hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

دروس تمهيديّة في علم الحديث (دورة مختصرة للمبتدئين)

تاريخ الاعداد: 1/25/2025 تاريخ النشر: 1/25/2025
1680
التحميل

سلسلة دروس تمهيديّة ابتدائيّة في تعليم الحديث ألقيت في مؤسّسة المهدي في بيرمنغهام ـ بريطانيا، خريف عام 2024م

 

حيدر حبّ الله


 

الحلقة الأولى

علوم الرجال والحديث

الهوية والتعريف وقصّة النشأة

مقدّمة

قبل أن أبدأ بهذه الدروس يجب عليّ أن أوضح أنّها ليست دروساً لمراحل متوسّطة أو متقدّمة في علم الحديث، بل هي دروس أوليّة جداً، الهدف منها إطْلاعُكم على بعض الأوليّات التي يمكن من خلالها فهم هذا العلم، وكيف يتمّ العمل فيه، وأخذ فكرة عامّة عنه، وذلك من خلال أسلوب عرضٍ تاريخي إلى حدّ ما.

حديثنا اليوم سوف يجيب عن هذا السؤال: ما هو علم الحديث؟ ما هو علم الرجال؟ وما قصّتهما؟

دعونا نبدأ من نقطة الصفر، لقد بعث الله رسولَه محمّداً لكي يكون رحمةً للعالمين، وأنزل عليه القرآن الكريم، فكان رسول الله يبلّغ الناس ما أوحيَ إليه من ربّه، فيتلو عليهم آيات القرآن، ويدعوهم لحفظها وإتقانها والعمل بها، وإلى جانب القرآن كان رسول الله بنفسه يعبّر في كلماته وسلوكه وأفعاله عن رسالة الله للإنسانيّة، فكان أنموذجاً للأخلاق الرفيعة، وكان كلامه مملوءاً بالحكمة والهداية والإرشاد وإصلاح النفوس والأرواح، وكان ـ بشكلٍ مباشر أو غير مباشر ـ يشرح لهم ويفصّل لهم كتاب الله ىسبحانه، فكان الله يأمر بالصلاة وكان رسول الله يبيّن لهم كيف يصلّون، وكان الله يأمر بالحجّ، وكان رسول الله يبيّن لهم كيف يحجّون، ولهذا جاء في الحديث النبويّ أنّه قال: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي»، فأراد أن يعلّم الناس كيف يصلّون من خلال عملهم بالطريقة التي كان يصلّي هو بها.

شيئاً فشيئاً، تحوّل النبيّ في حياة المسلمين الأوائل إلى مُلْهِم وقدوة ومعلِّم، فكانوا يرجعون للقرآن الكريم كما كانوا يرجعون للنبيّ أيضاً، حتى أنّهم كانوا يسألون النبيّ أحياناً عن تفسير هذه الآية أو تلك، وبهذا ظهر مرجعان كبيران لمعرفة الإسلام الذي جاء به الرسول محمّد: القرآن الكريم، والسنّة الشريفة. وما يزال المسلمون إلى اليوم يرجعون للقرآن والسنّة في معرفة دينهم وأعمالهم وعقيدتهم وسلوكهم وأخلاقهم.

 

ظهور مفهوم السنّة

لقد تحوّل النبيّ بشخصه الكريم إلى مرجعٍ لمعرفة الدين إلى جانب القرآن، وبهذا وُلد عمليّاً مفهوم "السُنّة"، وعندما يستخدم العلماء مصطلح "السنّة"، فهذا يعني عندهم ذلك الإرث الذي جاءنا من النبي محمّد، غير القرآن، ويتمثل في ثلاثة أمور:

1 ـ أقوال النبيّ وأجوبته عن أسئلة الناس، وما كان يعظ به المسلمين ليلاً ونهاراً لحوالي ثلاثة وعشرين سنة.

2 ـ أفعال النبيّ، أي سلوكه وأعماله وما كان يفعل في يومه وليله، وما كان يترك، وما كان يأكل ويشرب، وكيف كان يصلّي ويصوم ويحجّ، وكيف كان يعامل أزواجه وأولاده وأقرباءه والمسلمين، وكيف كان يتعامل في حروبه مع الكافرين، وكيف كان أسلوبه في الحوار والنقاش والدعوة إلى الله.

هذه الأفعال كلّها تمثل الجزء الثاني من السنّة النبويّة، لكنّه جزءٌ صامت، لا يوجد فيه كلام مثل الجزء الأوّل، بل هو أعمال وسلوك كان يمارسه النبيّ باستمرار أو أحياناً.

3 ـ ما نسمّيه تقرير النبيّ أو إمضاء النبي، ويعني ذلك أنّ النبيَّ لا يقول شيئاً ولا يفعل شيئاً، لكنّ حدثاً معيّناً يجري أمامه فيسكت النبيّ عنه، فهنا نعلم أنّ هذا الحدث ليس بحرام، لأنّه لو كان حراماً لكان على النبيّ أن ينهى عنه، وهو الذي بُعث لتعليم الناس وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فلو صافحت امرأةٌ امرأةً أخرى، ورأى النبيّ ذلك وسكت ولم يقل شيئاً، فهذا معناه أنّه راضٍ بهذا الفعل، وأنّ مصافحة المرأة للمرأة حلال، وهكذا عندما يسكت النبيّ عن عادات وأعراف كانت سائدةً بين العرب والقبائل في تلك الفترة، فهذا يعني أنّه لا يرفضها وإلا لكان عليه أن يبيّن للمسلمين أنّها مرفوضة عند الله؛ لأنّ وظيفته التي أتى بها من عند الله تتطلّب منه ذلك.

 

مدوّنات الحديث الكبرى

من خلال هذه الأجزاء الثلاثة (القول والفعل والتقرير) تتولّد السنّة النبويّة التي قلنا بأنّها أصبحت مرجعاً لمعرفة الدين إلى جانب القرآن الكريم، ولهذا اهتمّ المسلمون عظيم الاهتمام بأقوال النبيّ وأفعاله وتقريره، ونقلوا جيلاً بعد جيل ذلك؛ لكي تتعرّف الأجيال اللاحقة على السنّة النبويّة الشريفة، حتى جاء القرن الثالث والرابع والخامس، حيث دوّن علماء المسلمين أكبر الكتب التي تجمع الأحاديث النبويّة وأحاديث أهل البيت، وأهمّها:

أمّا عند الشيعة:

1 ـ الكافي، للشيخ محمّد بن يعقوب الكليني (329هـ).

2 ـ كتاب من لا يحضره الفقيه، للشيخ محمد بن علي بن الحسين الصدوق (381هـ).

3 ـ تهذيب الأحكام، للشيخ محمد بن الحسن الطوسي (460هـ).

4 ـ الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، للشيخ الطوسي أيضاً.

وهذه تسمّى الكتب الأربعة عند الشيعة، وحيث إنّ مؤلّفيها اسمهم (محمد)، فقد عرفوا بالمحمّدين الثلاثة.

وفي القرن الحادي عشر ألّفت ثلاث موسوعات حديثيّة ضخمة عند الشيعة، جمعت أحاديث النبيّ وأهل بيته وهي:

1 ـ الوافي، للشيخ محمد الفيض الكاشاني (1091هـ).

2 ـ تفصيل وسائل الشيعة، للشيخ محمد الحر العاملي (1104هـ).

3 ـ بحار الأنوار، للشيخ محمّد باقر المجلسي (1111هـ).

وقد عُرفوا بالمحمّدين المتأخّرين.

أمّا أهل السنّة، فاشتهرت عندهم تسعة كتب أساسيّة وغيرها، نذكر منها:

1 ـ صحيح البخاري (256هـ).

2 ـ صحيح مسلم النيسابوري (261هـ).

3 ـ سنن ابن ماجة القزويني (273هـ).

4 ـ سنن أبي داود السجستاني (275هـ).

وغيرها من الكتب.

 

تطوّر التعامل مع السنّة بعد وفاة النبيّ

بعد هذا التقديم نواجه سؤالاً أوّليّاً يأتي إلى أذهاننا، وهو أنّه كيف تعامل المسلمون مع السنّة النبويّة بعد وفاة النبيّ؟

في الفترة الأولى كان تعامل المسلمين مع السنّة النبويّة بسيطاً وعفويّاً، كانوا عندما يواجهون قضيّةً يأتي أحد الصحابة ويقول: أنا سمعت رسول الله يقول كذا وكذا، فيقول صحابيٌّ آخر مثلاً: وأنا أيضاً سمعته يقول ذلك.. وهنا يأخذ المسلمون بما نقله هؤلاء الصحابة ويعملون به، وقد كان هذا يحدث حتى بمحضر خليفة المسلمين، فهناك العديد من الروايات التاريخيّة التي تقول بأنّ أموراً وقعت وأراد الخليفة أن يحكم فيها أو أنّ نزاعاً بين شخصين وقع وأراد الخليفة أن يحكم فيه، فكان يأتي بعض الصحابة الذين سمعوا شيئاً من النبيّ بهذا الصدد، فينقلون أنّهم سمعوه يقول كذا وكذا، فيأخذ الخليفة بقولهم، فيحكم على وفق ما قال النبيّ..

ليس هناك شواهد كثيرة تتكلّم عن وجود مشكلة واسعة في تصديق هؤلاء الناقلين، لكن في تلك الفترة من خلافة أبي بكر وعمر ـ ومن الطبيعي بعدهما أيضاً ـ كان هناك نقاشٌ آخر، ولكي نوضح هذا النقاش الذي يعدّ من أوائل أشكال النقاش في نقل الحديث النبويّ، علينا أن ننتبه إلى مفهومين: مفهوم الكذب ومفهوم الخطأ وعدم الدقّة والضبط.

نحن نجد في حياتنا أشخاصاً غير صادقين حيث يختلقون القصص غير الواقعيّة، وينسبون للآخرين أقوالاً أو أفعالاً، وهم لم يقولوها ولم يفعلوها، وهؤلاء نسمّيهم الكذابين، لكن من ناحية أخرى هناك أشخاص صادقون جداً، ولا يكذبون فيما يقولون، لكنّ أسلوبهم أو مستواهم الذهني أو مستوى تركيزهم قد يكون ضعيفاً، فينقلون بشكلٍ غير دقيق، فأنت تقول له: أنا ذهبت إلى لندن بهدف دراسة الكيمياء في الجامعة هناك، لكنّني غيّرت رأيي ودرست الفيزياء، فهو ينقل عن لسانك فيقول: قال لي فلان: إنّه ذهب إلى لندن ليدرس الفيزياء فغيّر رأيه فدرس الكيمياء، إنّ هذا الشخص لم يقصد الكذب، لكنّ ذاكرته ضعيفة في التفاصيل، أو تركيزه في الاستماع ضعيف، أو أنّه يخلط بين ما قلتَه أنتَ له وما قاله له شخصٌ آخر، فينسب ما قلته له أنت إلى ذلك الشخص وبالعكس. إنّ مثل هؤلاء الأشخاص كثيرون في حياتنا، وأحياناً يكون شخصٌ قويّ التركيز والذاكرة ولا يعاني من أيّ مشكلة، وهو في سنّ الشباب، لكنّه يستمع إلى خطبة، فيُصدر بعضُ الناس صوتاً، فيفوته سماع كلمتين قالهما الخطيب، فينقل ما قال الخطيب بطريقة خاطئة؛ لأنّه فاته سماع شيء من الكلام، فيتغيّر النقل والمعنى فلا يعود مطابقاً للواقع تماماً.

هذه المشاكل الطبيعيّة في نقل الكلام أو الإخبار عن الوقائع هي ظاهرة بشريّة موجودة عبر العصور، ومن الطبيعي أن تظهر في تاريخ المسلمين أيضاً، بل قد كانت من الظواهر الأولى التي عرفها المسلمون في نقل السنّة النبويّة، فمثلاً كان الصحابة يناقشون بعضهم أحياناً عندما ينقلون أحاديث عن النبيّ، فكانت عائشة ـ زوجة النبيّ ـ تتهم أبا هريرة بأنّه غير دقيق في النقل، أو بأنّه لم يشاهد القصّة كلّها، بل شاهد بعضها ونقل صورةً ناقصة عن المشهد.

هذا يُعطينا فكرةً عن بدايات ظهور مشكلة ـ بشريّة وطبيعيّة ـ في نقل الحديث النبويّ، ومن الطبيعي في هذه الحال أن نجد تناقضات جزئيّة بين الصحابة ومن أتى بعدهم في نقل الحديث عن النبيّ.

لكنّ ظاهرة أخرى شهدت حضوراً أكبر في عصر عثمان بن عفان وما بعده، وهي ظاهرة الكذب، فقد انقسم المسلمون انقساماً حادّاً في السياسة والحُكم. ومع كون الوضع في عصر أبي بكر وعمر هادئاً نسبيّاً، لكنّه انفجر وتوتّر جداً في عصر عثمان وعليّ، وظهرت الأحزاب القويّة في تاريخ المسلمين: العلويّون، والخوارج، والعثمانيّون والتيّار الأموي، كان كلّ فريق يريد أن يثبت أنّ الحقّ معه، وكان النقاش على أساس القرآن الكريم غير مجدٍ بالنسبة إليهم؛ لأنّ القرآن لم يتكلّم عن تفاصيل الخلافة وغيرها، لهذا شيئاً فشيئاً بدأت ظاهرة الكذب تتسرّب لحياة المسلمين، فأخذوا يخترعون أحاديث وينسبونها للنبيّ بهدف إثبات صحّة مذهبهم أو تيّارهم السياسي والديني، الأمر الذي تنامى تدريجيّاً بعد ذلك، وبلغ أوجه في القرن الثاني والثالث الهجريّين.

إلى الآن لاحظنا ظاهرتين بدأتا بالانتشار في أوساط المسلمين: ظاهرة الكذب على النبيّ، وبعد ذلك الكذب على أهل البيت وكذلك على الصحابة، وظاهرة عدم الدقّة في نقل الأخبار والأحاديث. وبدأ هذا الأمر يتوسّع تدريجياً، وفي أواخر القرن الأوّل الهجري شعر المسلمون بأنّ الأحاديث المكذوبة وكذلك الأحاديث الخاطئة لم تعد شيئاً بسيطاً، بل أصبحت أعدادها تزيد يوماً بعد يوم وتتسبّب في انقسام الأمّة، هنا بدأ التفكير في كيف نتأكّد أنّ هذا الحديث أو ذاك قد قاله النبيّ حقاً؟ ما هي الوسيلة المتاحة التي تسمح لي بالتأكّد من صحّة ما ينقل عن النبيّ وعن الصحابة وعن أهل البيت؟

 

بداية ظهور علوم السند والمتن

علينا أن ننتبه جيّداً إلى أمرٍ بالغ الأهميّة هنا، وهو أنّه عندما يتمّ نقل شيء لنا عن النبيّ أو الإمام فسنجد أنفسنا أمام أمرين: الناقل وهو الشخص الذي ينقل لي الحديث، والمتن، وهو الحديث الذي ينقله هذا الشخص.

عندما فكّر المسلمون الأوائل في النصف الثاني من القرن الأوّل الهجري وما بعد في مواجهة ظاهرة الكذب والخطأ في نقل الحديث النبوي، فكّروا بشيئين: أ ـ ما يخص الكلام المنقول. ب ـ ما يخصّ الناقل.

أمّا فيما يخصّ الكلام المنقول، فتدريجياً انتبه العلماء ـ ضمن مسار تدريجي ـ إلى أنّ بعض النصوص المنسوبة للنبيّ وأهل البيت لا تبدو منطقيّة، وعلى سبيل المثال أن يقول النبيّ شيئاً يعارض القرآن الكريم، فإنّ هذا الأمر غير معقول، أو يقول النبيّ شيئاً سيحدث ولكنّه لا يحدث، فمثلاً هناك رواية تقول بأنّه بعد مرور مائة سنة لن يكون هناك إنسان على وجه الأرض، وهنا بعد أن تمرّ مئة سنة على وفاة النبيّ، والبشر ما يزالون موجودين على وجه الأرض، فهذا معناه أنّ هذا الحديث غير صحيح؛ لأنّه يناقض الواقع، والرسول لا يمكن أن يكذب. وهكذا عندنا حديث يقول بأنّ الكرة الأرضيّة تقف على قرن ثور، وأنّ الثور يقف على حوتٍ كبير.. إنّ تطوّر العلوم كشف أنّ هذا لا معنى له، فلزم نقد هذه الأحاديث. طبعاً قد نجد علماء يدافعون عن هذا الحديث أو ذاك، ويعتبرون أنّه يمكن أن نذكر له تفاسير أخرى أو تأويلات باطنيّة، ولهذا كان يقع دوماً نقاش بين العلماء في الموقف من متن هذا الحديث أو ذاك بين الرفض والقبول.

من خلال تراكم هذه الأمثلة الجزئيّة أثناء تفحّص العلماء للأحاديث وبعد مرور عدّة قرون، تشكّل فرعٌ من علم الحديث يسمّى بنقد المتن، ويُقصد به أنّ العلماء يقومون بفحص متن الحديث للتأكّد من أنّه موافق للقرآن ولسيرة النبيّ ولحقائق التاريخ وللواقع، وعبر آليّة نقد المتن يتحقّق العلماء من سلامة بعض الأحاديث ومن وجود خللٍ في بعضها الآخر.

لقد تطوّر مجال نقد الحديث عند المسلمين كثيراً، لكن مع ذلك ظلّت هناك شخصيّات تدعو لمزيدٍ من نقد المتن والتفحّص الكامل والعميق لمتون الروايات المنقولة عن النبيّ وأهل بيته. ومن الكتب المعاصرة التي درست ظاهرة نقد متن الحديث كتاب "منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي" للدكتور صلاح الدين الإدلبي.

