hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

الخلاف الإمامي ـ الإمامي حول فدك / لمحة عابرة حول قراءة الشيخ المنتظري السياسيّة والنقاشات حولها

تاريخ الاعداد: 1/14/2025 تاريخ النشر: 1/14/2025
790
التحميل

حيدر حبّ الله([1])


تمهيد

لم تنفصل دراسة القضايا التاريخيّة، في العصر الحديث على الأقلّ، عن الرؤية الفلسفيّة والدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي يحملها الباحث في مجال دراسة التاريخ وتحليله؛ إذ الخلفيّات المعرفيّة والفكريّة والسياسيّة للباحث في مجال التاريخ تترك في كثير من الأحيان تأثيراً على كيفيّة قراءته للحدث التاريخي. ولم تكن الموضوعات المذهبيّة بدعاً أو حالةً خارجة عن هذا القانون الغالب، لهذا نجد في دراسة قضايا التاريخ ـ وبالخصوص تاريخ النبيّ ورموز أهل البيت النبويّ ـ تجليّاً لعقليّة الباحث وخلفيّاته المعرفيّة. والمثال الأبرز لذلك ـ والذي أشرنا إليه في غير مناسبة ـ هو اختلاف قراءة الحركة الإسلاميّة (الإسلام السياسي) لتاريخ أهل البيت بعد شهادة الإمام الحسين عن قراءة الآخرين، ففيما اتفق الآخرون تقريباً، من باحثين شرقيّين وغربيّين، على أنّ أهل البيت النبويّ ـ بالمفهوم الإمامي للكلمة ـ انكفؤوا عن العمل السياسي والجهادي وتفرّغوا بعد شهادة الحسين للعمل الديني والعلمي والتثقيفي والتوعوي، رأى رموز الخطّ الإسلامي السياسي أنّ حركة الأئمّة بعد الحسين لا تختلف إطلاقاً عن حركة الحسين نفسه، من حيث إنّها ظلّت حاضرة في المجال السياسي وتعمل بنشاط لتحقيق مشروع الدولة الإسلاميّة الشرعيّة والعادلة.

واحدة من القضايا التاريخيّة التي ظلّت حاضرة في تاريخ الصراع الطائفي بين السنّة والشيعة عبر الزمن، كانت قضيّة فدك التي نحلها أو أورثها رسول الله لابنته فاطمة الزهراء. بالنسبة لنا هنا لن نتكلّم في النزاع المذهبي والنقاش التاريخي حول هذه القضيّة، فليس هذا هو موضوعنا هنا إطلاقاً، بل ما سنقوم به هو دراسة كيف فهم علماء الإماميّة في العصر الحديث مسألة إعطاء النبيّ فدكاً للزهراء؟ بتعبير أوسع كيف فهموا أو قرأوا قضيّة أحقيّة الزهراء في فدك؟

هذا يعني أنّ ما سنتكلّم عنه يتحدّد ضمن الآتي:

1 ـ لا علاقة لنا بالقراءات غير الإماميّة لفكرة فدك ولن نتعرّض لها هنا، بما فيها القراءة التي تقول بأنّ نزاع فدك بين الزهراء وأبي بكر هو نزاعٌ قضائي شخصي عادي، تمّ تضخيمه لاحقاً من قبل الشيعة لأغراض سياسيّة معارِضة، وإلا فإنّ أبا بكر لم يصادر مزارع أخرى كانت لفاطمة وعددها سبع.

2 ـ لا علاقة لنا بإثبات أو نفي أحقيّة الزهراء في فدك، بل نعتبر ذلك هنا أمراً مفروغاً؛ لأنّنا نتكلّم في تحليل القراءة الإماميّة المعاصرة التي لا تناقش في أحقيّة فاطمة بفدك، وإنّما محلّ بحثنا هو تحليل العلاقة بين فاطمة وفدك وقصّة ارتباطها بها في داخل الوسط الإمامي بعد الفراغ عن أنّها لفاطمة.

3 ـ لن نتمكّن من تحليل مختلف القراءات المعاصرة التي ظهرت بين الإمامية لقصّة فدك، فالوقت لا يسعفنا، بل سوف نقتصر على قراءة واحدة تمثل تجلّياً لنزاعٍ فكري أوسع في قراءة سيرة أهل البيت عموماً كما سوف نرى، لهذا لن نتعرّض هنا لطرح السيد محمد باقر الصدر، ولا غيره، بل سوف نأخذ قراءة الشيخ حسين علي المنتظري بمثابة عيّنة دالّة، رغم ما فيها من تشابهات مع غيره واختلافات.

هذا، وسوف أرتّب البحث ضمن محاور:

المحور الأوّل: عرض نظريّة الشيخ المنتظري في قضيّة فدك، وهو محور سوف ينقسم بدوره إلى:

أ ـ عرض فكرته وتحليلها من جهةٍ أولى.

ب ـ مطالعة بعض أبرز أدلّة نظريّـته من جهة ثانية.

المحور الثاني: لمحة عابرة حول بعض ردود الأفعال على قراءة منتظري لقضيّة فدك.

المحور الثالث: تحليل أسباب النزاع وخلفيّاته وبعض من مبرّرات قلق المعارضين.

ثمّ كلمة ختاميّة.

