أنّ ترك الأولى ليس معناه ترك المستحبّ أو فعل المكروه فحسب، بل ربما يكون بترك المستحب أو فعل المكروه، وربما يكون بفعل المستحب وترك المكروه، والنبيّ والإمام أعلم بموارد ترك الأولى، فلا يجوز نسبة ترك الأولى إلى النبيّ والولي، بل إلى غيرهما من الفقهاء العارفين بأحكام الله تعالى وموارد تزاحم المستحبّات والمكروهات بعضها مع بعض، بمجرّد ترك المستحبّ أو فعل المكروه، بل يمكن الاستدلال بفعلها على عدم كون هذا الفعل أو الترك مستحبّاً أو مكروهاً بقولٍ مطلق، وإلا فلم يصدر منها» (رسالتان حول العصمة: 112 ـ 114).

وقال السيد محمّد حسين فضل الله: «.. ولا نجوّز بحقّهم ـ عليهم السلام ـ ارتكاب الكراهة أو القبول بها» (كتاب اليمين والعهد والنذر: 52).

وعلى أيّة حال، فلنا هنا تعليقات مختصرة على مجمل الموضوع:

التعليق الأوّل: إنّ أدلّة العصمة العقليّة والنقليّة ـ مهما كانت مساحة دلالتها ـ من الصعب أن تمنع ترك الأولى أو المستحبّ أو فعل المكروه على المعصوم، إذ ليس في هذه الأمور معصية أو خطأ أو سهو أو نسيان أو جهل، وهذه هي العناوين التي عليها مدار عمدة أدلّة العصمة عندهم، عدا بحث الأسوة الذي سوف نشير له قريباً بإذن الله. ويشهد لما نقول أنّ جمهور المتكلّمين الموافقين على نظريّة العصمة ـ حتى بعرضها العريض ـ لم يمانعوا من تنزيل فكرة ترك الأولى على الأنبياء، وذلك في سياق الدفاع عن العصمة، فلو أنّ أدلة العصمة أو مفهومها مشتملَين على المنع من ترك الأولى لكان ما قاموا به مفارقة وتناقضاً ذاتياً، بل هذا يكشف عن أنّ فكرة العصمة لا تنافي بينها في حدّ نفسها وبين ترك الأولى الشامل لموضوع بحثنا.

التعليق الثاني: إنّه لا يوجد بين أيدينا دليل على امتناع ترك الأولى على الأنبياء والأوصياء السابقين فضلاً عن غيرهم ـ غير النبيّ وأهل بيته ـ فليس في اليد دليلٌ شاهد على ذلك، وليس في ترك المستحب ـ دون استهانة أو استخفاف به ـ ما هو خلاف الإخلاص والخلوص والطهارة وأمثال هذه العناوين.

وقد لفت نظري تعبير الشيخ لطف الله الصافي المتقدّم: «وأمّا العصمة عن الخطأ والنسيان والسهو في الأمور العادية وترك الأولى لغير نبيّنا والأئمّة عليهم السلام من الأنبياء الماضين فغير ثابتة»، وهذا يعني أنّه لم يثبت عنده عصمة أحد من الأنبياء وأوصيائهم ـ غير النبي محمّد وأوصيائه الطاهرين ـ في غير مجال التبليغ والمعصية.

التعليق الثالث: إنّ فكرة أنّ النبي وأهل بيته مختصّون بامتناع ترك الأولى في حقّهم، لم نجد عليها دليلاً مقنعاً، وحاصل ما عثرنا عليه عندهم هو بعض الأدلّة:

الدليل الأوّل: ما ذكره السيد علي رضا الحائري رحمه الله في بعض بحوثه، من أنّ الروايات دلّت على أنهم ـ عليهم السلام ـ أفضل من جميع الأنبياء السابقين، وأنّ مقتضى الأفضليّة هو ذلك؛ لأنّ من وجوه الأفضلية عدم صدور ما كان قد يصدر من الأنبياء السابقين أو من بعضهم من ترك الأولى.

ويناقَش بأنّ الأفضلية قابلة للتصوّر من نواحٍ كثيرة، ولم يقل الدليل بأنّهم أفضل منهم في جميع الأشياء مطلقاً، فكيف عرفنا أنّ الأفضليّة متعيّنة أو منطبقة على موضوع ترك الأولى والمستحبّ؟! علماً أنّه قد يكون الأنبياء السابقون ممن كانوا يتركون الأولى كثيراً، فكانت أفضليّة النبيّ وأهل بيته أنّهم يتركون الأولى قليلاً، فالأفضليّة محفوظة هنا، بلا حاجة لفرض أنّهم لا يتركون المستحبّات أصلاً.

