التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة الجمعة ـ القسم الثالث)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(9 ـ 1 ـ 2025م)
الفصل الثالث عشر
في صلاة الجمعة وفي فروعها
...
الرابع: يعتبر في وجوب صلاة الجمعة أمور:
1 ـ دخول الوقت، وهو زوال الشمس على ما مرّ في صلاة الظهر، إلى أن يصير ظلّ كلّ شيءٍ مثله([1]).
2 ـ اجتماع سبعة أشخاص، أحدهم الإمام، وإن كان تصحّ صلاة الجمعة من خمسة نفر أحدهم الإمام، إلا أنّه حينئذ لا يجب الحضور معهم([2]).
3 ـ وجود الإمام الجامع لشرائط الإمامة من العدالة وغيرها، على ما نذكرها في صلاة الجماعة([3]).
الخامس: تعتبر في صحّة صلاة الجمعة أمور:
1 ـ الجماعة، فلا تصحّ صلاة الجمعة فرادى، ويجزي فيها إدراك الإمام في الركوع الأوّل، بل في القيام من الركعة الثانية أيضاً، فيأتي مع الإمام بركعة وبعد فراغه يأتي بركعة أخرى([4]).
2 ـ أن لا تكون المسافة بينها وبين صلاة جمعة أخرى أقلّ من فرسخ فلو أقيمت جمعتان فيما دون فرسخ بطلتا جميعاً إن كانتا مقترنتين زماناً، وأمّا إذا كانت إحداهما سابقة على الأخرى، ولو بتكبيرة الإحرام، صحّت السابقة دون اللاحقة، نعم إذا كانت إحدى الصلاتين فاقدة لشرائط الصحّة، فهي لا تمنع عن إقامة صلاة جمعةٍ أخرى ولو كانت في عرضها أو متأخّرة عنها([5]).
3 ـ قراءة خطبتين قبل الصلاة ـ على ما تقدّم ـ ولا بدّ من أن تكون الخطبتان بعد الزوال، كما لا بدّ أن يكون الخطيب هو الإمام([6]).
_________________________
([1]) الشرط الأوّل من شروط وجوب الجمعة هو دخول الوقت، وقد وقع الكلام بين الفقهاء في وقت صلاة الجمعة من حيث المبدأ والمنتهى.
أمّا من حيث المبدأ، فهناك رأيان في ذلك:
الرأي الأوّل: وهو المعروف بينهم، من أنّ بداية وقت صلاة الجمعة هو زوال الشمس تماماً كبداية وقت صلاة الظهر، وهو ما تبنّاه السيد الماتن.
الرأي الثاني: ما نسبه الشيخ الطوسي في (الخلاف 1: 225)، إلى بعض الفقهاء كالسيد المرتضى، وهو أنّ بداية وقتها هو ارتفاع الشمس وإن لم تزل. وقد قيل بأنّ ولد الشيخ الطوسي قد تبنّى هذا الرأي أيضاً. وذكر ابن إدريس ـ فيما نُقل عنه ـ أنّه بحث وفتّش في كتب السيد المرتضى فلم يجد هذا الرأي فيها، ولعلّ نسبة الطوسي إليه ذلك كان لمعرفة ذلك منه مشافهةً حيث كان تلميذاً عنده. بل ظاهر بعض عبارات المرتضى في بعض كتبه على خلافه.
وأمّا من حيث المنتهى، فالعمدة آراءٌ أربعة، وهي:
الرأي الأوّل: ما ذهب إليه المشهور ، وصرّح به في "الشرائع"، وتبنّاه السيّد الماتن، من أنّ نهاية الوقت بلوغ ظلّ كلّ شاخص مثلَه. ووقت النهاية هذا هو عين وقت صلاة العصر حسب رأي كثيرين، وكذلك هو عين وقت استحباب إبراد صلاة الظهر عند بعضهم.
الرأي الثاني: إنّ وقتها يمتدّ بامتداد وقت صلاة الظهر، وهو المنسوب إلى الشهيد الأوّل في كتابَيه: الدروس والبيان، وقالوا بأنّه قد يلوح أيضاً من بعض كلمات ابن إدريس الحلّي.
الرأي الثالث: ما ذهب إليه ابن زهرة وأبو الصلاح، من أنّ وقتها يمتدّ إلى مقدار أداء الأذان والخطبتين والصلاة، فلو فرض أنّ هذا المجموع الثلاثي يحتاج إلى نصف ساعة، فلا بدّ من البدء من الزوال فوراً، والانتهاء بعد نصف ساعة.
ولعلّ مستنده رواياتٌ مثل خبر زرارة: قال: سمعت أبا جعفر×، يقول: «إنّ من الأمور أموراً مضيّقة وأموراً موسّعة، وإنّ الوقت وقتان، والصلاة مما فيه السّعة، فربما عجّل رسول الله‘ وربما أخَّر، إلا صلاة الجمعة، فإنّ صلاة الجمعة من الأمر المضيَّق. إنّما لها وقتٌ واحد حين تزول، ووقت العصر يوم الجمعة وقت الظهر في سائر الأيام»، حيث دلّت على أنّ بعض الصلوات مضيّقة كصلاة الجمعة، وبعضها موسّع، فاذا دخل الزوال يوم الجمعة تحتّم الإتيان بها، وهذا يدلّ على أنّ بداية وقتها هو زوال الشمس، وعنده يجب فوراً الإتيان بها، ونهاية وقت الجمعة حينئذٍ هو الوقت الذي تستغرقة نفس الصلاة والخطبتين؛ لفرض أنّه بدأ بها عند الزوال، حيث لا مجال للتأخير، فيتمّ بذلك الرأي الثالث. نعم، لو فُرض أنّ الإمام ولحالته الخاصّة كانت صلاته وخطبته تستغرق أكثر من المقدار الطبيعي، فهنا يكون منتهى وقت صلاته بملاحظة حالته، لا بملاحظة الحالة العامّة، بشرط أن يبدأ عند الزوال.
الرأي الرابع: ما قد يظهر من بعضهم، من أنّ نهایة وقت صلاة الجمعة هو ساعة واحدة، وليس المراد بالساعة الستين دقيقة، وإنّما المقصود ساعة معوجّة خلافاً للساعة المستویة، والساعة المعوجّة تعني 1/12 من طول النهار، فنحسب من الشروق إلی الغروب فی کلّ یوم، ثمّ نقسّمه علی 12، فتكون النتیجة ساعة واحدة معوجّة، وأمّا المستویة فهي کلّ ساعة من النهار أو اللیل تکون ستين دقیقة في جمیع العروض الجغرافیّة وفي مختلف أيّام السنة، كما هو المتعارف لدينا اليوم. ومن الواضح أنّه في الاعتدالین تكون الساعة المعوجّة مساوية للساعة المستویة؛ وأمّا غیرهما من الأیّام والفصول حسب العرض الجغرافي، فإنّ الأمر يختلف.
وهذا كلّه يعني أنّنا لو أخذنا ساعة معوجّة في وقتٍ ما تقدّر بـ 53 دقيقة في بلد معيّن، عنى ذلك أنّ لإمام الجمعة المجال بعد الزوال بمقدار ساعة واحدة معوجّة، أي 53 دقيقة، وعلی هذا الرأي بإمكان إمام الجمعة إطالة الخطبة حتى تنتهي الصلاة عند الدقيقة 53 بعد الزوال.
وهذا الاضطراب في مواقف الفقهاء راجعٌ لاضطراب النصوص والروايات، وإلا فلعلّ مقتضى الأصل هو أنّها مثل الظهر، ولو بمعونة الاستصحاب.
