التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة الجمعة ـ القسم الثاني)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(2 ـ 1 ـ 2025م)
الفصل الثالث عشر
في صلاة الجمعة وفي فروعها
...
الثالث: صلاة الجمعة واجبة تخييراً، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر يوم الجمعة بين إقامة صلاة الجمعة إذا توفّرت شرائطها الآتية وبين الإتيان بصلاة الظهر، فإذا أقام الجمعة مع الشرائط أجزأت عن الظهر([1]).
________________________________
([1]) يعتبر الحديث حول شرعيّة ووجوب صلاة الجمعة ونوع هذا الوجوب، من أهمّ أبحاث صلاة الجمعة. وقد صنّفت في هذا المجال مجموعة كتب ورسائل مستقلّة، حتى أنّ الكثير ممن كتبوا في ذلك وقعوا في الإطناب والتطويل، وربما يرجع السبب ـ من جهة أولى ـ إلى كثرة الروايات الواردة في هذا الموضوع سلباً وإيجاباً حتى قيل بأنّها بلغت المائتي رواية، ومن جهة ثانية إلى كثرة الأقوال والأفكار بحيث كثر القيل والقال، الأمر الذي سبّب تضخّماً غير عادي في هذا الموضوع.
وقد كنتُ في سالف الأزمان، قبل حوالي ثمان وعشرين سنة ـ بعد حضوري بحث الخارج لأستاذنا العزيز الشيخ باقر الإيرواني حفظه الله في صلاة الجمعة ـ قد دوّنت رسالةً مختصرة في صلاة الجمعة ظلّت غير منشورة، وقد قمت بتعديلها وتطويرها محافظاً على الاختصار فيها؛ لنشرها هنا في هذه التعليقة، فنقول ـ ومن الله التوفيق ـ:
مقدّمات ضروريّة
لا نقاش بين فقهاء الشيعة في أنّ صلاة الجمعة واجبة في زمن الحضور، بصرف النظر عن نوع الوجوب، إنّما وقع الكلام في حكمها في عصر الغيبة، ويلزمنا هنا ـ قبل الشروع ـ ذكر بعض المقدّمات:
المقدّمة الأولى: إنّ بعض من تبنّى رأياً معيناً في هذه المسألة، أخذ موقفاً حادّاً من مخالفيه، حتى رماهم بمختلف أشكال التعنيف اللفظي.
يقول الشهيد الثاني في (رسائل الشهيد الثاني 1: 210): «وليس في هذه الأخبارِ مَعَ كَثْرَتِها تَعرّض لِشرطِ الإمامِ ولا مَن نَصَبَه، ولا لاعتبارِ حُضُورِه في إيجاب هذه الفريضةِ المُعَظَّمَةِ، فكيفَ يَسَعُ المُسْلِمَ الذي يَخافُ اللهَ تعالى إذا سمع مَواقِعَ أمرِ الله ورسولِه وأئمّتِه عليهم السلام بهذه الفريضةِ، وإيجابِها على كلّ مُسْلمٍ أن يُقَصّرَ في أمرِها، ويُهمِلَها إلى غيرِها، ويَتَعَلَّلَ بخلافِ بعضِ العُلَماءِ فيها؟! وأمر اللهِ تعالى ورَسُولِه وخاصّتِه عليهم السلام أحقّ، ومراعاتُه أولى، «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ». ولَعمري لَقدْ أصابَهُمُ الأمرُ الأوّلُ، فَلْيَرتَقِبُوا الثاني إنْ لم يَعْفُ اللهُ تعالى ويُسامِح. نسأل اللهَ تعالى العفوَ والرحمةَ».
ويقول المحقّق النجفي: «ولقد وقفت على جملة من الرسائل المصنّفة في المسألة نسجوا فيها على منوال هذه الرسالة، وقد أكثروا فيها من السبّ والشتم، خصوصاً رسالة الكاشاني التي سمّاها بالشهاب الثاقب ورجوم الشياطين، ولولا أنّه آية في كتاب الله لقابلناه بمثله، لكن لا يبعد أن تكون هذه الرسالة وما شابهها من كتب الضلال التي يجب إتلافها، اللهم إلا أن يرجّح بقاءها أنّها أشنع شيء على مصنّفيها؛ لما فيها من مخالفة الواقع في النقل وغيره، بل فيها ما يدلّ على أنّهم ليسوا من أهل العلم كي يعتدّ بكلامهم ويعتنى بشأنهم، ولو أنّ الشهيد يعلم وقوع هذه البلوى ما احتمل الوجوب في الذكرى، معترفاً بأنّ عمل الطائفة على خلافه. ومن ذلك ينبغي أن يترك الإنسان ذكر بعض الاحتمالات في المسائل القطعيّة ولو معلّقاً له على فقد القاطع، فإنّه ربما كان ضلالاً لغيره، ونسأل الله تعالى أن يكون ما صدر من هؤلاء من شدّة المبالغة في الوجوب، حتى حكي عن بعضهم أنّه لا يحتاط في فعل الظهر معها ناشئاً من حبّ الرئاسة والسلطنة والوظائف التي تجعل له في بلاد العجم، وإن كان قد يومي إليه أنّ أكثر الذاهبين إلى ذلك من أهل هذه النواحي، ولقد قيل: إنّ بعضهم كان يبالغ في حرمتها حال قصور يده ولما ظهرت له كلمة بالغ في وجوبها، بل يحكى عنهم أشياء كثيرة في أمثال ذلك، منها أنّه قد ورد علينا في أيام كتابة المسألة من هو في غاية الوثاقة من أصحابنا ممن تشرّف بزيارة سيدنا ومولانا الرضا×، فأخبرنا بوقوع فتنةٍ عظيمة في إصبهان على مسجد خاص لفعل صلاة الجمعة، وكلّ محلّة انتصرت لإمامها، وكان ما كان، والله العالم، نسأل الله العفو والعافية والستر في الدنيا والآخرة. وما أبرئ نفسي، إنّ النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، ولولا خوف الملل وكون المسألة من الواضحات، لنقلنا أكثر كلماتهم في هذه الرسائل، وأوقفناك على ما فيها من الفضائح والمعائب، ولكنّ الله ستّار يحبّ الستر..» (جواهر الكلام 11: 178 ـ 179).
هذا العنف في نوعية النزاع اضطرم أواره في العصر الصفوي؛ وذلك أنّ المحقّق الكركي وجماعة من الفقهاء الذين كانوا على صلة بالسلطة الصفويّة أرادوا منذ القرن العاشر الهجري إحياء الجمعة؛ كون الظروف الآن قد تغيّرت، ولا سيما بعد تفعيل فكرة النيابة العامّة للإمام، بمنح السلطان الصفوي شرعيّة إدارة البلاد من خلال إذن النائب العام، وهو الفقيه الجامع للشرائط، الأمر الذي أثار موجة جدل غير عادية في ذلك الوقت، وكتبت الردود والردود المضادّة. وفي العصر الحديث أيضاً؛ وبعد مدّة زمنية طويلة من تجاهل الشيعة لإقامة صلاة الجمعة، ظهر بعض العلماء الذين اشتغلوا على إقامتها، ومن بينهم الشيخ الخالصي في العراق، ثمّ بعد ذلك شاعت صلاة الجمعة بين الشيعة في إيران عقب انتصار الثورة عام 1979م، ثمّ أعاد تنشيطها في العراق أواخر القرن العشرين السيد محمّد محمّد صادق الصدر، كما أحياها في لبنان السيد محمّد حسين فضل الله.
المقدّمة الثانية: مما تقدّم نلتفت إلى أنّ الصراع كان فقهيّاً، لكن كان له وجهان خلفيّان في العمق:
أ ـ وجه سياسي، بمعنى أنّ مواقف الفقهاء من السلطة السياسيّة أو مواقفهم من العمل السياسي، كان لها دور إيجابي أو سلبي في تفاعلهم مع إقامة الجمعة في عصر الغيبة، وربما لهذا لم نجد السيد محسن الحكيم ـ وكان تيّاره على النقيض نسبيّاً من تيار الخالصي في العراق ـ يذكر، كما اليزدي في العروة، شيئاً عن صلاة الجمعة. ويمكن اعتبار هذا الجدل جزءاً من نقاشٍ أوسع حول دور الفقهاء في عصر الغيبة وإعادة تشكيل مفاهيم جديدة حول ذلك؛ انطلاقاً من المكانة المستجدّة التي حظي بها الفقهاء بعد تحويل مذهب الدولة الصفويّة إلى التشيّع الاثني عشري. وبهذا نكتشف أنّ تكوّن الدولة الصفويّة، مع ظهور مرحلة جديدة من دور الفقهاء، مع زيادة عدد الشيعة ومساجدهم في أراضي الدولة الصفويّة، وغير ذلك ساهم في تقوية فكرة عودة صلاة الجمعة، حتى أنّ بعض الإخباريّين ناصروا ذلك. ومن هنا نلاحظ أنّ بعض الفقهاء لما درسوا مسألة صلاة الجمعة تعرّضوا فيها لبحث ولاية الفقيه، كالمحقق الكركي وبعض من جاء بعده، وصولاً إلى السيد البروجردي والسيد محمّد محمّد صادق الصدر.
ب ـ وجه كلامي عقائدي، وهذا ظهر بقوّة أيضاً في العصر الصفوي، على أساس أنّ صلاة الجمعة من شؤون إمامة المعصوم، بما يعني أنّ إقامتها في عصر الغيبة هو نوع من غصب مقام الإمامة، وبهذا دخلت القضيّة حيّز علم الكلام، ولم تعد فقهيّةً خالصة، وبهذا تمّ الربط عند بعض الباحثين المتأخّرين بين تعطيل صلاة الجمعة والتفسير السلبي لفكرة انتظار الإمام المهديّ.
المقدّمة الثالثة: انقسم الموقف من حكم صلاة الجمعة إلى آراء عدّة بينها بونٌ شاسع، أوصلها بعض الفقهاء ـ كالشيخ مرتضى الحائري ـ إلى حوالي سبعة، لكنّ عمدتها:
1 ـ الوجوب التعييني، وقد ذهب إليه المحدث البحراني، وحاول أن يجمع له أنصاراً، فنسبه للمفيد والحلبي والكراجكي، وقام بنقل عبائرهم، بل نسبه إلى الكليني والصدوق أيضاً بحجّة ذكرهما للروايات الدالّة على رأيه على أساس التزامهما ذكر ما يريانه حجّة بينهما وبين الله تعالى، ومن المتأخّرين الذين قالوا بالوجوب التعييني الشيخ محمّد الصادقي الطهراني. وسيأتي تفصيلٌ في الوجوب التعيينيّ نفسه.
2 ـ الوجوب التخييري، وربما يكون هذا الرأي هو الرأي المشهور والمعروف وبخاصّة بين المتأخّرين والمعاصرين.
3 ـ الحرمة وعدم المشروعيّة، وقد نسب هذا الرأي إلى ابن إدريس وسلار والمرتضى والعلامة الحلّي في بعض كتبه والشهيد الأوّل في كتاب الذكرى. وهذا هو المنسوب للسيد محمّد الروحاني وغيره. وعلى أيّة حال فأنصار هذا القول قليلون نسبيّاً اليوم.
هذا، وقد ذهب السيد محمد محمد صادق الصدر إلى أنّ حكم صلاة الجمعة يختلف باختلاف الحالات، فإذا تحقّق فيها شرطان ـ وهما وجود الولي العام العادل أو من نصبه خصوصاً أو عموماً، ووجود خمسة أشخاص بينهم الإمام قاصدين لإقامة الجمعة ـ صارت الجمعة واجبة بالوجوب التعييني، وإذا وجد الشرط الأوّل ـ الولي العادل ـ دون الثاني كان وجوبها تخييريّاً، وإذا وجد الشرط الثاني دون الأوّل كان وجوبها تعيينيّاً على الأحوط وجوباً، وعبارته تحتمل أيضاً أنّ حالة وجود الشرطين معاً هي التي يحكم فيها بالوجوب التعييني على الأحوط وجوباً لا بنحو الفتوى، ومع عدم تحقّق الشرطين معاً فلا وجوب أصلاً مطلقاً.
كما أنّ السيد محمد صادق الروحاني قال: «الأحوط لزوماً لو لم يكن أقوى، تعيّن الظهر في زمان الغيبة وعدم إجزاء الجمعة عنه» (المسائل المنتخبة: 75). بل في (منهاج الصالحين 1: 253) قال صريحاً: «يتعيّن في زمان الغيبة أداء الظهر، ولا تجزي الجمعة عنها». ولا نريد أن نطيل في عرض كلمات الفقهاء هنا.
بعد هذه المقدّمات التمهيديّة الثلاث، يمكن البحث في هذه المسألة تارةً في ضوء الدليل الاجتهادي وأخرى الفقاهتي.
أوّلاً: المسألة في ضوء الدليل الاجتهادي
أمّا على مستوى الأدلّة الاجتهاديّة، فيلزمنا الوقوف مع الآية القرآنية ثم النصوص الحديثيّة، وذلك على الشكل الآتي:
المرحلة الأولى: النصّ القرآني وحكم صلاة الجمعة
الآية العمدة هنا هو قوله تعالى: >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ< (الجمعة: 9)، حيث استدلّوا على الوجوب التعييني بهذه الآية الكريمة، على أساس أنّها تأمر بالسعي إلى صلاة الجمعة فور تحقّق النداء، دون تقييد ذلك بحضور النبيّ أو الإمام المنصوص أو بأيّ قيد آخر، فيُفهم من إطلاقها الوجوب التعييني في عصرَي: الحضور والغيبة معاً.
