hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

الحوارات

التشيّع في التاريخ والحاضر / التأسيس، التحوّلات، الصدمات، الطقوس، والمآلات

تاريخ الاعداد: 2/1/2025 تاريخ النشر: 2/1/2025
4260
التحميل

حوار مع د. الشيخ حيدر حبّ الله

أجرى الحوار وأعدّه: الأستاذ حسين علي شامي([1])

 

التشيّع التاريخي الفقهي والتشيّع الاجتماعي الشعبي

هل یمکن التمییز بین تشیّعٍ تاریخي فقهي وتشیّع اجتماعي شعبي؟ وإذا صحّ ذلك، فأيّ سياقاتٍ اجتماعيّة ثقافيّة ساهمت في بلورة التشيّع؟

 

حبّ الله: هذا السؤال واسعٌ نسبياً، لكن أعتقد أنّه يمكن ـ بالتأكيد ـ التمييز بين تشيّعٍ تاريخي فقهي، وتشيّع اجتماعي شعبي، وفقاً للتعبير الذي استخدمتموه. هناك الكثير من السياقات التي شكّلت مكوّنات مرتبطة بالتشيّع، وعلى سبيل المثال، عندما نلاحظ الانقسام الذي وقع بين الزيديّين من جهة، في نهايات القرن الأوّل الهجري وبدایات القرن الثاني الهجري، مروراً بالقرن الثاني الهجري کلّه تقریباً، وعندما نجد الاختلاف الحادّ في وجهات النظر السیاسیّة بین هذه الجماعات وأصحاب الباقرَین ـ سلام الله علیهما ـ ومن جاء بعدهما من الأئمّة، فنحن نجد أنّ هناك نمطين من الإمامة:

إمامة سياسيّة عسكريّة، وهي الإمامة الزيديّة الحسنيّة التي تعتقد بأنّ الإمام هو الذي يخرج بالسيف، وهي القراءة السياسيّة التي قدّمها هؤلاء في إطار المرحلة التي كانت موجودة في الصراع مع الأمويّين والعباسيّين.

وإمامة دينيّة، وهذه هي القراءة الثانية السياسيّة آنذاك، وهي ترى أنّ الوقت ليس وقت مواجهة مع السلطة؛ لأنّ مواجهتها تعني أنّنا سوف نتعرّض للمزيد من الضربات المضعِفة للجماعة الشيعيّة.

وبهذا ظهر في المقلب الأوّل الإمامة السياسية الاجتماعيّة، وعلى المقلب الثاني الإمامة الدينيّة، أو بتعبير أدقّ: مفهوم الولاية، وأدّى ذلك إلى انفصال داخل الشيعة، ما بين الولاية بما لها من معطى ديني، أصّله الإمام الباقر، ثم بعد ذلك الإمام الصادق، والخلافة والسلطة الزمنيّة التي كانت الهدف الأسمى للحركات الزيديّة والنضاليّة، ومن ثمّ صرنا نجد أنّ هناك إمامة سياسية اجتماعية وإمامة دينية معرفيّة؛ لأنّ كلّ شغل الإمام الباقر كان مُركّزاً على بناء الجماعة الدينيّة التي تحمل هويّة منفصلة متكاملة، ولذلك ورد في الرواية التي ينقلها الكليني والعياشي أنّ الشيعة قبل الإمام الباقر لم يكونوا يعرفوا الشريعة، حتّى أنهم لم يكونوا يعرفوا حجّهم وصيامهم وصلاتهم وحلالهم وحرامهم، وأنّ الباقر هو أوّل من علّمهم ذلك.

هذا يعني أنّ الشيعة كانوا مشغولين بالوضع السياسي الذي خلقته أحداث كربلاء، وقبل ذلك أيضاً الظروف التي عاشوها مع الأمويّين، ولم يكن هناك فضاء لتكوين جماعة ذات هويّة "دينيّة" متكاملة. وهنا أؤكّد على كلمة "الهويّة الدينيّة" دون "الهويّة السياسيّة"، ومن هنا بالتحديد جاءت فكرة أنّ الإمامة هي النظام الحافظ للهويّة الدينيّة، وأنّ الإمامة السياسيّة هي فكرة المهدي، ومن ثمّ علينا الانتظار حتى قيام الإمام المهدي. ولهذا بعض الباحثين المعاصرين يعتقدون بأنّ حركة السيد الخميني هي حركة إماميّة لكن بطَعمٍ زيدي.

وعلى أية حال، فإنّ مثل هذه الانقسامات السياسيّة التي عرفها الشيعة، ابتداءً من الكيسانيّة وجماعة المختار الثقفي بعد شهادة الإمام الحسين، مروراً بالزيديّة، ثمّ الانفصال الذي حدث داخل التشيّع، وهو انفصال أعتبرُه سياسيّاً، أدّى إلى ولادة مفهوم الإمامة الاجتماعية السياسيّة المتجوهرة بفكرة الخلافة عند الزيديّة الحسنيين، في مقابل الإمامة الدينيّة الولائية المتجوهرة داخل الإطار الشيعي الاثني عشري؛ ولذلك نجد أنّ الكثير من رموز الصوفيّة فيما بعد، اعتبروا الأئمّة ـ وبخاصّة الإمام الصادق ـ رموزاً لهم، مما يدلّ على أنّ الأئمّة كانت فاعليّتهم في البناء الروحي والديني أكثر من البناء السياسي، وأنّ المشروع السياسي تمّ تأجيله أو ممارسة عمل هادئ ومتواضع على خطّه.

من الطبيعي أنّ هذه القراءة تختلف تماماً عن قراءة الإسلام السياسي الشيعي المعاصر، والتي تعتبر أنّ الأئمّة إلى زمن الإمام العسكري، كان لديهم مشروع سياسي، وأنّهم كانوا يبلورون مشاريع سياسيّة ويهيّئون الجماعات لذلك، وأنّ شغلهم الشاغل كان عبارة عن تكوين حركة إسلاميّة سياسيّة، بينما ما أتكلّم عنه يقع في سياق مختلف تماماً.

إنّ مثل هذه الأشياء لعبت دوراً في تكوين مفهوم الإمامة وإضافة عناصر على هذا المفهوم، مثل مفهوم الانتظار وتكريس مفهوم المهدويّة. إنّني لا أقول بأنّ مفهوم المهدويّة المؤجّلة مفهومٌ شعبي، بل أقول بأنّ تكريس هذا المفهوم وتعاظمه جاء في سياق سياسي تاريخي شعبي، ليكون في مقابل مفهوم "المهديّ الموجود الظاهر" الذي كانت تنحته الزيديّة، لأنّهم كانوا يقولون بأنّ أيّ واحدٍ منّا هو عبارة عن مهدي محتمل إذا قام بالثورة واستوفى الشروط، فالإمامة بنظرهم تكليف وليست تشريفاً. إنّ مثل هذه الأشياء لعبت دوراً بالتأكيد.

مثالٌ آخر من جملة الأمثلة التي أعتقد بأنّها لعبت دوراً في تشكيل هويّة التشيّع، هو عصر الغَيبة الصغرى، ضمن التقسيم الإمامي للغيبة، فقد وقعت انقسامات حادة داخل الوضع الشيعي، ودخل الشيعة فيما يُعرف بعصر الحَيرة، وأرجّح شخصيّاً أنّ المنظومة الهائلة المرتبطة بمفهوم المهدويّة وآخر الزمانيّات تشكّلت بقفزة كبرى ما بين عام مائتين وستّين وعام أربعمائة وخمسين للهجرة، ولذلك كنّا نجد أنّ أعظم الشخصيّات التي كتبت أهمّ الكتب في قضيّة المهدويّة وعاشت في هذا العصر، كالنعماني صاحب كتاب الغيبة، والطوسي صاحب كتاب الغَيبة، والصدوق في أكثر من كتاب من كتبه.. كان هؤلاء جميعاً يركّزون جهودهم على قضيّة الانتظار ووجود المهديّ ووقائع آخر الزمان. لقد تكامل هذا المفهوم أكثر فأكثر في هذه الفترة وأخذ مركزيّةً أكبر. أقصد من هذا كلّه أنّه من الممكن أحياناً أن لا تكون المؤثرات الاجتماعية السياسيّة والمؤشرات الظرفيّة، قد لعبت دوراً في تكوين مفهومٍ ما بالضرورة، لكنّه من الممكن لها أن تكون لعبت دوراً في إعادة إنتاج هذا المفهوم بشكل صار حجمه في المنظومة أكبر بكثير من حجمه الطبيعيّ الأوّل.

إنّ حَدَث الغَيبة كوّنَ فجوةً كلاميّة كبيرة في التشيّع الإمامي، وشكّل انتكاسةً ظرفيّة أيضاً؛ لذلك بذل هؤلاء العلماء ـ رضوان الله عليهم ـ جهوداً هائلة في إعادة تكوين المفهوم وحمايته من الاهتزازات الطارئة، ولهذا وجدنا قضيّة المهدويّة كبيرة جداً مع النعماني والصدوق والطوسي والمفيد لتتجاوز حجمَ حضورها التنظيري الذي كان موجوداً في القرون السابقة.

وإذا أردنا الانتقال من الفترات الأولى إلى فترات لاحقة، فسوف نرى أنّ القرن السابع الهجري شهد دخول المغول إلى بلاد المسلمين، والمعروف عنهم أنّ كان لديهم نوع من التسامح الديني، لهذا ظهرت تيّارات كثيرة في العالم الإسلامي بعد شعور المسلمين بالانهيار التام لبنيتهم السياسيّة والاجتماعيّة والحضاريّة وذهاب الدولة العباسيّة، وكان من أبرز هذه التيارات تلك النازعة للتصوّف والانخراط في الطرق الصوفيّة، وهنا نكتشف في القرن السادس والسابع والثامن ـ أنّ هناك جماعة من علماء الشيعة ـ مثل ورّام بن أبي فراس، وابن طاووس، وعبد الجليل القزويني وغيرهم ـ تبدأ تظهر في مدوّناتهم آثار الصوفيّة وكلمات الجنيد البغدادي وأبي طالب المكي وأبي نصر السرّاج وأمثالهم، وتبدأ ملاحظة أنّ الحمولات الصوفية باتت موجودة داخل التراث الشيعي، الأمر الذي تطوّر فيما بعد في العصر الصفوي وإلى يومنا هذا، وفي المقابل أيضاً نجد أنّ القرنين: السابع والثامن، شكّلا بدايات ظهور سلسلة أسماء الأئمة الاثني عشر في السلاسل الصوفيّة، بعد أن كانت الحال في السابق مقتصرة على الارتباط بالإمام علي وبخاصّة من خلال الحسن البصري وطريقه.

 

تأثير الكيسانيّة في التشيّع

هل من تأثير للكيسانية على التشيّع؟

 

حبّ الله: أعتقد أنّه يوجد تأثير غير قليل، فالكيسانيّة هي أوّل حركة، إذا تجاهلنا السبئيّة ـ وأنا هنا أتكلم كمؤرّخ مذهب، وليس بوصفي متكلّماً ـ أوّل حركة لاهوتيّة، ثيولوجيّة، سياسيّة، شيعيّة حقيقيّة في تاريخ التشيّع. إنّها عبارة عن أطياف، لأنّ ما نشأ منها بعد ذلك كان مجموعة من الحركات المتعدّدة. لكنّ النقطة الأساسية في الكيسانيّة هي هذا التشيّع السياسي، لقد حاولت الكيسانية أن تربط نفسها بالإمام زين العابدين تارةً وبمحمّد ابن الحنفيّة أخرى لتأخذ مزيداً من الشرعيّة، وهناك كلام تاريخي كثير حول دقّة ادّعاء الارتباط هذا، فهو مشكوك جداً.