 


المحور الأوّل: قراءة الشيخ المنتظري لقضيّة فدك

يعتبر العديد من الباحثين المعاصرين أنّ الشيخ حسين علي المنتظري(2009م)، هو المنظّر الحقيقي لفكرة ولاية الفقيه وتشعّباتها في التاريخ الحديث، وأنّ السيد روح الله الخميني(1989م) نفسه وقع تحت تأثير منتظري ومطهري في هذا الموضوع. وبصرف النظر عن مدى صحّة هذا الادّعاء، فإنّه مما لا شكّ فيه أنّ منتظري كان رمزاً كبيراً في التنظير لنظريّة السلطة في عصر الغيبة، وفق التصنيف الإمامي للتاريخ، وكان كتابه "دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلاميّة" ذو المجلّدات الأربعة، بمثابة مشروع كبير في لحظته الزمنيّة للتنظير للفقه السياسي الشامل، وقد درس فيه المنتظري الكثير من الأبحاث الفقهيّة والتاريخيّة ذات الصلة بالدولة الإسلاميّة وجمعها من مختلف الأبحاث الفقهيّة الشيعيّة والسنيّة بما فيها كتب الأحكام السلطانيّة؛ ليكوّن منها رؤيةً فقهيّة اجتهاديّة لمشروع الدولة الإسلاميّة وحكم الإسلام.

في المجلّد الثالث من هذا الكتاب، تعرّض المنتظري للبحوث المرتبطة بالأموال، فدرس الزكاة والخمس والغنائم والفيء، وبهذه المناسبة ـ أي مناسبة الحديث عن الفيء ـ وهي الأراضي التي يحصل عليها المسلمون دون حرب، والتي عبّر عنها القرآن الكريم (الحشر: 6) بالتي لم يوجف عليها بخيلٍ ولا ركاب ـ تحدّث أنّ الشريعة جعلت الفيء مملوكاً للدولة، وبهذه المناسبة فتح حديثاً استطرادياً حول فدك، باعتبار أنّ أرض فدك كانت من أموال الفيء([2]). كما خصّص منتظري كتاباً كان عبارة عن سلسلة دروس حمل عنوان "خطبه حضرت فاطمه زهرا و ماجراى فدك"، شَرَحَ فيه خطبة السيدة الزهراء المشهورة، ثمّ اختتم الكتاب بقسمٍ ثالث قصير تشكّل من درسين دار حول قصّة فدك انطلاقاً من رواية الإمام الصادق للحادثة([3]).

لا يُناقش منتظري في أنّ أرض فدك هي للزهراء، فهذا عنده موضوعٌ تمّ تجاوزه، لكنّ السؤال الذي يطرحه؟ لماذا أعطى النبيّ فدكاً للزهراء؟ وهو يسرد بعض الشواهد التاريخيّة والحديثية التي تؤكّد أنّ أرض فدك كانت من الفيء الذي يختصّ به رسول الله، بمعنى أنّه لا حقّ للمقاتلين في هذه الأراضي والأموال، على خلاف الغنيمة التي يكون لهم فيها الحقّ بعد إخراج خمسها.

في كتابه حول الخطبة الفاطميّة وحادثة فدك، يضيء لنا منتظري على إشكاليّةٍ كان قد سجّلها الشيوعيّون ـ أو غيرهم على حدّ تعبيره ـ على الإسلام في تلك الفترة، وهذه الإشكاليّة تقول: إنّ رسول الله كان رمز التواضع والزهد وعاشت أسرته الزهد والتواضع حتى كان مثالاً للمسلمين. إنّ النبي كان يطالب المسلمين بأن يعيشوا حياةً متواضعة، فكيف يُعقل أن يعطي ابنتَه من أموال الفيء قريةَ فدك التي تمثل مصدراً ماليّاً هائلاً، في الوقت الذي يعاني فيه الكثير من المهاجرين والأنصار من الفقر والحال الاقتصاديّة الصعبة؟!

لا أدري إذا كان هذا الإشكال هو الذي حرّك منتظري للتفكير بقضيّة فدك من زاوية أخرى، جاءت لتنسجم نتائج تفكيره مع خلفيته السياسيّة، فنقطة الارتكاز في تحليل منتظري هو أنّ الرسول لم يُعطِ فدكاً للزهراء «لأنّها ابنته فقط، بل لأنّ بيتها مهبط الملائكة ومحور حفظ الكتاب والسنّة وضمان مستقبل الأمّة، وهذا كان من أهمّ المصالح العامة. فهو ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أراد دعم بيت الإمامة من الجهة المالية، وبهذا الملاك أعطى ونحل فاطمة فدك، وبهذا الملاك أيضاً ابتزّها الغاصبون. ومطالبة الميراث كانت في الرتبة المتأخّرة ومن باب المماشاة، كما يظهر لمن تتبّع»([4]).