ولكن ذكرت هنا ـ وقد تُذكر ـ مناقشات، كثيرٌ منها واضح الردّ، ونذكر ما هو المهمّ:
المناقشة الأولى: ما ذكره السيد الخوئي، من أنّ كلمة الذكر في الآية الكريمة: >فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله< تحتمل في المراد منها أمرين: الخطبة، ونفس الصلاة، ولا ثالث لهما ، وعلى كلا التقديرين، لا يكون الأمر بالسعي مسوقاً على نحو الوجوب، بل لا بدّ من حمله على الاستحباب؛ وذلك لأنّه على التقدير الأوّل ـ والذي نقل صاحب الحدائق إجماع المفسّرين عليه ـ يلزم الحمل على الاستحباب من باب قيام الإجماع على عدم وجوب حضور الخطبتين، فيكون الإجماع قرينة على أنّ الأمر بالسعي استحبابيٌّ. وأما على التقدير الثاني، فلأنّه من المعلوم والمسلّم أنّه يمكن إدراك صلاة الجمعة حال الركوع، ولا يلزم الكون في أوّل الصلاة، وعليه فلا يجب على المكلف الإسراع إلى الصلاة لدركها، بل له التأخير إلى زمان الركوع جزماً، ومعه لا يكاد يمكن أن يكون الأمر في الآية الكريمة وجوبيّاً، وإلا لزم الحضور وإدراك الصلاة من البداية، وهو الأمر المسلّم عدمُه. وعليه فالأمر في الآية استحبابيّ وليس وجوبيّاً (شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة 1: 17 ـ 18).
لكن يمكن أن يجاب عن هذه المناقشة:
أولاً: إذا أخذنا بالتقدير الأوّل، فلم يثبت وجود إجماع هنا؛ لأنّ الفقهاء بين من أهمل الحديث في صلاة الجمعة تماماً كبعض متأخّري المتأخرين كالسيد اليزدي في العروة، ومن تعرّض لها باحثاً عن مسألة التكلّم أثناء الخطبة وما يقرب من هذا الموضوع دون التعرّض أصلاً لفكرة لزوم حضور الخطبتين، وأقصى ما ذكره هو تصحيح الصلاة مع عدم حضور الخطبتين، وهذا أجنبيٌّ عن معقد الإجماع المدّعى من قبل السيد الخوئي؛ لإمكان الالتزام بالوجوب التكليفي بالحضور مع الحكم بصحّة الصلاة بدونه، لعذرٍ أو لغيره. بل إنّ الآية ظاهرة الدلالة على لزوم الحضور فور تحقّق النداء، فما هو الموجب للتخلّي عن هذه الدلالة الواضحة في نصٍّ قرآني؟! وعليه، فدعوى الإجماع غير واضحة صغرويّاً، ولو سلّمت فمحتمل المدركيّة.
ثانياً: إذا أخذنا بالتقدير الثاني، فيمكن القول بأنّ إدراك الجمعة وإن كان ممكناً حال الركوع، إلا أنّ ذلك لا يدلّ على عدم وجوب الحضور من البداية، إذ لعله لازم، بظاهر الآية، غايته أنّ من لم يحضر لعذره أو لغيره، فلا مانع له من إدراك الجماعة في الصلاة. والآية واضحة في أنّها تريد بالسعي التحفّظ على إدراك الجمعة، بمعنى أنّه بمجرّد تحقّق النداء عليكم الحرص على أن تكونوا موجودين في وقت الصلاة. وبعبارة أخرى: السيد الخوئي فهم من لزوم السعي إلى الصلاة هو إدراكها جماعةً، مع أنّ ظاهر الآية لزوم السعي للصلاة كلّها، فوقع منه خلطٌ بين كفاية الجماعة بإدراك الركوع وكون المطلوب هو حضورك للصلاة الظاهر في كليّتها، بصرف النظر عن فقه باب الجماعة.
المناقشة الثانية: ما أفاده الخوئي أيضاً، من أنّ ذيل الآية يشكّل قرينة على حمل الأمر الوارد فيها على الاستحباب، فإنّه جاء فيها: >ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ<، على أساس أنّ كلمة «خير» لا تستعمل في المصطلح القرآني في مقابل الشرّ، بل تختزن قوّة أفعل التفضيل، فهي بمعنى أخَير وأحسن وأفضل، وعليه، تكون دالّة على وجود خير في ترك السعي للجمعة، وهذا لا ينسجم مع الوجوب. كما أنّه لو كان المقصود هو الوجوب لكان الأنسب هو التحذير من النار، فمثل هذا السياق لا يكاد يفهم منه الإلزام بخلاف سياق الوعيد، فلا بدّ من حمل الأمر بالسعي على الاستحباب.
ويجاب عنها أيضاً:
أوّلاً: إنّ كلمة "خير" في القرآن الكريم لم تستعمل في معنى التفضيل دائماً، بل ورد استعمالها في كلا المعنيين:
أمّا بمعنى أَخْيَر، فله شواهد عديدة، كقوله تعالى: >إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُم< (البقرة: 271)، وكقوله سبحانه: >وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ< (البقرة: 280).
وأما بمعنى ما قابل الشر، فله أيضاً شواهد عديدة، كقوله تعالى: >وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ< (الأعراف: 85). فإنها لم تستعمل بمعنى ـ أخْيَر ـ وإلا لزم كون البخس والإفساد خيراً، وهو واضح البطلان. وكقوله تعالى: >وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ الله بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ< (التوبة: 3)، فإنّ استعمالها هنا لو كان بمعنى ـ أَخْيَر ـ للزم كون عدم التوبة خيراً. وكقوله سبحانه: >انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ< (التوبة: 41)، ومن الواضح أنّها لو استعملت في غير ما قابل الشرّ للزم كون عدم الجهاد والنفر خيراً أيضاً! وعليه فلا يصحّ ما ذكره السيد الخوئي من غياب الخير بمعنى ما قابل الشر عن التداول القرآني. إلا إذا قيل بأنّ الخير هنا هو الخير الدنيوي الموهوم.
قد تقول: إنّه وإن لم يصحّ كلام السيد الخوئي، لكن على الأقلّ تصبح جملة «خير لكم» محتملة القرينيّة على الاستحباب في الآية، فيسقط الاستدلال بها.
والجواب: إنّ هذا صحيح، لكن يمكن أن يضاف هنا أنّه لو كان الخير هنا بمعنى الأفضل، فهو لا يصلح قرينةً على الاستحباب؛ لأنّ الآية ناظرة لخيريّة صلاة الجمعة في مقابل الخير الدنيوي الذي هو عبارة عن التجارة، فكأنّها تقول بأنّ التجارة فيها خيرٌ لكم ورزق، لكنّ الصلاة فيها خير أعظم، فافعلوها، وهذا لا يصلح قرينةً أساساً على كون الأمر بفعلها يراد منه الاستحباب، فهو مثل تحريم الخمر، فإنّ فيها منافع ومع ذلك هي محرّمة، فيصحّ فيها أن يقال: إنّ في الخمر خيراً لكنّ في تركها خيراً أكبر، فتركها لازم.
ثانياً: إنّ ما ذكره السيد الخوئي لاحقاً لا شاهد له، بل الشاهد عليه، فإنّ الآيات التي ذكرناها تصلح شاهداً على عدمه من جهة أنّ الأمر فيها سيق للوجوب مع عدم التحذير فيها بالنار والعذاب.
ونستنتج من ذلك أنّ كلمة «خير» الواردة في الآية الكريمة لا تصلح قرينة على استفادة الاستحباب، بل هي حياديّة تجاه ذلك، فلا موجب للتخلّي عن ظهور الآية في الوجوب.
المناقشة الثالثة: إنّه ليس في الآية الكريمة ـ لو خُلّيت ونفسها ـ أيّ إشارة لكون النداء لصلاة الجمعة، فأساساً فكرة صلاة الجمعة ليست موجودة في هذه الآية الكريمة، إنّما الموجود هو الصلاة يوم الجمعة، ومن الممكن أن تكون صلاة الظهر، فلا تكون في الآية دلالة على أصل فكرة صلاةٍ باسم صلاة الجمعة مغايرة لصلاة الظهر، بل لعلّه لقائلٍ أن يقول: إنّه لا تعيين لأيّ صلاة، فلعلّ المراد صلاة العصر أو صلاة الصبح يوم الجمعة، أو أيّ صلاة يؤتى بها يوم الجمعة.
وهذه المناقشة تتعامل مع الآية في حدّ ذاتها بصرف النظر عن أيّ سياق خارجي، فتكون بهذه الملاحظة صحيحة، ولهذا تحتاج لتخطّيها إلى إعادة تشكيل سياقاتها الحافّة، مثل:
أ ـ إثبات أنّه في زمان نزول الآية الكريمة كانت صلاة الجمعة ـ بالمعنى الخاصّ ـ قائمةً ومتعارفة، بحيث ينصرف إليها المعنى، وهو ما تساعد عليه الروايات التاريخيّة التي تقول بأنّ صلاة الجمعة شرّعت أثناء مسيرة النبيّ وهجرته من مكّة إلى المدينة، بل بعضها ـ كخبر ابن عباس الذي رواه الدارقطني ـ قبل ذلك، وأنّها أقيمت في المدينة قبل الهجرة، وأنّ أوّل من جمّع فيها هو مصعب بن عمير بأمرٍ من النبيّ، ولم يكن يمكن للنبيّ نفسه إقامتها في مكّة.
ب ـ أو نقول بأنّ الآية الأخيرة من سورة الجمعة تفيد أنّهم يتركونك قائماً وينصرفون للتجارة، ومع افتراض أنّ المراد بالقيام هنا هو القيام للخطبة، كما قد يفهم من بعض النصوص والكلمات، يصبح هذا مرجّحاً قرآنيّاً داخليّاً على أنّ المراد من الصلاة يوم الجمعة هو صلاة الجمعة نفسها.
وهذا كلّه يمكن أن يضاف إليه أنّه لا يوجد عين ولا أثر لغير صلاة الجمعة هنا في التاريخ، بل العكس هو الموجود كما ألمحنا، ولو كان المراد غير صلاة الجمعة لربما ظهر ذلك مع أنّه لا مؤشر إطلاقاً على شيء من هذا القبيل تاريخيّاً.
المناقشة الرابعة: ما ذكره غير واحدٍ، من أنّه لا دلالة في الآية على الوجوب التعييني لصلاة الجمعة؛ لأنّها عبارة عن قضيّة شرطيّة أخذ في شرطها النداء للصلاة، فيمكن أن يُستفاد منها وجوب الحضور بعد تشكيل الجمعة من قبل جماعة من المؤمنين، لكنّها لا تدلّ على لزوم تشكيلها على المؤمنين، وعليه يمكن دعوى دلالة الآية على وجوب الجمعة بملاحظة مرحلة البقاء دون الحدوث، وهذه الدلالة بهذا المقدار لا تكاد تنتج الوجوب التعييني لصلاة الجمعة.
لكن يمكن الجواب عنه بأنّه من المعلوم بين المسلمين عصر نزول الآية الكريمة تحقّق النداء للصلاة في يوم الجمعة، فإنّ الأذان كان يرفع باستمرار بين المسلمين في العصر النبوي المدني، وبهذا لا يكون مقصود الآية فرض شرطٍ لوجوب الصلاة أو الحضور، بل هو مسوق لبيان تحقّق الموضوع، وهو أنّه يلزمكم حضور صلاة الجمعة عندما تجب يوم الجمعة بحلول وقتها، فالنداء في الآية أخذ على نحو الطريقيّة لتحقّق الزوال يوم الجمعة، ومن الطبيعي أنّه يريد حثّهم على الحضور فوراً وعدم التأخير فوَضَعَ شرط النداء، فهذا أقرب من فرضيّة أنّ وجوب الحضور مشروط بالنداء، فلو صادف مثلاً أنّه لم يؤذّن المؤذّن لصلاة الجمعة سقط وجوب الحضور!
المناقشة الخامسة: وهي تطوير للرابعة، ضمن صيغةٍ لها علاقة بضم الآيات لبعضها مع فرضيّةٍ تاريخيّة، وذلك أنّ الآية الأخيرة تعطي أنّ هؤلاء كانوا يتركون الصلاة عند مجيء القوافل أو بعض المناسبات اللهويّة، ومن المحتمل أنّ توقيت مجيء هذه القوافل كان يوم الجمعة، كما تؤكّده روايات أسباب النزول من أنّ دحية بن خليفة الكلبي كان يسافر إلى الشام ويأتي بمال التجارة إلى المدينة وأنّه عندما كان يصل كان يضرب على الطبل حتى يخبر الناس بقدوم قافلة التجارة، فلما سمعوا صوت الطبل خرجوا من المسجد تاركين النبي قائماً يخطب، فمن هنا جاء الحديث في الآية عن يوم الجمعة لا لخصوصيّة دينية في هذا اليوم، بل لكون الحدث ـ وهو تركهم النبيّ قائماً وذهابهم للهو والتجارة ـ كان قد حصل أو تكرّر في هذا اليوم نتيجة مصادفة وقت مجيء قافلة التجارة مع صلاة الظهر أو الجمعة مثلاً، وعليه، فلا تكون الآية ناظرة لخصوصيّة صلاة الجمعة، بل لتطبيق وجوب صلاة الجماعة على الصلاة جماعة يوم الجمعة، نتيجة الحدث الاستثنائي الذي طال هذه الصلاة، فكأنّ صلاة الجماعة في المسجد كان أمراً واجباً أو كان متعارفاً بين المسلمين ومرغوباً فيه، وأنّ بعض المسلمين كانوا يتركون هذه الصلاة يوم الجمعة لمصادفة مجيء تجاراتهم ونحو ذلك، فنزل الحديث عن هذه الواقعة، ومعه لا خصوصيّة لصلاة الجمعة هنا بل لا إشارة إليها بعنوانها. وما يؤكّد ما نقول هو أنّ كلّ الفكرة في الآيات الأخيرة من سورة الجمعة ليست متركّزةً على وجوب صلاة الجمعة، بل على ذمّ ترجيح المصالح الدنيويّة على الأخرويّة، ولهذا قال لهم بعدها بأنّه إذا انتهت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله، فكأنّه يواجه حدثاً رجّحوا فيه الدنيا على الآخرة، فذمّهم وأراد تقويم اعوجاجهم.
