التعليقة على منهاج الصالحين (منافيات الصلاة ـ القسم الأوّل)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(23 ـ 1 ـ 2025م)
المبحث الثالث
منافيات الصلاة
وهي أمور:
الأول: الحدث، سواء أكان أصغر أم أكبر، فإنّه مبطل للصلاة أينما وقع في أثنائها عمداً أو سهواً. نعم إذا وقع قبل السلام سهواً فقد تقدّم أنّ الظاهر صحّة صلاته. ويستثنى من الحكم المذكور المسلوس والمبطون ونحوهما، والمستحاضة كما تقدّم([1]).
الثاني: الالتفات بكلّ البدن عن القبلة، ولو سهواً أو قهراً، من ريحٍ أو نحوها، والساهي إن لم يذكره إلا بعد خروج الوقت لم يجب عليه القضاء، أما إذا ذكره في الوقت أعاد، إلا إذا كان لم يبلغ إحدى نقطتي اليمين واليسار فلا إعادة ـ حينئذٍ ـ فضلاً عن القضاء. ويلحق بالالتفات بالبدن الالتفات بالوجه خاصّة مع بقاء البدن على استقباله إذا كان الالتفات فاحشاً، فيجري فيه ما ذكرناه من البطلان في فرض العمد، وعدم وجوب القضاء مع السهو إذا كان التذكّر خارج الوقت، ووجوب الإعادة إذا كان التذكّر في الوقت وكان انحراف الوجه بلغ نقطتي اليمين واليسار، وأمّا إذا كان الالتفات بالوجه يسيراً يصدق معه الاستقبال فلا بطلان ولو كان عمداً، نعم هو مكروه([2]).
الثالث: ما كان ماحياً لصورة الصلاة في نظر أهل الشرع، كالرقص والتصفيق، والاشتغال بمثل الخياطة والنساجة بالمقدار المعتدّ به، ونحو ذلك، ولا فرق في البطلان به بين صورتي العمد والسهو، ولا بأس بمثل حركة اليد، والإشارة بها، والانحناء لتناول شيء من الأرض، والمشي إلى إحدى الجهات بلا انحراف عن القبلة، وقتل الحيّة والعقرب، وحمل الطفل وإرضاعه، ونحو ذلك مما لا يعدّ منافياً للصلاة عندهم([3]).
مسألة 669: الظاهر بطلان الصلاة فيما إذا أتى في أثنائها بصلاةٍ أخرى([4])، وتصحّ الصلاة الثانية مع السهو، وكذلك مع العمد إذا كانت الصلاة الأولى نافلة، وأما إذا كانت فريضة ففي صحّتها إشكال([5]). وإذا أدخل صلاة فريضة في أخرى سهواً وتذكّر في الأثناء فإن كان التذكّر قبل الركوع أتمّ الأولى، إلا إذا كانت الثانية مضيّقة فيتمّها، وإن كان التذكّر بعد الركوع أتمّ الثانية([6])، إلا إذا كانت الأولى مضيّقة فيرفع اليد عما في يده ويستأنف الأولى.
مسألة 670: إذا أتى بفعل كثير، أو سكوت طويل، وشكّ في فوات الموالاة ومحو الصورة، قطع الصلاة واستأنفها، والأحوط([7]) إعادتها بعد إتمامها.
الرابع: الكلام عمداً، إذا كان مؤلّفاً من حرفين، ويلحق به الحرفُ الواحد المفهِم مثل (قِ) ـ فعل أمرٍ من الوقاية ـ فتبطل الصلاة به، بل الظاهر قدح الحرف الواحد غير المفهِم أيضاً، مثل حروف المباني التي تتألّف منها الكلمة، أو حروف المعاني، مثل همزة الاستفهام، ولام الاختصاص([8]).
مسألة 671: لا تبطل الصلاة بالتنحنح والنفخ والأنين([9]) والتأوّه ونحوها. وإذا قال: آه، أو آه من ذنوبي، فإن كان شكايةً إليه تعالى لم تبطل، وإلا بطلت([10]).
مسألة 672: لا فرق في الكلام المبطل عمداً، بين أن يكون مع مخاطب أو لا، وبين أن يكون مضطرّاً فيه أو مختاراً، نعم لا بأس بالتكلّم سهواً ولو لاعتقاد الفراغ من الصلاة.
مسألة 673: لا بأس بالذكر، والدعاء، وقراءة القرآن في جميع أحوال الصلاة، وأمّا الدعاء بالمحرّم فالظاهر عدم البطلان به، وإن كانت الإعادة أحوط([11]).
مسألة 674: إذا لم يكن الدعاء مناجاةً له سبحانه، بل كان المخاطَب غيره، كما إذا قال لشخصٍ: «غفر الله لك»، فالأحوط ـ إن لم يكن أقوى ـ عدم جوازه([12]).
مسألة 675: الظاهر عدم جواز تسميت العاطس في الصلاة([13]).
مسألة 676: لا يجوز للمصلّي ابتداء السلام ولا غيره من أنواع التحيّة. نعم يجوز ردّ السلام، بل يجب، وإذا لم يرد ومضى في صلاته صحّت وإن أثم.
مسألة 677: يجب أن يكون ردّ السلام في أثناء الصلاة بمثل ما سلّم، فلو قال المسلّم: «سلام عليكم»، يجب أن يكون جواب المصلّي «سلام عليكم»، بل الأحوط وجوباً([14]) المماثلة في التعريف والتنكير والإفراد والجمع. نعم إذا سلّم المسلّم بصيغة الجواب بأن قال مثلاً: عليك السلام جاز الردّ بأيّ صيغة كان، وأمّا في غير حال الصلاة فيستحبّ الردّ بالأحسن، فيقول في سلام عليكم: عليكم السلام، أو بضميمة ورحمة الله وبركاته.
مسألة 678: إذا سلّم بالملحون وجب الجواب، والأحوط كونه صحيحاً([15]).
مسألة 679: إذا كان المسلّم صبيّاً مميّزاً، أو امرأة، فالظاهر وجوب الردّ([16]).
مسألة 680: يجب إسماع ردّ السلام في حال الصلاة وغيرها إلا أن يكون المسلّم أصم، أو كان بعيداً ولو بسبب المشي سريعاً، وحينئذ فالأولى الجواب على النحو المتعارف في الردّ([17]).
