hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة الآيات ـ القسم الأوّل)

تاريخ الاعداد: 2/18/2025 تاريخ النشر: 2/20/2025
560
التحميل

حيدر حبّ الله


هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(13 ـ 2 ـ 2025م)

 

المقصد السادس

صلاة الآيات

وفيه مباحث:

 

المبحث الأوّل

تجب هذه الصلاة([1]) على كلّ مكلّف ـ عدا الحائض والنفساء ـ عند كسوف الشمس، وخسوف القمر، ولو بعضهما، وكذا عند الزلزلة([2])، وكلّ مخوف سماوي، كالريح السوداء، والحمراء، والصفراء، والظلمة الشديدة والصاعقة، والصيحة، والنار التي تظهر في السماء، بل عند كلّ مخوف أرضيّ أيضاً على الأحوط، كالهدة، والخسف، وغير ذلك من المخاوف([3]).

مسألة 702: لا يعتبر الخوف في وجوب الصلاة للكسوف والخسوف، وكذا الزلزلة على الأقوى، ويعتبر في وجوبها للمخوف حصول الخوف لغالب الناس، فلا عبرة بغير المخوف، ولا بالمخوف النادر([4]).

____________________

([1]) لا بأس بالإشارة هنا لأمرين:

أوّلاً: لم يرد تعبير "صلاة الآيات" في النصوص القرآنيّة ولا الحديثيّة، وإنّما الوارد تعبير صلاة الكسوف وأمثال ذلك، نعم ورد في بعض النصوص الحديث عن أنّ الكسوف أو غيره من آيات الله فافزعوا إلى الصلاة أو إلى المساجد وهكذا، وعليه فينبغي الالتفات إلى أنّ هذا التعبير فقهيٌّ وليس حديثيّاً، من باب تسمية الصلاة باسم سببها، حتى نستنتج منه في نفسه ـ أعني بما هو عنوانٌ لهذه الصلاة ـ نتائج في التعميم والتخصيص هنا.

هذا، والخسوف والكسوف تعبيران يستخدمان في موضع بعضهما بعضاً، كما يقال لهما: الكسوفان والخسوفان، وإن كان الأشهر في التعبير هو كسوف الشمس وخسوف القمر.

ثانياً: إنّ وجوب صلاة الآيات مما اشتهرت به الإماميّة، لأنّ جمهور فقهاء أهل السنّة على كون صلاة الكسوفين ـ حصراً ـ صلاةً مندوبة أو سنّة مؤكّدة، وقال بعضٌ بالوجوب. وربما يساعد على ما نقول ـ ولو احتمالاً ـ ما ورد في مرسل الصدوق عن الإمام زين العابدين، وذكر علّة كسوف الشمس والقمر، ثمّ قال: «أما إنّه لا يفزع للآيتين ولا يرهب لهما إلا من كان من شيعتنا، فإذا كان ذلك منهما فافزعوا إلى الله عزّ وجل وراجعوه».

([2]) الظاهر اتفاق الفقه الإسلامي بمدارسه المختلفة تقريباً على أصل ثبوت صلاة الآيات عند كسوف الشمس وخسوف القمر، لكنّ الكلام وقع في غيرهما. وما سنتحدّث عنه هنا هي صلاة الآيات عند الزلزلة خاصّة (أي عند الرجفة وهي: الزلازل والهزّات الأرضيّة).

فقد ذهب الكثير من فقهاء الإماميّة إلى أنّ من الأسباب الموجبة لصلاة الآيات وقوع الزلازل والهزّات الأرضيّة، بلا فرقٍ فيها في العادة بين ما يصطلح عليه اليوم بالزلزال الأصل وبالهزّات الارتداديّة. فيما مال جمهور فقهاء أهل السنّة لعدم الوجوب في الزلزال والهزّات ونحوها، وانقسموا بين من قال بكون صلاة الآيات عند الزلزلة مندوبة ومن قال بكونها لا واجبة ولا مندوبة.