وفي هذا السياق، لاحظ العلماء تدريجيّاً أيضاً أنّ الأحاديث المنقولة تختلف فيما بينها، فهذا الحديث يقول مثلاً بأنّ الأذان واجبٌ، فيما حديثٌ آخر يقول بأنّ الأذان ليس بواجب، فأخذوا يفكّرون كيف نتعامل مع هذه الأحاديث، ومتونها متعارضة، وهنا فتحوا قسماً يمثل علماً خاصّاً وله بحوث طويلة في الحديث وأصول الفقه وغير ذلك من العلوم، وأطلق عليه اسم: علم اختلاف الأخبار، أو علم تعارض الأخبار، وهو من الفروع التي اهتمّ بها علماء الحديث وأصول الفقه معاً.

ومن أهمّ كتب التي تعالج الأخبار التي تختلف فيما بينها:

أ ـ الاستبصار فيما اختلف من الأخبار، للشيخ أبي جعفر الطوسي، وهو أحد الكتب الأربعة عند الإماميّة.

ب ـ اختلاف الحديث، للإمام محمّد بن إدريس الشافعي (204هـ).

ج ـ شرح مشكل الآثار، للشيخ أبي جعفر الطحاوي الحنفي المصري (321هـ).

لاحظوا كيف أنّ التحديات التي بدأت تواجه العلماء المسلمين في القرون الخمسة الهجريّة الأولى، دفعتهم للتفكير المعمّق وابتكار الحلول، ونتج عن ذلك ولادة علوم متعدّدة كلها تُعتبر فروعاً من علم الحديث بشكل عام، ولهذا قلنا بأنّهم يطلقون على علم الحديث أحياناً "علوم الحديث" بصيغة الجمع.

وأمّا فيما يخصّ الناقل، فقد بدأوا يفكّرون في التحقّق من صدقه ودقّته، فهل هو شخص موثوق؟ وهل يعرفه الناس بالصدق؟ وربما لا يكون هناك ناقل مباشر عن النبيّ بل ينقل زيد عن عمرو عن النبيّ، فنحن نحتاج للتأكّد من صدق زيد وصدق عمرو، وبهذا بدأ التفكير فيمن نسمّيهم: "الرواة" والذين يشكّلون سلسلة نقل الحديث، وهي التي صارت تسمّى بـ "السند"، وبهذا ولد التفكير الأوّلي البسيط في النصف الثاني من القرن الأوّل الهجري حول علم السند وتحقيق أحوال الرواة، من هنا يقول بعض العلماء في تلك الفترة ـ ومنهم ابن سيرين (32 ـ 110هـ) ـ بأنّ المسلمين لم يهتمّوا بأمر الإسناد إلا بعد وقوع الفتن في زمن عثمان ثم عليّ. وهنا أصبحوا يحتاطون، فإذا جاء شخص وقال: قال رسول الله كذا وكذا، أصبحوا يسألونه عن الإسناد، أي أصبحوا يسألونه: من أين أتيت بهذا القول عن النبيّ؟ ومن أخبرك بذلك؟ فعليه الآن أن يخبرهم بالذين نقلوا له هذا الكلام عن النبيّ، ليعرفوا ما إذا كان الناقلون صادقين معروفين بالأخلاق والعدالة أو لا؟ وبهذا ولدت النواة الأولى لدراسة السند، أي لدراسة السلسلة التي تنقل لنا الأحاديث.

 

فروع دراسة السند

هذه الدراسة تطوّرت بشكل تدريجي في القرن الثاني والثالث وما بعدهما، وانتبه العلماء إلى أنّه يجب علينا أن نميّز عند دراسة السند بين شيئين:

1 ـ الحبّات التي يتكوّن منها هذا السند الذي يشبه السُّبحة، أعني الرواة، فمثلاً: قال زيد: حدّثني عمرو قال: حدّثني بكر قال: حدّثني خالد قال: قال النبيّ.. هنا علينا أن ندرس زيداً وعمرواً وبكراً وخالداً من هم؟ وهل هم شخصيّات معروفة بالصدق والوثاقة أو أنّهم معروفون بالكذب أو أنّنا لا نعرف عنهم شيئاً؟ هنا وُلدت النواة الأولى لعلم دراسة الرواة، والذي صار اسمه لاحقاً علم الجرح والتعديل، ثم عرف ـ وبخاصّة بين الشيعة ـ بعلم الرجال.

إذن، علم الرجال هو العلم الذي يدرس الرواة كلاً على حدة، فيتثبّت من أسمائهم وأسماء آبائهم وأجدادهم ومن مناطق سكنهم، والقبائل التي ينتسبون إليها، وما هي مهنتهم، وما هو انتماؤهم المذهبي، وما هو تاريخهم السياسي، وهل شهد الآخرون بوثاقتهم وصدقهم ودقّتهم في النقل أو لا، وما هو مستوى علمهم؟ وهكذا. وقد ألّف علماء المسلمين مئات الكتب في هذا العلم في آلاف المجلّدات.

ومن أشهر الكتب وأوسعها نذكر كتابين:

أ ـ كتاب معجم رجال الحديث، للسيد أبو القاسم الخوئي (1413هـ)، وقد ذكر فيه 15676 اسماً، وهو يقع في أربعة وعشرين مجلداً.

ب ـ كتاب تهذيب الكمال، ليوسف بن عبد الرحمن المزي الدمشقي (742هـ) في 35 مجلداً.

2 ـ السند بوصفه سلسلةً مجتمعة، فأنا لا أنظر إلى كلّ راوٍ راو، وأبحث عنه وعن حياته وغير ذلك، بل أنظر إلى السند كلّه، وأبحث عنه، فما معنى هذا الكلام؟

سنعطي مثالاً بسيطاً، لو كان زيد وعمرو وبكر وخالد أشخاصاً صادقين وثقاتاً، وجاء السند على الشكل الآتي: قال زيد: حدّثني عمرو، قال: حدّثني بكر قال: حدثني رجلٌ قال: حدّثني خالد، هنا كلّ الرواة المذكورة أسماؤهم ثقات، لكن مع ذلك هذا الحديث مرفوض! لماذا؟ لأنّ السند غير متصل بأشخاص معروفين، فأنا هنا لا أبحث في الراوي فقط، بل أبحث في اتصال حلقات السلسلة مع بعضها، وبما أنّ السند فيه رجلٌ لا نعرف اسمه، فهذا يعني أنّ السند مرسل، بهذا ظهر نوعٌ من الأحاديث يسمّى الحديث المرسَل.

دراسة الأحاديث بهذه الطريقة، وكذلك دراسة متن الحديث ومقارنته مع القرآن والعقل والتاريخ أنتجت ولادة علوم الحديث والرجال.

وبهذا صار عند المسلمين علمان: علم الرجال والجرح والتعديل. وعلم الحديث. وهذان العلمان مرتبطان ببعضهما ارتباطاً وثيقاً جداً، وكلٌّ منهما يخدم الآخر ويقدّم معلومات له، ودعوني هنا أعطي مثالاً كيف يساعد علمُ الرجال علمَ الحديث لمعرفة نوع الحديث؟

قلنا في مثالنا السابق: قال زيد: حدّثني عمرو، قال: حدّثني بكر قال: حدثني رجلٌ قال: حدّثني خالد، فماذا لو غيّرنا وقلنا: قال زيد: حدّثني عمرو، قال: حدّثني بكر قال: حدّثني خالد، ونحن نعرف أن هؤلاء الأربعة صادقون، إنّ الحديث سوف يصبح صحيحاً وأصيلاً، أليس كذلك؟ لكن عندما فحص العلماء الأسانيد اكتشفوا أشياء مذهلة، فمثلاً: قالوا: بكر ولد عام 100هـ وتوفّي عام 160هـ، وخالد ولد عام 5هـ وتوفي عام 95هـ، هذه المعلومات يعطينا إيّاها علم الرجال، تعالوا ننظر في السند الآن، سنجد أنّ بكراً قال بأنّه حدّثه خالد، لكنّ هذا غير معقول، ذاً فهناك شيءٌ ما أو خطأ معين وقع هنا؛ لأنّ بكراً لا يمكنه أن ينقل عن خالد؛ فخالد توفّي عام 95 أي قبل ولادة بكر بخمس سنوات، فكيف التقاه بكر وروى عنه؟! هنا اكتشفوا أنّه يوجد خطأ في السند، ولهذا يسمّون هذا الحديث بالمرسل الخفي؛ لأنّه ليس من السهولة معرفة الحقيقة.

لقد ألّف المسلمون في علم الحديث أو ما يسمّى بعلم صناعة الحديث أو ما يُسمّى بعلوم الحديث أو علم دراية الحديث، ألّفوا الكثير من الكتب، وظلّ أغلب علماء أهل السنّة يهتمون كثيراً إلى اليوم بهذه العلوم، أمّا عند الإماميّة، فقد تطوّرت هذه العلوم بشكل أكبر منذ القرن الثامن الهجري، وهذا لا يعني أنّها لم تكن موجودة قبل ذلك، بل كانت موجودة، لكنّها شهدت قفزة نوعيّة منذ القرن الثامن وإلى يومنا هذا، ويرجع الفضل في هذه القفزة النوعيّة إلى العلامة الحلّي (725هـ) وبعض مشايخه وتلامذته.

 

كيف يؤثر علم الرجال والحديث في الدراسات الدينيّة؟

من خلال هذا الذي قلناه، تركت هذه العلوم المرتبطة بالحديث النبويّ تأثيراً واسعاً على الدراسات الدينيّة، ولكي نفهم الفكرة فإنّ الفقهاء عندما يريدون أن يجتهدوا ماذا يفعلون؟

لنفرض أنّ عندنا مسألة فقهية وسوف نسمّيها (أ)، وأراد الفقيه أن يجيب عنها، فهو يذهب إلى القرآن الكريم لمعرفة ما اذا كان هناك جواب لها، ويذهب أيضاً إلى السنّة الشريفة فيجمع كلّ الروايات التي ترتبط بهذا الموضوع، وعندنا كتاب مهمّ جداً يجمع أهمّ روايات الفقه بشكل منظّم ويعتمده العلماء إلى اليوم، وهو كتاب تفصيل وسائل الشيعة للشيخ الحرّ العاملي (1104هـ) في ثلاثين مجلداً، وفيه قريب من ستة وثلاثين ألف رواية بصرف النظر عن التكرار وغيره. ثم يذهب الفقيه إلى العلماء لينظر ماذا كتبوا حول هذا الموضوع، هنا عندما يأتي إلى الروايات يجب عليه أن يقوم بخطوات:

1 ـ دراسة أسانيد هذه الروايات، وهل هي صحيحة أو لا؟

2 ـ دراسة متون هذه الروايات (هذا ما نسمّيه فقه الحديث)، وبعد فهم المتون ومعناها ينظر هل فيها مشكلة أو لا؟

3 ـ اكتشاف ما إذا كانت هناك حالة تعارض بين الروايات نفسها أو لا؟

4 ـ استخلاص النتيجة التي نخرج بها بعد دراسة هذه الروايات ونجمعها مع القرآن ونحو ذلك، فنخرج بالجواب الفقهيّ.

هذه الخطوات التي يخطوها الفقيه في دراسة الروايات تعتمد بشكل كبير جداً على علوم الحديث والرجال والدراية، من هنا فعادةً أغلب العلماء يكونون مهتمّين بهذه العلوم لضرورتها في معرفة الصحيح من الخطأ مما جاءنا عن النبيّ وأهل بيته.

هذا كلّه يعني أنّني لا أستطيع أن آخذ أيّ رواية في أيّ كتاب أو عبر وسائل التواصل وأنسبها للنبيّ وأعتقد بما فيها، بل لا بدّ لي من التأكّد من كونها صحيحة أو لا، ولهذا ليس المهم فقط أن يبحث الفقهاء عن علوم الحديث والرجال، بل أيضاً من الجيّد جداً أن يعرف الخطباء مثل هذه العلوم؛ لأنّ هذا يسهّل وصول الأحاديث الصحيحة للناس، بدل أن يصل إليهم الغثّ والسمين.

 

الخلاصة:

1 ـ السنّة النبوية هي المصدر الثاني لمعرفة الإسلام إلى جانب القرآن.

2 ـ السنّة النبويّة ـ وسنّة أهل البيت عند الشيعة ـ هي: قول النبيّ وفعله وتقريره.

3 ـ اهتمّ المسلمون بجمع السنّة وألفوا موسوعات ضخمة، مثل الكافي عند الشيعة وصحيح البخاري عند أهل السنّة.

4 ـ بعد وفاة النبيّ، بدأ المسلمون يلاحظون مشاكل في نقل الحديث أهمّها:

أ ـ مشكلة الكذب.

ب ـ مشكلة الخطأ في النقل.

5 ـ لعبت الانقسامات السياسيّة والمذهبيّة دوراً في انتشار ظاهرة الكذب.

6 ـ ظهور علم نقد متن الحديث، وعلم اختلاف الأخبار والروايات، عند دراسة العلماء لمتون الأحاديث.

7 ـ ظهور علم الجرح والتعديل أو علم الرجال عند دراسة العلماء للرواة والناقلين المذكورين في سند الحديث (معجم رجال الحديث ـ تهذيب الكمال).

8 ـ ظهور علم الحديث وأنواعه التي سوف نتكلّم عنها في اللقاء القادم إن شاء الله.

9 ـ علوم الحديث والرجال: هي العلوم التي تدرس الروايات المنقولة عن النبيّ والصحابة وأهل البيت من حيث السند والمتن، للتثبّت من صحّتها ومدى إمكانيّة الاعتماد عليها.


 

 

الحلقة الثانية

أقسام الحديث وأنواعه، وتاريخ النزاعات فيها

مقدّمة 

تحدّثنا في الحلقة السابقة عن أنّه كيف بدأ يتطوّر وعي علماء الإسلام بالتحدّيات التي تواجههم في قضايا الحديث، وكيف بدؤوا يميّزون بين الأحاديث وأنواعها، وقد نتج عن ذلك مجموعة من التنويعات والتصنيفات للمجموعات الحديثيّة، بلغت العشرات، ونحن سنذكر في هذه الحلقة التصنيف الأساسي للحديث، والذي على أساسه تُبنى الكثير من التصنيفات الأخرى.

 

الحديث المتواتر والحديث الآحادي

لاحظ المشتغلون بالأحاديث وجمعها والمتخصّصون بمجال معرفة الحديث، أنّ الأحاديث كلّها يمكن أن نضعها ضمن نوعين كبيرين هما:

النوع الأوّل: الحديث المتواتر، ففي هذا النوع، لاحظوا أنّ هناك أحاديث رواها كثيرون، فمثلاً حديث الغدير رواه عشرات من الصحابة، وروى العشرات من التابعين عن هؤلاء الصحابة، وهكذا استمرّ الحديث يرويه العشرات عن العشرات جيلاً بعد جيل.

ماذا يعني ذلك؟

إنّ ذلك يعني أنّ لدينا عدداً كبيراً من الأسانيد التي تنتهي إلى النبيّ أو الإمام، وتنقل لنا قصّةً واحدة عنه أو كلاماً واحداً. فزيد روى عن بكر عن خالد عن عمرو عن النبيّ حديث الغدير، ومحمد روى عن محمود عن سعيد عن النبي نفس الحديث، وكمال روى عن عمار عن شاهد عن مسعود عن النبيّ نفس الحديث، وعبد الله روى عن هاشم عن رضا عن علي عن النبيّ نفس الحديث، وهكذا عشرات من الأسانيد كلّها تنتهي إلى النبي تنقل كلاماً واحداً، فلدينا شكلاً هرميّاً تقريباً، القاعدة واسعة وصولاً إلى قمّة الهرم، وهو النبيّ أو الإمام.

هذا النوع من الأحاديث يُسمّى بالحديث المتواتر، وهو يقع في أعلى درجات الأحاديث من حيث القيمة؛ والسبب بسيط، وهو المستوى الاحتمالي الموجود فيه، إذ إنّه يعطينا يقيناً بأنّ النبيَّ قال ذلك بالفعل؛ لأنّه من غير المعقول أنّ جميع هؤلاء المنتمين لبلدان مختلفة ومذاهب مختلفة رووا جميعاً هذا الحديث وكانوا كذابين، لهذا يضع علماء الحديث الحديثَ المتواتر في أعلى قمّة الهرم؛ لأنّه يعطي اليقين والعلم، فقيمته المعرفيّة تعطيه أولويّة عالية جداً.

 

أنواع التواتر

لكن هل لدينا عدد كبير من هذا النوع من الأحاديث؟

لكي نجيب عن هذا السؤال يجب أن نعرف أنّ الحديث المتواتر له أنواع أيضاً، لكنّني سأشير هنا إلى نوعين فقط:

النوع الأوّل: المتواتر اللفظي، بمعنى أنّ جميع هذه الأسانيد نقلت نفس الكلمات عن النبيّ، فلنفرض أنّ النبيّ قال: «إنّما الأعمال بالنيّات»، وكلّ هؤلاء الرواة قالوا نفس الجملة بنفس الكلمات والحروف. إنّ هذا الحديث سوف نسمّيه المتواتر اللفظي.

هذا النوع من المتواتر قليل جداً ونادر، بل قال بعض علماء الحديث بأنّه غير موجود إطلاقاً، ولكي نفهم الصورة بشكل كامل دعونا ننظر في النوع الثاني من المتواتر.

النوع الثاني: المتواتر المعنوي، وهو أن تخبرنا كلّ هذه الأسانيد عن جملةٍ قالها النبيّ، لكنّهم ينقلونها لنا مع بعض الاختلافات، ويوجد رغم كلّ هذه الاختلافات معنى واحد تدور الجملة حوله، فمثلاً لنفرض حديث: إنّما الأعمال بالنيات، ونجد أنّ بعضهم رواه هكذا: إنّما الأعمال بالنيات، وبعضهم رواه هكذا: الأعمال لا تكون إلا بالنيّات، وبعضهم رواه هكذا: أعمالكم لا تكون إلا بنيّاتكم، وبعضهم قال: إنّما أعمالكم بالنيّات وهكذا، هنا توجد اختلافات في النقل، ومع ذلك هناك قاسم مشترك بين جميع هذه العبارات، وهذا القاسم المشترك هو المتواتر، وحيث إنّه ليس متواتراً بالحروف والكلمات، بل بالمعنى والفكرة، فلهذا يسمّونه بالمتواتر المعنوي.

