النسخ في القرآن إطلالة على آية التبديل (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ)
حيدر حبّ الله([1])
تمهيد
النسخ من الموضوعات الشائكة والواسعة في التراث الإسلامي، ولا نريد الوقوف على كلّ تفاصيله الآن، وإنّما نقف على آية قرآنية واحدة تتعلّق بهذا الموضوع؛ للتأمّل فيها ودراستها؛ لمعرفة مدى ارتباطها بموضوع النسخ في القرآن الكريم.
لقد اعتمد علماء الإسلام مجموعة من النصوص القرآنيّة التي قالوا بأنّها دالّة مباشرةً على وقوع النسخ في الشريعة الإسلاميّة، وعلينا رصد هذه النصوص وتحليلها؛ لنرى ماذا يمكنها أن تقدّم لنا من معطيات على صعيد بحثنا هذا.
عمدة النصوص القرآنية هنا ثلاث آياتٍ قالوا بأنّها تتكلّم عن وقوع النسخ في الشريعة الإسلاميّة، وسوف نتحدث عن آية واحدة وهي: آية التبديل.
آية التبديل، قراءات وتفاسير
قال تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (النحل: 101)، وبعدها فوراً جاء قوله تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل: 102 ـ 103).
اعتبرت هذه الآية الكريمة دليلاً على وقوع النسخ في القرآن، على أساس أنّ الظاهر من كلمة "الآية" فيها هو الآية القرآنيّة، أي أنّ المعنى سيكون هكذا (وإذا بدلنا آية قرآنية مكان آية قرآنية أخرى والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر)، وهي صريحة في وقوع تبديل آيةٍ بآية، ويبدو أنّ الكافرين كان لهم تعليق على هذا الموضوع جعلهم ينسبون القرآن إلى النبيّ وأنّه مفترٍ، لأن الله هو العالم المطلق ولا يمكن للعالم المطلق أن يغيّر رأيه يوماً بعد يوم، وبما أنّك ـ يا محمّد ـ تغيّر من الآيات القرآنية، فهذا معناه أنّ القرآن من عندك وليس من عند الله، وكان جواب القرآن عليهم أنّ أكثرهم لا يعلمون، وهذا خير دليل على تحقّق ظاهرة النسخ داخل النصّ القرآني نفسه.
ويتأكّد المراد من كلمة "الآية" هنا وأنّه ذو صلة بالنص القرآني لا بأمرٍ آخر، من خلال عنصرين خارجي وداخلي:
العنصر الخارجي: وهو عبارة عن مراجعة نصوص المفسّرين الأوائل في القرن الأوّل وشطرٍ من الثاني الهجري، فإنّ هؤلاء لم يفهموا من كلمة "الآية" إلا الآية من القرآن الكريم، ويبدو أنّه لم يخطر في بالهم معنى آخر.
ولنأخذ، على سبيل المثال، تفسير الطبري الذي ينقل لنا في العادة نصوص المفسّرين الأوائل من الصحابة والتابعين، فنحن لا نجده يذكر وجهة نظر تفسيريّة لهذه الآية تتكلّم عن غير النسخ، وكأنّ المفسّرين المسلمين الأوائل من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين لم يفهموا هذه الآية القرآنيّة إلا بوصفها تتحدّث عن النسخ، ومن ثمّ فإنّ ظاهرة النسخ موجودة في القرآن الكريم.
يقول ـ بعد أن يذهب هو إلى تفسير الآية المتقدّمة بما قلناه ـ: «وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: وإذا بدّلنا آية مكان آية، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: .. عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: وإذا بدّلنا آية مكان آية، رفعناها فأنزل غيرها. حدثنا القاسم.. عن ابن جريج، عن مجاهد: وإذا بدّلنا آية مكان آية، قال: نسخناها، بدّلناها، رفعناها وأثبتنا غيرها. حدّثنا بشر.. عن قَتَادة، قوله:(إذا بدّلنا آية مكان آية) هو كقوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها). حدّثني يونس.. قال ابن زيد في قوله: (وإذا بدّلنا آية مكان آية) قالوا: إنما أنت مفترٍ تأتي بشيء وتنقضه، فتأتي بغيره، قال: وهذا التبديل ناسخ، ولا نبدّل آية مكان آية إلا بنسخ..»([2]).
إنّ عادة الطبري أن يذكر التأويلات المختلفة للآية عند الأجيال الأولى من المفسّرين، غير أنّه في هذه الآية لم ينقل غير وجهة نظرٍ واحدة، وهذا يؤكّد أنّهم لم يفهموا شيئاً آخر غير النسخ هنا.
كما أضاف السيوطي في الدرّ المنثور نصوصاً أخرى عن بعض قدامى المفسّرين علاوة على ما نقله الطبري، فقال: «(وإذا بدّلنا آية مكان آية) الآيتين.. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: وإذا بدّلنا آية مكان آية، قال: هذا في الناسخ والمنسوخ. قال: إذا نسخنا آية وجئنا بغيرها، قالوا: ما بالك قلت كذا وكذا، ثمّ نقضته. أنت تفتري..»([3]).
ولا يقتصر هذا الأمر على الرواية أو الأثر السنّي، بل نجد في الموروث الإمامي ما يؤكّد ذلك وإن كان حجمه أقلّ بكثير، فقد نقل عليّ بن إبراهيم القمي ـ في التفسير المنسوب إليه ـ قائلاً: «وقوله: (وإذا بدّلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر). قال: كانت إذا نسخت آية قالوا لرسول الله‘: أنت مفترٍ، فردّ الله عليهم فقال: (قل لهم ـ يا محمد ـ نزّله روح القدس من ربك بالحقّ) يعني جبرئيل×..»([4]).
وينقل الطبرسي ـ يتبعه غيرُه مثل العلامة المجلسي ـ عن ابن عباس التفسيرَ عينه([5]).