وهذه المناقشة مبنيّةٌ إمّا على وجوب صلاة الجماعة مع النبيّ، أو على ذمّ ترك الجماعة مع النبيّ لمصالح تجاريّة، ولهذا رأينا الخصوصيّة المتحدّثة عن شخص النبيّ «وتركوك قائماً»، وإلا فلا تثبت هذه المناقشة كما هو واضح.
بل حتى لو تغاضينا عن هذه المناقشة بهذه الصيغة، فإنّه يمكن تطويرها بالقول بأنّ غاية ما تدلّ عليه الآية هو ذمّهم على ترك صلاة الجمعة لمصالح التجارة، فليست الآية بصدد تشريع الجمعة حتى تكون في مقام البيان من حيث الشروط أو هويّة التكليف في الجمعة، حتى نتمسّك باطلاقها لإثبات الوجوب التعييني مطلقاً، بل هي تفرض جمعةً صحيحة، وتقول بأنّ تركها بعد انعقادها صحيحةً لمصالح دنيويّة مذموم، فهذا مثل الأمر بالتوجّه لصلاة الظهر عند الأذان، وعدم تركها لأجل المال، فإنّه لا يمكن الاستفادة من إطلاقه لنفي شروط أو قيود في وجوب صلاة الظهر قد تكون ثابتةً من قبل.
وخلاصة المناقشة الخامسة أنّ الآية إما غير واضحة في دلالتها على وجوب صلاة الجمعة بعنوانها، أو ـ على تقديره ـ أنّها لا تعيّن نوع هذا الوجوب، وأنّه تعييني أو تخييري، ابتدائي أو بقائي، وما هي شروطه وقيوده ونحو ذلك.
وبهذا يتبيّن أنّ الآية الكريمة غير دالّة على الوجوب التعييني في مرحلة الحدوث على الأقلّ، وهي بمعناها هذا شاملة لزمنَي: الحضور والغيبة.
المرحلة الثانية: صلاة الجمعة في السنّة الشريفة
قبل الحديث عن النصوص الروائيّة التي تقف لصالح كلّ طرف من الأطراف المتنازعة هنا، من الضروري تقديم مقدّمة بالغة الأهميّة في فهم السياقات التاريخيّة لهذه النصوص عن أهل البيت النبوي، وقد أجاد السيد البروجردي في بيان ذلك، وسأكتفي بنقل نصّه ـ على طوله ـ لأهميّته وجودته، فقد قال رحمه الله: «اعلم أنّ هاهنا نكتة تاريخيّة تكون بمنزلة القرينة المتصلة للأخبار الصادرة عنهم ـ عليهم السلام ـ فيجب التوجّه إليها في فهم مفاد الأخبار، وهي أنّه لا ريب في أنّ رسول الله ‘ كان بنفسه يقيم الجمعة ويعقدها، وبعده أيضاً ما أقامها إلا الخلفاء والأمراء ومن ولّي الصلاة من قبلهم، حتى وصلت النوبة إلى أمير المؤمنين علي×، فكان هو أيضاً كذلك، وكان من سيرتهم جميعاً تعيين أشخاص معيّنة لإمامة الجمعة في البلدان، وإن كان الغالب تعيين الحكّام لها، فكان عقدها وإقامتها من مناصبهم الخاصّة، ولم يعهد في عهدهم إقامة شخص آخر لها، بدون إذنهم حتى في عصر خلافة عليّ×، وهكذا كان سيرة الخلفاء غير الراشدين من الأمويّة والعباسيّة، فكان ينظر ويرى كلّ واحد من آحاد المسلمين أنّه كلّما أقبل يوم الجمعة حضر الخليفة بنفسه أو نائبه، لإقامتها واجتمع الناس وسعوا إليها ولم يروا قطّ أحداً يعقدها باختياره. فهذه السيرة والطريقة كانت مشهودة للمسلمين مركوزة في أذهانهم حتى لأصحاب أئمّتنا ـ عليهم السلام ـ فالأخبار الصادرة عنهم ـ عليهم السلام ـ قد ألقيت إلى أشخاص قد شهدوا هذه الطريقة من الخلفاء وعمّالهم ومن الناس في الجمعات وارتكزت هذه الطريقة في أذهانهم من الصغر، وقد استمرّ سيرة السلاطين بعد الخلفاء أيضاً على إقامة الجمعة بأنفسهم وعلى نصب أشخاص خاصّة لها، حتى أنّ السلطان إسماعيل الصفوي قد مال إلى إقامتها في قبال العثمانيّة، وكانت الصفوية يعيّنون أشخاصاً خاصّة لإقامة الجمعة في البلدان، وكان إمامة الجمعة من المناصب المفوّضة من قبلهم، وهكذا كان سيرة القاجارية؛ ولأجل ذلك كان في كلّ بلد شخص خاصّ ملقّباً بلقب إمام الجمعة. والحاصل أنّ إقامة الجمعة وإمامتها منذ عهد الرسول‘ إلى زماننا هذا كانت من مناصب سلطان المسلمين ومن بيده أزمّة أمورهم أو المنصوبين من قبلهم. وقد نقل في نفائس الفنون أنّ السلطان خدابنده بنى في سلطانيّة قزوين مدرسة كان يدرّس فيها خمسة من الفقهاء بالمذاهب الخمسة، منهم العلاّمة بمذهب الشيعة، ثمّ حضر السلطان يوماً من الأيام لإمامة الجمعة، فسأل العلماء بعد اجتماعهم عن وجه وجوب الصلاة على الآل، ثمّ قال: لعلّ النكتة فيه أنّ الله تعالى أراد عدم نسيان الآل وكونهم في ذكر الناس حتى يرجعوا إليهم (انتهى). فيعلم من ذلك أنّ السلطان خدابنده كان بنفسه يقيم الجمعة مع حضور العلماء والفقهاء. وكان سيرة الأمراء والحكّام بناء المسجد الجامع قرب دار الإمارة فكان دار الإمارة والمسجد الذي تقام فيه الجمعة متقاربين، كما هو الحال في مسجد الكوفة، كان في كلّ مصر مسجد واحد يسمّى عند العرب بالمسجد الجامع، وعند العجم بمسجد الجمعة، وأغلبها باقٍ إلى زماننا هذا، ولم يعهد بناء الجامع في القرى، حيث إنّ إيران كانت من توابع العراق، وكان فقيه العراق أبا حنيفة وهو ممن يخصّ إقامة الجمعة بالأمصار وينكر مشروعيّتها في القرى، وقد كان إقامة الجمعة في المسجد المعدّ لها في كلّ مصر من خصائص شخص خاصّ عيّنه خليفة الوقت لذلك. هكذا كان سيرة النبيّ‘ والخلفاء والأمراء والمسلمين من عهد النبيّ‘ إلى اليوم» (البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر: 16 ـ 18).
بعد هذه المقدّمة، نعود لأصل البحث، فعند مراجعة نصوص الفقهاء والروايات الواردة في المقام، نجد أنّه يفترض طرح البحث ضمن جهاتٍ أربع:
الجهة الأولى: الوجوب التعييني الابتدائي والبقائي
والمقصود به أنّه يجب عقد صلاة الجمعة ابتداءً ولو في عصر الغيبة، فعلى المؤمنين السعي لتشكيل صلاة الجمعة (الوجوب التعييني الابتدائي)، فضلاً عن وجوب الانضمام إليها لو تشكّلت (الوجوب التعييني البقائي). وهذا هو المعروف بين أهل السنّة فإنّها كصلاة الظهر يوم الخميس مثلاً واجبٌ تعييني يلزم تحقيقه، غاية الأمر أنّ صلاة الجمعة لها شروط، فيلزم تحقيقها ومراعاتها. ولهذا يداوم أهل السنّة على صلاة الجمعة، حتى أنّ الكثير من الناس الذين قد لا يصلّون أو لا يأتون المساجد، يحافظون على اهتمامهم بالاجتماع لصلاة الجمعة، كما هي الحال مع صلاة العيد أو صوم شهر رمضان، وهكذا.
هذا الوجوب التعييني، أمّا البقائي منه، فهو عينيٌّ، وليس كفائيّاً، وأمّا الابتدائي منه فقد يقال بأنّه وظيفة السلطة الشرعيّة أو هو واجبٌ كفائيّ على المسلمين جميعاً، كما قال به بعضٌ، فانتبه.
وقد ذكر أمثال المحدّث البحراني مجموعة من الروايات التي أكّدوا على دلالتها على الوجوب التعييني بهذا المعنى، وأهمّها:
الرواية الأولى: خبر زرارة، عن أبي جعفر الباقر×، قال: «فرض الله عزّ وجل على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة منها صلاة واحدة فرضها الله عز وجلّ في جماعة، وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة: عن الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمرضى والأعمى ومن كان على رأس فرسخين».
فهذه الرواية وردت فيها كلمة "الناس" مطلقة، وليست مختصّة بزمن الحضور أو بغير ذلك من القيود، وإلا لجرى تقييدها بذلك، فبمقتضى الإطلاق يثبت وجوب الجمعة بلا فرق بين زمنَي: الحضور والغيبة. ومما يقوّي ذلك أنّ الرواية ذكرت مجموعةً من المستثنيات كالصغير والمجنون وغيرهما، فلو كان المعاصرون لزمان الغيبة خارجين عن الإطلاق والوجوب، للزم ذكرهم في المستثنيات أيضاً، فإنّها في مقام البيان من هذه الجهة. وقد أقرّ حتى السيد الخوئي بدلالة هذه الرواية بعد إقراره بصحّتها سنداً.
الرواية الثانية: خبر زرارة الآخر، عن أبي جعفر الباقر×، قال: «صلاة الجمعة فريضة، والاجتماع إليها فريضة مع الإمام، فإن ترك رجلٌ من غير علّة ثلاث جمع، فقد ترك ثلاث فرائض، ولا يدع ثلاث فرائض من غير علّة إلا منافق».
فهذه الرواية جعلت الاجتماع للجمعة فريضة، وهذا تعبير ظاهر الدلالة على لزوم تشكيل الجمعة، فلها دلالة على الوجوب التعييني حتى بملاحظة مرحلة الحدوث، فإنّ الاجتماع لها هو تشكيلها، وبضميمة ذلك مع الإطلاق الموجود في الرواية الشامل لزماني الحضور والغيبة يثبت المطلوب. وبمضمون هذه الرواية توجد روايات أخَر.
وربما يعلّق هنا بأنّ الرواية قيّدت الاجتماع بكونه مع الإمام، وفي المراد منه احتمالان:
أحدهما الإمام المنصوص من الله، وعلى هذا الاحتمال لا تعود للرواية دلالة أصلاً على المدّعى بملاحظة زمان الغيبة، هذا إذا لم يحاول بعض الاستفادة منها في إثبات العكس، كما حصل بالفعل ولو عبر المفهوم. والنتيجة إنّ هذه الرواية يتوقف الاستدلال بها على تحليل مفهوم الإمام، وسيأتي إن شاء الله.
وثانيهما أن يكون المراد إمام الجماعة، وعلى هذا الاحتمال يفترض في مرحلة مسبقة وجود جماعة حتى يصحّ فرض إمامٍ لها، وعلى هذا الأساس لا دلالة في الرواية على لزوم العقد الابتدائي للجمعة، كما هو المراد من الاستدلال هنا.
ويجاب بأنّ الرواية بيّنت أوّلاً كون صلاة الجمعة فريضة، وبيّنت ثانياً لزوم الاجتماع إليها مع الإمام، فهي قد بيّنت: فريضة الجمعة وفريضة الاجتماع لها مع الإمام، فإذا لم يكن المراد بالإمام هنا الإمام المنصوص، فستكون واضحةً في لزوم صلاة الجمعة ووجوب عقدها مع إمام، لا أنّ إمام الجماعة شرطٌ في وجوبها، بل المقصود وجوب الجماعة فيها.
الرواية الثالثة: خبر أبي بصير ومحمّد بن مسلم، قالا: سمعنا أبا جعفر محمّد بن علي×، يقول: «من ترك الجمعة ثلاثاً متواليات بغير علّة طبع الله على قلبه». ودلالتها صارت واضحة، وبمضمونها روايات عدّة عند السنّة والشيعة.
وقد لاحظ أستاذنا الإيرواني على الاستدلال بهذه الرواية أنّها ساكتة عن الوجوب التعييني للعقد الابتدائي، حيث إنّها حيادية تجاهه، فكما يمكن أن تنسجم معه، كقولنا: «من ترك صلاة الظهر ضرب»، حيث له ظهور في لزوم تحقيق صلاة الظهر، كذا يمكن أن لا تدلّ عليه، كقولنا: «من ترك زيارة عالمٍ من العلماء شهراً عوقب»، حيث لا ظهور هنا في لزوم إيجاد العالم وتحقيقه، ومع كونها حياديّة فلا تدلّ على المطلوب. هذا فضلاً عن أنّ سياق «طبع الله..» لا يستفاد منه الإلزام بالضرورة، اذ لا مانع من كون ترك الفعل المستحبّ أكيداً موجباً للطبع.
لكن قد يناقش في كلامه الأوّل، وذلك أنّ المثال الذي ذكره يقترن بقرينة تفرض تلك الدلالة، فالعرف يعلم أنّ إيجاد العالم ليس أمراً مطلوباً منه، بل وجود العالم أخذ مفروض التحقّق، لكنّ الكلام فيما لو لم تكن هناك قرينة وأمكن إيجاد الموضوع، فإنّ السياق يدل على لزوم الإيجاد، فإذا قلنا: من ترك أكل اللحم أربعين يوماً دخل النار، وكان إيجاد الموضوع ممكناً للمكلّف ومقدوراً له، ويُعتبر عُرفاً تحت سلطانه، فإنّ العرف يفهم هنا وجوبَ تأمين اللحم، ولا يرى العرف لزوم أكل اللحم من دون دلالة على لزوم تأمينه وشرائه ونحو ذلك مما هو مقدورٌ عرفيٌّ مرتبط بذلك.
