التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة الجمعة ـ القسم الرابع)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(16 ـ 1 ـ 2025م)
الفصل الثالث عشر
في صلاة الجمعة وفي فروعها
...
السادس: إذا أقيمت الجمعة في بلدٍ واجدةً لشرائط الوجوب والصحّة وجب الحضور على الأحوط([1])، نعم لا يجب الحضور حالة الخطبة على الأظهر([2]).
السابع: يعتبر في وجوب الحضور أمور:
1 ـ الذكورة، فلا يجب الحضور على النساء.
2 ـ الحريّة، فلا يجب على العبيد.
3 ـ الحضور، فلا يجب على المسافر سواء في ذلك المسافر الذي وظيفته القصر ومن كانت وظيفته الإتمام، كالقاصد لإقامة عشرة أيام.
4 ـ السلامة من المرض والعمى، فلا يجب على المريض والأعمى.
5 ـ عدم الشيخوخة، فلا يجب على الشيخ الكبير.
6 ـ أن لا يكون الفصل بينه وبين المكان الذي تقام فيه الجمعة أزيد من فرسخين، كما لا يجب على من كان الحضور له حرجيّاً وإن لم يكن الفصل بهذا المقدار، بل لا يبعد عدم وجوب الحضور عند المطر وإن لم يكن الحضور حرجيّاً([3]).
الثامن: الأحوط عدم السفر بعد زوال الشمس يوم الجمعة من بلدٍ تقام فيه الجمعة واجدةً للشرائط([4]).
التاسع: لا يجوز التكلّم أثناء اشتغال الإمام بالخطبة، والأحوط الإصغاء إليها لمن يفهم معناها([5]).
العاشر: يحرم البيع والشراء بعد النداء لصلاة الجمعة إذا كانا منافيَين للصلاة، ولكنّ الأظهر صحّة المعاملة وإن كانت محرّمة([6]).
الحادي عشر: من يجب عليه الحضور إذا تركه وصلّى صلاة الظهر، فالأظهر صحّة صلاته([7]).
______________________
([1]) بل الأقوى، وفقاً لما بيّناه سابقاً في حكم صلاة الجمعة.
([2]) بل يجب حضور المقدار الذي يصدق عليه عنوان الخطبة على الأحوط وجوباً.
([3]) هنا مسائل:
المسألة الأولى: سقوط الجمعة عن المستثنين في الجملة
هناك شهرة واسعة بين مختلف فقهاء الإسلام على سقوط الجمعة عن هؤلاء في الجملة، وقد دلّت على ذلك العديد من النصوص، مثل خبر زرارة، عن أبي جعفر×، قال: «إنّما فرض الله عزّ وجلّ على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واحدة فرضها الله عزّ وجلّ في جماعة، وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة: عن الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى ومن كان على رأس فرسخين»، وخبر عليّ× قال: «والجمعة واجبة على كلّ مؤمن، إلا على الصبي والمريض والمجنون والشيخ الكبير والأعمى والمسافر والمرأة والعبد المملوك ومن كان على رأس فرسخين»، وخبر منصور، عن أبي عبد الله قال: «الجمعة واجبة على كلّ أحد، لا يعذر الناس فيها إلا خمسة: المرأة والمملوك والمسافر والمريض والصبي»، وغيرها من النصوص.
وقد علّق المحقّق النجفي على اختلاف بعض الأخبار في التعداد فقال: «إلى غير ذلك من النصوص التي لا ضرر في النقيصة فيها والزيادة في المستثنى بعد تحكيم منطوق بعضها على مفهوم الآخر، أو تكلّف تداخل بعضها في بعض، على أنّه لا خلاف في أكثرها أو جميعها».
وعليه، فهؤلاء لا يجب عليهم عقد الجمعة ولا حضورها على تقدير انعقادها، بل لهم أن يصلّوا الظهر.
هذا، ولم يذكر السيد الماتن سقوط الجمعة عن الصبيّ والمجنون، مع أنّ ذلك قد ورد في النصوص الخاصّة هنا، والظاهر أنّ السبب هو أنّه فهم من ذكرهما مجرّد تطبيقٍ لشرائط التكليف العامّة، فيشمل البلوغ والعقل، ولا خصوصيّة لنفي الوجوب هنا عمّن نُفي عنه التكليفُ عموماً. وهذا ما يوجب تقليص الاختلاف بين النصوص هنا من حيث ذكر بعضها للصبي والمجنون فيما لم تذكر نصوص أخرى المجنون مثلاً.