مثال حقيقي: حديث الثقلين إذا راجعناه في جميع المصادر الإسلاميّة نجد فيه 234 اختلافاً جزئيّاً، ومع ذلك يقولون بأنّ حديث الثقلين متواتر. إنّهم يقصدون المتواتر بالمعنى لا باللفظ، والا لو كان متواتراً باللفظ لما رأينا 234 اختلافاً في ألفاظه.

شكلٌ آخر من أشكال التواتر المعنوي يمكن أن نوضحه بمثالٍ آخر: شجاعة عليّ بن أبي طالب، لقد نقل لنا التاريخ وكتب الحديث عشرات القصص التي تبيّن شجاعة علي في الحروب وغيرها، وهذه القصص وصلت إلينا عبر مصادر عديدة وبأسانيد كثيرة، فنجمعها مع بعضها ونقول: لقد ثبت بالتواتر المعنوي شجاعة عليّ.

هذا النوع من التواتر ـ أعني التواتر المعنوي بالشكل الذي بيّناه آنفاً ـ ليس قليلاً، فلدينا عدد غير قليل من الروايات يمكن أن نقول عنه بأنّه متواترٌ بهذا المعنى، وبهذا اكتشف العلماء أنّ الأحاديث المتواترة تارةً تكون متواترة باللفظ، وهذا قليلٌ جداً جداً، وأخرى تكون متواترةً بالمعنى، وهذا ليس بقليل.

 

التواتر المعنوي وظاهرة النقل بالمعنى

لكن من الطبيعي ان يخطر على بالنا هنا سؤال: ما السبب في أنّ الأحاديث تُنقل بشكل مختلف، كما في المثال الذي ذكرتموه في حديث الثقلين؟ فما دام الناقلون ثقاتاً فلماذا يتمّ تغيير بعض الكلمات؟ وما السبب في ذلك؟

هذا سؤال كبير في علم الحديث، وله قصّة طويلة، لكنّه يجعلني أفتح عيني على ظاهرة مهمّة أرجو أن تنتبهوا إليها، وهي ظاهرة النقل بالمعنى، وسوف نشير لما يتصل بها مرّة أخرى لاحقاً إن شاء الله، فما معنى النقل بالمعنى؟

عندما ننقل قصّةً بطريقة شفاهيّة كما هو الغالب في القرنين الأولين، أو على الأقلّ في القرن الأوّل الهجري، فأحياناً نحفظ الكلمات والحروف، ومرّة ثانية نأخذ الفكرة وننقلها بالمعنى، فلو سألك صديقك في المدرسة أو الجامعة: ماذا قال الأستاذ لكم حول الفروض الدرسيّة لليوم؟ فإنّك من الطبيعي أن لا تنقل الكلمات بعينها التي قالها الأستاذ، وإنّما تأخذ الفكرة وتنقلها بعباراتك التي قد تشترك مع عبارات الأستاذ أحياناً وتختلف أحياناً أخرى. إنّ المسلمين في القرون الأولى كان يمارسون هذه الطريقة، فهم ليسوا أجهزة ضبط الصوت، حتى يحتفظوا بالكلمات دائماً، ومهما كانت ذاكرتهم قوية ـ كما يقال عن العرب الذين يعيشون في الصحراء أنّ ذاكرتهم كانت قويّة ـ فلن تكون قويّةً إلى حدٍّ تحفظ جميع كلمات النبيّ خلال ثلاثة وعشرين سنة، فضلاً عن كلمات أهل البيت، هذا كلّه يعني أنّ كلّ شخص قد ينقل بطريقته الخاصّة كلامَ النبيّ أو الإمام، فتقع الاختلافات الطفيفة بين المنقولات، ولهذا قال علماء الحديث: إنّه لو روى شخصٌ مثل زرارة بن أعين ـ أحد كبار أصحاب الإمام جعفر الصادق ـ روايةً عن الصادق، وروى شخصٌ آخر عادي جداً وليس بعالم ولا بفقيه ولا يلازم الإمام ويفهم علومه.. روى الرواية عينها ووقع اختلافات بين الروايتين، فنحن نرجّح رواية العالم الصحابي على رواية غيره؛ لأنّ العالم يمكنه فهم كلام الإمام أكثر من غيره، ويمكنه أحسن من غيره التعبير عما فهمه من كلام الإمام، ولهذا قالوا بأنّ أحد الرواة الكبار عن أهل البيت، وهو عمار بن موسى الساباطي، وقعت في رواياته أغلاط عديدة بسبب كونه غير عربيّ، ولم يكن متقناً الكلامَ العربي بشكلٍ ممتاز، لهذا كان عندما ينقل ما فهمه من الإمام، كان ينقله بشكلٍ مرتبك، وعثر العلماء بعد دراسة مطوّلة لرواياته على شواهد لهذا الأمر.

إذن النقل بالمعنى هو أحد الأسباب الرئيسيّة لظاهرة التواتر المعنوي، وندرة ظاهرة التواتر اللفظي، لكن على أيّة حال، فالأحاديث المتواترة ذات قيمة عالية، رغم أنّها قليلة نسبيّاً قد تعدّ بالعشرات، وربما يراها بعضهم بضعة مئات لا أكثر.

 

الخبر الواحد وتقسيماته

هذا هو النوع الأوّل من الحديث، وفي مقابل هذا النوع يأتي ما يسمّيه علماء الحديث بالخبر الواحد أو خبر الآحاد، فما معنى الخبر الواحد؟

إنّ الخبر الواحد لا يُقصد منه ذلك الحديث الذي يرويه شخصٌ واحد فقط، كما قد يتصوّر بعض الناس، بل يقصد منه كلّ حديث لم تبلغ مصادره وأسانيده حدّ الحديث المتواتر، فقد تكون له ثلاثة أسانيد، وربما نجد حديثاً له سندان، وأخرى أربعة أسانيد، وهذا كلّه خبر واحد ما دام لم يبلغ حدّ التواتر.

هذا الخبر الآحادي له تقسيمان أساسيّان:

 

1 ـ خبر الواحد المحفوف بالقرينة وغيره

لاحظ علماء الحديث أنّه في بعض الأحيان قد يكون هناك خبرٌ آحادي له سندٌ واحد أو سندان أو نحو ذلك لا أكثر، لكنّ عناصر تحيط به تقوّي من احتماليّة صدقه وكونه مصيباً للواقع، بمعنى أنّه لو كان الخبر يُحتمل صدقه بنسبة ستين في المائة، فإنّ هذه القرائن المحيطة به قد ترفعه أحياناً لتصبح قوّته الاحتماليّة 95 في المائة أو يزيد قليلاً.

دعونا نأخذ مثالاً افتراضياً: رواية تقول: إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق.

لنفرض أنّ هذه الرواية رويت بثلاثة أسانيد، وهذه الأسانيد وردت فيها أسماء رواة كلّهم ثقات، فهنا عناصر:

1 ـ كلّ الرواة ثقات. 2 ـ وردت هذه الرواية في عشرة مصادر حديثيّة قديمة (تعدّد المصادر). 3 ـ وردت في كتب الحديث الشيعيّة والسنيّة معاً (تنوّع المصادر). 4 ـ وردت في الكتب الأربعة عند الشيعة (مستوى المصادر). 5 ـ وردت في صحيح البخاري ومسلم معاً. 6 ـ مضمونها يوافق القرآن الكريم. 7 ـ مضمونها يوافق التاريخ وسيرة النبيّ. 8 ـ لا نجد أيّ مصلحة سياسيّة أو مذهبيّة في اختلاق رواية من هذا القبيل. 9 ـ أخذ بهذه الرواية ووافق عليها الأغلبيّة الساحقة من العلماء عبر التاريخ. 10 ـ لا يوجد رواية تعارض مضمون هذه الرواية أو تختلف معه. 11 ـ أسماء الرواة الواردين هم من كبار الرواة العلماء مثل عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وأبي سعيد الخدري.

إنّ علماء الحديث يقولون إنّ اجتماع هذه العناصر جميعاً يقوّي من احتماليّة صدق هذه الرواية، حتى لو لم تبلغ حدّ التواتر، ويجعلها خبر يقينياً أو شبه يقينيّ.

هذه العناصر الحافة بالخبر تسمّى "قرائن الوثوق"، وقد ذكر الحرّ العاملي أكثر من عشرين قرينة من قرائن الوثوق في خاتمة كتابه "تفصيل وسائل الشيعة".

في المقابل، هناك الكثير من الروايات والأحاديث التي لا تحظى بمثل هذه الخصائص، فيكون لها سندٌ واحد مثلاً، ولها معارض، ولا توجد معطيات تاريخية تؤيّدها، ولا تُذكر في غير مصدر واحد مثلاً.. هنا نقول: إنّ هذا الخبر هو خبرٌ واحد ظنّي.

وعليه فخبر الواحد قسمٌ منه يقيني وهو المحفوف بقرائن اليقين، وقسمٌ منه ظنّي وهو غير المحفوف بقرائن اليقين. ومن الطبيعي أن يختلف العلماء فيما بينهم في تطبيق هذه المعايير، فقد يعتبر هذا العالم أنّ هذا الخبر محفوف بقرائن اليقين، فيما يرى عالمٌ آخر أنّ هذا الخبر ليس محفوفاً بما فيه الكفاية بقرائن اليقين، فتختلف نظرتهما لمستوى الظنّ واليقين في هذا الخبر أو ذاك.

 

2 ـ التقسيم الرباعي للحديث

لكي نفهم قصّة التقسيم الرباعي للحديث، علينا أوّلاً أن نشرح أقسامه الأربعة، ثم نذكر قصّته التاريخيّة والصراع الذي وقع حول هذا التقسيم، والذي يعتبر واحداً من أكبر النزاعات داخل الشيعة في علم الحديث عبر التاريخ.

 

2 ـ 1 ـ شرح مبسَّط للأقسام الأربعة

ينقسم خبر الواحد إلى أربعة أقسام:

1 ـ الخبر الصحيح، وهو الحديث الذي يرويه راوٍ ثقة عدل إمامي عن آخر مثله عن ثالث مثله حتى يصل إلى النبيّ أو الإمام، دون أن يكون هناك انقطاع في سلسلة السند، ولا مشكلة في المتن إطلاقاً. فمثلاً: يروي الشيخ الكليني في كتاب الكافي رواية عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري، عن الحسين بن سعيد الأهوازي، عن النضر بن سويد، عن عبد الله بن سنان، عن الإمام جعفر الصادق. يكتشف العلماء أنّ هؤلاء الرواة كلّهم ثقات عدول، وأنّهم شيعة إماميّة، وأنّ السند متصل، وأنّه لا مشكلة في المتن، فيقولون: جاء في صحيحة عبد الله بن سنان. لماذا عبّر بالصحيحة أو بالصحيح؟ لأنّ الرواة كلّهم شيعة ثقات عدول مشهود لهم، والسند متصل، والمتن سالم عن أيّ مشكلة.

2 ـ الخبر الحَسَن، وهو الخبر الذي يرويه شخص إمامي أيضاً عن إمامي عن إمامي عن الإمام الصادق، ويكون كلّ الرواة شيعة، وكلّهم عدول عدا شخص واحد على الأقلّ، حيث يكون شيعياً، لكنّ العلماء لم يقولوا عنه بأنّه ثقة عدل، غير أنّهم في الوقت عينه مدحوه، فمثلاً قالوا عنه بأنّه عالم، أو خدم أحاديث أهل البيت أو أي تعبير مشابه، دون أن يقولوا بأنّه ثقة عادل. مثلاً: جاء في الرواية: عليّ بن إبراهيم القمي، عن أبيه إبراهيم بن هاشم القمي، عن محمّد بن أبي عمير الأزدي، عن معاوية بن عمار، عن الصادق عليه السلام. هذه الرواية كلّ الذين فيها إماميّة عدول ثقات إلا إبراهيم بن هاشم القمي، حيث يرى العديد من العلماء أنّه شيعي، لكنّه لم يذكر أحدٌ أنّه عادلٌ ثقة، ومع ذلك فهو ممدوح، لهذا يقولون عن هذه الرواية: حَسنة معاوية بن عمار، أو يقولون: في الخبر الحسن عن معاوية بن عمار، أو يقولون: حَسنة إبراهيم بن هاشم أو الحسن بإبراهيم بن هاشم.

3 ـ الخبر الموثّق، وهو الخبر الذي في سنده شخصٌ واحد على الأقلّ يكون ثقة، لكنّه ليس بإمامي، مثلاً: علي بن إبراهيم القمّي، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، عن النوفلي، عن السكوني. إنّ السكوني في هذا الخبر هو قاضٍ سنّي كان يعيش في العراق، والعلماء وثّقوه، هذا يعني أنّه ثقة، لكنّه سنّي، لهذا يسمّون هذه الرواية: الخبر الموثق، فيقولون: ورد في موثق السكوني، أو جاء في موثقة السكوني كذا وكذا. وقد يسمّيه بعض العلماء أحياناً "الخبر القويّ".

4 ـ الضعيف، وهو الخبر الذي يكون فيه على الأقلّ شخصٌ واحد غير موثق ولا ممدوح، سواء كان شيعيّاً أم سنيّاً، أو يكون قد ضعّفه العلماء وذمّوه وقالوا عنه بأنّه كذّاب.. مثلاً: روى الكليني في الكافي، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن حديد، عن منصور، عن محمد بن بشير، عن الإمام زين العابدين.. هذا السند ضعيف؛ لأنّ عليّ بن حديد رجل كذاب نصّ العلماء على كذبه، لهذا نقول: إنّ هذا الخبر ضعيف.

إذن الخبر الضعيف هو كلّ خبر ليس بصحيح ولا بحَسَن ولا بموثق.

لكي نعرف أنّ هذا الخبر أو ذاك صحيحٌ أو حسن أو موثق أو ضعيف، يجب علينا دراسة جميع الرواة الواردين في الأسانيد، وتحليل شخصيّاتهم وتاريخهم بدقّة، كي نحدّد أن هذا الخبر يقف في أيّ مستوى. والعلماء الشيعة عادةً ـ وليس دائماً ـ يعتبرون الخبر الصحيح هو أعلى مستوى من مستويات الخبر الواحد، ثم يليه الخبر الحسن، ثم الخبر الموثق، ثم الضعيف، فالترتيب يأتي عندهم بهذه الطريقة.

طبعاً أنا شرحت هنا التقسيم الرباعي للحديث عند الشيعة، لكن هناك تقسيمٌ آخر عند أهل السنّة وتعريفات أخرى لهذه الأسماء، مثل الخبر الصحيح والحَسن، ولكن ليس معنا الوقت الكافي للخوض فيها؛ لأنّها تتطلّب زمناً أوسع للحديث عنها.

 

2 ـ 2 ـ النزاع التاريخي حول التقسيم الرباعي للحديث

كان هذا تعريف التقسيم الرباعي للحديث، لكن ما هي قصّته التاريخيّة؟

عندما ندرس كتب الحديث وكتب علماء الحديث الشيعة منذ القرن الأوّل الهجري وصولاً للقرن السابع، فنحن لا نجد شيئاً له علاقة بهذا التقسيم الرباعي، فهم لم يكونوا ليستخدموا هذه التعابير بهذه المعاني، بل كانوا يقولون فقط: إنّ هذا الحديث صحيح وهذا الحديث غير صحيح، ويقصدون: إنّ هذا الحديث يمكن الأخذ به وذاك الحديث لا يمكن الأخذ به، ولم يجعلوا الأحاديث على تقسيمٍ رباعيّ أو خماسيّ أو سداسي أو غير ذلك، ولم يضعوا ترتيباً هرمياً لهذه الأقسام بحيث يكون الحديث الصحيح قيمته أعلى من الحديث الحَسَن وهكذا.

لكن في القرن السابع الهجري، ظهر عالمٌ اسمه أحمد بن طاووس، وهو أخو السيد علي بن موسى بن طاووس المشهور الذي له كتب في الأدعية والاستخارة وغير ذلك، وكانت لأحمد بن طاووس آراء جديدة في علم الحديث، وكان من تلامذته العلامة الحلّي المشهور، أحد أكبر علماء الشيعة عبر التاريخ. لقد تأثر العلامة الحلّي بأفكار ابن طاووس في الحديث، ويبدو أنّه أخذ منه هذا التقسيم الرباعي، فكتبه في مؤلّفاته واعتمده، ونتيجة تأثير العلامة الحلّي الكبير على الشيعة والعلماء بعده، فقد أخذ الكثير من العلماء بهذا التقسيم وصاروا يعتمدون عليه.

حسناً، ما المشكلة؟

القضيّة هي أنّ هؤلاء العلماء ومنذ العلامة الحلي قالوا بأنّ الروايات التي يمكننا الاعتماد عليها في الدين هي فقط الخبر الصحيح والخبر الحَسَن، ولا يمكننا الاعتماد على الخبر الموثّق ولا الخبر الضعيف، وعندما عملوا على تطبيق كلامهم هذا رأوا أنّ هناك الآلاف من الأحاديث الضعيفة، وهناك أيضا الآلاف من الأحاديث الموثقة، وأنّ عليهم أن يضعوها جانباً، مثلاً: السكوني ـ وهو سنّي المذهب كما قلنا ـ توجد له في الكتب الأربعة فقط حوالي ألف ومائة رواية. إنّ روايات السكوني كلّها موثقة، وليست صحيحة ولا حَسَنة؛ لأنّ السكوني سنّي وليس شيعياً، إذاً فعلينا ترك روايات السكوني، وبهذا سقطت ألف رواية فوراً عن الحجيّة. وهكذا يوجد عشرات من الرواة جاءت أسماؤهم في الأسانيد، ولكنّهم ليسوا بشيعة إماميّة. بهذه الطريقة لم يعد يوجد روايات كثيرة في التراث الشيعي يمكن الاعتماد عليها، فلو فرضنا أنّ عندنا خمسين ألف رواية، فإنّ التقسيم الرباعي وما نتج عنه لن يُبقي لنا إلا حوالي خمسة آلاف رواية فقط مثلاً، ولهذا فقد ألّف الشيخ حسن بن الشهيد الثاني كتاباً على طريقة التقسيم الرباعي، أسماه "منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان"، ووفقاً لطريقته فإنّ كتاب "الكافي" وهو أهمّ الكتب عند الإماميّة، وفيه حوالي ستة عشر ألف حديث، لن يسلم منه إلا حوالي ثلاثة آلاف حديث تقريباً.