الدليل الثاني: ما تقدّم من كلمات الشيخ لطف الله الصافي، ومثله موجود في بعض كلمات السيد علي الميلاني، فلا نعيد ولا نكرّر.

ويُجاب بأنّنا لم نجد في كلامهما إلا مجموعة من الكلام الذي يتضمّن بنفسه سلسلة ادّعاءات تحتاج إلى إثبات، وقد يحتوي على بعض الجوانب العاطفيّة، وهو لا يحتوي على ترتيبٍ استدلالي منطقي، بل يغلب عليه سلسلة من المدّعيات والملازمات غير المتلازمة، علماً أنّه ما الذي يمنع أنّهم لم يلتفتوا في بعض الموارد، فصدر منهم فعل المكروه من غير التفات.

بل ألا تنطبق هذه الأوصاف التي ذكرها الشيخ الصافي على نبيّ الله وخليله إبراهيم وهو الذي وصفه القرآن الكريم بأعظم الأوصاف؟! فكيف عرفنا أنّه يجوز ترك الأولى على إبراهيم دون الإمام العسكري أو دون النبيّ محمّد؟!

الدليل الثالث: ما يظهر من السيد علي الميلاني، من أنّ مقتضى جعلهم من قبل الله تعالى قدوةً وأسوة للأمّة هو عدم تركهم للأولى، كما أنّهم حجج الله سبحانه وتعالى على العباد، ومن كان حجةً لله على العباد وقدوةً لهم في الأفعال والتروك، كيف يعقل أن يترك الأولى والأرجح والأفضل، ويرتكب المرجوح وغير الأولى؟!

والجواب: إنّ مقتضى الأسوة والقدوة والحجّة هو أن يقتدي به الناس، فإذا اقتدى به الناس في فعل الواجبات وترك المحرّمات وفعل الكثير من المستحبّات وترك الكثير من المكروهات تحقّق مفهوم القدوة، ولم أفهم لماذا لا يعقل أنّ القدوة يترك الأمر المستحبّ ما دام مستحبّاً وغير واجب، ولو أحياناً، ويفعله أحياناً أخرى؟! ولو كان المقصود هو أنّه يكون مضلّلاً للناس فيما هو المستحبّ والمكروه؛ فإنّ المفروض أنّنا ما نزال في مقام إقامة الدليل على دعوى أنّه لا يترك المستحبّ، حتى يفهم الناس من تركه شيئاً أنّه غير مستحبّ، فإنّ هذه الطريقة في الاستدلال جعلت النتيجة دليلاً(مصادرة على المطلوب)، مع أنّ الأمر معكوس، فعلينا أوّلاً أن نُثبت أنّه لا يترك المستحب حتى يكون تركه للمستحبّ مضلّلاً للناس من حيث إنّهم سيعتقدون بأنّ هذا الفعل غير مستحبّ بسبب كون الإمام قد تركه، أمّا لو لم يكن لدينا بعدُ أيّ دليل على كون الإمام لا يترك المستحبّ، فإنّ تركه له لن يفضي إلى تصوّرنا أنّ هذا الفعل غير مستحبّ، ومن ثمّ فلا تضليل ولا تشوّش في التبليغ.

هذا كلّه، مضافاً لما بحثناه مفصّلاً في كتاب حجيّة السنّة حول الاستناد لدليل الأسوة والقدوة في إثبات حجيّة السنّة مطلقاً، فراجع.

إلى غير ذلك من الأدلّة التي قد يطرحها بعضهم مثل أنّهم مسدّدون ومؤيدّون وأنّ معهم روح القدس والإيمان وغيرهما من الأرواح، فلا نطيل.