كما نقلت كتب أسباب النزول ما يشهد لهذا الأمر، وعلى سبيل المثال يذكر الواحدي النيسابوري فيقول: «قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) قال المفسّرون: إنّ المشركين قالوا: أترون إلى محمّد يأمر أصحابه بأمرٍ، ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً، ما هذا في القرآن إلا كلام محمّد بقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضاً، فأنزل الله: وإذا بدّلنا آية مكان آية.. الآية، وأنزل أيضاً: ما ننسخ من آية أو ننسأها نأت بخير منها.. الآية»([6]).
العنصر الداخلي: وهو يظهر بالانتقال من الفضاء التاريخي إلى داخل النصّ القرآني، حيث نلاحظ أنّ ما يعزّز ذلك ويحصر تفسير هذه الآية بالنسخ نفسه هو السياق كذلك، فإنّ الآيتين اللاحقتين واضحتان في ربط القضيّة بالنصّ القرآني، وأنّ عمليّة التبديل بين الآيات كانت سبباً في اتهام النبيّ بالافتراء، وأنّ ما يأتي به ليس من عند الله تعالى بل من نفسه أو تعليم بشرٍ له، كما أنّ النسخ في اللغة يتضمّن الإزالة، والتبديل ضرب من الإزالة كما بحثنا ذلك في محلّه في الدلالة اللغويّة والاصطلاحيّة لمفردة النسخ، مضافاً إلى ذلك جواب القرآن فوراً بأنّ الله أعلم بما ينزّل، وهذا مرتبط مباشرةً بتنزيل الوحي والكتاب.
كما أنّ آيةً أخرى تساعد على هذا المعنى وهو قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس: 15)، فقد استخدمت هذه الآية مفردة "التبديل" وعنت به تغيير آية بآية أو القرآن كلّه بغيره، وهذا يعزّز أنّ المراد في الآية التي نحن فيها هو هذا المعنى نفسه.
تعليقات نقديّة على علاقة آية التبديل بفكرة النسخ
كان هذا هو المشهد الذي أعطى جمهور مفسّري الإسلام صورةً واضحة في دلالة هذه الآية على النسخ، لكن في المقابل، ثمّة تساؤلات وملاحظات يمكن طرحها، وأهمّها:
أ ـ الموقف من التفاسير القديمة وما جاء في أسباب النزول
إنّ تفاسير قدامى المفسّرين هنا ليست ـ لو سلّمنا بدلالة كلّ النصوص المنقولة عنهم على موضع النسخ هنا ـ بالذي يشكّل تياراً واسعاً في السياق التفسيري في القرن الأوّل والثاني الهجريّين؛ لأنّ حجم النصوص المنقولة عنهم قليلة للغاية، فليس بيدنا إلا مجاهد بن جبر (104هـ) وقَتَادة بن دَعامة الدوسي (118هـ) وإسماعيل بن عبد الرحمن السدّي (127هـ) وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (182هـ)، والبقيّة لم يتعرّضوا للموضوع. وليس في الصحابة من نقل عنه شيء مثل هذا في خصوص هذه الآية الكريمة. هذا لو تغاضينا عن مديات إمكان إثبات ما نُقل عن هؤلاء الأربعة.
أمّا رواية ابن عباس التي تفرّد بنقلها الواحدي (468هـ) دون إسناد، وبعده الطبرسي كذلك، ولعلّه أخذها منه، ولا نعرف قبلهما من نقل هذا عن ابن عباس، فمن الصعب التأكّد منها، مع هذا الفاصل الزمني الطويل.
وأمّا رواية تفسير القمي، فأمرها أوضح بعد عدم ثبوت نسبة هذا التفسير للقمي، والتباس أمره جدّاً كما حقّقناه في محلّه.
وعليه، فالشواهد التاريخيّة والنزوليّة الحافّة هنا ليست بتلك المثابة التي تفرض علينا الأخذ بها وتفسير الآية على وفقها.
وهذه الملاحظة لا تُبطل دلالة هذه الآية على النسخ، بل تسحب من يد القائل بدلالتها أحدَ العناصر المرجّحة لتفسيرها بالنسخ لا غير.