لكنّ القول بأنّ بداية وقتها ارتفاع الشمس، يخالف الروايات، ومنها رواية زرارة المتقدّمة نفسها، وهو واضح.
أمّا القول بكون منتهى وقتها هو منتهى وقت صلاة الظهر أو بلوغ ظلّ كلّ شيء مثله، فهو خلاف كون الجمعة من الأمر المضيّق؛ إذ عليه يمكن تأخير الابتداء بها إلى الوقت الذي يمكن معه الإتيان بها قبل نهاية وقتها، وهو مخالفٌ لظاهر العديد من الروايات، كرواية زرارة المتقدّمة، مضافاً إلى أنّ الرأي الأخير ـ والذي ذهب إليه الماتن ـ لا دليل عليه في الروايات يمثل مستنداً واضحاً، كما اعترف به الشيخ الهمداني (كتاب الصلاة: 431)، بل الماتن نفسه في بحوثه، معتمداً فيه على فكرة القدر المتيقّن فقط.
والأقرب بالنظر أنّ وقت صلاة الجمعة يبدأ عند الزوال فتكون مضيّقةً، لكن ليس تضييقاً دقّيّاً، بل تضييق عرفي، بمعنى أنّه لا يمكن تأخيرها كثيراً بعد الزوال، بل يلزم القيام بها عند الزوال عرفاً، فلو صلّاها بعد الزوال بربع ساعة أو بنصف ساعة، صدق أنّه صلاها عند الزوال، في مقابل أن يصلّيها بعد ساعتين أو ثلاث، أو قُبيل الغروب، فهذا هو معنى تضيّق وقتها، أمّا نهاية وقتها فهو متناسب مع البداية، فما دام يصدق أنّه أتي بها ظهراً ـ وليس عصراً أو بعد الظهر ـ صحّت.
وينتج عن ذلك أنّ بداية وقت الجمعة هو عند الزوال عرفاً، بقدر يتسامح فيه التأخير لبعض الوقت، ما دام يصدق أنّها صلّيت عند الظهر أو أوائله، وأمّا نهايتها فتكون تابعةً للإتيان بها عند الزوال بالمعنى المتقدّم. هذا هو القدر المتيقّن من مجموع النصوص.
([2]) لا خلاف في شرطيّة العدد في وجوب الجمعة، إلا أنّه وقع الاختلاف في تحديد العدد المأخوذ في الوجوب والمشروعيّة، والقدر المتفّق عليه والمتيقن هو أنّه لو نقص الحضور عن خمسة أحدهم الإمام، فلا وجوب، وإن زادوا عن سبعة أحدهم الإمام وجبت.
والأقوال في المسألة لعلّها تزيد عن ثلاثة، أهمّها:
القول الأوّل: إنّ المدار على الخمسة، فلو تحقّق اجتماعهم صارت الجمعة واجبة ومشروعة. وقد نُسب هذا القول إلى الشيخ المفيد والسيد المرتضى وابن الجُنيد وآخرين.
القول الثاني: إنّ اجتماع خمسة موجبٌ لمشروعيّة صلاة الجمعة بل وجوبها، لكن على نحو الوجوب التخييري دون التعييني، أمّا اجتماع سبعة فهو يصيّر وجوبَها تعيينيّاً. وقد نُسب هذا القول إلى الشيخ الطوسي وابن البرّاج وابن زهرة، واختاره المحدّث البحراني (الحدائق الناضرة 10: 74)، والشيخ الهمداني (كتاب الصلاة: 444).
والسيّد الماتن يرى أنّ الجمعة تصبح مشروعة وقابلة للانعقاد بالخمسة، إلا أنّه حينئذٍ لا يجب حضورها، وإنّما يجب الحضور لو كان العدد سبعة، فبالخمسة أو السبعة تكون مشروعة بنحو الوجوب التخييري، إلا أنّ تعيُّن حضورها لا يكون إلا بالسبعة.
ومنشأ اختلاف الأقوال هو اختلاف النصوص أيضاً؛ حيث إنّها على مجموعاتٍ أربع:
المجموعة الأولى: ما دلّ على انعقاد الجمعة وصحّتها فيما لو كان العدد خمسة أو سبعة، بمعنى أنّ التردّد قد وقع في الرواية نفسها، ومن نماذج هذه المجموعة: خبر أبي العبّاس، عن أبي عبدالله×، قال: «أدنى ما يجزئ في الجمعة سبعة، أو خمسة أدناه»، وخبر الحلبي، عن أبي عبدالله×، قال: «في صلاة العيدين إذا كان القوم خمسةٌ أو سبعة فإنّهم يجمعون الصلاة كما يصنعون يوم الجمعة».
المجموعة الثانية: ما دلّ على أنّ المدار على الخمسة، وأنّها هي العدد الذي تنعقد به الجمعة، مثل خبر الفضل بن عبد الملك، قال: سمعت أبا عبدالله×، يقول: «إذا كان قومٌ في قرية صلُّوا الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم من يخطب لهم جمَّعوا إذا كانوا خمس (خمسة) نفر، وإنّما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين».
المجموعة الثالثة: ما دلّ على أنّ المدار على السبعة، مثل خبر عمر بن يزيد، عن أبي عبدالله×، قال: «إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلّوا في جماعة..»، ورواية محمّد بن مسلم، قال: «تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين، ولا تجب على أقلّ منهم..».
المجموعة الرابعة: ما دلّ على أنّ الجمعة تشرع بالخمسة وتجب بالسبعة، مثل خبر زرارة، قال: قلت لأبي جعفر×: على من تجب الجمعة؟ قال: «تجب على سبعة نفر من المسلمين، ولا جمعة أقلّ من خمسة من المسلمين أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمّهم بعضهم وخطبهم». وهذه المجموعة الأخيرة لعلّها تصلح للجمع بين المجموعات السابقة.
وبناءً عليه، يمكن القول ـ وفقاً لما بنينا عليه في أصل حكم صلاة الجمعة ـ: إنّه إذا لم يتوفّر خمسة أشخاص ليحضروا الجمعة، فإنّ وجوب عقد الجمعة يسقط، ومن ثم لم تعد صلاة الجمعة ثابتة في هذه الحال، بل يتم الانتقال إلى صلاة الظهر يوم الجمعة، وإذا توفّر خمسة أشخاص كان بإمكانهم عقد الجمعة وبإمكانهم الانتقال إلى الظهر، لكن لو كان يتوفّر سبعة أشخاص فإنّ الجمعة تكون واجبة الانعقاد، وبعد عقد الجمعة في صورة الخمسة أو السبعة يجب حضورها على الآخرين، وينتج عن ذلك كلّه عدم صحّة ما ذهب إليه السيد الماتن، كما صار واضحاً. وهذا يعني أنّ المجموعة الثالثة ظاهرة في الوجوب عند السبعة، وليس هناك ظهور مشابه في المجموعة الثانية، فتكون المجموعة الرابعة مساعدة على فهم التمييز بين الثانية والثالثة.
كما أنّ عدد الخمسة أو السبعة الموجود في شروط الجمعة ليس مقتصراً على من تجب عليه الجمعة؛ عملاً بإطلاق الأدلّة، فلو قلنا بإمكان إتيان المرأة بالجمعة رغم سقوطها عنها، فإنّ اجتماع أربعة رجال وامرأة أو ستة رجال وامرأة كافٍ، وتترتب الآثار وهكذا.