المسألة الثانية: مشروعيّة الجمعة وإجزائها في حقّ المستثنين
لو أحبّ الذين سقطت عنهم الجمعة أن يأتوا بها جاز لهم وأجزأت عن الظهر، انطلاقاً من أنّ دليل السقوط ناظر للامتنان والتخفيف، دون سلب المشروعيّة، بل هذا ملاحظ في بعض النصوص أيضاً، مثل خبر حفص بن غياث، قال: «سمعت بعض مواليهم سأل ابن أبي ليلى عن الجمعة، هل تجب على العبد والمرأة والمسافر؟ قال: لا. قال: فإن حضر واحد منهم الجمعة مع الإمام فصلّاها، هل تجزيه تلك الصلاة عن ظهر يومه؟ قال: نعم. قال: وكيف يجزي ما لم يفرضه الله عليه عمّا فرض الله عليه.. فما كان عند أبي ليلى فيها جواب، وطلب إليه أن يفسّرها له، فأبى. ثمّ سألته أنا ففسّرها لي، فقال: الجواب عن ذلك أنّ الله عزّ وجلّ فرض على جميع المؤمنين والمؤمنات، ورخّص المرأة والعبد والمسافر أن لا يأتوها، فلمّا حضروا سقطت الرخصة ولزمهم الفرض الأوّل، فمن أجل ذلك أجزأ عنهم». فقلت: عمّن هذا؟ قال: عن مولانا أبي عبد الله (جعفر الصادق)»، وكذلك ما ورد في المسافر، مثل خبر سماعة، عن جعفر بن محمّد الصادق، عن أبيه×، أنّه قال: «أيّما مسافر صلّى الجمعة رغبةً فيها وحبّاً لها أعطاه الله عزّ وجّل أجر مائة جمعة للمقيم».
لكنّ السؤال في وجوب الجمعة عليهم لو حضروا، فلو حضرت المرأة إلى الجمعة، فهل تصبح الجمعة واجبةً عليها بعد حضورها أو يمكنها هناك أن تصلّي الظهر أيضاً؟
الظاهر أنّه لا فرق بين حضورهم وعدم حضورهم في نفي الوجوب عنهم، عملاً بالأدلّة الموثوق بصدورها، عدا في حالةٍ واحدة، وهي من كان عنوان الحضور موجباً في حقّه لزوال موجب السقوط، وذلك مثل البعيد فرسخين، فهذا لو حضر لزمته الجمعة؛ لفرض أنّ حضوره موجبٌ لزوال عنوان البعيد عنه، والذي كان سبب سقوط الجمعة عنه، فعاد دليل الجمعة شاملاً له بحضوره، وكذلك لو فرضنا أنّ السقوط كان للحرج، لكنّه مع ذلك أجهد نفسه وحضر الجمعة، فإنّ صلاته هنا لم تعد حرجيّةً، فحضورُه رَفَعَ الموجبَ للسقوط، وهكذا.
المسألة الثالثة: حالات المطر والعرج والشيخوخة والعمى بين العنوانيّة والحرجيّة
هنا نقاط:
أ ـ إنّ الوارد في المطر رواية آحاديّة منفردة، وهي خبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله، وعليه فالظاهر أنّ استثناء حال المطر ليس لعنوانه، بل من باب أنّه حرجيٌّ ويسقط لموقع الحرج بأدلّة نفي الحرج، فما أفاده السيد الماتن غير واضح، بل لو كان السقوط بعنوانه لزم في كثير من الأحيان سقوط صلاة الجمعة في الكثير من أيّام فصل الشتاء، وبخاصّة في البلدان التي تشهد مطراً، وهي قضيّة ابتلائيّة عامّة قد توجب تعطيل الجمعات مراراً.
ب ـ وهكذا الحال في سقوط الجمعة عن الأعرج، فإنّها لم تثبت بدليل معتبر بعنوانها، فتكون تابعةً لعنوان الحرج، وقد نصّ على ذلك في موضوع العرج بعضُ الفقهاء مثل السيد محمّد باقر الصدر في تعليقته المختصرة جداً، على صلاة الجمعة من كتاب الشرائع للحلّي.