إذن، في تحليل منتظري لم يكن إعطاء فدك لفاطمة مجرّد هدية من والدٍ لابنته، أو بتعبير منتظري «لا بلحاظ العواطف الشخصيّة» ولم يكن أخذ فدك من قبل السلطة بعد النبيّ لمجرّد أنّهم يريدون أخذ قطعة أرض من ابنة بنت النبيّ.. بل الموضوع أبعد من ذلك، فالنبيّ منحها أرض فدك؛ لأنّه أراد تقوية السلطة الماليّة لأهل البيت وللإمامة بعده، فيكون إعطاء فدك هو نوع من تمويل سلطة الإمامة بعد رحيل النبيّ، وفاطمة هي طريق لتحقيق هذا الهدف، على أساس أنّ إعطاءها لعليّ ربما يعقّد الأمور، بينما إعطاؤها لفاطمة يبعد الشبهات ويحقّق الغرض، وبتعبير منتظري: «إنّما أعطاها فاطمة بما أنها كانت أمّ الأئمة الطاهرة وقرينة لأوّل الأوصياء. ولعلّ شدّة قربها من النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ توجب الحياء من هتك حريمها، والعواطف تعوق دون ابتزاز حقّها، ولكن يد السياسة هدمت ما أسّسه النبيّ ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وبناه، وما أدريك ما السياسة؟!»([5]).

وكأنّ المنتظري يريد القول: إنّ النبي كان يهدف لإعاقة مَن سيستلم السلطة من بعده دون وجه حقّ عن مصادرة أموال الإمامة، فإذا أعطاها لعليّ سيسهل عليهم سلبها منه كونهم يرونه زعيم الحزب المعارض، بينما إعطاؤها للزهراء ـ وهي ابنته وسيدة نساء العالمين ـ فيه خصوصيّة عاطفيّة يمكن أن تشكّل حاجزاً نفسيّاً عند المسلمين يمنع السلطة عن سحب هذا المال.

ولهذا السبب يرى منتظري أنّ النبيّ لم يعط فاطمة فقط من أموال الفيء بل التاريخ يشهد أنّه أعطى العديد من المسلمين مثل ما أعطى فاطمة، فقد أعطى أبا بكر وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما من أرض بني النضير، بل إنّ أبا بكر نفسه أقطع بعض الأراضي من مال الفيء لبعض المسلمين مثل الزبير وعمر بن الخطاب، هذا الأمر أثار منتظري ليجعله يقتنع بأنّ النزاع بين السلطة وفاطمة لم يكن على أرض فدك بما هي إقطاع نبويّ من الفيء، بل لأنّ أبا بكر كان ينظر لهذه الأرض على أنّها قدرة تمويليّة لحزب عليّ، ومن ثمّ يجب تجفيف المنابع الماليّة للمعارضة.

بهذه الطريقة يفهم منتظري ارتباط قصّة فدك بقصّة الإمامة، لا بقصّة النبي وفاطمة، فإعطاء فدك لفاطمة هو بتعبير منتظري: «لدعم بيت الإمامة»، وكأنّ النبيّ كان يتوقّع حدوث مشاكل بعد رحيله، فاشتغل على تأمين المورد المالي للإمامة من خلال فاطمة.

لكن ما هي أبرز الأدلّة التي ساقها منتظري لتأكيد فكرته هذه؟

لقد حاول منتظري تقديم بعض الشواهد لتأكيد هذه الفكرة، ومن بينها:

الشاهد الأوّل: قدّم منتظري مقاربة ثنائيّة العناصر، ففي قضيّة فدك لدينا عنصران أساسيّان قدّمتهما لنا كتب الحديث والتاريخ وروايات أسباب النزول، وهما:

العنصر الأوّل: إنّ إعطاء النبيّ فدكاً لفاطمة جاء عقب نزول آية: (وَآتِ ذَاْ الْقُرْبَى حَقَّهُ) (الإسراء: 26).

العنصر الثاني: إنّ الإماميّة أجمعوا ـ إلا من شذّ منهم ـ على أنّ المراد بذي القربى في هذه الآية هو الإمام، وقد وردت في ذلك بعض الروايات أيضاً.

بتركيب هذين العنصرين، استنتج منتظري أنّ إعطاء فدك كان تلبيةً لأمر الآية القرآنية، وأنّ من أُعطيَ فدكاً في الحقيقة إنّما هو الإمام، ولا يمكن فهم هذا الأمر إلا بالقول بأنّ إعطاء فدك لفاطمة كان في الحقيقة إعطاءً لها للإمام، وليس لفاطمة بصفتها الشخصيّة.

يقول المنتظري: «ومما يشهد لما ذكرناه من ارتباط أمر فدك بموضوع الخلافة والإمامة، وأنّ إعطاءها لفاطمة ـ عليها السلام ـ كان لدعم بيت الإمامة لا بلحاظ العواطف الشخصيّة، ما ورد من أنّ إعطاءها وقع بعد نزول قوله تعالى: «وآت ذا القربى حقه»، وقد أجمع أصحابنا الإماميّة إلاّ ما شذّ على أنّ المراد بذي القربى هو الإمام، وبه فسّر في بعض الأخبار أيضاً»([6]).

من الواضح أنّ منتظري لا يملك نصّاً تاريخياً أو حديثيّاً مباشراً يكشف عن طبيعة نيّة النبي وقصده من وراء أعطاء فدك لفاطمة، لكنّه من خلال مقاربة النصوص الحديثية والتاريخيّة يحاول أن يصل إلى استنتاجٍ مختلف عن السائد.