الرواية الرابعة: خبر منصور، عن أبي عبدالله× ـ في حديث ـ قال: «الجمعة واجبة على كلّ أحد، لا يُعذر الناس فيها إلا خمسة: المرأة والمملوك والمسافر والمريض والصبي». ودلالتها واضحة إذ لم يقيّد إطلاقها بزمان الحضور، ولم تذكر أنّ زمان الغيبة هو من جملة الأعذار، وتعبير «على كلّ أحد» واضح في كونها كسائر الصلوات.
وقد يناقش بأنّها وإن دلّت على ذلك، بيد أنّها لا دلالة لها على وجوب عقدها ابتداء؛ إذ يحتمل أن يكون المراد منها عدم المعذوريّة في الحضور بعد إقامتها. ومما يعزّز هذا الاحتمال أنّها لم تذكر من جملة المستثنيات من لا يتمكّن من إقامتها، ومعه يعلم أصل عدم وجوب إقامتها، وإلا لو كان واجباً لكان ينبغي استثناء غير المتمكّن، فإنّه فردٌ شائع كالمريض.
وربما يمكننا الجواب عن هذه المناقشة بأنّ غير المتمكّن من إقامتها، كغير المتمكّن من حضورها بسبب كونه في السجن مثلاً، ومع ذلك لم تذكر الرواية مثل هؤلاء الأفراد، فالظاهر أنّ ذلك اعتماداً على أنّ هذا الاستثناء خارج بقيد عدم القدرة، وهو قيدٌ مرتكز في الأذهان العقلائيّة والمتشرّعية، والاستثناءات ارتبطت بالقادر لكنّه مسافر أو أنثى أو مريض ونحو ذلك.
الرواية الخامسة: خبر زرارة، قال: قلت لأبي جعفر×: على من تجب الجمعة؟ قال: «تجب على سبعة نفر من المسلمين ولا جمعة لأقلّ من خمسة من المسلمين، أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا، أمَّهم بعضهم وخطبهم».
الرواية السادسة: خبر الفضل بن عبد الملك، قال: سمعت أبا عبدالله× يقول: «إذا كان قومٌ في قريةٍ صلّوا الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم من يخطب لهم جمّعوا إذا كانوا خمس نفر، وإنّما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين». وبمضمون هاتين الروايتين توجد روايات أخرى أيضاً.
وتقريب الاستدلال بهما أنّ الأمر بتقدّم بعضهم للإمامة حالة اجتماع سبعة في الرواية الأولى، والأمر بالجمعة حين وجود خطيب في الثانية ـ فإن معنى "جمعَّوا" أي أدُّوا الجمعة ـ ظاهر في وجوب عقدها ابتداءً. ودعوى أنّ الرواية الخامسة غير دالّة على وجوب العقد الابتدائي، وإنّما تدلّ على لزوم الصلاة بعد الاجتماع، دون تبيين حكم الاجتماع نفسه وأنّه واجبٌ أو مستحبّ، قابلةٌ للنقاش؛ فإنّ المراد من اجتماع سبعة ليس هو إقامتهم للجمعة، بل هو تعبير عن إمكانيّة إقامتهم لها، ولهذا ألزمت الرواية بإقامتها عند اجتماع سبعة، لا أنّها ألزمت بإقامتها بعد إقامتها، ولا أقلّ من كونها تثبت وجوب الإقامة في حال اجتماع سبعة، وهذا المقدار يثبت وجوب العقد الابتدائي ولو في الجملة.
الرواية السابعة: الخطبة النبويّة الطويلة التي نقلها الفريقان، قال‘: «إنّ الله تعالى فرض عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي استخفافاً "بها أو جحوداً" لها، فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حجّ له، ألا ولا صوم له، ألا ولا برّ له، حتى يتوب». فهي واضحة في الدلالة غير أنّها ليست واضحة في التفاصيل والشروط، هذا مضافاً لضعفها السندي بالإرسال عند الفريقين.
الرواية الثامنة: مرسل الفقيه، قال: وخطب أمير المؤمنين× في الجمعة فقال: «الحمد لله الوليّ الحميد ـ إلى أن قال ـ: والجمعة واجبة على كلّ مؤمن إلا على الصبي والمريض والمجنون والشيخ الكبير والأعمى والمسافر والمرأة والعبد المملوك ومن كان على رأس فرسخين» (كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 431).
إلى غير ذلك من الروايات العديدة المذكورة في مصادر الشيعة والسنّة، فراجع.
المناقشات العامّة في الوجوب الابتدائي أو القرائن المانعة
ذكر غير واحدٍ من الفقهاء هنا ـ ومنهم السيد الماتن في بحوثه ـ ويمكن أن تُذكر، مجموعة قرائن تمنع من قبول فكرة الوجوب التعييني الابتدائي، حتى لو دلّت عليه النصوص القرآنية والحديثيّة المتقدّمة، ومن ثم يلزم حمل النصوص المتقدّمة على إفادة الجواز؛ لأنّ هذه القرائن العامّة توجب الاطمئنان أو الوثوق بعدم الوجوب الابتدائي التعييني؛ فتكون صالحة للقرينيّة على تمام روايات الوجوب الابتدائي. وبعبارة أخرى: لو تمّت جميع روايات الوجوب التعييني الابتدائي دلالةً وسنداً فلا محيص عن التخلّي عن ظهورها فيه، لهذه القرائن العامّة. وأهمّ هذه القرائن هو الآتي:
القرينة الأولى: روايات الفرسخين، حيث تدلّ مجموعة من الروايات على أنّ من كان على رأس فرسخين من الجمعة لا يجب عليه حضورها، مثل خبر محمّد بن مسلم وزرارة، عن أبي جعفر×، قال: «تجب الجمعة على كلّ من كان منها على فرسخين»، فهذه الروايات تدلّ على أنّه لو كان يجب فعلاً إقامة الجمعة، لكان من المناسب الحكم بلزوم ذلك على من كان على رأس فرسخين، لا نفي تعلّق ذمّته بالجمعة.
لكن قد تناقش هذه القرينة بأنّها غير منسجمة مع السياقات التاريخيّة، فإنّنا قلنا بأنّ صلاة الجمعة كانت مرتبطة بتشكيلها من قبل السلطة، ومن ثمّ فإذا قلنا بكون صلاة الجمعة من شؤون السلطة، فمن الصعب هنا فهم نفي الوجوب من روايات الفرسخين، ولهذا فإنّ أهل السنّة يقولون بوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة في حالات عدّة رغم قولهم بالوجوب التعييني للجمعة. وبعبارة أخرى: هذا الإشكال إنّما يقع لو قلنا بالوجوب التعييني العيني في إقامة الجمعة ابتداءً على كلّ مكلف من آحاد الناس، أمّا لو قلنا بأنّ الجمعة واجبة ابتداءً على السلطة الشرعيّة، وعلى الناس الالتحاق بها بعد انعقادها، أو قلنا بأنّها واجبة بنحو الكفاية، بحيث يصدق عنوان إقامتها وانعقادها في البلدان والأمصار، أو قلنا بأنّها واجبة على أهل الأمصار دون القرى والأرياف، كما هو رأي بعض الأحناف، ووردت فيه روايات متعارضة عن أهل البيت.. على مثل هذه التقادير جميعها فإنّ هذه القرينة لا تعود مؤثرة بما فيه الكفاية.
القرينة الثانية: إنّ تتبّع الروايات يشهد بأنّ صلاة الجمعة لم تكن أمراً متداولاً بين المتشرّعة وأصحاب الأئمّة ـ عليهم السلام ـ بل لعلّ بعض أجلّة الأصحاب تركها طيلة حياته، فلو فرض أنّ الوجوب الابتدائي التعييني كان ثابتاً، لما كان هناك مبرّر لعدم معروفيّة هذه الصلاة في الوسط الشيعي، مع أنّ الذين نقلوا لنا روايات الوجوب المتقدّمة هم أبناء ذلك الوسط أنفسهم. ففي خبر زرارة، قال: حثّنا أبو عبدالله× على صلاة الجمعة حتى ظننت أنّه يريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك؟ فقال: «لا، إنّي عنيت عندكم»، إذ لو كانت هذه الصلاة متداولة، فما معنى الحثّ عليها؟! وهل يكون إلا كالحثّ على صلاة الظهر أو الصبح؟! ولماذا فهم زرارة من الحثّ ما فهمه؟! وفي خبر عبد الملك، عن أبي جعفر×، قال: قال: «مثلك يهلك ولم يصلّ فريضة فرضها الله»، قال: قلت: كيف أصنع؟ قال: «صلّوا جماعة، يعني صلاة الجمعة».
القرينة الثالثة: إنّ صلاة الجمعة لو كانت واجبة على نحو التعيين الابتدائي، لكانت فريضة لا تنقص عن بقيّة الفرائض اليوميّة في الوضوح والتلقّي، فإنّه أمرٌ عام البلوى يتجدّد كلّ أسبوع، مع أنّنا نرى أنّه محلّ الاختلاف، وليس له وضوح في الوسط الشيعي حتى في زمن المتقدّمين. وهذا الأمر يشكّل قرينة واضحة على العدم، وأنّه لا بدّ من حمل روايات الوجوب المتقدّمة على الوجوب التعييني البقائي.
ويمكن مناقشة هاتين القرينتين (الثانية والثالثة) بأنّه يمكن للقائلين بربط صلاة الجمعة بالسلطة الشرعيّة، بمعنى أنّه يجب على الإمام أن يعقد الجمعة وعلى الناس الاستجابة له في عقد هذه الجمعات، ولا يمكن عقد الجمعات بمعزل عن السلطة.. إذا قلنا بذلك كان سؤال الأصحاب مفهوماً، وذلك أنّهم كانوا يرون أنّه لا صلاة للجمعة مع هذه السلطة القائمة، ومن ثم كانت الجمعة غائبة عنهم، وبخاصّة مع احتمال عدم انطباق شروط إمام الجماعة على الأئمّة المنصوبين من قبل هذه السلطات، أو على كثير منهم على الأقل، بينما أراد الإمام أن يحثهم على إقامة الجمعات، سواء مع عموم الناس أو أن يجتمعوا ويقيموها بأنفسهم، فيكون توجيهه هو نوع من إعلان سلطوي شرعي لهم بذلك.
بل يمكن القول: إنّ أصحاب الأئمّة ربما اعتادوا على ترك صلاة الجمعة مع الناس كون ذلك نوعاً من الاعتراف بالسلطة، فكانوا يتصوّرون أنّهم غير معنيّين بها، في حين أراد الإمام أن يلغي هذا التصوّر، ويقول لهم بأنّ مجرّد وجود السلطة غير الشرعيّة التي تقيم الجمعات في زمانكم لا يعني أن تتركوا الجمعة نحو الظهر، بل ابقوا تحافظون على الجمعة ولو لوحدكم أو مع الناس. ولا داعي لاستغراب الأمر فإنّ الكثير من الأحناف ربطوا تعيّن الظهر بوجود الأمير أو الإمام أو إذنه بفتح الجوامع لصلاة الجمعة، وهذا يعني أنّه يوجد تصوّر في أنّه لو لم يتمّ ذلك فإنّ الوظيفة تنتقل إلى الظهر، فهناك فرق بين الوجوب التعييني في الجمعة والوجوب التعييني في الصبح والعصر؛ فإنّ التعيينيّة في الصبح لا بديل لها، أمّا في الجمعة فهي واجب تعييناً لكن لو لم يأت بها الإنسان أو اختلّ شرطٌ من شروطها ولم يتحقّق، تنتقل الوظيفة إلى الظهر، فعلى الناس إقامة الجمعة لكن لو سعى شخصٌ لإقامتها ولم يجتمع خمسة أشخاص معه، ولو لعصيان الناس عن الصلاة، انتقلت وظيفته إلى الظهر، فهذا النوع من التعيينيّة يجعل صلاة الجمعة مختلفة عن غيرها، ومن ثم يفتح الطريق أمام توهّم الانتقال في بعض الظروف إلى الظهر، رغم التعيينيّة الابتدائيّة، ومن يراجع الفقه السنّي يرى ذلك بوضوح.
هذا، مضافاً إلى أنّ النصوص التي استُشهد بها هنا تحثّ على الإتيان بصلاة الجمعة إلى حدّ أنّ زرارة تصوّر أنّ الإمام يريد أن يأتوه هو؛ لإقامة صلاة الجمعة، وهذا يبيّن أنّ الحث كان أكيداً، بل في رواية عبد الملك عن الإمام أبي جعفر، قال له: «مثلك يهلك ولم يصلّ فريضة فرضها الله» قال: قلت: كيف أصنع؟ قال: «صلّوا جماعة، يعني صلاة الجمعة»، فلو فرضنا أنّ هذه الرواية تقصد بالفعل صلاة الجمعة لا الجماعة، وأنّ كلمة: «يعني صلاة الجمعة» هي من الإمام نفسه، فهذا يفيد الوجوب أكثر مما يفيد الاستحباب، إذ يتحدّث عن الهلاك، وعن عنوان الفريضة التي فرضها الله، فكيف نريد من مثل هذه الرواية استنتاج عدم الوجوب، بحجّة أنّه لم ينقل أنّ الشيعة كانوا يصلّون الجمعة؟! علماً أنّه ليس من الغريب أنّ العديد من الشيعة لم يكونو ليعرفوا أمر دينهم قبل الباقر، كما دلّت عليه بعض النصوص، ومنها الصحيح سنداً، فأيّ مانع أن يكونوا قد أهملوا مثل هذه الفريضة وجاء الباقر والصادق لتعليمهما فرائض الدين وكيفيّة الصلاة والحجّ، علماً أنّه من الصعب إثبات أنّهم كانوا يُهملون الجمعة من مجرّد عدم نقل اشتراكهم فيها وإقامتهم لها.
