hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

الحوارات

الهاشمي الشاهرودي / فكره، منهجه، مساهماته التجديديّة وعلاقاته مع النجف وولاية الفقيه

تاريخ الاعداد: 2/8/2025 تاريخ النشر: 2/8/2025
2870
التحميل

حوار مع الشيخ حيدر حبّ الله

أجرى الحوار وأعدّه: هاجر إبراهيم عبد الزهرة فياض([1])

 


مدخل في العلاقة الشخصيّة مع السيد الهاشمي

بدايةً، ما هي علاقتكم بالسيد محمود الهاشمي الشاهرودي؟ وكيف تصفها؟ وكيف كانت شخصيّته وتعامله معكم؟

 

حبّ الله: علاقتي بالسيّد محمود الهاشمي هي علاقة التلميذ بأستاذه، فقد تلمّذت على يديه تلمّذاً مباشراً من سنة 1995 إلى حين ذهابه ـ بعد حوالي خمس أو ستّ سنوات ـ إلى طهران لتولّي منصب رئاسة السلطة القضائيّة. فهو بالنسبة لي الأستاذ الذي تربّيت على يديه، والذي درّسني العلوم الشرعية بطريقة رائعة وجميلة.

كما أنّني أصف هذه العلاقة بأنّها علاقة طيّبة، مستقرّة، فيها ثقة متبادلة. فقد كان سماحته رجلاً دقيقاً حريصاً ومتريّثاً في ثقته بالآخرين في حدود ملاحظتي، وأحمد الله تعالى أنّ علاقتي به كانت علاقة ثقة.

طبعاً، علاقتي به تطوّرت بعد ذلك، عندما التحقتُ في عام 1998م بمؤسّسته البحثية (دائرة معارف الفقه الإسلامي) بصفةِ باحث، فهناك صارت هذه العلاقة أقوى، لأنّها تخطّت مجرّد علاقة التلمذة بنوعها الكلاسيكي، إلى تلمّذ من نوع تربية الباحثين في إطار مؤسّسي لإجراء البحوث الموسوعيّة المنظَّمة في الفقه الإسلامي. لقد استمرّيتُ في هذا العمل حتى عام 2002م، عندما ولّاني ـ وقد تشرّفتُ بذلك ـ مسؤولية رئاسة تحرير مجلّة "المنهاج" في بيروت، فأصبحتُ في القسم المخصّص بمركز الغدير مشرفاً على مجلّة المنهاج، ثم لاحقاً عضواً في هيئة تحرير مجلّة فقه أهل البيت التي يشرف عليها سماحته أيضاً، وبهذا تطوّرت العلاقة إلى علاقة نشاطٍ ثقافي يدور حول كيفيّة الحركة في إطار ايجاد مقاربة ثقافيّة للإسلام والقراءة التي نراها أفضل للإسلام في المجتمعات العربيّة وغير العربية. وقد كانت مجلتا: "المنهاج" و "فقه أهل البيت" اللتين كان يشرف عليهما، من المجلات التي تتلمّس وتحاول أن تقدّم الصورة المتقدّمة للفقه الإسلامي والثقافة الإسلاميّة والفكر الإسلامي على امتداداته ومساحاته، فصارت العلاقة علاقة وضع رؤى ثقافيّة.

لقد كان سماحته سعيداً ـ في حدود إحساسي واطّلاعي ـ بالنشاط الذي كنّا نقوم به في مجلّة "المنهاج"، تماماً كالنشاط الذي كان يقوم به مجموعة الإخوة المتولّين لإدارة مجلّة "فقه أهل البيت"، والتي كان يرأس تحريرها سماحة الشيخ الفاضل خالد الغفوري حفظه الله تعالى.

بعد حوالي سبع سنوات تقريباً (حدود عام 2009م)، خرجتُ من مجلّة "المنهاج"، لأتولّى منصب المعاون العلمي لسماحة السيد الهاشمي في إدارة موسوعة الفقه الإسلامي، وهناك تعرّفت عليه عن قربٍ أكثر، حيث النشاط كان في أوجه، وكان السيّد ـ رحمه الله ـ يتطلّع إلى تقديم موسوعة فقهيّة قادرة على أن تحاكي السبل والأساليب المتطوّرة المعاصرة في تقديم الفقه الإسلامي والقانون الإسلامي. كما أنّه كان يتطلّع إلى أن يكون لدينا موسوعة أخرى بعد هذه الموسوعة الفقهيّة ـ التي صدر منها حتى الآن ما يزيد عن خمسين مجلّداً ضخماً ـ كان يتطلّع إلى موسوعة فقهيّة قانونيّة معاً، بحيث نأتي بمختلف المصطلحات القانونيّة المعاصرة، ونحاول مدّ شبكة علاقة بينها، بهدف تبيئَة القانون المعاصر في الإطار الفقهي وتبيئَة الفقه في إطار لغة القانون المعاصر. هذا الأمر طرحه علينا السيد الهاشمي عندما كنت في المعاونيّة العلمية في دائرة المعارف، وكان يتطلّع إليه نتيجة تجربته الممتازة في السلطة القضائيّة في إطار القانون؛ فعندما ينزل الفقه إلى الإطار القانوني ويتحوّل إلى ممارسة تطبيقيّة، يتطلّعُ الفقيهُ إلى كيفية تقديم هذا الفقه بلغة العصر، التي هي لغة القانون المعاصر بمختلف أشكاله؛ لذلك جاءت هذه الفكرة عند سماحته، ولكن مع الأسف الشديد حالت الظروف دون ذلك، ولم ترَ هذه الفكرة النور.

وبناءً عليه، يمكنني القول: إنّ علاقتي بسماحته تحرّكت من علاقة التلمذة بالمعنى الكلاسيكي، إلى علاقة الإشراف على نشاط ثقافي، إلى علاقة قريبة للإشراف على عمل موسوعي فقهي كبير، كان يتطلّع ـ رحمه الله ـ إلى إنجازه بكلّ تفاصيل اهتماماته في هذا المجال.

أمّا فيما يتعلّق بالشقّ الأخير من سؤالك حول شخصيّته وتعامله معي، فإنّني أتكلّم ـ بطبيعة الحال ـ عمّا رأيته منه، ولا أعرف تجربته مع سائر الناس جميعاً، لهذا يمكنني أن أتكلّم عن شخصيّته من زاوية معينة، حيث من الصعب بالنسبة لي تحديد طريقة تعامله مع الآخرين أو مع فئات معيّنة في المجتمع.

إنّ الكثيرين يشعرون بأنّ شخصيّة السيد الهاشمي كانت شخصيّة رسميّة، غير شعبيّة ولا جماهيريّة ولا تواصليّة واسعة، وقد يشعر آخرون بأنّ شخصيته باردة أو جافّة بعض الشيء، فمع طلابه مثلاً لم يكن يتعامل بطريقة الاندماج، بحيث يُصبحون أصدقاء له بسهولة. وتحليلي الشخصي هو أنّ شخصيّته ـ رحمه الله ـ كانت أقرب إلى الشخصيّة الحازمة الشديدة الصارمة الجادّة، وكنّا نرى ذلك منه في دائرة معارف الفقه الإسلامي، كان جادّاً في إدارة العمل على قواعد وظيفيّة.

أمّا عن تعامله معي، فأنا وجدت منه اللطف والثقة والحماية والمحبّة؛ لأنّني تعرّضت لحملات شديدة في الحوزة العلميّة في قم، نظراً لبعض الأفكار التي أحملها، وقد جاء كثيرون إليه ينتقدونني عنده ويطالبونه بإخراجي من إطار مجموعته ورفع الغطاء عنّي، وبعض هؤلاء كانوا شخصيات كبيرة في الحوزة، ولا داعي لذكر أسماء الآن، لكنّه لم يكن يتفاعل معهم. لقد كنت أشعر أنّ من يقترب منه كثيراً ويأمن السيدُ جانبَه يُشعره بالأبوة ويرى منه الشخصيّة المرحة العفويّة التي تتعامل بأريحيّة، حتى لو كان البعيد يشعر بعكس ذلك.. ففي نهاية المطاف هذه أنماط الشخصيّة، والشخصيات متنوّعة بين البشر.

يجب أن ننتبه أنّ السيد الأستاذ رحمه الله شخصٌ حذر جداً، ويخيّل لي أنّه كان يشعر بأنّ الكثير من الناس يريدون التقرّب منه لمصالح، ولعلّه عاش تجارب معيّنة، لا أدري؛ لذلك هو شديد الحذر، ولا يُعطي مجالاً لفتح العلاقات بسهولة إلا بعد معاناة، فإذا انتهت هذه المعاناة ومرّ الطرف الآخر بمراحل، سيجدّ منه شخصيّة أبويّة صادقة راعية حامية وعفويّة.

 


حول التجربة التعليميّة والبحثيّة الاجتهاديّة للسيد الهاشمي

هل كان السيد الشاهرودي بارعاً في تدريسه؟ وبماذا تميّز عن بقيّة الأساتذة؟ وكيف تصف لنا تجربته في التعليم الديني التخصّصي؟ ما هي إيجابياتها وما هي سلبياتها؟

 

حب الله: أعتقد أنّ سماحته كان بارعاً، فعندما جئتُ إلى قم عام 1995م، حضرتُ عند مجموعة من الأساتذة بهدف التجربة لاختيار الأستاذ الذي أشعر بالفائدة معه أكثر، وهذه من العادات في الدراسة الحرّة في في المراحل العليا في الحوزة العلميّة، وهي ـ في تقديري ـ ذات جوانب إيجابيّة كثيرة، وإن كان لها بعض الآثار السلبيّة المحدودة.