ج ـ أمّا الشيخ الكبير، فقد ورد في خبرين أحدهما صحيح الإسناد، ولم يرد في خبرين آخرين، أحدهما على الأقلّ صحيح الإسناد أيضاً، مع أنّ الجميع له ظهور في كونه في مقام البيان والاستثناء، من هنا وعملاً بالقدر المتيقّن من مجموع النصوص فلا نقول باستثناء الشيخ، بل يمكن فهم ذكره في الروايتين اللتين ورد فيهما على أساس المثاليّة لحالات الحرج والمشقّة. وأمّا ما قاله صاحب الجواهر مما نقلناه عنه فهو ينافي مقام البيان الذي وردت فيه هذه الروايات.
د ـ والحال عينه في الأعمى، فهو مطابق لحالة الشيخ الكبير، وما قلناه آنفاً يجري بعينه فيه؛ لكون الروايات هي نفسها، فالأقرب أنّ استثناء الأعمى بملاك المشقّة والحرج، لا بعنوانه، فهذا هو القدر المتيقّن.
هـ ـ حيث إنّ عنوان الحرج والضرر عام يشمل المقام، لهذا يمكن تصوّر حالات حرجيّة عديدة غير تلك التي وردت في النصوص، كبعض الأعمال التي لا يمكن للإنسان أن يتركها لعيشه ووظيفته، وفي الوقت عينه تتطلّب منه الحضور في الوظيفة وقت الصلاة، ولا يمكنه المطالبة برخصة ولا ترك العمل؛ لتسبّب ذلك بالحرج الشديد، أو طلاب المدارس والجامعات الذين لا يمكنهم التغيّب وقت الصلاة بسبب القوانين الموجودة في البلد الذي هم فيه ونحو ذلك، ولا يستطيعون تغيير مدرستهم بما يتوافق مع إقامة الصلاة وحضورها أو يكون ذلك موجباً للضرر أو الحرج عليهم، وغير ذلك.
المسألة الرابعة: صلاة الجمعة في حقّ أهل القرى والأرياف
خلافاً لما ذهب إليه العديد من فقهاء الأحناف، فإنّ أدلّة صلاة الجمعة تشمل المدن والقرى بلا خلاف، بل في نصوص أهل البيت ما ينصّ على الشمول لأهل القرى، فراجع.
المسألة الخامسة: المراد بشرط الحضور
ذكر السيد الماتن شرطَ الحضور، ثمّ قال: «فلا يجب على المسافر سواء في ذلك المسافر الذي وظيفته القصر ومن كانت وظيفته الإتمام، كالقاصد لإقامة عشرة أيام»، وهذا الكلام منطلق من الاستناد إلى إطلاقات الأدلّة حيث ذكرت عنوان المسافر بلا تقييد بكونه يجب عليه القصر أو لا.
قد يقال بأنّ هذا الكلام صحيح؛ عملاً بالإطلاقات، لكن ينبغي تقييد عبارة الماتن بقيد ضمني ربما قصده، وهو صدق اسم المسافر عليه عرفاً، فإنّ زوال حكم المسافر عنه شرعاً، قد لا يزيل عنوان المسافر عنه عرفاً، والمفروض أنّ العنوان قد أخذ في النصوص.
وقد يقال في المقابل بأنّ النكتة العرفية والشرعيّة لسقوط الجمعة عن المسافر أنّه نوع من التخفيف عليه، انسجاماً مع التخفيف عنه في باب الصلاة والصوم، فلو كان سفره لا يوجب سقوط الإتمام في الصلاة عنه، فلا فرق بينه وبين غيره، ومن ثمّ يلزم تقييد الحكم بحال التقصير، أو يقال بأنّ الإطلاقات منصرفة للمسافر الذي يرتكز في الأذهان حكم التقصير في حقّه، وعلى الأقل لا يمكن الوثوق بانعقاد إطلاق في مثل هذه الحال.
لكنّ الأقرب بالنظر هو ما ذهب إليه الماتن ـ دون ما ذهب إليه جماعة، مثل السيد محمّد حسين فضل الله ـ لكن مع صدق عنوان المسافر عليه عرفاً، فإنّ عنوان المسافر لم يتشكّل له في الذهن المتشرّعي حقيقة تصرفه إلى خصوص من لزمه القصر في الصلاة، بل هو أعمّ؛ بدليل استخدام لفظ المسافر ومشتقاته في العديد من النصوص مع كون الحكم في حقّه هو الصوم أو الإتمام أو التخيير. هذا، وسوف تكون لنا وقفة مع هذا الموضوع في بحث صلاة المسافر بإذن الله.