الشاهد الثاني: بعض الروايات التي جاءت في عصور الأئمّة اللاحقين والتي يتمّ فيها تحديد مساحة فدك بأنّها الوطن الإسلامي برمّـته تقريباً أو تحديدها بكلّ أرض لم يوجف عليها بخيلٍ ولا ركاب. إنّ هذا يعني أنّ فدكاً لم تكن قطعة أرض فقط، إنمّا هي رمزٌ لما يملكه الإمام وله ولاية عليه، فكلّ بلاد المسلمين هي فدك، وهذا أمرٌ لا معنى له في سياق جعل فدك ملكيّةً شخصيّة للسيدة الزهراء، بل هذه الروايات تجسّر بين فدك وبين سلطة الإمام على البلاد، فتؤكّد أنّها أكبر بكثير من أن تكون مجرّد هدية قدّمها النبيّ لابنته.

ولنلاحظ هاتين الروايتين اللتين يستشهد بهما المنتظري([7]):

الرواية الأولى: ما ذكره ابن شهر آشوب في مناقب آل أبي طالب، حيث قال: «وفي كتاب أخبار الخلفاء أنّ هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر: خذ فدكاً حتى أردّها إليك، فيأبى حتى ألحّ عليه، فقال عليه السلام: لا آخذها إلا بحدودها. قال: وما حدودها؟ قال: إنّ حددتها لم تردّها؟ قال: بحقّ جدّك إلا فعلت، قال: أمّا الحدّ الأوّل فعدن، فتغيّر وجه الرشيد، وقال: إيهاً، قال: والحدّ الثاني سمرقند، فارْبَدَّ وجهه(احمرّ حمرة فيها سواد بعد الغضب). والحدّ الثالث إفريقية، فاسودّ وجهه، وقال: هيه! قال: والرابع سِيف البحر مما يلي الجزر وأرمينية. قال الرشيد: فلم يبقَ لنا شيء فتحوّل إلى مجلسي! قال موسى: قد أعلمتك أنّني إن حدّدتها لم تردّها، فعند ذلك عزم على قتله»([8]).

الرواية الثانية: خبر عليّ بن محمد بن عبد الله، عن بعض أصحابنا أظنّه السياري، عن عليّ بن أسباط، قال: لما ورد أبو الحسن موسى ـ عليه السلام ـ على المهدي، رآه يردّ المظالم، فقال: «يا أمير المؤمنين، ما بال مظلمتنا لا ترد؟» فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال: «إنّ الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيّه صلى الله عليه وآله فدك وما والاها، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله "وآت ذا القربى حقّه" فلم يدر رسول الله صلّى الله عليه وآله من هم، فراجع في ذلك جبرئيل، وراجع جبرئيل عليه السلام ربّه، فأوحى الله إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة عليها السلام، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وآله فقال لها: يا فاطمة إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياةَ رسول الله صلى الله عليه فلمّا وُلِّيَ أبو بكر أخرج عنها وكلاءها..»، فقال له المهدي: يا أبا الحسن حُدَّها لي، فقال: «حَدٌّ منها جبل أُحُد، وحَدٌّ منها عَريشُ مِصرَ، وحدّ منها سِيفُ البحر (أي ساحل البحر)، وحدٌّ منها دُومةُ الجَندل»، فقال له: كلّ هذا؟ قال: «نعم يا أمير المؤمنين هذا كلّه، إنّ هذا كلَّه مما لم يوجِف على أهله رسول الله صلى الله عليه وآله بخيلٍ ولا ركاب»، فقال: كثيرٌ، وأنظُر فيه([9]).

الشاهد الثالث: ما جاء في كتاب الإمام عليّ إلى عثمان بن حُنيف الأنصاري الذي كان عامله على البصرة، وقد بلغه أنّه دُعي إلى وليمة قومٍ من أهلها، فمضى إليها، حيث قال: «بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْه السَّمَاءُ، فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ، ونِعْمَ الْحَكَمُ اللَّه. ومَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وغَيْرِ فَدَكٍ والنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ..»([10]).

إنّ هذا التعبير من الإمام عليّ «كانت في أيدينا» يفيد تسلّطه على فدك، وليس ملكيّته لها، فأنت لا تقول: كان في يدي هذه المزرعة، وتقصد أنّها كانت مملوكة لك، بل تقول: كانت لي هذه المزرعة، فما يُفهم من التعبير هو سلطنة الإمام على فدك، وهذا ينسجم مع كون فدك من أموال الإمامة (الدولة)، لا من الأموال الشخصيّة.

وخلاصة الكلام إنّ المنتظري أعاد فهم مسألة فدك في سياق أموال منصب الإمامة لا في سياق الأموال الشخصيّة، كما أنّه قام بإخراج السيدة الزهراء عن أصالة الملكيّة في فدك، لتكون مجرّد واسطة استخدمها النبيّ لحفظ المصادر الماليّة للإمامة بعد رحيله.

 


المحور الثاني: لمحة حول بعض ردود الأفعال على تحليل المنتظري

تسبّبت أفكار منتظري التي طرحها حول فدك وغيرها في بلبلة داخل الأوساط الدينيّة والسياسيّة في إيران في فترة السبعينيّات والثمانينيّات من القرن الماضي، لكنّ نفوذ منتظري العلمي والديني والسياسي آنذاك وكونه خليفة السيد الخميني المرتقب، عطّل من إمكانية تحوّل هذه الانتقادات إلى موجة عارمة تطيح به، فظلّت شبه مكبوتة.