على أيّة حال، فبعد هذه الجولة، رأيت في السيد الشاهرودي تميّزاً ارتحتُ له، ومن الطبيعي أنّ الناس تختلف في العناصر التي تتوفّر في الأستاذ ويرتاح لها التلامذة، ومن ثمّ قد ينجذب تلميذٌ لأستاذ، فيما ينجذب تلميذٌ آخر لأستاذٍ آخر، تبعاً لاختلاف الأمزجة والأولويّات والحاجات عند التلامذة أيضاً، لكن ما لفت نظري في السيد الهاشمي رحمه الله، أمور يمكنني أن أشير هنا لبعضها:

أوّلاً: التنظيم الفكري، فقد كان منظّماً، بمعنى أنّه كان يتمتّع بعنصر التنظيم الذهني والفكري، فيضع الأفكار في إطار من التبويب والتنظيم والترتيب والمنهجة الموضوعيّة المنطقيّة، لتكون كلّ نقطة في موضعها الطبيعي، فيُفهرس الأبحاث بطريقة بارعة وفي بعض الأحيان مبتكرة، وهذا ما يعطينا إشارة إلى أنّه كان مهيمناً على الموضوع ويستطيع أن يعيد تشكيله بأشكال متعدّدة، دون أن يظلّ أسيراً للتشكيل الموجود في الكتب التراثية، بل يعيد إنتاجه بطريقته، ضمن منهجة أخرى.

هذا الأمر جذبني كثيراً في الحقيقة، فقد حضرت عند أستاذٍ آخر في تلك الفترة ـ قد أقول بأنّه ربما يكون من بعض الزوايا لديه عمق أكبر ولو بنسبة قليلة من السيد الشاهرودي ـ لكن ما دفعني لعدم اختياره للتلمّذ على يديه هو أنّه كان غير منظّم، كأنّه يتكلّم مرتجلاً، ثم يسترجع ويستدرك ـ وأحياناً بعد أيّام ـ ثم يعود إلى النقطة الأولى، فرغم دقّة المعلومة التي كان يعطيها إلا أنّ هذه الفوضى كنت أخشى أن تكون بمثابة عنصر قد يؤثر على تركيبتي الذهنية خلال مدّة زمنية طويلة قد أحضرها عنده.

إنّ قناعتي بأولويّة المنهجة تأتي من قناعتي بأنّ المنهج هو المحرّك الفاعل في إدارة عمليّة التفكير، وأنّ فقدان الهيمنة على الموضوع من جهة واختلال تنظيم التفكير من جهة ثانية أثناء تناول هذا الموضوع، قد يخلقان إرباكاً كبيراً في معالجة الفكرة من ناحية، وفي تقديمها للمحافل العلميّة من ناحية ثانية، وإنّني أخمّن أنّه، إلى جانب الخاصية الذاتية لديه، فقد تأثر في هذا الأمر بأستاذه السعيد السيد محمّد باقر الصدر، كما تعطيه المقارنة بين أعمالهما.

ثانياً: القدرة على الإبداع في المجالين الأصولي والفقهي معاً، وهي خاصية قليلاً ما نجدها عند الآخرين، فقد تجد شخصاً لديه إبداع في المجال الفقهي أكثر من الأصولي، أو الأصولي أكثر من الفقهي، لكنّني وجدت في السيّد الهاشمي قدرةً على الإبداع في المجالين معاً، إلى جانب قدرته على الدمج بين النظريّة والتطبيق، فترى تطبيق القواعد الأصوليّة حاضراً بقوّة في الممارسة الفقهيّة، وترى أيضاً انعكاس الإشكاليّات الفقهيّة في مقارباته الأصوليّة، هذه النقطة كانت جليّة بالنسبة لي ولفتت انتباهي.

لكن لا بدّ لي من تبيين أمرٍ هنا، حتى لا نذهب بعيداً في التوصيفات، وهو أنّ مثل هذه الامتيازات لا تعني ـ في قراءتي الشخصيّة ـ أنّه لا يشاركه فيها أحد، بل بمعنى أنّه يقع في المراتب العُليا من تقمّص هذه الخصائص ويضيف عليها ولو بمقدار، وإلا فإنّها من معالم مدرسة السيد محمّد باقر الصدر التي شكّلت خطوة إضافيّة في هذا المسار على المدارس التي سبقتها، فالموضوع تراكميٌّ.

 


كيف تعاملت الحوزات مع التراث الأصولي والفقهي للسيد محمّد باقر الصدر؟

ثالثاً: لم يكن السيد الهاشمي ناظراً في بحوثه إلى خصوص مدارس أعلام من أمثال: الشيخ الأنصاري، والآخوند الخراساني، والمحقّق العراقي، والمحقق الإصفهاني، والسيد الخوئي، وإنّما أيضاً إلى مدرسة السيد محمّد باقر الصدر، وبالتحديد في أصول الفقه.

لماذا أشيرُ إلى هذا الأمر؟ لأنّ الحوزة العلميّة في قم لا تهتمّ ـ إلا نادراً ـ بالتراث العلمي الفقهي والأصولي للسيد محمد باقر الصدر، والحوزة غير الإيرانيّة وبخاصّة طلاب السيد الصدر نفسه، هم الذين يهتمّون بتراث السيد الصدر، وهذا الأمر له أسبابه التاريخيّة والظرفيّة، ولا أريدُ التوسّع في بيان تحليلي للأسباب، فقد لا تُعجب بعضَ الناس، وليس من ضرورةٍ لها الآن، لكن على أيّة حال حصل تحوّل جزئي على هذا الصعيد عندما أطلق السيد علي الخامنئي مجموعة كلمات وتوجيهات يبدو أنّها كانت موجِّهاً للسياسة الثقافية العامّة للجمهورية الإسلاميّة في إيران للإضاءة على محمّد باقر الصدر وذلك في مطلع الألفيّة الثالثة، وربما يكون أحد منطلقات هذا التوجّه السياسي ـ الثقافي العامّ هو إحساس القيادة الإيرانيّة بالحاجة إلى مزيد من الشخصيّات العلميّة الكبيرة والمنتمية إلى خطّ الإسلام الحركي السياسي التي يمكنها أن تكون مرجعاً وعنصر جذب، وكذلك عنصر تغذية جديدة للتيار الإسلامي.

وبعيداً عن تحليل الأسباب الدافعة لهذا التوجّه، فقد ترك تأثيراً إيجابياً على الفضاء الثقافي العام، حيث بدأ حضور السيد الصدر في الدراسات الجامعيّة والبحوث المنشورة منذ ذلك الوقت، لكنّ الحوزة نفسها لم تكن متفاعلة كثيراً رغم أنّ إدارة الحوزة سعت ـ وهي تقع أيضاً تحت توجيهات السيد الخامنئي ـ سعت لوضع بعض كتب السيد الصدر في بعض المراحل التعليميّة (مرحلة السطوح).

والنتيجة أنّني لاحظت تحوّلاً جزئياً في الاهتمام بتراث السيد الصدر بعد ذلك، وحيث إنّني من المعتقدين بأنّ الصدر كانت لديه بصمته الخاصّة وإضافاته النوعيّة في الاجتهاد الفقهي والأصولي، رغم أنّه في بعض المواضع كان متأثراً ببعض الرموز العلمية مثل المحقّق العراقي ـ وهو أمرٌ طبيعي جداً ونجده عند الآخرين أيضاً ـ لهذا سعيت لاختيار أستاذ يمكنني من خلاله وعي كلّ مراحل التطوّر الفقهي الحديثة، منذ الشيخ الأنصاري وصولاً إلى اللحظة الحاضرة، فحضرت عند السيد الهاشمي وعند الشيخ باقر الإيرواني وأمثالهما.

 


ضرورة رفع مستوى التعاون والانفتاح العلمي المتبادل بين قم والنجف (التنافس الإيجابي)

رابعاً: رغم أنّ تكوين السيد الهاشمي هو تكوينٌ نجفي، لكنّ نتاج مدرسة قم كان يحضر في أعماله، وهذا عنصر جذب وامتياز بالنسبة لي، فنجد عنده ـ ولو لم يسمّ أحياناً ـ حضور الأعمال الفقهيّة للسيد روح الله الخميني، بل كثيراً ما نجد حضور الأعمال الفقهية عنده للشيخ حسين علي المنتظري، كما في مباحثه في الخمس والزكاة، وهذا الحضور قد يكون للتأييد وقد يكون للنقد. وهذا يعني أنّ السيد الهاشمي قد جمع ـ بدرجةٍ ما ـ بين القراءات الفقهيّة الحديثة التي خرجت في حوزة قم مع تلك التي عرفتها الحوزة النجفيّة.