لكن بعيداً عن النقاش المشار إليه، ولنأخذ الصورة التي قدّمها لنا نقل ابن عباس وأوضحها الواحدي النيسابوري، ولنقم بتحليل المشهد تاريخيّاً. إنّ هذه الصورة تعني أنّ النبيّ كان يعدّل من مواقفه وتوجيهاته ويبدو أنّ ذلك لم يكن في مرّة أو مرّتين، بل كان يتكرّر مراراً وتكراراً، والسؤال لماذا افترض المشركون أو أهل الكتاب أنّه مفترٍ بعد ظواهر النسخ هذه؟! بعبارة أخرى: ما هي العلاقة المنطقيّة المتصوّرة في ذهنهم بين النسخ وبشريّة القرآن حتى افترضوا أنّ النسخ ينفي صفة الإلهيّة عن القرآن الكريم؟
من الواضح أنّهم يعتبرون أنّ الله هو العالم المطلق الذي لا حدّ لعلمه ولا لحكمته ولا لقدرته، وأنّ شخصاً من هذا القبيل لا معنى لأن يُجري أحكاماً ثم يعدّلها ثم يغيّر فيها وهكذا، فهذه العمليّة من شؤون التجارب البشريّة، وليست من شؤون الله سبحانه، فَنَقَلَهُم هذا التصوّر من ظاهرة النسخ إلى ظاهرة البشريّة، وبخاصّة مع تعبير الواحدي النيسابوري بما يفهم منه وقوع الاختلاف داخل القرآن وهو ـ في الجملة ـ مؤشّر البشريّة كما يقول القرآن نفسه (النساء: 82). ويتعزّز هذا الأمر بما سيأتي لاحقاً من أنّ التبديل هنا هل هو بمعنى النسخ الاعتباري الحكمي، أو أنّه بمعنى نسخ التلاوة بمعنى حذف آية تماماً من القرآن ووضع أخرى مكانها؟ الأمر الذي يزيد من إثارة حفيظة المشركين وأهل الكتاب، فيصبح حال النبيّ كحال شخص يصنّف كتاباً وفي كلّ يوم يغيّر مقطعاً، ثم يأتي بغيره الذي هو أحسن منه، أو كالشاعر الذي يواصل نحت شعره في مدّة زمنية طويلة فيغيّر ويبدّل حتى يخرج شِعرُه بأجمل حلّة.. أليس إشكال المشركين صحيحاً من الناحية العقلائيّة ومنطق الأشياء بل ومنطق القرآن نفسه؟
والجواب هو ما تقدّم في ظاهرة حكمة النسخ من حِكَم للنسخ ترفع هذه الفرضيّة وتعيق الجزم بها، غير أنّ اللافت أنّ القرآن الكريم لم يتكلّم ـ في مقام الجواب هنا ـ عن جواب مباشر، بل أعاد تكرار التأكيد على وحييّة القرآن الكريم، والتركيز على جهل أكثر الناس في مقابل علم الله سبحانه، ثم لفت النظر إلى أنّ بشريّته تتطلّب أخذ محمّدٍ من غيره، والمفروض أنّ لسان هذا "الغير" أعجمي والقرآن لسانٌ عربيّ مبين، مع أنّ القرآن الكريم كان من المناسب له هنا بيان العلّة في عمليّات التبديل هذه! هذا الأمر له صلة تارةً بالعنصر التعبّدي في النصوص الدينيّة وأخرى بأسلوب الحكيم الذي استخدمه القرآن مراراً وتكراراً، والتفصيل في محلّه.
واللافت في الآيات هنا أنّها تجعل القرآن تنزيلاً من الروح القدس بهدف تثبيت الذين آمنوا بما قد يوحي بأنّ عمليّة النسخ لها تأثيرات إيجابيّة تثبيتيّة على خصوص الذين آمنوا، وإن أوجبت ارتباكاً عند غيرهم.
ب ـ حول مكيّة آية التبديل والمشكلات القائمة
إنّ هذه الآية من آيات سورة النحل، والمعروف في التاريخ الإسلامي وعلوم القرآن أنّ سورة النحل مكيّة، فيبدو أنّ الكافرين الناقدين لرسول الله هنا هم قريش والمشركون، ولا علاقة للموضوع باليهود الذين أبدوا تشدّدهم في النسخ، بل ربما يقال بأنّه لا دليل على وجود نقاش يهودي في تلك الفترة حول النسخ، وأنّ القول بامتناع النسخ في الوسط اليهودي ـ نقداً على الإسلام ـ جاء لاحقاً. وهذا يعني أنّنا أمام مشكلة في دلالة الآية الكريمة، ففي مكّة لم يكن هناك تشريعات تفصيليّة حتى تعرضها ظاهرة النسخ، وعمدة ما جاء في النص المكّي هو تشريعات أصليّة كليّة عامّة يعلم عدم نسخها في القرآن الكريم، فكيف نفسّر الآية بالنسخ في سياقٍ مكّي؟! وبعد التفاتي لهذه الإشكاليّة، لاحظت أنّ الشيخ جمال الدين القاسمي قد ألمح إليها، كما سوف يأتي عند التعرّض لتفسيره لآية التبديل.
بل يتضاعف الإشكال عندما نلاحظ من خلال نصوص قدماء المفسّرين المنقولة عنهم وأسباب النزول أنّ هذه كانت ظاهرة، وأنّ رسول الله كان يتكرّر منه الأمر بشيء ثمّ تغيير الموقف منه، مما يؤكّد أنّنا أمام ظاهرة قرآنيّة، فكيف يمكن فهم وجود ظاهرة قرآنية (من خلال كلمة: آية) في ظلّ سياق مكّي؟!
لكنّ هذه الملاحظة قابلة للجواب، فإنّه إذا لم نرجّح في تفسير الآية أنّ لها علاقة بالنسخ، فلا حاجة لهذا الإشكال من رأس، وأمّا لو رجّحنا أنّ لها علاقة بالنسخ فهذا الترجيحُ بنفسه كافٍ في جعل هذه الآية مدنيّة. وعنوان المكّي والمدنيّ ليس من العناوين القطعيّة دائماً في التراث الإسلاميّ.
يُضاف إلى ذلك أنّ سورة النحل نفسها لم يثبت كونها مكيّة برمّتها، بل قد ذكر المفسّرون أنّها بين مكّي ومدنيّ، ففي نصٍّ معبّر عن هذا المشهد يقول الطبرسي: «أربعون آية من أوّلها مكيّة، والباقي من قوله: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم) إلى آخر السورة مدنيّة، عن الحسن، وقتادة. وقيل: مكيّة كلّها غير ثلاث آيات، نزلت في انصراف النبيّ‘ من أحُد (وإن عاقبتم فعاقبوا) إلى آخر السورة، نزلت بين مكّة والمدينة، عن ابن عباس، وعطا، والشعبي. وفي إحدى الروايات عن ابن عباس: بعضها مكّي، وبعضها مدنيّ، فالمكّي من أوّلها إلى قوله: (ولكم عذاب عظيم)، والمدنيّ قوله: (ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً) إلى قوله:(بأحسن ما كانوا يعملون)»([7]).