مسألة 681: إذا كانت التحيّة بغير السلام مثل: «صبّحك الله بالخير» لم يجب الردّ، وإن كان أحوط وأولى، وإذا أراد الردّ في الصلاة فالأحوط ـ وجوباً ـ الردّ بقصد الدعاء على نحو يكون المخاطب به الله تعالى مثل: «اللهم صبّحه بالخير»([18]).
مسألة 682: يكره السلام على المصلّي([19]).
مسألة 683: إذا سلّم واحدٌ على جماعة كفى ردّ واحدٍ منهم، وإذا سلّم واحدٌ على جماعة منهم المصلّي فردّ واحدٌ منهم لم يجز له الردّ([20])، وإن كان الرادّ صبيّاً مميّزاً فالأحوط الردّ والإعادة([21])، وإذا شكّ المصلّي في أنّ المسلّم قصده مع الجماعة لم يجز الردّ، وإن لم يردّ واحدٌ منهم.
مسألة 684: إذا سلّم مرّات عديدة كفى في الجواب مرّة، وإذا سلّم بعد الجواب احتاج أيضاً إلى الجواب، من دون فرق بين المصلّي وغيره([22]).
مسألة 685: إذا سلّم على شخص مردّد بين شخصين، لم يجب على واحدٍ منهما الردّ، وفي الصلاة لا يجوز الردّ.
مسألة 686: إذا تقارن شخصان في السلام، وجب على كلّ منهما الردّ على الآخر على الأحوط([23]).
مسألة 687: إذا سلّم سخريةً أو مزاحاً، فالظاهر عدم وجوب الردّ.
مسألة 688: إذا قال: سلام، بدون عليكم، فالأحوط في الصلاة الجواب بذلك أيضاً.
مسألة 689: إذا شكّ المصلّي في أنّ السلام كان بأيّ صيغة فالظاهر جواز الجواب بكلّ من الصيغ الأربع المتعارفة([24]).
مسألة 690: يجب ردّ السلام فوراً، فإذا أخّر عصياناً أو نسياناً حتى خرج عن صدق الجواب لم يجب الردّ([25])، وفي الصلاة لا يجوز. وإذا شكّ في الخروج عن الصدق وجب على الأحوط([26])، وإن كان في الصلاة فالأحوط الردّ وإعادة الصلاة بعد الإتمام([27]).
مسألة 691: لو اضطرّ المصلّي إلى الكلام في الصلاة لدفع الضرر عن النفس، أو غيره تكلّم، وبطلت صلاته.
مسألة 692: إذا ذكر الله تعالى في الصلاة، أو دعا أو قرأ القرآن على غير وجه العبادة، بل بقصد التنبيه على أمر من دون قصد القربة لم تبطل الصلاة، نعم لو لم يقصد الذكر، ولا الدعاء، ولا القرآن، وإنّما جرى على لسانه مجرّد التلفّظ بطلت([28]).
____________________________
([1]) قد تقدّم الحديث عمّن سها عن التسليم حتى أحدث، وذلك عند التعليق على (المسألة رقم: 662)، كما تقدّم الحديث عن دائم الحدث، وذلك عند التعليق على (كتاب الطهارة، المبحث الثالث في الوضوء، الفصل السادس).
هذا، وقد ذكروا في منافيات الصلاة ومبطلاتها الحدثَ وكذلك الالتفات عن القبلة، ولكنّ الأفضل عدم عدّهما من مبطلات الصلاة، بل بطلان الصلاة بهما إنّما هو من باب انعدام شرطَي: الاستقبال والطهارة، لا من باب عروض القاطع الموجب لبطلان الصلاة، فانتبه.
كما يلاحظ هنا أنّ الفقه السنّي قد أكْثَرَ من تعداد مبطلات الصلاة، فأدخل قضايا تطبيقيّة مورديّة في عناوين كليّة أحياناً، وأقحم فقدان الشروط والأجزاء ضمن مفهوم مبطلات الصلاة ومفسداتها، ولذا نجد عند الأحناف ثمانية وستين مبطلاً للصلاة، وعند المالكية ثلاثين، وعند الشافعية سبعاً وعشرين، وعند الحنابلة ستاً وثلاثين وهكذا، والأصحّ لزوم فرز المسائل ليكون الموضوع أكثر انضباطاً.
من هنا، يمكن القول بأنّ المعتاد لدى مشهور الفقهاء حمل الروایات في باب الالتفات على التعبدیّة بوصف ذلك هو مقتضى الأصل الأوّلي، لكنّه لا يبعد حملها على تطبيق شرط استقبال القبلة، ولهذا جاءت قيود الفاحش وغير الفاحش، وهو ما يكشف عن أنّ الاستقبال یتحقّق بالاستقبال العرفي.
([2]) لم تثبت الكراهة.
([3]) لم يرد نصّ من آية أو رواية تتكلّم عن بطلان الصلاة في مثل هذه الموارد، ولكن على أيّة حال هنا بحثان:
1 ـ في مبطليّة الفعل غير الصلاتي للصلاة، وبخاصّة الفعل الكثير، بصرف النظر عن كونه يمحو صورة الصلاة أو لا. وهذا لا دليل عليه، خلافاً للعديد من فقهاء بعض المذاهب الإسلاميّة.
2 ـ في مبطليّة محو صورة الصلاة، بحيث لا يصدق على المأتي به عنوان الصلاة بنظر من يعرفون الصلاة وكيفيّتها. وهذا أيضاً لا رواية معتبرة فيه فضلاً عن آية، إنّما المستند لديهم فيه هو الإجماع والارتكاز، مضافاً إلى زوال اسم الصلاة في هذا الموضع.
وهنا يقال: أمّا الإجماع فهو ـ لو سلّم ـ واضح المدركيّة؛ فإنّه يحتمل بناؤه على أنّ محو صورة الصلاة يفضي إلى عدم تحقّق عنوان المأمور به، فتبطل لانعدام المتعلّق، فلا يكون إجماعاً تعبديّاً. وأمّا الارتكاز، فاكتشافه في عصر النصّ عمليّة معقّدة جداً، وبخاصّة لجهة التمييز بين عدم فعل ذلك لكونه تعبيراً عن إهانة الصلاة في عرف المتديّنين وعدم فعله لكونه مبطلاً لها، فالنظر هنا ليس للحكم التكليفي، بل للحكم الوضعي، وهذا يحتاج إلى إثبات أنّهم يعتبرون من يفعل الفعل الماحي لصورة الصلاة مبطلاً لصلاته، وليس فقط معتدياً أخلاقيّاً على صلاته وعبوديّته لله تعالى، فضلاً عن احتمال أنّ ارتكازهم هذا نتج عن عين ما نتج عنه الإجماع.