والسبب الذي يحدوني للإشارة إلى هذه النقطة، هو ما نلاحظه من الغياب النسبي لتراث مدرسة قم في الحوزة النجفيّة، رغم حضور تراث حوزة النجف في الحوزة القميّة، فالشيخ عبد الكريم الحائري والشيخ مرتضى الحائري والسيد حسين البروجردي والسيد أحمد الخوانساري والسيد روح الله الخميني والميرزا هاشم الآملي والشيخ حسين علي المنتظري والسيد محمد رضا الكلبايكاني، وغيرهم كثير، لا حضور معتدّاً به لأعمالهم في الدراسات العليا الفقهيّة في النجف بل من كثير من خريجي النجف الذين عاشوا في قم، وربما تكون هناك أسباب ظرفيّة محتملة تركت أثراً على هذا الصعيد، ولا سيما قبل سقوط النظام البعثي في العراق، وربما تكون هناك أسباب نفسيّة واجتماعيّة حاكمة لا ضرورة لعرضها الآن؛ حتى لا نطيل هذا الاستطراد، لكن على أيّة حال هذا واقع قائم، وإن كنّا بدأنا نلمس تحوّلاً خلال العشرين سنة الأخيرة، وبالخصوص نتيجة نوع من انتماء مدرسة السيد علي السيستاني الفكريّة لخطّ السيد البروجردي والميرزا مهدي الإصفهاني، فقد ساهم مساهمة فاعلة في التجسير بين حوزات: قم والنجف ومشهد، على هذا الصعيد، لكنّ هذا التحوّل يمكن أن يكون أسرع وأوسع في حوزتَي قم والنجف معاً إن شاء الله.

بل حتى في الحوزة العلميّة في قم، هناك غياب لرموز قميّة كبيرة، كبعض من أشرت إلى أسمائهم رغم أعمالهم العلميّة المميّزة في تقديري، وعادةً ما تحضر هذه الشخصية أو تلك بفعل وجود جمهور أو تيار خلفها، كما نلاحظ مع رموز مدرسة التفكيك خلال العقود الثلاثة الأخيرة.

أمّا اهتمام الحوزتين الأمّ ـ النجف وقم ـ بأعمال الحوزات الأخرى المنتشرة داخل إيران وخارجها، فهو مع الأسف ضعيفٌ جداً، حتى أنّ الكثيرين لا يعرفون شيئاً عن الأعمال الفقهيّة لفقهاء من السعوديّة والبحرين ولبنان، لهذا نجد بعضهم عندما يُصدر فقيهٌ في قم فتوى تتعلّق بالهلال ـ مثلاً ـ يطرحونها على أنّها أوّل فتوى من هذا النوع، وأنّه رأي ابتكاري، في حين كان قد قال بها قبل عقد أو عقدين فقهاء خارج إطار الحوزتين، كما يظهر من مقارنة بعض فتاوى العلامة فضل الله بفتاوى الشيخ فاضل اللنكراني حول مسألة إثبات الهلال وبدايات الشهور، وهذا سببه عدم وجود متابعة جادّة تارةً ونوع من عدم أخذ الآخرين بجديّة تارةً أخرى.

إنّ تعاضد قم والنجف مع سائر الحوزات، دون تعالٍ من هذا أو ذاك، ودون رغبة في السيطرة من هذا أو ذلك، يمكنه أن يعطينا الكثير من النتائج المفيدة والنافعة على الصعد العلميّة والخبرات الميدانيّة معاً، وهذا ما نأمل أن يزداد يوماً بعد يوم إن شاء الله تعالى.

 


ضرورات الاشتغال على محاربة التحيّزات القوميّة ـ ولو غير المقصودة ـ داخل الحوزات العلميّة

وهنا أحبّ أن أركّز على ضرورة أن تشتغل الحوزات العلميّة على محاربة ظاهرة التحيّزات القومية ولو المتوارثة وغير المقصودة عبر تنويع المرجعيّات البحثيّة للطلاب والأساتذة بحيث يطّلعون على مختلف الآراء والمساهمات التي في المركز ـ جغرافياً ـ أو على الهوامش، مع ابتعاد كل طرف عن فكرة أنّني المنتجُ المعرفيّ، وعليَّ أن أصدّر لهم هذه المنتجات؛ فيما عليهم أن يستهلكوا منتجاتي العلميّة والمعرفية؛ لأنّهم قد لا يليقون بإنتاج المعرفة بقدر ما هم لائقون بأن يكونوا مبلّغين ودعاةً لها! وأمثال هذه التصوّرات الكامنة في اللاوعي عند بعض الناس مع الأسف، والتي يلزمنا جميعاً الاشتغال على مواجهتها هنا وهناك بطرقٍ ذكيّة وناجعة.

 


الهاشمي الشاهرودي وفكرة التعاون والتعاضد بين الفقه والقانون

خامساً: محاولته ـ في بعض دروسه على الأقلّ ـ أن يقارب الموضوعات من زوايا قانونيّة، فيستحضر الذهنيّة القانونية، ويحاول أن يبيّئها في الإطار الفقهي. لا أدّعي بأنّ هذه الخاصية كانت واسعة النطاق ـ تطبيقاً ـ عنده، ولكن أزعم بأنّها كانت موجودة إلى درجة معيّنة، وكنّا نلمسها بين الفينة والأخرى، فهو ليس متمحّضاً في زاوية المراكمة الحوزويّة بقدر ما كان أيضاً يحاكي الزاوية القانونية المعاصرة، وكيفيّة مقاربة القانونيّين المعاصرين للموضوعات.

أذكر بأنّه عندما بدأنا في بحث "الشركة" وكان قد انتهى من مباحث المضاربة وأمثالها، تحدّث عن ضرورة أن يخرج الفقه من إطار التقسيم الكلاسيكي النمطي للشركات، إلى الإطار المعاصر، وأعطى مثالاً على ذلك الدكتور عبد الرزاق السنهوري (1971م) في كتابه "الوسيط"، حيث قال بأنّ السنهوري لديه حوالي مائتي صفحة من أحد مجلّدات هذا الكتاب في أنواع الشركات المعاصرة وقوانينها، ونحن غائبون عنها!

صحيح أنّ السيد الهاشمي لم يقم باستحضار السنهوري في أعماله عندما درّس كتاب الشركة، وبقي في إطار ما قدّمه صاحب العروة والمعلّقون والشرّاح على العروة، إلا أنّه على الأقلّ أشار لهذه النقطة في هذا المضمار متنبّهاً لها.

عندما رجع السيد الهاشمي من السلطة القضائيّة، وأعاد فتح درسه في قم، لم أحضر عنده في تلك الفترة، لكنّني أذكر أنّني سألته: لماذا أعطيتم بحث الزكاة عندما رجعتم من تولّي السلطة القضائيّة، ولم تختاروا كتاب القضاء وأنتم الآن لديكم الخبرة العالية في مجال التجربة القضائيّة ويمكنكم تقديم الكثير؟ وكان جوابه في تلك الفترة أنّ السبب في اختيار بحث الزكاة هو عبارة عن أمرين:

أ ـ هجران أو محدوديّة البحث عن فقه الزكاة في الفقه الإمامي، فهناك غياب نسبي لباب الزكاة، والمطلوب منّا إعادة إحيائه، ضمن قراءات فقهيّة جديدة.

ب ـ لم يكن السيد الهاشمي يريد أن يأتي ليقدّم كتاب القضاء بتقسيمٍ جديد وترتيبٍ جديد، والسبب في ذلك ـ حسب قوله ـ هو أنّه يريد أوّلاً أن يثبّت قدميه أكثر في الحوزة، ثمّ بعد ذلك ينتقل إلى موضوعات ذات تقسيم جديد، ومنهجة مختلفة.

هذا النمط من التفكير لعلّني أتجرأ ـ مع احترامي الكامل لسماحته ـ أن لا أوافقه عليه؛ لأنّني أعتقد بأنّ شخصاً مثل السيد الهاشمي عندما رجع إلى قم حدود عام 2010م، كان شخصيّة فقهيّة بارزة من الطراز الأوّل، فهو لا يحتاج إلى تثبيت قدميه في الحوزة، لهذا أعتقد بأنّه كان المطلوب منه أن ينطلق في تقديمه الفقه الذي يؤمن به، دون أن يفكّر بمرحلة تثبيت الوجود، وبسبب هذا النمط من التفكير نحن ـ مع الأسف ـ خسرنا مباحثه في كتاب القضاء الذي كنّا نتوقّع أن يقوم فيه بتقديم إبداعات فقهيّة تتخطّى السياق النمطي، إلى مقاربة قائمة على تجربة هذه المرّة مارسها فقيهٌ عاش داخل التجربة القضائيّة الكبرى لمدّة عشر سنوات في مساحاتها الواسعة.

نعم، مع الأسف هذه الذهنيّة ما تزال موجودة عند بعض الإصلاحيين والتجديديّين في الحوزة، لهذا تضيع المشاريع في زحمة مثل هذه الأفكار، ولهذا عندما أنهى سماحته بحث فقه الزكاة، عاد ودرّس كتاب الحجّ، وهو ما يؤدي إلى تغييب العناصر التجديديّة التي كانت موجودة عنده من خلال تجربة كبيرة.