تكشف وقائع محاكمة الدكتور أحمد مهدوي دامغاني(2022م) ـ وفقاً لنقله ـ أنّه تمّ استخدام السلطة القضائية لمزيد من الضغط على دامغاني نتيجة نقده الذي طرحه على منتظري في قضيّة فدك، فقد حاول دامغاني نقد منتظري في الصفّ الذي كان يدرّسه في كليّة الآداب بجامعة طهران، وذلك عام 1980م، وقد اعتمد دامغاني على تدريس متن كتاب "الشافي في الإمامة" للسيد المرتضى(436هـ) في حديثه عن فدك، مقدّماً ضمناً قراءة نقديّة لكلام منتظري في الجامعة، اعتبرت من قبل الطرف الآخر على أنّها إهانة للشيخ المنتظري، وكان أحد الطلاب قد سجّل ما قاله دامغاني وقدّم الشريط المسجّل لجهاتٍ أمنيّة، الأمر الذي ـ كما يقول ـ أدّى لممارسة ضغوط عليه حتى أثناء المحاكمة.

هذه القصّة قد تساعدنا في معرفة لماذا لم تكن الحملة على منتظري واسعة وعلنيّة من قبل التيارات الدينيّة، وتكشف لنا أنّ نفوذه وموقعه في الحوزة والسلطة كانا كبيرين، بحيث كانت تمارس الضغوط على من يحاول مواجهته.

ويذكر السيد أحمد الخميني في كتابه رنجنامه الذي يتحدّث فيه عن مجريات ما حصل مع المنتظري، يذكر ـ وهو يعاتب منتظري ـ أنّ بعض مقلّدي السيد الخميني يعادونك؛ انطلاقاً من قصّة "الشهيد الخالد"، وكذلك قصّة "فدك"، وقصّة "مهدي هاشمي"، ويقول له: لهذا السبب كنّا طلبنا منك أن لا تسمح لنعمة الله صالحي نجف آبادي أن يعطي دروساً في حسينيّتك، ولكنّك رفضت التعاون في هذا الموضوع([11]).

يبيّن هذا النصّ أنّ تململات كانت تحوم ضدّ منتظري في الأوساط الدينية والسياسيّة في تلك الفترة على خلفيّة بعض مواقفه الفكريّة، وليس فقط مواقفه المرتبطة بالسياسة، حتى أنّ خطّ الموالين للسيد الخميني نفسه كان انقسم تجاه منتظري على خلفيّة مواقفه الفكريّة التي منها قضيّة فدك.

لم تتوقف هذه القضيّة عن التداول الجزئي هنا وهناك، حتى أنّه في جوابٍ له عن استفتاءٍ حول القضيّة بتاريخ 2006م، ينفي منتظري أنّه قال بأنّ أرض فدك ليست للزهراء، ويقول بأنّ هذا كذبٌ عليه وافتراء، مؤكّداً أنّها للزهراء، غاية الأمر أنّها أعطيت لها لكونها زوجة الإمام وأمّ الأئمّة، مكرّراً فكرته في مواضع أخَر.

ويرى بعض خصوم منتظري أنّ ما حصل معه في آخر حياته كان بسبب وقوفه ضدّ الزهراء وكان انتقاماً لها.

ويتحدّث كثيرون أنّ فكرة منتظري هذه جاءت في سياق مشاريعه في الوحدة الإسلاميّة، لكنّ هذا الكلام غير دقيق؛ فإنّ منتظري لم يكن في سياق طرحه لهذا الموضوع آخذاً بالحسبان فكرة الوحدة الإسلاميّة، نعم ربما قال لا تثيروا القضايا الخلافيّة، لكن هذا التحليل لموضوع فدك لا يرتبط بالوحدة الإسلاميّة.

 


المحور الثالث: تحليل أسباب النزاع

بعيداً عن التصريحات المتبادلة بين أطراف النقاش هنا، يمكننا تحليل أسباب التوتر التي نشأت نتيجة موقف المنتظري هذا من قضيّة فدك بالقول إنّ منتظري لا ينكر أحقيّة أهل البيت في فدك، ولم ينكر أنّ الآخرين قد غصبوا فدكاً من أهلها، إذاً أين تكمن المشكلة معه ومع طريقته في تحليل المشهد؟

في تقديري المتواضع تكمن المشكلة الأساسيّة في الآتي:

أ ـ إنّ المنتظري معروف بمحاولة إعادة إنتاج أغلب القضايا المرتبطة بأهل البيت في سياقٍ سياسي، وهو من الذين اشتغلوا في العصر الحديث على جعل العديد من صلاحيات الأئمّة أو مختصّاتهم راجعةً إلى منصب الإمامة دون شخص الإمام. هذا النزاع ليس بسيطاً، فهو بالنسبة لمنتظري يمهّد الطريق أمام نظريّة السلطة الإسلاميّة في عصر الغيبة ويعزّز موقع ولاية الفقيه، بينما هو في منظور الخصوم يبعث على القلق بسبب تحييد شخوص الأئمّة، فما معنى ذلك؟