فلا يبقى إلا الدليل الثالث، وهو الصحيح، ومن ثمّ تتحدّد المبطليّة بحدوده، ويكون معناه أنّ أيّ شيء يوجب عدم صدق عنوان الصلاة بوصفها مركّباً ذا هيئة اتصاليّة، فإنّه مبطلٌ لها، ويوكَل الأمر في تشخيص ذلك إلى العرف.
([4]) هذا في غير صلاة الآيات، حيث سيأتي من السيّد الماتن الحديث عن حالة صلاة الآيات في (المسألة رقم: 706)، وهناك نعلّق عليه إن شاء الله.
وقد تقول: أليس هذا مجرّد تطبیق لمبطلیّة الإتیان بما یمحو صورة الصلاة، وعلى حدّ تعبيركم: ما یخرج معه الفعل عن عنوان الصلاة؟
والجواب: إنّ المشكلة بنظر الفقهاء هنا أنّ صورة الصلاة محفوظة في مقابل صدق أنّه لا يصلي، لكن الموالاة منتفية، من هنا يقع الكلام في أنّ الموالاة هل تركها يبطل الصلاة مطلقاً أو بحيث لا ينطبق صورة الصلاة مع تركها؟ وبعبارة أخرى: إنّ الصلاة داخل الصلاة هي ذكرٌ لله، والذكر مهما طال سيكون جائزاً في الصلاة، فليس لدينا مشكلة صورة الصلاة، بل مشكلة الموالاة وتداخل القصود.
([5]) والأقرب الصحّة.
([6]) التعبير بـ «أتمّ الأولى» و «أتمّ الثانية» يعني عندنا جواز ذلك، دون اللزوم؛ لما سيأتي عند التعليق على (المسألة رقم: 697)، من أنّه لا دليل على حرمة قطع الفريضة اختياراً في غير ضيق الوقت.
([7]) استحباباً.
قد يقال: إنّ بعض الفقهاء ذكر ـ مثل السيد تقي القمي ـ بأنّ ظاهر المسألة هو الشبهة المصداقیّة، ويجري فيها الاستصحاب، فلو علم المکلّف مقدار ما یمحو به صورة الصلاة، وشكّ في أنّه أتى به أو لا، أمكنه إجراء الاستصحاب، ویثبت به عدم الإتیان بهذا المقدار الماحي. بل قد قلتم أنتم أيضاً في تعليقتكم على (المسألة رقم: 671) بأنّه لو شكّ تصحّ الصلاة، وهو ما يظهر منه الموافقة على جريان الاستصحاب، فما الفرق بين الموردين؟!
والجواب: إنّ هناك فرقاً بين المسألتين، ففي هذه (المسألة رقم: 670) يقع الشك في عروض الماحي، وهو في الحقيقة شكٌّ في تحقّق صورة الصلاة، فهو عمليّاً يشكّ في أنّه أتى بصورة الصلاة أو لا، فتشمله قاعدة الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، بينما في (المسألة رقم: 671) هو يشكّ في عروض المبطل الذي هو "الكلام"، فيستصحب العدم، فمحو صورة الصلاة ليس شيئاً يعرض الصلاة فيبطلها، بل هو في الحقيقة عدم تحقيق للصلاة المأمور بها بوصفها هيئة اتصالية ذات صورة، ومن هنا نقول بأنّ عدّ محو صورة الصلاة من المبطلات هو الآخر فيه نوعُ تسامح.
([8]) تناول السيد الماتن ـ ككثيرين غيره ـ موضوع البحث هنا عبر مدخل: الحرف والحرفين ونحو ذلك، وهذا تغييرٌ لوجهة مفاد دلالات النصوص، فالنصوص دلّت على مبطليّة الكلام في الصلاة، فينبغي إحالة ذلك إلى العرف مباشرةً، وهو يحدّد ما إذا كان الشخص قد تكلّم في صلاته أو لا، وباقي الأمور هي تشخيصات تطبيقيّة، فمثلاً لو أردنا المناقشة في التشخيصات فربما يمكن القول بأنّ العرف لا يرى أنّ نطق أحرف المباني منفصلةً يصدق عليه عنوان التكلّم في الصلاة، وعلى الأقل يُشكّ في صدق هذا العنوان، وربما مثله ـ في الجملة ـ التلفّظ بأحرف غير مفهومة ولا معنى لها، فلا يمكن التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة له؛ لإثبات القاطع الصلاتي.
([9]) وردت في مبطليّة الأنين وعدّه من الكلام المبطل للصلاة، روايات آحاديّة قليلة جداً ضعيفة إسناداً.
([10]) البطلان هنا مبنيٌّ على تشخيصٍ مصداقي، فلا بدّ من الرجوع للعرف في صدق أنّ كلمة «آه» مثلاً، لو أطلقها شخصٌ مرّةً واحدة وهو يتألّم، هل يصدق عليه أنّه تكلّم في صلاته أو لا؟ ومع الشكّ تصحّ الصلاة.
([11]) تجب الإعادة على الأحوط وجوباً، إلا إذا وقع ذلك منه سهواً أو ظنّه مستحقّاً للدعاء، فتبيّن عدمه، ونحو ذلك.
([12]) بمعنى بطلان الصلاة به.
([13]) بمعنى بطلان الصلاة به، لكنّ هذا مختصّ بما إذا لم يكن بصيغة الدعاء، وإلا ـ كما هو الأصل فيه ـ جاز وصحّت الصلاة. هذا والمراد بتسميت العاطس ـ أو تشميت العاطس ـ هو الدعاء له بالرحمة أو الهداية، فكأنّك تدعو له بالسمت الحسن أو القصد الصالح، فإذا عطس العاطس قيل له: يرحمكم الله، أو يرحمك الله.
ويعتبر تسميت العاطس من حقوق المؤمن على المؤمن، كما ورد في بعض الروايات، وقد ورد في بعض النصوص أنّ الله يحبّ العطاس ويكره التثاؤب، بل إنّ بعض فقهاء الحنابلة والأحناف والمالكيّة ذهبوا لوجوب تشميت العاطس، ولو على نحو الكفاية. وورد في بعض النصوص مرجوحيّة العطسة القبيحة التي تكون بصوت مرتفع، بل طبّق خبرُ أبي بكر الحضرمي عنوان صوت الحمير عليها وأنّها أنكر الأصوات.