([3]) ثالث شروط وجوب الجمعة هو وجود إمام الجماعة الجامع للشرائط؛ إذ مع عدم وجوده لا تكون الجمعة واجبة؛ وذلك لأنّ الجماعة معتبرة في صحّة الجمعة، فلا تصحّ فرادى، ومع هذا الاعتبار لا بدّ من وجود الإمام الجامع للشروط، ومع عدم وجوده، تكون الجماعة بحكم العدم، ومن ثمّ لا وجوب على الناس؛ لفرض عدم إمكان الإتيان بالجمعة.
([4]) ما تقدّم كان حديثاً حول شروط الوجوب، فيما يشرع السيد الماتن هنا في شروط الصحة. وأوّل هذه الشروط الجماعة، بمعنى أنّه لا تصحّ صلاة الجمعة فرادى، وهنا أمور:
1 ـ إنّ الجماعة شرطٌ في صحّة صلاة الجمعة، وهذا الشرط يعدّ من الأمور المتسالم عليها؛ ولم يقع فيه خلافٌ، بل قد دلّت عليه جملة من الروايات، مثل خبر زرارة، عن أبي جعفر الباقر×، قال: «فرض الله عزّ وجل على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واحدة فرضها الله عزّ وجل في جماعة وهي الجمعة..»، فهو ظاهر الدلالة على المطلوب، فالحكم من هذه الناحية لا إشكال فيه.
قد يقال: إنّ روایات العدد أیضاً يمكن أن يستدلّ بها على شرطیّة الجماعة.
ويجاب بأنّ فكرة العدد لوحدها لا تكفي هنا؛ لإمكان ادّعاء أنّه إذا اجتمع سبعة لزمهم أن يقوم فيهم رجلٌ فيخطب خطبتين، ثمّ يصلّون الجمعة ولو فرادى، فيصدق ـ نظريّاً ـ شرط العدد دون شرط الجماعة، نعم بعض روايات العدد تتضمّن أيضاً فكرة الجماعة، وهذا صحيح، لكنّه لا يعني أنّ فكرة العدد نفسها تحتوي فكرة الجماعة.
2 ـ إنّ إدراك الجماعة في صلاة الجمعة يمتاز عنه في غيرها من الجماعات، والقدر المتيقّن هو أنّه لا يمكن إدراكها في الركعة الأخيرة حال الركوع، بل لا بدّ أن يكون إدراكها في هذه الركعة قبله حال القيام، وعليه أن يأتي بركعة أخرى لوحده بعد فراغ الإمام. وهذا يعني أنّه لا يشترط في صحتها إدراك الجماعة من البداية، بل يمكن ذلك حتى في الركعة الأخيرة، ومعنى هذا أنّ المأموم له إدراك الإمام في ركوع الركعة الأولى كأيّة جماعة أخرى.
ومسألة الحدّ الذي يُدرَك به الإمام تحتمل وجوهاً ثلاثة:
الوجه الأوّل: ما ذهب إليه السيد الماتن، من إدراكها كغيرها من الجماعات، غايته عدم إمكانه حال الركوع الأخير؛ وذلك لخبر الحلبي، عن أبي عبدالله، أنّه قال: «إذا أدركت الإمام قبل أن يركع الركعة الأخيرة فقد أدركت الصلاة، وإن أدركته بعدما ركع، فهي أربعٌ بمنزلة الظهر»، فإنّ ذيل هذه الرواية يدلّ على أنّ نظر الحديث إلى صلاة الجمعة، والتي هي عين الظهر، بيد أنّها ثنتان والظهر أربع، كما ورد في الروايات، وقد بيّن الإمام أنّ إدراك إمام الجماعة حال الركوع الأخير يصيّرها ظهراً، ولا تكون جمعة، وهذا يعني أنّ إدراكها جمعة موقوفٌ على تحقّق الالتحاق بالإمام قبل الركوع الأخير. وهذا الحكم ورد في هذه الرواية مختصّاً بالركعة الثانية دون الأولى، مما يعني أنّه يمكن فيها الالتحاق حال الركوع، كما يمكن قبله؛ وذلك: إمّا لأنّ مطلقات الجماعة قد دلّت على إمكان الالتحاق بالجماعة حال الركوع مطلقاً من غير فرقٍ بين أنواع الصلوات والركعات، ودليل صلاة الجمعة قد قيّد تلك المطلقات بخصوص الركعة الأخيرة من صلاة الجمعة، فمن المفروض بقاء الركعة الأولى منها تحت تلك المطلقات، وهذا يعني أنّه يمكن فيها الالتحاق قبل الركوع وأثناءه، أو ببيان أنّ الوارد في خبر الحلبي شاملٌ لإدراك الإمام في الركعة الأولى؛ اذ هي بيّنت أنّ إدراكه قبل الركوع الأخير يعدّ إدراكاً للصلاة، وهذا الإدراك كما يتحقّق أثناء الركعة الثانية قبل الركوع، يتحقّق أثناء الأولى حال الركوع؛ فإنّه يصدق أنّه أدركه قبل الركوع الأخير، ومعه فتكون هذه الرواية نفسها دالّة على تحقّق الالتحاق لو أدركه حال الركوع الأوّل.
قد يقال: إنّ خبر الحلبي لا دلالة فيه على عدم إمكان الالتحاق بركوع الأخيرة، وأنّه منسجم تماماً مع مطلقات الجماعة؛ لأنّه يحمل بعد جمعه مع تلك المطلقات على بيان الفرد الأفضل والأكمل، بمعنى أنّ الجمعة الرفيعة ذات الدرجة العالية لا يمكن إدراكها في الركعة الثانية إلا قبل الركوع، أو يحمل على أنّ جملة: «وإن أدركته بعدما ركع»، يراد منها فراغه من الركوع وإتمامه له برفعه رأسه قائماً. وعليه فلا يكون هناك وجهٌ معقول لهذا التفصيل.
وقد يجاب عن الحمل الأوّل بأنّ فيه تكلّفاً، وأنّه لا يعدّ جمعاً عرفيّاً بين مطلقات الجماعة وخبر الحلبي، في مقابل التوفيق بتقييد مطلقات الجماعة به، لكنّ الجمع الثاني غير بعيد، فإنّ سائر النصوص تشير إلى كفاية إدراك ركعة، وفي بعضها الإشارة لإدراك الإمام في التشهّد وأنّه لا يكفي، فحمل خبر الحلبي على أنّه بعد الانتهاء من الركوع، ليس شيئاً عسيراً على الفهم العرفي، بل هو محتمل جداً، هذا مضافاً إلى أنّ العمدة هنا في هذا التبرير خبرٌ آحادي منفرد، وهو خبر الحلبيّ.
وقد تقول: حتّی لو تجاهلنا الإشکال في خبر الحلبي، فإنّه یقع التعارض بینه وبین خبر العرزمي عن أبي عبد الله× قال: «إِذَا أَدْرَكْتَ اَلْإِمَامَ يَوْمَ اَلْجُمُعَة، وَقَدْ سَبَقَكَ بِرَكْعَةٍ فَأَضِفْ إِلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى وَاِجْهَرْ فِيهَا، فَإِنْ أَدْرَكْتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ فَصَلِّ أَرْبَعاً»، فيتساقطان، ویُرجع إلی العمومات والإطلاقات الدالّة علی صحّة الصلاة إذا أدرك الصلاة ولو في الرکعة الأخیرة من الجماعة.
ويجاب: إنّه يكفي في خبر العرزمي أنّ الإمام قد سبق بركعة، لكنّه لا يدلّ على حصول الالتحاق به في قيام الركعة الثانية أو في ركوعها، فتكون الأدلّة الأخرى أخصّ عندهم.