معنى ذلك أنّك عندما تقول ـ مثلاً ـ بأنّ إدارة المجتمع الإسلامي مُنحت للإمام، لا من حيث هو منصوصٌ ومعصوم، بل من حيث إنّه الأنسب في زمانه، فهذا يعني أنّ غير الإمام في زمن الغيبة ـ وفقاً للتصنيف الإمامي للتاريخ ـ سيُمنح منصب الإمامة، وعندما تقول بأنّ صلاة الجمعة واجبة في عصر الغيبة انطلاقاً من أنّ الشرط ليس هو حضور المعصوم المنصوص، بل حضور السلطة العادلة، فهذا يعني فكّ ارتباط صلاة الجمعة بالإمام المنصوص، وإعادة تشكيل ارتباطها بالسلطة العادلة، الأعمّ من المعصومة وغيرها، وهكذا عندما تقول بأنّ الجهاد الابتدائي أُعطي للمنصوص المعصوم من حيث كون سلطته سلطة شرعيّة عادلة، لا من حيث كونه منصوصاً معصوماً، فهذا يعني أنّ الجهاد الابتدائي قد فُكّ ارتباطه الحصري بشخص الإمام، وعندما لا يكون الخمس ملكاً شخصيّاً للنبيّ والإمام وبني هاشم، بل يعود كلّه لمنصب الإمامة، فسوف ينتقل تلقائياً لمنصب الإمام في عصر الغيبة، والذي يحتلّه الحاكم العادل، ولن نفكّر فيه على طريقة الأموال الشخصيّة للنبيّ وأقربائه.. سينتج عن هذه التشكيلة فكّ ارتباط العديد من الأشياء بشخوص الأئمّة بما لهم من سمات استثنائيّة، لجعل الخاصّية أوسع، وهي السلطة العادلة أو الإمام العادل الذي يكون أهل البيت أجلى وأبرز مصاديقه، لكنهم ليسوا مصاديقه الحصريّة الوحيدة في كلّ التاريخ.

عندما نأتي لتحليل منتظري لمسألة فدك سنكتشف أنّه من منظور الخصوم قد حَيَّد شخص الزهراء، فالزهراء ـ بما هي فاطمة الزهراء ـ ليس لها خصوصيّة في منح فدك لها، بل بوصفها أمّ الأئمّة وزوجة الإمام أُعطيت لها فدك لتكون ممرّاً لضمان وصول العوائد الماليّة لمنصب الإمامة ومشروعها. غالب الظنّ أنّ المعارضين لمنتظري بدوا قلقين من هذا النمط من التفكير؛ لأنّه يتخطّى شخوص الأئمّة أو مواقعهم ومناصبهم، فلو كانت مكان الزهراء امرأةٌ أخرى عادية، لربما أعطى النبيّ لها أرض فدك لتكون ممرّاً لوصولها للإمام، لا بشخصه أيضاً، بل بوصفه متكفّلاً لمنصب الإمامة. لاحظوا استفتاء المنتظري الذي أشرنا إليه قبل قليل، إنّه يتهمه بأنّه لا يعتبر أرض فدك مملوكة للزهراء، فيما منتظري يؤكّد أنّها ملك لها، غاية الأمر أنّها ملكيّة أُخذت على نحو الطريقيّة، بحسب تعبير علماء أصول الفقه الإسلاميّ.. إنّ الخصوم يفهمون من منتظري أنّه لم تعد للزهراء خصوصيّة هنا، الأمر الذي يصنّفونه تهديداً عقائدياً وتاريخياً، وإسقاطاً لواحدة من خصائص الزهراء وامتيازاتها عبر التاريخ.

إنّ مختلف القضايا السلطويّة والصلاحيات الممنوحة لأهل البيت في الأمّة ـ بعيداً عن امتيازاتهم الشخصيّة التكوينيّة ـ لن تعود حِكراً عليهم، بل ستعبُرهم نحو البدائل المفترضة في عصر الغَيبة، وهذا ما يشكّل قلقاً للتيار المذهبي السائد، كونه يشعر بأنّ هذه الطريقة تحمل تقليلاً من خصوصيّات الأئمّة وتميّزهم.

إنّ هذه الطريقة في التفكير عندما تطبّق على قضية فدك تعني أنّ المعركة ليست بين أبي بكر وفاطمة بشخصيهما، بل بين الإمامة غير الحقيقيّة والإمامة الحقيقيّة. إنّ عملية التجريد هذه لا يحبّها أنصار التيار المذهبي السائد وتبدو بالنسبة إليهم مقلقة في تداعياتها المستقبليّة. إنّ تفسير المنتظري قد يُلغي ـ من وجهة نظر خصومه ـ كلّ تراجيديا النزاع بين فاطمة وأبي بكر من وجهة نظر الخصوم، فلم يعد يمكن بسهولة الحديث عن غصب ابنة بنت النبي حقّها؛ لأنّ روح الموضوع تتعالى عن تصوير المشهد بهذه الطريقة الشخصيّة، بل هي صراعٌ سياسي على أمر "مالي ـ سياسي" بامتياز.