هذا النصّ المكثّف يشرح لنا وجود انقسام حادّ في ما هو المكّي والمدني من سورة النحل، فعلى الرأي الأوّل تكون الآية التي نحن فيها مدنيّة؛ لأنّها الآية رقم: 101 من سورة النحل، أي وقعت بعد الآية الأربعين منها. أمّا على الرأي الثاني فتكون هذه الآية التي نحن فيها مكيّة؛ لأنّ المفروض أنّ آخر ثلاث آيات فقط مدنيّة، وعدد آيات سورة النحل 128 آية، أمّا على الرأي الثالث فهي مكيّة أيضاً؛ لأنّ شروع المدنيّ يقع في الآية رقم: 95، وينتهي عند الآية 96، ثم يعود النص المكّي فتقع الآية رقم: 101، ضمن القسم المكّي.
وبهذا نجد اضطراباً في المكّي والمدني، الأمر الذي يجعل مثل هذه الإشكاليّة غير واضحة، بل لعلّ تعبير "الروح القدس" بعدها وأمثاله يشي بنوعٍ من المقاربة مع الفضاء الذي يعرفه أهل الكتاب فيقرّب الآية من الفضاء المدني والله العالم.
وعليه، فهذه الملاحظة غير صحيحة أو فلنقل: غير قادرة لوحدها على إرباك الموقف، غير أنّها تصلح تساؤلاً جادّاً في وجه من قال بمكيّة هذه الآية، مثل الدكتور مصطفى زيد([8]). إلا إذا قال بأنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الآية هو وقوع النسخ ولو مرّة واحدة فيكون الأمر سهلاً، وبخاصّة لو وقع أواخر العهد المكّي الذي بدأت فيه ـ تحقيقاً أو توقّعاً ـ أولى الاحتكاكات مع أهل الكتاب.
ج ـ أداة الشرط «إذا» ومشكلة عدم الدلالة على تحقّق الشرط
إنّ الآية استخدمت أداة الشرط «إذا» وهي لا تفيد وقوع شرطها بالضرورة، فيكون المعنى أنّه لو قمنا بعملية نسخ في هذا القرآن لقالوا ـ بسبب جهلهم ـ: كذا وكذا، فليس في الآية أيّ إشارة وقوعيّة، بل الإشارة تقديريّة هدفُها الكشف عن جهلهم وما يتوقّع أن يقولوه، ثمّ تأكيد أنّه كتابٌ من عند الله. وعليه فكف نريد إثبات النسخ من خلال مقاربة افتراضية نقديّة قدّمها القرآن الكريم؟!
هذه الملاحظة قابلة للجواب أيضاً، فإنّ استخدام أداة الشرط في سياق وقوع أمر حصل وتحقّق مسبقاً، أمرٌ قائم في اللغة العرفيّة، دون أن يضرّ ذلك بالبناء الشرطي، وبخاصّة مع أداة الشرط "إذا" وليس "إن"، كما أفاد علماء اللغة، فعلى سبيل المثال يكثر أن يأتي زيدٌ إلى بيتك ومعه عمرو، فتقول أنت: إذا جاء زيد إلى بيتي اليوم فعمرو معه، فالجملة تقديريّة شرطيّة، لكنّ فكرتها واقعيّة، وهذا يعني أنّ هناك فرقاً بين ذات الجملة الشرطيّة، وبين كون الدلالة الإجماليّة ـ بقرينة السياق ـ كاشفة عن الوقوع المسبَق، وأنّ هذا البناء الشرطي منشؤه الوقوع المسبق المتكرّر. ويشهد لذلك هنا أنّ الآيات اللاحقة كشفت عن توجيه النبيّ كي يبيّن لهم أنّ هذا القرآن من عند الله، وأنّه نزل به الروح القُدس، فالآية لا تريد تقديم افتراضات خالصة لا خلفيّة وقوعية لها، بل تكشف في عمليّة الفرض عن واقع قائم بالفعل.
د ـ تفسير ابن بحر الإصفهاني المعتزلي لآية التبديل
ما يظهر من أبي مسلم الإصفهاني ـ القائل بامتناع النسخ ـ حيث نقل عنه الفخر الرازي قائلاً: «قد ذكرنا أنّ مذهب أبي مسلم الأصفهاني أنّ النسخ غير واقع في هذه الشريعة، فقال المراد ههنا: إذا بدّلنا آية مكان آية في الكتب المتقدّمة، مثل أنّه حوّل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قال المشركون: أنت مفترٍ في هذا التبديل. وأمّا سائر المفسّرين فقالوا: النسخ واقعٌ في هذه الشريعة»([9]).
فأبو مسلم اعتبر أنّ التبديل هنا شرائعي وليس داخل الشريعة الإسلاميّة، فكأنّ اليهود عندما كان يغيّر تشريعاتهم كانوا ينتقدونه بأنّ هذا افتراء منه، ولعلّه لهذا تمّ استخدام مفردة الروح القدس والتي لها حضور أيضاً في التراث اليهودي كالمسيحي، مع اختلافات في المفهوم تراجع في محلّها.
ولعلّه يمكن فرض تفسيرين لما ذهب إليه الإصفهاني ـ كما رجّحه الدكتور مصطفى زيد([10]) ـ وهما:
التفسير الأوّل: ما تقدّم في كلمات الفخر الرازي، مما ظاهره أنّ المراد بالآية المنسوخة ـ وفقاً لكلام الإصفهاني ـ هو الآية من الكتب السماويّة السابقة، فالعلاقة بين آيتين: إحداهما في الكتب السابقة والثانية ـ وهي الناسخة ـ في القرآن الكريم. وهذا التفسير يحافظ على دلالة كلمة "الآية" غير أنّه يغيّر موضعها وينوّعه.
التفسير الثاني: ما يظهر من طريقة عرض القرطبي لمذهب أبي مسلم الإصفهاني، حيث قال: «قيل: المعنى بدّلنا شريعة متقدّمة بشريعة مستأنفة، قاله ابن بحر»([11]).