لكنّ العديد من فقهاء الإماميّة المتقدّمين لم يشيروا لوجوب صلاة الآيات عند الزلزلة، لا سلباً ولا إيجاباً. وفي العصر الحديث ناقش العديد من الفقهاء في وجوب صلاة الآيات عند الزلزلة، واحتاط بعضهم وجوباً هنا دون أن يفتي، مثل: السيد محمّد باقر الصدر، والسيّد محمّد الروحاني، والسيّد علي السيستاني، والسيد محمّد سعيد الحكيم، والشيخ محمّد إسحاق الفيّاض، وغيرهم. ويظهر من الرسالة العمليّة للسيد الخوئي الفتوى بالوجوب، لكنّه في بحوثه العلميّة لم يوافق على وجود دليل يثبت وجوب صلاة الآيات عند الزلزلة، ولعلّ أحدَهما عدولٌ عن الآخر.

والأقرب عدم ثبوت وجوب صلاة الآيات عند الزلزلة بعنوانها، أي بما هي زلزلة، وإنّما هو مقتضى الاحتياط الاستحبابي فقط.

والأدلّة الدالّة هنا غير تامّة سنداً أو دلالةً أو لا ترقى لمستوى الدليل الحجّة المعتبر، والتفصيل في محلّه. وهذا كلّه بصرف النظر عن فكرة ثبوت صلاة الآيات عند كلّ مخوف نوعي، وسيأتي الحديث عن ذلك؛ ولهذا قلنا بأنّ الكلام الآن عن ثبوت صلاة الآيات عند الزلزلة بما هي زلزلة فقط، فلاحظ جيّداً.

([3]) سيأتي في التعليق القادم على (المسألة رقم: 702) ما يفيد في المقام.

([4]) هنا أمور:

الأمر الأوّل: إنّ المعروف أنّ تعبير الآية أو الآيات الوارد في النصوص هنا، لا يفيد فكرة الخوف، بل الآية في اللغة هي العلامة، فكأنّ هذه الظواهر الكونيّة علامات قدرة الله تعالى وعظمته وقوّته. لكن قد يقال بأنّ بعض النصوص استخدمت تعبير الآيات وغيرها بما يشير إلى أنّ هذه الصلاة تكون في حال الخوف والرهبة والقلق لا مطلقاً.

الرواية الأولى: خبر الفضل بن شاذان، عن الرضا×، قال: «إنّما جعلت للكسوف صلاةٌ؛ لأنّه من آيات الله، لا يدرى لرحمة ظهرت أم لعذاب، فأحبّ النبيّ‘ أن تفزع أمّته إلى خالقها وراحمها عند ذلك، ليصرف عنهم شرّها ويقيهم مكروهها، كما صرف عن قوم يونس× حين تضرّعوا إلى الله عزّ وجل..». والرواية ذات دلالة على أنّ فكرة الصلاة مرتبطة بفكرة خوف نزول عذاب.

الرواية الثانية: مرسل الصدوق، قال: قال سيّد العابدين×، وذكر علّة كسوف الشمس والقمر، ثمّ قال: «أما إنّه لا يفزع للآيتين ولا يرهب لهما إلا من كان من شيعتنا، فإذا كان ذلك منهما فافزعوا إلى الله عز وجل، وراجعوه»، فلاحظ تعابير الرهبة وأمثالها.

الرواية الثالثة: مرسل المفيد، قال: روي عن الصادقِين ـ عليهم السلام ـ «أنّ الله إذا أراد تخويف عباده وتجديد زجره لخلقه كسف الشمس وخسف القمر، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الله بالصلاة».

الرواية الرابعة: خبر زرارة ومحمد بن مسلم، قالا: قلنا لأبي جعفر×: هذه الرياح والظلم التي تكون هل يصلّى لها؟ فقال: «كلّ أخاويف السماء من ظلمة أو ريح أو فزع، فصلّ له صلاة الكسوف حتى يسكن».