إنّ فكرة المهدويّة هي الأخرى ظهرت بقوّة مع الكيسانيّة، ولا أقول بأنّها لم تكن موجودة بما هي فكرة في واقع الدين، وإنّما أتكلّم تاريخيّاً فقط، لقد قالت الكيسانيّة بأنّ ابن الحنفية موجود غائب في جبال رضوى، وأنّه المهدي المنتظر الذي سيخرج في آخر الزمان، لهذا نستطيع أن نقول ـ بحسب المؤشرات الموجودة تاريخيّاً وفي كتب الملل والنحل، أو نرجّح على الأقل ـ: إنّ الكيسانية كانت أوّل تنفيذ فاعل للمهدويّة وتداعياتها على الجماعة الشيعيّة. هذا من جهة.

من جهة أخرى، لقد نقلت الكيسانيّة التشيّعَ من ثوب "ما قبل الإمام الحسين" إلى ثوبه السياسي النضالي، بمعنى أنّك لا تجد في زمن الخلفاء الثلاثة الأوائل حركةً شيعيّة ثورية ضدّ الخلفاء، بل على العكس فالمعلومات الموجودة بين أيدينا تشير إلى أنّ العديد من أصحاب الإمام عليّ كانوا عبارة عن قادة جند أو ولاةً في تلك الفترة، بمن في ذلك شخصيّات كبيرة جداً، وهو ما يقرّ به العديد من العلماء الشيعة، بمن فيهم بعض المعاصرين المعروفين بنزعتهم المذهبيّة كالشيخ على الكوراني ـ رحمه الله ـ في دراسته حول الفتوحات الإسلاميّة، ولهذا لا نجد في زمن الإمام علي ثورةً على أحد من قبله أو من قبل أنصاره، بل على العكس فإنّ الآخرين هم الذين ثاروا ضدّه، وهكذا استمرّ الوضع في زمن الإمام الحسن، وأنتم تعرفون أنّه في الوسط السنّي هناك وجهة نظر تتكلّم عن الخلفاء الراشدين الخمسة بإضافة الإمام الحسن، غير أنّها وجهة نظر تمّ تجاهلها بالتدريج ليتحوّل الرقم إلى أربعة، بل وحتى في زمن معاوية، لا نجد أيّ حركة شيعيّة تفكّر بذهنيّة عسكرية ثوريّة أو تسعى للتمرّد أو الرفض. لكنّنا بعد حركة الإمام الحسين رأينا مشهداً آخر مختلفاً تماماً، فقد حملت الكيسانيّة اللواء الثوري، فقلبت التشيّع من تشيّع قادر على التفاهم مع السلطة، بمعنى لا يكون نصيراً لها لكنّه لا بواجهها، إلى تشيّع مناهض السلطة ومحارب لها، وبهذا أخذ التشيّع وجهاً سياسياً نضاليّاً، وسيطرت الكيسانيّة على تفكير قسمٍ كبير من الشيعة. وبالتدريج، اتخذ الخط الكيساني مسارين: مسار التأثير على الغلاة في القرن الثاني الهجري، ومسار التأثير على مجمل الحركات الثوريّة كالزيديّة وأمثالهم، وصولاً إلى ثورة النفس الزكيّة وما بعدها.

إذن لعلّه يمكننا أن نقول ـ دون قطعٍ بل مع ترجيح ـ: إنّ الكيسانية كان لها تأثيرٌ على جبهتين:

أ ـ تأثير ثيولوجي متضمّن في فكرة المهدويّة ذات الحضور القويّ أيضاً في بعض الأفكار المغاليّة التي ظهرت، لكن لا يعني ذلك بالضرورة أنّ الكيسانية حملوا أفكاراً مغالية، لكن هناك مؤشرات معيّنة على شيء من هذا.

ب ـ وتاُثير سياسي.

وهكذا ضخّت الكيسانية في التشيّع هويّة ثيولوجيّة وأخرى سياسيّة ثورية، وبعد ذلك رأينا كيف أنّ الإمام الباقر والإمام الصادق اتخذا مساراً، فيما بقيّة الشيعة أخذوا مساراً آخر، وهكذا وقع الانفصال الحقيقي داخل التشيّع في عصر الإمام الصادق، وصار كلّ فريق مستقلاً عن الثاني، واستمرّ تشيّع الصادق والباقر مع الإمام موسى الكاظم، وهناك صارت انقسامات من نوع آخر كالإسماعيليّة والواقفيّة وغير ذلك.

من هنا، أعتقد بأنّ الكيسانية ـ في النصف الثاني من القرن الأول والنصف الأوّل من القرن الثاني ـ كان لها بالفعل تأثيرٌ بهذا المعنى، لكنّني لا أستطيع أن أبالغ في وصف هذا التأثير، فالتأثير في تكبير مفاهيم أو تصغيرها، والتأثير في صنع هويّات، وكذلك التأثير في حصول انقسامات كان واضحاً من خلال أطياف التفكير الكيساني بالمعنى العام للكلمة.

 

أثر البويهيّين والصفويّين في التشيّع

ما هو أثر البويهيّين والصفويّين في التشيّع؟

 

حبّ الله: أخمّن أنّه من الواضح لكلّ متابعٍ وجود تأثير كبير للبويهيّين والصفويّين في التشيّع، وأوّل تأثير كان التأثير على الهوية الطقوسيّة للتشيّع، والتي عرفنا أوّل قفزة لها في العصر البويهي عقب إعلان معزّ الدولة الديلمي البويهي عام 352هـ عن صيرورة عاشوراء والغدير أيّاماً رسميّة عامّة وعلنيّة، ولحقه بعد ذلك الفاطميّون في مصر والشمال الأفريقي، فالمسيرات التي بدأت تخرج في الشوارع، وإغلاق الطرقات والأسواق، وإعلان الحداد العام، والمظاهر العزائيّة. هذا كلّه شهدناه في العصر البويهي بشكل مُركّز، وكان له تأثير كبير، وبخاصّة أنّ ذلك أدّى ـ إلى جانب عوامل أخر ـ إلى ظهور الفتن المذهبيّة في بغداد، حتى اضطرّ بعض أمراء آل بويه لتعطيل هذه الشعائر في بعض السنوات؛ ضبطاً للوضع ومنعاً للاضطرابات والفتن. ونحن نعرف أنّ هذه الفتن لم تكن بين ثائرين من جهة والدولة من جهة ثانية وإنّما داخل المكوّنات الاجتماعيّة نفسها، حيث تشير بعض المعلومات التاريخية التي ينقلها التنّوخي وابن الجوزي وغيرهما إلى صيرورة قرّاء العزاء الحسيني هدفاً لتصفيات جسديّة من قبل الحنابلة في تلك الفترة، رغم تراجع نفوذهم بالتدريج منذ وفاة المتوكّل ومجيء المنتصر العباسي عام 248هـ للسلطة، ونستطيع رصد وقائع وحوادث الكرخ والرصافة وجولات العنف المتعدّدة التي وقعت أواخر القرن الرابع الهجري بين الشيعة والسنّة، وأدّت إلى الكثير من نبش القبور، وتدمير البيوت وسفك الدماء وقتال شوارع.. ولهذا نحن نشهد في تلك الفترة نموّاً للتطرّف الطائفي المذهبي، وبإمكانك أن تخمّن أنّ نموّ التطرّف الطائفي والمذهبي سيترك أثراً على الاجتهادات، وعلى فهم العلماء من الطرفين؛ لأنهم سوف يفكّرون ضمن البارادايم الطائفي، وسيزداد عندهم إحساس الانتماء الطائفي.

الأمر نفسه حصل في العصر الصفوي، عندما كانت الصراعات على أشدّها بين العثمانيّين والصفويّين، حيث وجدنا ذروة الخصوصيّة المذهبية، ورأينا ظهور التيار الإخباري الذي كان يستبعد العقل، كما الإجماع؛ لأنّ الإجماع سنّي برأيه، ويستبعد ظواهر القرآن ليركّز على مرجعيّة أخبار أهل البيت، إنّ أمثال الشيخ محمد أمين الاسترآبادي لم يوافقوا على الأخذ بظهورات السنّة النبويّة، حتى لو كانت صحيحة الإسناد؛ لأنها ـ عندهم ـ قابلة لأن يعرضها النسخ وأمثال ذلك، ومن ثمّ فالحجيّة فقط لروايات أهل البيت، وأنّه لا يُفهم القرآن إلى من خلال روايات أهل البيت، وكذلك الحديث عن موضوع تحريف القرآن أيضاً عند بعض الإخباريّة وليس جميعهم، وإلا فإنّ الحرّ العاملي لديه رسالة في تواتر القرآن الكريم وعدم تحريفه.

وبناء على ذلك، فنموّ الصراع الطائفي يؤدّي إلى خلق بارادايمات وسياقات اجتماعيّة وثقافيّة، تفرض على المفكّر والعالم والفقيه والمحدّث أن يذهب باتجاهٍ معين، ونحن نعرف أنّه عندما جاء المحقق الكركي في العصر الصفوي إلى إيران، أسّس ـ أو كان ـ في إصفهان، فرقتان: اللعّانون والمدّاحون. وكانوا يخرجون في الشوارع، هؤلاء يلعنون الخلفاء وبعض الصحابة، وهؤلاء يمدحون أهل البيت، لكن فيما بعد وبمجيء العصر النادري ـ نادر الدين شاه ـ وبعده في العصر القاجاري، تراجع اللعّانون، ولم يعودوا ظاهرة علنيّة؛ لأنّ نادر الدين شاه كان عنده توجّه تقريبي، وبقيت ظاهرة المدّاحين إلى يومنا هذا.

إذن، أوّل تأثير للبويهيّين والصفويّين هو رفع مستوى التشيّع الطقوسي؛ لأنّ هذا يعزّز الهويّة بشكل هائل جداً، وثاني تأثير هو خلق فضاء أو بارادايم طائفي يعزّز الانغلاق الداخلي، ويؤدّي إلى التعامل مع النصّ الديني بتأويليّة معيّنة، تسمح له بإنتاج فهم طائفي، ينتُجُ عنه استبعاد الأبعاد المشتركة؛ لذلك نرى مثلاً، لما جئنا إلى العصر الحاضر وخرجت تيارات الإسلام السياسي الشيعي الحديث تتكلّم في مفهوم الأمّة الإسلاميّة، وجدنا كثيراً من المراجعات وتخفيف الحمولات المذهبيّة التي تراكمت بفعل العصر الصفوي.

من تأثيرات الفترة الصفويّة بالخصوص، التقارب بين التشيّع والتصوّف، وبالطبع فهذا الموضوع حسّاس قليلاً؛ لأنّ الصفويّين كانوا يعبّرون في الأصل عن طريقة صوفيّة سنيّة، ومع ذلك هم أعلنوا التشيّع ومارسوا القمع لفرضه في أماكن كثيرة، حتى عُدّ العصر الصفوي ـ تاريخيّاً ـ من العصور التي تراجع فيها التسامح الديني، سواء ضدّ السنة أم اليهود أم الزرادشت وأمثالهم، وعليه فرغم أنّهم طريقة صوفيّة لكنّهم التزموا التشيّع.