([14]) استحباباً.
([15]) هذا مختصّ بحال الصلاة، أمّا خارجها فيجب الردّ، ولا يلزم أن يكون غير ملحون، بل يكفي صدق ردّ السلام عرفاً.
([16]) قد تقول: ما هو مبرّر الشبهة في المرأة هنا حتى يذكرها السيد الماتن؟ هل في ذلك إسقاط لفكرة أنّ المرأة نصف إنسان مثلاً؟!
والجواب: هذا في ذاته محتمل، لكنّ لعلّ الأرجح أنّه ذكر الصبيَّ والمرأة من باب أنّ المتعارف هو سلام الرجل على الرجل في الصلاة، فتحمل نصوص وجوب ردّ السلام في الصلاة على المتعارف، وهنا نفى الفقهاء ذلك تمسّكاً بالإطلاق وإلغاء الخصوصيّة.
([17]) هنا نقطتان:
النقطة الأولى: إنّ ما ذكره بعض الفقهاء من التمسّك بإطلاق الأدلّة لبيان كفاية ردّ السلام ولو لم يسمع الطرف الآخر بصرف النظر عن الصلاة أو خارجها، يبدو لي غريباً؛ فهذه الأحكام ليست تعبّدية رمزيّة، بل هي مفهومة، والمقصد منها تحقّق التخاطب بالتحية بين الناس، فلو ردّ السلام بينه وبين نفسه بحيث لم يسمع الطرف الآخر، فلا يصدق هنا أنّه حيّا الآخرين بأحسن من تحيّتهم، فالتفكير المقصدي ـ المعزّز ببعض النصوص، مثل خبر ابن القداح ـ يساعد هنا على وجوب إسماع الطرف الآخر، وفاقاً لما ذكره السيّد الماتن.
ومنه يظهر عدم صحّة ما ذكره بعضهم ـ مثل السيد محمد محمد صادق الصدر ـ من التفصيل بين الصلاة فلا يجب إسماع الردّ، وخارجها فيجب.
النقطة الثانية: إنّه إذا كان المسلّم أصمّ أو لم يعد يمكن إسماعه بسبب المشي السريع أو لكونه مرّ عبر سيّارة أو غيرها، ففي مثل هذه الحال يلزم الردّ بحيث يصدق أنّه ردّ عليه، ففي الأصمّ يلزم أن يعطيه ما يُفهمه أنّه ردّ عليه السلام، ومع انعدام ذلك وعدم إمكان تحقيقه فلا معنى لوجوب الردّ. ولا وجه لدعوى الإطلاق في مثل هذه الحال؛ فإنّ مناسبات الحكم والموضوع في مثل هذه الموارد تجعل الحكم واضحَ الغاية والمقصد، فالأقرب سقوط وجوب الردّ مع عدم إمكان تحقّق مفهوم ردّ التحيّة عرفاً واجتماعيّاً، وإن كان هو مقتضى الاحتياط الاستحبابي.
ومنه يظهر عدم صحّة ما ذكره بعضهم ـ مثل السيد محمّد حسين فضل الله ـ من وجوب الردّ على سلام المذيع في التلفاز إذا كان البث مباشراً حتى لو لم يسمع المذيعُ الردَّ.
بل قد يقال: إنّ السلام لا يصدق ـ بما هو تحیّة ـ علی ما إذا انتفی إمکان الردّ عرفاً أو عقلاً، فإذا سلّم المتحدّث في المذیاع أو التلفاز إلی المستمعین، فهذا لا یصدق علیه السلام الذي هو تحیة، کي یجب الجواب له، وهكذا من كان في السيارة المارّة بسرعة.
لكن يجاب بأنّ الذي يتكلّم في البثّ المباشر في التلفاز هو يُلقي السلام حقيقةً على المستمعين، وهم يتلقّون سلامه حقاً، غايته أنّهم هم لا يمكنهم ردّ السلام عليه، فالمشكلة من طرفهم، لا من طرفه، وفي ردّ السلام، لا في السلام نفسه.
([18]) هنا أمورٌ يلزم التعرّض لها:
الأمر الأوّل: حكم ردّ التحيّة خارج الصلاة إذا كانت بغير "السلام عليكم"
المشهور بين الفقهاء وجوب ردّ التحيّة إذا كانت بصيغة "السلام عليكم"، أمّا لو كانت بصيغة أخرى مثل: صباح الخير، أو مساء الخير، أو صبّحكم الله بالخير، أو مرحبا، أو غير ذلك من مختلف اللغات، فضلاً عمّا لو كان السلام بالإشارة باليد ونحو ذلك، فإنّه لا يجب عندهم ردّ التحيّة بالعنوان الأوّلي. نعم لو لزم من عدم الردّ إهانة أو إيذاء الطرف الآخر المفروض حرمة إيذائه، فيجب الردّ لذلك وليس للعنوان الأوّلي.
وخالف في هذا الحكم صريحاً عددٌ قليل من الفقهاء، مثل العلامة الحلّي فيما نُسب إليه، واحتاط فيه وجوباً بعضٌ مثل السيّد البروجردي.
والأقرب بالنظر هو وجوب ردّ التحية مطلقاً، سواء كانت بصيغة "السلام عليكم" أم بغيرها من مختلف الصيغ واللغات.
ونقطة الارتكاز في البحث هنا تكمن في أمرين:
1 ـ في معنى التحيّة، في قوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) (النساء: 86)، حيث قالوا بأنّ التحية ـ كما ذكرها أهل اللغة ـ تعني السلام، كما أنّ أكثر المفسّرين قالوا ذلك في خصوص تفسير هذه الآية.