والفرق بين التفسيرين أنّ استبدال شريعةٍ بشريعة لا يناسبه التعبير بتبديل آية بآىة؛ لأنّ الشريعة لا يطلق عليها تعبير "الآية"، وهو ما سجّله بعضهم نقداً هنا على الإصفهاني([12])، على عكس الآية من القرآن والآية من كتابٍ سماويّ سابق. وربما ـ وهذا مجرّد احتمال ـ لا يراد بعبارة القرطبي شيءٌ مغاير لمفاد نقل الرازي، فالشريعة هنا لا يراد منها المنظومة الكاملة، بل يراد ما شُرّع في السابق، فيصدق على المفرد والجمع معاً، والله العالم.
وقفات تأمّلية مع نقد مصطفى زيد لابن بحر المعتزلي
وقد أسهب بعضُ العلماء المعاصرين ـ وهو الدكتور مصطفى زيد ـ في نقد تفسير أبي مسلم الإصفهاني المعتزلي هنا، فقال بأنّ الآيات التي سبقت هذه الآية مباشرةً، فيها حديثٌ عن القرآن الكريم، قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل: 98 ـ 100)، وبعد الآية محلّ الشاهد وقع الكلام عن القرآن الكريم وحقّانيّة وحيه من الله سبحانه، وما بين هذين الأمرين استخدام الآية تعبير «إذا» وهو في القرآن يقع غالباً على أمرٍ تحقّق من قبل أو على أمرٍ يغلب وقوعه، أو سيقع حتماً، فيكون معنى «إذا» هنا هو: حين ننسخ آية بآية يقولون كذا وكذا.. افتراءً على الوحي الحقّ؛ لأنّ الشيطان مسلّط عليهم كما يفيده سياق الآية السابق عليها، فإذا ضممنا إلى هذا السياق كلّه أنّ الآية مكيّة، لم يعد من المعقول أن يكون إشكال المشركين من قريش مركّزاً على نسخ حكمٍ في شريعةٍ سابقة، فهذا الإشكال بطبعه أديانيّ يمكن فهمه من قبل أهل الكتاب، لا من قبل مشركي العرب، وبهذا يترجّح أن يكون معنى كلمتَي: "الآية" في الآية التي نحن بصددها هو الآية القرآنيّة المنسوخة بمثلها. ويتعزّز هذا الأمر بأنّ الإصفهاني ربط الموضوع بتحويل القبلة في حين ظاهرة تحويل القبلة وقعت بعد الهجرة بقرابة سنة ونصف أو أقلّ بقليل، ويزداد الأمر ضعفاً عندما نراجع الكتب التاريخيّة والنزوليّة والتفسيريّة القديمة فلا نجد أحداً يشير إلى نزول هذه الآية في سياق الحديث عن تحويل القبلة، وحتى لو تجاهلنا هذا الأمر برمّته، فإنّ معنى «قالوا» في الآية محلّ الشاهد سوف يكون: قالت اليهود؛ لأنّ اليهود هم المعنيّون بالموضوع، في حين عندما نرى الآية السابقة على الآية محلّ الشاهد نجدها تعبّر بالمشركين، الأمر الذي يضع نوعاً من المنافرة في تركيبة الآية وإيحاءاتها، كما أنّ تهمة أخذ محمّد من علماء الأديان الأخرى هي تهمة معروفٌ في التاريخ نسبتُها لقريش والمشركين دون أهل الكتاب الذين يعرفون صدق محمّد حقّ المعرفة كما قال القرآن نفسه، هذا كلّه إلى جانب عدم تقديم الإصفهاني أيّ دليل على صحّة ادّعائه بأنّ الآية الأولى هي آية كتاب مقدّسٍ آخر بينما الآية الثانية هي آية قرآنيّة([13]).
ولنتوقّف قليلاً مع محاولة مصطفى زيد، ببعض المداخلات:
أ ـ إنّ سياق الآيات السابق واللاحق في تركيزه على حقّانية القرآن الكريم لا ينفع شيئاً هنا في مواجهة تفسير أبي مسلم الإصفهاني؛ لأنّ المفروض أنّ تفسيره هو الآخر يقع في سياق تأكيد كون القرآن حقّاً ووحياً من الله سبحانه، فعندما يقوم القرآن بنسخ حكمٍ في شريعةٍ سابقة، فهو يحتاج لإثبات نفسه بوصفه من الله كي يقوم بذلك، فالآيات السابقة واللاحقة تؤكّد هذا الأمر، وتخلق بيئة حاضنة لشرعيّة ممارسة القرآن عمليّة نسخ آيةٍ من كتابٍ دينيّ سماوي سابق.
ب ـ قد سبق أن تحدّثنا عن موضوع مكيّة الآية المستدلّ بها هنا، ومن ثمّ فكلّ ما بنى عليه الدكتور زيد غير دقيق.
ج ـ إنّ عدم إشارة الكتب التفسيريّة والنزوليّة لسبب نزول هذه الآية في المدينة لا يضرّ؛ فلنفرض أنّها لم تنزل في موضوع تحويل القبلة، فهذا لا يغيّر من فكرة الإصفهاني شيئاً، وكأنّ الدكتور زيد تشبّث بفكرة تحويل القبلة ليحاسب الإصفهاني عليها، والحقّ معه، فإنّ الإصفهاني لا يملك ـ فيما يبدو ـ دليلاً على ربط نزول هذه الآية بتحويل القبلة، لكنّ هذا لا يعني أنّ عدم إشارة الكتب لسبب نزول هذه الآية يفيد أن لا علاقة لها بأهل الكتاب، فالكتب لم تُشر أيضاً لسبب النزول في قريش وأهل مكّة إلا إشارة عابرة متأخّرة سبق أن توقّفنا معها.