([4]) المنسوب لمشهور ـ بل إجماع ـ الإماميّة هو القول بحرمة السفر بعد الزوال يوم الجمعة في حقّ من وجبت عليه الجمعة، ولكنّ عدداً من المتأخّرين ناقش في هذه القضيّة، أمّا الفقه السنّي قد انقسم هنا في السفر يوم الجمعة قبل الزوال، بل ولو بعد الفجر، فقال بعضٌ بحرمته إذا خيف فوات الجمعة، مثل العديد من علماء الشافعيّة والحنابلة، فيما رخّص به الأحناف والمالكيّة، أمّا السفر بعد الزوال فهو محرّم عند أكثر فقهاء المذاهب الأربعة.
ودليل القول بحرمة السفر بعد الزوال وقبل صلاة الجمعة لمن وجبت الجمعة في حقّه تعييناً، هو أنّه مأمور بصلاة الجمعة، والأمر بالشيء نهيٌ عن ضدّه الخاصّ، ويؤيّد ذلك ببعض روايات ذمّ السفر يوم الجمعة، مثل النبويّ: «من سافر من دار إقامته يوم الجمعة دعت عليه الملائكة، لا يصحب في سفره ولا يعان على حاجته»، وخبر النهج: «لا تسافر في يوم جمعة حتى تشهد الصلاة، إلا مقاتلاً في سبيل الله أو في أمر تُعذر به»، وفي مصباح الكفعمي: «ما يؤمن من يسافر يوم الجمعة قبل الصلاة، أن لا يحفظه الله في سفره ولا يخلفه في أهله ولا يرزقه من فضله»، بل قد استند بعضٌ لفحوى قوله تعالى: ﴿وَذَرُوْا الْبَيْعَ﴾.
لكنّ هذه الأدلّة ووجهت بمناقشات، فمضافاً لضعف أسانيد النصوص والروايات هنا، لا يمكن فهم التحريم من النهي عن البيع؛ فإنّ البيع مزاحم للصلاة في ظرف فعليّة وجوبها، بينما السفر موجبٌ لرفع فعليّة الوجوب في حقّ المكلّف، ولهم في هذا الموضوع مداخلات عديدة في تطبيق مسألة الضدّ هنا، ولهذا مال المحقّق النراقي لكون الدليل العمدة هنا هو الإجماع على تحريم السفر.
ويمكن القول: إنّه لو سافر وتحقّق عنوان السفر في حقّه، فقد سقطت عنه الجمعة، لكنّه حال خروجه بعد الزوال إلى أن يقطع المسافة الموجبة لصدق عنوان المسافر عليه، إذا كان ذلك يصادم حضوره الجمعة فنقول بأنّه ترك الواجب، فقبل تحقّق عنوان المسافر في حقّه هو تاركٌ للواجب على تقدير تضيّق الوقت، وبعد تحقّق عنوان السفر سقط الوجوب عنه، وعليه الإتيان بالظهر. وبعبارةٍ أخرى: إنّه لو سافر وتحقّق عنوان السفر في حقّه، فقد سقطت عنه الجمعة بعد العصيان بعدم أدائها، أي بترك الواجب. هذا كلّه على تقدير أنّ سفره بعد الزوال لا يمكّنه من الالتحاق بصلاة جمعةٍ أخرى حال كونه مسافراً أو في الطريق لقطع المسافة، وإلا فلا يكون قد ترك الواجب ولا يقع في معصية، وبعبارة أخرى: إذا كان قادراً على الالتحاق بعد السفر وفي اليوم نفسه بصلاة جمعةٍ أخرى، لم يرتكب حراماً بسفره ولا ترك واجباً، وإلا كان تاركاً للواجب.
([5]) هنا مجموعة نقاط:
النقطة الأولى: الإصغاء للخطبة
اختلف الفقهاء في وجوب الإصغاء إلى الخطبة، والمقصود به التوجّه لاستماع الكلام كمن يركّز نظره ووجهه وجسده نحو الخطيب، فنسب إلى الأكثر الوجوب، فيما ذهب بعضٌ لعدم الوجوب؛ والمنسوب للطوسي وغيره القول بالاستحباب، فيما نلاحظ أنّ بعض الفقهاء بقي متردّداً في هذه المسألة مثل المحقّق الحلي في "الشرائع" والعلامة الحلي في بعض كتبه.