انطلاقاً من هذا كلّه أصبح هناك ـ وكما قلتُ في جواب السؤال السابق ـ نوع من التناغم بين التصوّف السنّي والتشيّع، ضمن آليّة معيّنة، وهنا واجه الفقهاء الذين جاؤوا من جبل عامل حركات التصوّف وسعوا إلى قمعها؛ لأنّهم اعتبروها غير ممثلة للقراءة الرسميّة للتشيّع، لكن رغم محاولات الضغط والقمع غير أنّ الطرق الصوفية كانت منتشرة بكثرة ومنذ عصر المغول، بل إنّ تشيّع إيران تكوَّنَ مبنيّاً على الطرق الصوفية، ولهذا وبرغم محاربة الفقهاء للتصوّف في العصر الصفوي وتراجع كثير من نفوذهم وطرقهم وأنماط عملهم، لكن ما حصل عمليّاً هو تسرّب الفكر الصوفي إلى داخل المؤسّسة الدينية، وهذا يؤكّد أنّ هذه الطرق رغم الحرب عليها كانت حاضرة بقوّة في المجتمع تترك تأثيراً، ولهذا وجدنا الشيخ محمد تقي المعروف بالمجلسيّ الأوّل(والد العلامة المجلسي صاحب بحار الأنوار) صوفيّاً، ووجدنا الميول الصوفيّة عند الفيض الكاشاني وغيرهما كثير، وهنا نحن نتكلّم عن فقهاء ومحدّثين، وإلا فخارج هذه الدائرة ثمّة الكثير من الحضور للتصوّف، فصدر الدين الشيرازي وتلامذته وأمثال هؤلاء كانوا يحملون ذهنيّة صوفية.

هذا الذي حصل أثّر على تفسير التشيّع نفسه، لكن كيف؟ إنّ هؤلاء العلماء وكثير من الجماعات التي حملت الفكر الصوفي في العصر الصفوي، اشتغلوا هذه المرّة أكثر على تفسير النصّ الديني؛ إذ أرادوا أن يحقّقوا مصالحةً ما بين التصوّف والتشيّع الرسمي الذي كان يقوده الفقهاء والمحدّثون، فكانت أولى خطواتهم حذف كلمة "التصوف" من قاموسهم؛ لأنّها كلمة لها دلالات سنيّة وسلبيّة ودرويشيّة، فاستبدلوها بكلمة "العرفان". وتجلّت ثاني خظواتهم في إعادة تفسير النصّ الشيعي بما يتناسب مع المقولات الصوفيّة أو عمدة المقولات الصوفيّة التي طرحها ابن عربي من قبل، ولذلك وجدنا صدر الدين الشيرازي يشرح "أصول الكافي" ويفسّر القرآن الكريم (عدّة مجلّدات جمعت تفاسيره لمقاطع من القرآن الكريم)، ولاحظنا أنّ الميرداماد نفسه اشتغل في علوم الحديث، فترك لنا ـ على سبيل المثال ـ كتابه: الرواشح السماويّة، في علم الحديث والدراية، وكذلك كانت للفيض الكاشاني شروحاته على الحديث.

إذن، نحن هنا نلاحظ نفوذ التفكير الصوفي بشكلٍ تدريجي في المدوّنة الحديثيّة والتفسيريّة، بل أصبحنا نجد فقهاء يميلون إلى هذا التفكير حتى يومنا هذا، وغاية الأمر أنّهم لم يعودوا يعتمدوا على نظريّة التصوف السنّي بحرفيّته، لكنّ اللُّب هو نفسه، والنتيجة إنّ العصر الصفوي ترك أثراً كبيراً على التشيّع من هذه الزاوية في تقديري، وأحدث أوّل تحول منذ مدرسة بغداد في العصر البويهي.

هذا، وهناك بالطبع الكثير من الأفكار التي يمكن الحديث عنها، لكنّني لا أريد الإطالة أكثر من ذلك.

 

مبرّرات ابتعاد الأئمّة عن السياسة بعد "صدمة كربلاء"

يَعتبر الإمامُ الحسن ـ بحسب بعض المصادر التاريخيّة والمعاصرة ـ أنّ مسؤوليّة الإصلاح تقع على عاتق الأمّة مجتمعةً، وليس فقط على الإمام. هل هذا يبرّر ابتعاد الأئمّة عن السياسة بعد استشهاد الإمام الحسين أو ما يُعرف بصدمة كربلاء؟ ما هو موقفكم من هذه المسألة؟

 

حبّ الله: في الحقيقة أعتقد أنّ هذا السؤال مهم جداً، لكنّ تخصيص الأمر بالإمام الحسن على أنّه صاحب هذه المقولة غير واضح عندي؛ حيث لا أجد لديه علامة فارقة هنا؛ إذ إنّ الإمام عليّاً أيضاً كانت يسير على المعيار نفسه، فما هو الفرق بين ما فعله الإمام علي وما فعله الإمام الحسن؟!

أعتقد أنّ الأئمّة جميعهم يعتبرون أنّ الإصلاح هو مسؤوليّة الأمّة، وليس فقط مسؤوليّة الإمام، ومن ثمّ فإذا لم تتكاتف يد الأمّة (الأغلبيّة العامّة) مع يد الإمام (النخبة) في عمليّة الإصلاح، فإنّه لن يتحقّق، غير أنّ هذا لا يبرّر للإمام أن لا يعمل على إنهاض الأمة لكي تشتغل على مشروع الإصلاح.

لكنّ السؤال الأساس هنا هو: ما الذي جعل الأئمّة يبتعدون عن السياسة؟ أشرنا سابقاً إلى أنّ الإسلام السياسي الشيعي المعاصر حاول ـ كما نجد على سبيل المثال في كتاب "إنسان بعمر 250 سنة"، للسيد علي الخامنئي ـ حاول أن يقول بأنّ الأئمّة كان شغلهم برمّته سياسيّاً، فكانوا ناشطين في العمل السياسي، وكانوا يخطّطون وينظّمون الخلايا ويهيّئون المجتمع للحظة المناسبة، بل حتى أدعية الإمام زين العابدين هي أيضاً نشاطٌ سياسي بامتياز. إنّ هذه القراءة لديها جمهورها وشواهدها التاريخيّة.

لكنّني أعتقد ـ بعيداً عن رغبتي في عدم تسميتها بصدمة كربلاء ـ أنّه ومنذ زمن الإمام الباقر(114هـ)، اتخذ أئمّة أهل البيت قراراً بتركيز العمل على بناء الجماعة الدينيّة، يائسين من إمكانيّة التغيير السياسي في الأمّة، بل شاعرين بخطورته، وذلك أنّ التغيير السياسي في تلك الأزمنة لم يكن ليحصل إلا بفعل السلاح، وكان استخدام السلاح مع تفاوت موازين القوى بين السلطة والمعارضة، من شأنه تعريض قوى المعارضة وبيئتها الحاضنة لنكسات حادّة.

عزّز هذا كلّه ـ في تقديري الشخصي ـ عدم وجود تفاهم حقيقي بين الأئمّة وكثير من الشيعة، وبخاصّة في الكوفة. إنّ تجارب العلاقة مع المجتمع الكوفي لم تكن تحمل تباشير ايجابيّةً، بل خلقت ـ ومنذ عصر الإمام علي ثمّ الحسن وبعده الحسين ـ إحباطاً، وكوّنت قناعة بأنّ هذه الجماعات التي تمثل جمهور الشيعة الفاعلين، من الصعب بناء مشاريع كبيرة معها بمستوى تشكيل دولة مستقرّة ذات رؤية ومشروع. وما أكّد هذا كلّه أنّ مختلف الحركات الثوريّة التي خرجت في الكوفة أو أطرافها، بدءاً بالتوّابين، وليس انتهاءً بالزيديّة، على امتداد القرن الثاني الهجري، أعطت انطباعاً بأنّ النتائج كانت فاشلة، بل حتى وصولاً إلى ثورة فخ خارج نطاق الكوفة ـ في زمن الإمام الكاظم ـ كان الوضع هو عينه، بحيث ظهر تصوّر في وسط نخبٍ شيعية كثيرة بأنّ هذا كلّه أضعف الشيعة وجرّ إلى المزيد من سفك دماء البيت العلوي والشيعة عموماً، مضافاً لكونه قد تسبّب بانقسامات حادّة داخل البيت الشيعي.

دعني أشبّه المشهد ـ كعادتي ـ بأنّ الأئمّة كانوا يشعرون بأنّ الجماعة الشيعية هي جماعة متشظّية، وتعاني من الكثير من الاختراقات وعدم التناسق والاتساق بينها، وفي وضع مشهدي من هذا النوع يأتي السؤال المتوقّع: على ماذا نريد أن نقوم بمشروع، وقد رأينا عشرات المشاريع السابقة لم تنجح، بل انتهت كلّها إلى خذلان أو خروج جماعات صغيرة، في الوقت الذي كانت الدولة الأمويّة بين عامي 85هـ و 125هـ، قويّة جداً؟! إذاً تقديري الشخصي، أنّ المشكلة المركزيّة لم تكن هي قوّة الدولة الأموية أو العباسيّة فحسب بل أيضاً تشظّي الجماعة الشيعيّة.

دائماً كان يأتي في بالي سؤال، وقد تعرّض له بعض العلماء مثل العلامة المامقاني على ما أذكر في مقدّمات كتابه "تنقيح المقال"، وهو أنّه لماذا لم يؤلّف الأئمة كتباً؟! فمالك ألّف الموطّأ ووصلنا هذا الكتاب، والشافعي ألّف ووصلتنا كتبه، وهكذا، فلماذا لم يؤلّف أحد من الأئمّة كتاباً؟!

ربما يرجع أحد الأسباب إلى هذه النقطة بالذات، وهي أنّ الجماعات الشيعيّة مليئة بالتيارات والفئات الصغيرة الفاسدة، لقد كان مجتمعاً متآكلاً منخوراً فاسداً، وهذا يذكّرنا بخطبة الإمام علي ـ عليه السلام ـ الواردة في "نهج البلاغة" عندما كان يشنّ هجوماً على أصحابه، ويقول لهم بأنّه مستعدّ للمبادلة مع معاوية بإعطائه عشرة من شيعته مقابل واحد من جند معاوية، فأنتم لستم أهلاً للثقة، إنّهم كثيرو الخذلان متشظون، لا يملكون رأياً واحداً، بل يختلفون كلّ مرّة فلا يستقرّ معهم شيء. أعتقد بأنّ هذا لعب دوراً كبيراً جداً في إقصاء العمل السياسي عن أن يكون أولوية أولى ما بعد الإمام الحسين.

الأمر الثاني الذي لعب دوراً هو الضعف الديني عند الجماعة الشيعيّة، فهذه الجماعة ـ كما قلتُ قبل قليل ـ لم تكن تحمل تديّناً واعياً، فكانت هناك ضرورة لبناء تديّنٍ واعٍ عندها. هذا هو الذي عمل عليه الإمامان: الباقر والصادق، وبعدهما أكمله الأئمّة اللاحقون، كلٌّ حسب إمكاناته، فنحن نعلم أنّ الأئمّة الأواخر لم تكن لديهم ظروفٌ مناسبة؛ فإمّا كانوا في السجون أو تحت الإقامة الجبريّة كالإمامين العسكريّين ـ سلام الله تعالى عليهما ـ لكن الظروف كانت مناسبة أكثر للإمام الباقر وصولاً إلى الإمام الرضا.