الوجه الثاني: ما ذكره أستاذنا الإيرواني، من اختصاص إمكان إدراك الجمعة بحال القيام قبل الركوع، بلا فرق في ذلك بين الركعة الأولى والثانية؛ وذلك أنّ خبر الحلبي قد دلّ على خروج الركعة الثانية عن تحت مطلقات الجماعة، كما تقدّم، وحينها يقال بأنّ الركعة الأولى حكمها حكم الركعة الثانية في ذلك، بأحد بيانين:
أ ـ أن يُدعى عدم الفرق بين الركعة الأولى والثانية؛ إذ إنّه لا خصوصيّة للثانية حتى يُدّعى اختصاص الحكم بها، فيلزم تعميم النكتة إلى الركعة الأولى، وبهذا البيان تخرج الأولى أيضاً عن تحت مطلقات الجماعة.
ب ـ أن يُدّعى التمسّك بقانون الأولويّة، فإنّ المكلف إذا لم يمكنه الالتحاق بركوع الركعة الثانية فبطريق أولى لا يمكن ذلك في الركعة الأولى؛ لأنّ المفروض أنّ التضييق عليه في الثانية موجب لفوات الجمعة، بخلافه في الأولى، فإنّ له الانتظار إلى الثانية، ومعه كيف يمكن التضييق عليه في مورد يوجب فوات أصل الجمعة في حين يوسّع عليه في المورد الذي يمكنه التدارك وعدم الفوت.
ومناقشته المبنائيّة ـ بآحادية خبر الحلبي ـ واضحة، لكن قد يمكن مناقشته بنائيّاً أيضاً؛ وذلك أنّ المسألة عباديّة خالصة ونفس خروج ركوع الركعة الثانية عن عمومات إدراك الجماعة، دليلٌ على أنّ المسألة فيها خصوصيّة معينة، فالتعدّي غير واضح بإلغاء الخصوصيّة في موردٍ من هذا القبيل، وأمّا الحديث عن الأولوية فهو أيضاً غير واضح؛ إذ المسألة قد تكون تابعة لمقدار إدراك الجمعة؛ فإنّ إدراك ركوع الركعة الأولى يصدق معه أنّه حظي بالصلاة مع الإمام بمقدارٍ معتدّ به، بخلاف إدراك ركوع الثانية فإنّ نسبة الالتحاق بالإمام أقلّ، فهذه الخصوصيّة تزاحم دليل الأولويّة هنا، وليس هنا أولويّة مطلقة لتحقيق الجمعة، ما دام لها بديلٌ اضطراريّ ـ حيث تسقط ـ وهو صلاة الظهر.
الوجه الثالث: ما هو المنسوب إلى المشهور، من أنّ صلاة الجمعة إدراكُها كإدراك أيّ جماعة أخرى، يمكن تحقّقه حال الركوع وقبله في تمام الركعات، والمستند فيه أنّه قد ورد في خبر الفضل بن عبد الملك، عن أبي عبدالله، قال: «إذا أدرك الرجل ركعةً فقد أدرك الجمعة..»، وهو يدلّ على أنّ إدراك الجمعة يتمّ بمجرّد إدراك ركعة واحدة، فنضمّ ذلك إلى أنّه قد ورد في باب الجماعة أنّ الركعة تدرك بإدراك الإمام حال الركوع أو قبله، وهو بإطلاقه يشمل جماعة الجمعة، ومعه يمكن إدراك الجمعة بالالتحاق بركوع أيّة ركعةٍ فيها، فينتج أنّ إدراك الجمعة يكون بإدراك ركوع الركعة الثانية، فضلاً عن الأولى.
وقد نوقش بأنّه صحيح لولا وجود خبر الحلبي المتقدّم، إذ معه لا بدّ من العمل به؛ لكونه مقيِّداً، لكن حيث أجبنا عن الحلبيّ ارتفع الإشكال عن هذا القول الذي نرى أنّه الأقرب.
([5]) معنى هذا الشرط أنّ صلاة الجمعة ليست كأيّة جماعة يمكن إقامتها في كلّ منطقة، ليلزم على جميع أهل تلك المنطقة الحضور، بل لا تجوز إقامة جمعة أخرى على مقربة من الجمعة الأولى، لكن لو كانت الجمعة الأولى بعيدة بمقدار فرسخ واحد أمكن عقد الجمعة الثانية. والمراد بالبعد المذكور هو البعد بين الجمعتين، لا البعد بين البلدين اللذين تقام فيهما الجمعتان، ومن هنا فقد تقع جمعتان في مدينة واحدة من المدن الكبرى إذا كانت المسافة بينهما بمقدار الفرسخ.
هذا، وقد اختلفوا في تعيين الفرسخ هنا على عدّة أقوال تتراوح كلّها بين خمسة كيلومترات وستة، ولنِعم ما قاله السيد كاظم الحائري في تعليقته على الفتاوى الواضحة: «ومع هذا الاختلاف فتقريب الميل أو الفرسخ بتقريب الكيلومترات لا يثبت لنا إلا بأمر تقريبي لا بأمر دقّي».
ويلزم هنا الانتباه إلى أنّه تارة يقع الكلام في المسافة الفاصلة بين الجمعتين، ويكون الهدف بيان أحد شروط الصحة، وهو ما نحن فيه هنا، وأخرى يقع في المسافة الفاصلة بين الجمعة ومكان إقامة المكلف، بهدف تحديد أحد شروط وجوب الحضور عليه، ففي الحالة الأولى يكون الفرسخ الواحد هو المدار عند الفقهاء، بينما في الحالة الثانية يكون الفرسخان هما المسافة المقرّرة شرعاً عندهم، وما نحن فيه الآن هو في الحالة الأولى (شروط الصحّة)، وأمّا الثانية (شروط الحضور)، فسوف يأتي الحديث عنها عند التعليق على الشرط السادس من شروط وجوب الحضور، والذي سيذكره الماتن قريباً.
والأقرب بالنظر هنا أنّ مسألة الفرسخ ليست شرطاً من الشروط التعبديّة في صحّة الجمعة، وذلك أنّ المدرك لشرط المسافة هو صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر×، قال: «يكون بين الجماعتين ثلاثة أميال، يعني لا تكون جمعة إلا فيما بينه وبين ثلاثة أميال، وليس تكون جمعة إلا بخطبة، قال: فإذا كان بين الجماعتين في الجمعة ثلاثة أميال، فلا بأس أن يجمّع هؤلاء ويجمِّع هؤلاء»، إذ تدلّ بالمفهوم على أنّ المسافة لو نقصت عن ثلاثة أميال، ففي التجميع بأسٌ، وهو تعبير آخر عن المبغوضيّة الموجبة لبطلان العبادة. ووفقاً لذلك بنى السيد الماتن النتائج المتقدّمة في المسألة أعلاه، وهي:
أ ـ إذا أقيمت الجمعتان في أقلّ من ثلاثة أميال بحيث حصل تقارن بينهما، فالحكم هو بطلانهما معاً؛ لأنّ نسبتهما إلى البأس والمبغوضيّة الموجبة للبطلان واحدة ومتساوية.
ب ـ أن لا يحصل تقارنٌ بينهما، بل تتقدّم إحداهما على الأخرى، وهنا صورتان:
الصورة الأولى: أن تكون الجمعة الأولى صحيحة في حدّ نفسها، وفي هذه الحال فالجمعة الثانية لوحدها تكون باطلة؛ لأنّ الأولى قد حصلت بلا مزاحم، والمفروض أنّ الثانية كان لها مزاحم منذ بدايتها، فلا يمكنها مع تولّدها مقارنةً للمزاحم الموجب لبطلانها أن تزاحم الأولى.