وعمدة أدلّة الوجوب:
1 ـ إنّ المقصود من الخطبة لا يحصل إلا بالإصغاء.
ويجاب بأنّ الحصول على مقصود الخطبة يكون بالسماع، ويمكن تحقيق السماع بلا إصغاء.
2 ـ خبر (دعائم الإسلام)، عن الإمام علي× قال: «يستقبل الناس الإمام عند الخطبة بوجوههم ويصغون إليه».
ويجاب عنه بأنّه ضعيف السند كما هو واضح.
3 ـ ما ورد في بعض الروايات من تعبير: «يخطب لهم»، أو «فهي صلاة»، على أساس ـ كما أفاد الفاضل الهندي ـ أنّ الحاضرين للخطبة كالمقتدِين في الصلاة؛ فيجب الإصغاء.
وجوابه: إنّ كونه يخطب لهم يكفي فيه السماع دون الإصغاء، ولو تمّ يكفي فيه إصغاء الكثير منهم؛ لصدق الخطبة لهم عرفاً، كما أنّ جعلها صلاة قد سبق أن ناقشنا في إطلاق التنزيل والبدليّة فيه، فلا نعيد.
4 ـ إنّ الإصغاء واجب لكونه مقدّمةً للسماع الواجب.
وهذا مبنيٌّ على الوجوب الشرعي لمقدّمة الواجب ولم يثبت، علماً أنّ البحث في الوجوب النفسي هنا.
5 ـ دعوى التلازم بين تحريم الكلام أثناء الخطبة ووجوب الإصغاء.
وجوابه: إنّ عدم الإصغاء يمكن أن يكون من خلال الاشتغال بشيء آخر غير الكلام.
وعليه، فليس هناك دليلٌ معتبر على لزوم الإصغاء للخطبة.
النقطة الثانية: الإنصات وعدم الكلام حال الخطبة
وهنا أيضاً اختلف الفقهاء في وجوب الإنصات، والمقصود به السكوت حال استماع الكلام وعدم التكلّم مع أحد. والفرق بينه وبين الإصغاء في اللغة أنّ الإصغاء يتطلّب نوعاً من التوجّه بجسده ووجهه ونظره نحو الخطيب، فيقال بأنّه يصغي إليه، أي أنّه ملتفتٌ نحوه متوجّهٌ إليه، بينما الإنصات والاستماع هنا قد يجامع عدم الإصغاء، كما لو كان يكنس أو ينظّف شيئاً أو يرتّب ملابسه، لكنّه يستمع لما يُقال ويصله ما يُقال مستمعاً له.
والظاهر أنّ نزاعهم هنا ليس في الحكم الوضعي، بمعنى أنّه لو تكلّم لا تبطل صلاته أو ينتقل للظهر، بل يرتكب إثماً فقط، غير أنّ بعض العبارات يفهم منها أنّ الحكم شاملٌ للوضعي والتكليفي معاً، ولو بناءً على الاحتياط الوجوبي، مثل عبارة السيد محمّد باقر الصدر في تعليقته على صلاة الجمعة من شرائع الحلّي، وهو ما يفهم من لسان بعض النصوص هنا كما سيأتي.
ومهمّ أدلّة الوجوب هنا ـ بعد غضّ النظر عن دعاوى الشهرة والإجماع ـ هو الآتي:
1 ـ النصوص الدالّة على كون الخطبتين صلاة، وأنّها بدل الركعتين، فكما يجب الإنصات وترك الكلام أثناء الصلاة كذلك أثناء الخطبة.
وقد تقدّم الجواب عن فكرة صلاتيّة الخطبتين وبدليّتهما أكثر من مرّة، فلا نعيد.
2 ـ مرسلة الصدوق، قال: قال أمير المؤمنين×: «لا كلام والإمام يخطب، ولا التفات إلا كما يحلّ في الصلاة، وإنّما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين، جعلتا مكان الركعتين الأخيرتين، فهما صلاة حتّى ينزل الإمام». ومثله ـ بدلالة مفهوميّة ـ خبر محمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله، قال: «لا بأس أن يتكلّم الرجل إذا فرغ الإمام من الخطبة يوم الجمعة ما بينه وبين أن يقام الصلاة، وإن سمع القراءة أو لم يسمع أجزأه»، وكذلك خبر (دعائم الإسلام)، عن الرضا×، عن آبائه: «إذا قام الإمام يخطب فقد وجب على الناس الصمت»، وخبره الآخر عن الصادق×: «لا كلام حتّى يفرغ الإمام من الخطبة، فإذا فرغ منها فتكلّم ما بينك وبين افتتاح الصلاة إن شئت»، وخبر الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه ـ في حديث المناهي ـ قال: «نهى رسول الله عن الكلام يوم الجمعة والإمام يخطب، فمن فعل ذلك فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له»، وكذا المرسل: «من تكلّم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يَحْمِلُ أَسْفاراً» وغيرها من النصوص.