والمتحصّل أنّه لا يوجد لدينا دليلٌ يمنع ترك الأنبياء والأوصياء جميعاً ـ بمن فيهم شخص النبيّ محمّد وآله، فضلاً عن أصحابه ـ تركهم الأولى والمستحبّات وفعلهم المرجوح والمكروهات، إلا إذا كان تركهم استخفافاً أو تهاوناً واستقلالاً فهذا أمرٌ آخر. نعم لمّا كنّا نعلم مستوى علمهم وأخلاقهم وعبوديّتهم لله تعالى فإنّ احتمال تركهم للمستحبّ يكون أضعف من غيرهم، وبخاصّة بعض المستحبّات الأكيدة جداً، وعليه فنحن نُبقي دلالة جملة من الروايات ـ التي وقعت عندهم محلاً للإشكال ـ نبقيها على حالها وظاهرها، من أنّهم تركوا الأولى، وينتج عن ذلك أنّه ـ حيث لا قرينة حافّة نفياً ولا إثباتاً ـ فإنّ ترك المعصوم لفعلٍ أو إتيانه بآخر، لا سيما في غير مورد المواظبة الشديدة على الترك والفعل، لا يدلّ على كراهة الفعل ولا على استحبابه، فما أفاده السيد الماتن غير دقيق هنا كبرويّاً وصغرويّاً.

 

الأمر الثالث: هل صلاة الجماعة واجبة أو مستحبّة؟

المشهور المعروف بين فقهاء الإسلام أنّ صلاة الجماعة من المستحبّات المؤكّدة التي ورد فيها ثوابٌ عظيم وحثٌّ كبير، لكنّ العديد من فقهاء الحنابلة قالوا بوجوبها إلا في بعض الموارد الاستثنائيّة، فيما قال العديد من فقهاء الشافعيّة بوجوبها الكفائي. أمّا على المستوى الإمامي فالمعروف استحبابها، غير أنّ بعض الفقهاء قالوا بالوجوب من أمثال الشيخ محمّد الصادقي الطهراني، وذهب بعض آخر ـ مثل المحقّق اليزدي والشيخ المنتظري والشيخ ناصر مكارم الشيرازي والسيد موسى الشبيري الزنجاني ـ إلى القول بأنّه لو كان تركها من نوع التهاون والاستخفاف بها فهو حرام.

وجملة نصوص صلاة الجماعة تفيد الترغيب العظيم، لكن وردت بعض النصوص التي قد يُفهم منها الوجوب، ويمكنني فرزها إلى مجموعتين أساسيّتين، حسب طبيعة التعبير والمضمون:

المجموعة الأولى: ما دلّ على تشدّد النبيّ في حضور المسلمين للجماعة، وأنّه سوف يحرق بيوت من لا يأتي إلى المسجد للصلاة. وهذه المجموعة في بعضها الحديث عن جيران المسجد، وفي بعضها الآخر يوجد كلام مطلق غير خاصّ بجيران المسجد.

المجموعة الثانية: ما ورد بلسان نفي الصلاة لمن لم يصلّ جماعة أي أنّه لا صلاة له.

هاتان المجموعتان قد يفهم منهما ـ وقد وردتا بطرق السنّة والشيعة ـ أنّ صلاة الجماعة واجبة، لكن علينا هنا التأمّل في بعض الأمور:

أوّلاً: إنّ النصوص التي ورد فيها نفي الصلاة لمن يترك الجماعة، ذات لونين: ففي بعضها تعبيرٌ عام، وفي بعضها الآخر ـ مثل خبر زرارة بن أعين ـ جاء فيه: «من ترك الجماعة رغبةً عنها وعن جماعة المسلمين من غير علّة فلا صلاة له»، مما يفهم منه أنّ المسألة لا تقتصر على مجرّد ترك الجماعة، بل على نوع من الزهد فيها والاستخفاف بأمر حضور الجماعات.

ثانياً: إنّ نصوص الإلزام في المجموعة الأولى هنا تثير الاهتمام، من حيث إنّها تتركّز على النص النبويّ. إنّها تدور حول أنّ بعض المسلمين لم يحضروا المسجد وجماعته، وأنّ النبي هدّد بحرق بيوتهم، فماذا يعني ذلك؟ وكيف يمكننا فهم هذا الأمر؟

يوجد احتمالان هنا:

الاحتمال الأوّل: وجوب صلاة الجماعة، أو وجوب صلاة الجماعة في المسجد، وذلك بنحو مطلق.