وهذا الكلام قابل للمناقشة اللغويّة جداً، فالتحيّة أعمّ من السلام بمعناه الخاصّ، ومنطلقة من مثل قولنا: حيّاك الله، بل الجذر اللغوي للكلمة واضح في دلالته على نوع من الدعاء للطرف الآخر بالحياة والبقاء، ولهذا سمّي الملك عند العرب بالتحيّة، لما في الثناء عليه والدعاء ببقائه سالماً معافى، ونقول: التحيّات لله، بمعنى البقاء والملك له سبحانه، وليس للكلمة معنيان هما: السلام والبقاء، كما يُفهم من بعضهم، بل هي بمعنى واحد، وقد أخذ المعنى الأوّل من الثاني. والآية واضحة في التعميم بملاحظة التنكير في قوله: (بتحيّةٍ). وإطلاقُ بعض اللغويّين المعجميّين ذلك ليس إلا ـ كما هي عادتهم ـ من باب تبيين الشيء بمصاديقه الغالبة، وهم عاشوا في الفضاء الإسلامي الذي يغلب فيه تحيّة الإسلام. وكلمة التحيّة عربيّة معروفة قبل الإسلام، ولم يثبت حصول تحوّل دلالي لها في العصر النبويّ. كلّ ما حصل في العصر النبوي أنّ الإسلام اشتغل على تأسيس تحيّته والترويج لها، وتفضيلها على غيرها، وهذا واضح.
2 ـ إنّه قد قام الإجماع والسيرة القطعيّة المتصلة على عدم وجوب ردّ التحية التي تكون بغير صيغة "السلام عليكم"، ولا يُعقل ذلك مع فهم الوجوب العام من الآية، وهذا خيرُ دليلٍ على كون الآية غير شاملة لهذه التحايا ولو بالتخصيص، وإلا لزم إسقاط دلالتها على أصل وجوب الردّ، وهو مرفوض قطعاً.
وهذا الكلام قابلٌ للنقاش أيضاً؛ إذ لا دليل على سيرة عمليّة متصلة لا تردّ على غير التحيّة الإسلاميّة، بل لو كان لبان؛ لكونه موجباً لظهور التنازع بين الناس ولو في الجملة وأحياناً. والإجماع ـ لو تمّ إحرازه صغرويّاً بين المتقدّمين ـ محتمل المدركيّة ولو نتيجة فهمهم السلام الخاص من كلمة التحيّة في الآية، كما هو ظاهر الفقهاء والمفسّرين، بل لعلّهم فهموا من تأسيس الإسلام للتحية الخاصّة كونه ينسخ سائر التحايا السابقة، وهذا ما لعلّه يُفهم من بعض فقهاء أهل السنّة الذين تحفّظوا حتى على استخدام غير تحيّة الإسلام. وليس هناك دليلٌ معتبر خاصّ ـ من كتابٍ أو سنّة ـ على نفي وجوب ردّ التحيّة غير الإسلاميّة بالعنوان الأوّلي. وعدم جواب النبيّ والأئمّة على تعابير أصحابهم: "أصلحك الله" أو "جُعلت فداك" لا علاقة له ببحثنا؛ إذ لا يُحرز تلقّيهم لها بأنّها تحايا بالمعنى العرفي.
وقد تقول: إنّه لا یمکن هنا التمسّك بقاعدة "لو کان لبان"؛ لأنّه لا یمکن لنا إحراز عموم الابتلاء الذي هو من شروط جریان هذه القاعدة؛ إذ عدم وجوب الردّ لا یساوق عدم تحقّقه خارجاً واستناده إلی الحکم الشرعي، والناس عادةً یردّون التحیة، وما لم یرد أحد تحیّة أحد آخر لا یحرز عادةً استناد عدم الردّ إلی عدم الوجوب، بل لعلّه بسبب نزاعٍ مسبق أو غیره من الدواعي، واحتمال توفّر مثل هذه الدواعي یمکن أن یکون مانعاً من إثارة الحساسیات ونقل الموضوع.
من هنا يمكن إعادة صياغة البيان عبر القول: إنّه من الصعب إثبات وجود سيرة قطعيّة متصلة على عدم وجوب ردّ تحية غير "السلام عليكم"، حتى نتمسّك بها في رفع الدليل، أو نجعلها دليلاً على النفي.
وبهذا نستنتج أنّ الآية الكريمة دالّة بوضوح على وجوب ردّ مختلف أنواع التحايا إلا ما خرج بدليل.
الأمر الثاني: حكم ردّ التحيّة في الصلاة إذا كانت بغير «السلام عليكم»
إذا قلنا بوجوب أو جواز ردّ التحيّة في الصلاة لزم ردّ مختلف أنواع التحايا المشروعة، وأمّا إذا قلنا بأنّ الواجب فيها هو ردّ تحيّة "السلام عليكم"، كما يظهر من مختلف النصوص الواردة في هذا المجال، فيُقتصر في هذه الحال على ردّ هذه التحيّة بالخصوص دون غيرها، وهذا هو الصحيح، لا لأجل أنّ الإمام× لم يردّ على قول محمّد بن مسلم: «كيف أصبحت»؛ لأنّ هذا لم يكن منه تحية؛ إذ قالها بعد تحيّة: السلام عليكم، وبعد جواب الإمام له، بل هي سؤال عن أحواله، خلافاً لما فهمه أمثال السيّد الخوئي.. بل لأجل أنّ الصلاة أمرٌ عبادي لا يجوز فيه التكلّم بكلام الآدميّين، خرج منه تحيّة "السلام عليكم"، بوصفها القدر المتيقّن، وغيرها يحتاج لدليل؛ إذ الأصل هو البطلان، وإن كان مقتضى الاحتياط هو الردّ وإعادة الصلاة، أو جعل الردّ على شكل دعاء بحيث لا يخلّ بالصلاة ولا بصدق عنوان ردّ التحيّة المتضمّن للاحترام والإكرام.
قد تقول: إنّه إذا أخذنا بطريقة تعاملكم مع القضيّة في "الأمر الأوّل" المتقدّم آنفاً، فعلينا أن نأخذ التسليم مصداقاً لموضوع الحکم، وهو التحیّة، وعليه، فیمکن تعمیم الجواز لکلّ تحیة، وهذا مبنيٌّ علی عين ما تمسّکتم به في "الأمر الأوّل"، من أنّ مناسبات الحکم والموضوع عند العرف تکشف عن موضوعیّة التحیة، دون وجود خصوصيّة للتحية التي تكون بصيغة السلام خاصّة.
لكن يجاب: إنّ الوارد في نصوص باب الصلاة هو عنوان السلام والتسليم وسلّم عليه ويسلّم عليه ونحو ذلك، وهذا لا يحرز شموله لغير تحية "السلام عليكم" وتصريفاتها، بخلاف عنوان التحية الوارد في النصّ القرآني، ويشهد لذلك أنّ تعابير الروايات واضحة في أنّ الصيغة هي صيغة السلام، والجزم بنفي الخصوصيّة صعبٌ؛ لأنّ المفروض أنّنا في باب الصلاة، وهناك حيثيّة المبطليّة التي تواجه حيثيّة وجوب ردّ التحية.