وقد أجاب المحقّق النجفي عن نصوص وجوب الصمت على الناس، فقال: «بل قد يضعّف ما عن البزنطي والدعائم من وجوب الصمت باستلزامه زيادة الخطبة على الصلاة؛ ضرورة جواز الذكر والقرآن ونحوهما فيها، بخلافها؛ فيجب فيها الصمت. بل التزام حرمة ذلك وإن لم يكن مفوّتاً للاستماع أو لاستماع المقصود من الخطبة من الغرائب».
والأقرب بالنظر أنّ هذه الروايات كلّها ضعيفة السند، وبعضها ليست فيه دلالة واضحة، غير أنّه ينبغي فهم مسألة الخطبة في ضوء مناسبات الحكم والموضوع وكذلك في ضوء المقصد الشرعي، فإنّه إذا جاز الكلام أثناء الخطبة بما يوجب عدم تحقّق الاستماع إليها، فإنّ الخطبة تفقد معناها المقصدي، إذ القصد منها الوعظ والتذكير، ولهذا ذُمّوا على تركهم الخطبة وذهابهم للتجارة ـ على تقدير أن يكون معنى (وتركوك قائماً) هو القيام حال الخطبة، لكنّ هذا لا يُنتج حرمة الكلام أو وجوب الإنصات بعنوانه، بل يُنتج لزوم تحقيق خطبة الجمعة لمقصدها، فالعرف يفهم من الإلزام بالخطبة هنا أن يكون لها أثر باستماع الناس إليها، فإذا فرض أنّهم لا يستمعون إليها جميعاً، وكأنّ الخطيب يتكلّم لوحده، فهذا غير مفهوم عقلائيّاً وسياقيّاً، من هنا نقول: إنّ اللازم هو تحقيق مقصد الخطبة، وهو حصول الاستماع إليها من قبل الناس، لكن لا يضرّ معه أن يتكلّم زيدٌ بكلمتين هنا، وعمرو بعد قليل بكلمة أو كلمتين، فهذا لا يخرق هذا المفهوم، فالقضيّة ليست حديّة دقيّة، بل هي عنوانيّة مقصديّة. وقد ذكر السيد الماتن أنّ وجوب الإصغاء مقيّد بفهم المعنى، ولا بأس به، فهو فهمٌ عرفيّ منه ـ رحمه الله ـ للمسألة ووعيٌ مقصدي لها، نعم حرمة الكلام لا علاقة لها بذلك بل هي عامّة.
هذا، وقد أشار الشيخ المنتظري في "توضيح المسائل" إلى أنّ التكبيرات وإطلاق الشعارات أثناء خطبة الجمعة مخالفٌ للاحتياط، لكنّه لا يُبطل صلاة الجمعة. فإذا قَصَد بالاحتياط كلّيَّ الاحتياط من باب احتماليّة إطلاقيّة حرمة الكلام أثناء الخطبة فهو جيّد، أمّا لو قصد الاحتياط اللازم، فلا دليل عليه.
النقطة الثالثة: حكم الكلام أثناء الخطبة على الإمام نفسه
والمراد هنا أن يخرج الإمام عن حال الخطبة ليتكلّم، كأن ينادي شخصاً أن يصلح له جهاز "المايكروفون" أو يطلب منه إحضار شيء، أو نحو ذلك، وهنا أيضاً انقسم الموقف الفقهي، فذهب جماعة إلى حرمة الكلام في أثناء الخطبة على الإمام، فيما رأى آخرون الكراهة، غير أنّ المحقّق النجفي قيّد الكراهة هنا، فقال: «إذا لم يكن مفوّتاً لهيئتها وسالباً لصدق المراد شرعاً منها، وإلّا حرم الاجتزاء بها، ووجب استئناف غيرها».