الرواية الخامسة: خبر محمّد بن عمارة، عن أبيه، عن الصادق، عن أبيه ـ عليهما السلام ـ قال: «إنّ الزلازل والكسوفين والرياح

الهائلة من علامات الساعة، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فتذكّروا قيام الساعة وافزعوا إلى مساجدكم».

الرواية السادسة: خبر حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله×، قال: ذكروا انكساف القمر وما يلقى الناس من شدّته، قال: فقال أبو عبد الله×: «إذا انجلى منه شيء فقد انجلى».

الرواية السابعة: خبر ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله ـ في حديث ـ قال: «صلاة الكسوف عشرة ركعات وأربع سجدات، كسوف الشمس أشدّ على الناس والبهائم».

الرواية الثامنة: خبر ابن عباس وغيره، الوارد في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما، عن النبيّ‘ أنّه قال يوم موت ابنه إبراهيم: «إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلّوا وادعوا، حتى ينكشف ما بكم»، فإنّ ذيل الرواية يفيد وكأنّه نزل بهم عذاب وأنّهم يتضرّعون لكشف ما نزل بهم.

وغيرها من النصوص والتعابير.

بل قد يقال أيضاً بأنّ الجذر اللغوي لكلمة "الآية" يستبطن مفهوم الخوف والرهبة، وليس مطلق العلامة على القدرة الإلهيّة، ولهذا لم تجب هذه الصلاة عند قراءة القرآن الذي هو معجزة الخالق تعالى، ولا عند أيّ ظاهرة طبيعيّة، بل الأمر مرتبط بظواهر لها مفهوم ترهيبي أو تخويفي، وقد ربط القرآن الكريم مفهوم الآيات في بعض نصوصه بمفهوم التخويف، قال تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) (الإسراء: 59)، بل قد يدّعي مدّعٍ أنّ آيات الرسل هي أيضاً تتضمّن التخويف والرهبة والشعور بالهيبة عادةً؛ فإنّ الذي يرى العصا تتحوّل أمام عينه إلى ثعبان يشعر بالرهبة والخوف ويُقبل على تصديق الأنبياء، وهكذا من يرى الناقة تخرج من داخل الجبل الأصمّ، أو يرى الميّت يتمّ إحياؤه، إنّ هذه ليست مجرّد علامات ذات دلالة إشاريّة معرفيّة فحسب، بل تتضمّن مفهوماً شعوريّاً يختزن الهيبة والرهبة والخشيّة والخوف وما شابه هذه التعابير.

وهنا قد يقول قائل بأنّ هذه العلامات التي فرضت فيها صلاة الآيات هي في مفهومهم عبارة عن ظواهر كونيّة تحمل الخوف والرهبة واحتماليّة الغضب الإلهي النازل، ولهذا كانوا يعتبرون الخسوف خطراً، فإذا اكتشف العلم الحديث أنّ الخسوف لا يتضمّن أيّ مخاطر على البشريّة على خلاف الزلازل الكبرى والأعاصير ونحوها، فينبغي إعادة النظر في أصل وجوب صلاة الآيات عند الكسوف والخسوف.

وربما يمكن مساعدة هذا التحليل بالقول بأنّ الشعوب القديمة، وبخاصّة في محيط منطقة الشرق الأوسط وبلاد الهند، والأجيال السابقة كانت تظنّ بالفعل أنّ الخسوف والكسوف ظواهر غضب أو قد تصاحبها ظواهر كونيّة مخيفة، إنّ نفس رؤيتهم للكسوف والخسوف يوجب الرهبة في النفس، لهذا كانت الشريعة تأمر بالصلاة هنا انطلاقاً من القناعة في ذلك الزمان بأنّها ظواهر كونية مخيفة، والصلاة تعبيرٌ عن التضرّع إلى الله بعدم إنزال العذاب، ولا مانع ـ عقديّاً ـ من أنّ يبني الإمام الحكمَ أحياناً على قناعة ناتجة عن علوم تلك الأزمنة، كما قلنا مراراً، فيكون الحكم دائراً مدار الظواهر الكونيّة المخيفة التي تتضمّن إمكانيّة حصول مكروه عامّ للناس، فجاء النبيّ والإمام وطبّق هذا العنوان العامّ على ما كان يعتبر ـ بحسب علوم زمانهم ـ ظواهر كونيّة مخيفة كالخسوف، مع أنّ العلم يقول اليوم ـ بضرسٍ قاطع على ما يبدو ـ أنّ الخسوف لا يحمل أيّ أضرار إطلاقاً على الإنسان على الأرض، بل هو ظاهرة طبيعيّة جداً. بل ربما يظهر أنّ بعض العرب المحيطين بالنبيّ كانوا يعتقدون أيضاً بأنّ الكسوف والخسوف يكون لموت شخصٍ عظيم، ولهذا ورد في النصوص عند السنّة والشيعة نفي النبيّ ذلك عند موت ابنه إبراهيم.