ولعلّ ما عزّز عند سماحته ـ رحمه الله ـ تفكيراً من هذا النوع هو تجربة سابقة عاشها، فقد قال يوماً بأنّه عندما درّس، في ثمانینیّات القرن الماضي، الفقهَ الجزائي والجنائي (الحدود والقصاص والديات)، قبل تدريسه لفقه الخمس الذي طبع لاحقاً في مجلّدين، أي بداية تدريسه البحث الخارج في مدينة قم بعد انتقاله إليها من النجف، قال بأنّه حاول أن يعتمد تقسيم القانون المعاصر مستفيداً من أعمال شخصيّات قانونية معاصرة، فأعاد ترتيب مباحث الحدود والقصاص تحت إطار العقوبات الجزائية والجنائيّة، لكنّه شعر في حينه أنّه عندما أعاد الترتيب والتنظيم، وقع الطلاب في تيهٍ وحيرة، فهم اعتادوا على مراجعة الكتب الفقهيّة التي لها ترتيبها الخاصّ، كما نراه في كتاب "شرائع الإسلام" للمحقّق الحلي أو "تكملة منهاج الصالحين" للسيد الخوئي، ونتيجة ذلك أنّهم لم يعودوا قادرين على معرفة موضع هذه المسألة أو تلك في الترتيب الكلاسيكي للفقه؛ لأنّ ترتيب السيد الهاشمي كان مختلفاً تماماً، هنا أحسّ السيّد بعدم ارتياح الطلاب فشعر بشيءٍ من الإحباط، الأمر الذي اضطرّه للعودة إلى اعتماد المتون الكلاسيكيّة، ولهذا نجد أنّ "كتاب الخمس" الذي درّسه بعد ذلك، قد اعتمد فيه على متن كتاب "العروة الوثقى" للسيد اليزدي، ولم يقم بتقسيم الخمس ضمن نظام ضريبي مثلاً يعتمد المداخل والمنهجة القائمة في القانون المعاصر، ثم إلى آخر عمره ظلّ يدرّس ـ في الغالب ـ على متن العروة كالمزارعة والمساقاة والشركة والمضاربة.

هذه واحدة من المشاكل التي تواجه الفقهاء الذين يشتغلون على إيجاد تغييرات وتطويرات، إنّهم يصطدمون بسياقٍ محيط وبيئة غير متحمّسة، ومن ثمّ قد تغيب بعض المشاريع في زحمة مثل هذه الأزمات. لكنّني أعتقد بأنّه إذا كانت الظروف السابقة غير مساعدة على تحقيق هذا الهدف، فإنّ الوضع اليوم ربما يكون قد تغيّر جزئيّاً على مستوى البيئة المساعدة، إضافة إلى حاجة الأستاذ إلى القيام بوضع دليل ومرشد للطلاب لكي يتفادوا هذه الفجوة بين المنهجة والتقسيم المعاصر أو الجديد المقترح وبين المنهجة القديمة، بل الأفضل ـ من وجهة نظري ـ أن تتخطّى دروس البحث الخارج المتونَ القائمة بالفعل، ليقوم كلّ أستاذ بمنهجة البحث بطريقته الحديثة الخاصّة التي يرتئيها. وإنّني على المستوى الشخصي في كلّ بحوثي في الفقه والأصول والحديث والرجال، قمتُ بإعادة منهجة وترتيب خاصّين للبحوث، دون الاعتماد على أيّ متن فقهي أو أصولي أو رجالي خاصّ. وللإنصاف فإنّني لم أشعر بما شعر به سماحة السيد، ولعلّ ذلك لبعض العناصر المساعدة، ومنها أنّ شريحة غير قليلة من طلاب الحوزات الدينيّة باتوا مستعدّين لشيءٍ من هذا القبيل ومتحمّسين له.

 


سماتٌ قد يعتبرها بعضهم سلبيّةً في المنهج التربوي ـ التعليمي عند السيد الهاشمي

أمّا عن سلبيات طريقته التعليمية والتدريسيّة، فقد يمكنني الإشارة لبعض الأمور التي قد يعتبرها بعضٌ نقاطاً سلبيّة:

أ ـ لم يكن سماحته ليعطي المجال المطلوب للطلاب لكي يقدّموا مداخلاتهم، وحتى بعد انتهاء الدرس قليلاً ما كان يستجيب لهم بطريقة استيعابيّة، بل كان يختار واحداً أو اثنين، ثم لا يكون المجال كافياً للآخرين كي يقدّموا مداخلاتهم أو يطرحوا أسئلتهم. ولعلّ الفاصل الكبير ما بين خبرته في علوم الفقه والأصول وخبرة طلابه يجعل الكثير من المداخلات ـ بالنسبة إليه ـ بائسة أو ضعيفة؛ ولهذا لم يكن بعض الطلاب ليجرؤ على طرح مداخلته أو تقديم مناقشته، حيث قد يواجهون بطريقة جادّة جداً.

إنّ الأساتذة في الحوزات والجامعات والكليات والمعاهد على تنوّع اختصاصاتها يختلفون فيما بينهم، فقد وجدنا في الحوزة أساتذة كانوا يفتحون صدورهم أكثر للطلاب، وكان الطلاب يندمجون معهم أكثر. لكن ـ كما قلت ـ هذه أمزجة قد يعتبرها بعضٌ منهاجاً تربوياً صارماً للبناء المتين، فيما يراها آخرون نقطة سلبية، لكنّني أعتقد بأنّه كان بإمكان سماحته ـ رحمه الله ـ أن يكون أكثر قرباً من طلابه، وأشدّ احتضاناً.

ب ـ كان عندما يدرّس يتكلّم بسرعة هائلة، وكان الكثير من الطلاب أصلاً لا يستطيعون اللحاق به في أن يكتبوا ما يقول، فحجم الحضور الذهني الذي كان موجوداً عنده يشعرك وكأنّ علم الفقه والأصول مطبوعان في رأسه، لهذا كانت تخرج الكلمات منه بانسيابيّة وسرعة، وكثيراً ما كان الطلاب يسألونه أن يخفّف، فيستجيب لهم ليومٍ أو يومين، ثم يفوته الأمر ويرجع لحالته الأولى، وهذا ما كان يُجهد بعضَ الطلاب، والإجهاد بطبعه قد يفضي إلى حالة من الشعور بالإحباط.

في هذا السياق، يمكن تصنيف الأساتذة إلى صنفين: صنفٌ يستطيع أن يتربّى على يديه علماء، فلديه ملكة تربية العلماء، وصنف ليس كذلك، فقد يكون لديه آلاف الطلاب لكنّه لا يملك الشخصية أو الكاريزما أو الملَكَة التي تجعله ينجح في تربية النخب، وهنا أستطيع أن أقول بأنّ السيد الهاشمي كان وسطاً بين هذين الإثنين، لكن لو أنّه كان أكثر استيعاباً واحتواءً لربما كان يمكنه أن يكتشف في طلابه طاقات كبيرة كامنة فيفجّرها أو يتحرّك بها لتنتج أو لتُعينه في عملية الإنتاج. لكن لا نعرف ظروفه كاملةً لهذا لا نريد تقديم حكم نهائي، وإن كنت أقدر على تقديم توصيف للفعل مجرّداً عن الفاعل والملابسات، فأحكُم على الفعل لا على الفاعل.

ج ـ عدم اشتغاله على إجراء تطوير أو تبسيط للغة الدرس، فضلاً عن تبسيط لغة الفقه والأصول، ويبدو أنّه كانت لديه قناعة، ولهذا أعتبر ذلك نوعاً من اختلاف القناعات والرؤى، وأذكر أنّ أستاذنا الفاضل سماحة الشيخ محمد طحيني العاملي ـ حفظه الله تعالى ورعاه ـ حدّثني، فقال بأنّه عندما كان السيد محمود الهاشمي يكتب تقريرات السيد محمّد باقر الصدر في بحث التعارض، وكان السيّد الصدر يريد أن يطبع الجزء السابع من تقريراته الأصولية، يقول الشيخ طحيني: وقع نقاش بين السيد الهاشمي والسيد الصدر في كيفيّة صياغة مباحث الكتاب، فالصدر كان ميّالاً أكثر إلى تبسيط العبارة، وإخراجها من العُجمة والإغلاق، فيما كان الأستاذ الهاشمي يعارض هذه الفكرة، ويقول بأنّنا إذا بسّطنا كثيراً فإنّ هذا يمكن أن يُتلقّى في الحوزة على أنّه نوعٌ من السطحيّة والضعف العلمي، فيعتبرون البحث نوعاً من الكتابات الثقافيّة العامّة المتداولة في الصحف والمجلات، وليس عملاً حوزويّاً جادّاً. من هنا أعتقد بأنّ السيد الهاشمي كان يحمل هذه الذهنية منذ ريعان شبابه، وظلّت معه، لهذا ظلّ محافظاً على اللغة الحوزويّة النمطيّة في العرض والتبيين، رغم أنّه بسّط في أماكن متعدّدة.

قد يعتبر بعضٌ أنّ هذه نقطة سلبيّة، إذ إنّ شخصيةً تمثل امتداداً لمدرسة محمّد باقر الصدر كان يفترض أن تتحرّك في إطار تبسيط الدراسات الشرعيّة وإيصالها إلى أكبر عدد ممكن من الطلاب، ومن ثمّ المساهمة في تربية عدد كبير من الطلاب من خلال عملية التسهيل والتسييل هذه.

 


من معالم التوجّه الفكري للسيّد الشاهرودي

لكلّ مفكّر أو فقيه توجّهه الفكري الخاصّ، فما هي التوجّهات الفكريّة التي كان يحملها السيد الهاشمي ويؤمن بها ويعمل عليها؟

 

حبّ الله: أعتقد بأنّ توجّهات السيد الهاشمي الفكريّة غير خافية، بل واضحة لدى كثيرين، ولكي نتعرّض لبعضٍ منها يمكن أن أشير للآتي:

أ ـ الإطار الأول الذي يحكم ذهنيّة السيد الهاشمي هو إطار الإسلام الحركي، بمعنى الإسلام الذي يقود الحياة وفق تسمية كتاب السيّد محمّد باقر الصدر، ومن ثمّ فهو يؤمن بالإسلام السياسي الاجتماعي، الإسلام الذي يدير الحياة ويقودها، ويعيش في ثناياها. من هنا انتمى سماحته لخطّ الحركات الجهادية والنضاليّة والتغييريّة، وكان جزءٌ من نشاطه هذا هو تجربته في مواجهة النظام العراقي السابق، وذلك قبل هجرته إلى قم. وهذا هو ما يفسّر لنا تماهي الهاشمي وتفاعله ـ بشكل طبيعي ـ مع مشروع الجمهوريّة الإسلامية في إيران، وانسجامه مع الخطّ الفكري العام لحركة السيد الخميني، تماماً كما كان أستاذه السيد الصدر في هذا المجال.