د ـ إنّ وقوع «إذا» في سياق تحقّق أمر ولو مستقبلاً بحسب الاستخدامات القرآنيّة، لا يربك تفسير الإصفهاني أصلاً؛ لأنّ الإصفهاني ليست مشكلته ـ كما انتبه زيد في موضعٍ آخر ـ مع كلمة «إذا»، بل مشكلته مع دلالة كلمة «آية» في الآية المستدلّ بها هنا، فلا جديد تقدّمه لنا هذه القرينة.
هـ ـ إنّ عدم تقديم الإصفهاني دليلاً على تفسيره لا يعني بطلان تفسيره؛ لأنّه يخلق فرضيّة تفسيريّة معقولة. وخلقُ فرضية من هذا النوع كافٍ لوحده في إرباك استدلال المشهور هنا، فنحن لا نريد فقط إبطال تفسير الإصفهاني، بل أيضاً تأكيد تفسير المشهور. ومجرّد عدم وجود دليل للإصفهاني يبطل فرضيّته بما هي واقع، لكنّه لا يبطلها بوصفها فرضيّة معقولة.
من هنا، فلعلّ أفضل القرائن التي قدّمها الدكتور مصطفى زيد هو: تعبير المشركين في الآية السابقة، ومعهوديّة تهمة الأخذ من الآخرين من قبل المشركين، ولا أدري هل تكفي مثل هاتين القرينتين في البتّ في انعقاد ظهور قرآني في هذه الآية يثبت النسخ وقوعاً في القرآن الكريم؟! وربما لو أضفنا إليها أنّ إطلاق كلمة الآية على نصّ غير قرآني، معدوم أو نادر جداً في الأدبيّات الإسلاميّة لعزّز ذلك من إضعاف تفسير ابن بحر المعتزلي وقوّى رأيَ المشهور.
د ـ قراءة جمال الدين القاسمي لآية التبديل (الانفصال التامّ عن السياق التشريعي)
يقدّم الشيخ جمال الدين القاسمي (1914م) ـ أحد رموز النهضة الإسلاميّة الحديثة في بلاد الشام ـ قراءةً مختلفة تماماً لآية التبديل هنا، حيث يقول: «والأكثرون على أنّ المعنى نسخ آية من القرآن ـ لفظاً أو حكماً ـ بآية أخرى غيرها، لحكمةٍ باهرة أشير إليها بقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من ناسخ قضت الحكمة أن يتبدّل المنسوخ الأوّل به. وذهب قومٌ إلى أنّ المعنى تبديل آية من آيات الأنبياء المتقدّمين، كآية موسى وعيسى وغيرهما من الآيات الكونيّة الآفاقيّة، بآية أخرى نفسيّة علميّة، وهي كون المنزل هدى ورحمة وبشارة يدركها العقل إذا تنبّه لها وجرى على نظامه الفطري. وذلك لاستعداد الإنسان وقتئذٍ لأن يخاطب عقله ويستصرخ فمه ولبّه، فلم يؤتَ من قِبَل الخوارق الكونيّة ويدهش بها كما كان لمن سلف، فبدّلت تلك بآية هو كتاب العلم والهدى من نبيّ أمّيّ لم يقرأ ولم يكتب. وكون الكتاب بيّن الصدق قاطع البرهان ناصع البيان بالنسبة لمن أوتي ورزق الفهم. وهذا التأويل الثاني يرجّحه على الأوّل أنّ السورة مكيّة. وليس في المكّي منسوخ بالمعنى الذي يريدونه، وللبحث تفصيل في موضع آخر.. والمقصود أنّه تعالى، لما رحم العالمين وجعل القرآن مكان ما تقدّم، نسبوا الموحى إليه به إلى الافتراء، ردّاً للحقّ وعناداً للهدى وتولّياً للشيطان وتعبّداً لوسوسته، وما ذاك إلا لجهلهم المتناهي، كما قال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. واعتراض قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم»([14]).
ينطلق القاسمي في فكرته ـ التي نسبها لقومٍ لم يذكر من هم ـ من أنّ التبديل هنا هو في نوع الآية التي يمنحها الله لنبيّه؛ فسابقاً كانت الآية ذات طابع كوني، بينما تحوّل الأمر في النبوّة المحمّدية إلى طابع عقلي معرفي، فلم يعد هناك عصا تتحوّل إلى ثعبان أو بحر ينشطر إلى شطرين أو ميّت يتمّ إحياؤه، بل صارت الآية ذات بعد لغوي معرفي عقلي؛ لأنّ البشر تسامت عقولهم، فصاروا مؤهّلين لآياتٍ من هذا النوع.
ولكي أحلّل مقاربة القاسمي هنا ونفهم أكثر من هم القوم الذين قصدهم، يجب علينا أن نستعيد الطروحات المتأخّرة في العصر الحديث لفكرة ختم النبوّة، ففي سياق تحليل ظاهرة ختم النبوّة ومبرّراته طرحت مقولات أعتقد أنّها هي التي تكمن وراء تفسير القاسمي هنا، والمفترض أن نصنّف القاسمي هنا على أنّه يميل لأحد المدارس، وذلك أنّ هناك أكثر من اتجاه في تحليل الخاتميّة، أبرزها:
الاتجاه الأوّل: وهو الاتجاه المدرسي الموروث الذي يرى أنّ سبب الخاتميّة ومبررها وفلسفتها هو أنّ النبوّات السابقة كانت تغطّي حاجات الإنسانيّة بشكل محدود، بينما النبوّة المحمّديّة جاءت بما يغطّي حاجات الإنسانيّة إلى ما لا نهاية، الأمر الذي فرض منطق الخاتميّة.