وهنا يظهر الفرق بين مثل المنتظري في قراءة خصومه له، ومثل السيّد محمّد باقر الصدر في دراسته حول فدك، فالصدر حافظ على كلّ المنظومة التاريخيّة التي يطرحها الشيعة في قضيّة فدك، لكنّ التغيير الأساس الذي أدخله كان في أنّ الزهراء استخدمت قضيّتها لأغراض سياسيّة عليا، وهي نصرة قضيّة الإمامة، فهي حوّلت النزاع من نزاعٍ على ملكيّة أرض، إلى نزاع سياسي وعقائديّ يبرز المظلوميّات التي تعرّضت هي وأهل البيت لها، فمطالبتها بفدك ـ من وجهة نظر الصدر ـ كانت وسيلة سياسيّة لإثبات مظلوميّتها وأهل البيت، وفضح عدم شرعيّة السلطة القائمة، وهناك فرقٌ بين أن تستخدم قضيّتك لنصرة قضيّة الإمامة، وأن لا تكون لديك قضيّة أصلاً، وإنّما القضيّة هي بالأساس قضيّة أموال الإمامة نفسها.

أقول: غالب الظنّ أنّ خصوم المنتظري كانوا قلقين من هذه الطريقة في التفكير، وربما رأوا فيها سحباً للبساط أمام أنصار تراجيديا النزاع بين أبي بكر وفاطمة.

ب ـ ربما يكون قلق المعارضين لمنتظري قد أتى من زاويةٍ أخرى أيضاً، وأرجو الانتباه لها جيّداً، وهي أنّ هناك طريقتان في نقد السلطة التي كانت قائمة آنذاك (أبي بكر وعمر وعثمان):

الطريقة الأولى: فتح جميع الملفّات والأعمال التي قاموا بها وانتقادها واحداً بعد الآخر، فمثلاً غيّر عمر الحكم الفلاني فنقول بأنّ هذا اجتهاد في مقابل النصّ، ولم يساوِ في العطاء فهذا منه اجتهادٌ في مقابل النصّ، وهكذا، بهذه الطريقة ـ وهي الأكثر شيوعاً بين الشيعة الإماميّة ـ تكون كميّة الأخطاء والجرائم التي ارتكبها الخلفاء الثلاثة الأوائل هائلة، الأمر الذي يقع في مصلحة النزاع المذهبي لتقوية وجهة نظرٍ على أخرى.

الطريقة الثانية: أن نقول بأنّ أبا بكر مثلاً ارتكب جنايةً كبرى، وهي غصب الخلافة، لكن انطلاقاً من كونه كان يعتقد بأنّه خليفة، فإنّ الكثير من سلوكيّاته يمكن تبريرها انطلاقاً من سلطة الخليفة وفق فقه المصلحة، فكما يقول أنصار ولاية الفقيه المطلقة اليوم بأنّ الحاكم يمكنه تعطيل الحجّ إذا رأى مصلحةً في ذلك، كذلك يمكن الدفاع عن عمر بن الخطاب في إيقافه سهم المؤلّفة قلوبهم انطلاقاً من أنّ هذه الأموال هي أموالٌ عامّة، ومن ثم فقرارها بيد الوالي فيما يراه من مصالح المسلمين، وهنا قد يخطأ وقد يصيب في قراره، لكنّه على أيّة حال يملك هذا الحقّ.

إنّ خصوم المنتظري اعتبروا ـ في غالب الظنّ، ونحن هنا نقوم بعملية تحليل ـ أنّ طريقة تحليل منتظري للموضوع تعني الإقرار بأنّ هذا المال ـ أعني أرض فدك ـ هو ملك للدولة، وليس ملكاً لشخص الزهراء، فهو في روحه ملكيّة غير فرديّة، ومن ثمّ فأبو بكر مارس حقّه الطبيعي في مصادرة هذا المال؛ كونه الوليّ الشرعي على أموال الدولة. وجريمته كانت في غصبه مقام الإمامة، لكن لو غضضنا الطرف عن ذلك فإنّ سلوكه هذا هو في نفسه صحيح أو على الأقل يمكن للسنّي أن يصحّحه ويبرّره على وفق طرح منتظري، وهذا من شأنه فتح الطريق لتبرير بعض أعمال الخلفاء ومساعدة المذاهب الأخرى في جعل نقدنا للخلفاء غير محكم وغير قوي.

في مقابل هذا التخوّف كلّه، لا يرى منتظري وأنصاره أنّ ما قاله يمثل قلقاً إطلاقاً، فهو من جهة حافظ على ملكيّة الزهراء لفدك، وفي الوقت نفسه فهم هذه الملكيّة على أنّها علاقة ثلاثيّة بين النبيّ وفاطمة والإمامة، وهذا من شأنه إبعاد التهمة الشيوعيّة عن النبيّ ـ من جهة أولى ـ وتفسير سبب إعطاء هذا المال الوفير لابنته، كما أنّه يُفهمنا ـ من جهة ثانية ـ خطط النبيّ لمرحلة ما بعد رحيله في تثبيت مشروع الإمامة.

هذا التنوّع في مقاربة القضايا أثناء تحليل التاريخ وسيرة النبيّ وأهل البيت هو ما يهمّني هنا، إنّ حدثاً واحداً في التاريخ يتفق عليه شخصان لكنّهم يختلفون في كيفيّة فهمه وتحديد زواياه وبواعثه ومنطلقاته، وهذا هو حجر الزاوية في ما يعرف بدراسة السيرة دراسة تحليليّة، وليس دراسة سرديّة تاريخيّة خالصة.