وعليه، أعتقد أنّ ضعف الجماعة الشيعيّة أن تكون جماعة مستقلّة وناضجة على مستوى المعرفة الدينية والإيمان الديني من جهة، وتشظّيها وكونها منخورة بالفساد على مختلف الصُعد من جهة ثانية، إضافة لقوّة الدولة الحاكمة، ربما ساهم بشكل كبير في جعل إمكانيّة التفكير بنشاطٍ سياسي حقيقيّ بعيداً. وهذا ما يفسّر لنا بعض الروايات الواردة عن الأئمّة والتي تقول بأنّ الخروج والقيام من قبل أيّ من الأئمّة قبل المهدي، سيشابه فرخ طائر خرج من عشّه فسقط على الأرض وانتهى.

هذا جزء من تحليلي الشخصي، لكنّ هذا لا يعني أنّ الأئمّة لم تكن لديهم قناعات سياسيّة أو لم يكونوا ليؤمنوا أساساً بالعمل السياسي، بل إنّ الظروف التاريخيّة لم تكن ظروفاً مؤاتية، والخذلان تلو الخذلان والتشظّي تلو التشظّي كان مؤثر جداً في هذا السياق.

إنّ صراع تلك الفترة بين الجماعات الشيعية فكريّاً يشبه ذلك الخلاف بين مدرستَي السيد روح الله الخميني والنجف، ما يكشف عنه الحوار الشهير الذي جرى بين السيد محسن الحكيم والسيد الخميني؛ فالحكيم لم تكن لديه ثقة كاملة بالشعب أن يخرج، ولم تكن لديه ثقة بأنّنا لو نجحنا سنقدر على الاستمرار، بينما الخميني كانت لديه قناعة من هذا النوع.

 

"صدمة الغَيبة" وتأثيرها على البنى الفكريّة للتشيّع

ما هو تأثير صدمة الغَيبة على البنى الفكريّة للتشيّع؟

 

حبّ الله: إنّ هذه الصدمة كانت إيمانيّة من جهة وكلاميّة عقائديّة من جهةٍ أخرى:

أمّا الصدمة الإيمانية، فبعض الشيعة تركوا التشيّع بسبب هذه الصدمة؛ انطلاقاً من سؤال: أين هو ـ إذاً ـ هذا الإمام الذي يخرج ويسمّى بالمهدي؛ فالمهدي ليس هو الإمام فحسب بل هو الإمام الذي يخرج، لهذا كان كثيرون ـ في بعض الفترات الزمنية من عصر الحضور ـ ينتظرون شخصيّة المهدي في أيّ إمامٍ يمسك زمام الإمامة، لكن لما كانوا يلاحظون أنّه لا يتّجه للخروج، يعتبرون أنّه ليس هو المهدي وأنّ المهديَّ آتٍ بعده، وعندما انتهى الرقم الثاني عشر ثم لم يظهر الإمام بعد شهرٍ وشهرين، وسنة وسنتين، وعقدٍ وعقدين، جاءت الصدمة، وشعر بعضهم بأنّهم كانوا في وهم وأصيبوا بخيبة أمل، ولم تكن لدى كثيرين فكرة أن الغيبة تمتدّ لقرونٍ موجودة، لهذا فقدوا حماستهم الإيمانيّة، وشعروا بالحيرة، ولذلك نجد في اسم الكتاب المنسوب للشيخ الصدوق الأوّل (والد الشيخ الصدوق) "الإمامة والتبصرة من الحيرة" ظهور مفردة الحيرة، نعم، بالفعل فقد وقعت هذه الحيرة.

هذا الواقع المستجدّ على المستوى الإيماني أدّى إلى نوعٍ من الانهيار النفسي لدى بعضهم، وظلّ يزداد يوماً بعد يوم، وفي بعض الروايات في التراث الإمامي نجد ما يشير إلى أنّ الله سبحانه وتعالى كان قد قرّر أن يجعل المهدي يخرج قبل عام ستين للهجرة، فلما استشهد الإمام الحسين، أجّل ذلك إلى زمن الإمام الصادق أو شيء من هذا القبيل، وبعدها حدث شيء في زمن الصادق، فتمّ تأجيل الظهور. ما معنى هذا الكلام؟ إنّه يعني أنّ كلمة "المهدي" لا تعني بالضرورة الإمامَ الثاني عشر، وهذه نقطة مهمة، بل تعني أنّه الإمام الذي يخرج، ومن ثمّ كان تكريس الأئمّة لمفهوم "المهدي" بمعنى أنّنا لن نتحرّك إلا أن يخرج المهدي، فهو المسؤول عن الحركة والخروج وتأسيس دولة العدل الإلهي، والإمام منّا الذي تجدونه قد خرج يكون هو المهدي، هذا يعني أنّ رقم (الثاني عشر) لم يكن موجوداً بهذا الشكل في القرن الأوّل أو نهايات القرن الأوّل وشطراً ـ على الأقلّ ـ من القرن الثاني، بل إنّه بالتدريج بدأت تتشكّل صورة المهدي الذي هو الإمام الثاني عشر، لأنّ الأئمّة بدؤوا يرحلون عن هذه الدنيا واحداً تلو الآخر، ومن ثمّ أخذت تتضيّق الدائرة، فلما انحصرت بالإمام الأخير الذي كان متوقّعاً أن يخرج، اختفى وطالت غيبته، مما أدّى لصدمةٍ نفسية إيمانية روحيّة عند بعضهم.

وأمّا الصدمة الكلاميّة، فكانت ـ في تقديري ـ أكثر نخبويّة وأشدّ تعقيداً، وقد بذل العلماء جهوداً غير عادية لتفاديها وتخطّيها، ومن أبرزهم علماء مدرسة الريّ كالشيخ الصدوق، وعلماء مدرسة بغداد كالسيد المرتضى والشيخ المفيد والشيخ الطوسي. فما هي في الحقيقة المشكلة الكلاميّة؟

المشكلة تقول بأنّ بناءاتنا الاستدلالية على ضرورة وجود الإمام ونصبه من الله، تقوم على أنّ الإمام هو ذلك الذي يبيّن الدين الصحيح ويحقّ الحقّ ويقيم العدل ويُجري الحدود ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وعلى هذه الركيزة جاءت اللبنات الأخرى للمنظومة الكلامية في الإماميّة كالعصمة وغيرها. والسؤال الآن: إذا كان وجود الإمام ضرورة لهذا كلّه أو على الأقل لتحقيق بعضه، فكيف يمكن تفسير غيبته؟! ألم يكن وجوده ضرورة، فكيف صار غيابه ممكناً؟! ونحن نعرف أنّه في فترة غيابه لا يبيّن الدين، ولا يحقّ الحق، ولا يبطل الباطل، ولا يكشف سَفَهَ السفهاء وأخطاء القضاة والفقهاء.

هنا تشكّلت عند بعضهم معضلة كلاميّة، فقد تعوّدنا على أن نبني كلّ أدلّتنا على فاعليّة الإمام لتبرير فلسفة ضرورة وجوده، حتى لو كانت فاعليّةً تبليغية دعوية تعليميّة توجيهيّة إرشاديّة تصحيحيّة، وفي لحظة الغيبة تلاشى هذا كلّه وما حسبناه غير ممكن فقد وقع، هذا يعني أنّ القراءة العقليّة لنظريّة الإمامة كانت تبني نفسها على فرضيّة وجوده وفاعليّته، أمّا الآن فعليها إعادة إنتاج الإمامة في سياقٍ تستطيع المنظومة العقلانيّة فيه استيعاب وهضم وتفسير ظاهرة الغيبة. هذا التحدّي ليس بسيطاً، وأنا أتكلّم هنا بوصفي مؤرّخاً، لا بصفتي باحثاً في علم الكلام.

على هذا الأساس بدأ العلماء ببذل جهودٍ مضاعفة وخرجت أفكار، من نوع من قال بأنّنا لا نستفيد منه في غيبته وليست له أيّ فاعليّة؟! إنّنا نستفيد منه كما تستفيد الناس من الشمس خلف السحاب ولكنّنا لا نشعر، وكانت أيضاً فكرة الولاية التكوينيّة، وأنّه لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها، ومن ثمّ لا بدّ أن يكون موجوداً؛ لأنّه الضامن لبقاء العالم، على قاعدة أنّه هو العلّة الغائيّة للعالم، بل هو العلّة الفاعلية للعالم بعد الله سبحانه الله وتعالى، كما تقول نظريّة الولاية التكوينيّة وفقاً لما يُعرف بواسطة الفيض.

وبناءً عليه، فلدينا صدمة إيمانيّة على مستوى بعض الأفراد، وصدمة عقائديّة. الصدمة الإيمانيّة أدّت إلى بعض التمزّقات في الداخل الشيعي، فيما الصدمة العقائديّة اشتغل العلماء على حلّها من خلال نظام الكلام الجدلي الذي اشتغلوا عليه، وعلى سبيل المثال، إذا راجعنا كتاب "المغني"، للقاضي عبد الجبار المعتزلي، نجد لديه مؤاخذات على موضوع الغَيبة، وعلى موضوع الإمام الثاني عشر عموماً، وهذه المؤاخذات تعبّر عن طبيعة التحدّيات التي كانت تواجه الفكر الإمامي في تلك الفترة بسبب قضية الغيبة، بل وإلى اليوم نلاحظ تكراراً في الإشكاليّات عينها يتداوله بعض السلفيّين في نقدهم للفكر الإمامي.

في تقديري المتواضع، إنّ من نتائج هاتين الصدمتين حدوث تعديل تدريجي في مفهوم الإمامة نفسه، بهدف جعل الإمام ـ رغم غيبته ـ حاضراً فاعلاً، وهذا الأمر اتخذ تارةً بُعداً صوفيّاً عبر نظرية وساطة الفيض وإدارة العالم تكويناً، وأخرى بعداً فاعليّاً في حياة الشيعة اليوميّة بعيداً عن نظرية الفيض، فأنت تلاحظ ـ على سبيل المثال ـ عشرات بل مئات القصص التي ظهرت منذ العصر البويهي إلى يومنا هذا، عن أشخاص ظهر لهم المهدي والتقوا به، هذا السيل من القصص التي تُثبت تدخّل الإمام في حياة الناس وحلّه لبعض معضلاتهم في لحظة انسداد الحلول، هو تعبير آخر عن فكرة فاعليّة الإمام ونشاطه، ومن ثم فمفهوم الغيبة لم يعد يعني تعطيل الإمامة كليّاً، وهذه نقطة مهمّة يحتاجها المتكلّم الإمامي والمؤمن الشيعي معاً.

شكلٌ آخر لهذا التدخّل والفاعليّة، فكرة قاعدة اللطف التي كانت أساساً لتبرير حجيّة الإجماع في أصول الفقه الإمامي على يد الشيخ الطوسي، فماذا فعل الطوسي هنا؟ لقد قال بأنّه إذا اتفق الفقهاء على أمرٍ باطل فلا بدّ للإمام أن يتدخّل لفضّ إجماعهم على الباطل لطفاً منه، وهذا أيضاً يعني أنّ الإمام له فاعليّة، وبهذا نجد أنّ للإمام دوراً ثانياً ـ غير مساعدة بعض الأفراد في حاجاتهم هنا وهناك ـ في توجيه العلماء نحو الحقيقة، أو على الأقلّ الحيلولة دون غرقهم في الباطل، فالإمام بهذا ليس عاطلاً عن العمل تماماً، بل لديه وظائف توجيهيّة.