لقد عمل العلماء بهذا المنهج منذ العلامة الحلي وحتى نهايات القرن العاشر الهجري، أي لمدّة ثلاثمائة عام تقريباً، لكن في القرن الحادي عشر الهجري، ظهر تيّار جديد بين الشيعة، وذلك في العصر الصفوي، هذا التيار يسمّى بالتيار الإخباري. الحديث عن هذا التيار طويل جداً، لكن أحد أهمّ مواقفه هو أنّه أنكر التقسيم الرباعي، واعتبر أنّ العلامة الحلّي تأثر بأهل السنّة، وأتى بالتقسيم الرباعي من عندهم، وقال علماء هذا التيار ـ مثل الشيخ محمد أمين الاسترآبادي (1031هـ) وغيره ـ بأنّ جميع الروايات التي في الكتب الأربعة وأمثالها حجّة، ويمكن العمل بها، وهي موثوقة حتى لو كان في أسانيدها رواة سنّة أو شيعة غير إماميّة أو رواة لا نعرف عنهم شيئاً، وبعض المعتدلين في التيار الإخباري ـ مثل الشيخ محمد باقر المجلسي (1111هـ) ـ قالوا بأنّ التقسيم الرباعي يمكن أن نستعين به فقط إذا حصل تعارض بين الروايات، فمثلاً لو جاءت رواية صحيحة وتعارضها في مضمونها رواية موثقة، فهنا نأخذ بالصحيحة ونترك الموثقة، أمّا أن نترك الرواية الموثقة لمجرّد أنها موثقة فهذا غير صحيح، واعتبر الإخباريون أنّ هذا التفكير الذي أتت به مدرسة الحلّة، وتأثرت به مدرسة جبل عامل بعدها ـ هو تفكيرٌ خطير يهدّد التراث الشيعي تهديداً كبيراً. لكنّ الإخباريين لا يأخذون بالروايات السنيّة مثل روايات صحيح البخاري، بل فقط يأخذون بالروايات الموجودة في كتب الشيعة حتى لو كان أحد الرواة سنّياً.

في القرن الثالث عشر الهجري، اتسع نطاق الجدل بين الإخباريين والأصوليّين الشيعة، حول هذا الموضوع ومواضيع أخرى كثيرة، وعاد الأصوليّون لينتصروا على الإخباريّين ويُبطلوا فكرة أنّ كلّ روايات الشيعة حجّة، ويمكن الأخذ بها، لكن في الوقت عينه لم يعد التقسيم الرباعي يتمّ العمل عليه كالسابق، بل صاروا يأخذون بالحديث الصحيح والحسن والموثق معاً، ويكتفون بترك الأحاديث الضعيفة، وهو ما يجري العمل عليه حتى الآن بين مشهور علماء الشيعة. وبهذا كانت مدرسة علم الحديث المتأخّرة عند الشيعة نوعاً من الحلّ الوسط بين مدرسة الحلّة التي رفضت الحديث الموثق والضعيف معاً، ومدرسة الإخباريّين التي أخذت بكلّ الأحاديث شرط وجودها في الكتب الشيعيّة الأساسية كالكتب الأربعة.

 

الخلاصة

1 ـ الحديث المتواتر هو الحديث الذي تكثر أسانيده ورواته إلى حدّ يكون هناك يقين بأنّه صدر عن النبيّ أو الإمام.

2 ـ ينقسم الحديث المتواتر إلى:

أ ـ متواتر لفظي، وهو الذي يتواتر عن النبيّ بألفاظه وحروفه بشكلٍ كامل. وهذا النوع من المتواتر قليل جداً جداً، بل قال بعض العلماء بأنّه غير موجود إطلاقاً.

ب ـ ومتواتر معنوي، وهو الذي لا تُنقل فيه الحوادث أو الكلمات بطريقة حرفيّة، بل بطريقة النقل بالمعنى، فيؤخذ القاسم المشترك بين القصص أو المنقولات كلّها ويكون متواتراً. وعدد المتواتر المعنوي غير قليل في كتب الحديث.

3 ـ النقل بالمعنى أحد الأسباب الأساسيّة لظاهرة التواتر المعنوي غير اللفظي.

4 ـ الخبر الواحد هو كلّ خبر لم يبلغ مستوى الخبر المتواتر، بل يكون قد رواه عددٌ محدود من الرواة. ولا يقصد منه أنّ الذي رواه شخصٌ واحد فقط.

5 ـ ينقسم الخبر الآحادي إلى:

أ ـ خبر محفوف بالقرائن القطعيّة، وهي العناصر التي تحفّ به وترفعه من مستوى الظنّ إلى مستوى اليقين أو شبه اليقين.

ب ـ وخبر واحد غير محفوف بالقرائن القطعيّة، فيظلّ مفيداً للظنّ فقط على أبعد تقدير.

6 ـ أحد أشهر وأهم تقسيمات الحديث هو التقسيم الرباعي، وهو:

الصحيح: ما يرويه العدل الثقة الإمامي عن مثله بلا مشكلة في السند ولا في المتن.

الحسن: ما يرويه الإمامي عن مثله بلا مشكلة في السند ولا في المتن، لكنّ أحد الرواة ـ على الأقلّ ـ يكون شيعيّاً لم ينصّوا على عدالته، لكنّهم مدحوه.

الموثق: هو الحديث الذي يكون في سنده شخصٌ واحد على الأقلّ تمّ توثيقه لكنّه ليس بشيعي إمامي.

الضعيف: هو كلّ خبر ليس بصحيح ولا حسن ولا موثق.

7 ـ ظهر التقسيم الرباعي في مدرسة الحلّة على يد العلامة الحلّي، متأثراً بأستاذه ابن طاووس، وعملت به مدرسة الحلّة، ثمّ مدرسة جبل عامل، ثم رفضه الإخباريون في العصر الصفوي.

8 ـ اعتبر الإخباريّون أنّ العمل بالتقسيم الرباعي الذي يقضي بحجيّة الصحيح والحسن فقط، سيؤدّي إلى انهيار نسبة كبيرة من الأحاديث في الكتب الشيعيّة.

9 ـ عاد الأصوليّون المتأخّرون بعد العصر الإخباري إلى حلٍّ وسط، وهو القبول بالتقسيم الرباعي، لكن مع إعطاء الحجيّة للصحيح والحسن والموثق، فكانوا وسطاً بين مدرسة الحلّة ومدرسة الإخباريّين.


 

 

الحلقة الثالثة

مناهج نقل الحديث وطُرُقه في القرون الأولى

مقدّمة

تحدّثنا في الحلقة السابقة عن الأنواع الأساسيّة للحديث، وعن الخلافات التي نشبت ـ خصوصاً بين علماء الشيعة ـ حول الموقف من هذه الأنواع ومن التقسيم الرباعي.

في هذه الحلقة، سوف نحاول الاطّلاع على كيفيّة انتقال الحديث عبر الأجيال والقرون، لنجيب عن الأسئلة الآتية: كيف نقل المسلمون الحديث من جيلٍ إلى جيل؟ هل تغيّرت طرائق النقل وتنوّعت؟ هل كانت هذه الطرائق مضمونةً في نقل الحديث؟ ما هي التحدّيات التي واجهت المسلمين في نقل الحديث عبر القرون الأولى؟ وكيف حاولوا معالجة هذه التحدّيات؟ وهل من فرق بين الشيعة والسنّة في هذا الموضوع؟

 

القرن الهجري الأوّل بوصفه عصرَ النقل الشفوي

لم يكن العرب قبل الإسلام بالذين تنتشر فيهم الثقافة التدوينيّة، بل كان السائد في نقل المعرفة هو الثقافة الشفويّة، فماذا يعني ذلك؟

في الثقافة الشفويّة يعتمد الناس على حافظتهم وذاكرتهم، فالذاكرة في عقل كلّ إنسان هي بمثابة الكتاب، وبإخبار شخص لشخص آخر يكون هذا الكتاب قد استُنسخت منه نسخةٌ جديدة في عقل المنتقل إليه الخبر، فليس هناك في هذه الثقافة تدوين وقلم وكتابة، بل هناك حكايات وقصص ونقل كلام من فمٍ إلى فم آخر. وليس هناك إلا حالات استثنائيّة جرى فيها الاهتمام بالتدوين مثل القرآن الكريم.

كان الصحابة في القرن الهجري الأوّل، وكذلك أكثر التابعين الذين تلمّذوا على يد الصحابة، ينقلون ما يعرفونه عن النبيّ أو الإمام عليّ، عبر التحديث، أي عبر الكلام الشفوي، ويستمع بعض الناس لهذا الكلام، فيحفظونه ثم ينقلونه للجيل اللاحق، في هذه العمليّة توجد مخاطر حقيقية كبرى أهمّها النقل بالمعنى، وهو الأمر الذي تحدّثنا عنه في الحلقة السابقة، وهنا توجد مشكلات أهمّها:

أ ـ مشكلة الفهم، فالذي ينقل بالمعنى حاله كحال الذي يقوم بترجمة نصّ من اللغة العربيّة إلى اللغة الانجليزيّة، فإنّه إذا لم يكن يفهم اللغة العربيّة جيّداً، فهناك احتمال في أن يفهم كلام النبيّ أو كلام الصحابي خطأً أو بشكل فيه خلل ولو جزئي، فاحتماليّة الخطأ في الفهم تصبح واردة في النقل الشفوي بالمعنى.

ب ـ مشكلة إعادة صياغة الكلام الذي فهمه بعبارته هو، ومن الطبيعي أنّه ليس كلّ الناس الذين فهموا فكرةً معيّنة قادرين على أن يعيدوا صياغتها بطريقة جيّدة تعبّر عنها بأمانة ودقّة، فإعادة الصياغة أحياناً قد توقع في مشاكل وأخطاء أو على الأقل في نقص بعض المعلومات. وهذا يشابه تماماً الشخص الذي يتقن العربيّة لكنّه لا يجيد اللغة الإنجليزية، فإنّه قد يفهم النص العربيّ جيّداً، لكنّه لا ينقله للناطقين بالانجليزيّة بشكل دقيق بينما لو جاء شخصٌ آخر يُتقن الإنجليزيّة أو هو أديبٌ من أدباء اللغة الانجليزيّة فإنّ بإمكانه نقل الفكرة بشكلٍ أدقّ وأفضل.

جاء في بعض النصوص التاريخيّة أنّ بعض المسلمين الجدد في العراق أو غيرها جاؤوا لسلمان الفارسي وسألوه أن يعلّمهم القرآن، فأجابهم بأنّ القرآن عربيّ فاطلبوا شخصاً لسانه لسان عربيّ يكون أقدر منّي على تعليمكم النطق به، وينقله لكم بشكل صحيح في اللهجة والكيفيّة. هذا الأمر طبيعي جداً.

ربما تسأل وتقول: إنّ الصحابة كانوا عرباً يفهمون العربيّة وينطقونها ويجيدونها، فأين هي المشكلة؟

والجواب: حتى لو سلّمنا بأنّ الصحابة لم يكونوا ليواجهوا أيّ مشكلة، مع أنّ هذا ليس صحيحاً، لكنّ الجيل الذي نقل الحديث بعد الصحابة ـ أي الجيل الذي سمع أحاديث النبيّ من الصحابة أو أحاديث عليّ من أصحابه ـ لم يكن كلّه من العرب؛ فقد انتشر الإسلام في بلدانٍ غير عربيّة وبين غير العرب، كالفرس والديلم والترك وغيرهم، ولم يكن هؤلاء يتقنون العربيّة، لهذا فمن الطبيعي أن تحدث مشاكل في النقل الشفوي هنا معهم، ونحن نعرف أنّ من يسمّونهم التابعين، وهم الجيل الذي جاء بعد الصحابة، كثير منهم عاش مع الصحابة وكان من غير العرب وهم الحلقة الثانية في نقل الحديث بعد الصحابة.

ج ـ مشكلة الحفظ في النقل الشفوي، فليس كلّ الناس يحفظون الكلام كلّه أو الأفكار التي قيلت كلّها أو يحفظون كلّ تفاصيل الحادثة التي وقعت، بل يختلف الناس في درجات الحفظ، ومن ثمّ فعندما ينقلون لغيرهم فإنّ جزءاً من الحادثة أو الكلام سوف يسقط أو يتغيّر ولو تغيّراً طفيفاً، وكلّما زاد عدد الرواة ازدادت احتمالات الخطأ والوقوع في مشاكل، فعبد الله بن مسعود يمكن أن يقع في بعض هذه المشاكل التي قلناها، وكذلك زيد الذي ينقل عن عبد الله بن مسعود وهكذا، فالتناقل الشفوي يواجه سلسلة من التحدّيات، ومن ثم علينا الانتباه لها بشكل كبير.

قبل أن نترك العصر الشفوي في نقل الحديث يجب أن نجيب عن سؤال: لماذا لم يكتب المسلمون الحديث النبوي منذ العصر النبوي كما كتبوا القرآن الكريم؟

هذا سؤال كان محوراً لبحوث متعددة عبر التاريخ، وأكتفي هنا بذكر سببين يُطرحان عادةً:

السبب الأوّل: الثقافة الشفويّة المهيمنة على المجتمع العربي، فهذا المجتمع لم يكن يعرف التدوين إلا في حالات خاصّة ومحدودة، لهذا لم يكن يهتمّ لأمر حفظ السنّة عبر تدوينها في كتب؛ لأنّ طريقتهم في حفظ تاريخهم وتراثهم كانت تعتمد على التناقل الشفوي، وكانت القبائل العربيّة تعتمد النقل الشفوي لمعرفة تاريخها وأنسابها وحروبها وما جرى عليها، فلما جاء الإسلام ساروا على طريقتهم التي كانوا يثقون بها، ولم يكن هناك إلا القرآن الذي كان النبيّ يركّز على كتابته، أمّا السنّة فتروي بعض النصوص التاريخية أنّ بعض الصحابة كتبوا جزءاً بسيطاً من الأحاديث النبويّة، لكن في ذلك المجتمع الأمّي الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولا يعتمد التناقل التدويني من الطبيعي أن لا يدوّنوا كلام الرسول كلّه، فإنّ كلمات النبيّ أكثر بكثير جداً من الآيات القرآنيّة.

السبب الثاني: قرار منع التدوين من قبل السلطة، وبالتحديد عمر بن الخطاب، حيث تنقل المصادر التاريخيّة أنّه قد منع من تدوين الحديث، وأنّ منعه هذا أثر كثيراً على التدوين المبكّر للحديث، وتسبّب في مشاكل كبيرة، وتوجد وجهات نظر مختلفة بين السنّة والشيعة، كما توجد تبريرات عديدة ذكرها أهل السنّة لتفسير موقف عمر بن الخطاب من هذه القضيّة لا يسمح لنا المجال للتوسّع فيها هنا، لكنّني بحثتها بالتفصيل في كتابي "حجيّة السنّة".

وعليه، فهناك وجهتا نظر أساسيّتان: وجهة النظر التي تُرجع السبب في عدم التدوين المبكّر إلى عدم وجود دوافع في ذلك المجتمع للتدوين نتيجة ثقافته الشفويّة، ووجهة نظر أخرى تعتبر أنّ عمر بن الخطاب هو المسؤول عن ذلك وأنّه ارتكب خطأً جسيماً باتخاذه قراراً من هذا القبيل مهما كانت التبريرات التي تُقدّم له عند علماء أهل السنّة، وأنّه لولا قراره هذا لكانت الدوافع عند المسلمين لتدوين الحديث موجودة. ويرى العديد من علماء الشيعة أنّ قرار عمر بن الخطاب كان سببه الحقيقي المخفي أنّه لم يكن يريد انتشار الأحاديث التي تثبت خلافة عليّ بن أبي طالب، فسدّ الطريقَ بمنع تدوين الحديث.

 

القرن الثاني الهجري وانطلاق مرحلة تدوين الحديث

أدرك المسلمون تدريجياً الأزمات التي لحقت بنقل الحديث بسبب الاقتصار على التناقل الشفوي، فبدؤوا انطلاقاً من أواخر القرن الأوّل الهجري يفكّرون في التدوين، وقد ساعدهم على ذلك اختلاطهم بشعوبٍ أخرى كان لها تاريخ في التدوين والكتابة مثل الفرس والروم، وقد عزّز الموقف قرارٌ من الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (101هـ) الذي ارتأى أن يبدأ علماء المسلمين بالتفكير في تدوين الحديث لتنتظم أمور نقل الحديث.

لقد كان هناك بعض التدوين القليل جداً للحديث في القرن الأوّل، لكن مع بدايات القرن الثاني الهجري، بدأت العمليّات الأولى في تدوين الحديث، ومع ذلك ظلّت محدودة ومختصرة وتطوّرت تدريجياً بمرور الزمن، وبدخول الإسلام إلى بلاد سمرقند وأقصى الشرق، تعرّفَ المسلمون في العصر العباسي على الورق الصيني، وقد كانوا قبل ذلك يعتمدون على ورق البردي المصري، لكنّه كان غالي الثمن وقليلاً، وبدخول الثورة الورقيّة بعد التعرّف على الصين نهضت الكتابة في العصر العباسي نهوضاً كبيراً، وبخاصة منذ النصف الثاني من القرن الثاني الهجري (عصر الإمام الكاظم وما بعد)، وبدأت كتب الحديث الأولى تظهر، والتي كان من أوائلها وأهمّها كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس (179هـ) والذي يعتبر من أكبر الكتب الحديثيّة في تلك الفترة عند أهل السنّة.