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي لا يدرس الخاتمية من خلال قدرة النبوّات على رفع حاجات البشر عبر التمييز بين النبوّة المحمّدية وما سبقها، بل يدرس الخاتميّة على أساس سبب ظهور النبوّة أصلاً في حياة الإنسان، فالنبوّة تكمن فلسفة وجودها في عدم بلوغ البشر المستوى العقلي المنشود الذي يمكّنهم من الاستمرار في مسير الكمالات بشكل ناضج، ولهذا كانت النبوّات تتتالى في حياة البشر، بينما في العصر المحمّدي كانت البشرية قد بلغت مرحلة النضج والرشد العقلي وتجاوزت مرحلة الطفولة، فصار العقل الإنساني قادراً على حمل الدين الخاتم وفهمه والعمل عليه وتطبيقه. وداخل هذا الاتجاه توجد مقولات مختلفة وشخصيّات متعدّدة وقع خلاف في تفسير نظريّاتها أصلاً، وعلى رأس هؤلاء: محمّد إقبال (1938هـ)، وعلي شريعتي، ومرتضى مطهري وغيرهم ممّن شارك في تقوية أو نقد هذا التوجّه مثل محمد الحسيني البهشتي ومحمّد تقي مصباح اليزدي وغيرهما.
وداخل هذا الاتجاه يوجد فريق آخر يذهب به أبعد من ذلك حين يرى أنّ العقل الإنساني ـ الفردي أو الجمعي ـ بلغ مراحل النضح بحيث لم يعد بحاجة للنبوّات، وأنّ مرحلة النبوّات تمّ تخطّيها، وهناك نقاشات في تفسير نظريّات متأخّرة على أنّها تنتمي لهذا الرأي في الوسط الإسلامي مثل نظريّات عبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري وغيرهما، وهو الاتجاه الذي يصنّفه كثيرون على أنّه يعتقد بالعبور من مرحلة النبوّات إلى مرحلة العقل العلماني المؤمن بالله والقيم الروحيّة والدينيّة العليا، بل وفقاً لرأي شبستري نحن الآن في مرحلة نقد "تعالي الوحي عن النقد".
بعد هذا التمهيد، يمكنني فهم الشيخ القاسمي أكثر، فهو يفكّر هنا في سياق طروحات ختم النبوّة، مطّلعاً فيما يبدو على بدايات الحديث عن هذا الموضوع، والذي ربما يقال بأنّه شرع في شبه القارّة الهنديّة نهايات القرن التاسع عشر الميلادي.
يريد القاسمي أن يقول بأنّ العقل الإنساني بلغ في عصر النبوّة المحمديّة مرحلة نضج عالية بحيث صار مؤهّلاً لأن يخاطَب بالكلمة بدل الحدث الكوني، ولهذا كانت النبوّة المحمديّة نبوّةَ كلمة ومعجزةَ كلمة، والكلمة هي اللغة والعقل والفهم والإدراك، هذا التحوّل حصل في عصرٍ برزخي ـ إذا صحّ التعبير ـ وهو العصر المحمدي، فاستغربه بعض الناس ورفضوه، وقالوا بأنّ النبوات آياتها وعلاماتها وبيّناتها كونيّة خارقة، من هنا تأتي هذه الآية ـ أعني آية التبديل ـ لتؤكّد أنّ تبديل الله لآيةٍ كونيّة بآية معرفيّة لا يمكن تفسيره في سياق افتراء محمّد، بل هو في سياق معرفة الله العالِم بكلّ شيء، والذي عرف أنّ البشريّة أخذت تعبر برزخ الواسطة بين العقل الطفولي والعقل الراشد.
وربما يعزّز القاسميُّ كلامَه هذا بالرفض القرآني المتكرّر لتقديم معجزات كونية ماديّة، وهو ما أثار بعضَ مفكّري شبه القارّة الهنديّة في القرنين: التاسع عشر والعشرين، وتبعهم غيرهم، والذين رفضوا وجود معجزة أخرى لمحمّد غير القرآن الكريم، مستندين لمثل قوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) (الإسراء: 90 ـ 93). وقوله سبحانه: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) (الإسراء: 59)، وقوله عزّ وجلّ: (وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (يونس: 20).
فهذا التأكيد القرآني يعزّز موقف القاسمي من فكرة التحوّل من الآية الكونيّة إلى الآية المعرفيّة أو آية الكلمة. بل يمكن أن نضيف بأنّ القاسمي قد يعزّز موقفه في أنّ المراد التحوّل في نوعيّة الآيات الآتية مع الأنبياء بقوله تعالى في الآية الأخرى من آيات وقوع النسخ، حيث قال تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (البقرة: 106 ـ 108)، فإنّ التذييل بالقدرة أقرب لهذا الموضوع منه لموضوع النسخ التشريعي، إضافة للحديث عمّا سُئل موسى من قبل فإنّ مراجعة ما سألوا موسى يعطي أنّ المراد هي الأمور التكوينية كرؤية الله وغير ذلك من مظاهر قوّته.
هذه خلاصة تحليلي لفكرة وسياقات ما طرحه القاسمي هنا.
وقد انتقد القاسميَّ الدكتورُ مصطفى زيد بأنّه لم يبيّن لنا من هم هؤلاء القوم الذين رجّح قولهم على قول الأكثر في تفسير الآية الكريمة؟! كما أنّ ادّعاء عدم وجود نسخ في مكّة لا دليل يُثبته، ودعوى أنّ أوّل نسخ هو نسخ القبلة المنسوبة إلى ابن عباس لم تثبت، وحتى لو ثبتت فإنّ الآية المكيّة تشير بكلمة «إذا» إلى ما سيقع، تماماً كما هي استخدامات «إذا» كثيراً في القرآن الكريم في قضايا تتصل بوقائع يوم القيامة([15]).
ولكنّ مداخلات زيد قابلة للمناقشة، وذلك:
أوّلاً: إنّني أرجّح أنّ مقصود القاسمي من القوم هو السياق الذي تحدّثتُ عنه قبل قليل. ويحتاج الأمر لمراجعة التراث الإسلامي في شبه القارّة الهنديّة في تلك الفترة. ولو سلّمنا فمجرّد كون رأيه مخالفاً للمشهور لا يوجب التخلّي عنه.