الاحتمال الثاني: إنّ ملابسات هذا الأمر هو التمييز بين المنافقين وغيرهم، بمعنى أنّ بعض أهل المدينة كان يعلن إسلامه لكنّه لم يكن يحضر جماعة المسلمين، وهذا يعطي دلالة على كونه منافقاً أو على إرادته الخروج عن الاجتماع السياسي الإسلامي، لهذا هدّد النبي بإحراق البيوت ـ رغم أنّه لم يقع شيءٌ من هذا الأمر في التاريخ، أو لم ينقل لنا أنّ النبي أحرق بيت فلان لأجل الجماعة ـ ويؤيّد ما ندّعيه أنّ هؤلاء كانو على ما يفهم من النصوص مواظبين على ترك حضور الجماعة في المسجد، لا أنّهم كانوا يتركونها يوماً ويأتون يوماً آخر: «كانوا يصلّون في منازلهم ولا يصلّون جماعة»، «لينتهينّ أقوام لا يشهدون الصلاة.. لأنّهم لا يأتون الصلاة». وفي حديث ابن مسعود في مصادر أهل السنّة: «وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النفاق».

يعني ذلك أنّ الظاهرة التي واجهها النبيّ هي ظاهرة ترك الجماعات وعدم الاهتمام بها، لا ظاهرة التخلّف عن الجماعة في يومٍ هنا أو آخر هناك، وهذا يعطي أنّ صلاة الجماعة ليست واجبة، بل الواجب هو أن لا يكون الإنسان هاجراً لصلوات الجماعة التي يقيمُها المسلمون، أو لا يكون متصفاً بالهجران، فإنّ هذا هو المنهيّ عنه، ولعلّ هذا ما قصده الشافعيّة من الوجوب الكفائي، فنحن لا نقول بالوجوب الكفائي بل نقول بحرمة الاستخفاف بالجماعات، بحيث يعيش الإنسان دهراً لا يلتحق بجماعة المسلمين ولا يبالي، فما ذهب إليه المحقّق اليزدي وتبعه غيرُ واحدٍ ليس ببعيد، وهو الموافق للاحتياط أيضاً.

ولا نقصد هنا ـ كما ألمحنا ـ مطلق الصلاة جماعة، بل الجماعات التي تقام في مساجد وتجمّعات المسلمين، فإنّ هذا هو المنظور في النصوص، وإلا فلا يكفي لرفع التكليف هنا أن يصلّي كلّ واحد في بيته جماعة بأهله وعياله مثلاً، فانتبه.

 

الأمر الرابع: موارد تأكّد استحباب صلاة الجماعة

ذكر السيد الماتن موارد لتأكّد استحباب صلاة الجماعة، وهي:

المورد الأوّل: الصلوات اليومية، ولا سيما الأدائية، والمستند فيه أنّ القدر المتيقّن من أدلّة استحباب الجماعة هو الصلوات اليوميّة الأدائيّة.

لكن يناقش بأنّه لا علاقة بين القدر المتيقّن وبين تأكّد الاستحباب، فذاك أمرٌ معرفي وهذا أمرٌ واقعي.

المورد الثاني: صلاة الصبح والعشائين، والوجه في ذلك بعض النصوص مثل خبر عبد الله بن سنان وخبر أبي بصير، اللذين نقلهما صاحب الوسائل في الباب الثالث من أبواب الجماعة، فراجع.

لكنّ رواية عبد الله بن سنان ليس فيها حديث عن خصوص العشائين، فيما رواية أبي بصير تتكلّم عن الصلاة جماعة في المسجد لا مطلقاً. نعم ورد في كتب أهل السنّة التركيز على صلاة الصبح والعشاءين أيضاً.

 

موارد وجوب صلاة الجماعة

([2]) ذكر السيد الماتن هنا بعض الموارد لوجوب الجماعة، وقد زاد عليها اليزدي في العروة موارد عديدة، وما يمكن ذكره هنا هو:

المورد الأوّل: صلاة الجمعة والعيدين، ولا داعي للحديث عنه هنا؛ فإنّنا بحثنا ذلك في صلاة الجمعة، وسيأتي بحث صلاة العيدين إن شاء الله.

المورد الثاني: النذر ونحوه، وهذا واضح فإنّه لو نذر أداء صلاته جماعة، صارت الجماعة واجبةً لكن لا بعنوانها، بل بعنوان وجوب الوفاء بالنذر ونحوه.