الأمر الثالث: شمول وجوب ردّ التحيّة للكتابة وغيرها
يذهب بعض الفقهاء إلى حصر وجوب ردّ السلام بما كان تحيّةً مسموعة، فلو أرسل شخصٌ إليك تحيّةً كتابيّةً عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر البريد الإلكتروني أو غير ذلك، فقد حكموا بأنّه لا يجب ردّ السلام هذا.
لكنّ الأقرب هو أنّه لو حصل السلام بالكتابة المباشرة وجب الردّ بما يصدق عليه الردّ عرفاً، ولو بالكتابة، فقد لا يجب الردّ باللفظ، بل لا معنى له في بعض الأحيان؛ لعدم سماع الطرف الآخر؛ فإنّ نصّ القرآن الكريم ـ وكذا العديد من نصوص السنّة الشريفة في الموضوع ـ عامّ شامل، ويصدق عرفاً عنوان أنّني حُيّيتُ بتحيّة من خلال الكتابة. وكثرة التحايا الشفاهيّة في السابق لا يوجب حصر الأحكام بالتحيّة الشفاهيّة. نعم لو قلنا بالوجوب في الرسائل غير المباشرة كما في رسالة ورقيّة مبعوثة عبر البريد، فلا تجب الفورية في الردّ في مثلها؛ لعدم صدق ترك الردّ مع عدم الفوريّة إلا مع الإهمال لزمنٍ طويل. ومسألة التحيّة ـ بحسب روحها ومقصدها ـ لا تختلف بين المشافهة وغيرها، ما لم يكن عدم المشافهة موجباً لتغيّر عنوان إلقاء التحيّة أو عدم صدق عنوان ردّ التحيّة على الجواب.
([19]) لا بأس هنا بالتعرّض لأمور:
الأمر الأوّل: إلقاء السلام على المصلّي
ذهب مشهور فقهاء الإماميّة ـ فيما يبدو ـ إلى كراهة إلقاء السلام على المصلّي، فلو رأينا أحداً يصلّي فإنّه من المكروه أن نلقي عليه السلام، وقد مال إلى ذلك أيضاً بعض فقهاء أهل السنّة حيث قالوا بأنّه يكره السلام على المصلّي والقارئ والجالس للقضاء، بل بعضهم يوحي كلامه بأنّ المراد بالكراهة هنا هي الحرمة، بينما صريح عبارات بعضٍ آخر منهم ـ وبخاصّة في المالكيّة والحنابلة ـ نفي الكراهة هنا. كما أنّ المنسوب في كلمات غير واحدٍ من الإماميّة ـ منهم العلامة المجلسي ـ أنّ بعض فقهاء الإماميّة صرّحوا بعدم كراهة إلقاء السلام على المصلّي.
والأقرب بالنظر هو عدم ثبوت حرمة ولا كراهة إلقاء السلام على المصلّي وأمثاله بعنوانه، بل إلقاء السلام هنا مشمولٌ ـ بعيداً عن دعوى الانصراف المحتملة ـ لعمومات ومطلقات الحثّ على إلقاء السلام والابتداء به، ما لم يزاحمه ما هو أولى منه، فيخضع لقانون الأولويّات، كأيّ حكمٍ شرعيّ آخر.
والعمدة في الفقه الإماميّ هنا روايتان كلتاهما ضعيفة الإسناد على التحقيق، بما في ذلك رواية الحسين بن علوان التي تعتبر الأهمّ، حيث روى عن الإمام جعفر الصادق أنّه قال: «كنت أسمع أبي يقول: إذا دخلت المسجد الحرام والقوم يصلّون فلا تسلّم عليهم وسلّم على النبيّ صلّى الله عليه وآله، ثمّ أقبل على صلاتك، وإذا دخلت على قومٍ جلوس يتحدّثون فسلّم عليهم».
وسبب ضعف سند هذه الرواية عندي ـ خلافاً لكثيرين ـ هو أنّ التوثيق الوارد في كلمات النجاشي يعود للحسن بن علوان، وليس للحسين بن علوان، ولا أقلّ من عدم وضوح عود التوثيق إليه، فلم تثبت عندي وثاقة الحسين بن علوان صاحب الرواية هنا. وعليه فلدينا فقط خبران آحاديّان ضعيفان من حيث الإسناد. ولم يعمل الفقهاء بظهور خبر الحسين بن علوان في تحريم إلقاء السلام على المصلّي وفق ما فهموه، ولهذا تمّ حمل الخبر على الكراهة.
وأمّا تعليل بعض فقهاء أهل السنّة بأنّ السلام هنا ليس في محلّه، فهو أقرب لتناول الموضوع تناولاً عرفيّاً، وهذا غير ثبوت كراهة أو حرمة شرعيّة في المسألة، فلعلّ مناسبات الموقف وطبيعة الأولويّات تقتضي ترجيح عدم إلقاء السلام على شخص، كما لو فرضنا أنّ خطيباً يُلقي كلمةً، وفي كلّ عشرة ثوانٍ يدخل شخصٌ ليُلقي السلام على الخطيب، فلا يبعد هنا بملاحظة الأولويّات والاعتبارات ترجيح عدم إلقاء السلام عليه، كما في حالات كون إلقاء السلام موجباً لإزعاج أو أذيّة شخص مثلاً، لكنّ هذا لا يعني ثبوت كراهة أو حرمة شرعيّة بعنوانها في أصل الشرع، كما هو واضح، بل هي ملاحظة أولويّات لا أكثر، وقد تختلف من حالٍ إلى حال ومن شخصٍ لآخر، فتنبّه وتأمّل جيّداً.
الأمر الثاني: إلقاء السلام على غير المسلم
ذهب الكثير من فقهاء المسلمين بمذاهبهم المختلفة إلى حرمة أن يُلقي المُسْلِمُ السَّلامَ (أي الابتداء بالسلام) على غير المسلم ولو كان من أهل الذمّة، إلا لضرورة، وشاع هذا القول بين أهل السنّة أكثر منه بين الشيعة (ذهب إليه من الإماميّة أمثال الحرّ العاملي والمحقّق النراقي). بل ذهب بعض القائلين بالتحريم من فقهاء أهل السنّة إلى أنّه لو سلّم المسلمُ على غير المسلم خطأ، كان من المستحبّ أن يَطلبَ منه استرجاع السلام، تحقيقاً لنفي التوالف معه.