إذن، أوّل عنصر في توجّهه الفكري أستطيع أن أعتبره هو العنصر السياسي الاجتماعي، الذي يؤمن بأنّ الإسلام يجب أن يكون في معترك الحياة، وأن يعيش بوصفه مشروعاً اجتماعيّاً سياسيّاً، لا مجرد مشروع فردي.

 


ضرائب تتطلّبها عمليّة إخراج الإسلام من الفردية إلى الاجتماع العام

ب ـ اعتقاده العميق بأنّ إخراج الإسلام من الكتب والحياة الفردية ومن الجماعات الصغيرة إلى الجماعة الكبيرة، هو أمرٌ غير ممكن من دون أن ندفع ضريبة، وإحدى هذه الضرائب التي كان دائماً يتكلّم عنها هو أن نضحّي ببعض الأمور التي اعتدنا عليها، وبخاصّة في الفقه؛ لأنّ السيد الهاشمي يحمل ذهنيّة فقهيّة في إدارة التغيير، فهو لا يحمل ذهنيّة صوفيّة عرفانية في إدارة التغيير في الأمة، وهذا واضح جداً بالنسبة لي؛ لأنّ الإطار الذي يحكم تفكيره هو الإطار الفقهي الأصولي، ومن ثمّ فهو ينتمي إلى مدرسة التغيير التي تعتبر الفقه والشريعة أساساً في عمليّات التحوّل الاجتماعي والسياسي، من هنا كان يعتبر أنّ على الفقه أن يستجيب لهذا التحدّي الكبير، والذي هو تحدّي إخراج الإسلام من الانزواء والفرديّة إلى الحياة الاجتماعيّة السياسية. وكان دائماً يقول ـ وقد سمعتُ هذا منه مراراً وبالنصّ شبه الحرفي ـ بأنّ كتاب "تحرير الوسيلة" للسيّد الخميني، بوصفه رسالة عمليّة، لا يكفي لإدارة مجتمعٍ أو حياة، وإذا أردنا أن نطبّقه بهذه الطريقة التي هو عليها، فلن نصل إلى نتائج منشودة، بل يلزم أن تكون الأمور مختلفة.

وما زلت أذكر أيضاً أنّني سمعت منه شخصيّاً يقول بأنّ الشيخ محمد اليزدي (الرئيس الأسبق للسلطة القضائيّة، والذي تولّى مسؤوليتها قبل السيد الهاشمي) عندما تعاطى مع بعض المحاكمات المشهورة التي وقعت في إيران، رفض أن يكون هناك محامٍ ـ أو ما يُسمّى بالفارسية "وكيل" ـ وقال اليزدي بأنّه لا يوجد عندنا في الرسالة العمليّة (تحرير الوسيلة) شيء اسمه المحاماة أو وظيفة المحامي، بل لدينا القاضي والمتهم والشهود والمعطيات والأدلّة لا غير. لقد كان الأستاذ الهاشمي ينتقد هذه الفكرة، ويقول بأنّ هذه الذهنيّة التي تحاول أن تأخذ من الرسالة العمليّة التي صُنّفت ضمن سياق معيّن لأجل إدارة وضع مختلف ضمن سياق آخر، إنّ هذه الذهنيّة ترتكب خطأ كبيراً، وهذا ما يفرض إعادة إنتاج الفقه.

لكن الملاحظ على سماحته هنا أنّنا وجدناه في بعض أعماله يستجيب لهذا التحدّي، وبخاصة في بحوثه الفقهيّة التي نشرت على شكل مقالات، ولاحقاً في كتاب "قراءات فقهيّة معاصرة". لقد كان يطرح هذه القضايا الجديدة، ويحاول مقاربة الموضوعات بذهنيّة مختلفة بعض الشيء، غير أنّ دروسه النمطيّة الحوزويّة ظلّت تحاكي النمط الحوزوي، حتى أنّه عندما أصدر رسالته العمليّة أصدرها بطريقة كلاسيكيّة، دون أن يقوم بإجراء أيّ تغيير. لماذا حدث هذا؟ ولماذا نشعر بهذا التشظّي الجزئي الذي يشبه ما حدث مع أستاذه الصدر عندما نقارن طريقة تفكيره في كتبه الحوزويّة الخالصة مع طريقة مقاربته الأمور في كتب أخرى مثل "اقتصادنا"؟

أعتقد أنّ السبب في ذلك هو السبب عينه الذي قلته قبل قليل في جواب سؤالٍ سابق، وهو الشعور بضرورة أن يكون لنا موطئ قدم أكبر في الحوزة، حتى نقوم بإجراء تغييرات، وربما كان يراهن على تربية جيلٍ حوزوي، يستطيع هذا الجيل أن يقوم بهذه التغييرات تحت عباءة شخصيّات مثل السيد الأستاذ رحمه الله. وهذا أمر مهمّ ينمُّ عن فطنة رغم أنّنا قد نتناقش فيه، ولذلك أسس السيد الهاشمي بعض المؤسّسات البحثيّة التي تهدف ـ فيما تهدف ـ إلى تربية جيل لديه آفاق منفتحة مثل مؤسسة دائرة المعارف، وكان يشتغل في السنوات الأخيرة من حياته على تأسيس "جامعة العدالة" التي تجمع ما بين الفقه والقانون، وليس لديّ معلومات دقيقة إلى أين وصلت هذه الجامعة، لكنّه كان حريصاً على إنتاج شيءٍ من هذا القبيل.

ربما كان سماحته يرى أنّ هذه المشاريع الموازية قد تقدر على الاستجابة لتطلّعاته في إيجاد تحوّلات في الفقه، مع المحافظة في الوقت عينه على النمط الكلاسيكي لشخصيّته بوصفه مرجعيّة دينيّة ومدرّساً كلاسيكيّاً في الحوزة ضمن التغييرات التي أشرنا إليها من قبل.

إذن، أستطيع أن أقول: إنّ السيد الهاشمي يعتبر أنّ حجر الزاوية الأساس في إيجاد عمليّة التغيير الكبرى هو الذهنيّة الشرعية، وذهنيّة مرجع الدين، والذهنيّة الفقهيّة التي تملك خاصيات وصفات معيّنة. ونحن نعرف أنّ هناك من يناقش في أصل اعتبار الفقه أساساً في التحوّل نحو التغيير، حيث يرى بعضٌ أنّ أحد أهم شروط العبور نحو التغيير هو التحرّر من اعتبار الفقه نفسه أساساً ومفتاحاً، وبها نكتشف أنّ السيد الشاهرودي لم يكن مع هذا الفريق إطلاقاً.

 


الهاشمي ومشروع الرسالة العمليّة الجديدة والعصريّة

لكن عليّ هنا أن أشير ـ مستدركِاً ـ لأمرٍ يتعلّق برسالته العمليّة حتى نكون منصفين، فالسيد الهاشمي فكّر بعد إصداره رسالته العمليّة "منهاج الصالحين" بأن تكون له رسالة مميّزة ذات منهجيّة جديدة وبلغة عصريّة، وبخاصّة بعد أن بلغته بعض الاعتراضات من بعض المؤمنين من أنّهم كانوا يتوقّعون من أمثاله أن يواصل طريق السيّد الصدر في تطوير الرسالة العمليّة. وبالفعل فقد كلّفني سماحته ـ وأتشرّف بهذا التكليف ـ أن أشكّل مجموعة من الطلاب مهمّتها جمع المسائل الفقهيّة غير الموجودة في "منهاج الصالحين"، بحيث تكون موجودةً في سائر الرسائل العمليّة أو في الاستفتاءات التي وُجّهت لكبار الفقهاء خلال العقود الأخيرة، وقال بأنّه سوف يقدّم مشروع تصميم ومنهجة للرسالة العمليّة الجديدة، وأنّ المطلوب منّي ـ بمساعدة هذا الفريق ـ أن أقوم بصياغة رسالته العمليّة الجديدة، آخذاً بعين الاعتبار تقسيمه وتبويبه الجديد من جهة أولى، والمسائل الفقهيّة الكثيرة المستحدثة خلال العقود الأخيرة والتي وردت متفرّقةً في الاستفتاءات أو في بعض الرسائل العمليّة من جهة ثانية، بالإضافة إلى لغةٍ عصريّة واضحة وبسيطة من جهة ثالثة، لكن في الوقت نفسه كان مصرّاً على أن لا تكون مستَهلَكة وشعبويّة، تبتعد عن رصانة اللغة الفقهيّة القانونيّة.

وبالفعل فقد شرعنا في ذلك، وتشكّلت مجموعة من الإخوة والأفاضل ـ ومن بينهم أخي الحبيب صاحب الفضيلة الشيخ أحمد أبوزيد العاملي رعاه الله ـ وأرسل لي سماحة السيد الهاشمي تقسيمه الأوّلي الذي يرجّحه. ومع الأسف لم يستمرّ العمل نتيجة بعض الظروف الطارئة، كما أنّني لا أذكر في مقترحه الأوّلي لتقسيم وتبويب الرسالة العمليّة، ما هي عناوين الفصول الأساسيّة للرسالة العملية، لكنّي أذكر ـ ترجيحاً ـ أنّه قسّم الرسالة العمليّة لستّة أقسام. وكنت أتمنّى أن تخرج هذه الرسالة العمليّة بحلّة جميلة للعموم، فربما تكون معيناً لتطوير الرسائل العمليّة في المستقبل.