الصورة الثانية: أن تكون الجمعة الأولى فاسدة في حدّ نفسها؛ لفقدانها بعض الشروط، وهنا يحكم بصحّة الجمعة الثانية؛ لكون الأولى بحكم العدم؛ فلا تزاحمها.
والظاهر أنّ المستند الوحيد لهم هو هذه الرواية، وهي خبر آحادي منفرد في بابه، وليس بجانبه خبرٌ آخر، لا عند السنّة ولا عند الشيعة، ولهذا ليس عند أهل السنّة شرطٌ من هذا القبيل، ولهذا فهم يفهمون القضيّة بطريقة مختلفة؛ حيث يعتبرون أنّ الفلسفة من وراء صلاة الجمعة هو اجتماع الناس في هذا اليوم ليلتقوا ببعضهم ويعرفوا بعضهم ويتواصلوا في اجتماعٍ عام بينهم كلّ أسبوع، لهذا يلزم عندهم أن تكون هناك جمعة واحدة في كلّ منطقة أو في كلّ مدينة، تماماً كما هي عادة النبيّ والمسلمين الأوائل في السنوات الأولى بعد رحيله، فهي أشبه بالسيرة المتعارفة بينهم على أنّ في كل مدينة جمعة، لكن إذا لم يمكن فعل ذلك أو كانت المدن مكتظّةً بالسكان مرتفعة الأبنية بحيث لا يمكن للمسجد الواحد أو لمكان الجمعة أن يسعهم جميعاً؛ لكثرة عدد المصلّين، ففي مثل هذه الحال لا مانع عندهم من إقامة جمعتين في مدينة واحدة أو منطقة واحدة.
وعليه، فالدليل هنا آحادي منفرد، والغريب أنّ مسألةً من هذا النوع ليس فيها إلا رواية واحدة منفردة! فالأقرب أنّه لا توجد مسافة تعبديّة هنا، وبخاصّة أنّ قضيّةً من هذا النوع من الواضح أنّها تتبع ـ بمناسبات الحكم والموضوع ـ النسبة السكّانية ومتغيّرات عدّة، وليست مبنيّةً على التعبّد الخالص. نعم يمكن فهم صلاة الجمعة على أنّها صلاة جامعة وليس كأيّ جماعة فهي تشبه صلاة العيدين، وقد ورد في خبر العلل عن الفضل بن شاذان عن الرضا× أنّه قال: «إنّما جعلت الخطبة يوم الجمعة؛ لأنّ الجمعة مشهدٌ عام..»، وهو ما يعزّزه الارتكاز والسيرة والاتفاق الفقهي عبر القرون، لهذا نعتقد بأرجحيّة الحفاظ على جامعيّة صلاة الجمعة، من هنا نقول بأنّ الأحوط وجوباً هو أن لا يؤدّي تعدّد الجمع إلى زوال صفة الجامعيّة عن كلّ صلاةٍ منها، بحيث يتحقّق العنوان المشار إليه، والله العالم.
هذا، والمنسوب ـ شفاهاً ـ إلى السيد موسى الصدر ذهابه إلى ما يشبه فهم أهل السنّة للموضوع.
([6]) هنا عدّة نقاط:
النقطة الأولى: قراءة الخطبتين قبل الصلاة
معنى ذلك أنّه لا بدّ من تقديم الخطبتين على الصلاة، فلا يصحّ إقامة الصلاة أوّلاً، ثمّ قراءة الخطبتين، وهذا ما يمكن التعرّض له من ناحيتين:
الناحية الأولى: الحديث عن جواز تقديم الخطبتين مقابل القول بلزوم التأخير
والظاهر أنّ هذا الأمر اتفاقيٌّ بينهم، ولم يشذّ عن جواز التقديم سوى الشيخ الصدوق، حيث ذهب إلى لزوم تأخير الخطبتين عن الصلاة، فإنّه قد أورد في "الفقيه" الروايةَ الآتية: قال أبو عبدالله×: «أوّل من قدّم الخطبة على الصلاة يوم الجمعة عثمان؛ لأنّه كان إذا صلّى لم يقف الناس على خطبته وتفرّقوا، وقالوا: ما نصنع بمواعظه وهو لا يتّعظ بها، وقد أحدث ما أحدث، فلما رأى ذلك قدّم الخطبتين على الصلاة»، وحيث إنّ الشيخ الصدوق قد ذكر في مقدّمة كتاب "الفقيه" أنّه لا يذكر فيه إلا ما يُفتي به ويكون حجّة بينه وبين ربّه، دلّ ذلك على إفتائه بمقتضى هذه الرواية، وهو لزوم تأخير الخطبتين؛ لأنّ تقديمهما كان بدعة أسّسها عثمان.
لكنّ الحرّ العاملي ناقش في كون هذه الرواية ناظرة إلى صلاة الجمعة، ومن ثمّ فلن يكون مذهب الصدوق مخالفاً لما اتفق عليه حيث قال: «هذا غريب، لم يورده إلا الصدوق، ولا يبعد أن يكون لفظ الجمعة غلطاً من الراوي أو من الناسخ، وأصله يوم العيد؛ لما يأتي في محلّه، ويحتمل أن يكون العيد الذي قدّم فيه الخطبة على الصلاة كان يوم الجمعة».
وعلى أيّة حال، فالمناقشة في هذا الرأي تنطلق من أنّ النصوص بأجمعها مطبقةٌ على ذكر الخطبتين قبل الصلاة، كخبر محمّد بن مسلم، عن أبي عبدالله، قال: «إذا خطب الإمام يوم الجمعة، فلا ينبغي لأحدٍ أن يتكلّم حتى يفرغ الإمام من خطبته، فإذا فرغ الإمام من الخطبتين تكلّم ما بينه وبين أن يقام للصلاة..»، ونحوها غيرها، فوجود رواية واحدة منفردة على خلاف ذلك، بل على خلاف السيرة القائمة والشهرة المحقّقة، يوجب عدم إمكان الوثوق بها.
الناحية الثانية: هل تقدّم الخطبتين أمرٌ لازم في مقابل من يرى جواز التقديم والتأخير أو لا؟
هذا من الشكّ في التكليف الذي يحكم معه بالبراءة، وهنا قد يُدّعى أنّه يستخلص من الروايات وجوب التقديم، مثل خبر سماعة، قال أبو عبد الله: «يخطب، يعني إمام الجمعة، وهو قائم يحمد الله.. فإذا فرغ من هذا أقام المؤذّن فصلّى بالناس..»، فهذه النصوص وردت في مقام بيان الكيفيّة المقرّرة لصلاة الجمعة، فيلزم السير عليها، ما لم يدلّ دليل على استحباب بعض فقراتها، والحال أنّه لم يرد أيّ دليل يفيد استحباب تقديم الخطبتين، ومعه فيجب العمل بما اشتملت عليه من التقديم، بل يكن القول بأنّه القدر المتيقّن الموجب لبراءة الذمّة.