لكنّ فريقاً آخر ذهب للقول بالكراهة، وهو ما شاع بين فقهاء الإماميّة أكثر، وبخاصّة في العصر الحديث، وذهب إليه بعض فقهاء أهل السنّة، ولا سيما بين الشافعيّة.
ويخصّص كثيرون المسألة بكلمة «السلام عليكم» لا بأيّ نمط آخر من التحيّة، فلو قال له: «صباح الخير»، مثلاً، فلا بأس. وهذا التمييز عندهم بين تحيّة الإسلام وسائر أنواع التحايا مرجعه إلى فهم التحيّة الإسلاميّة ذات خصوصيّة تتخطّى مجرّد كونها تحيّة، بل هي نوعٌ من سلام الله على المسلّم عليه، أو أنّ "السلام" فيها المرادُ به اسم لله سبحانه (الحشر: 23)، كما ورد في بعض الأخبار، ويكون بمعنى الكفيل والحفيظ، فـ "السلام عليكم" تعني: "الله حافظكم وكفيلكم" ففيه نوع من التعويذ، كما أفاد غير واحد مثل النووي في شرح مسلم. وفي بعض النصوص في المصادر السنيّة أنّ السلام فيه نوعٌ من "رحمة الله وبركاته". وهذه الأمور يبدو أنّهم لا يقبلونها في حقّ غير المسلم.
أمّا لو سلّم غيرُ المسلم على المسلم، فقد أفتى بعضهم بوجوب الردّ، وبعضهم احتاط بذلك، واقتصروا في الردّ على مثل كلمة «وعليك»، وبعضهم ذكر كلمة «سلام» فقط من دون إضافة، فيما ذهب فريق ثالث إلى عدم وجوب الردّ على غير المسلم مطلقاً، إلى غير ذلك من التفاصيل. وحديثنا هنا في إلقاء التحيّة عليه لا في الردّ.
والأقرب بالنظر هو عدم ثبوت حرمة إلقاء السلام على غير المسلم بالعنوان الأوّلي، سواء في ذلك صيغة «السلام عليكم» وأمثالها، وأيّ صيغةٍ أخرى تمثل تحيّةً يتداولها العرف.
وينطلق الفقهاء في موضوع إلقاء التحيّة على غير المسلم من بعض الروايات الواردة عند السنّة والشيعة، وعمدتها عند السنّة رواية أبي هريرة في صحيح مسلم، أمّا عند الشيعة فهناك حوالي أربع أو خمس روايات.
والتعليق هنا باختصار شديد يتطلب إشارات سريعة لتوليفة من مجموعة أمور:
أ ـ إنّ الروايات ذات الدلالة الواضحة على التحريم هنا قليلة العدد جدّاً؛ لأنّ بعض الروايات وقعت في سياق بيان مكروهات، ومن ثمّ فمن لا يقول بحجيّة خبر الواحد يصعب عليه الجزم بالتحريم هنا.
ب ـ إنّ غالب الروايات ضعيف الإسناد، فلم يصحّ سوى خبرٌ واحدٌ فقط، بل اللافت وقوع رواة وضّاعين في أكثر من رواية شيعيّة هنا. كما أنّ الرواية السنيّة الأقوى قابلة للنقاش سنداً رغم ورودها في صحيح مسلم. ولا أؤمن بقاعدة أنّ من ورد (وما ورد) في أحد الصحيحَين فقد جاوز القنطرة، كما لا أؤمن بذلك في الكتب الأربعة الإماميّة، وقد انتقد أعلامٌ كبار في الشيعة والسنّة معاً هاتين القاعدتين، وقد بحثتُ عن ذلك بالتفصيل في غير موضعٍ من كتبي، فراجع.
ج ـ إنّ العمومات والمطلقات شاملة للسلام على المسلِم وغيره. بل الكليّات القرآنيّة دالّة على عدم النهي عن البرّ بهم والقسط ما لم يكونوا معتدين. بل قال تعالى: (..وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا..) (البقرة: 83).
د ـ إنّ سياق بعض الروايات السنيّة في المقام هو سياق حرب، فقد غدا النبيُّ لمقاتلة بعض اليهود، فأعلن أن لا تسلّموا عليهم إذا لقيتموهم، وهذا من الصعب فهم التعميم منه. بل ثمّة سياق تاريخي معروف وهو استخدام بعض اليهود عبارات غير لائقة في السلام، الأمر الذي يفتح احتمال أنّ النهي النبوي (وليس نهي أهل البيت لاحقاً) جاء في سياقٍ من هذا النوع.
هـ ـ إنّ هناك أخباراً معارضة لأخبار النهي، مثل خبر أبي بصير وصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج، والصحيحة تدلّ صراحةً على إمكان السلام والدعاء للنصراني، رغم عدم الاضطرار لذلك حتى لو اضطرّ للذهاب للنصراني من حيث هو طبيب، فإنّ الاضطرار للذهاب إليه لا يُلازم إلقاء تحيّة الإسلام عليه. كما أنّه ورد في بعض نصوص مكاتيب النبيّ للملوك استخدام صيغة السلام المستخدَمة بعينها مع المسلمين. واللافت أنّ خبر أبي بصير هنا الوارد عن الإمام جعفر الصادق استدلّ بنفسه بسلام النبيّ على الملوك في إثبات الترخيص.
و ـ ادّعى بعضٌ إمكان الاستعانة ببعض النصوص القرآنيّة للترخيص، كقوله تعالى: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الزخرف: 89)، وكذلك قول إبراهيم لأبيه: (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم: 47)، بعد فصل السلام عن الاستغفار، وقوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 55 ـ 56)، وقوله سبحانه: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (الفرقان: 63).
ونوقش بأنّ هذا ليس تحيّةً، بل هو إعلان مسالمة ومتاركة، إلا إذا قيل بأنّ تحيّة الإسلام (أعني خصوص مقطع: السلام عليكم) لا دليل معتبراً على تضمّنها أزيد من مجرّد إبداء المسالمة ورفع حال الخصومة ونشر ثقافة السلم والتواصل. وهذا هو امتيازها عن تحايا العرب قبل الإسلام والتي كانت تركّز على طول عمر المسلَّم عليه وغير ذلك.