 


بين السيد الهاشمي والعلامة فضل الله

ج ـ التوجّه الانفتاحي، فالسيّد الأستاذ كان يتطلّع في أعماقه ـ رغم أنّ تربيته حوزويّة نمطيّة ـ إلى الانفتاح الفكري وإلى التطوير والتجديد، وأنا هنا أذكر ـ على سبيل المثال ـ أنّه عندما توفّي المرجع الديني السيد محمّد حسين فضل الله، ولم تكن شخصيات أو جهات في الحوزة متفاعلةً مع إصدار بيانات نعي، سواء في النجف أم قم، في ذلك الوقت سمعتُ منه شخصياً انتقادات حادّة ضدّ الحوزة، وكان يقول بأنّ السيد فضل الله كان يُطلعنا من خلال تصريحاته وخطب الجمعة التي كان يلقيها على مجريات الأحداث في المنطقة والعالم الإسلامي، وأنّه لم يكن يفترض أن يتعاملوا معه بعد رحيله بهذه الطريقة. لقد قال لي صريحاً بأنّ كتاب "فقه الشريعة" ـ وهو الرسالة العمليّة للسيد فضل الله ـ من أفضل الرسائل العمليّة التي كُتبت واستطاعت أن تستجيب لتطوير لغة الرسالة العمليّة، حتى أنّه قال بأنّه يعتبره أفضل ـ من بعض الجهات ـ من كتاب "الفتاوى الواضحة" للسيد الصدر.

وهذا ما يفسّر لي أنّ السيد الهاشمي حاول أن تكون له علاقة مع خطّ السيد فضل الله بعد وفاته؛ لأجل بناء جسر تواصلي مع هذا الخطّ التجديدي، بالرغم أنّه في حياته كان متحفّظاً على بعض أفكار العلامة فضل الله، وعلى الأقلّ كان يتّخذ سبيل العزلة في هذا المضمار. وأنا أشرح هذه المسألة لا بأس أن أشير لما تداوله بعضٌ من أنّني شخصيّاً ساهمت وأقنعتُ السيد الهاشمي بفتح علاقة مع خطّ السيد فضل الله بعد رحيله، وأنّني طلبتُ منه أو أثّرت عليه في منح بعض رموز هذا الخطّ وكالةً مطلقة.. يهمّني أن أؤكّد بأنّ هذا الكلام عارٍ عن الصحّة جملةً وتفصيلاً، فلم أتكلّم معه ضمن هذا السياق لا من قريب ولا من بعيد، بل هي قناعاته الخاصّة التي دفعته لذلك، وربما كان من منطلقاته أيضاً محاولة احتواء هذا الخطّ، والله العالم.

عوداً على بدء، فإنّ الأستاذ الهاشمي مسكون بهاجس التطوير والتجديد، لكنّ هذا التجديد محكوم عنده بإطار عمليّة اجتهادية فقهيّة صارمة، فهو لا يتطلّع إلى تجديد مستهلَك، ولا إلى تجديد يخرج عن إطار قواعد الاجتهاد الجواهري، وهذه نقطة مهمّة جداً لفهم منهجه؛ لأنّنا نرى كثيرين ممّن يتطلّعون إلى التجديد، يخرجون عن قواعد الاجتهاد الجواهري ويعيدون النظر في بُنية الاجتهاد الجواهري نفسه، والسيّد لم يكن من هؤلاء حتماً.

 


الشاهرودي وتطبيق مشروع ولاية الفقيه

برأيك هل نجح السيد الهاشمي في تطبيق ولاية الفقيه وتولّيه المناصب الإداريّة والقانونية كالقضاء ومجلس الخبراء ومجلس صيانة الدستور وغيرها؟

 

حبّ الله: فيما يتعلق بنجاحه في السلطة القضائيّة فإنّني لا أستطيع أن أحكم؛ إذ ليس لي أيّ علاقة بالمؤسّسات الرسميّة، ولم تكن لي أيّ علاقة يوماً بمؤسّسات الدولة، لهذا أجد نفسي عاجزاً عن تقديم جواب دقيق، فلا بدّ من توجيه هذا السؤال للمشتغلين في هذه المؤسّسات أو المتابعين لشؤونها، ليمكنهم إجراء مقارنة بين ما قبل فترة إدارته وبعدها.

لكنّني أذكر أنّه قال لي مرّةً بأنّه عندما كان يقارن ما بين إيران وبريطانيا، وجد أنّ عدد المحامين في إيران كان عبارة عن ـ لا أذكر الرقم بالتحديد، لكنّه على ما أظنّ ـ ألفين أو ثلاثة آلاف، في حين كان يتخطّى في بريطانيا المائة وعشرين ألفاً، وقال بأنّنا اشتغلنا على معالجة هذا الأمر حتى صار لدينا ما يقرب من عشرين ألف محامٍ في إيران.

أمّا تطبيقه لنظام ولاية الفقيه، فإنّني أعتقد بأنّه كان شخصيّة مخلصة لمشروع ولاية الفقيه ويؤمن به بعمق، وكانت هذه هي قراءته الفقهيّة وكان جادّاً في ذلك ومستجيباً عادةً لما يُطلب منه حيث لا إمكانية لأن يرفض، ومن الطبيعي أنّه حيث كان يمكنه أن لا يستجيب ـ حيث لا يكون مقتنعاً ـ ولم يكن في ذلك نوع من العصيان لأوامر الوليّ الفقيه،كان يفعل ذلك، وعلى سبيل المثال أذكر أنّه كان هناك توجّه ليطلب منه بعد نهاية فترة تولّيه السلطة القضائية، أن ينتقل إلى مشهد ليدير الحوزة العلميّة هناك، لكنّه قال لي في حينها: أنا لست راغباً في ذلك، ولست مقتنعاً، والذهاب إلى مشهد يُبعِدُني عن الحوزة العلميّة الأمّ في قم؛ لأنّها تمثل الأطراف وليس المركز، وبالفعل لم يذهب إلى مشهد لكنّه عزّز حضوره هناك وافتتح حسينيّةً وصار يُكثر من التردّد إلى مشهد.

على خطّ آخر معزّز لما أقول، جاء طرح السيد الهاشمي لمرجعيّة السيد علي الخامنئي، وحديثه عن أعلميّته، بعد أن قدّم تعريفاً لمفهوم الأعلميّة تحت عنوان "الأعلميّة المجموعيّة"، رغم أنّه لم يذكره بوضوح في رسالته العمليّة بعد ذلك في حدود اطّلاعي، لكنّه في رسالته العمليّة تحدث عن شرط كفاءة الفقيه لتصدّي الأمور العامّة بوصفه أحد شروط مرجع التقليد، وهذا يعزّز أنّه ينظر لفكرة ولاية الفقيه ويعطي الوليَّ نقطة امتياز على غيره في التقليد، أو على الأقلّ يرجّح الأوّل على الثاني في مورد التساوي.

نعم، أستطيع أن أقول بأنّه كان مخلصاً لنظام ولاية الفقيه ومقتنعاً به ومنسجماً معه، لكن في الوقت عينه ـ وفي لقاءاتنا الخاصّة ـ كان يُبدي ملاحظات على بعض ما كان يجري في الجمهوريّة الإسلامية في إيران. وعلى سبيل المثال، فقد كان مقتنعاً بأنّ الرئيس الإيراني الأسبق السيد محمّد خاتمي كان شخصيّةً صادقة تريد الخير والصلاح لمشروع الجمهوريّة الإسلامية، ولم يكن معادياً أو مشبوهاً حتى يتمّ التعامل معه بهذه الطريقة. كما أنّني لمست منه أنّه لم يكن متفاعلاً مع طريقة التعامل التي تمّت مع الشيخ حسين علي المنتظري. بل كان ينتقد مبالغة بعضهم وتشدّده في الدفاع عن ولاية الفقيه، بحيث يتمّ التعامل مع الذين يختلفون مع الوليّ الفقيه في مسألةٍ هنا أو هناك بطريقةٍ عنيفة.

هذه بعض الأمور التي أذكرها، وفي الحقيقة لم يكن بيني وبينه الكثير من الحديث في المسائل السياسيّة، كما لم أكن متابعاً لتجربته في السلطة القضائيّة، بالمعنى الإداري والداخلي، حتى أستطيع أن أجيب بتوسّعٍ ودقّة.

لكن على المستوى الرؤيوي في العمل القضائي، فإنّ ما نجده لدى سماحته من أفكار يشير لرؤية إيجابية، وقد كنتُ كتبتُ مقالةً حول العدالة والمواطنة عند السيد الهاشمي نُشرت في إحدى المجلات، وقلت هناك ـ بالشواهد من كتب السيد ومحاضراته وكلماته ـ بأنّ الأستاذ الهاشمي كان مؤمناً بحقّ المواطن، وكان يركّز كثيراً على موضوع حقوق الناس، وينتقد ـ وبصراحة ـ طريقة تعامل بعض الأجهزة الأمنيّة مع حقوق المواطنين والمتهمين. والكلّ يعرف أنّه كانت لديه انتقادات على ما يجري في بعض السجون في إيران وقد صرّح بذلك أمام الناس، وكانت لديه أيضاً ملاحظات على كيفيّة التعامل مع الخصوم أو مع بعض التيارات المختلفة في الداخل الإيراني، وكان يرى أنّ هذا التعامل القاسي والعنيف ليس صحيحاً، وأنّ هؤلاء لديهم حقوقٌ لا يمكن التعدّي عليها، وهذا كلّه يوضح لنا أنّه كان يفكّر في هذه القضيّة من منظورٍ حقوقيّ وقضائي.