هنا اختلف المشهد بين الشيعة والسنّة، فأهل السنّة بالعموم تجمّعت بين أيديهم في نهايات القرن الثاني الهجري وبدايات القرن الثالث كميّة هائلة من الروايات المنسوبة للنبيّ والصحابة وأهل البيت، فاشتغلوا على تنقيتها وفقاً للمناهج التي ارتؤوها، وما إن انتهى القرن الثالث الهجري حتى تمّ تدوين أهم كتب الحديث الكبرى عند السنة مثل صحيحَي: البخاري ومسلم وغيرها من الكتب الكبيرة المعروفة المعتمدة إلى اليوم، وبهذا انتقل الحديث عند أهل السنّة تماماً من مرحلة الشفاهية إلى مرحلة التدوين الجامع بحلول القرن الثالث الهجري.

أمّا في الوسط الشيعي، فقد كان أهل البيت ما يزالون موجودين، وكان العديد من أصحاب الأئمّة يقومون بكتابة ما سمعوه من أهل البيت في كراريس صغيرة، وكان مركز ثقل المحدّثين الشيعة منذ بدايات القرن الثاني وحتى أواسط القرن الثالث، هو الكوفة، فكانت أغلب الكتب الصغيرة والكراريس تكتب في الكوفة ويتمّ استنساخها، ولكن من الطبيعي أن يكون هذا الاستنساخ بأعداد محدودة، لم يكن الشيعة يعتمدون الكتابة بشكل واسع في عصر الإمام الباقر والصادق ولا من قبلهما، لكن في عصر الإمام الكاظم والرضا نشهد حركة تدوين أكبر بكثير، وفي أواسط القرن الثالث الهجري كانت هناك المئات من الكتب الصغيرة التي دوّنوا فيها أحاديث أهل البيت، ولكن هذه الكتب كانت مليئة بما هو الصحيح والكذب. وفي أواسط القرن الثالث ظهرت حوزة علميّة قويّة في قم في إيران، وأخذت هذه الحوزة تنقل التراث الحديثي من الكوفة إليها، وتقوم بتقويم هذه الروايات وتردّ الكثير منها وتقبل الكثير، وبهذا انتقل التراث المكتوب للحديث من الكوفة إلى قم واستمرّت قم مركزاً للنقد الحديثي لمدّة قرن تقريباً قبل أن ينتقل مركز الحوزة العلميّة في أواخر القرن الرابع الهجري إلى بغداد في العراق.

قبيل وبعد انتقال مركز الحوزة إلى بغداد ظهر جيل جديد من العلماء قاموا بجمع الكثير من هذه الكتب والكراريس الصغيرة وإعادة تنظيم الروايات وألّفوا كتباً واسعة وعلى رأسها الكتب الأربعة في القرن الرابع والخامس، وكان مركز هؤلاء العلماء في منطقتين: الريّ وبغداد.

وبهذا مرّ الحديث الشيعي بثلاث مراحل:

أ ـ مرحلة النقل الشفوي، وهي من زمن النبيّ وحتى زمن الإمام الباقر (114هـ) على أقلّ تقدير.

ب ـ مرحلة المدوّنات الصغيرة (كراريس)، واستمرّت من عصر الصادق (148هـ) وحتى نهايات القرن الثالث الهجري.

ج ـ مرحلة المدوّنات الحديثية الكبرى، وكانت في القرن الرابع والخامس الهجريّين مثل الكتب الأربعة.

هكذا نرى أنّ الكتب الحديثية الكبرى التي جمعت الروايات ظهرت في القرن الثالث عند أهل السنّة، أمّا عند الشيعة فقد تبلورت في القرنين الرابع والخامس.

 

كيف كان يتمّ نقل الحديث في العصر العباسي؟

كانت هناك مجموعة من الطرق التي تنتقل من خلالها الأحاديث من الجيل السابق إلى الجيل اللاحق، وعددها ثمانية، لكنّني سوف أذكر بعضها فقط للتوضيح وأخذ فكرة عن الموضوع:

الطريقة الأولى: السماع وقد يُسمّى أحياناً "الإملاء"

وهو أن يجلس الشيخ ويقرأ بنفسه الأحاديث التي وصلته، إمّا من حفظه وذاكرته أو من كتابه الذي بين يديه، فيسمع الآخرون الحديث، فيحفظونه أو يكتبونه في كراريسهم، وعلى أساس هذه الطريقة فإنّ السامع يقول: حدثني أو سمعت أو حدّثنا أو أخبرنا الشيخ الفلاني كذا وكذا.

وتعتبر هذه الطريقة من الطرق الشائعة في العصر العباسي، حيث كانوا يجلسون حول الشيخ على شكل حلقات في المساجد ويستمعون له فيما وصله من أحاديث عبر شيوخه ويأخذونها، ثمّ ينقلونها إلى الجيل اللاحق.

لاحظوا هنا أنّنا عندما نقرأ ـ على سبيل المثال ـ كتاب صحيح البخاري أو صحيح مسلم فإنّنا نجد كثيراً تعابير حدّثنا أو أخبرنا.. وهذا يدلّ على أنّ النقل كان عبر هذه الطريقة. ويتمّ اختصار هذه الطريقة على الشكل الآتي:

حدّثنا: ثنا ـ نا

أخبرنا: أنا

مثلاً: ثنا عمّار، ثنا عمران، أنا سعيد، ثنا حامد، قال: قال: رسول الله..

عندما تجدون هذه الكلمات أو هذه الاختصارات فهذا يعني أنّ طريقة تحمّل الحديث هي هذه الطريقة التي هي أعلى الطرق وأدقّها.

الطريقة الثانية: القراءة أو القراءة على الشيخ، وتسمّى طريقة العرض

تعني هذه الطريقة أنّ التلميذ يحصل مثلاً على كتاب فيه مجموعة روايات جمعها الشيخ الفلاني، فيذهب إلى هذا الشيخ، ثم يجلس أمامه ـ وقد يجلس معهما مجموعة أخرى من التلامذة ـ فيقرأ التلميذ ما في الكتاب الذي عنده من أحاديث، ويقوم الشيخ بمطابقة ما قرأه هذا التلميذ مع النسخة التي بيده لكتابه، فإذا تطابقا، قال له الشيخ: إنّ هذا الكتاب الذي بيدك مطابق لكتابي، فيتمّ التأكّد من أنّ النسخة التي حصل عليها التلميذ مطابقة للنسخة الأصل التي للأستاذ.

هنا التلميذ ـ وهو الراوي ـ يقول: قرأت على الشيخ الفلاني كتاب كذا وكذا، وفيه الرواية عن رسول الله أنّه قال كذا وكذا.

الطريقة الثالثة: المناولة

وتعني هذه الطريقة أن يقوم الشيخ بإعطاء نسخة من كتابه إلى التلميذ، وفي هذا الكتاب تكون الروايات عن النبي وأهل البيت قد جُمعت حول موضوع معيّن أو غير معين، فهنا يقوم التلميذ الذي تلقّى بنفسه هذه النسخة من الكتاب بنقل الروايات التي فيه لتلاميذه، وهكذا تنتقل الروايات إلى الجيل اللاحق.

لاحظوا في هذه الطرق كيف أنّ المحدّثين كان يهمّهم ضمان انتقال الكتب الحديثيّة الصغيرة والكبيرة أو الروايات بطريقة مؤكّدة، ولهذا كان يهتمّون بمطابقة النُّسَخ لبعضها، كي يعرفوا أنّ النسخة التي بيد الشيخ مطابقة لما هو عندي، وهكذا ليتأكّدوا أنّ النسخة التي عندي مطابقة للنسخة التي عند تلميذي، وهكذا.

إنّ طباعة الكتب واستنساخها في ذلك الزمان لم تكن عمليّة سهلة ومضمونة؛ فليست الحال مثل اليوم حيث تكون هناك دولة قوية ولها سلطة واسعة وتتمّ طباعة آلاف النسخ من كتاب واحد وتكون متطابقة، وأيّ شخص يحاول تزوير كتاب يمكن رفع دعوى قضائيّة عليه وفضحه في الإعلام ووسائل التواصل وهكذا.. إنّ الأمور لم تكن كذلك؛ لأنّ عدد نسخ كتاب واحد في ذلك الزمان لم تكن كثيرة، فمثلاً كتاب الكافي يمكن أن تكون منه في القرن الخامس الهجري عشرون نسخة فقط أو مائة نسخة، وهذه النسخ تكون عادة بيد المهتمّين بعلم الحديث ومنتشرة في المدن، ومن الممكن لشخص أن يزوّر في الكتاب ثم ينشره دون أن يعلم البقيّة بسهولة، ويحتاج الأمر لوقت حتى يتم تبيّن هذا الأمر. طبعاً بمرور الزمن صارت إمكانيّة تزوير الكتب أقلّ، لكن في تلك الفترات الأولى كان الأمر بحاجة إلى تشدّد كبير من قبل المحدّثين لضبط عمليّة انتقال كتب الحديث واستنساخها.

الطريقة الرابعة: الوِجادة

تعني هذه الطريقة أن أجد كتاباً في السوق أو في مكان قديم أو في مكتبة بالية، وفي هذا الكتاب كُتب أنّ هذا كتابُ الراوي الفلاني ـ مثلاً كتاب الديات لظريف بن ناصح ـ وجمعت في هذا الكتاب روايات ظريف، هنا مثلاً لم يعطني أحد هذا الكتاب، ولا سمعته من شيخ، ولا قرأته على شيخ، فمن المحتمل أنّ هذا الكتاب مزوّر، ومن المحتمل أنّ هذه النسخة غير مزوّرة، هنا لا يحقّ لي أن أقول: سمعت من فلان، لأنّني لم أسمع منه، بل أقول: وجدت في كتابٍ منسوب لفلان أو بخطّ فلان وهكذا.

في التاريخ الإسلامي هناك الكثير من الكتب التي تمّ العثور عليها بطريق الوِجادة، ولهذا يختلف العلماء في الموقف تجاهها، ويحاولون دراسة المعطيات للتثبّت من صحّة هذا الكتاب أو ذاك، وبعضهم قد يعثر على شواهد لتأكيد صحّة نسبته، وبعض آخر يقول: إنّ هذه الشواهد غير كافية، ويرى بعض الباحثين أنّ العصر الصفوي في تاريخ الشيعة شهد ظاهرة الوجادة بكثرة، فهناك كتب كثيرة عثر على مخطوطاتها في هذا العصر وبخاصّة في العراق وإيران والهند، وهذه المخطوطات ليست قديمة، فمثلاً كتاب سُلَيم بن قيس الهلالي يقول بعض العلماء بأنّ أقدم مخطوطة له عثر عليها في القرن العاشر الهجري، فكيف لنا أن نتأكّد من أنّ هذا الكتاب هو نفسه كتاب سُليم بن قبيس الهلالي الذي يتكلّم عن الهجوم على دار السيدة الزهراء؟! وكذلك تفسير علي بن إبراهيم القمي، فإنّهم قالوا بأنّ أقدم نسخة عثر عليها له ترجع للقرن الحادي عشر الهجري، وليس لدينا مناولة ولا عرض ولا قراءة ولا غير ذلك حتى نتأكّد من مطابقة النسخة للكتاب الحقيقيّ لعليّ بن إبراهيم القمي. وأيضاً من باب المثال العلامة المجلسي في بحار الأنوار كثيراً ما يقول: وجدت في كتاب "العتيق الغرويّ" كذا وكذا. إنّه ليس كتاباً اسمه العتيق الغروي، بل هو كتاب لا يُعرف من هو مؤلّفه، لكنّه كان كتاباً عتيقاً وعثروا عليه في منطقة الغريّ، أي في محيط مقام الإمام عليّ، فسمّوه بالعتيق الغروي.

لهذا كلّه يوجد اليوم بين علماء الحديث الشيعة تياران: تيار لا يثق كثيراً بالمخطوطات والكتب التي عثر عليها في العصر الصفوي أو بدأت بالانتشار والظهور في هذا العصر، ويقول بأنّها لا تتعدّى أن تكون وجادة، وتيار يحاول أن يجمع الشواهد لتأكيد صحّة هذه النسخ والمخطوطات.

نقطة مهمة جداً بمناسبة الحديث عن الوجادة، وهي أنّ هناك ظاهرة عرفها الشيعة ـ وكذلك السنّة ـ منذ القرن الثاني الهجري، واستعملها الغلاة في الوسط الشيعي، وهي أن يأخذوا كتاباً ثم يجروا عليه تحريفات وتعديلات ثم ينشروه، سأعطي مثالاً مبسّطاً:

هناك كتاب اسمه كتاب الصلاة، ومؤلّفه شخص ثقة من علماء الشيعة اسمه حريز بن عبد الله السجستاني، وكان معاصراً للإمام الصادق، هذا الكتاب كان متداولاً بين علماء الحديث الشيعة، سنأخذ فرضيّة لتوضيح القصّة، يأتي شخص ـ مثل: محمد بن أبي زينب الأسدي، أبو الخطّاب، وهو من كبار الغلاة في القرن الثاني الهجري ـ فيأخذ الكتاب من السوق أو من شخصٍ مثلاً، ويقوم باستنساخه لكنّه يضيف عليه أشياء من عنده، ثم يحاول نشر هذه النسخة المحرّفة من الكتاب بين الشيعة على أنّها كتاب حريز في الصلاة، ما الذي يحصل؟ الذي يحصل أنّه سوف تنتشر نسختان من كتاب حريز، واحدة صحيحة والثانية محرّفة، وهنا تقع المشكلة، فعندما يجد شخص النسخة المحرّفة وهو لا يدري أنّها محرفة، ويعطيه إيّاها شخص غير متثبّت مثلاً أو يراها في السوق، فإنّه يكون قد أدخل إلى الحديث روايات كاذبة من حيث لا يشعر. هذا أمر حصل في الوسط السنّي أيضاً، عبر شيء يسمّونه "الوضع على الثقات"، فيأتي شخص كاذب ويختلق كتاباً صغيراً يضع فيه أحاديث صحيحة وكاذبة معاً، ثم يقول بأنّ هذا كتاب فلانٍ الثقة، ويبدأ ينتشر بين بعض الناس أنّه كتاب فلان الثقة. إنّ علماء الحديث بذلوا جهوداً كبيرة لكشف مثل هذه الاحتيالات الكثيرة التي حصلت، ونجحوا في اكتشاف بعضها، لكن لا شيء يؤكّد أنّهم نجحوا في اكتشاف جميعها، هذه هي تحدّيات العمل في مجال الحديث والسنّة.

لاحظوا جيّداً كيف أنّ عمليّة انتقال الحديث من مرحلة النقل الشفوي في القرن الأوّل الهجري إلى مرحلة التدوين في القرن الثالث والرابع حلّت العديد من المشاكل، لكنّ هذا لا يعني أنّ كلّ المشاكل قد حلّت، بل قد ظهرت مشاكل أخرى تتعلّق بالتدوين نفسه، وكان يلزم على العلماء بذل جهود جديدة لتفادي أكبر قدر ممكن من هذه المشاكل.

هكذا وجدنا كيف أنّ الحديث بدأ يتمّ تناقله بطريقة شفويّة، وتدريجياً بدأ المسلمون يدوّنون هذه الروايات، ثم تطوّر الأمر لاستخدام عمليات ضبط متشدّدة في نقل الحديث جيلاً بعد جيل، لكنّ السؤال: إلى أيّ حدّ نجح المسلمون في تجنّب عمليّات تزوير الحديث؟ وإلى حدّ نجحوا في الحيلولة دون نفوذ الروايات الكاذبة إلى كتبهم؟ هذا سؤال يختلف الباحثون حول جوابه اختلافاً كبيراً، لكنّ الجميع يتفق على أنّ الجهود التي بذلها علماء الإسلام من المذاهب المختلفة لا يمكن إلا أن ننحي إجلالاً لها ولعظمتها، فقد صرفوا أعمارهم في جهد لا مثيل له ولقرون عدّة؛ لخدمة الحديث الشريف، سواء وفّقوا هنا أو أخفقوا هناك.

 

الخلاصة

1 ـ اعتمد المسلمون في القرن الأوّل الهجري طريقة التناقل الشفوي للحديث، لكنّها كانت تواجه مشاكل مثل: مشكلة الفهم، ومشكلة إعادة صياغة الكلام الذي تمّ فهمه، ومشكلة الحفظ.

2 ـ لماذا لم يكتب المسلمون الحديث النبوي منذ العصر النبوي؟ هنا جوابان:

أ ـ الثقافة الشفويّة المهيمنة على المجتمع العربي آنذاك.

ب ـ قرار منع التدوين من قبل السلطة.

3 ـ مع بدايات القرن الثاني الهجري، بدأت العمليّات الأولى لتدوين الحديث، ومع ذلك ظلّت محدودة، وتطوّرت تدريجياً بمرور الزمن، وبخاصّة بعد دخول الورق الصيني.

4 ـ أهل السنّة أنهوا ـ تقريباً ـ كتابة الموسوعات الحديثية الكبرى، بنهاية القرن الثالث الهجري، أمّا الشيعة ففعلوا ذلك في القرنين الرابع والخامس.

5 ـ كانت الكوفة مركز المحدّثين الشيعة منذ نهايات القرن الأوّل وحتى أواسط القرن الثالث، ثم انتقل المركز إلى قم، ثم في أواخر القرن الرابع انتقل إلى بغداد.