ومما تقدّم يظهر النقاش في القرينة الثالثة من جهة أخرى، فإنّ هناك فرقاً بين الصبح والجمعة، فنظراً لارتباط الجمعة تاريخياً بالسلطة، وكون السلطة غير شرعيّة في ذلك الوقت من منظور الشيعة، كان مجال توهّم سقوط الجمعة في بعض هذه الظروف قائماً بخلاف صلاة الصبح، كما شرحناه آنفاً.
القرينة الرابعة: وهي خاصّة بنفي الوجوب التعييني في عصر الغيبة لا غير، وحاصلها ـ على ما أفاده غير واحدٍ من الفقهاء ـ أنّه لو كان الوجوب التعييني ثابتاً في عصر الغيبة، فكيف كان هذا الحكم مجهولاً عند أساطين العلماء عبر التاريخ، حتى انقسموا بين قائل بالتحريم، وقائل بالوجوب التخييري، وقائل بالوجوب التعييني، بل قد ادّعى غير واحد ـ كالشيخ الطوسي في "الخلاف" ـ الإجماعَ على عدم الوجوب، إلا مع وجود الإمام أو من يأمره الإمام.
ويمكن الجواب عن هذه القرينة بأنّ اختلاف الفقهاء راجعٌ لشرطٍ من شروط الوجوب، وهو كون إمام الجمعة هو الإمام أو منصوباً من قبله، وهذا لا ينافي التعيينيّة، فإنّ الأحناف قالوا بهذا الشرط أيضاً، ومع ذلك فهم قائلون ـ كسائر أهل السنّة ـ بالتعيينيّة، غاية الأمر أنّ فقهاء الشيعة لمّا اعتقدوا بأنّه لا إمام إلا المنصوص ـ وهو الإمام المهدي في عصر الغيبة ـ والمفروض أنّه غائب، استنتجوا سقوط التكليف مطلقاً في عصر الغيبة، فتصوّروا أنّ هذا معناه أنّ صلاة الجمعة في عصر الغيبة ليست واجباً تعيينيّاً، مع أنّ الصحيح أنّها واجب تعييني، غاية الأمر سقط شرطه، فلزم الانتقال إلى الظهر، وعليه فالمسار الذي سلكوه اجتهاديٌّ واضح، ومن ثمّ فهو قابل للنقاش في بنيته التحتيّة.
يضاف إلى ذلك أنّ الفقيه الذي يفهم من شرط "الإمام" مطلق الإمام الشرعي، ويرى ثبوت الشرعيّة للسلطة في عصر الغيبة ضمن شروط، عليه هنا أن يحكم بالتعيينيّة، بمعنى أنّه مع وجود الإمام الشرعي ـ ولو لم يكن منصوصاً، كما لو قيل بولاية الفقيه أو بولاية الشورى ـ يجب إقامة الجمعة تعييناً، وعلى الإمام نفسه نصب الأئمّة وإجراء هذه الصلاة في المجتمع، فلا يصحّ ـ بناءً على هذا القول ـ دعوى التخييريّة في عصر الغيبة، بل يلزم القول بالتعيينيّة فيه أيضاً.
والنتيجة: إنّ عشرات النصوص الموجودة عند الشيعة والسنّة دالّة بوضوح على وجوب صلاة الجمعة على كلّ مسلم عدا من تمّ استثناؤه ممن سوف نتكلّم عنهم لاحقاً إن شاء الله تبعاً للسيد الماتن، وهذا الوجوب قسم من الروايات دالّ عليه في مرحلة عقد الجمعة وضرورة وجودها في مجتمع المسلمين، وقسمٌ آخر في مرحلة الحضور والمشاركة بعد عقدها، فالأقرب حتى الآن هو ثبوت الوجوب التعييني الحدوثي والبقائي، لكنّ البتّ النهائي يتطلّب النظر في أدلّة الفرضيات الأخرى المحتملة هنا، وبخاصّة فرضيّة الحرمة التي ذهب إليها بعض فقهاء الإماميّة في عصر الغَيبة، وفقاً للتصنيف الإمامي للتاريخ.
الجهة الثانية: الوجوب التخييري الابتدائي والتعييني البقائي
وهذا قول بعض الفقهاء المتأخّرين، ولا أقلّ من الاحتياط الوجوبي بالتعيينيّة بقاءً. والمقصود أنّه لا يجب إقامة وعقد صلاة الجمعة، بل المسلمون مخيّرون بينها وبين الظهر، لكن لو أعلنت وأقيمت بشروطها فإنّها تصبح واجباً تعيينيّاً، ولا يمكن بعد عقدها إقامة صلاة الظهر على من تحقّقت في حقّه الشروط.
والمستند لهذا القول أمران:
الأمر الأوّل: الحاصل المركّبُ من عنصرين:
العنصر الأوّل: إنّ تمام ما ذكره المناقشون لأدلّة الوجوب التعييني الابتدائي صحيحة، بمعنى أنّ هذه الأدلّة لا تثبت التعيينية الابتدائية لكنّها بنفسها تثبت التعيينيّة البقائيّة، بمعنى أنّ المقدار الثابت من دلالة تلك الأدلّة هو الوجوب التعييني البقائي؛ وقد ذكرت حوالي عشرين رواية لها دلالة على الوجب البقائي أيضاً.
العنصر الثاني: إنّ تمام الأدلّة التي أقيمت على تحريم صلاة الجمعة في عصر الغيبة ـ وسيأتي الحديث عنها قريباً ـ غير ثابتة.
والنتيجة: إنّ صلاة الجمعة واجبة تخييراً ابتداءً، فإذا نودي لها وانعقدت صحيحةً، وجبت بقاءً بنحو التعيين دون التخيير. وقد احتاط بعضهم في الوجوب الابتدائي في زمن كون السلطة بيد الفقيه العادل؛ وذلك من جهة أنّ المستفاد من روايات صلاة الجمعة أنّها جاءت لربط المسلمين بقيادتهم وتوحيد صفوفهم وتدارس مشاكلهم، ومثل هذه النكات لا بدّ منها في زمن قيام الدولة الإسلاميّة العادلة، ولو لم يكن هناك حضور للإمام المنصوص. ولعلّ من نقل عنهم المحقّق النجفي أنّهم متى ما كانوا مبسوطي اليد، ذهبوا للقول بالوجوب التعييني، بخلاف ما لو لم تكن أيديهم مبسوطة.. لعلّهم كان ذلك منهم لشعورهم بضرورة عقدها لجمع الصفوف ونحو ذلك.
والتعليق على هذا القول أنّه قد تمّ لدينا الدليل على الوجوب التعييني الابتدائي والبقائي في صلاة الجمعة كما بيّناه في الجهة الأولى، وعليه فلا يمكن الانتقال للوجوب التخييري الابتدائي، فيبطُل هذا القول.
الأمر الثاني: بعض النصوص الخاصّة، وهي واضحة الضعف دلالةً أو سنداً أو هما معاً، وقد تقدّم الجواب عن مضمونها فيما مضى، على قلّتها عدداً، لكن من باب المثال نذكر خبر محمّد بن مسلم، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ‘ ـ في الجمعة ـ قال: «إذا اجتمع خمسة أحدهم الإمام فلهم أن يجمعوا» (اختيار معرفة الرجال 1: 390). فإنّ تعبير «لهم» كاشف عن التخيير دون التعيين وإلا لقال: «عليهم».
ويناقش بأنّ هذه الرواية ـ مضافاً لضعف سندها من غير جهةٍ، ولا أقلّ من الإرسال ـ ليست ناظرة لبيان أصل الوجوب أو غيره، بل ناظرة لشرط من شروط الوجوب، فإنّه ـ كما سيأتي ـ بحثوا في أنّ اجتماع سبعة يجعل الصلاة واجباً عينيّاً بينما اجتماع خمسة يجعلها جائزة غير واجبة وتكون مجزية، فالحديث ناظر لحكم الجمعة عند اجتماع خمسة، لا لكون أصل الجمعة مع تحقّق تمام الشروط واجباً تعيينيّاً أو تخييريّاً.
الجهة الثالثة: شرط الإمام في وجوب إقامة الجمعة
يجب التمييز بين مفهومين افتراضيّين في غاية الأهميّة هنا: مفهوم شرط الحضور الصرف، ومفهوم شرط إدارة الجمعة من قبل السلطة الشرعيّة:
أ ـ فلو أخذنا شرط الحضور بحرفيّته، فهذا معناه أنّه حتى لو لم يكن الإمام مبسوط اليد لكنّه كان حاضراً ظاهراً، كفى ذلك في وجوب صلاة الجمعة، أمّا لو غاب سقط الوجوب أو سقط الوجوب التعييني وهكذا، فذاتُ حضور شخصه مقابل غيابه هو الشرط، فلا جمعة في عصر الغيبة أصلاً وأبداً، والجمعة ثابتة في عصر الحضور ولو لم يكن مبسوط اليد. وهذا المعنى هو مفهوم شيعي، إذ من الواضح أنّ هذا النوع من التصوّر ليس له وجود في أدبيات أو منظومة الفقه والعقيدة السُنيّة.
ب ـ أمّا لو ربطنا إقامة الجمعة بالسلطة الشرعيّة، فسوف يصبح المفهوم أوسع من الدائرة الشيعيّة؛ وذلك أنّ العديد من فقهاء أهل السنّة ـ ولا سيما الأحناف ـ قالوا أيضاً بأنّ صلاة الجمعة يتمّ إدارتها ونصب عالمها وخطيبها من قبل السلطة، وبهذا تمّ ربط صلاة الجمعة بالسلطة والسياسة، وعندما لاحظ علماء الإماميّة هذا الشرط في الفقه الإسلامي كان من الطبيعي أن يطبّقوه في حال الغيبة؛ لأنّ المفروض أنّهم لا يرون سلطةً لغير أئمّتهم ما لم يكن ذلك بإذن الإمام. ومن هنا دخلت نظريّة ولاية الفقيه وشرعيّة السلطة في عصر الغيبة في صلب بحث صلاة الجمعة، وقام العديد من الفقهاء المتأخّرين بالقول بأنّ شرعية السلطة أو نظام ولاية الفقيه ـ مثلاً ـ يمكنه أن يمنح الشرعيّة بل والوجوب لصلاة الجمعة؛ لأنّ العبرة بالإمام بما هو سلطة، لا بالإمام بما هو فرد، أو قيل بأنّ مثل نظرية ولاية الفقيه ونيابة الفقهاء تكون هي بنفسها إذناً من صاحب السلطة الشرعيّة، وهو الإمام الغائب بإقامة الجمعة في عصر الغيبة، فيما قال آخرون بأنّه لا سلطة شرعيّةً إلا للإمام المنصوص، وأنّه لم يمنحها لأحد في عصر الغيبة، وعند هؤلاء تكون النتيجة واحدة عمليّاً مع فرضيّة "أخذ شرط حضور الإمام المنصوص" والتي شرحناها آنفاً، وهنا وقعت نقاشات.
وتفكيكنا لهذا التصوّرين راجع إلى طبيعة فهم عنوان "الإمام" هنا، فلو فهم عنواناً شخصيّاً، فهذا معناه ربطه بالأئمّة المنصوصين حصراً، ولو فهم عنوان نوعيّاً جِهَويّاً فهو مربوط بعنوان السلطة الشرعيّة.
وعليه، فتارةً نبحث المسألة تحت عنوان: شرط حضور النبيّ أو الإمام المنصوص، وأخرى نبحثها تحت عنوان شرط وجود السلطة الشرعيّة، فالبحث في مقامين:
المقام الأوّل: في شرط حضور النبيّ أو الإمام المنصوص
إذا أخذنا شرط الحضور الخالص، فالمستفاد من إطلاق الآية الكريمة والروايات الشريفة عدم شرطيّة حضور الإمام المنصوص في وجوب الجمعة، في مقابل غيبته، فلا بدّ للخروج عن مقتضى هذا الإطلاق من وجود المقيّد، الأمر المفقود في النصوص؛ إذ لا نجد فيها ما يدلّ على هذا الشرط.
من هنا يظهر أنّ القول بشرط الحضور في وجوبها، ربما يكون مرجعه إلى أحد أمرين:
الأوّل: ذات الأدلّة والوجوه التي أقيمت لإثبات عدم مشروعيّة صلاة الجمعة في زمان الغيبة، وسيأتي الحديث عنها في الجهة الرابعة من جهات هذا البحث، وأنّها لم تثبت.
الثاني: إثبات ارتباط الجمعة بالسلطة الشرعيّة، مع افتراض أنّه لا سلطة شرعيّة ممنوحة لأحد عدا الإمام المنصوص حصراً، وهذا ما سنتكلّم عنه في "المقام الثاني"، ونناقش فيه أيضاً، حيث سيتبيّن أنّ وجوب الجمعة ليست مرتبطاً ـ بالعنوان الأوّلي ـ بالسلطة الشرعيّة، فضلاً عن أن يكون مرتبطاً بالسلطة المنصوصة الإلهيّة، خلافاً للعديد من فقهاء الحركة الإسلاميّة المتأخّرين.
المقام الثاني: في شرط الإمامة بالمعنى العام (السلطة) في صلاة الجمعة
يُنتج هذا الشرط أنّ الجمعة ليست واجبة على آحاد المكلّفين إن لم تقم السلطة الشرعيّة نفسها بإقامتها وإعلانها أو الإذن بها، لكن في المقابل الجمعة واجبةٌ تعييناً، أيّ يلزم على السلطة الشرعيّة إقامتها أو تسهيل إقامتها، وعليها تجهيز كلّ ما يلزم لإقامة هذه الفريضة في المجتمع، وعندما تقيمها السلطة، يتحقّق شرط فعليّة الوجوب التعييني بالنسبة للجمعة على آحاد المكلّفين.