أمّا دليل التحريم، فعمدته النصوص الدالّة على أنّ الخطبتين تقومان مقام الركعتين، وأنّهما صلاة.
لكن قد تقدّم مناقشة هذا الكلام أكثر من مرّة وأنّه لا دليل على البدليّة، ولو تمّ فلا إطلاق في دليل البدليّة، بل الشواهد على عكس ذلك. واللافت هنا أنّ بعض فقهاء الحنابلة لا يقبل فكرة بدليّة الجمعة عن الظهر، بل يرى العكس، وهو أنّ الجمعة متعيّنة، وهي الأصل، والظهر بدلٌ عنها إذا لم يأتِ الإنسان بها لعذرٍ أو عصيان.
وأمّا دليل الكراهة، فهو مجموعة مؤيدات مثل أنّه خلاف تنظيم الخطبة ودورها في التأثير، وكذلك ضيق الوقت واستلزام ذلك ملل الحاضرين، ونحو ذلك.
ومن الواضح أنّ هذا لا ينتج حكماً شرعيّاً بالكراهة، بل ينتج حسناً عقليّاً أو عقلائيّاً بهدف تحقيق المقصد من الخطبة بأتمّ المصاديق، وعليه فلا الكراهة ثابتة هنا ولا التحريم، لكنّ قيدَ المحقّق النجفي المشار إليه آنفاً في محلّه، وهو واضح.
هذه النقاط الثلاث تدور كلّها حول حال الخطبتين، أمّا الكلام بين الخطبتين والصلاة، وكذا بين الخطبتين، فالظاهر أنّه غير مشمول للأدلّة على تقدير القول بالتحريم أو الكراهة في النقاط المتقدّمة جميعها. بل قد دلّت بعض النصوص على الترخيص مثل خبر محمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله×: «.. فإذا فرغ الإمام من الخطبتين تكلّم ما بينه وبين أن يقام للصلاة..».
([6]) ما ذهب إليه السيّد الماتن هو الصحيح، خلافاً للعديد من فقهاء المالكيّة والحنابلة الذين قالوا ببطلان هذه المعاملة، ووفاقاً للعديد من علماء الإماميّة والشافعيّة والحنفيّة.
وظاهر عبارة الماتن أنّه يتكلّم عن خصوص البيع والشراء، ولكنّ الأصحّ أنّ هذا الحكم شاملٌ لكلّ عمل تجاري أو غيره يكون منافياً للصلاة وحضورها، وفاقاً للعديد من الفقهاء في المذاهب المختلفة؛ إذ لا خصوصيّة للبيع هنا إلا كونه موجباً للتكاسل أو التهاون في حضور الجمعة، فيشمل الأمرُ النكاحَ والإجارة والصلح وغيرها من المعاملات، فضلاً عن ألوان اللهو. وأمّا ما ذهب إليه بعض الفقهاء ـ ومنهم العديد من فقهاء الحنابلة ـ من أنّ الحكم خاصٌّ بالبيع، وغيرُه لا يساويه في الشغل عن السعي للجمعة، فلا يُقاس عليه، غير صحيح؛ لأنّ البيع نفسه إذا لم يوجب الشغل عن السعي للجمعة فلا ضير فيه، فإنّ الآيات واضحة الدلالة ـ بضمّ بعضها إلى بعض ـ أنّ نظرها ليس لذات البيع أو غيره، وإنّما للانشغال بشيءٍ عن الصلاة، وهذا الفهم يجعل النتيجةَ تعمّ حيناً وتخصّ حيناً آخر.
هذا، وتجدر الإشارة ـ رغم وضوح الأمر ـ إلى أنّ الحكم بتحريم المعاملات، لا يشمل من لا تجب عليه الجمعة، كما أنّه لا يشمل ما قبل النداء للصلاة، ما دام لا يترك أثراً على السعي للصلاة.
([7]) هذا قد يجري في حال ثبوت الوجوب التخييري للجمعة بقاءً، أمّا مع الوجوب التعييني لها بقاءً، فضلاً عنه حدوثاً وبقاءً، فالقول بصحّة الظهر مشكل، ما لم تُقَم الجمعة ويتمّ الانتهاء منها وينقضي وقتها، أو لا يمكن عقدها أصلاً، أو تنعقد غير جامعةٍ للشرائط، فهنا يكون الإتيان بالظهر مشروعاً وتصحّ.