بل لو تخطّينا ما يعرف بنظريّة الإجماع اللطفي، وذهبنا نحو ما يعرف بنظريّة الإجماع الدخولي التي مال إليها الكثير من علماء الإماميّة في القرون الأولى بعد وقوع الغيبة، والتي تعني أنّه إذا كان العلماء مجمعين على أمرٍ فهذا معناه أنّ الإمام هو أحدهم، فلو كان هناك مخالفٌ في هذا الرأي ولا نعرف اسمه، فاحتمال أن يكون هو الإمام واردٌ، فلا يمكن الأخذ بالإجماع، بخلاف ما لو كان المخالف للرأي السائد محدّداً معروفاً. ماذا يعني هذا الكلام؟ إنّه يستبطن بدرجةٍ ما فاعليّة الإمام وحضور رأيه في أوساط النخبة بطريقةٍ أو بأخرى.

إذن، فالفكر الإمامي اتجه ـ بفعل تحدّيات الغيبة ـ لإثبات أنّ الإمام له حضور فاعلي في الاجتهاد، والتوجيه والإعانة، بل نحن نلاحظ استمرار هذا النمط من التفكير إلى يومنا هذا، وأدبيّات التفكير الديني الإمامي تعبّر بوضوح عن هذا الأمر، فالإمام هو الذي يرعى ويحمي الحوزات العلميّة ويوجّهها، وهو ـ في أدبيّات الفقه السياسي الإسلامي اليوم في إيران ـ هو الذي يحمي الجمهوريّة الإسلاميّة وهي تحت رعايته. هذه الأدبيّات كلّها تدلّ على أنّه فاعل، حتى أنّنا نلاحظ فريقاً من العلماء اليوم يؤمن بأنّ الإمام هو الذي يدير العالم، بمعنى أنّ له خلايا تعمل في التأثير في الاقتصاد العالمي، وكذا في السياسة والعسكر والأمن، فهو متحرّك في جميع أنحاء العالم بخلايا حاضرة.

ماذا يراد من هذا كلّه؟ وماذا يعني هذا؟ إنّه يراد إثبات أو الإحساس بفاعليّة الإمام، ومن ثمّ فنظريّة الإمامة ما زالت سالمة ومحميّة. إنّ هذا كلّه أدّى ـ بتقديري ـ إلى تعاظم نظريّة المهدويّة في العقل الشيعي المعاصر، حتى اقتربت من أن تصبح هي مركز الإمامة، وهذه نقطة مهمّة كثيراً بتقديري، حتى يمكنني القول بأنّ ارتكاز التشيّع اليوم قائم على ثنائيّة (الحسين ـ المهدي)، وبخاصّة عند تيارات الإسلام السياسي، فالإمام حاضرٌ وفكرة الارتباط به حاضرة بقوّة، إنهّ موجود في ساحات الجهاد، وفي ساحات معونة المؤمنين الذين نزلت بهم ضائقة، وهو مُلهِم أهل الحجى والعقول، هذا الناتج اليوم علينا أن لا نستهين به ونحن نحلّل المشهد.

هذا الذي بدأنا نشهد بدايته منذ العصر البويهي بعد ما سمّيتموه بـ "صدمة الغيبة" وكان يتنامى يوماً بعد يوم، لاحظوا مثلاً الرسالة التي نشرها الطبرسي ـ صاحب كتاب الاحتجاج ـ والتي تتكلّم عن الرسالة التي بعثها الإمام المهدي للشيخ المفيد، إقرؤوا هذه الرسالة بتأنٍّ، فماذا تعني؟ إنّها تقول بأنّنا ـ أي الإمام ـ متابعون لوضعكم ونساعدكم ونرعاكم، أي إنّه موجود غائب لكنّه ذو فاعليّة ودور. وبهذا يمكن تلافي المعضل المستجد بعد الغيبة، وترميم نظريّة الإمامة على قاعدة أنّ الغيبة لا تُحدث فجوةً فيها، وربما هذا ما اضطرّ فريقاً لجعل المهدويّة هي المركز، وهذا ـ بمقاربة تاريخيّة ـ لم يحدث دفعة واحدة، وإنّما حدث بالتدريج.

لا أريد أن أقول بأنّ هذه النظريات حلّت المشكلة أو لا؟ وهل هي أساساً صحيحة أو لا؟ وهل الإشكال على نظريّة الإمامة بالغَيبة صحيح أو لا؟ فلا أريد النفي ولا الإثبات هنا، بل أستهدف الرصد التطوّري التاريخي للرؤية الكلاميّة، فلو كان الأوائل يتصوّرون المهدويّة فاعلةً بهذه الطريقة فلا أظنّ أنّهم كانوا سيقعون في الصدمة النفسية الإيمانيّة ولا أعتقد بأنّ المعضلة الكلاميّة كانت ستظهر بهذه القوّة في تلك الفترة لديهم.

 

الحدث التأسيسي للتشيّع

ما هو الحدث التأسيسي للتشيّع؟ هل بإمكان اعتبار عاشوراء بمثابة حدثٍ تأسيسي؟

 

حبّ الله: هذا السؤال يتبع ـ في تقديري ـ تعريفك للتشيّع:

فإن كنتَ تعرّف التشيّع على أنّه ـ إن صح التعبير ـ الحزب العلويّ، فالحدث التأسيسي هو تولّي الإمام عليّ السلطة، فتلك اللحظة هي التي كوّنت بشكل حقيقي تيّاراً ـ وليس أفراداً ـ سياسياً واجتماعيّاً، فالحزب العلوي بهذا المعنى تبلور نتيجة الحروب الداخليّة التي أدّت إلى تكوّن الجماعة وتلاحمها لتتخذ لنفسها هويّة سياسيّة متمايزة، وقبل تولّي الإمام للسلطة كان أنصار عليّ أفراداً لا يعبّرون عن تكوّن خطّ حقيقيّ.

ومرّة أخرى أعيد وأكرّر بأنني لا أتكلّم هنا عن التشيّع الذي في اللوح المحفوظ، فأنا لا أشرح الحدث هنا بطريقة كلاميّة عقائديّة، بل بطريقة تاريخيّة. وإذا شئت فقل: إنّ الحدث التأسيسي للتشيّع من منظار كلامي هو النصوص النبويّة، وعلى رأسها نصّ الغدير، ثمّ وقائع ما بعد سقيفة بني ساعدة، لكن من الزاوية التاريخيّة فإنّني أرجّح أنّ ما حصل في العصر النبويّ وبُعيده لم يكوّن ظاهرة التشيّع بوصفها تياراً في الأمّة، بل بوصفها عقيدة أفراد، ولعلّ هذا ما ترجّحه أيضاً نصوص تخلّي الناس عن عليّ، إلا أربعة أو ثلاثة أو غير ذلك.

أمّا إذا كنت تعرّف التشيّع بأنّه الخطّ العلوي السياسي الثوري المعارض، فالحدث الكربلائي سيكون هو الحدث التأسيسي؛ إذ من الواضح أنّ التشيّع بصفته معارضة حقيقيّة في الأمّة شهد ظهوره الحقيقي والفاعل بعد كربلاء.

وأمّا إذا كنت تقصد من التشيّع الهويّة الدينيّة المذهبيّة المنفصلة في بُنيتها اللاهوتيّة والثقافية عن غيرها (التشيّع الإمامي بالخصوص)، فأعتقد بأنّ الحدث التأسيسي هو الظهور الفعلي للإمام الباقر، ويليه الإمام جعفر الصادق. والقيمة المضافة هنا أنّ هذا الحدث التأسيسي يقدّم تعريفاً جديداً للتشيّع يختلف عن ذاك الذي عُرف مع الكيسانيّة، كما ينفصل عن التشيّع الزيدي الذي كان في تلك الفترة أكثر قرباً من التشيّع السياسي المعارض ـ أعني فترة الإمام محمّد الباقر ـ وهذا الحدث التأسيسي ساهم في تكوّن هوية دينية مذهبيّة منفصلة من جهة عن الغلاة ومتمايزة من جهة ثانية عن الحركات الثوريّة الزيدية الحسنيّة، وعندما نأتي إلى عصر الإمام موسى الكاظم والإمام علي بن موسى الرضا، يقع حدث تأسيسي ثانوي يفصل بين التشيّع التفسيري الفقهي التاريخي والتشيّع الباطني التأويلي الرمزي الذي ظهر مع الإسماعيليّة بعد الإمام الصادق.

 

الموقف من الطقوس والشعائر الحسينيّة

عاشوراء حدثٌ ديني، لكنّها أيضاً ظاهرة ثقافيّة، حيث تتمّ ممارسة العديد من الشعائر والطقوس في هذه المناسبة، ما العوامل التي أنتجت هذه الممارسات؟ وما هو موقفكم من الطقوس والشعائر الحسينيّة والعزاء والمسرحيّة والتطبير؟

 

حبّ الله: هنا سؤالان، نبدأ بالسؤال الأول. أعتقد أنّ من أهمّ العوامل التي أنتجت هذه الممارسات هو تكريس الهويّة. نحن نعرف ـ بطبيعة الحال ـ أنّ ما يُسمّى بالظواهر العاشورائيّة الطقوسية ذات الطابع الجماعي لم يكن له وجود في عصر الأئمّة أنفسهم، فمن الصعب إثبات وجود "ظاهرة"، غير أنّه من الممكن أن يكون قد وقع حدثٌ أو حدثان أو ثلاثة، أمّا وجود ظاهرة طقسيّة جماعية ـ داخل البيوت أو خارجها ـ فليس واضحاً عندي في تلك الفترة، ولكنّ هذا لا يعني ـ فقهيّاً ـ أنّها ليست مستحبّة، فلهذا حديثٌ آخر ومداخل مختلفة تماماً، وإنّما أتكلّم هنا تاريخياً.

لأوّل مرّة نشهد هذه الظاهرة في العصر البويهي في القرنين الرابع والخامس الهجريّين، لتلتئم بما يسمّى بأنظمة الطقوس والشعائر، وتبدأ تتنامى يوماً بعد يوم، وصولاً إلى ذروتها في العصر الصفوي، وإلى يومنا هذا.

أوّل العوامل الفاعلة هو عامل الهوية وإظهار الذات، فكما نعرف أعطى البويهيّون فسحةً للجميع، فخرج الشيعة من مرحلة قمع وحشيّة إلى فترة فيها قدر من التنفّس، وأصبح لكبار علماء الشيعة كرسيٌّ في بغداد، وصار لهم حضور، بل تولّى بعضهم نقابة الطالبيين، وهذا يعني أنّ حالهم اليوم اختلف تماماً، فلا بدّ لهم الآن من إظهار الذات، وهو ما يكون في العادة عبر رمزيّات حسيّة، وبهذا كانت الطقوس العاشورائيّة والحسينيّة تعبيراً فاعلاً في إبراز الذات مقابل الآخر؛ لأنّ الحجّ أو العمرة أو قراءة القرآن أو الصلاة والصوم.. هذه كلّها لا تقدّم لي هذا الغرض، فأنا أريد أن أبرز الذات المذهبيّة، وهو ما لا يكون إلا بما فيه الاختلاف والتمايز، وبهذا تظهر أهميّة زيارة القبور وتتجلّى فكرة الطقوس الحسينيّة.