النقطة الثانية: وقوع الخطبتين بعد الزوال
هذا هو المشهور، واختار بعضهم ـ كالمحقّق الحلّي في "الشرائع" ـ جواز التقديم على الزوال شرط أن يُنهي الإمامُ خطبته عند الزوال، وعليه فيوجد هنا قولان:
القول الأوّل: ما ذهب إليه المشهور، من اعتبار عدم تقدّم الخطبتين على الزوال، وعمدة أدلّتهم:
1 ـ التمسّك بآية الجمعة، فإنّها جعلت السعي إلى ذكر الله ـ وهو الخطبة أو مجموع الخطبة والصلاة ـ مترتباً على النداء للصلاة، ومن الواضح أنّ النداء لها يكون عند الزوال، وعليه فسوف تكون الخطبة ـ بمقتضى انسجام فقرات الآية الكريمة ـ بعد الزوال لا قبله.
لكن، نوقش هذا الدليل:
أوّلاً: بما ذكره غير واحدٍ ـ كالسيد عبد الكريم الحائري ـ من أنّه لا يحرز كون المقصود من النداء الوارد في الآية الكريمة هو النداء للصلاة بعد الأذان أو بالأذان؛ إذ لعلّ المراد منه مطلق النداء لها، ولو كان قبيل الزوال، فإنّه يصدق النداء للجمعة لو أعلن عن التجمّع لها قبيل الزوال بأيّة عبارة أو طريقة.
ثانياً: ما ذكره غير واحدٍ أيضاً، من أنّه لا دليل على كون المراد من ذكر الله الوارد في الآية المجموع من الخطبة والصلاة، فضلاً عن الخطبة وحدها؛ إذ لعلّ المراد منه خصوص الصلاة، فلا تكون الخطبة مشمولة لمفاد الآية.
ثالثاً: ما ذكره أستاذنا الإيرواني واعتبره أبعد عن التكلّف، من أنّ غاية ما تفيده الآية هو شرعيّة الخطبة والسعي إلى ذكر الله بعد الزوال، ومجرّد الدلالة على مشروعيّة شيء في زمانٍ لا يعني عدم مشروعيّته في زمانٍ آخر، ومعه فلا يكون مانع في الآية عن إيقاع الخطبة قبل الزوال.
وقد يناقش بأنّ الآیة تدلّ علی زمان الواجب، وحیث إنّ تفكيك زمان الوجوب عن زمان الواجب لیس عرفیّاً، فيكون زمان الواجب نفس زمان الوجوب عرفاً أو نفس زمان توجّه الأمر إلی المکلّف، فلا تکون الخطبة مشروعةً قبل الزوال.
والأظهر أنّ الجواب الثاني هو الأكثر قوّةً من بين هذه الأجوبة، مع الأخذ بعين الاعتبار الجانب القرآني خاصّة، وإلا فالجواب الأوّل فرضيٌّ محض بعيدٌ عن مقاربة المشهد تاريخيّاً.
2 ـ استقرار سيرة المسلمين المتصلة بعصر النصّ على الإتيان بالخطبتين بعد الزوال، لا قبله، ممّا يكشف عن لزوم كونهما عند الزوال لا قبله، فإنّ ذلك التأكّد وعدم الإتيان بها ولو مرّة قبله لا وجه له إلا تلقّيهم ذلك من النبيّ أو الإمام.
ويناقش بأنّ هذه السيرة تدلّ على الجواز والمشروعيّة، وغايتها أنّ المثابرة والمواظبة من النبيّ والإمام والمتشرّعة تدلّ على الاستحباب المؤكّد ذي الطابع الشعائري، ولا قدرة لها على الدلالة على اللزوم والتعيّن، ما لم نقل بأنّه إذا کان السیرة علی وجهٍ لم یتخلّف عنه الأئمّة أبداً، ولو مرّة واحدة، وکان الأمر من الأمور المبتلى بها كثيراً، فهذا ـ أي عدم الترك مطلقاً ـ یدلّ في الأذهان العامّة علی أنّه یجب أن یکون کذلك، ولأجل هذا الفهم ـ أو التفسیر العرفي ـ يلزم علی الشارع أن یبیّن عدم الوجوب لو لم یکن العمل واجباً واقعاً، وهذا كلام معقول أصوليّاً غير أنّه بحاجة لإثبات أن السيرة أوجبت بالفعل بالنسبة إليهم ارتكاز الوجوب، وأنّ التوضيح من النبيّ أو الإمام يستدعي عادةً وصوله إلينا ولم يصل.
3 ـ التمسّك بأدلّة بدليّة الخطبتين عن الركعتين الأخيرتين؛ إذ دلّت بعض الروايات على أنّ سبب حذف الركعتين الأخيرتين من صلاة الجمعة أنّه قد عوّض عنهما بالخطبتين، وعليه فلا بدّ أن تكون الخطبتان بعد الزوال لا قبله؛ وفاءً بخصوصيّة البدليّة؛ إذ مقتضى إطلاق دليل البدليّة أنّ تمام أحكام المبدل تكون ثابتة على البدل، إلا ما خرج بالدليل، والمفروض أنّه لا يوجد في المقام دليلٌ مخرج، فيكون وقت الخطبتين مشمولاً لإطلاق البدليّة.
ويناقش ـ كما تقدّم في الفرع "الثاني" من صلاة الجمعة عند الحديث عن اشتراط العربية في خطبة الجمعة ـ بأنّ الروايات المستدلّ بها لا تؤسّس البدليّة، وإنّما تشير إلى أنّ العلّة في حذف الركعتين وتخفيف صلاة الجمعة كان هو التعويض المذكور، وهذا المقدار من الدلالة لا يُستفاد منه البدليّة؛ إذ من البيّن أنّ كون شيء موجباً لارتفاع آخر في عالم الأحكام أجنبيٌ عن جعله بدلاً له وغير ذلك مما تقدّم، وإلا لزم القول بوجوب تأخير الخطبتين تناسباً مع كونهما مكان الركعتين الأخيرتين!
4 ـ التمسّك بما دلّ على كون الخطبتين صلاةٌ حتى ينزل الإمام، مثل خبر عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله ـ في حديث ـ قال: «إنّما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين، فهي صلاةٌ حتى ينزل الإمام»، فإنّ الذيل دالٌّ على تنزيل الخطبتين منزلة الصلاة، وهذا التنزيل يمكن التمسّك بإطلاقه لإثبات آثار المنزّل جميعها على المنزّل عليه، والتي منها الإتيان بها بعد الزوال.
والفرق بين هذا الدليل وسابقه أنّ ذاك السابق ناظرٌ إلى ما دلّ على أنّ الخطبتين كانتا تعويضاً عن الركعتين، وأمّا هذا الدليل فالمنظور فيه هو ما دلّ على جعل الخطبتين صلاة.
ويجاب ـ كما تقدّم في الفرع "الثاني" من صلاة الجمعة عند الحديث عن اشتراط العربية في خطبة الجمعة ـ بأنّه من المعلوم عدم ترتب أغلب آثاره في المقام؛ إذ شرطيّة عدم الحدث في المصلّين حال الخطبة، وعدم الالتفات، وستر العورات، وطهارة الأبدان والألبسة والضحك والبكاء وغيرها، غير ثابتة حتماً، ومعه فلا موجب للقول به. والقول بأنّ هذا لا يبرّر التخلّي عن التنزيل، غايته يلتزم بانحصاره بالإمام دون المأمومين، غريبٌ في تقديري، بل هو أقرب لتخصيص الأكثر المستهجن عرفاً.
5 ـ خبر محمّد بن مسلم، قال: سألته عن الجمعة؟ فقال: «بأذان وإقامة، يخرج الإمام بعد الأذان، فيصعد المنبر فيخطب، ولا يصلّي الناس ما دام الإمام على المنبر.. ثمّ ينزل فيصلّي بالناس..»، فإنّها ظاهرة في أنّها في مقام بيان الطريقة المقرّرة شرعاً لأداء الجمعة.