وعليه، فإنّ الحكم بوجوب صلاة الكسوفين مطلقاً ولو لم يكن هناك أيّ خوف نوعي إطلاقاً بخلاف سائر الآيات التي يتمّ ربط وجوب الصلاة فيها أو استحباب الصلاة عندها بالخوف الغالب على نوع الناس، لا يبدو واضحاً؛ انطلاقاً من احتماليّة هذه الروايات المتقدّمة والسياق التاريخي الثقافي المحيط ومن مجمل ما تقدّم. ولا نريد أن ندّعي الجزم هنا، بل نشكّك في إمكانيّة الأخذ بالإطلاق اللفظي الموجود في نصوص الكسوف والخسوف، نتيجة مجموع هذه المعطيات، ولهذا نقول: بأنّ وجوب صلاة الآيات عند الكسوفين ثابتٌ على تقدير كونهما من الظواهر المخيفة نوعاً، وأمّا على تقدير العدم فمبنيٌّ على الاحتياط الوجوبي.

وقد يقال في مقابل هذا كلّه: إنّ المسألة ليست مرتبطة في الكسوف والخسوف بالخوف الغالب على الناس، بل بمفهومٍ ديني، وهو أنّ الخسوف والكسوف من علامات الساعة تارةً، وأنّه يحتمل ـ تارةً أخرى ـ أن يكون علامة غضبٍ بحيث سيُنزل الله غضباً بعد ظهور الكسوف أو الخسوف، وقد رأينا في بعض الروايات السابقة كيف أنّه ذكرت الزلازل والكسوفين بمثابة علامات للساعة، فالموضوع ليس علميّاً بالدقّة، بل له أفقٌ ديني تنبّؤي يكفي فيه احتمال الخطر القادم لتدفعنا الشريعةُ إلى أن نهرع للعبادة والتضرّع إلى الله تعالى.

لكن قد يجاب بأنّ القضيّة ليست في هذه الاحتمالات الموجودة بالفعل، بل في أنّ الثقافة القديمة تشكّل سياقاً ذهنيّاً لبيّاً محتملاً يربط النصوص به، فيكون من باب احتمال قرينيّة الموجود، معزَّزاً ذلك بالنصوص التي ذكرناها، وما تقدّم من كلام، فهذا يعيق إمكانيّة الوثوق بانعقاد إطلاق لأدلّة وجوب الصلاة خارج سياق الخوف الغالب، وإن كان من المحتمل أنّ الشريعة لاحظت مطلق احتمال الخوف ولو كان بسيطاً للغاية، فهذا ما لا ننفيه.