ولكي أفكّك هذا الشرط يمكنني طرح عدّة موضوعات:
أ ـ هل السلطة شرطٌ في الوجوب أو في الشرعيّة أو لا؟
ب ـ هل يجب على السلطة إقامة الجمعة أو لا؟
ج ـ هل يراد بالسلطة هنا السلطة الشرعيّة حصراً أو مطلق السلطة المسلمة التي تقيم صلاة الجمعة ولو لم تكن شرعيّة؟
وعلى أيّة حال، فقد ذهب الأحناف وبعض فقهاء الإماميّة لهذا الشرط، واستُدلّ له بعدّة أدلّة:
الدليل الأوّل: مجمل النصوص التي ذكرت في بيان حرمة الجمعة في عصر الغيبة، بتقريب أنّ المراد بالإمام فيها هو إمام المسلمين، دون خصوص الإمام المنصوص، وعليه فمن شروط الجمعة أن يتولاها الإمام (السلطة) بنفسه أو بوكلائه فهي من شؤونه حصراً.
ويناقش ـ بصرف النظر عن التفاصيل التي سنذكرها هناك ـ إنّ هذه النصوص على نوعين، ولعلّه لم يتم الالتفات الى ذلك في بيانات الفقهاء:
أ ـ نوعٌ يظهر منه الاشتراط، مثل خبر الدعائم بأنّه لا تصلح الحدود ولا الجمعة إلا للإمام أو من يقيمه. وهذه الروايات جيّدة الدلالة، لكنّها ـ على قلّتها وآحاديّتها ـ ضعيفة الإسناد.
ب ـ نوعٌ لا يظهر منه الاشتراط، خلافاً لما هو التصوّر السائد، بل يظهر منه أنّ الإمام ملزَم بالحضور وإقامة الجمعات وترتيب أمورها بحيث تنعقد في المدن الكبرى.
والفارق دقيقٌ هنا، وهو أنّه تارة تكون من صلاحياته المختصّة، وأخرى تكون من واجباته، وحيث له سلطة عامّة ونفوذ اجتماعي وتنظيمي، لهذا يلزم في المدن والأمصار أن يرتّب الإمام ووكلاؤه إقامة الجمعة، حتى أنّه لو لم يأت الناس فعليه هو أن يقيمها مع العاملين معه، كما قد يستوحى من بعض النصوص.
بل غير واحدٍ من الأخبار يحتمل أن يكون المراد بالإمام فيه هو إمام الجماعة، وليس إمام المسلمين، وهذا ما أشار له الحرّ العاملي أيضاً حين قال: «ويدلّ على ذلك جميع ما دلّ على الوجوب من القرآن والأحاديث المتواترة الدالّة بعمومها وإطلاقها، مع عدم قيام دليل صالح لإثبات الاشتراط. وما تضمّن لفظ الإمام من أحاديث الجمعة المراد به إمام الجماعة مع قيد زائد وهو كونه يحسن الخطبتين ويتمكّن منهما لعدم الخوف، وهو أعمّ من المعصوم، كما صرّح به علماء اللغة وغيرهم، وكما يفهم من إطلاقه في مقام الاقتداء، والقرائن على ذلك كثيرة جدّاً، والتصريحات بما يدفع الاشتراط أيضاً كثيرة، وإطلاق لفظ الإمام هنا كإطلاقه في أحاديث الجماعة وصلاة الجنازة والاستسقاء والآيات وغير ذلك من أماكن الاقتداء في الصلاة، وإنّما المراد به هنا اشتراط الجماعة مع ما ذكر. وقد تقدّم حديث محمّد بن مسلم عن أبي جعفر×، قال: «تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين، ولا تجب على أقلّ منهم: الإمام، وقاضيه، والمدّعي حقاً والمدّعى عليه، والشاهدان، والذي يضرب الحدود بين يدي الإمام. أقول: بهذا استدلّ مدّعي الاشتراط، وفيه أولاً أنّه محمول على التقية؛ لموافقته لأشهر مذاهب العامة، وثانياً أنّ ما تضمنه من اشتراط أعيان السبعة لا قائل به ولا يقول به الخصم، والأحاديث دالّة على خلافه، فعلم أنّ المراد العدد خاصّة، إمّا هؤلاء أو غيرهم بعددهم، ومما هو كالصريح في ذلك قوله: «ولا تجب على أقلّ منهم»، ولم يقل: ولا تجب على غيرهم، فعُلم أنّها تجب على جماعة هم بعددهم أو أكثر منهم لا أقلّ، مع دلالة الآية والأحاديث المتواترة التي تزيد على مائتي حديث» (تفصيل وسائل الشيعة 7: 310 ـ 311).
الدليل الثاني: ما ذكره السيد البروجردي، حيث قال: «إنّ مقتضى القول بعدم الاشتراط ووجوبها على كلّ أحد مطلقاً هو وجوب تعلّمها وتعلّم خطبتها كفاية على جميع المسلمين في جميع الأعصار ووجوب إقامتها في جميع الأمكنة (من الأمصار والقرى والبوادي النائية المسكونة) في رأس كلّ فرسخين، فيكون وزانها وزان سائر الصلوات اليوميّة بحيث يجب على كلّ مسلم أن يهتمّ بتعلّمها بمزاياها ويسعى في إقامتها بنحو يعاقب الجميع على تركها إذا فرض جهلهم بها. ومن الواضح عدم كونها كذلك وأنّ أصحاب النبيّ‘، وأصحاب الأئمّة ـ عليهم السلام ـ لم يكونوا بصدد تعلّمها ولم يكونوا يقيمونها بأنفسهم في قبال النبيّ والأئمّة. كيف، ولو كان الأمر كذلك لكان عقد الجمعة وإقامتها متداولاً بين المسلمين في جميع الأمكنة والأزمنة، وصار وجوبها كذلك من ضروريات الإسلام كسائر الفرائض والصلوات اليوميّة، واعتاد جميع المسلمين في جميع البلدان على أن يجتمعوا في كلّ جمعة لإقامتها سواء وجد فيهم من نصب من قبل الخليفة أم لم يوجد، بل لم يكن على هذا للنصب معنى وفائدة. مع وضوح أنَّ عادة المسلمين في أعصار النبي‘ والأئمّة ـ عليهم السلام ـ لم تكن كذلك، بل كان رسول الله‘ هو بنفسه يعقد الجمعة ويقيمها وكذلك الخلفاء من بعده حتى أمير المؤمنين×، وكان الخلفاء ينصبون في البلدان أشخاصاً معينة لإقامتها، ولم يعهد في تلك الأعصار أن يتصدّى غير المنصوبين لإقامتها وكان الناس يرون من وظائفهم في كلّ جمعة حضور الجمعات التي كان يقيمها الخلفاء والأمراء والمنصوبون من قبلهم، فكان إذا أقبل يوم الجمعة حضر الخليفة أو من نصبه لإقامتها واجتمع الناس حوله.. فلو كان حكم الله ورأي الأئمّة ـ عليهم السلام ـ على خلاف ذلك، لكان يجب عليهم بيان ذلك وتكراره والإصرار عليه وإعلام أصحابهم بأنّه يجب على جميع المسلمين السعي في إقامتها، وأنّها لا تختص ببعض دون بعض، كما استقرّ على ذلك سيرتهم ـ عليهم السلام ـ في جميع المسائل التي خالف فيها أهل الخلاف لأهل الحقّ كمسألتي العول والتعصيب ونحوهما. وبالجملة لو لم يكن الإمام أو من نصبه شرطاً في إقامة الجمعة وكانت إقامتها من وظائف جميع المسلمين لبيّنها النبيّ‘ وأوصياؤه وصارت من الصدر الأوّل كسائر الفرائض اليومية من ضروريات الدين بحيث يعرفها جميع المسلمين حتى النساء والصبيان..» (البدر الزاهر: 37 ـ 39).
لكن يمكن أن يجاب عنه:
أوّلاً: إنّ هذا الدليل ينسجم مع احتمالين: أحدهما شرطيّة كون الجمعة ضمن حركة الحاكم وصلاحياته، وثانيهما شرطيّة كونها عامّة يجتمع فيها جمهور المسلمين بأعداد كبيرة، وبناءً عليه، فإذا كان أهل السنّة بجمهورهم يعقدونها عامّةً في تلك الأزمنة، ولو بإذن السلطان أو وكلائه، فهذا يعني أنّ عقدها خارجهم أمر خطير جداً، ويمكنه إمّا أن لا يتحقّق؛ لقلّة عدد الشيعة في الأمصار، أو إذا تحقّق فهو من الراجح جداً أنّه سوف يعرّض الشيعة لمخاطر جمّة، ولهذا بنى أهل البيت على الالتحاق بهذه الجمعات المنعقدة كلّ أسبوع في مختلف الأمصار والبلدان كما هي العادة الجارية، فكيف نعرف أنّ الشرط هو الحاكم وليس الاجتماع العام، ومن الطبيعي أنّ الاجتماعات العامّة تخضع لنفوذ السلطة، وبخاصّة في تلك الأيّام؟!
ثانياً: لم أفهم وجه صعوبة القول بوجوب تعلّمها وتعلّم الخطبة كفايةً، فإنّ الخطبة الواجبة في صلاة الجمعة ليست سوى شيء بسيط جداً، يمكن توفّر شخص في كلّ قرية أو مجموعة قادر على القيام بها، وليست محاضرة ثقافية أو فكريّة تحتاج لعالم دين.
ثالثاً: إنّ اعتياد كون صلاة الجمعة ضمن نشاط السلطة يمكن أن يكون سببه شرط الجمعة بالإمام أو من نصبه، ويمكن أن يكون سببه تاريخيّاً ظرفيّاً تقتضيه طبيعة الأشياء، بمعنى أنّه حيث يجب حضور الجمعة على جميع الناس فمن الطبيعي أن يحضرها الحاكم وأجهزة الدولة، كونه من جملة المكلّفين، ويكون حضوره تعبيراً عن ولائه الديني الذي يحتاج لإظهاره، ولو بغية ترسيخ نفوذه السياسي والسلطوي، كما أنّ تعارف نصب الأئمّة من قبل السلطات قد لا يكون مرجعه للشرطيّة، بل يكون مرجعه أنّه إذا لم يحصل تدخّل من قبل من له نفوذ أعلى، فإنّه من المتوقّع أن تتسبّب الاختلافات في من يدير هذه الاجتماعات الكبيرة في المدن والأمصار بأزمات اجتماعيّة وانقسامات، فمن الطبيعي أن يكون لنفوذ السلطان هنا دور كبير في حسم النزاعات، ومن ثمّ أصبح هذا أمراً متعارفاً بمرور الزمن، لا لأنّه شرط شرعي، بل لطبيعة الأشياء ومقتضياتها على مستوى الاجتماع السياسي، فما هو النافي لمثل هذا الاحتمال الذي يحظى بمعقوليّة تاريخيّة؟!
هذا، وسوف يأتي تعليقٌ مهمّ للسيد الخوئي، يتعلّق نوعاً ما بهذا الأمر، وذلك عند الحديث عن دليل السيرة على حرمة الجمعة في عصر الغيبة، فانتظر.
الدليل الثالث: إجماع الإماميّة على الاشتراط، كما ادّعاه غير واحد، واستند إليه أيضاً أمثال السيد البروجردي.
ويناقش بأنّه محتمل المدركيّة جداً، فإنّهم تصوّروا أنّ الروايات التي فيها تعبير "الإمام" يراد منها شرطية السلطة تماماً كما فهم بعض المتأخّرين ذلك، ومعه فلا حجيّة لإجماعاتهم. وقد قال المجلسي: «والذي يغلب على الظنّ، ولعلّه ليس من بعض الظن، أنّ الذي دعى القوم إلى دعوى الإجماع على اشتراط الإذن أحد أمرين: الأوّل إطباق الشيعة على ترك الإتيان بها علانية في الأعصار الماضية خوفاً من المخالفين؛ لأنّهم كانوا يعيّنون لذلك أئمّة مخصوصين في البلاد، ولم يكن يتمكّن أحد من الاتيان بها إلا معهم، وكان يلزم المشاهير من العلماء الحضور في مساجدهم ولو كانوا يفعلون في بيوتهم كان نادراً، مع نهاية السعي في الاستتار، فظنّ أنّ تركهم إنّما هو لعدم الإذن. الثاني أنّ المخالفين كانوا يشنّعون عليهم بترك الجمعة، ولم يمكنهم الحكم بفسقهم وكفرهم، فكانوا يتعذّرون بعدم إذن الإمام، وعدم حضوره دفعاً لتشنيعهم، وكان غرضهم عدم الإذن للتقية» (بحار الأنوار 86: 226 ـ 227).
والمتحصّل أنّ صلاة الجمعة من المشاهد العامّة كما ورد في بعض النصوص وكما هو الراسخ في الذهن الإسلامي العام، ويلزم حضورها على المسلمين بمن فيهم رجالات السلطة بأطيافهم ومقاماتهم المختلفة، وحيث إنّها من الشؤون العامّة فإنّها تقع ضمن مسؤوليّتهم في الحفاظ عليها تماماً كالحجّ، لكنّ هذا لا يعني أنّ الجمعة مشروطة بالإمام لا معصوماً ولا غير معصوم، لا في عصر الحضور ولا في عصر الغيبة، خلافاً لغير واحدٍ من فقهاء الأحناف والإماميّة، لكن لو تدخّل الإمام الشرعيّ وحكم ببعض الأمور فيها لغايات تنظيميّة ومصالح نوعية عامّة، لزم الأخذ بحكمه، من باب حكم الحاكم، وهذا واضح.
الجهة الرابعة: الحرمة وعدم المشروعيّة في عصر الغيبة
يرى هذا الرأي أنّه بصرف النظر عمّا يختاره الفقيه في عصر الحضور، من الوجوب التعييني الابتدائي والبقائي، أو الوجوب التخييري الابتدائي والتعييني البقائي، أو غير ذلك، فإنّ الحكم في عصر الغيبة هو حرمة صلاة الجمعة مطلقاً، وتعيّن الظهر.