ز ـ قد يثار تساؤل: لو كان هذا الأمر محرّماً مع تجويز نكاح أهل الكتاب، لكان متوقّعاً أن يثير تساؤلاً: كيف يمكن لشخص أن يعيش مع زوجته النصرانيّة مثلاً ولا يسلّم عليها في حياته؟! وإن كان هذا التساؤل لا يرد على تقدير تخصيص الموقف بتحيّة الإسلام.
ح ـ إنّ تفسير السلام بمعنى خاصّ لا يمكن إجراؤه بحقّ غير المسلم قد يتحفّظ عليه، فإنّ غاية السلام الدعاء للمسلَّم عليه بالحفظ والرعاية والسلامة، وهل في الدعاء لغير المسلم ـ من غير المعتدين ـ بمثل ذلك حرمة؟! وما الفرق بين أن تدعو له بكثرة ماله وولده وبين الدعاء له بالسلامة والرعاية، بل النوع الثاني أقرب للدين؛ لأنّ السلامة والرعاية تشمل السلامة الإيمانيّة، فأيّ مانع من ذلك كلّه؟! وقد ورد في مرسل ابن أبي نجران، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله×، قال: عطس رجلٌ نصراني عند أبي عبد الله، فقال له القوم: هداك الله، فقال أبو عبد الله: «[فقولوا]: يرحمك الله»، فقالوا له: إنّه نصرانيّ؟! فقال: «لا يهديه الله حتى يرحمه». بل لو تمّ ما قالوه كفى التنكير في كلمة "سلام"، بل لعلّ قائلاً يقول: إنّ السلام لا يعني أكثر من إبراز المسالمة وعدم الحرب.
الأمر الثالث: استحباب الابتداء بالسلام على الرجل والمرأة من الرجل والمرأة
مال بعضُ الفقهاء إلى كراهة إلقاء الرجل التحيّة والسلامَ على المرأة الأجنبيّة، فلو صادف رجلٌ امرأةً في الطريق أو في مكان العمل أو غير ذلك، فإنّه يكره له ـ ولا يحرم ـ إلقاء السلام عليها حتى لو كانت من أقربائه مادامت أجنبيّةً. وقيّد بعضُ الفقهاء ـ من أمثال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ـ الكراهةَ بالشابّة، فترتفع الكراهة عنده لو كان الملقى عليها السلام امرأةً كبيرة في السنّ.
والأقرب هو صحّة ما ذهب إليه فقهاء آخرون، ومنهم السيّد الخوئي، وهو استحباب إلقاء السلام من قِبَل الرجل على الرجل والمرأة معاً، بل يلزم إضافة استحباب إلقاء المرأة أيضاً السلامَ على الرجل والمرأة معاً، فلا كراهة في البَين مطلقاً فضلاً عن التحريم، عملاً بالعمومات والمطلقات الواردة في الباب. وقد وردت روايات خاصّة تفيد أنّ الرسول‘ كان يسلّم على النساء، بما يُفهم منه أنّ ذلك كان من عادته الجارية. وأمّا مسألة الفتاة الشابّة، فقد ورد في بعض النصوص أنّ الإمام عليّاً× كان يتجنّب السلام عليها؛ لكنّ التجنّب هنا كان ـ بحسب ظاهر النصّ ـ لخوف الفتنة لا لذات السلام، فيكون عنواناً ثانويّاً. هذا، وأمّا ردّ السلام فهو واجب مطلقاً. نعم لو خيف الوقوع في الفتنة أو الحرام لزمهما تجنّب الابتداء بالسلام.
([20]) فيه تأمّل؛ فإنّ النصوص في باب الصلاة لم تربط بين ردّ السلام وكون الردّ واجباً، فما دام يصدق عليه أنّه قد أُلقِيَ السلامُ عليه، فإنّ له الردّ ويصدق عليه أنّه ردّ السلام في الصلاة، فالمفترض صحّة صلاته وإن لم يكن واجباً عليه الردّ بعد ردّ غيره قبله. ودعوى الانصراف إلى الردّ الواجب، والتي ادّعاها الماتن في بحوثه الاستدلاليّة، غير واضحة.
([21]) مع صدق أنّ الجماعة ردّت عليه بردّ الصبي المميّز، فالأقرب الصحّة وسقوط وجوب الردّ عن البقيّة.
([22]) إنّ استخدام المنهج الحرفي في التعامل مع قضايا من هذا النوع فيه غرابة، فالتحيّة مسألة عقلائيّة عرفيّة اجتماعيّة، فإذا سلّم عشر مرات متتالية بحيث لم يقصّروا في ردّ المرّة الأولى، كفى جوابٌ واحد، حتى لو كانت حرفيّة إطلاقات النصوص قد تتطلّب تعدّداً، وكذلك الحال لو سلّم فأجيب فسلّم مرة أخرى، فإنّه يجب الردّ على تقدير أن يكون السلام الثاني حقيقياً، كما سيأتي تأييد ذلك من السيد الماتن في (المسألة رقم: 687).
([23]) استحباباً؛ لأنّ العرف يفهم في مثل هذه الحال أنّ إلقاءهما السلام على بعضهما كافٍ في حصول التحيّة وجوابها؛ وهذا راجع لفهم النكتة المقصديّة من فكرة السلام وردّه، وكذلك مناسبات الحكم والموضوع، فضلاً عن عدم وضوح شمول الأدلّة لمثل هذه الحال. وقد كان السيد الماتن في بحوثه الاستدلاليّة قد أقرّ بعدم وجود دليل على لزوم الردّ عليهما، لكنّه هنا احتاط وجوباً.
([24]) بمعنى اختيار واحدة والجواب بها، لا الجمع بينها. والصيغ الأربع المتعارفة هي: سلام عليكم، والسلام عليكم، وسلام عليك، والسلام عليك.
([25]) وهذا ما يفترض أن يكون هو المراد بالفوريّة، بمعنى أن يصدق عرفاً أنّه أجاب عن التحيّة التي ألقيت عليه بالطريقة المتعارفة، وليس المراد بالفوريّة المعنى الحرفي الدقيق للكلمة، بل فوريّة كلّ شيء بحسبه.
([26]) بل الأقوى.
([27]) وإن كان الأقرب لزوم الردّ، وصحّة الصلاة.
([28]) على الأحوط وجوباً. وعلى الأقلّ للشكّ في صدق عنوان «قراءة القرآن أو ذکر الله» علی ما إذا تفوّه المکلّف بهما دون التفات أو بشکلٍ عفوي ومن دون قصد الذکر والقرآن.