هذا، ولكنّ نقّاد المنتظري لم يكونوا جميعاً أصحاب نزعة فكريّة واحدة، بل إنّ شخصيّات في الفكر الإصلاحي الديني انتقدت منتظري على قراءته، ويمكنني أخذ عيّنة واحدة هنا، وهي تحليل الباحث حسن يوسفي الأشكوري لقضيّة فدك، حيث انتقد ـ في دراسة له تحت عنوان "داستان فدك/قصّة فدك"، نشرها موقع "زيتون" الالكتروني ـ سلسلةَ تفسيرات لها، ومنها تفسير المنتظري، معتبراً أنّ تفسير المنتظري لا يقدّم أيّ دليل عقلي أو نقلي، بل يعتمد على فرضيات صرفة واعتقادات دينيّة أيديولوجيّة من نوع العصمة والعلم الغيبي.

 


كلمة أخيرة

ولكي أختم هنا أشير إلى أنّني لست بصدد الانتصار لهذا الفريق أو ذاك، رغم أنّني أجد أنّ طرح الشيخ المنتظري يحتاج للمزيد من التعميق، وأنّ هذا المقدار من الشواهد غير كافٍ، وبخاصّة أنّ النصوص التاريخيّة التي اعتمد عليها قابلة، في نسبة لا بأس بها منها، للنقاش الواسع في قيمتها التاريخيّة من جهة ـ كرواية ابن شهر آشوب ورواية الكافي ـ وفي دلالاتها من جهة ثانية، فتعبير «كانت في أيدينا فدك» ليس واضحاً في نفي الملكية الفرديّة وإثبات السلطنة خاصّة، ولست هنا في معرض بحث فقهي في تحليل هذا الموضوع، كما أنّ بعض النصوص التي استشهد بها ثمّة تناقض فيما بينها.

إنّ أهمّ ما نحتاجة اليوم هو الشعور بجماليّة التنوّع التحليلي للتاريخ والسيرة في العصر الحديث، وكيف أنّ العلماء والمفكّرين خرجوا، بدرجةٍ لا بأس بها، من السياق السردي النمطي القديم، إلى محاولات فهم مختلف ناتجة عن سياقات تفكير مختلفة، الأمر الذي نرجو أكثر فأكثر أن يتوسّع لفهم التاريخ بطريقة أكثر نضجاً إن شاء الله.

وأختم هنا بقصّة نقلها لي أحد السادة العلماء الأفاضل الذي كان حاضراً فيها، والعهدة على الناقل والعلم عند الله، حيث قال بأنّه سُئل أحد المجتهدين الكبار الأحياء اليوم في قم، وذلك في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، أثناء حضوره موسم الحجّ، سُئل عن الأعلم هل هو الشيخ المنتظري أو السيد السيستاني؟ فأجاب بأنّ الشيخ المنتظري أكثر اندماجاً وخبرةً في معرفة ذوق الأئمّة ومذاق التشيّع. ورغم أنّ هذا العالم الفقيه ليس موالياً لمشروع ولاية الفقيه، وليس من تلامذة الشيخ المنتظري أو مريديه، بل هو أقرب إلى مدرسة السيد السيستاني الفكريّة. ورغم أنّ توصيفه هذا قد يبدو غريباً لكثيرين، لكنّ ذلك في نهاية المطاف وجهة نظر علينا أخذها بعين الاعتبار قبل الاستعجال في الحكم على الناس.

وأهدف من نقل هذه القصّة إلى التأكيد على عدم الاستعجال في الحكم على الناس، واتهامهم بالبعد عن فهم أهل البيت أو أنّهم بعيدون عن روح التشيّع، فهذا الكلام لا ينبغي الاستعجال به مهما كانت الفكرة غريبة أو غير مألوفة بالنسبة إلينا، وبدلاً عن ذلك علينا أن نفهمها بطريقة التنوّع.

رحم الله علماء الأمّة الصالحين وحفظ الباقين منهم، ووفّقنا جميعاً للمشاركة في النهوض بالوعي الحقيقي في الأمّة، إنّه وليّ قدير.

______________________

([1]) هذا تقرير لمحاضرة ألقاها الشيخ الدكتور حيدر حبّ الله، في منتدى "الملتقى"، عبر تطبيق زووم، وذلك بتاريخ 16 ـ 12 ـ 2024م، ، وقد ساعد في كتابة التقرير السيد أيمن عبد الزهرة الموسوي، ثمّ قام الشيخ حبّ الله بمراجعته وإجراء بعض التعديلات والإضافات عليه.

([2]) لأنّ أرض فدك أعطاها اليهود لرسول الله بعد أحداث خيبر، وكانت مقابل إجراء مصالحة بين اليهود ورسول الله، وبهذا تكون من أموال الفيء.

([3]) راجع: علل الشرائع1 : 191.

([4]) دراسات في ولاية الفقيه 3: 331.

([5]) المصدر نفسه 3: 332.

([6]) المصدر نفسه 3: 332.

([7]) المصدر نفسه 3: 332 ـ 333.

([8]) مناقب آل أبي طالب 3: 435.

([9]) الكافي 1: 543.

([10]) نهج البلاغة: 417، تحقيق: صبحي الصالح.

([11]) رنجنامه: 14.