المورد الثالث: ضيق الوقت، فإذا ضاق الوقت وتوقّف إدراك ركعة واحدة من الصلاة داخل الوقت على أدائها جماعة، وجبت، وهذا واضح، لكنّ تقييد الماتن بالركعة الواحدة لا ضرورة فيه، بل الأفضل أن يعبّر: أو ضيق الوقت عن إدراك الصلاة إلا بالائتمام.

المورد الرابع: إذا لم يتعلّم المكلّف القراءة الصحيحة وكان بإمكانه التعلّم، وجبت عليه الجماعة، إمّا بنحو الوجوب التخييري لو كان هناك وقت للتعلّم أو بنحو الوجوب التعييني لو ضاق الوقت عنه، والسبب في تقييد الماتن بحالة إمكان التعلّم لا مطلقاً، هو ورود بعض النصوص ـ كخبر عبد الله بن سنان ـ فيمن لا يمكنه التعلّم أنّه يجزيه ما أتى به، ففي هذه الحال لم يعد تجب عليه الجماعة.

([3]) هنا جهات من البحث:

 

الجهة الأولى: في الموقف من شرعيّة الجماعة في النوافل على مستوى القاعدة

اختلفت المذاهب الفقهيّة الإسلاميّة في موضوع صلاة الجماعة في النوافل، وهي الصلوات المندوبة التطوّعيّة غير الواجبة، فذهب مشهور فقهاء أهل السنّة إلى مشروعيّتها، بمعنى أنّه لو أتي بها جماعة صحّت ولا بأس، غير أنّ بعضهم اعتبرها غير مسنونة في بعض النوافل، وبعضهم اعتبر أنّه ينبغي أن لا تتحوّل بعضُ النوافل ـ على الأقلّ ـ إلى صلاة جماعة بشكلٍ دائم بحيث يُعتاد عليها، أمّا مع عدم الاعتياد فلا بأس بالصلاة جماعة فيها.

أمّا الفقه الإمامي، فالمشهور عنده عدم مشروعيّة الجماعة في النافلة مطلقاً، عدا بعض الاستثناءات مثل صلاة الاستسقاء وصلاة العيدين حال استحبابها. وعمّم بعضهم الحكم لصلاة الغدير أيضاً، وأمّا في غير هذه الاستثناءات فلا تشرع الجماعة، بمعنى أنّها لا تصحّ، ولا تترتّب عليها آثارُها، كما أنّ الإتيان بها تشريعاً محرّم.

لكن خالف في ذلك السيد العاملي صاحب المدارك (1009هـ)، فرأى صحّة الجماعة في النوافل عدا نوافل شهر رمضان المبارك، وتوقّف في المسألة المحقّق السبزواري صاحب الذخيرة (1090هـ)، بل احتَمَلَ أن تفيد بعض كلمات المحقّق الحلّي وجود قول بين الإماميّة بمشروعيّة الجماعة في النوافل مطلقاً. كما أنّ الشيخ محمّد إسحاق الفياض بنى عدم مشروعيّة الجماعة في النافلة على الاحتياط الوجوبي، كما أنّ السيد علي السيستاني اعتبر إطلاقيّة الحكم بعدم المشروعيّة في مختلف النوافل مبنيّةً على الاحتياط الوجوبي، وكأنّ لديه تمييزاً ما بين النوافل هنا.

والأقرب هو مشروعيّة الجماعة في النوافل مطلقاً، إلا مع طروّ عنوان ثانوي مثل عنوان محاربة البدعة، أو كونها من النوافل الليليّة في شهر رمضان المبارك، فإنّ تركها (ترك الجماعة في نوافل رمضان الليليّة) مقتضى الاحتياط. هذا على مستوى المشروعيّة، أمّا على مستوى الاستحباب فلا يظهر دليلٌ على استحباب الجماعة في النوافل عدا ما استُثني.

وقد استند الفقه السنّي للعديد من الروايات الواردة في الصحيحَين وغيرهما، والتي تدلّ ـ ولو بعضها على الأقلّ ـ على مشروعيّة الجماعة في النافلة، أمّا الفقه الشيعي فقد وقع بعض الاختلاف في الروايات المعتمدة لديه هنا، حيث يوحي بعضُها باختصاص نفي المشروعيّة بخصوص نوافل شهر رمضان المبارك دون غيرها، وأنّ الجماعة في سائر النوافل مشروعة.