قد تقول: إنّ الأسس التي طرحتموها هنا، رغم أنّها تبدو منطقيّة، غير أنّ لها لوازم لا يُعلم مدى التزام الفقهاء بها، فإذا اعتقدنا بأنّ الأحكام يمكن أن تكون متناسبةً مع الظروف القائمة في زمان صدور الحكم، بل وقد تكون الاعتقادات الباطلة وغير العلميّة مؤثّرة في تكوينها، فلن يقتصر هذا الأمر على القول بانقضاء الحكم في الحالات التي نطمئنّ فيها بوجود هذا التناسب، بل حتى في الحالات التي يوجد فيها احتمالٌ معتدّ به بأنّ الحكم كان متناسباً مع ظروف زمانه، لا يمكن عندئذٍ التمسّك بإطلاق الخطابات التي تبيّن الأحكام، ومع قبول هذا الأساس (المبنى)، يُفتح باب نفي الإطلاق في كثيرٍ من الأحكام! وعلى سبيل المثال، قد تكون القيود المفروضة على زواج النساء مرتبطة بمسألة "اختلاط المياه"، وهذا ليس احتمالاً غير عقلائي، بل هو احتمالٌ معتبر يمكن أن يمنع من التمسّك بالإطلاقات، وكذلك تحديد وقت صلاة الصبح قبل طلوع الشمس، قد يكون بسبب عدم وجود الطاقة الكهربائيّة في زمان صدور الأحكام، حيث كان الناس يستفيدون من ضوء النهار ويبدؤون أنشطتهم عادةً بعد طلوع الشمس، ولذلك جُعل وقت الصلاة قبل بداية النشاط اليومي، فهل يُعتبر هذا احتمالاً غير قابل للاعتبار؟! إنّ هذه الاحتمالات ـ أعني التناسب مع ظروف زمان صدور الأحكام ـ يمكن طرحها بشأن مجموعة واسعة من الأحكام، ألا يصلح هذا إشكالاً نقضيّاً على هذا المبنى الذي وظّفتموه هنا؟

والجواب:

أوّلاً: إنّ استلزام هذا المبنى لتحوّلات كبيرة في الفقه، لا ضير فيه، إذ لا أرى إشكاليّةً في تكوين فقهٍ جديد إذا قادت الأدلّة إليه. والفقهاءُ يستدلّ لهم لا بهم، وسيرتهم عبر التاريخ تمثل تجارب بشريّة محترمة لكنّها ليست نهائيّة.

ثانياً: لقد تعرّضتُ في مباحث تاريخيّة السنة من كتابي: (حجيّة السنة في الفكر الإسلامي) لهذا الموضوع، وكذلك في مواضع من كتابي: (الاجتهاد المقاصدي والمناطي)، وقلتُ بأنّ الاحتمالات العقلائيّة يمكنها في بعض الموارد شلّ قدرة الإطلاق عبر نظام احتماليّة قرينيّة الموجود، لكنّ هذا يكون في مجال فهم النصوص وتحليل مضمونها الأحكامي، أي أنّه نوعٌ من النظام الهرمنوطيقي في الفهم والتفسير.

ثالثاً: إنّ المورد هنا ليس من باب ربط الحكم بالسياق التاريخي، بل محاولة اكتشاف الحكم ثم فهم تطبيق الإمام والنبيّ للحكم على مورد على أنّه منطلق من السياقات التاريخيّة، فهناك فرق بين بيان الحكم الكلّي من النبي وبين تطبيق النبي للحكم الكلّي على موردٍ نتيجة سياق ثقافي تاريخي، ونحن نلتزم بالثاني عندما تكون احتمالاته معقولة، وليست مجرّد فروض فلسفيّة محضة.

إنّ ما حاولنا فهمه هنا هو اكتشاف أنّ نكتة جعل صلاة الآيات هي الخوف والتحسّب من الغضب أو النازلة الإلهيّة، وهذا ما لمسناه من ألسنة النصوص العديدة هنا، وعليه قمنا بتحليل ظاهرة الخسوف والكسوف تاريخيّاً، لنكتشف أنّه توجد احتماليّة عالية في قيامهم بالصلاة عند الخسوف، لتصوّرهم أنّه يحمل معه خطراً، فيما العلم اليوم حسم ـ ولو فرضاً ـ أنّه لا خطر فيه إطلاقاً، وقد وقعت آلاف حوادث خسوف القمر عبر التاريخ ولم تسجّل أيّ حادثة تُذكر، وهذا الذي قلناه هنا طبّقناه في أماكن متعدّدة تقدّم بعضها مثل بحث الحيض والاستحاضة والنفاس.