6 ـ من أهمّ طرق نقل الحديث كان:

أ ـ السماع (الإملاء)، وهي أهمّ الطرق.

ب ـ القراءة أو القراءة على الشيخ (العَرْض)

ج ـ المناولة.

د ـ الوِجادة

7 ـ حصل نقاش كبير بين علماء الشيعة في العديد من الكتب التي اعتبرها بعضهم من الوجادة في العصر الصفوي.

8 ـ بعد تخطّي مشاكل النقل الشفوي، واجه العلماء مشاكل أخرى في نقل الكتب والاستنساخات، فبذلوا جهوداً جبّارة في مواجهتها.


 

 

الحلقة الرابعة

الوضع في الحديث

مفهومه، حكمه، آثاره وأساليبه

 

تمهيد

لا يختلف اثنان من دارسي الحديث النبوي وغيره في وجود ظاهرة الوضع في الحديث، وأنّ هناك في التاريخ من مارس هذا الكذب والدسّ في أحاديث النبي والصحابة وأهل البيت.

موضوعنا اليوم هو حول ظاهرة الوضع، مفهومها، أساليبها، دوافعها، وكيفيّة مواجهتها، ونحو ذلك.

 

1 ـ تعريف الحديث الموضوع

الوضع في الحديث يعني الكذب والنسبة إلى رسول الله أو أهل البيت. والحديث الموضوع هو المختَلَق المصنوع كذباً على النبيّ في قوله أو فعله أو تقريره.

بهذا التعريف يظهر الفرق بين الحديث الموضوع والحديث الضعيف؛ فإنّ ضعف الحديث قد يكون ناشئاً من كونه مرسلاً أو عدم ثبوت وثاقة أحد الرواة، لكنّ هذا لا يعني أنّه موضوع؛ لاحتمال أن يكون مطابقاً للواقع وأن يكون الرواة صادقين في النقل، كلّ ما في الأمر أننا لم نطّلع على حالهم في الصدق والكذب، وهذا على خلاف الحديث الموضوع فإنه الذي نراه مكذوباً على النبي بحيث تقوم لدينا الحجّة على عدم صدوره. ومن الوضع والحديث الموضوع، نعرف المراد من الواضع، فإنّه الراوي الكاذب وليس مطلق الراوي الذي لم تثبت وثاقته.

 

2 ـ الآثار السلبيّة لحركة الوضع

تتعدّد الآثار السلبية لحركة الوضع في الحديث، ويمكن ذكر بعضها:

أ ـ خلق مفاهيم دينية هجينة

عندما توضع الأحاديث وتنتشر بين الناس تتحوّل إلى مرجعٍ قد يعتمده ـ من حيث لا يشعرون ـ الفقهاء والمفسّرون وعلماء العقيدة وعلماء أصول الفقه والأخلاق، والمؤرّخون فيستخرجون منها فتاوى أو نظريات أو عقائد أو فهماً للقرآن أو قناعةً بحدثٍ تاريخي هنا وآخر هناك.. إنّ هذه النصوص الموضوعة سوف تتحوّل تلقائياً، بعد استقرارها في بطون الكتب، إلى مفاهيم ومقولات وعقائد، ثم ستصبح في المرحلة اللاحقة قناعات اجتماعية وممارسات عمليّة يسير عليها ملايين المسلمين في العالم.

وهكذا تترك الأحاديث الموضوعة ثقافة هجينة غريبة عن الإسلام الحقيقي داخل ثقافتنا الإسلامية، تتسرّب إلى وعينا الديني لتلعب به، ونحن نحسبها قيماً وأحكاماً ومفاهيم دينية، ليس تقصيراً منّا بالضرورة، بل قصوراً أحياناً.

ب ـ خلق الفرقة بين المسلمين

من المعروف أنّ إحدى المساحات الهامة التي اشتغل عليها الوضّاعون كانت الانحيازات القبلية والعشائرية والقومية والمناطقية والمذهبية والفرقية وقضايا المثالب والمناقب، ولهذا تكثر الأحاديث الموضوعة في هذه الدائرة، حتى ذهب السيد حسين البروجردي (1380هـ) إلى إسقاط حجية الخبر في هذه الأمور ما لم تحشد له القرائن لتحصيل الوثوق به.

وقد ترك وضع الحديث في هذه الأمور أثراً سلبياً ونذكر مثالين:

1 ـ كانت روايات ذمّ الآخرين ومقدّساتهم وما يتصل بهم ذات أثر سلبي على علاقات المسلمين بعضهم ببعض، فعندما يضع الراوي حديثاً في ذمّ الفرس أو ذمّ العرب أو ذم الأكراد أو ذم الديلم، ثم يتداول هذا الحديث فإنه يترك ردّة فعل سلبية في المجتمع من حيث علاقات الناس بعضهم ببعض. وهكذا الحال في ذمّ المقدّسات المذهبية.

2 ـ ساعدت بعض النصوص الموضوعة على إيجاد حالة طبقية في المجتمع الإسلامي، فكان العرب يضعون بعض الروايات في تفضيلهم وتفوّقهم ونجابتهم بما كوّن في الوعي الإسلامي عند الكثيرين حالة تقدّم العرب على غيرهم في الفضيلة. ووضعت نصوص في تفضيل بعض العشائر والقبائل، بحيث كانت تتقدّم على غيرها كقريش، مع أنّ القرآن جعل معيار الفضيلة العلم والتقوى، دون الأنساب أو الأعراق أو القبيلة.

 

3 ـ حكم وضع الحديث

المعروف بين علماء الشيعة والسنّة هو القول بحرمة وضع الحديث عن علم وعمد على لسان المعصوم.

والمستند في ذلك واضحٌ؛ لأن وضع الحديث شكلٌ من أشكال الكذب والافتراء، وحرمة الكذب من الواضحات في الفقه الإسلامي، وتشتدّ الحرمة عندما يكون كذباً على المعصوم. بل قد ذهب بعض الفقهاء إلى الحكم ببطلان الصوم بالكذب على الله تعالى ورسوله والمعصومين، فجعلوه من المفطرات، كما يظهر بمراجعة أبحاثهم الفقهية، ولا سيما الفقه الإمامي.

وفي مقابل هذا القول المشهور، نسب إلى بعضهم القول بجواز وضع الحديث، وأشهر الجماعات التي نسب إليها ذلك:

1ـ الكرامية، المنسوبون إلى محمد بن كرام بن عراق السجستاني (255هـ).

2ـ بعض المتصوّفة والزهاد.

3ـ بعض أهل الرأي.

وبصرف النظر عن مدى دقّة هذه النسبة، وهل هي صحيحة أو غير صحيحة، وإن كانت الشواهد المتفرّقة تدفعنا إلى ترقّب دقّة هذه النسبة.. فإنّ المجوّزين لا يقصدون مطلق الرخصة في الكذب على لسان النبي، وإنما كذب خاص أو نوع ومقدار محدّد من الكذب يخدم الأهداف النبيلة التي وضعوها، وقد قالوا بأنّ الحديث المعروف: «من كذب عليّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار»، معناه الكذب الذي يضرّ النبيَّ ويكون ضدّه ومخالفاً لمصالح دينه، دون الكذب الذي يرجع بالخير عليه وعلى دينه، فإن كلمة (عليَّ) تختلف عن كلمة (لي) والكذب عليه غير الكذب له، ووضع الحديث أحياناً كذب له لا عليه.

إلا أنّ هذا الدليل باطل؛ لأنّ كلمة (عليّ) لا تعني (ضدّي) في مقابل كلمة (لي) التي تعني (معي ولصالحي)؛ وإنما تفيد في اللغة العربية مطلق نسبة الشيء إلى الآخر، دون أن يكون الآخر قد قاله، ومثال ذلك أن يقال: كذبت على لسانك، بمعنى أنني نقلت شيئاً غير صحيحٍ عنك.

 

4 ـ أنواع الوضع وأشكاله وأساليبه

تتعدّد أشكال وضع الحديث وتختلف أنواعه، ومن الضروري التعرّف على أساليب الوضع، إذ غالباً ما يتصوّر للوضع أشكال مبسّطة فينطلي الأمر على الباحثين في حنكة الواضعين وذكائهم، الأمر الذي يفرض الاطّلاع على هذه الأساليب، تمهيداً للتمكّن من تمييز الأحاديث الصحيحة عن غيرها بطريقة جيّدة.

وسأذكر فقط بعضاً قليلاً من أهم أشكال الوضع على نحو المثال:

أ ـ الوضع الكامل في المتن خاصّة

تقوم هذه الحالة المشهورة جداً على أساس:

اختراع الواضع لمتن من عنده لا يأخذه من أحد

أن لا يكون المتن من اختراع الواضع، وإنما يأخذه من موضع قائم موجود، وله أمثلة:

منها: أن يعمد الواضع إلى كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل والتلمود وسائر المصنفات الأخرى، ليأخذ منها قصّة أو حديثاً أو حكمةً أو موعظة أو حكماً فقهياً، ثم ليركّبه بعينه على سند موجود قائم، وهذا ما يعرف بالإسرائيليات التي غلب وجودها في مجال القصص وتاريخ الأنبياء ونحو ذلك.

ومنها: أن يعمد الواضع إلى كتب الحضارات والحكماء القدامى في الحضارات المختلفة وينظر في ثقافات الشعوب، فيرى حِكَماً معروفةً عندها، ثم يقوم بتركيب هذه الحكمة الآتية من بلاد الروم أو العرب أو فارس أو البربر أو الهند أو.. على أسانيد جاهزة.

ومنها: استقاء كلام الأطباء أو الشعراء لنسبته إلى نبي أو إمام، على نفس الطريقة المتقدّمة، وقد ذكر بعض نقاد الحديث أنهم لاحظوا كتب الطبّ القديمة ووجدوا تطابقاً بينها وبين بعض الروايات الطبية، وهكذا في مجال الشعر.

ب ـ الوضع الجزئي

يختلف الوضع الجزئي عن الوضع التام، من حيث إنّ الواضع لا يقوم بابتكار حديث بكامله، وإنما يرى حديثاً موجوداً له سنده ومتنه، ولم يقم هو بابتكار أيّ من الجزأين الرئيسين فيه، لكنه يقوم بإدخال بعض التعديلات، وبذلك يقع الوضع الجزئي.

ومن أهمّ أمثلته الوضع الجزئي في المتون، وهي من ظواهر الوضع الخطيرة جداً؛ لأنّ الواضع لا يتصرّف في الأسانيد، وإنما يتصرف في المتن تصرّفاً جزئياً يريد به حرف المعنى الأصلي، أو إضافة معنى جديد، أو حذف معنى محدّد كان دالّه موجوداً في المتن.

والوضع الجزئي في المتن يحصل من خلال حالات عديدة، أبرزها: إضافة كلامٍ ما في أوّل الحديث أو وسطه، أو آخره أو يقوم بتغيير ألفاظ الحديث. وقد يكون بإنقاص المتن.

 

5 ـ ظاهرة الوضع: أسبابها ومبرّرات ظهورها التاريخي

ثمة أسباب عديدة لعبت دوراً في ظهور الوضع وتناميه بشكل واسع في العصرين: الأموي والعباسي، ونظراً لتعدّد الأسباب يمكن أخذ نماذج أساسية لها، وذلك على الشكل الآتي:

أ ـ الأسباب السياسية

يعدّ الملف السياسي أحد أهم الملفات التي تدور في فلكها ظاهرة الوضع، فانقسام المسلمين إلى شيع وأحزاب عقب وفاة الرسول، وتجلّي ذلك بشكل ظاهر وعلني وواضح في أحداث الفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة الثالث، وما بعد ذلك من حروب في عصر الإمام علي بن أبي طالب، ثم ظهور السلطات الكبرى في العصر الإسلامي.. ذلك كلّه لعب دوراً هاماً في استغلال الحديث للانتصار السياسي.

ويمكن شرح هذا السبب من خلال ثنائي: السلطة والمعارضة:

1 ـ فالسلطة وأنصارها بما يملكون من إمكانات بشرية ومادية في العادة، سعوا لوضع الأحاديث التي تكرّس قوّة السلطة وتضعضع وضع المعارضين لها، وفي هذا السياق نجد الأحاديث الموضوعة التي تنتصر لخلافة بني أمية وبني العباس، أو تحرّم الخروج على الخليفة فاعلاً ما فعل، ونجد سعياً حثيثاً لتشويه صورة المعارضة باختلاق أحاديث نبوية في مواجهتهم، فالحاجة التي كانت عند السلطة لوضع الحديث تتمثل في ضرورة وجود نصّ ديني يضفي شرعيةً على هذه السلطة لتحكم باسم الله على الأرض، وأيضاً التأسيس لمنطق التعطيل في مواجهة الفساد السياسي والإداري في ممالك الدولة؛ وهذا ما ظهر عبر اختراع روايات الجبر التي تعطّل قدرة النهوض في الأمّة، وكذا بعض روايات التوكّل على الله، وروايات الطاعة المطلقة للحاكم وتحريم الخروج عليه مهما كان الأمر إلا في حالات يندر تحقّقها جداً، وهذا النوع من النصوص يلغي ثقافة الرفض في الأمة تماماً.

2 ـ والمعارضة بأطيافها تقوم ـ على المقلب الآخر ـ بجهود ضافية لتكريس قوّتها وتعظيمها، وهي من جهة تسعى لوضع الأحاديث التي تحطّم كلّ الجهود التي قامت بها السلطة وتفسّرها تفسيراً سلبياً على الدوام، كما تشوّه صورة رموز السلطة دائماً ومن يتقرّب منها، كما أنها تغالي في وضع الحديث لمصلحة رموزها؛ لتؤمّن في النص الديني هدماً للوضع القائم وبناءً بديلاً متوفراً عندها. بل نجد عند المعارضة روايات تسعى لرفض أيّ منطق تفاوضي في الداخل الإسلامي، وأنه لابد دائماً من السيف والدم، الأمر المعاكس تماماً لثقافة السلطة.

ب ـ الأسباب الفكرية والمذهبية

وإلى جانب الأسباب السياسية، كانت الأسباب الفكرية والانتمائية تساعد بقوّة على وضع الحديث، ويمكن بيان ذلك من خلال أنّ أهل كل فرقةٍ كانوا يضعون الأحاديث لنصرة فرقتهم، فالقدرية والمرجئة والبكرية والشيعة وأهل الرأي وغيرهم كانوا يتحمّسون للانتصار لمذاهبهم، فكان بعضهم هنا وهناك يضع الحديث بدافع تقوية مذهبه.

ولم يقتصر وضع الحديث للانتصار للانتماء العقائدي، بل تعدّاه للانتصار للانتماء الفقهي، فقد وضعت أحاديث في مدح أئمة المذاهب الفقهية، مثل الشافعي وأبي حنيفة.. ووضعت أحاديث في ذمّهم، حتى أنّ الرسول كان يسمّيهم بأسمائهم!

ج ـ الأسباب الدينية والنبيلة

يقصد بهذا النوع من الأسباب تلك الدوافع الدينية والإيمانية الصادقة التي تعتقد بأنّ وضع الحديث أحياناً لغايات نبيلة يحقّق خدمةً للدين، وهذا النوع من الوضع والوضّاعين هو من أخطر أنواع الوضع، كما ذكر علماء الحديث والدراية، حيث يعتقد هؤلاء أنّ وضع الأحاديث في القضايا الأخلاقية والروحية يرقّق قلوب العامّة، كما نُسب إلى أحدهم.

والمتوقع منهم أن يفعلوا ذلك ـ بصرف النظر عن بعض الشواهد التاريخية عن شخصٍ هنا وآخر هناك ـ هم أهل الزهد والإيمان الذين يملكون نزعات روحية عميقة، فإنّ هؤلاء قد يضعون الكثير من الروايات الأخلاقية والروحية، ومن روايات الآداب وفضائل الأعمال، ومن روايات القصص الوعظية ذات العبر، دفعاً للناس لليقظة والخروج من الارتهان لحطام الدنيا وزخرفها.

وفي إطار ثقافة الترغيب، تأتي روايات الثواب والعقاب والمبالغة فيها، حتى أنّ لقمة بطّيخ واحدة قد تزيل سبعين ألف سيئة، وفعلٌ صغير قد يعطيك حسنات جميع الأنبياء. وقد اشتهرت في هذا المجال روايات فضائل السور القرآنية، ومن طبع هذا النوع من التفكير أنه يميل للعزلة وتعظيم الأعمال البسيطة كالمستحبات اليومية، ويزهّد في العمل الاجتماعي والسياسي، فلعلّهم وضعوا مرويات في ترك الجهاد أو العمل السياسي واجتناب السلاطين وعدم الخلطة وعدم التنعّم بالدنيا وترك طيب العيش واللجوء إلى الحياة الفردية.

د ـ الأسباب الدنيويّة

تتعدّد الأسباب الدنيوية لوضع الحديث، وقد تظهر في شخص تتضح معالم رغبته في منفعة دنيوية، وقد تظهر في آخر لا تبدو الأمور واضحة فيه.

ومن أبرز مظاهر هذا النوع من الأسباب دوافع التقرّب من السلاطين والملوك والأمراء والولاة، للحصول على منصبٍ هنا أو آخر هنا: أو لتحصيل بعض المال والأراضي والضياع، أو لإرضاء الحكّام لكفّ أذاهم.

ومن ذلك التقرّب إلى العوام، بجلب انتباههم لتحصيل مكانةٍ عندهم أو مال، وهذا ما عرف عن ظاهرة القصاصين الذين امتلكوا سلطة جماهيرية (سلطة العوام) حتى كان العلماء والفقهاء يخشونهم ويخشون ألسنتهم.