السيد الهاشمي وحوزة النجف ومرجعيّتها، علاقات مستقرّة أو متوتّرة؟ ولماذا؟

ماذا عن علاقة الهاشمي بحوزة النجف ومرجعيّتها؟ وماذا يقف خلف التوترات الأخيرة بين الطرفين؟ وهل تؤكّد أو تنفي ما يقال عنه من أنّ إيران رشّحته لمرجعيّة النجف بعد السيستاني؟

 

حبّ الله: إنّ علاقة السيد الأستاذ بحوزة النجف هي علاقة عميقة، فالنجف تاريخه وشبابه، ولها عليه أكبر الفضل، بفكرها ومنجزاتها في العلوم الإسلاميّة المختلفة، وبفاعليّة أساتذتها في عصره وقبل ذلك، فمن الغريب أن نتكلّم عن قطيعة بين السيد الهاشمي وحوزة النجف بالمطلق، إنّها جزءٌ من حياته وكيانه وتفكيره وتاريخه، بل هي أيضاً تاريخ حياته مع السيد محمّد باقر الصدر، وما أدراك ما السيد الصدر في قلب وروح وعقل السيد الهاشمي وكثيرٍ من تلامذة الصدر أيضاً، لهذا فبالنسبة لي لا توجد أيّ مشكلة حقيقيّة بين السيد والنجف تماماً كما بينه وبين قم أو مشهد أو غيرها من الحوزات العلميّة.

 


بين الحوزة الرسميّة والحوزة الثوريّة، انشقاق وتباينات في الرؤى والأولويّات

لكنّ القضيّة في تقديري ترجع إلى خلاف بين حوزتين، وسأسمح لنفسي أن أطلق عليهما: الحوزة الرسميّة والحوزة الثوريّة، وهاتان الحوزتان موجودتان في مختلف البلدان، في النجف وقم ومشهد وإصفهان وبيروت والكويت والسعوديّة والبحرين وأفغانستان وغيرها.

ولكي أشرح هذه الفكرة يمكنني القول بأنّه تتقاسم المؤسّسةَ الدينيّة والحوزات العلميّة الشيعية تياراتٌ عدّة، أهمّها وأوسعها نفوذاً وانتشاراً تياران:

أ ـ ما يمكن أن أسمّيه التيار الرسمي، أو الحوزة التقليديّة، أو الحوزة المدرسيّة، ما شئت فعبّر، هذه الحوزة لها نفوذٌ هائل في مدينة النجف بالعراق، كما ولها حضور واسع في مدن: قم ومشهد وإصفهان ومناطق متفرّقة من العالم.

ب ـ الحوزة الثوريّة، وهي التي وقفت وتعاطفت وانتمت وأيّدت الحركة الإسلاميّة منذ الخمسينيات وصولاً إلى اليوم، فكلّ الحوزات والمراكز والشخصيّات والطلاب الذين ينتمون ـ بشكلٍ أو بآخر ـ لخطّ الإسلام الحركي السياسي يمثلون هذه الحوزة، رغم اختلاف أطيافهم. وتعتبر حوزة قم المعقِل الأكبر لهذه الحوزة، فضلاً عن امتدادات لها في مختلف المدن والبلدان.

تقف خلف هاتين الحوزتين انقسامات حادّة وعميقة، ومن السذاجة تبسيطها، ومن أبرز معالم النزاع بينهما تحديد هويّة ومسؤوليّة المؤسّسة الدينية في عصر الغَيبة وفقاً للتقسيم الإمامي للتاريخ الإسلامي، ففي الوقت الذي تعتبر فيه الحوزة الرسميّة أنّ الوظيفة هي حماية الشيعة وتحييدهم وحماية مؤسّسة المرجعية نفسها والكيان الحوزوي والهويّة الظاهريّة للشيعة والمتمثلة بالشعائر والطقوس والتجمّعات، تعتبر الحوزة الثورية أنّ هذا الأمر غير كافٍ، وأنّ المطلوب من الحوزات هو العمل السياسي والاجتماعي على أوسع نطاق؛ لتحقيق الدولة الإسلاميّة وتطبيق الشريعة ونصرة المظلومين ومواجهة المستكبرين.

وفي خضمّ الجدل حول تعريف الحوزة ووظيفتها الحقيقيّة بين التيارين، كان انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران عام 1979م إلى جانب ما أقدم عليه النظام البعثي ضدّ حوزة النجف قبل وبعد بداية الحرب العراقيّة الإيرانية.. كان هذا بمثابة اللحظة التي سُدّدت فيها ضربة قاصمة للحوزة الرسميّة، أدّت إلى انزوائها بشكل كبير جداً، وفقدانها جاذبيّتها، بل فقدانها قدرة المواجهة وحسّ المبادرة، وصار للحوزة الثوريّة نفوذٌ هائل على الشيعة في مختلف أنحاء العالم، ساعدت على ذلك أمورٌ كثيرة لسنا بصددها الآن.

كانت الحوزة الرسميّة تترصّد دائماً للحوزة الثوريّة، بمعنى أنّها كانت ترصد إخفاقات تلك الحوزة كي تسجّل عليها نقاطاً لإثبات صحّة مسلكها الأوّل، وهو الابتعاد عن الحياة السياسيّة والعودة إلى المربّع القديم الذي جرت عليه سيرة الحوزات العلميّة الشيعيّة منذ قرون، لكنّ الحوزة الرسميّة لم تكن لديها في يوم من الأيام ـ كما قلت ـ جرأة التصادم مع الحوزة الثوريّة، وعندما كان يحصل شيء من ذلك كانت الجهود تبذل ـ ما أمكن ـ للملمة الموضوع، وتفادي حصول انشقاق حقيقي علني كبير في الساحة الشيعيّة وبين الجماهير قد تتبعه خسائر فادحة.

لكن مؤخّراً، وبسبب بعض الإخفاقات التي حصلت مع الخطّ الإسلامي السياسي ولا سيما في إيران، ازدادت ثقة الخطّ التقليدي بنفسه وبصوابيّة أفكاره، ليؤكّد أنّ ما قاله منذ البداية من أنّ هذا المسار السياسيّ كلّه، وهذا التحوّل من التشيّع الإمامي للتشيّع الزيدي في مجال العمل السياسي، والذي تمّ إقحام الحوزات العلميّة فيه، كان عبثاً، وأنّ الذي تصوّرتم أنّه رافعة لكم صار بنفسه عبئاً عليكم، الأمر الذي يؤكّد مقولاتنا العقائديّة والعمليّة. كما أنّ الأزمة الطائفية في المنطقة والتي ساعدت الخطّ الثوري في لحظةٍ ما على كسب تعاطفٍ نسبي من الخطّ التقليدي، ساهمت هي نفسها اليوم في تكرار الحديث عن جدوى إقحام الشيعة في الدفاع عن أهل السنّة.

إنّ منسوب التأييد للحوزات التقليديّة آخذٌ ـ في تقديري ـ بالازدياد التدريجي مجدّداً، وعلى الأقلّ تراجع بشكل جدير بالمتابعة خلال العقدين الأخيرين منسوبُ الانتماء للحوزات الثوريّة، يعرف ذلك كلّ متابع لما يجري داخل الحوزة، وبخاصّة في إيران.

هذا العرض الشديد الاختصار، يدفعنا للتفكير في مصير ما أطلقُ عليه "التيار النهضوي في الأمّة"، فبالنسبة لي لا أريد أن أميل لأيّ من الخطّين هنا، ولا أريد أن أؤكّد أو أنفي أو استعجل الزمن لتحديد مصير الحوزة الثوريّة في قادم السنين، لكن ما يهمّني هو الجواب عن السؤال الآتي، والذي يحتاج لعصف ذهني حقيقي بين النخب: هل تراجُعُ الخطّ الثوري في الحوزات سوف يعيدها إلى عصر الانكماش والغرق في الذات المذهبيّة، أو أنّه يمكن أن يكون هناك نشاطٌ موازٍ تقوم به التيارت النهضويّة التجديديّة التي لا تنتمي ـ بالمعنى الدقيق للكلمة ـ لأيٍّ من الخطّين، بل قد يكون لها خصوم فيهما معاً، ويتمكّن هذا النشاط الموازي من حمل راية النهضة العقلانيّة والحيلولة دون العودة للوراء؟ وهل سيساهم من داخل الحوزة التقليدية والثوريّة معاً من يمكنه أن يشارك في صناعة خطاب شيعي ورؤية ورسالة للمستقبل تكون أفضل مما مضى؟ هل يمكن العودة لمثل العلامة شمس الدين ممّن جمع بين التفكير التقليدي الشيعي والرؤية التجديديّة النهضويّة والوعي السياسي الإسلامي دون أن ينتمي للإسلام السياسي بنسخة ولاية الفقيه أو لا؟

لعلّني أطلتُ في شرح ثنائية التقليدي والثوري في الحوزة، لكن من خلال هذا الشرح نفهم الانقسام الفكري الكبير الموجود داخل الحوزة العلميّة، والذي لا أنظر إليه ـ في حدّ نفسه ـ بنظرة سلبيّة، بل أراه إيجابيّاً؛ لأنّه يثري تنوّع التيارات الفكرية في الحوزة، رغم بعض المشاكل هنا وهناك، لكنّه هو الذي يفسّر بعض الجفاف في العلاقة بين بعض المرجعيّات النجفية وأمثال السيد الهاشمي، وهناك تاريخ من بعض التشنّجات هنا وهناك بين خطّ السيد محمد باقر الصدر وبعض المرجعيّات أو بعض الخطوط في الحوزة، وليس هذا محلّ حديثي هنا.