وأهمّ الوجوه التي استدلّ بها على هذا الرأي ـ بعد غضّ النظر عن دعوى الإجماع المباشرة؛ لوضوح بطلانها ـ هو الآتي:
الوجه الأوّل: ما نقله المحدّث البحراني عن ابن إدريس الحلّي وآخرين، من أنّ وجوب الظهر ثابت على نحو الجزم واليقين، بينما وجوب الجمعة مشكوكٌ، وعليه فلا ينبغي العدول من اليقين إلى الشك؛ للإجماع ولقوله×: «لا ينبغي نقض اليقين بالشك أبداً» (الحدائق الناضرة 9: 436).
وناقش أستاذنا الإيرواني ـ حفظه الله ـ هنا ببطلان الصغرى والكبرى معاً:
أمّا الصغرى، وهي الجزم بالظهر والشكّ في الجمعة، فلوجهين:
أحدهما: إنّ الروايات المتقدّمة، بل والآية الكريمة، دلّت بالإطلاق على وجوب الجمعة حتى في زمن الغيبة، ومع وجود الإطلاق لا معنى لفرض الشكّ الذي يكون مورداً لجريان الأصل العملي.
ثانيهما: إنّه مع التنزّل عن الإطلاق المذكور، فدعوى اشتغال الذمّة يقيناً بالظهر بخصوصها أوّلُ الكلام، بل الذمّة مشتغلة بالجامع بين الظهر والجمعة، ولا يتعدّى شغل الذمة هذا الجامع إلى خصوص أحدهما، ومعه فتطبيق قاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني لا يتطلّب أكثر من الإتيان بأحدهما، لا خصوص واحدٍ منهما، أو بالإتيان بهما معاً.
قد يقال: إنّنا لا نحتمل تعيّن الجمعة يومها، بل الأمر دائر بين تعيّن الظهر والتخيير بينها وبين الجمعة، ومعه فلا بدّ من الإتيان بمحتمل التعيين؛ إذ به يحصل الامتثال اليقيني.
والجواب: إنّ احتمال تعيّن الظهر لا يوجب لزوم الامتثال بإتيانها بخصوصها؛ لأنّ الفراغ اليقيني لا يكون إلا بملاحظة الاشتغال اليقيني، والمفروض أنّه لا يتعدّى دائرة الجامع بينهما.
قد يقال: إنّ الإتيان بالظهر كافٍ قطعاً بخلافه في الجمعة، ولا بدّ من الاقتصار على متيقّن الإجزاء.
والجواب: إنّ الإجزاء متفرّع على الشغل نفسه، والفرضيّة المذكورة مبنيّة على منجزّية الاحتمال، والذي هو في المقام احتمال التعيين، وهذا المبنى وإن كان صحيحاً عقلاً ـ ولو عند بعضٍ ـ إلا أنّه موقوفٌ على عدم ورود الترخيص الشرعي، كما تمّ تحقيقه في الأصول، والمفروض ورود الترخيص بأدلّة البراءة الشرعيّة.
وأما الكبرى: فيلاحظ عليها من طرف الرواية أنّ هذا يعني تفسيرها بقاعدة الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وهو خلاف الظاهر منها؛ إذ عبّرت الرواية بكلمة النقض، والذي لا يصدق إلا مع فرض وجود يقين في المرتبة السابقة اتحد مع الشكّ في المتعلّق، ليصحّ التعبير عن التمسّك بالشكّ حينها أنّه كان نقضاً له، وهذا لا يتم إلا في الاستصحاب أو قاعدة اليقين على ما تمّ تحقيقه في علم الأصول.
الوجه الثاني: ما نقله في الحدائق أيضاً، من أنّ شرط انعقاد الجمعة هو وجود الإمام أو من نصبه، وذلك مفقودٌ زمن الغيبة (الحدائق الناضرة 9: 438)، بل الإجماع منعقد على عدم المشروعيّة في عصر الغيبة، ومن هنا تردّدت فكرة تقول بأنّ صلاة الجمعة في عصر الغيبة نوعٌ من غصب منصب الإمامة، وبهذا وقع تداخل بين النظرية الكلاميّة في الإمامة والنظرية الفقهيّة في صلاة الجمعة كما ألمحنا من قبل.
ويناقش بأنّ هذا الشرط لا أساس له في الآيات والروايات، بل مقتضى إطلاقها ثبوت الوجوب زمن الغيبة أيضاً، فلا مبرّر له عدا ما تقدّم في الجهة الثالثة من هذا البحث وناقشناه، وما سيأتي من بعض النصوص التي سوف نعلّق عليها قريباً هنا. هذا مضافاً إلى ما ذكره السيد الخوئي، من أنّه لا إجماع إطلاقاً على عدم المشروعيّة، بل المشهور قالوا بالوجوب التخييري، خاتماً بالقول: «فدعوى الإجماع في المقام لا تخلو عن المجازفة». وقد ناقش المجلسي مطوّلاً في هذا الإجماع أيضاً من وجوه، فراجع (بحار الأنوار 86: 221 ـ 230).
الوجه الثالث: ما نقله البحراني أيضاً (الحدائق الناضرة 9: 442)، وتمسّك به جماعة ـ منهم السيد البروجردي (البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر: 25) ـ وهو أنّ المستفاد من دعاء يوم الجمعة الوارد في الصحيفة السجاديّة للإمام زين العابدين× هو اختصاص الجمعة بالمعصوم، حيث ورد فيه: «اللهم إنّ هذا المقام مقام لخلفائك وأصفيائك.. قد ابتزّوها وأنت المقدّر لذلك.. حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين..» (الصحيفة السجاديّة، الدعاء رقم: 48).
وهنا مناقشات:
المناقشة الأولى: ما ذكره أستاذنا الإيرواني، بأنّ أقصى ما يُستفاد من هذا الدعاء هو كون إمامة الجمعة من المناصب المختصّة به× في مورد حضوره، بمعنى أنّه مع وجوده يكون الحقّ له في ذلك، وليس للآخرين أخذ هذا الحق منه وابتزازه. وهذا ليس موضع بحثنا، إنّما الكلام في حال غيبته، فهل لشيعته العدول التصدّي من دون أن يكون في تصدّيهم أيّة مزاحمة له× أو غَلَبة عليه وقهر؟ هذا مما لا يستفاد الموقف منه من هذا الدعاء، بل إنّه يشبه ما في باب القضاء والحكومة؛ فإنّ الإمام× لو كان حاضراً يكون هو صاحب الأمر الأوّلي فيهما، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّه في زمان غيبته يُحجب باب القضاء والحكومة وتبقى الخصومات والاضطرابات والفوضى بين المسلمين أو يتمّ تسليم الأمور القضائيّة والسياسيّة للكفرة والظالمين، فإنّ هذا أمرٌ غير محتمل قطعاً.
ويمكن التعليق على هذه المناقشة بأنّه إذا دلّ الدعاء على أنّ المراد بالخلفاء والأصفياء هم أهل البيت النبوي، فإنّه ظاهر في حصره بهم، فالآية تريد أن تقول بأنّ هذا المقام هو مقامنا، وتبني على أساس ذلك أنّ الذين أخذوا هذا المقام سلبونا إيّاه، وأنّ صلاة عيد الأضحى والجمعة من شؤون الإمام، وعليه يكون ذلك كافياً لإثبات أنّ هذا المقام له، فتصدّي الآخرين لذلك هو تصدٍّ لغير مقامهم، ما لم يدلّ دليل يسمح لغيرهم بذلك. ولا عبرة هنا بعنوان المقهوريّة والمغلوبيّة؛ فإنّ هذا جاء في الدعاء نتيجة للقاعدة المؤسَّسة أوّلاً، والتي هي أنّ هذا المقام هو مقامهم. وأمّا تشبيهه ـ حفظه الله ـ ذلك بباب القضاء، فهو في غير محلّه، فلو فرض أنّ باب القضاء مما لا يمكن رفع اليد عن تولّيه في عصر الغيبة؛ لعنوان ثانوي، وهو الهرج والمرج، فهذا لا يُثبت أنّ باب صلاة العيد والجمعة يكون على المنوال نفسه، وبخاصّة أنّ مفرض كلامنا هنا هو العنوان الأوّلي.
المناقشة الثانية: ما ذكره العلامة المجلسي، حيث قال: «والجواب أمّا أوّلاً، فبما عرفت أنّ المشار إليه بهذا المقام يحتمل أن يكون الخلافة الكبرى؛ لظهور آثارها في هذا اليوم، بقرينة قوله بعد ذلك: «حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين يرون حكمك مبدلاً وكتابك منبوذاً وفرائضك محرّفة من جهات إشراعك، وسنن نبيك متروكة»، إذ ظاهر أنّ الأمور المذكورة مما يترتب على الولاية الكبرى، والخلافة العليا. وثانياً بأنّه على تقدير تسليم إرجاع الضمير إلى الصلاة والخطبة، يمكن إرجاعه إلى الصلاة المخصوصة؛ إذ إرجاع الضمير إلى الخاصّ أولى من إرجاعه إلى العام المتحقّق في ضمن الخاص، كما إذا أشير إلى هذا بزيد وأريد به زيد أو الانسان المتحقّق في ضمنه، وظاهر أنّ الأوّل أظهر وأحقّ بكونه حقيقة، والصلاة المخصوصة كانت صلاة [محرّمة]؛ لحضور الإمام بغير إذنه× مع قهره× على الحضور والاقتداء به، فلا يدلّ على المنع من غيرها. وثالثاً بأنّه على تقدير تسليم إرجاع الضمير إلى مطلق الصلاة، يكفي لصدق الاختصاص المستفاد من اللام كونهم أحقّ بها في الجملة، مع أنّه قد حقق المحقّق الدواني في حواشيه على شرح المختصر العضدي أنّ هذا الاختصاص ليس بمعنى الحصر، بل يكفي فيه ارتباطٌ مخصوص، كما يقال: الجل للفرس..» (بحار الأنوار 86: 220 ـ 221).
المناقشة الثالثة: إنّ هذا الدعاء غير ثابت سنداً، وقد حقّقناه باختصار في كتابنا (فقه الحرب والسّلم في الشريعة الإسلاميّة 2: 300 ـ 303)، ووافقنا هناك السيد الخميني (المكاسب المحرّمة 1: 320)، على أنّه يمكن تحصيل وثوق بالصحيفة السجاديّة، لكنّه ليس وثوقاً بكلّ جملة أو فقرة منها، فإنّه ليس ثابتاً، وسندها ضعيف.
الوجه الرابع: التمسّك بما في دعائم الاسلام عن عليّ× أنّه قال: «لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلا للإمام أو من يقيمه الإمام» (دعائم الإسلام 1: 183)، فإنّه يدلّ على اختصاص منصب الجمعة بالإمام المنصوص أو من ينصبه، الأمر المفقود في زمن الغيبة.
وناقشه أستاذنا الإيرواني بأنّ الرواية قابلة للتأمل سنداً ودلالةً، فبعد ضعف سند كتاب الدعائم لا أقلّ بالإرسال، لا بدّ من كون المقصود من اختصاص تلك المناصب به× كونها كذلك في زمن حضوره، ولا معنى له في زمن غيبته، ولا أقلّ من احتمال كون نظر الرواية إلى ذلك، فلا يعود مانعٌ عن التمسّك بإطلاقات الأدلّة المتقدّمة الدالة على الوجوب حتى في عصر الغيبة. كما أنّه من غير المحتمل شمول الرواية المذكورة لعصر الغيبة؛ إذ لا يحتمل تقديم الظالمين والكافرين مع إمكان تصدّي المؤمنين العدول للحكومة.
ويمكن التعليق ـ بعد الموافقة على ضعف سند دعائم الإسلام، لا أقلّ بالإرسال ـ بأنّ منهجه ـ حفظه الله ـ تبعاً لمثل أستاذه السيد الخوئي، هو عدم كفاية احتمال نظر الرواية لعصر الحضور، بل لا بدّ من الأخذ بالإطلاق، فإنّ الرواية مطلقة، وأمّا قوله بنفي احتمال تقديم الكافرين والظالمين على عدول المؤمنين في الحُكم، فهذا بنفسه يمكن اعتباره عند أستاذنا دليلاً على شرعيّة حكومة المؤمنين في عصر الغيبة، فيكون قائماً مقام الإذن الشرعي من الإمام في حكومة المؤمنين، فلا يتنافى ذلك مع إطلاق الرواية ولا سيما في باب الجمعة، فإنّ هذه الرواية محكومة لكلّ دليل يدلّ على ثبوت النصب من قبل الإمام لمثل الجمعة أو الحكم والسلطة، كما هو دليل الولاية العامّة للفقيه بناء على القول بها، فأيّ دليل عند الشيخ الأستاذ يعطي حكومةً شرعيّة لأحدٍ في عصر الغيبة سيكون دليلاً على كون هذا الذي منح السلطةَ في عصر الغيبة مأذوناً من قبل الإمام وقائماً مقامه من قبله، فيكون مشمولاً لذيل الرواية، فلا موجب لفرض تعارض بين الرواية وبين مثل هذه الأدلّة لو تمّت.
الوجه الخامس: جريان السيرة من لدن عصر النبيّ‘ على كون نصب أئمّة الجمعة من شؤون الإمام، فهو الذي ينصبهم، الأمر المتعذّر تحقّقه في زمن الغيبة، ومعه كيف يمكن التصدّي للجمعة مع عدم إمكانيّة الحصول على نصب الإمام؟!
وناقشه أستاذنا الإيرواني بأنّ الاحتياج إلى نصبه لإمامة الجمعة أمرٌ لا شكّ فيه في زمن الحضور، كما هي الحال في منصب القضاء، إلا أنّ هذا لا يعني أنّه في زمن الغيبة يجب سدّ باب القضاء والجمعة، بحجّة عدم إمكان تحصيل النصب. وبعبارة أخرى: منصب الجمعة من المناصب المهمّة في المجتمع الإسلامي، فلا بدّ أن يكون أمرها بيد الإمام، إلا أنّ مجرّد كونه كذلك حال حضوره لا يعني أنّه حال غيبته ينسدّ الباب بالكليّة، بل لا بدّ من أخذ النصب من حاكم المسلمين الشرعيّ.