ومن ذلك أيضاً الوضاعون الذين يضعون لمصالح فئوية لا تنطلق من بُعد ديني أو مذهبي، فيضعون الروايات في فضل الأقوام التي ينتمون إليها، فإذا كان فارسياً وضع ما ينفعه وإذا كان عربياً فعل ذلك، وصارت لغة الجنة بلغته ولغة النار بلغة خصومه، وهكذا بدأ الانحياز للعرف واللغة واللون والقبلية والعشيرة والقومية والمنطقة، فصارت بعض المدن أفضل المدن، وبعض الأنهار خير الأنهار، وثمار هذه المنطقة خيرٌ من غيرها.

هذه هي أهم الأسباب المعروفة المشهورة للوضع، والتي حشد لها بعض العلماء بعضَ الوقائع هنا وهناك.

 

6 ـ مواجهة ظاهرة الوضع

لم يقف العلماء المسلمون مكتوفي الأيدي إزاء ظاهرة الوضع، بل هبّوا لمواجهتها، وقد استخدموا وسائل متعدّدة في هذا المجال، وتركوا آثاراً قيمة تستحق الوقوف عندها، دون أن تزول الحاجة إلى مزيد من الجهود في هذا المضمار.

اعتمد العلماء المسلمون أصولاً في مواجهة الوضع في الحديث أبرزها:

الأول: تشييد علوم النقد السندي، فأسّسوا علم الرجال والجرح والتعديل، كما ألّفوا كتباً خاصّة في كشف الكذبة والوضاعين، وأسّسوا علوم الحديث وما يرتبط بها.

الثاني: تشييد علوم النقد المتني، فقد قام العلماء في علم الدراية وخارجه بوضع قواعد لنقد متن الحديث تسهّل اكتشاف الحديث الموضوع أو تجعل الناظر قريباً من ذلك، مثل قوانين العرض على القرآن.

الثالث: التصنيف في علم الموضوعات

صنّف العلماء المسلمون العديد من الكتب في موضوعات الحديث، ومنها:

1 ـ الموضوعات، لابن الجوزي (597هـ).

2ـ اللئالي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، لجلال الدين السيوطي (911هـ).

3ـ تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، لابن عراق (963هـ).

4 ـ تذكرة الموضوعات، لجمال الدين الفتني (986هـ).

5ـ الموضوعات الكبير، للملا علي قاري (1014هـ).

6 ـ الموضوعات في الآثار والأخبار، لهاشم معروف الحسني (1403هـ).

7 ـ الأخبار الدخيلة، لمحمد تقي التستري (1405هـ).

هذه الكتب وغيرها حاولت كشف الأحاديث الموضوعة في التراث الإسلامي، وساهمت ـ ولو أخفقت هنا وهناك ـ في تنشيط ثقافة نقد الحديث الموضوع.

 

الشيعة في سياق حركة مواجهة الوضع

من الواضح أنّ الشيعة الإمامية ـ يتقدّمهم أئمّة أهل البيت ـ قد سعوا لمواجهة الحديث الموضوع وحركة الوضع في الحديث، لكن الملاحظ أنّ الإمامية لم يتركوا كتاباً في الأحاديث الموضوعة، ولعلّ أول كتاب هو كتاب «الأخبار الدخيلة» الذي أنهى مؤلّفه الشيخ محمد تقي التستري المجلّد الأول منه عام 1369هـ، فيما أنهى المجلّد الرابع والأخير منه عام 1401هـ.

يطرح هذا الأمر تساؤلاً: لماذا لم تشتغل الإمامية على التصنيف في الموضوعات كما اشتغل سائر المسلمين؟

ثمّة وجهات نظر في هذا الموضوع، أذكر منها اثنتين فقط:

الأولى: ما ذهب إليه الباحث المعاصر الشيخ رضا أستادي، من أنّ السبب في إحجام الشيعة عن مثل هذه التصنيفات يرجع إلى إنّهم قاموا بتصفية كتبهم الحديثية مرّتين، مرّةً قبل عصر الكليني، حيث بالغوا في النقد والتمحيص، كما هي الحال مع مدرسة قم الشهيرة بمواقفها المتطرّفة والمتحفّظة من الرواة، وأخرى مع المحمّدين الثلاثة: الكليني، والصدوق، والطوسي، وهذا معناه أنّه لم تعد هناك حاجة لمزيدٍ من التصفية، من هنا يعتقد أستادي أنّ الشيعة وإن لم يؤلّفوا كتباً في الموضوعات، غير أنّهم سبقوا السنّة في هذا المجال، أي مجال نقد الحديث وتصفيته.

الثانية: ما رآه السيد هاشم معروف الحسني العاملي (1403هـ)، حيث ذهب إلى أنّ محدّثي أهل السنّة كانوا أكثر وعياً من الشيعة بالأخطار التي كانت تحدق بالسنّة النبويّة، فاهتمّوا بشكل أكبر بالنقد، وألّفوا في الموضوعات، أمّا الشيعة فقد تجاهلوا ـ بحسب رأي الحسني ـ المسألة، كأنّ الأمر لا يعنيهم، مع أنّ ما عندهم لا يقلّ خطراً عما هو مسطور في مصادر الحديث السنّية.

 

7 ـ أمارات الوضع وعلائمه أو منهج معرفة الحديث الموضوع

هناك الكثير من القرائن التي ينتبه اليها الباحثون في الحديث، ومنها نذكر بعض الأمثلة فقط:

1 ـ أن يشتمل الحديث على نمط من التركيب أو استخدام بعض المفردات التي نجزم بعدم عودها إلى عصر صدور النص، فمثلاً لو جرى استخدام مصطلحات فلسفية أو منطقية أو أصولية عرفها المسلمون في القرن الهجري الثاني أو الثالث أو الرابع، جرى استخدامها في رواية عن الإمام علي أو النبي محمد، ففي هذه الحال يكون ذلك دليل الوضع؛ لعدم إمكان صدور هذه التعابير آنذاك، ولا سيما أنّ السامعين لم يسألوا عن معناها.

ومثال ذلك، التعبير الوارد في كلام الإمام علي في رواية مرسلة عن المرأة بأنها: «ريحانة وليست بقهرمانة»، فقد قيل بأنّ كلمة: "قهرمانة" كلمة تركية، واللغة التركية لم تغزُ اللغة العربية إلا في القرن الثاني الهجري، فكيف يقف الإمام علي قبل عام 40هـ لقول هذه الكلمة دون أن يسأله أحدٌ عنها؟!

ومن أمثلة ذلك عند بعضهم ما جاء في بعض خطب الإمام علي، وفيها مصطلحات ذات طابع فلسفي، مثل: «وكيف أصفه بالكيف؟! وهو الذي كيّف الكيف حتى صار كيفاً، فعرفت الكيف بما كيّف لنا من الكيف. أم كيف أصفه بأين؟! وهو الذي أيّن الأين حتى صار أيناً فعرفت الأين بما أيّن لنا من الأين. أم كيف أصفه بحيث..».

وهذا النوع من أمارات الوضع يحتاج إلى تأمل كثير وخبرة طويلة وثقافة واسعة لاكتشافه وكشف مستوره من خلال طبيعة البنية اللغويّة وتاريخ تطوّرها.

2 ـ مخالفة ظاهر القرآن الكريم دون أن يقبل تأويلاً مستساغاً في العرف وعند العقلاء.

3ـ مخالفة السنّة القطعية الصدور.

4ـ مخالفة العقل. ومثلوا له بخبر عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في المصادر السنّية، حيث قيل له: حدّثك أبوك عن جدّك أنّ رسول الله قال: «إنّ سفينة نوح طافت بالبيت وصلّت خلف المقام ركعتين»؟ قال: نعم. ونحو هذه الرواية خبر علي بن أبي حمزة في المصادر الشيعيّة قال: قال لي أبو الحسن: «إنّ سفينة نوح كانت مأمورة طافت بالبيت.. ثم رجعت السفينة وكانت مأمورة، فطافت بالبيت طواف النساء».

5 ـ مخالفة المشاهدة والتجربة وحقائق العلم.

ومن أمثلته التي يذكرونها تلك الأحاديث التي تجعل الرياح مسجونةً تحت الركن الشامي أو اليماني للكعبة، فإذا أراد الله أرسلها للجنوب أو الشمال، وكذلك تفسير الزلازل بأنّ الله خلق الأرض على حوت، فقالت الحوت: حملتها بقوّتي، فأرسل الله إليها حوتاً قَدْر فتر، فدخلت منخرها، فاضطربت أربعين صباحاً، فإذا أراد الله أن يزلزل أرضاً تراءت لها تلك الحوتة الصغيرة.

وما ورد أن في الصين شجرة تحمل كلّ سنة ورداً يتلوّن كل يوم مرتين، فإذا كان أوّل النهار نجد مكتوباً عليه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وإذا كان آخر النهار فإنّا نجد مكتوباً عليه: لا إله إلا الله، علي خليفة رسول الله.

6 ـ مخالفة الحقائق التاريخية.

فإنه إذا تحدّثت رواية عن أمرٍ يخالف الحقائق التاريخية كان ذلك دليل كذبها ولو في الجملة. ومن أمثلة ذلك ما ذكره العلامة الطباطبائي من الردّ على الرواية الواردة عن عبد الله بن الزبير عن رسول الله أنه قال: «إنّما سمّى الله البيت العتيق؛ لأنّ الله أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليه جبّار قط»، وقد علّق الطباطبائي بقوله: «أما هذه الرواية فالتاريخ لا يصدّقها، وقد خرّب البيت، ثم غيّره عبد الله بن الزبير نفسه، ثم الحصين بن نمر».

7 ـ أن يشتمل الحديث ثواباً عظيماً على أمرٍ بسيط، أو عقاباً هائلاً على معصية صغيرة.

فهنا تشمّ رائحة الوضع، كأن يقول: من رفع الأذى من الطريق ولو مرّة كان له ثواب جميع الأنبياء، فإنّ هذا الأمر لا يمكن تصديقه، أو يقول: من نظر نظرة حرام خلّد في جهنّم ولم يقبل الله له توبةً قط.

 

الخلاصة

1 ـ الحديث الموضوع هو المختَلَق المصنوع كذباً على النبيّ أو الإمام، وليس كل حديث ضعيف فهو موضوع.

2 ـ للوضع في الحديث آثار سلبيّة منها: خلق مفاهيم دينية هجينة، وإيجاد الفرقة بين المسلمين.

3 ـ وضع الحديث حرام، لكنّ جماعاتٍ قليلة في التاريخ الإسلامي قالوا بأنّه لو كان مضمون الحديث يخدم الدين فيجوز، لكنّ علماء الحديث رفضوا ذلك.

4 ـ تتعدّد أشكال وضع الحديث، ومنها: الوضع الكامل في المتن خاصّة، والوضع الجزئي. وكلاهما من أخطر حالات الوضع.

5 ـ ثمة أسباب عديدة لعبت دوراً في ظهور الوضع وتناميه، منها: أ ـ الأسباب السياسيّة. ب ـ الأسباب الفكرية والمذهبيّة. ج ـ الأسباب الدينية النبيلة. د ـ الأسباب الدنيويّة.

6 ـ واجه العلماء المسلمون ظاهرة الوضع بأساليب مختلفة، مثل: علوم النقد السندي، وعلوم النقد المتني، وتصنيف كتب كاملة مخصّصة للموضوعات والوضّاعين.

7 ـ أقدم كتاب شيعي إمامي مستقل في الموضوعات هو كتاب «الأخبار الدخيلة» للشيخ محمد تقي التستري، في القرن العشرين، لكن لماذا تأخّر ظهوره؟

أ ـ قيام الشيعة بذلك من قبل ولم يعد لهم حاجة لذلك (رضا أستادي).

ب ـ وجود تقصير شيعي ويجب عليهم تلافي هذا التقصير (هاشم معروف الحسني العاملي).

8 ـ درس العلماء علامات الوضع وكانت كثيرة جداً ومنها: 1 ـ البنية اللغوية للحديث. 2 ـ مخالفة ظاهر القرآن الكريم. 3 ـ مخالفة السنّة القطعيّة. 4 ـ مخالفة العقل والمنطق. 5 ـ مخالفة المشاهدة والتجربة وحقائق العلم. 6 ـ مخالفة الحقائق التاريخية، وغير ذلك.


 

 

الحلقة الخامسة

الاتجاهات المعاصرة في التعامل مع الحديث

مقدّمة

نختم هذه السلسلة بالحديث عن المشهد الحالي في الوسط الشيعي فيما يتعلّق بالموقف من الأحاديث والروايات. ومن الطبيعي أنّنا لن نقدر على الخوض في التفاصيل، لكنّني سوف أشير لبعض الأمور العامّة التي تعطينا فكرةً عن الانقسامات الحاصلة اليوم. ومن أراد التوسّع في عرض المشهد خلال القرن الأخير فيمكنه الرجوع إلى كتابي "نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي"، حيث بحثتُ هناك، في الفصل السادس، وفي أكثر من 170 صفحة تقريباً ما يرتبط بهذا الأمر.

ربما يمكننا تقسيم أهمّ التيارات إلى الآتي:

 

1 ـ التيّار القرآني

وهو التيّار الذي اعتقد بأنّ الشيعة خلال القرون الخمسة الأخيرة ابتعدوا عن مرجعيّة القرآن الكريم، وأنّ القرآن أصبح مرجعاً ثانوياً بالنسبة إلييهم قياساً بالحديث، وأنّ ذلك قد حصل بتأثير الإخباريّين الذين جاؤوا في العصر الصفوي. ويعتقد هذا الفريق أنّ سبيل الخروج من أزمة الفكر الإسلامي المعاصر تكمن في إعادة ترتيب مصادر المعرفة الدينيّة، بحيث يكون للمصدر الأوّل هيمنة وتأثير على قيمة واعتبار وتفسير وفهم المصدر الثاني. والمصدر الأوّل هو القرآن، والمصدر الثاني هي السنّة، والقرآن قابلٌ للفهم وليس مبهماً، ومن ثمّ ففهمنا له يكون أساساً في تقويم الأحاديث وتفسيرها، وليس العكس.

وهناك رموز عدّة لهذا التيار الذي بدأ يظهر بقوّة منذ ثلاثينيّات القرن العشرين وإلى اليوم، ومن أشهر هؤلاء ـ رغم أنّهم قد يختلفون فيما بينهم في التفاصيل والتوجّهات ـ: شريعت سنغلجي، والشيخ محمد الصادقي الطهراني صاحب تفسير "الفرقان"، والسيد محمّد حسين فضل الله صاحب تفسير "من وحي القرآن"، والسيد كمال الحيدري، والسيد محمد حسين الطباطبائي صاحب "تفسير الميزان"، والشيخ محمّد مهدي شمس الدين، وغيرهم.

لكن السؤال هنا: ما هو الفرق بين هؤلاء وبين التيار السائد؟

سوف أقدّم ذلك من خلال ثلاثة أمثلة واقعيّة ومبسَّطة:

المثال الأوّل: الفقه السائد يقول بأنّ المرأة ليس لها حقّ جنسي على زوجها إلا أن يجامعها مرّة واحدة كلّ أربعة أشهر، وهذه هي فتاوى أغلب الفقهاء المتأخّرين. ويعتمدون في ذلك على رواية منقولة عن الإمام علي بن موسى الرضا، وهي رواية صحيحة السند، بينما يقول السيد محمّد حسين فضل الله ـ على سبيل المثال ـ إنّ هذا يناقض المبدأ القرآني الذي يقول: «وعاشروهنّ بالمعروف»، فهذه ليست عشرة بالمعروف، ومن ثمّ علينا تقديم النصّ القرآني على النصّ الحديثي.

المثال الثاني: توجد بعض الروايات التي تتحدّث عن جواز غيبة غير الشيعي بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، هنا قال الشيخ محمّد مهدي شمس الدين بأنّ هذه الروايات يجب أن نخضعها للنص القرآني، والقرآن أعلن بكلّ صراحة ووضوح أنّ كلّ المؤمنين إخوة، وفي الوقت عينه عندما تحدّث عن الغِيبة فهو قال: «أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً»، من خلال ذلك نعرف أنّ القرآن الكريم يؤسّس مبدأ أخوّة المسلمين وتساويهم، ومن ثمّ فعلينا أنّ نُخضع نصوص الروايات التي تجيز لعن أو سبّ أو غيبة غير الشيعي، للنصّ القرآني فإما نتركها أو نفهمها فهماً تاريخيّاً مؤقتاً، ونقول بانّها صدرت في ظروف خاصّة استثنائيّة، ولا تمثل حكماً شرعياً أصليّاً.

المثال الثالث: هناك روايات عديدة عند السنّة والشيعة، تفيد أنّ المرتدّ عن الإسلام يُقتل وتنفصل تلقائياً زوجته عنه، لكنّ بعض العلماء ـ مثل السيد محمد جواد الموسوي الغروي الإصفهاني ـ رفض هذه الروايات وطالب بوضعها تحت المجهر القرآني، فإنّ القرآن الكريم قال: «لا إكراه في الدين»، وعليه فهذه النصوص في قتل المرتدّ إما نتركها كلياً أو نقول بأنّها صدرت في ظروف خاصّة تاريخيّة.

إنّ هذا التيار ينطلق دائماً من فهم القرآن الكريم ليُعيد فهمَ نصوص السنّة بطريقة منسجمة مع القرآن. وهؤلاء يرون أنّ الحوزات الشيعيّة قصّرت كثيراً مع القرآن وبالغت في الاهتمام بأمر الحديث في استنباط الأحكام الشرعيّة، حتى أنّ أغلب علماء الشيعة لا يحفظون القرآن وكثير منهم لا يعرفون قراءة القرآن بشكلٍ صحيح أصلاً، فيما تجد بعضهم يحفظ كتاب بحار الأنوار! ولذلك تجدهم يؤوّلون الآية لمجرّد أنّ الحديث يدلّ على شيء آخر مغاير لها، فالآية أضعف في القوّة من الحديث، في حين يفترض أنّ الحديث يجب أن يكون هو الحلقة الأضعف؛ لأنّ القرآن هو الأصل والمستند القطعي الصدور.