والذي يراجع النصوص الحديثيّة يجد أنّ أغلبيّتها الساحقة واردة في النوافل الليليّة لشهر رمضان خاصّة، تنصّ على ذلك، عدا عدد قليل جداً من الروايات الآحاديّة الضعيفة التي تحمل طابع التعميم مثل مرسلة العلامة الحلّي، كما أنّه من غير الواضح ما فهمه أمثال السيد الخوئي من صحيحة الفضلاء الثلاثة أنّها عامّة لغير شهر رمضان، إذ النصّ واضح حيث يقول: «إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة»، وأمّا خبر الديلمي فضعيف سنداً كما أقرّوا بذلك، رغم أنّ دلالته تحمل تعميماً، وأمّا خبر سليم بن قيس الذي صحّحه بعضهم سنداً، فغير واضح في التعميم؛ لأنّ كلمة «النوافل» فيه يحتمل جدّاً أن تكون عوداً على نوافل رمضان، فتكون الألف واللام للعهد، وهذا كافٍ في التردّد، بل هذه الرواية التي صحّحها الخوئي في بعض بحوثه هي الأخرى قابلة للنقاش سنداً؛ إذ كيف يروي إبراهيم بن عثمان، وهو من أصحاب الإمامَين: الصادق والكاظم عليهما السلام، عن سُليم بن قيس الذي هو من أصحاب الإمام عليّ؟! وقد التفت لهذا الأمر السيد الخوئي نفسه في المعجم، وتابعه فيه غير واحد من تلامذته، لكنّه في البحث الاستدلالي هنا بنى على حُسن هذه الرواية سنداً، واعتمد عليها.

وأمّا دعوى قيام السيرة على عدم إقامة الجماعة في النوافل، فهي لو دلّت فتدلّ على الكراهة الشديدة على أبعد تقدير، لا على التحريم أو عدم صحّة الجماعة أو مشروعيّتها.

وإطلاق أصالة عدم المشروعيّة محلّ نقاش كما تقدّم، والمورد ابتلائي، ولا أقلّ من أن أشير إلى أنّ بعض روايات رفض صلاة التراويح يُفهم منها أنّ الصحابة عملوا على الصلاة جماعة خلف النبيّ، بما يفيد أنّهم تصّوروا أنّ صلاة الجماعة لا خصوصيّة فيها للفرائض، فتأسيس الجماعة في الفرائض يدفع الذهن المتشرّعي لعدم لحاظ خصوصيّة، بل يمكن التماس شواهد عدّة على شموليّة الجماعة ونفي اختصاصها بالفرائض من حيث المشروعيّة.

والشهرة واضحة المدركيّة، بعد وجود نصوص، بل هي معتمدة على عمليّة جمع وترجيح بين الروايات، فتكون اجتهاديّةً.

فالأقرب هو تخصيص المنع بنوافل شهر رمضان، دون غيرها.

ولعلّ ما يؤيّد ما نقول أنّ روايات صلاة الاستسقاء التي تحدّثت عن الجماعة فيها، لم نجد أحداً من أصحاب أئمّة أهل البيت سأل: كيف تجوز الجماعة فيها وهي من النوافل؟! فلو كان مركوزاً في أذهانهم عدم مشروعيّة الجماعة في النوافل بما هي نوافل، لكان السؤال هنا متوقّعاً.