لكنّ التوتر الذي حصل بين الأستاذ الهاشمي وبعض مرجعيّات النجف ظهر بقوّة عقب نشر حوار له باللغة العربيّة في المجلّة التي كنتُ رئيساً لتحريرها آنذاك، وهي مجلّة "الاجتهاد والتجديد"، في العدد السادس ربيع عام 2007م، فقد أشار السيّد لبعض النقد والتعريض بحوزة النجف، الأمر الذي أثار غضباً أو عدم ارتياح لدى كثيرين هناك، وقد جرت اتصالات في حينه لتهدئة الوضع. وحسب معلوماتي فقد رفض السيد الهاشمي إصدار بيان أو توضيح معيّن يخفّف من التوتر، وفي حينه طلب منّي بعض المقرّبين جداً من السيّد وله مسؤوليّة في إدارة مكتبه وشؤونه أن أصدر ـ باسم مجلّة الاجتهاد والتجديد ـ بياناً توضيحيّاً وكأنّه يتضمّن نوعاً من الاعتذار أو لغةً تهدف لفضّ الاشتباك، وأنا قلت له بأنّنا والمجلّة لم نخطأ في شيء، فالحوار موجود بالأصل باللغة الفارسية ومنشور، ولم نقم نحن بإجراء هذا الحوار، فلا موجب لاعتذارنا، بل لا فائدة منه؛ لأنّ المشكلة ليست معنا، ومع ذلك قلت له بأنّه لا مانع لديّ من إصدار بيان توضيحي ـ لو وافق السيد الهاشمي ـ يساهم في رفع الاختلاف بين العلماء، فالله يعلم بأنّه لم يكن قصدنا إيقاع فتنة أو خلاف والعياذ بالله، بل نحن دعاة تقارب.

أمّا فيما يتعلّق بالشقّ الأخير من السؤال، فإنّني لا أستطيع أن أؤكّد أو أنفي؛ إذ ليست لديّ معلومات بهذا الصدد، فشخصيّاً لم أكن مقرّباً من جهازه المرجعي، وإنّما كنتُ أتعامل معه خارج جهازه المرجعي، من خلال دائرة المعارف أو من خلال تلمّذي الشخصي، ولم أنخرط يوماً في مشروع مرجعيّته باستثناء ما أشرتُ إليه من مسألة الرسالة العمليّة الجديدة.

إذن، ليست لديّ معلومات، لكنّني ـ بالتحليل ـ لا أستبعد شيئاً من هذا القبيل، فليس من البعيد إطلاقاً أن تكون الحوزة الموالية للخطّ الحركي المتمثل بالجمهوريّة الإسلاميّة لديها قناعة بأنّه من الجيّد أن يكون لديهم شخصيّة قويّة جداً في النجف، ومن ثمّ يكون لهذا الخطّ، الذي يعتقدون بأنّه الخطّ الصالح، نفوذٌ وحضور في الحوزة النجفيّة، وهذا الحضور ليس حضوراً عسكريّاً إنّما هو حضورٌ فقهيّ علمائي.

 


حقٌّ طبيعي لكبار الفقهاء طرح مرجعيّتهم في الحوزات العلميّة المختلفة

إنّني أعتقد أنّ من حقّ أيّ عالمٍ حقيقي أن يأتي إلى النجف، مهما كانت إنتماءاته الفكريّة، ومن حقّ الآخرين أيضاً أن يكون لهم حضورهم في قم مهما كانت إنتماءاتهم الفكرية، ولا يحقّ لأحد أن يقمع عالماً ـ لا هنا ولا هناك ـ بمجرّد أنّ حوزة النجف تختلف معه، أو لمجرّد أن حوزة قم أو النظام السياسي في إيران يختلف معه، ما دام يتحرّك ضمن إطار العمل الاجتهادي الأكاديمي السلمي. ليس من حقّ أحد مصادرة الحوزة لنفسه وقمع أو إقصاء الآخرين، فهذه الحوزة ملكٌ الجميع وليست ملكاً لهذه الفئة أو تلك، أو لهذه الدولة أو تلك، أو لهذا الحزب أو ذاك، أو لهذه المرجعيّة أو تلك، ومن ثم فيجب التفكير بالمصالح العليا للحوزة لا بالمصالح الفئوية لهذا التيار أو ذاك.

إنّ هذا بنفسه يطالبنا جميعاً بالعمل على استقلال الحوزة العلمية عن أيّ محرّك أو سيطرة خارجيّة. أنا أوافق تماماً على أنّ الحوزة لا يصحّ أن تتملّكها أحزاب أو دول أو جماعات، فضلاً عن أن تحوِّلها إلى قاعدة عمل سياسي أو غيره لها، ولهذا لا أوافق كثيراً على ما آلت إليه أوضاع الحوزة العلميّة في قم على مستوى بعض الجوانب ذات الصلة، كما لا يعجبني أن توزّع بعضُ الأحزاب الدينية السياسيّة مبالغ ماليّة باسمها على بعض الحوزويّين بصفتها مساعدات شهرية أو فصليّة لهم، لكنّ هذا لا يعني أنّ العلماء والباحثين والفقهاء والفضلاء الذين لديهم ميول سياسيّة لا يحقّ لهم أن يتواجدوا في هذه الحوزة ويطرحوا أفكارهم بحريّة أو أن لا يتمّ التعامل معهم بطريقة إيجابية، بل المفترض هو الوصول إلى تفاهمات تحمي استقلاليّة الحوزة من جهة، وفي الوقت عينه حريّة حركة جميع التيارات الفكريّة فيها، فالحوزة صرحٌ علميّ كبير وعريق يفتح يديه لكلّ القراءات الجادّة للإسلام. هذا موضوع يحتاج لمصارحات ومكاشفات وتفاهمات، وليس لخطوات التفافيّة هنا أو هناك.

ليس هناك ما يمنع ـ لو حصل تيارٌ فكري حوزوي على تأييد غالبيّة الحوزويين وفضلائهم ـ أن تكون له اليد الطولى في الحوزة، حتى لو لم تكن الحوزة قد شهدت هيمنة مثل هذا التيار عبر التاريخ لكونها منعزلة عن السياسة، فتاريخ الحوزة بنفسه وأعرافها ليست بما هي هي مقدّسات، بل قد تجاذبت الحوزات تياراتٌ مختلفة عبر التاريخ، مثل الإخبارية والأصوليّة، ومن يملك قوّة الإقناع ويجعل ـ عبرها ـ الأغلبيّة معه، فمن الطبيعي أن يشكّل القوّة الأكبر، لكن لا يُسمح له بقمع أو إقصاء الآخرين.

على هذا الأساس، فإنّ من حقّ السيد الهاشمي أن يكون مرجعيّةً نجفيّة، مهما كانت ميوله الفكريّة، فهو في الحقيقة ابن النجف وخرّيجها، وليس ابن قم أو مشهد أو سوريا، لكنّ المطلوب منه أيضاً أن لا يصادر النجف أو يقدّمها لتيار سياسي بعينه يتحكّم فيها، تماماً كما المطلوب من الآخرين أن لا يصادروا النجف ويقدّموها لتيارهم الفكري أو لمرجعيّتهم الخاصّة مهما كانت كبيرة، وهذا كلّه يحتاج لتفاهمات مبنيّة على توازنات، ولكن مع الأسف هناك في بعض الأحيان غياب للتفاهمات الصريحة والواضحة، الأمر الذي يخلق مشاكل وصدامات أو يخلق أساليب في التعامل ليست هي الأليق بمكانة الحوزة العلميّة هنا وهناك.

إنّ ما يأملُه طالبُ علمٍ دينيّ مثلي هو أن يرتفع مستوى التفاهم بين التيارات المختلفة في الحوزة، ويعلو منسوب التعاون، وتقلّ الحساسيات المتبادلة، وينمو مستوى تفهّم هواجس بعضنا بعضاً، وينخفض الاستغلال السلبي للحوزة والمرجعيّة، ويحافَظ على استقلال الحوزات بوصفها صرحاً علميّاً يقف فوق الاصطفافات السياسيّة والاجتماعيّة، واللهَ نسألُ أن يوفّق القائمين على شؤون الحوزات الدينيّة لذلك، إنّه قريبٌ مجيب.

__________________________

([1]) هذا الحوار تمّ إعداده وإجراؤه بتاريخ 2 ـ 1 ـ 2024م من قبل الأخت الفاضلة هاجر إبراهيم عبد الزهرة فياض من العراق، بهدف أن يكون مرجعاً في رسالتها في الماجستير، في الجامعة المستنصريّة،، كلية التربية، قسم التاريخ (التاريخ الحديث والمعاصر)، وقد حملت الرسالة عنوان: "محمود الهاشمي الشاهرودي، نشاطه السياسي والفكري حتى عام 2018"، وكانت تحت إشراف الأستاذة الدكتورة أمل عباس جبر البحراني.