واحتمال أنّ المراد بالأذان الوارد فيه ليس أذان الصلاة، حتى يقال بأنّ ذلك لازمه كون الخطبتين بعد الزوال، وإنّما كلّ وسيلة إعلاميّة تعلن بدء أعمال الجمعة، وربما تكون هذه الوسيلة مجرد قول: الصلاة جامعة، أو نحوها عند الزوال، كما ربما تكون قبله، فلا تعود دلالة في الرواية على المدّعى، كما ذكره السيد الحائري، ونُسب إلى السبزواري في كتاب ذخيرة المعاد. أو أنّ المراد بالأذان نفس الأذان الصلاتي المعهود، غايته يُدعى أنّ هذا الأذان في خصوص يوم الجمعة يؤتى به قبل الزوال بغية تهيئة المصلّين، كما ورد نظير ذلك في صلاة الصبح، حيث دلّت الروايات على جواز الأذان قبل الفجر لأجل استيقاظ الناس وتهيئهم للصلاة.
بعيدٌ جداً، وصرف تأويل لا دليل عليه، إذ لو أمكن استخدامه في صلاة الجمعة فليُستخدم وأمثاله في غيرها من الموارد! بل مما يؤيّد ما نقول ما دلّ على استحباب الإتيان بركعتين عند الزوال يوم الجمعة، فإنّه إذا كانت الخطبتان قبل الزوال لم يمكن الإتيان بهاتين الركعتين؛ لأنّه حال الخطبتين لا تجوز الصلاة، ثم يدخل الوقت، وبعده سينزل الإمام للصلاة، ولن يتمكّن ـ لا هو ولا المأمومين ـ من الإتيان بهاتين الركعتين، وهذا بخلاف القول بأنّ وقت الخطبتين بعد الزوال، فإنّ الإمام يمكن ـ كالمأمومين ـ أن يأتي بهاتين الركعتين، ثمّ يشرع في الخطبة، ومن بعدها الصلاة بلا محذور.
إلا أنّ هذا الخبر آحادي، بل يحتمل أنّه يبني التصوير على الغالب الراجح، حتى لو كان في مقام بيان الطريقة المقرّرة شرعاً.
القول الثاني: جواز تقديم الخطبتين على الزوال، ومما يمكن أن يجعل دليلاً لهذا القول:
1 ـ ما دلّ على أنّ وقت صلاة الجمعة مضيَّق، وأنّه عند الزوال، مثل خبر الحلبي، عن أبي عبدالله×، أنّه قال: «وقت الجمعة زوال الشمس..»، فإنّ كون الخطبتين بعد الزوال لازمه عدم كون وقت صلاة الجمعة مضيّقاً وعند زوال الشمس، بل سوف يكون ممتداً لما بعد الزوال إلى انتهاء الخطبة وموسّعاً، وهو خلاف هذه الروايات.
ونوقش:
أوّلاً: إنّ الخطبتين بحكم كونهما معدّتين من توابع الصلاة ومقدّماتها صحّ بهذا الاعتبار التعبير عما يشمل منتهى وقت الجمعة بنوع من المسامحة العرفية المقبولة، فهذا مثل القول بأنّ وقت الظهر عند الزوال، فإنّ هذا لا ينافي البدء بالأذان والإقامة عنده، وإن أخذا وقتاً معتداً به؛ فإنّه يصدق حينئذٍ عرفاً أنّ الصلاة يبدأ وقتها عند الزوال.
ثانياً: إنّ بعض الروايات دلّت على أنّ الخطبتين صلاة، كخبر عبد الله بن سنان المتقدّم، وعليه فإطلاق "وقت الجمعة" يكون حقيقيّاً ـ بالفهم العرفي ـ على الخطبتين أيضاً.
ويمكن تأييد هاتين المناقشتين بأنّ لازم هذا الدليل هو القول بلزوم تقديم الخطبتين على الزوال، فإنّ مقتضى تضيّق وقت الجمعة وكونه عند الزوال، هو عدم جواز التأخير؛ إذ لا يصدق أنّ الصلاة وقعت عند الزوال بغير ذلك، وهذا مما لم ينسب إلى أحدٍ عدا ابن حمزة صاحب "الوسيلة".
2 ـ خبر عبد الله بن سنان، عن أبي عبدالله، قال: «كان رسول الله‘ يصلّي الجمعة حين تزول الشمس قدر شراك ويخطب في الظلّ الأوّل، فيقول جبرئيل: يا محمّد قد زالت الشمس فانزل فصلّ، وإنّما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين فهي صلاة حتى ينزل الإمام»، فإنّ هذه الرواية تصرّح بأنّ جبرئيل كان يطلب من النبيّ وهو على منبر الخطبة حين زوال الشمس أن ينزل للصلاة، الأمر الذي يدلّ بوضوح على أنّه‘ كان يخطب على المنبر قبل الزوال.
إلا أنّ الشيء الذي يبقى مطلوباً هو تفسير صدر الحديث، فإنّه واضح الدلالة على أنّه‘ كان يصلّي عندما تكون الشمس قد زالت قدر شراك، والشراك لغةً عبارة عن اللجام الذي يربط القدم، ومن الطبيعي أنّ طوله لا يقل عن مقدار الشبر تقريباً، وهذا يعني أنّ صلاته‘ لم تكن حين الزوال كما هو ظاهر الذيل، بل كانت متأخرة عنه إلى حدّ يصبح الظلّ الحادث بعد الزوال قدر الشراك، فكيف يمكن التوفيق بين الصدر والذيل؟! وما لم يوفّق بينهما لا يمكن الاستدلال بالرواية هنا.
من هنا أجاب المحقّق الهمداني بأنّ الشراك له طول وعرض، وطوله يصل إلى شبر تقريباً، بينما عرضه لا يتجاوز السنتيمتر الواحد، من هنا يقال: إنّ انتظاره‘ إلى صيرورة ظلّ الشيء قدر شراك، إنّما هو بملاحظة عرضه دون طوله، وذلك بغية الاطمئنان بدخول الوقت، وعليه فيكون الصدر منسجماً مع الذيل، وعليه يفسّر الظلّ الأوّل الوارد في الرواية بالظلّ قبل الزوال، فإنّه يوجد في النهار ظلّان ظلٌّ حادث قبل الزوال، وهو عندما يولد يكون طويلاً، ثمّ يأخذ بالانتقاص كلّما ارتفعت الشمس إلى الدرجة الأقل، وهي تكون عند الزوال، وبعده يحدث ظلٌّ آخر يبدأ بالازدياد تدريجيّاً حتى الغروب، وهو المسمّى بالفيء؛ لأنّه يفيء ويرجع بعد الانعدام حال الزوال كلاً أو جُلاً. وإذا كان الظلّ الأوّل هو الظلّ الواقع قبل الزوال، دلّ ذلك على جواز تقديم الخطبتين على الزوال بحيث تقعان في الظلّ الأوّل (كتاب الصلاة: 447).
لكن الإنصاف أنّ الرواية وإن كانت واضحة الدلالة بذيلها على جواز التقديم، إلا أنّ صدرها ظاهرٌ أيضاً في التأخير قدر شراك، والمفهوم عرفاً من الشراك ليس عرضه بل طوله. ولا يمكن أيضاً ادّعاء أنّ قدر الشراك يعني أنّ زوال الشمس وبدء ازدياد الظلّ الثاني كان عن قدر شراك، فإنّه بعيداً جداً وغير محتمل، وعليه فتكون الرواية ـ على الأقلّ ـ مجملة بملاحظة التوفيق بين صدرها وذيلها، كما اعترف به السيد العاملي في (مدارك الأحكام 4: 37)، وإلا فكلّ فقرة من فقراتها واضحة الدلالة.