بل لعلّه يمكن الترقّي أكثر، بالقول: إنّ الذي يظهر لي من مراجعة مختلف أطراف النصوص الحديثيّة أنّ الفقهاء تعاملوا معها من منظار مدرسي، غير أنّنا لو نظرنا إليها ضمن مقاربات سياقيّة تاريخيّة، فسوف نفهم أنّ أفضل طريقة للجمع بين النصوص هو فهم نهي الأئمّة عن الجماعة في نافلة رمضان تعبيراً آخر عن محاربة البدعة، لا تعبيراً عن عدم مشروعيّة الجماعة في نافلةٍ بذاتها، وهذا من القواعد التي أشرتُ إليها مراراً ـ وربما تكون قاعدةً مهمّة مستقاة من مبدأ نظر نصوص أهل البيت للواقع الإسلامي المحيط بهدف تصحيحه، وهو المبدأ الذي طرحه وآمن به السيد البروجردي ـ وهذه القاعدة التي أدّعيها تقوم على أنّ أهل البيت حاربوا بعض الظواهر التي علقت في أذهان المسلمين على أنّها من الشريعة ومندوباتها وسننها وبرامجها، فأصدروا أمراً عامّاً بتحريمها بهدف إماتة البدعة، وكانوا يعتبرون أنّ صلاة التراويح التي هي الصلوات النافلة السائدة في ليالي شهر رمضان بين المسلمين، قد تلقّاها المسلمون بهذه الطريقة ـ جماعةً ـ على أنّها من الشرع الحنيف، في حين ليست هي من الشرع، وإن لم تكن محرّمة في ذاتها، ومن هنا نفهم كيف أنّ بعض الروايات الصحيحة عن أهل البيت سمحت بصلاة النوافل في شهر رمضان جماعة في البيت لا في المسجد، مما يعزّز أنّهم كانوا يريدون إماتة هذه الظاهرة أو على الأقلّ عدم المشاركة في بقائها حيّة؛ لأنّهم يرفضون كون صلاة التراويح سنّة نبويّة، حتى جعلها السرخسي شعاراً للسنّة، كما الجماعة في الفرائض شعار للإسلام على حدّ تعبيره، بل قد نصّوا في الروايات الصحيحة عن أهل البيت أنّها بدعة كصلاة الضحى. وهذه القاعدة مفيدة في موضوعات عدّة، مثل قول آمين في الصلاة والتكتّف وغير ذلك، مما أسلفنا بعضه، فتأمّل جيّداً.

إنّ فهم هذا السياق وطرح هذه الاحتماليّة التفسيريّة، لا يسمح لنا بعد ذلك بأخذ أغلب النصوص مجرّدةً عن سياقاتٍ معقولةٍ جدّاً، لهذا قد يترجّح بالنظر أنّ النهي عن الجماعة في نوافل رمضان الليليّة هو تعبير آخر عن محاربة عادة دينيّة تلقّاها المسلمون جزءاً من الشرع الحنيف، وهي ليست كذلك، حتى لو شملتها عمومات حُسن الصلاة وأنّها خير موضوع، وغير ذلك. ولهذا حاربوا صلاة التراويح ذاتها ولم يحاربوا الجماعة فيها فقط، فمحاربة الجماعة نوعٌ من دفع أنصارهم لعدم المشاركة.

ولو أنّنا فهمنا هذه السياقات التاريخيّة ولاحظنا طبيعة النصوص، فلن نجد تعارضاً بين الروايات التي تدلّ على مشروعيّة الجماعة في نوافل رمضان وتلك التي نفت ذلك (في أغلبها لا جميعها)؛ لأنّ النافية ناظرة للظاهرة القائمة في عصر صدور النصّ، فالمشكلة ليست في ذات الجماعة في نافلة، بل في الظاهرة العباديّة التي قامت على اعتبار أنّها جزءٌ من الدين. ولعلّ هذا أفضل أشكال الجمع العرفي بين هذه النصوص، بدل طرح الرواية الدالّة على المشروعيّة؛ بحجّة أنّها موافقة لأهل السنّة.

نعم من الواضح جداً أنّه لا توجد دعوة للجماعة في النافلة، إذ لو كانت مستحبّة ومرغوباً إليها لظهر ذلك وبان، بل يظهر من بعض الروايات والمواقف الفقهيّة عند السنّة والشيعة أنّ الشريعة ترغب أكثر بكون النوافل فرادى، بل في بعضها الترغيب بها في البيت بدل المسجد.

هذا، وهناك تفاصيل أخرى بحثيّة تتعلّق أيضاً بالروايات هنا، نتركها؛ لعدم وجود مجال لها، فإنّ كلامنا هنا مبنيٌّ دائماً على الاختصار.

 

الجهة الثانية: صلاة الغدير ومدى مشروعيّة الجماعة فيها

وقد ذكر الماتن عدم مشروعيّة النافلة فيها، على مقتضى القاعدة في باب النوافل عنده، والماتن لم يتعرّض لصلاة الغدير في قسم الصلوات المستحبّة، لكن لا بأس بتحقيق الحال فيها ومن خلاله نطرح الموقف من صلاة الجماعة فيها، فهذه الصلاة مستند انعقاد الجماعة فيها هو مرسل المفيد وأبي الصلاح الحلبي، من أنّ النبيّ‘ أمر يوم الغدير بأن ينادى بالصلاة جامعة، فاجتمعوا وصلّوا ركعتين..