رابعاً: إنّ الأمثلة الأخرى المذكورة قابلة للنقاش الموردي، وكلامُنا هنا في المبدأ.

الأمر الثاني: وهو مترتّب على ما قلناه في الأمر الأوّل، حيث بضمّ النصوص إلى بعضها، مع تعدّدٍ نسبي في طرق خبر زرارة ومحمّد بن مسلم المتقدّم (الرواية الرابعة) الذي يوسّع لكلّ مخوفٍ سماوي، مع بعض التعليلات التي تعمّم لمطلق آية لا يُعلم أنّها عذاب أو رحمة، كخبر الفضل بن شاذان، مع بعض نصوص المخوف الأرضي كمرسل الدعائم، نعمّم الحكم لكل ظاهرة كونيّة مخيفة ولها رهبة على قاعدة الاحتياط الوجوبي.

وإنّما قلنا: «على قاعدة الاحتياط الوجوبي»؛ لضعف أسانيد غير واحدة من النصوص، مضافاً إلى أنّه لا يظهر من التاريخ أنّ النبيّ والأئمّة وأصحابهم قد صلّوا غير صلاة الكسوفين، رغم أنّ الكثير من الظواهر الكونيّة المخيفة الأرضيّة والسماوية مرّت عليهم على امتدادٍ زمنيّ غير قليل، ومع ذلك لم يتعارف هذا الأمر، بل إنّ غالبية فقهاء الجمهور لم يقولوا بثبوت صلاة الآيات في غير الكسوفين، عدا الزلزلة ـ عند غير المالكيّة الذين نفوها أيضاً ـ التي قالوا بأنّها تصلّى فرادى، فلو كانت واجبة قطعاً للزم المزيد من التوضيح في نصوص أهل البيت وكذا الأسئلة والأجوبة، مع أنّ الوارد قليلٌ جداً في غير الكسوفين والزلزلة.

والنتيجة: إنّ صلاة الكسوفين واجبة على الأقوى في حال الخوف النوعي، وعلى الأحوط وجوباً في غيره، أمّا غير الكسوفين فلا تجب الصلاة على تقدير عدم كون الآية باعثة على الخوف النوعي، حتى لو كانت الآية هي الزلزلة، وتجب على الأحوط وجوباً على تقدير كونها باعثة على ذلك.

الأمر الثالث: قدّم السيد محمّد سعيد الحكيم تفسيراً لفكرة الخوف هنا، فقال ما نصّه: «الظاهر أنّ المعيار فيها أن تكون مخيفةً نوعاً بمقتضى طبع الإنسان، وإن لم يحصل الخوف فعلاً بسبب التعوّد أو قسوة القلوب أو تفسير الحوادث تفسيراً علميّاً أو غير ذلك» (منهاج الصالحين 1: 263).

ولكنّ كلامه قابلٌ للمناقشة؛ فإنّ مفهوم «مخيفة نوعاً بمقتضى طبع الإنسان» لا معنى له بصورة مجرّدة؛ إذ كما يمكن أن يخاف شخصٌ من أمرٍ لجهله به، كما يخاف من أفعى لظنّه أنّها قد تقتله، يمكن لآخر أن لا يخاف لعلمه به، كعلم شخص بأنّ هذه الأفعى غير سامّة أصلاً، وكلاهما يجري الخوف منهما وعدمه مجرى الأمر الطبيعي والطبعي، فليس الإنسان القديم الذي كان يعيش في الغابات وسط تصوّرات غير واقعيّة عن الكون معياراً في مفهوم الخوف الذي هو المدار هنا، ولا الإنسان الجديد هو المعيار المطلق، بل ينبغي القول بأنّ المعيار هو كون الخوف هنا نوعيّاً وغالبيّاً بالنسبة للذين عرضت عليهم الآية، فلو صدق خوفهم في الغالب وجبت صلاة الآيات عليهم وإلا فلا. ولا ضير في اختلاف الناس في الحكم نتيجة اختلافهم في الخوف الغالب وعدمه، بحسب اختلاف ثقافاتهم وتجاربهم أو غير ذلك، فالحكم يتبع موضوعه، وطبيعة الموضوع هنا لا مانع من كونها نسبيّة باختلاف الزمان والمكان.