قد يقال: إنّ الظاهر أنّ خبر عبد الله بن سنان هو على العكس أدلّ؛ إذ إنّ الظلّ الأوّل لا يُراد به الظلّ السابق على الزوال؛ إذ لا يفي هذا التعبير بالدلالة، فما معنى وصف الظلّ بالأوّل؟! فالأوليّة تعني إمّا البداية وهو معنى مرتكز لا يحتاج إلى قرينة إضافيّة، أو الأقدم والأسبق، وهو إذا أريد به الظلّ الذي يتقلّص قبيل الزوال فهو يحتاج إلى قرينة خاصّة أو يكون هذا التعبير معهوداً آنذاك، وهو محلّ شكّ! كما أنّ الأولية لا تفيد الظلّ الصغير السابق على الزوال إلا بلحاظ تعقّل أن الخطبتين تستغرقان ذلك، فتكون قرينة داخلية مفروضة، وكلّ ذلك محلّ شك، وعليه فالمعنى الصحيح المنسجم مع العبارة هو أنّ الظلّ الأوّل هو بداية حدوث الظلّ عند الزوال، وهو السابق على مقدار الشراك، فإذا حصل صلّى، وإعلام جبرئيل للنبيّ‘ بالزوال، ليأمره بالصلاة، ينسجم مع كون ذلك توطئة بيانيّة للأمر بالصلاة، فلا داعي لافتراض التهافت.
لكنّ هذا الكلام غير واضح؛ فإطلاق الظلّ الأول على السابق على الزوال غير بعيد بل متعارف، كما أنّ وقت الخطبتين فيما نعلم كان قصيراً جداً.
3 ـ الروايات العديدة الدالّة على أنّ وقت العصر يوم الجمعة هو وقت الظهر في سائر الأيّام، مثل خبر الحلبي، عن أبي عبدالله× أنّه قال: «وقت الجمعة زوال الشمس، ووقت صلاة الظهر في السفر زوال الشمس، ووقت العصر يوم الجمعة في الحضر هو وقت الظهر في غير يوم الجمعة»، وذلك أنّنا نعرف من روايات القدمين أنّ وقت فضيلة الظهر تبدأ بعد صيرورة الظلّ الحادث بعد الزوال بمقدار قدمين، أي سُبعي الشاخص، وفي فترة القدمين هذه يؤتى بالنوافل، من هنا عبرت بعض النصوص بأنّ القدمين إنّما جعلت لأجل النوافل، كما هو المتعارف اليوم عند أهل السنّة، حيث يصلّون النوافل بعد الزوال مباشرة، حتى يصير الظلّ بالمقدار المتقدّم، فيبدأ حينئذٍ وقت فضيلة الظهر. ونحن لو قسنا الفترة الزمنيّة التي يحتاجها سُبعا الشاخص، لوصلت إلى ثلث الساعة أو نصفها أو أزيد، ولعلّ ذلك يختلف باختلاف الفصول الأربعة إلا أنّه لا يكاد يزيد عن ثلاثة أرباع الساعة تقريباً. من هنا يقال: إنّ كون صلاة العصر يوم الجمعة كصلاة الظهر في غيره وقتاً يعني أنّ وقت العصر سوف يبدأ بمجرّد وصول مقدار الظلّ الحادث إلى السبعين، فإذا كانت الخطبتان بعد الزوال لا قبله فسوف يعني ذلك أنّ فترة الثلاثة أرباع الساعة على أبعد تقدير ـ وهي الفترة الممتدة بين الزوال والقدمين ـ لا بدّ من إيقاع الأذان والإقامة والخطبتين وصلاة الجمعة بواجباتها ومستحبّاتها من قراءة سورة الجمعة والمنافقون والتعقيب فيها. وهو أمرُ غريب جداً واستثنائيّ، فتفادياً لذلك يُلتزم بجواز تقديم الخطبتين على الزوال بحيث يحصل الفراغ منهما عنده.
ونوقش:
أوّلاً: إنّه مخالف للسيرة العمليّة المستمرّة الجارية بين المسلمين من لدن عصر النصّ، على أداء الخطبتين بعد الزوال.
ثانياً: إنّ لازمه الالتزام باستحباب تقديم الخطبتين من دون إحراز أوّل وقت الفضيلة، وهو مما لم يلتزم به أحد.
وعليه، فحيث إنّ الدليل الدالّ على جواز تقديم الخطبتين على الزوال قابلة للنقاش، فالأقرب احتياطاً هو تعيّن تأخيرهما عن الزوال.
النقطة الثالثة: وحدة الخطيب والإمام
وهو المشهور بين الإماميّة، ونفاه كثيرون من أهل السنّة رغم ترجيحهم له وتأكيدهم عليه، فقالوا بأنّه ليس بلازم.
وعمدة الدليل هو أنّ طبيعة النصوص الواردة في الباب يظهر منها وحدة الإمام والخطيب، فمثلاً خبر زرارة، عن أبي جعفر×، قال: «تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمّهم بعضهم وخطبهم»، فمثل هذه النصوص مبنيّة على فكرة أنّ الإمام والخطيب واحد. هذا مضافاً إلى السيرة العمليّة الجارية، وكونه القدر المتيقّن.
وهذه الوجوه رغم إمكان المناقشة فيها، من حيث إنّ النصوص قد تتعامل مع ما هي الحالة المتعارفة في إقامة الجمعات، وأنّ السيرة ليست دليلاً إلزاميّاً هنا ولا تعطي أزيد من التعارف الخارجي أو الاستحباب المؤكّد، غير أنّ مقتضى الاحتياط من منطلق القدر المتيقّن هو وحدة الخطيب والإمام في غير حال حال العذر، غايته أنّه لو طرأ على الإمام عذرٌ أو طرأت ضرورات تفرض تمييز الخطيب عن الإمام، فلا دليل على المنع في هذه الحال أو على بطلان صلاة الجمعة.
وقد يقال: إنّ تجويز حالة التغاير بين الخطيب والإمام عند الضرورة أو العذر بعد التمسّك بالقدر المتيقّن بالوحدة بينهما أمرٌ غير مفهوم، فعدم الدليل على النفي ليس دليلًا على الجواز، فالموافق للأصل الانتقال إلى البدل، وهو صلاة الظهر، وعليه فلا بدّ من التنازل عن القول بالقدر المتيقّن وإثبات الظهور في استقلال عنواني الخطبة والصلاة عن القائم بهما، ولكنّ هذا مآله لتعميم الجواز إلى غير حالات الضرورة والعذر، أو القول بأنّ فعل الخطبة عرفيٌّ لم يتصرّف الشارع فيه، والعرف يدلّ على أنّ الغالب ـ وعند عدم العذر ـ لا بدّ أن يكون الخطيب هو صاحب الشأن أو الحدث، والصلاة عقيب الخطبة حدث تابع، وهو ما يتفق مع ما تشير إليه الروايات من أنّ الخطبتين بدل عن الركعتين، ومن شؤونه اللاحقة به كما يراه العرف، فيلتزم بالجواز في الحالات الاستثنائية جرياً على العرف.
لكنّ ما قلناه سابقاً يكفي للجواب هنا؛ فإنّنا لا نفرض اشتراط الوحدة قدراً متيقّناً مطلقاً، بل القدر المتيقن من اشتراط الوحدة هو في غير حالات العذر والضرورة.