وهنا نجد العلامة الطباطبائي ينتقد الشيعة والسنّة في تفسير الميزان حين يقول بأنّ السنة أخذوا القرآن وتركوا العترة النبويّة، فيما الشيعة أخذ بقول العترة وتركوا القرآن، فكلاهما أخطأ.

لكن يجب أن نشير إلى أمر مهم هنا، حتى لا نقع في التباس، وهو أنّ ظهور هذا التيّار في القرن الماضي ساعد بقوّة على عودة الاهتمام بالقرآن في الحوزات، وبرصدٍ سريع نكتشف أنّ عشرات التفاسير القرآنيّة ألّفها الشيعة خلال المائة سنة الأخيرة، بينما لا نجد مثل ذلك خلال قرون، فحفظ القرآن وقراءته وتفسيره صار أكثر حضوراً بتأثير من علماء هذا التيار على اختلاف توجّهاتهم.

 

2 ـ تيار النقد السندي

كان الشيعة في زمن الإخباريين كثيري الوثوق بالروايات الموجودة في كتبهم الأصليّة كالكتب الأربعة، لكنّ علماء أصول الفقه المتأخّرين، ابتداءً من الوحيد البهبهاني (1205هـ)، بدؤوا يعيدون النظر في هذا الأمر، وقالوا بأنّ الروايات الموجودة بين أيدينا ليست بهذه الدرجة، بحيث وكأنها كلّها مؤكّدة، بل هناك مشاكل كثيرة تحفّ بالروايات وعلينا أخذها جميعاً بعين الاعتبار، لكن مع ذلك ظلّ التيار العام عند الشيعة لا يدقّق كثيراً في الروايات إذا وردت في الكتب الأربعة وكانت مقبولة عند العلماء من قبل.

لكن في القرن العشرين ظهر تيار ينادي بنقد الحديث في مصادره وأسانيده، وكان من بين هؤلاء العلماء من كان خبيراً جداً بعلم الرجال والجرح والتعديل، وقد كان السيد أبو القاسم الخوئي واحداً من هؤلاء، فقد انتقد الكثير من القواعد التي اعتمد عليها العلماء في علم الرجال وكذلك في علم الحديث، وأدّت آراؤه إلى ظهور موجة متشدّدة نسبيّاً من الروايات.

سأعطي أمثلة قليلة من آراء الخوئي:

أ ـ قال كثير من العلماء بأنّ كلّ شخص يروي عنه محمّد بن أبي عمير وصفوان بن يحيى وابن أبي نصر البزنطي فهو ثقة، ولكنّ الخوئي رفض ذلك، وبهذا لم يعد بالإمكان توثيق مئات من الرواة.

ب ـ قال كثير من العلماء بأنّ الروايات المرسلة التي رواها الشيخ الصدوق في كتاب "الفقيه" حجّة، لكنّ الخوئي قال بأنّها مرسلة، والمرسل ليس بحجّة، وبهذا تمّت الإطاحة بحوالي ألفي رواية دفعة واحدة.

ج ـ قال الخوئي بأنّ بعض الرواة المشهورين لم تثبت وثاقتهم مثل محمّد بن سنان وسهل بن زياد، وكلّ واحد من هؤلاء لديه على الأقل ألف رواية في الكتب الأربعة.

د ـ هناك قاعدة في علم أصول الفقه، اسمها قاعدة التسامح في أدلّة السُنن، وتسمّى عند أهل السنّة بقاعدة فضائل الأعمال، وتعني هذه القاعدة أنّ الروايات التي تتعلّق بالأمور المكروهة أو المستحبّة ـ أي بكلّ الأمور غير الواجبة ولا الحرام ـ هي حجّة، حتى لو كانت ضعيفة السند، لهذا فالأغلبيّة الساحقة من الروايات المتعلّقة بالمستحبّات والمكروهات والآداب يأخذون بها ولا يناقشون في أسانيدها، بل يعتبرونها ثابتة. لكنّ السيد الخوئي ـ واتّبعه في ذلك أكثر علماء الحوزة اليوم ـ رأى أنّ هذه القاعدة لا دليل عليها، ولهذا لا يمكننا إثبات استحباب شيء أو كراهته بمجرّد وجود رواية حول ذلك، ما لم نتأكّد من أنّ هذه الرواية سالمة من حيث السند والمتن، وهذا يؤدّي إلى الإطاحة بآلاف الروايات في توظيفها في إثبات حكم شرعي؛ لأنّ الكثير جداً من روايات المستحبّات والمكروهات عند المسلمين ليس لها أسانيد، فمثلاً كتاب "مكارم الأخلاق" للشيخ الطبرسي كلّه في الآداب والمندوبات، لكنّه في الغالب مرسل، وهكذا الكثير من الكتب الأخرى.

من هنا يقول بعض العلماء بأنّ حوالي تسعة آلاف رواية في "الكافي" تسقط عن الحجيّة من أصل ستة عشر ألف رواية عند الخوئي.

في فترة الخوئي وبعده، تنامى فريقٌ نقدي كان متشدّداً أكثر من الخوئي نفسه، وبرز منهم الشيخ محمد آصف محسني القندهاري، وقد قام بنقد الكثير من القواعد في علم الحديث والرجال، وألّف كتاباً أسماه "مشرعة بحار الأنوار"، توصّل فيه إلى أنّ الروايات المعتبرة في بحار الأنوار المؤلّف من مائة وعشرة مجلّدات، ليست إلا ثلاثة مجلّدات فقط. ومن أبرز الأشياء التي يؤكّد عليها أمثال آصف محسني هو فكرة الوجادة التي تحدّثنا عنها سابقاً، فهو يرى أنّ الكثير من كتب الحديث الموجودة بين أيدينا هي وجادات، ليس إلا، ولا نستطيع التأكّد من كونها صحيحة.

نجد أمثلة كثيرة لهذا التيار في علماء لديهم آراء متشدّدة في كيفيّة إثبات صدور الأحاديث، وهناك نقاش كبير بين هؤلاء وبين التيار السائد في الحوزات العلميّة إلى اليوم، والذي يرى أنّ الكثير من الروايات التي انتقدها هؤلاء تعتبر صحيحة. حتى أنّ بعض المنتمين للتيار الدفاعي الآتي (التيار الخامس)، يعبّرون عن أنصار هذا التيّار الذي يهتمّ كثيراً بالأسانيد والمصادر ونقد الرواة وعلم الرجال بأنّهم "عبّاد السند"، قاصداً بذلك نقدهم.

 

3 ـ تيار النقد المتني

هذا التيار ركّز أكثر على نقد متون الروايات واكتشاف عيوبها، ونَقَدَها في ضوء أدوات اكتشاف الأحاديث المكذوبة التي تكلّمنا عنها في الحلقة السابقة. ومن هؤلاء العلماء كلّ من الشيخ الدكتور محمّد باقر البهبودي والسيّد أبو الفضل البرقعي، والسيد هاشم معروف الحسني العاملي.

هذا الفريق من العلماء والباحثين، إلى جانب اهتمامه بنقد السند، ركّز كثيراً على نقد المتن، وبعض هؤلاء كان تركيزهم الأكبر على نقد الروايات العقائديّة الموجودة بين الشيعة، وبخاصّة في كتاب "بحار الأنوار"، لأنّهم يعتبرون أنّه ما يزال في كتب الشيعة اليوم عدد غير قليل من روايات الغلاة التي علينا تحمّل مسؤوليّتنا بتنقية كتب الحديث منها. وقد ألّف أبو الفضل البرقعي كتاب "كسر الصنم" وغيره، واستنتج في كثير من المواضع أنّ عدداً كبيراً من هذه الروايات يتناقض مع القرآن الكريم، ومع العقل، ومع مبدأ التوحيد.

لقد اتُّهم بعضُ هؤلاء الباحثين بأنّهم منحازون للتفكير السلفي (الوهابي) ومتأثرون به، حتى سمّاهم بعض خصومهم مؤخّراً بـ "الوهابية المقَنَّعة"، وبأنّهم ينتقدون كثيراً تفاصيل الاعتقادات الشيعيّة، مثل علم الإمام بالغيب، وأنّ الإمام له سلطة تكوينيّة على العالم والكون كلّه، وأنّ أهل البيت يعلمون جميع اللغات، وأنّ أغلب الآيات القرآنيّة نزلت في أهل البيت أو في أعداء أهل البيت، وأنّ أهل البيت هم الذين يحاسِبون الناس يوم القيامة، وأنّ أهل البيت خُلقوا قبل خلق العالم بآلاف السنين، وأنّ أسماء أهل البيت مكتوبةٌ على عرش الله، وأنّ غير الشيعي كافر، وغير ذلك الكثير. وقال هؤلاء بأنّ جميع هذه الأفكار التي وردت فيها عشرات وربما مئات الروايات قد وضعها الغلاة الشيعة في القرون الأولى، وأنّ الكليني والعلماء الأوائل نظّفوا الكثير من الأحاديث، لكن مع ذلك بقي الكثير من الأحاديث الباطلة موجوداً.

 

4 ـ تيار نقد حجيّة خبر الواحد أو تيار اليقين في معرفة الدين

قلنا في الحلقة الثانية من هذه الدروس أنّ الحديث ينقسم إلى قسمين: المتواتر والخبر الواحد، وقلنا بأنّ الخبر الواحد ينقسم إلى خبر محتفّ بقرائن تجعله يفيد اليقين، وأخرى لا يكون محتفّاً بذلك. إنّ الكثير من علماء الإسلام الشيعة والسنّة عبر التاريخ قالوا بأنّ خبر الواحد حتى لو لم يكن يقينيّاً لكنّه يظلّ حجّة إذا كان الرواة من الثقات، فالرواية إذا كانت صحيحة السند فهي حجّة ولو لم تكن يقينيّة، وهذا ما عليه إلى اليوم أغلب علماء الإسلام الشيعة والسنّة.

لكنّ فريقاً من العلماء عبر التاريخ ناقش في ذلك، وقال بأنّ الحديث الحجّة هو فقط الحديث المتواتر والحديث الآحادي المحتفّ بقرائن اليقين، أمّا غير ذلك فحتى لو كان صحيح السند، فليس بحجّة.

هذا التيار عاد للظهور في القرن الأخير، وخرج بعض الباحثين والعلماء يعيدون النظر في حجيّة الحديث ولو كان صحيح السند إذا لم يكن بمستوى يعطينا يقيناً بالحدث التاريخي. ومن أبرز هؤلاء الذين ناقشوا بالتفصيل هذه القضيّة السيد محمد جواد الموسوي الغروي الإصفهاني.

هذا التيار الذي بدأ ينتشر في الآونة الأخيرة، يعني أنّ أيّ حديث لا يبلغ مستوى اليقين فليس بحجّة ولا يمكن على أساسه استنباط أحكام شرعيّة أو عقائد أو مفاهيم دينية، وفي الوقت عينه قال هؤلاء بأنّ أغلب الروايات هي أخبار آحاد، فمن أصل ألف رواية يمكن تقريباً العثور على خمسين رواية مثلاً قد تكون موثوقة ويقينيّة، والباقي يجب وضعه جانباً. وهذا التفكير يُحدث تغييراً كبيراً في معرفة الدين؛ لأنّ الكثير من النتائج الدينية هي في الحقيقة مبنيّة على أخبار الآحاد، سواء عند السنّة أو الشيعة.

 

5 ـ التيار الدفاعي عن الحديث

على عكس التيارات السابقة، فإنّ هذا التيار يسعى جاهداً للدفاع عن الأحاديث في كتب الشيعة، ويبالغ في ذلك إلى حدّ يُصبح إخباريّاً أو قريباً جداً من الإخباريّة، فهؤلاء يقولون بأنّ كتب الشيعة ليس فيها موضوعات ومكذوبات إلا نادراً، وأنّ أغلب الرواة الذين قال عنهم العلماء ـ اليوم أو من قبل ـ بأنّهم ضعفاء، ليسوا بضعفاء، وأنّ أغلب الكتب الحديثيّة الشيعيّة بما فيها تلك التي حصلنا عليها بطريق الوجادة الذي تحدّثنا عنه في الحلقة الثالثة من هذه الدروس، هي كتبٌ ثابتة، ويمكن التأكّد من نسبتها للنبيّ وأهل بيته.

من الشخصيّات البارزة التي تدافع عن هذا المنهج اليوم الشيخ محمد سند البحراني، أحد علماء النجف والذين لهم رسالة عمليّة. إنّه يقول بأنّ الرواة الذين اتُّهِموا بالغلوّ في القرون الأولى تمّ فهمهم خطأ، فهؤلاء كانوا ينتمون للتشيّع الحقيقي الخالص، لكنّ الناس لم تفهمهم واتهمتهم بأنّ يغالون، وتشوّهت سمعتهم نتيجة ذلك، وإلا فكلّ رواياتهم هي من أعظم الروايات التي تُعطي أهل البيت مكانتهم وفضائلهم. كما أنّه يقول بأنّ سيرة الحسين عليه السلام في عاشوراء يمكن أن نرجع فيها حتى إلى الكتب التي تحدّثت عن الحسين، وأُلّفت فقط قبل مائتين أو أربعمائة عام، فلو رأينا في الكتب المتأخّرة روايات تتحدّث عن وقائع كربلاء، ولم تكن هذه الروايات موجودة في أيّ كتاب قبل ذلك، فعلينا أن لا نتركها، بل يجب أن نهتم بها ونحاول تقويتها وتصديقها؛ لأنّ هذا التراث بذل بنو أميّة الكثير لإفنائه، فإذا عثرنا على شيء منه، فعلينا الاحتياط البالغ في الأخذ به وتقويته.

يسعى هذا الفريق بقوّة للتقليل جداً من نقد الكتب الحديثيّة الشيعيّة، ويركّز نقده على الكتب الحديثيّة السنيّة، ولهذا يطلق بعض الباحثين على هذا التيار اسم التيار الإخباري الجديد، رغم أنّ شخصياته ممن ينتمون إلى مدرسة الأصوليّين في النجف وقم.

على هذا الأساس، نلاحظ كثيراً عند أنصار هذا التيار أنّهم يرفضون علم الرجال والجرح والتعديل ونقد الروايات، ويرون أنّ علم الرجال ونقد الحديث هو السبب في تدمير روايات أهل البيت، فهو بدل أن يخدمها قضى عليها ومزّقها وارتكب جنايةً كبرى في حقّها.

 

6 ـ التيار الرسمي الكلاسيكي

أعني بهذا التيار هو ذلك المسار المتعارف في الحوزة، والذي استقرّ على ما هو عليه منذ زمن الوحيد البهبهاني في القرن الثالث عشر الهجري، فهذا التيار يمارس نقداً للحديث، وفي الوقت عينه يقبل الكثير من الروايات، فهو ليس متشدّداً في أخذ الحديث، وفي الوقت عينه لا يرفض ممارسة نقد للحديث في بعض الأحيان. وكثير من العلماء اليوم ينتمون إلى هذا التيار، لهذا لا تجد لديهم مناقشات واسعة في مجال الحديث، لكنّهم في الوقت عينه لا يتمنّعون عن ممارسة نقد لرواية هنا أو رواية هناك عندما يجدون ذلك ممكناً من وجهة نظرهم.

 

كلمة أخيرة

من خلال هذا العرض المختصر في هذه السلسلة من الدروس، نستنتج أنّ الكثير من المناقشات والاختلافات في وجهات النظر اليوم بين العلماء والباحثين في مجال الفقه والتاريخ والحديث والعقائد، ترجع إلى طبيعة مواقفهم في التعامل مع الحديث والروايات، ومدى ثقتهم بهذه الأحاديث وعدم ثقتهم بها، وعلى هذا الأساس علينا أن نتحلّى بالصبر وممارسة سلوك أخلاقي تجاه العلماء والباحثين والكتّاب الذين لديهم آراء مختلفة في قضايا العقيدة والفقه والتاريخ والشعائر، فإنّه ليس من الضروري أن يكون السبب هو حقدهم على الدين أو أنّ لديهم نيّة سيئة يحملونها أو أنّهم متطرّفون طائفيّون وغلاة، بل علينا أن ننظر قبل ذلك في طريقة تفكيرهم في مجال التعامل مع النصوص الحديثية والتاريخيّة، وما هو المنهج الذي ينتمون إليه؟ ومن خلال ذلك يمكننا أن نفهم بعضنا بعضاً حتى لو اختلفنا، ولا داعي لممارسة تسقيط وتشويه لسمعة الآخرين؛ لأنّهم يختلفون معنا، بل علينا احترام العلم وتنوّع المعرفة، وفي الوقت عينه أن لا نجزم بصحّة حديث أو ببطلانه قبل التثبّت والتأمّل والتروّي، فإنّ هذه مسؤوليّة أخلاقيّة وشرعيّة معاً، وكلّما اتسع علم الإنسان صار أكثر تواضعاً، وأكثر تفهّماً لاختلاف الآراء، ولهذا قال العلماء قديماً: أعلمُ الناس أعلمُهم باختلاف الناس.

بهذا نكتشف كم هو دور علم الحديث وتأثيره الواسع على الفقه والأخلاق والتاريخ والشعائر والعقائد.

 

الخلاصة

تنوّعت التيارات المعاصرة الشيعيّة تجاه الموقف من الأحاديث والروايات، ومن أبرز هذه التيارات:

1 ـ التيار القرآني.

2 ـ تيار النقد السندي.

3 ـ تيّار النقد المتني.

4 ـ تيّار نقد حجيّة خبر الواحد.

5 ـ تيار الدفاع عن الأحاديث الشيعيّة.

6 ـ التيار الرسمي الكلاسيكي.

أتمنّى أن أكون قد قدّمتُ في هذه السلسلة المتواضعة خلال خمس حلقات فكرةً ولو مختصرة وأوّلية عن بعض قضايا علم الحديث، وأن يكون ذلك مفتاحاً لمزيد من القراءة والمراجعة والمتابعة إن شاء الله.