أعتقد أنّ عامل إظهار الهوية وتكريسها، وتحويلها إلى هويّة جماعيّة، بهدف إرسال رسالة للمحيط بأنّني موجود، وأصبحتُ قويّاً وأنّ مرحلة الخفاء المطلق قد انتهت. هذا كلّه كان حاجة ماسّة في الزمن البويهي الذي أعطى فسحةً للشيعة في هذا الإطار.

أمّا عن موقفي الشخصي، فخلاصته أنّني أعتقد بأنّ الشيء الثابت هو استحباب زيارة الإمام الحسين، واستحباب إحياء قضيّته وإقامة الحزن عليه، والقدر المتيقّن الثابت هو اعتبار شهر محرّم أو النصف الأوّل منه فترة حزن لإحياء الذكرى، أما شهر صفر ـ وكذا زيارة الأربعين بعنوانها ـ وكذلك مطلق مناسبات الولادات والوفيّات، كذكرى وفاة النبيّ وولادة الإمام علي وشهادة الإمام الكاظم ونحو ذلك، هذا كلّه ليس عندنا شيء ثابت فيه، بل الأقرب أنّه لا وجود لهذه المناسبات ـ غير شهادة الإمام الحسين ـ في الشريعة أصلاً، ولم يكن أصحاب الأئمّة ولا الأئمّة أنفسهم في عصورهم يحيون شيئاً من الولادات والوفيات باستثناء عاشوراء الإمام الحسين سلام الله عليه، فضلاً عن اعتبار هذه الأيّام عطلاً رسميّة دينيّة.

وعلى أيّة حال، فالشيء الثابت هو مبدأ الزيارة، وبخاصّة زيارة الإمام الحسين، ومبدأ إحياء مناسبة شهر المحرّم العاشورائيّة بالتعبير عن الحزن والبكاء على ما جرى على الإمام الحسين وأهل بيته واصحابه، أمّا أشكال التعبير عن الحزن ـ غير ما ذكرناه ـ فكلّها بشريّة، ولا يوجد شكلٌ محدّد للتعبير غير الحثّ على مبدأ البكاء. فاللطم والتطبير والمشي على الجمر والزحف وضرب الجسد بالسلاسل والإدماء وغير ذلك كلّها تعابير بشرية، وليست توجيهات دينيّة، ويفترض ـ من ثمّ ـ أن تخضع للأطر والمحدّدات الدينيّة الشرعيّة والأخلاقيّة، لتمييز ما هو محرّم منها وما هو محلّل، وما هو مؤثّر وما ليس كذلك، وما يخدم القضيّة وما يضرّ بها، وهذا يختلف باختلاف تشخيص الفقهاء والشخصيّات الدينية لطبيعة هذه الطريقة في الإحياء أو تلك.

 

جبل عامل في القرن العشرين والشعائر بين التأييد والنقد

مع بداية القرن العشرين، شهد جبل عامل حركة تأطير شعائري، ما هو موقفكم منها؟ وكيف تنظرون إلى آراء السيد محسن الأمين في هذا السياق؟

 

حبّ الله: أعتقد ـ بظنٍّ قويّ ـ أنّ هذه الحركة الشعائريّة في جبل عامل جاءت في سياق نهاية الدولة العثمانيّة، شبه ما حدث في العصر البويهي، ومن ثمّ فمن الطبيعي أن يظهر الشيعة في تلك الفترة ويُظهروا أنفسهم كما قلتُ قبل قليل، فالشعائريّة الطقوسية الخاصّة بالمذهب الشيعي تبرز في فعل الزيارة ومناسبة شهر محرّم، وبالتالي كان حدثاً طبيعيّاً أن تحدث لديهم مظاهر شعائريّة خاصّة بهم عقب زوال الدولة العثمانيّة.

أمّا فيما يتعلّق بآراء السيد محسن الأمين، فإنّني أوافقه تماماً على أنّه لا بدّ أن يكون لدينا طريقة متناسبة مع العصر، تختلف باختلاف المناطق وثقافات الشعوب، فهذه كلّها تعابير عن الحزن، ولكلّ إنسان أن يعبّر عن الحزن بطريقته، كما ولكلّ جماعة أن تعبّر عنه وعن التفاعل العاطفي بطريقتها، لكن من الضروري توجيه طرائق التعبير بما يتناسب مع مقاصد الشريعة وأهداف الحدث وأخلاقيّات الدين.

نقطة اختلافي مع العلامة الأمين هي في استخدام سلطة الإفتاء آنذاك لردع الناس عن بعض التعابير والأساليب الإحيائيّة، فضلاً عن استخدام سلطة الدولة كما حدث في إيران بعد فتوى السيد علي الخامنئي في تسعينيات القرن الماضي، فلست ضدّ مبدأ استخدام الفتوى هنا إذا وصل الفقيه لقناعة معيّنة اجتهاديّة، لكنّني أعتبر أنّ سلطة الفتوى ـ فضلاً عن سلطة الدولة ـ لا بدّ أن تسبقها وتواكبها حركة توعية شاملة. من الضروري نشر الوعي، بماذا؟ بأنّ هذه الطقوس بشريّة، وليس لها أصل محدّد في الدين، فالإحياء مطلوب أمّا شكله ونمطه، فهذا أمرٌ يختلف من شعب إلى آخر، ومن زمن لآخر، ولا توجد مقدّسات في هذا الأمر.

انطلاقاً من هذا كلّه، فأنا مع السيد محسن الأمين بالتأكيد على مستوى خطّ عملية إصلاح الشعائر وتشذيبها وتهذيبها، على أن يكون المبدأ في ذلك هو أن تشتغل النخب كلّها على نشر الوعي بهويّة الشعائر وبكونها رهينة للقيم والمقاصد الدينية وليست متحرّرة منها، وعدم الاقتصار على استخدام سلطة الفتوى، وبخاصّة عندما لا يملك المفتي سلطةً شاملة عامّة على الشيعة في العالم، والنقطة المهمّة في نشر الوعي هنا هو تنشيط الإحساس بالتحذّر من البدعة في الدين، ومع الأسف فهذا الإحساس ليس منشَّطاً بما فيه الكفاية في الوسط الشيعي، وأعني به هنا التركيز على أنّ أيّ نمط شعائري نختلقه ـ بوصفنا جماعة أو جيلاً ـ يجب أن لا يختلط بالدين، ولا تخلع عليه صفة أو صبغة دينية، فدائماً علينا توعية الناس بأنّ هذا الشكل من التعبير أو ذاك، إذا أردتم أن تعبّروا به عن حزنكم فهذا شأنكم، لكن غير مسموح لكم أن تُلصقوه بالدين، حدّدوا هويّته وأنّه مجرّد تطبيق بشري لمفهوم ديني، فالمفهوم الديني هو إحياء هذه الذكرى بالعِبرة والعَبرة والحزن والبكاء، أمّا كيفية التطبيق فهذا شأن بشري، ومن ثمّ فكلّ من يخالفك في هذا التطبيق البشري أو ذاك لا يُعتبر معادياً للقضيّة أو للدين، فالتمييز بين ما هو بشريّ في الشعائر وما هو إلهي هو أمرٌ في غاية الأهميّة، وهذه أيضاً من وظائف الفقهاء يوضحوا للناس ما هو بشري وما هو غير بشري، وأن لا يخلطوا بين العناوين الأوليّة والثانوية.

هذا الموضوع قد يجرّ إلى نقاش واسع في المجتمع، يضاف إلى النقاش الفقهي، ومن ثمّ يدخل المجتمع كلّه في دائرة من النقاش، تحت شعار: اي طريقة بشريّة هي التي تناسب مجتمعي فتحقق الهدف المطلوب وتفعل فعل التأثير؟ فقد تكون هذه الطريقة لها شكل في باكستان، ولها شكل آخر في لبنان، مع الانتباه ـ أيضاً ـ إلى أنّ العالم أصبح اليوم قريةً واحدة ولم نعد منعزلين، بل نحن بمرأى ومسمع البشريّة كلّها.

والنتيجة أنّني لا أتحمّس كثيراً للاقتصار على إصدار فتاوى بهذا الموضوع، بقدر ما أتحمّس لإصدار توجيهات ونشر الوعي، وبعد فترة من نشر الوعي وعندما يصبح المجتمع مؤهّلاً أكثر لتحمّل الفتوى يمكن للمرجعيات الدينيّة العليا ـ ولو بعضها ـ التوافق على إصدار فتاوى من هذا النوع. أمّا هل نحن اليوم في مرحلة إصدار الفتوى بعد أن قلنا بأنّ مرحلة السيد محسن الأمين لم تكن مناسبةً للفتوى؟ هذا سؤال يحتاج لتأمّل كبير، وأعتقد بأنّ الأمر فيه الكثير من التعقيدات الميدانيّة التي يجب أخذها بعين الاعتبار، مع العلم والوعي الكامل بأنّ إصدار فتاوى سوف يؤدّي إلى خسارة المفتين بعضَ نفوذهم الاجتماعي، وإن كنت أرجّح ـ ولا أجزم ـ أنّ المرجعيات الدينيّة اليوم صار الوقت مناسباً لها لإصدار فتاوى فيما تراه محرّماً من طرائق الإحياء؛ لأنّ البيئة الحاضنة لمثل هذه الفتاوى لم تعد صغيرة، ومستوى الوعي ارتفع بشكلٍ كبير عمّا كانت الحال عليه قبل عقود.

 

صورة "المهديّ" في طقوس عاشوراء وإعادة إنتاج الوعي السياسي الديني

كيف تنعكس صورة الإمام في كلّ أبعادها ومفهوم المهدي في طقوس عاشوراء؟ وكيف تساهم هذه الطقوس بدورها في إعادة إنتاج الوعي السياسي والديني عند الشيعة؟

 

حبّ الله: طقوس عاشوراء كلّها عبارة عن حضور مفهوم الإمام بوصفه الإنسان المطلق؛ لأنّه يحمل دائماً في التصوّر الإمامي إطلاقاً في التقوى والعصمة والعلم وحُسن الإدارة السياسيّة والدينية والاجتماعية، فالإمام حاضرٌ دائماً.

أمّا مفهوم المهدي، فغالباً ما نجده حضوره في الطقوس العاشورائيّة من زاوية الثأر، فموضوعة الثأر تمثل الجسر الذي يربط مفهوم المهدي بمفهوم عاشوراء وبمفهوم الإمام في عاشوراء. طبعاً هنا كلام كثير يتطلّب من الباحثين الجادّين أن يطرقوه بطريقة علميّة دقيقة، وهو مفهوم الثأر في الثقافة الشيعيّة، فما معنى الثأر هنا في علاقة الربط بين المهدي والحسين؟ ولماذا استخدام تعبير الثأر بالتحديد في النصوص والتاريخ؟ وما هي دلالاته؟ وكيف يمكن فهم هذا الموضوع بطريقة عقلانيّة؟ لا أريد أن أدخل هنا في بحث كلامي وحديثي، لكن على أيّة حال فالعلاقة مع المهدي والحسين في عاشوراء هي علاقة الثأر.