وهذه الرواية ضعيفة السند كما هو واضح، بل لا سند لها في الحقيقة، ورغم نقل الكثير من وقائع الغدير غير أنّه تفرد المفيد بنقل هذه القصّة وهذا غريب. وعليه فلا دليل على استحباب الجماعة فيها بخصوصها. ودعوى أنّ يوم الغدير يوم عيد فكيف لا تكون له صلاة معيّنة تنعقد جماعةً؟! لا تثبت استحباب صلاة معيّنة، فضلاً عن الجماعة في هذه الصلاة، فإنّ قياسها على صلاة العيدين ـ بحجّة أنّ يوم الغدير هو عيد ـ قياس مع الفارق، حيث لا دليل على أنّ كلّ عيد فله صلاة، أو كلّ عيد فصلاته تكون جماعة.

أمّا حول أصل هذه الصلاة، فقد قال الشيخ الصدوق: «وأمّا خبر صلاة يوم غدير خم والثواب المذكور فيه لمن صامه، فإنّ شيخنا محمّد بن الحسن ـ رضي الله عنه ـ كان لا يصحّحه، ويقول: إنّه من طريق محمّد بن موسى الهمداني، وكان كذّاباً غير ثقة. وكلّ ما لم يصحّحه ذلك الشيخ ـ قدّس الله روحه ـ ولم يحكم بصحّته من الأخبار، فهو عندنا متروك غير صحيح» (كتاب من لا يحضره الفقيه 2: 90 ـ 91).

وقد علّق المجلسي على كلام الصدوق بالقول: «رواه السيد ابن طاوس رضي الله عنه من كتاب محمد بن علي الطرازي بإسناده إلى أبي الحسن عبد القاهر بواب مولانا أبي إبراهيم موسى بن جعفر وأبي جعفر محمّد بن علي عليهم السلام، قال: حدّثنا أبو الحسن علي بن حسّان الواسطي، عن علي بن الحسن العبدي. وروي ركعتين مطلقتين بسند آخر. ولعلّ أقلّ من هذا يكفي للعمل بالمستحبات كما هو دأبهم فيها، مع أنّ الشيخ المفيد والطوسي قدس الله روحهما وسائر المشايخ العظام عملوا بها وذكروها في كتبهم. وتوقّف الصدوق وشيخه رحمة الله عليهما لا يصير سبباً لترك الفضل الكثير المذكور فيها» (ملاذ الأخيار 5: 203 ـ 204).

ومن الواضح أنّ سند أصل الصلاة ضعيف، وحتى السند الذي ذكره المجلسي فيه عليّ بن حسّان المضعّف. وقاعدةُ التسامح لم تثبت، وعملُ المشهور لعلّه مبنيٌّ عليها، فكيف يمكن إثبات الاستحباب من عملهم مع عدم اعتقادنا بقاعدة التسامح؟!

وبهذا نستنتج أنّ صلاة الغدير لم تثبت في نفسها، كما أنّها لو ثبتت فلا دليل على الجماعة فيها بخصوصها لو نفينا دليل الجماعة في مطلق النافلة. ومنه يظهر أنّ ما ذكره الشيخ محمد تقي بهجت في (توضيح المسائل: 271) من أنّه لو أتى المكلف بصلاة الغدير برجاء المطلوبية أمكن القول باستحباب الجماعة فيها، فهذا ما لم يتضح لي وجهه. وكذا يظهر عدم صحّة ما ذكره السيد محمد صادق الروحاني من مشروعيّة الجماعة فيها، رغم أنّه يرى عدم مشروعيّة الجماعة في النوافل.

 

الجهة الثالثة: في الاستثناءات

وقد ذكر الماتن استثناءين، هما:

أ ـ صلاة العيدين، وسوف يأتي الحديث عنها بالتفصيل عند ذكر الماتن لها في خاتمة كتاب الصلاة، ضمن الحديث عن جملة من الصلوات المستحبّة.

ب ـ صلاة الاستسقاء، ولا شكّ في مشروعيّة الجماعة فيها، لورود النصوص بذلك عند الفريقين، بل صورة صلاة الاستسقاء بُنيت على فرضية وجود الإمام فيها. هذا ولم يتعرّض الماتن لصلاة الاستسقاء أصلاً، حتى في باب الصلوات المستحبّة، خلافاً لفقهاء آخرين تحدّثوا عنها في رسائلهم العمليّة، مثل السيد الخميني في تحرير الوسيلة.