ثانياً: إنّ مصطفى زيد وقع فيما يشبه التناقض هنا، ففي مناقشته للإصفهاني المعتزلي أصرّ على أنّ المعترضين على النبيّ هم المشركون في مكّة، فيما هنا يشير إلى أنّ كلمة «إذا» استقباليّة للحديث عن وقوع النسخ لاحقاً، ويبدو لي أنّ ثمّة منافرة بين الفكرتين، فتأمّل جيّداً فسوف تلاحظ ذلك.
وعلى أيّة حال، فهل تحليل القاسمي لآية التبديل صحيح أو لا؟
أعتقد بأنّ النصّ القرآني استخدم كلمة "الآيات" مرّات كثيرة جدّاً في الآيات الكونيّة، كما استخدمها ـ وبخاصّة في حال الجمع ـ في النصوص الدينيّة الموحاة للأنبياء، ومن ثمّ فتعبير الآية أو الآيات في القرآن الكريم لا يرجّح لنا بنفسه الآية الكونيّة على آية الكتاب المقدّس، أيّ كتابٍ كان، فعلينا النظر في السياقات.
كما أنّ ربط كلمة "الآية" في القرآن بالكونيّات دون الكلام الوحييّ، يغلب معه استخدام المجيء بآية أو الإتيان بآية، ممّا قد يرجّح في موضع بحثنا كون الآية مرتبطة هنا بأمرٍ وحييّ، لكنّ تعبير "تنزيل آية" في حقّ الآيات الكونيّة والمعاجز هو أمرٌ قائم في النصّ القرآني أيضاً، قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (الأنعام: 37)، وقال سبحانه: (وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (يونس: 20)، وقال عزّ من قائل: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (الرعد: 7)، ومن ثمّ فلا يمكننا من تعبير "التنزيل" الوارد هنا في آية التبديل أن نجعله قرينة على كون المراد من الآية هو الأمر الكتابيّ الوحييّ. وعليه فلا كلمة "الآية" في الاستخدام القرآني ـ إفراداً وجمعاً ـ يمكنها أن تساعدنا هنا في الترجيح، ولا وضع هذه الكلمة ضمن مجموعة كلمات ذات صلة (أسرة لغويّة) من نوع "المجيء" أو "التنزيل" أو "الإتيان" يمكنه أن يحقّق لنا ذلك.
وسأفترض هنا أنّ السياق الفكري الذي انطلق منه القاسمي ـ وفقاً لما شرحناه آنفاً ـ هو صحيح بأكمله، لكن هل تدلّ آية التبديل على الفكرة التي طرحها القاسمي؟ ولو لم يكن هناك وضوح في الدلالة فهل يبقى فهم القاسمي محتملاً بقوّة بحيث يُربِك الفهم المشهور هنا؟
كما أنّ ربط الآية بقصّة تحويل القبلة لا معنى له بعد أن كان قبلة الأقصى لا وجود لها في القرآن أصلاً، وقد سبق أن تحدّثنا عن عدم وجود نسخ في مكّة.
يجرّنا تحليل القاسمي هنا إلى الوقوف عند فكرة إعجاز القرآن الكريم، فإذا كان القرآن معجزةً فإنّ العرب يفترض أن تعتبر هذا الاعجاز أمراً ماديّاً، فما الفرق بين إعجاز القرآن وإعجاز غيره، وبخاصّة أنّ فكرة الكتب السماويّة كانت موجودة قبل النبيّ محمّد، ولا سيما مع النبيّ موسى؟!
يبقى أن نشير لأمر مهمّ، وهو أنّ القاسمي في آية النسخ يقرّ بالنسخ التشريعي، لكنّه يمثّل له بالنسخ الشرائعي، إنّه يقول: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أي ما نبدّل من آية بغيرها ـ كنسخنا آيات التوراة بآيات القرآن ـ أَوْ نُنْسِها أي نذهبها من القلوب ـ كما أخبر بقوله: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ (المائدة: 13) ـ وقرئ (أو ننسأها) أي نؤخّرها ونتركها بلا نسخ، كما أبقى كثيراً من أحكام التوراة في القرآن..»([16]).
_____________________________
([1]) هذا تقرير لمحاضرة ألقيت في القسم الثقافي من جمعيّة التعاون الخيريّة في بغداد ـ العراق، عبر تطبيق زووم، بتاريخ 26 ـ 3 ـ 2024م، وقد ساعد في تدوين هذا التقرير فضيلة السيد أيمن عبد الزهرة الموسوي، وقام الشيخ حبّ الله بعد ذلك بإجراء دجملة من التعديلات والإضافات.
([2]) جامع البيان 14: 230 ـ 231.
([3]) الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 4: 131.
([4]) تفسير القمي 1: 390.
([5]) انظر: مجمع البيان 6: 200؛ وبحار الأنوار 9: 117.
([6]) الواحدي، أسباب النزول: 21.
([7]) مجمع البيان 6: 135.
([8]) النسخ في القرآن الكريم: 237.
([9]) التفسير الكبير 20: 116؛ وسعيد الأنصاري، ملتقط جامع التأويل لمحكم التنزيل: 65.
([10]) النسخ في القرآن الكريم: 235 ـ 236.
([11]) الجامع لأحكام القرآن 10: 176.
([12]) انظر: النسخ في القرآن الكريم: 236 ـ 237.
([13]) انظر: النسخ في القرآن الكريم: 231 ـ 235، 237 ـ 241.
([14]) محاسن التأويل 6: 408 ـ 409.
([15]) النسخ في القرآن الكريم: 241 ـ 242.
([16]) محاسن التأويل 3: 370 ـ 371.