إلى جانب ذلك، فإنّ الحسين عنوانه عنوان المطلق في الفضائل، وهذا أمر مهمّ جداً، بمعنى أنّه وأصحابه رمز الفضيلة في الجهاد، والتضحية، والشجاعة، والإباء، والشهامة، والدفاع عن الشرف والعرض، ونكران الذات، والوعي السياسي وغير ذلك. هذا كلّه يعني أنّ الحسين وكربلاء عبارة عن مجموعة قصصيّة رائعة على مستوى القيم الإخلاقية.

لا أريد أن أقف كثيراً عند الموضوع الأوّل، وأودّ أكثر الحديث عن كيفيّة مساهمة الطقوس بإعادة إنتاج الوعي السياسي والفاعلية السياسيّة والجهاديّة. أعتقد أنّ هذه الأمر يحمل أهميّة فائقة، فهذه الطقوس، وإلى ما قبل سبعين سنة تقريباً، من النادر أن تجد من وظّفها بين الشيعة الإماميّة منذ عصر الغيبة إلى اليوم، في إنشاء وعي سياسي أو حركيّة سياسيّة، أعني بشكلٍ أدقّ وعي سياسي ثوري، فعادة هذه المجالس كانت تعطي وعياً ثورياً مطلقاً للإنسان، لكنّها لم تكن تعطي وعياً ثوريّاً زمنيّاً، فهي كانت تقول له: إنّ الحسين هو عنوان المواجهة مع الظلم والاضطهاد، لكن لم تقل له يوماً: إذهب ووظّف هذا المخزون الحسيني في حياتك اليوم. إنّ هذا ما شهدناه فقط في العصر الحديث، ففي القرن العشرين بدأنا نشهد هذه الفكرة، أي حضور التجربة العاشورائيّة والحسينيّة في الحياة السياسيّة، وبدأنا نلاحظ الربط بين مفهوم الجهاد ومفهوم الحسين.

لقد بدأنا بالفعل نشهد تكوّن علاقة بين الحسين وإنتاج المشروعيّة الفقهيّة للثورات، إلى حدّ أنّ المراقب يلاحظ أنّ تعبير "ثورة الإمام الحسين" لم يكن له وجود قبل القرن العشرين في الأدبيات الشيعيّة، فلم يستخدم هذا التعبير أحدٌ أصلاً، بل التعابير التي تمثل أدب الطف وعاشوراء كانت تعابير الحزن والعَبرة والأشجان ونحوها. لقد تعرّضت لهذا الأمر بالتفصيل في كتابي "فقه الحرب والسلم في الشريعة الإسلاميّة" ورصدت العلاقة بين كربلاء الحسين والشرعنة الفقهيّة لموضوع الثورات على الأنظمة اليوم.

إنّني أعتقد بأنّ الإسلام السياسي ـ الثوري هو الذي أنتج أو اكتشف هذه العلاقة، فقد نجح في توظيف عاشوراء في المشروع السياسي الإسلامي، بحيث ـ وكما تقول الباحثة البريطانية كارين أرمسترونغ في كتابها "حقول الدم" ـ إنّ السيد موسى الصدر أخرج الشيعة من تحت مظلّة الإمام جعفر الصادق إلى مظلّة الإمام الحسين، فحوّلهم إلى حركة وجهاد ونضال وخروج. هذا البارادايم الجديد هو ما نجده في العراق مع السيد محمد باقر الصدر ونجده في إيران مع السيد روح الله الخميني، وهو تحوّل مهم جداً، وبهذا نجح الإسلام السياسي المعاصر كثيراً في توظيف الحركة الحسينيّة، وأنا بصدق أنحني لهذا الإبداع الذي قاموا به ـ بصرف النظر عن كوني أوافقه أو لا أوافقه ـ ولهذا النجاح الباهر، فليس سهلاً أن تحوّل قضيّة الحسين التي كانت ـ ولمئات السنين ـ مجرّد مناسبة دينيّة يجتمع فيها الناس فيبكون ثم يتفرّقون، ولو سمعوا مفهوم الوقوف ضدّ الظلم فيها لا يقومون بترجمته على أرض واقعهم، وحتى لو قاموا ضدّ الظلم فلا يكون مفهوم الحسين حاضراً عند قيامهم على مستوى الوعي، هذا الوضع ظلّ موجوداً حتى في العصر الصفوي.. نعم ليس سهلاً أن تحوّل قضّيّة الحسين إلى فاعل ومؤثر سياسيّ ثوري؛ بجعلها بمثابة جرعة كافية للنشاط الثوري وللصبر والنضال والتضحية والقدرة على التحمّل وعدم انتظار النتائج في حياتك.

هذه المفاهيم برمّتها قدّمتها الحركة الإسلاميّة فبنت علاقة وطيدة فاعلة بين عاشوراء والطقوس من جهة والحياة السياسية اليومية من جهة ثانية.

وإذا تخطّينا الجانب السياسي وأخذنا الجانب الديني، فنحن نجد أهميّة كبيرة لطقوس عاشوراء، وأهمّها حفظ الجماعة، فاليوم تساهم هذه الطقوس ـ على سبيل المثال ـ في جذب شريحة واسعة من الشباب إليها بدل ذهابهم إلى أماكن الفسق والفجور، ليعبّروا بطريقة مناسبة أو غير مناسبة عن إنتماءهم، بما يحفظ لهم درجة هويّتهم، وبخاصّة المسلمون الشيعة الذين يعيشون في الغرب، فإنّ مثل هذه المناسبات ـ كسائر المناسبات الدينية ـ تمثّل بالنسبة إليهم نوعاً من حفظ الهويّة بالدرجة الأولى، حتى لو لم تمثل نوعاً من حفظ التديّن بالمعنى الحقيقي للكلمة.

 

الشيعة بين مفهوم الجماعة ومفهوم الأمّة

هل تعتقد أنّ الشيعة يعتبرون أنفسهم جماعة بينما السنّة يعتبرون أنفسهم أمّة؟ إذا صحّ هذا الأمر، فأيّ أثر يترك عند الطائفتين؟

 

حبّ الله: من المناسب جداً هنا تقسيم الشيعة تاريخيّاً إلى شيعة ما قبل حركة الإسلام السياسي في القرن العشرين وما بعدها؛ فما قبل حركات الإسلام السياسي يبدو لي هذا التصنيف منطقيّاً، فالشيعة لطالما اعتبروا أنفسهم جماعة، بمعنى أنّهم لم يشعروا بالانتماء للأمّة بحيث يكونون قابلين للاندماج فيها، بل في الأساس يمكنني القول بأنّ البناء الكلامي والفقهي الشيعي ـ وربما الوقت لا يسمح لي كثيراً بالولوج بعمق في الحديث عن التكوين الكلامني والفقهي عند الشيعة الإماميّة ـ يؤكّد أنّ الشيعة كانوا يعتبرون أنفسهم جماعة، لا أمّة. وبتقديري فإنّ هذا الأمر طبيعي جداً؛ لأنهم أقليّة، بل الشيعة الإماميّة بالخصوص كانوا في الماضي أقليّة ضمن أقليّة، ففي القرون الخمسة الهجريّة الأولى كانت الأكثريّة الشيعية من غير الإماميّة، أعني من الزيديّة والإسماعيليّة و..

لاحظ على سبيل المثال بعض الشواهد في المنظومة الفقهيّة، والتي تؤكّد أنّ الشيعة لا يشعرون بالانتماء لمفهوم الأمّة الكبير، ويفضّلون عزلة الجماعة الصغيرة، فغير الإمامي لا يُصلّى خلفه، ولا يؤخذ بشهادته في المحكمة، ولا يُؤخذ ديننا منه، ولا يكون قاضياً، ولا مفتياً، ولا يصحّ تغسيله للميّت الشيعي، وتجوز غيبته وبهتانه ولعنه، وغير ذلك كثير، هذا كلّه يؤكّد أنّ الشيعة الإماميّة كانوا يفضّلون عيش مفهوم الجماعة الصغيرة حمايةً لهويّتهم وكينونتهم، وعدم الإحساس بالانتماء الحقيقي الفاعل لمفهوم الأمّة، فضلاً عن أن يشعروا بأنّهم أمّة.

في هذا الفضاء الفكري والثقافي، قد لا يكون هناك مانع من فتح علاقات طيّبة مع السنّة وسائر المذاهب الإسلاميّة، لكن فلنلاحظ السبب الحقيقي الكامن وراء فتح علاقات مع "الأمّة"، إنّه ليس الاندماج بهذه الأمّة المسلمة، بل عادةً هو الخوف على الشيعة، فالعلاقات الطيبة مع المحيط هدفها تأمين حماية الوجود، فهي نشاط سياسي لا يهدف لبناء قوّة الأمّة المسلمة وتكوين وحدتها، بل يهدف لحماية الجماعة من تعدّيات هذه الأمّة عليها أو تحقيق استمالتها، وهذا معنى تقية الخوف تارةً والتقية المداراتيّة تارة أخرى، أرجو الانتباه جيّداً هنا، فعلاقاتك الطيبة بالمحيط ليس سببها حرصك على مفهوم "الأمّة"، وإنّما حماية الجماعة الصغيرة، فالروح التي تحكمك في هذه العلاقات هي روح "الأقليّة"؛ وهذا يؤكّد أنّ الشيعة كانوا مسكونين دوماً بثقافة الجماعة، ولم يكونوا ليقدروا في ذلك الفضاء على التفكير بروح الأمّة ما داموا أقليّة مهدّدة دوماً.

صحيح أنّ المنظومة الكلاميّة والفقهية الإمامية تكرّس مفهوم الجماعة في مقابل مفهوم الأمّة، لكنّني أعتقد بأنّ أحد أهمّ الأسباب لذلك هو السبب الظرفي والتاريخي، فأن تطلب من الأقليّة أن تفكر بروح الأمّة في الوقت الذي تشعر فيه دوماً بأنّها مهدّدة في وجودها، ومنبوذة في حياتها الاجتماعيّة، وتتعرّض بين الفينة والأخرى للقمع والتنكيل ومصادرة الحقوق وسلب حريّاتها في التعبير عن ذاتها، وغير ذلك من الجرائم التي كانت ترتكب بحقّها.. هذا الطلب غير موضوعي في لحظة زمنيّة معيّنة، وعلينا تفهّم بروز روح الجماعة عند هذه الأقليّة أكثر من روح الأمّة.

لا بأس بهذه المناسبة أن أشير ـ استطراداً ـ لأمر، وهو هل في القرون الهجريّة الأولى كان يوجد شيء اسمه أهل السنّة في مقابل الشيعة؟ بمعنى هل هذا التقسيم صحيح؟ أو أنّ هذه الكلمة (أهل السنّة) ومن ثمّ هذا التقسيم إلى سنّة وغير سنّة، وأنّ السنّة هم كلّ من هو غير شيعي ولا معتزلي ولا خارجي.. هذه الكلمة جاءت لاحقاً، إذ قد يقال ـ كما أظنّ بأنّ الباحث موشَك أساتريان يتبنّى ذلك ـ بأنّ المسلمين كانوا عبارة عن جماعات في عرض بعضهم بعضاً، شيعة وماتريديّة وأشاعرة ومعتزلة وإباضيّة..، ثم لاحقاً جاء من صاغ فكرة "أهل السنّة والجماعة"، وإلا فالجماعة كانت عبارة عن سلطة الدولة، لا أكثر ولا أقلّ، وأنّ استخدام هذا المصطلح له دوافعه السياسيّة للإيحاء بأنّ الآخرين هم جماعات شاذّة خارجة عن جماعة المسلمين، على طريقة بعض أبناء المذاهب الذي عندما يعدّدون آراء المذاهب الأخرى في مسألة معيّنة يقولون: قالت المعتزلة، وقالت الشيعة، وقالت الأشاعرة، ثم إذا أرادوا الحديث عن رأي مذهبهم قالوا: وقال المسلمون!