ولعلّ الذي دفع السيد الحكيم لهذه الفكرة هي مشكلة صلاة الكسوفين، من حيث إنّ النصوص والتاريخ يعطيان أنّ الكسوفين ظواهر مخيفة نوعاً في الماضي وليست كذلك في الحاضر، رغم أنّه لم يشترط الخوف في الكسوف والخسوف والزلزلة. وما طرحناه في أصل هذه القضيّة لعلّه يكون حلاً أقرب وأفضل مما طرحه رحمه الله.

ومثل كلام السيد الحكيم كلامٌ للسيد محمّد باقر الصدر في تفسير الخوف من زاويةٍ أخرى، حيث قال في "الفتاوى الواضحة" ما نصّه: «ولا نريد بالخوف هنا حصول الشكّ للإنسان في سلامة العالم أو سلامة البلد، بل نريد به حالة القلق والوحشة النفسيّة، سواء رافقها الشكّ في السلامة أم لا».

إلا أنّ هذا التعريف الذي يقدّمه السيد الصدر، وإن كان في نفسه يحمل التفاتةً دقيقة، لكن لا يبدو لي متناسباً مع ظواهر النصوص التي ألمحنا لبعضها فيما سبق، كما أنّ الإنسان عندما يخاف من ظواهر كونيّة مهولة، فإنّ هذا الخوف في العادة يكون شعوراً بالخوف على السلامة، وليس مجرّد حالة استيحاش. نعم لا ننكر وجود حالة استيحاش ورهبة تتملّك الإنسان في بعض الحالات دون وجود خوف على سلامته، لكنّ مناسبات الحكم والموضوع تقتضي أنّ الخوف من الظواهر الكونيّة مرجعه للخوف من آثارها السلبيّة على البشر والحياة، وليس لمجرّد الرهبة النفسيّة الخالصة، ولا أقلّ من عدم وضوح كون المعيار في الخوف هو مطلق الرهبة والاستيحاش في مثل هذه الموارد، بل القدر المتيقّن هو القلق والرهبة نتيجة القلق على ما قد يحلّ بسبب هذه الظواهر.

ولا ينحصر "ما قد يحلّ" بالموت، بل قد يكون تلف الأرزاق أو الخراب أو الدمار أو غير ذلك، كما لا يلزم أن تكون الخلفيّة المعرفية للخوف هي شدّة أو قوّة احتمال نزول الضرر والعذاب، بل يكفي مبرّراً للخوف الحقيقي الاحتمالُ المعتدّ به ولوكان قليلاً نسبيّاً، فانتبه.

الأمر الرابع: إنّ مفهوم الخسوف والكسوف عرفاً ـ بعيداً عن فكرة المخوف النوعي ـ لا يبعد أنّه يشمل توسّط بعض الأجرام السماويّة الأخرى بين الشمس والأرض، أو بين الأرض والقمر؛ لأنّ الفكرة عرفاً هو انكسار ظهور هذين الجرمين في السماء وذهاب نورهما، بعيداً عن التفاصيل العلميّة الدقيقة لهذه الظواهر، فمتى صدق الكسوف أو الخسوف ـ لأيّ سببٍ كان، ولو غير السبب العلمي المتعارف ـ لزم ترتيب الحكم هنا؛ لصدق العنوان لغةً وعرفاً، وهذا كافٍ.

كما أنّ مرور بعض الأجرام بشكل سريع أو حصول خسوف أو كسوف خفيف جداً لا يلاحظه الناس العاديّون، لا يوجب ثبوت صلاة الكسوفين كما هو واضح؛ وذلك للسبب نفسه.