إذن، تصوّري هو أنّه قبل ظهور الحركة الإسلاميّة في القرن العشرين، كان الشيعة يتصوّرون أنفسهم جماعةً صغيرة، ويفكّرون بذهنيّة حفظ الأقليّة، ويتحرّكون ضمن إطار "السياسة المطْلَبِيَّة"، أي تأمين مطالب الجماعة فقط، ويعتبرون أنّ المسلمين هم عبارة عن أكثريّة، لذلك يكون هناك خاصّة وعامّة، وحتى هذا التعبير (الخاصّة والعامّة) يعطيك انطباعاً ما، فعندما تقوم بتحليله اليوم فهو يعطيك أنّ كلمة "الخاصّة" في الثقافة القديمة تعني الجماعات الصغيرة، فيما العامة هم الجمهور العام، فدائماً لا توجد هناك ذهنيّة أمّة، وإنّما توجد ذهنيّة جماعة أقليّة والأمة هي المحيطة بنا.

لكن مع ظهور الحركة السياسيّة الإسلاميّة، بدأنا نجد بعض التغيّرات، بصرف النظر عن أنّ هذه التغيرات نجحت واستمرّت أو لا؛ فلأوّل مرّة تقريباً نجد رموزاً مثل السيد الخميني، والسيد محمد باقر الصدر، والسيد موسى الصدر يستخدمون بقوّة مفهوم الأمّة الإسلاميّة، فما الذي حصل أن تحوّل الخطاب من خطاب الجماعة إلى خطاب الأمّة؟ وما الذي حصل أن ظهر خطاب الأمّة إلى جانب خطاب الجماعة؟

أعتقد أنّ هناك مجموعة من العوامل، من أبرزها: قضيّة فلسطين لعبت دوراً كبيراً في تكوين هذا الخطاب الجديد، نظراً لحاجة الجميع للإحساس بالوحدة المانحة للقوّة في مقابل التشظّي أو الجماعة الموحية بالضعف والعجز.

إلى جانب قضيّة فلسطين، هناك موضوع المواجهة مع الغرب، فالمفكّر المسلم والشيعي شعرا بالحاجة إلى "أنا" أكبر قادرة على تشكيل جبهة مواجهة أو صمود.

وبهذا نكتشف أنّ الحاجة للإحساس بأننا جميعاً أمّة واحدة نشأ من عنصر خارجي طالبنا بضرورة الصمود والمواجهة في مقابل الآخر، سواء كان الآخرَ الغربي أم الآخر الشرقي (الماركسيّ) أم الآخر الصهيوني.

لهذا، ثمّة وجهة نظر علم اجتماعيّة ترى أنّ السيد الخميني هو أوّل من أخرج إيران من عزلتها "الإيرانيّة"، ليجعلها معنيّة بقضايا المسلمين جميعاً، محاولاً دمجها مع العالم الإسلامي.

لكن يظلّ السؤال: إلى أيّ حدّ نجحت هذه العمليّة (الخروج من عقليّة الجماعة إلى عقليّة الأمّة)؟ بتقديري إنّه رغم جهودٍ غير مسبوقة لتحقيق ذلك، لكنّ هذا المشروع بقي شعاراً، وكانت الظروف أقوى منه، فالأزمة الطائفيّة في المنطقة أعادت الحرب والصدام بين الأقليّة والأكثريّة، فكانت الحرب العراقيّة ـ الإيرانية التي أعاقت عن تحقيق الكثير على هذا الصعيد، ثم جاءت الأزمة الطائفيّة بعد سقوط النظام العراقي السابق، لتساعد بقوّة على الشعور بأنّ الشيعة عبارة عن مجموعة أقليّة غير مرغوب فيها في المجتمع الأكثري المسلم، هذه الظروف تمثل عائقاً كبيراً أمام نموّ الإحساس بالانتماء للأمّة ـ إن لم تقوِّ من الإحساس بالصراع مع الأمّة ـ ومن ثم تجعله إحساساً غائباً غير حاضر.

ربما يمكنني القول بأنّه من أكثر العلماء في العصر الحديث الذين تكلّموا ـ شيعيّاً ـ عن الأمّة تنظيراً واجتهاداً، كان العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين، فقد كان يفكّر بذهنيّة الأمّة، وكان يدعو الشيعة دوماً للاندماج في مجتمعاتهم وأوطانهم، وعدم السماح للخطاب الداعي لحمايتهم من محيطهم أن يهيمن عليهم. لقد جمعت الكثير من كلمات وبحوث الشيخ شمس الدين في هذا الصدد، وفي تنظيره لمفهوم الأمّة، بما يستحقّ بالفعل المراجعة والدراسة والتحليل.

بناءً على هذا كلّه، فإنّ الظروف المحيطة منذ خمسة عقود أثرت في تقوية الإحساس بالانتماء إلى الدائرة الأضيق، على حساب الشعور بالانتماء إلى الدائرة الأكبر، وهنا كان إخفاق مشروع التقريب بين المذاهب. لماذا؟ لأنّه كلّما قلت: تعالوا نقترب من الدائرة الأكبر، يصبح لدى الأقليّة شعورٌ بأنّ الدائرة الأصغر (الجماعة) سوف تتلاشى في الأكبر، مما يولّد خوفاً من التقارب، ولهذا فالمدّ التقريبي كان يكتب له العيش عشر سنين مثلاً، ثم يتراجع بطريقة معكوسة، بسبب الإرث الكبير والظروف المحيطة.

لكنّ المشكلة أنّ هذه الأمّة لا أقدر على الانفصال التام عنها، فليست أمّة ديانةٍ أخرى، وهذا يعني أنّ ذهنيّة الجماعة في مقابل ذهنية الأمة تعيق كثيراً القدرة على الاندماج، وتجعل مهمّة التقريب بين المذاهب شبه مستحيلة، رغم أنّ دعوة التقريب بين المذاهب كانت دائماً توضح أنّها لا تريد إلغاء الهويّات الصغيرة في الأمّة بقدر ما كانت تريد تكريس وتوثيق وتقوية الإحساس بالهويّة الكبيرة، ورغم هذه التوضيحات لم تكن الهويّات الصغيرة بالقادرة على الاستجابة لخطاب التقريب، وغالباً بسبب الخوف الذي يمكننا تفهّمه، بل وتبريره في غير موقع، من هنا أؤكّد على أنّ فكرة الجماعة عندما تتقدّم على فكرة الأمة تصنع إحساساً بالخوف من الاقتراب.

هذا من طرف الأقليّة، أمّا الأكثريّة (أهل السنّة)، فإنّ فكرة الأمّة الواحدة عندها تصنع أيضاً في بعض اللحظات خوفاً من "الجماعة ـ الأقليّة"، بمعنى أنّ السنّي اعتاد أن ينظر إلى نفسه على أنّه هو الأمّة، وأنّ الخوارج والشيعة والمعتزلة هم عبارة عن جماعات موازية ومنافسة، وأنّ هذه الجماعات كلّما ازداد حضورها في "الأمّة الكبيرة" أصبح مفهوم الأمّة المختزَل به مهدّداً بالخطر، وبهذا يصبح من زاوية معيّنة مثل الأقليّة غير قادر على الاندماج؛ لأنّه غير مستعدّ لإعادة تعريف الأمّة من المفهوم الاختزالي لها الذي مارسه عبر التاريخ لإقصاء الآخرين من الأمّة واحتكار عنوان الأمّة الإسلاميّة لنفسه، إلى المفهوم القرآني الواسع الذي يجعله جزءاً من الأمّة ولو كبيراً ويفسح المجال للآخرين لكي يكونوا الجزء الآخر المكمّل لهذه الأمّة العظيمة.

ولهذا السبب كلّما وَجَدَت الأكثريّةُ أنّ الأقليّةَ تتقدّم ازداد عائق الاندماج والتعاون معها؛ لأنّه يزداد عندها شعور الخطر على الهويّة الخاصّة التي سعت لاختزال مفهوم الأمّة به، وربما يؤيّد هذا الادعاءَ سلسلةٌ من الوقائع التاريخيّة، فعندما جاء البويهيّون في القرن الرابع الهجري وأخذ الشيعة وضعاً قويّاً بدأت الفتن المذهبيّة، وشهدنا صراعات بغداد الموحشة في القرن الرابع وصولاً إلى مجيء السلاجقة، ولما جاء العلامة الحلّي في القرنين السابع والثامن وصارت لديه علاقة مع السلطان خدابنده، وبدأ الكلام عن احتماليّة تشيّع إيران أو شيء من هذا القبيل، ارتفع منسوب التوتر الطائفي فارتكب المماليك ـ وبتأييد من علماء كبار مثل الشيخ ابن تيمية ـ مجازر مهولة في لبنان وبلاد الشام ضدّ الشيعة والأقليّات، والأمر عينه في العصر الصفوي، واليوم عندما أصبح الشيعة أقوياء، وصارت لديهم سلطة ونظام ودولة وقوى سياسية قويّة، لم تستطع الأكثريّة أن تتحمّل. هذا كلّه معناه أنّ الأكثرية تشعر دوماً بتهديد وجودي من نموّ الأقليّات أو منافستها لها، إنّه خطر أن تخسر عنوان "الأمّة الإسلاميّة" ليذهب إلى غيرك، مما يجعلك في وضع دفاعي.

والنتيجة: تصوّر الأقليّات أنّهم جماعات أوّلاً وآخراً قد يؤدّي إلى إعاقة قدرتها على التفاعل مع "الأمّة"، وتصوّر الأكثريّة أنّ انضمام الأقليات لعنوان الأمّة قد يسحب البساط من تحتها عند نموّ هذه الأقليّات وقوّتها يعيق هو الآخر، ومن ثم يتطلّب الموقف إعادة تشكيل العلاقة عبر مبادئ الحريّات والمواطنة من جهة، وتخلّي كلّ فريق عن مشروع السيطرة على "الأمّة الإسلاميّة" من جهة أخرى، لهذا أنا أرفض اليوم إطلاق عنوان "خليفة المسلمين" أو "أمير المؤمنين" على شخص بعينه إلى أيّ مذهبٍ انتمى، كما أرفض إطلاق عنوان "وليّ أمر المسلمين" على آخر كذلك؛ لأنّ هذه العناوين توحي بالرغبة في السيطرة على الأمّة، الأمر الذي يخلق إحساساً بالخوف لدى الآخرين ومنافسة، وهو ما يعيق قدرة تكوين مفهوم الأمّة الواحدة متعدّدة الأقطاب.

_______________________

([1]) هذا الحوار تمّ إعداده وإجراؤه عام 2024م من قبل الأستاذ حسين علي شامي من لبنان، بهدف أن يكون مرجعاً في أطروحته في الدكتوراه في جامعة غوتينغن ـ ألمانيا، ضمن اختصاص الدراسات الإسلاميّة/العربية وانثروبولوجيا الدين، وعنوان الأطروحة هو (طقوس عاشوراء: السياسة والتقوى وإعادة التأويل، دراسة إثنوغرافية في جنوب لبنان).