وقد يجاب عن هذه المناقشة بأنّ المستدلّ هنا يفترض أنّ السيرة تحوي ارتكازاً بشرطيّة إذن الإمام ونصبه في الجمعة، ومع هذا الارتكاز يصبح الأمر متعذّراً في عصر الغيبة، فعلى القاعدة يفترض زوال وجوب الجمعة بل وشرعيتها بزوال شرطها. ودعوى التشبيه بالقضاء سبق أن أشرنا لعدم دقّتها.
وعليه، فلعلّ الأصحّ في المناقشة هنا هو ما ذكرناه في تعليقاتنا النقديّة على أصل اشتراط الجمعة بإذن الإمام، فراجع الجهة الثالثة من هذا البحث، مضافاً إلى أنّ هذا الدليل يظلّ محكوماً لكلّ دليل يعطي شرعيّةً لإمامة أحدٍ ما في عصر الغيبة من قبل أهل البيت، مثل أدلّة الولاية العامّة للفقيه ـ على القول بها ـ ونحو ذلك.
وقد كان السيّد الخوئي ناقش في السيرة بمناقشة مهمّة، حيث قال: «هذه الدعوى كما ترى، بل هي من الغرابة بمكان، أمّا عصر النبيّ‘، فلا سبيل لنا إلى العلم بإقامة الجمعة في غير بلده‘ من سائر القرى والبلدان، إذ لم ينقله التاريخ ولم يرد به النص، وعلى تقدير الإقامة فلم يعلم اشتراطها بالإذن ونصب شخص لها بالخصوص، فلا طريق لنا إلى استكشاف الحال واستعلام الوضع في ذلك العصر. وأمّا زمن مولانا أمير المؤمنين×، فهو وإن كان ينصب الولاة والقضاة في أقطار البلاد، وبطبيعة الحال كانوا هم المقيمين للجمعات، إلا أنهم كانوا منصوبين لعامّة الأُمور وكافة الشؤون، وكان تصدّيهم للجمعة من مقتضيات مقامهم حسب ما يقتضيه التعارف الخارجي، لا أنهم كانوا منصوبين بالخصوص لهذا الشأن، وبين الأمرين بونٌ بعيد. وأمّا في عصر سائر المعصومين ـ عليهم السلام ـ فلم يثبت منهم النصب رأساً ولا في موردٍ واحد، بل قد ثبت منهم الإذن على سبيل الإطلاق من دون تعيين شخص خاص، كما تُفصح عنه الأخبار المرخّصة لإقامتها في القرى إذا كان فيهم من يخطب لهم وغيرها، فدعوى استقرار السيرة مع عدم ثبوت النصب حتى في موردٍ واحد من غرائب الكلام» (المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة، موسوعة الإمام الخوئي 11: 32 ـ 33).
الوجه السادس: إنّ إقامة الجمعة مثارٌ للفتنة، حيث إنّه لا محالة توجد شخصيّات متعدّدة مؤهّلة للتصدّي لمنصب الإمامة، ومن الطبيعي أن تكون لكلّ شخصيّة رغبة في هذا التصدّي، وكذلك لأنصارها ومؤيّديها، فإذا أقمنا الجمعة تزاحمت المصالح، وأوجب ذلك الفتن والنزاعات، وقد تقدّم كلام صاحب الجواهر حول مشكلة إصفهان، وقد وقع مثله في مدينة الكاظميّة وقتل أربعة أو خمسة أشخاص. ومع كون أمر الجمعة كذلك، كيف يمكن للشارع الأمر بما يوجب الفتن والنزاعات، بل كون إقامة الجمعة موجباً لذلك سببٌ في دعوة الشارع لعدمها في عصر الغيبة.
ويناقش:
أوّلاً: إنّ هذا لا يختصّ بالجمعة، بل هو ثابتٌ في كلّ منصب حسّاس وخطير، حتى منصب إمامة الجماعة يمكن أن يكون سبباً لذلك في ظروفٍ زمانية ومكانيّة معيّنة، ولا يعني ذلك إصدار حكم بالحرمة المطلقة عليها.
ثانياً: إنّ العنوان المذكور ليس ملازماً لإقامة الجمعة، بل قد يكون موجوداً معها وربما لا يكون كذلك، ومعه فالمناسب هو الحكم بوجوبها تمسّكاً بإطلاق الأدلّة المتقدّمة، غايته أنّه بسبب العنوان الثانوي تحرم عند عروض موجب الحرمة، ولا يعني ذلك حرمتها عند عدمه، كما في حالات وجود الدولة الإسلاميّة أو المرجعيّة البارزة النافذة، حيث يمكن تفادي الكثير من تلك المفاسد والفتن. بل قد قال السيد الخوئي ـ في مقام النقد هنا ـ بأنّ هذا لا يثبت الحرمة بل تفي به فكرة الوجوب التخييري، فإنّه حيث يلزم من إقامة الجمعة صراعات ومفاسد، ننتقل للظهر، وإلا فنرجع للجمعة (المستند في شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة، موسوعة الإمام الخوئي 11: 34).
الوجه السابع: التمسّك بخبر سماعة، قال: سألت أبا عبدالله× عن الصلاة يوم الجمعة؟ فقال: «أمّا مع الإمام فركعتان، وأما من صلّى وحده فهي أربع ركعات وإن صلّوا جماعة». وذلك أنه دالّ على لزوم الإتيان بها أربع ركعات حتى لو انعقدت الجماعة مع عدم وجود الإمام×، ولا يمكن إتيانها ركعتين عند ذلك، وهذا يعني أنّ وجود الإمام شرطٌ لأداء الجمعة؛ لأنّ عدم إمكان إتيانها ركعتين يعني ـ بطبيعة الحال ـ عدم إقامتها جمعة.
ونوقش في هذا الوجه من نواحٍ ثلاث:
أ ـ إنّ المقصود من الإمام الوارد في الرواية هو الإمام الخطيب، لا الإمام المنصوص، ولا أقلّ من احتمال ذلك فيمكن البقاء على مقتضى إطلاقات أدلّة الوجوب المتقدّمة.
ب ـ إنّ الرواية المذكورة قد وقع تضارب في نقلها، ويظهر ذلك من أمرين:
أحدهما: إنّ قيد «وإن صلّوا جماعة» الموجود في ذيلها لم يرد في نقل الصدوق للرواية، حيث رواها عن أبي عبدالله× قال: «صلاة الجمعة مع الإمام ركعتان، فمن صلّى وحده فيه أربع ركعات». وهذا ظاهر في كون المقصود من الإمام هو إمام الجماعة دون غيره.
ثانيهما: إنّ كتاب الكافي نفسه تضاربت نسخه؛ إذ وردت الرواية فيه بإحدى النسختين بالشكل المتقدّم سابقاً، إلا أنّه في نسخة أخرى جاء: قال: سألت أبا عبدالله× عن الصلاة يوم الجمعة؟ فقال: «أمّا مع الإمام فركعتان، وأمّا من يصلّي وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر، يعني إذا كان إمامٌ يخطب، فإن لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات وإن صلّوا جماعة». وعليه فلا يمكن الاعتماد على النقل السابق بقيده الأخير مع هذا التضارب.
ج ـ إنّه لو قصرنا النظر على الرواية بمتنها السابق لوجدنا نحو منافرة وتهافت يوجب عدم الانسجام في داخلها؛ فإنّه كيف يصحّ التعبير بـ «من صلّى وحده»، وفي الوقت نفسه يعبّر «وإن صلّوا جماعة».
إلى غيرها من الأدلّة والوجوه التي ذُكرت هنا لإثبات الحرمة، فلا نطيل.
وبما تقدّم ظهر أنّ مختلف الأدلّة التي أُقيمت على عدم شرعيّة صلاة الجمعة زمن الغيبة غير تامّة، فالصحيح ـ وفقاً للأدلة والنصوص ـ هو المشروعيّة في زمانَي: الحضور والغيبة.
الرأي المختار
بناءً على مجمل ما تقدّم، يمكن القول:
أ ـ يجب عقد الجمعة وإقامتها على المسلمين بنحو الوجوب الكفائي، بمعنى أنّه يلزم في كلّ مدينة أو قرية وجود صلاة جمعة جامعة، بحيث يصدق أنّ بلاد المسلمين معمورة بصلوات الجمعة، فإذا لم يكن الأمر كذلك لزم على المؤمنين ـ بمن فيهم السلطة الحاكمة ـ السعي لعقد صلاة الجمعة في البلدان والأمصار، فإذا تحقّق هذا الأمر لم يعد يلزم عقد الجمعات ما دام بإمكان كلّ مسلم، نوعاً، وجبت عليه الجمعة ـ عدا من سقطت عنه كالمرأة والمريض والشيخ الكبير وغيرهم ممن سيأتي الحديث عنهم ـ أن يحضرها.
ب ـ أمّا بعد النداء للجمعة، والذي هو تعبيرٌ آخر عن إقامتها وتحقّقها خارجاً، فإنّه يلزم على المسلمين حضورها وأداء صلاة الجمعة مع الإمام إذا لم يكونوا من الفئات التي سقطت عنها الجمعة.
ج ـ وأمّا على تقدير عصيان صلاة الجمعة بأن لم يذهب المكلّف إليها، أو على تقدير اختلال شرط من شروط الوجوب أو نحو ذلك فيها، فإنّ الثابت هو صلاة الظهر يوم الجمعة.
د ـ وبهذا تكون صلاة الجمعة واجبةً تعيينياً كفائيّاً في مرحلة عقدها وإقامتها ابتداءً (أو فقل: واجبة عينيّاً على الأمّة أو الجماعة)، ولا أقلّ من الاحتياط اللزومي الشديد، وواجبةً تعيينيّاً عينيّاً في مرحلة البقاء بعد عقدها، وغير واجبة مطلقاً على من سقطت عنه، بل يأتي بالظهر (وسيأتي الكلام حول أنّه هل يمكنه الإتيان بالجمعة رغم سقوط وجوبها عنه أو لا؟)، وبهذا لا معنى للوجوب التخييري الذي ذهب إليه المشهور، كما لا معنى للوجوب العيني التعييني الابتدائي.
هـ ـ ولا فرق في جميع ما قلناه بين عصر الحضور وعصر الغيبة، ولا بين السلطة الشرعيّة وغيرها، ولا بين وجود سلطة أساساً أو عدمه، لكن لو فرض أنّ السلطات ـ الشرعيّة أو غيرها ـ قامت بعقد الجمعات، غير أنّ إمام الجمعة لم يكن أهلاً للإمامة في صلاة الجماعة مثلاً من وجهة نظر المكلّف، فإنّ الحكم هنا له وجهان: وجوب أداء هذه الجمعة، ووجوب إقامة جمعة ثانية مستقلّة، وسيأتي تحقيق ذلك قريباً إن شاء الله.
ثانياً: المسألة في ضوء الأدلّة الفقاهتيّة أو مقتضى الأصل
لن أخوض في هذا البحث، لعدم الحاجة إليه بعدما تقدّم، لكن لا بأس بعرض بعض وجهات النظر التي طرحها الفقهاء، مع بعض التعليق القليل، وإلا فالأصل هو مجرّد العرض.
إذا فرضنا أنّ الأدلّة الاجتهاديّة الخاصّة لم تفِ بمعرفة النتيجة، ولو لتعارضها، ننتقل إلى خطوتين متتاليتين:
الخطوة الأولى: البحث عن وجود أدلّة اجتهاديّة يمكن أن تكون مرجعاً لنا بعد سقوط الأدلّة المرتبطة بالمسألة بخصوصها، وهنا قد يُدّعى وجود عمومات فوقانيّة يُرجع إليها، وهذه العمومات هي ما دلّ على أنّ الواجب على المكلّف في كلّ يوم خمس صلوات، وما دلّ على أنّها سبعة عشرة ركعة، ففي خبر الفضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبدالله× يقول ـ في حديث ـ: «إنّ الله عزّ وجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات، فما ضاف رسول الله× إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة.. فأجاز الله ذلك كلّه، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة..». فإنّها دالّة بإطلاقها على وجوب سبعة عشرة ركعة في كلّ يوم، بما في ذلك يوم الجمعة زمن الحضور والغيبة، وقد خرج من تحت هذا الإطلاق يوم الجمعة في عصر الحضور، إلا أنّه لا يُعلم خروج يوم الجمعة عصر الغيبة عن هذا الإطلاق، فيكون الشكّ حينئذٍ من موارد الشك في التخصيص الزائد، وهو كالشكّ في أصل التخصيص، حيث يتمسّك حينها بالإطلاق لنفي التخصيص الزائد المشكوك. وعليه فلا بدّ في يوم الجمعة ـ انسجاماً مع الإطلاق المذكور ـ من الإتيان بسبع عشرة ركعة، الأمر الذي يعني عدم وجوب الجمعة؛ لأنّ وجوبها يساوق إلغاء الركعات السبعة عشر، ليحلّ مكانها خمس عشرة ركعة الأمر المنفي بالإطلاق كما تقدّم. وبناءً عليه، فمقتضى الإطلاقات والعمومات الفوقانيّة هو عدم وجوب الجمعة، بل عدم شرعيّتها عصر الغيبة، والمتعيّن الإتيان بالظهر.
إلا أنّ هذا الكلام الذي ذكره السيد الخوئي (شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة 1: 56)، قابلٌ للمناقشة، من جهتين:
أ ـ إنّ روايات السبع عشرة ركعة لا إطلاق فيها؛ إذ لم ترد في مقام البيان من جميع الجهات، وإنّما كانت بصدد بيان أصل الواجب غالباً، وإلا فما هو الموقف من صلاة العيدين والآيات والقضاء وغير ذلك؟!
ب ـ إنّه مع تسليم انعقاد الإطلاق، فإنّ الإتيان بالجمعة لا ينافيه بناء على بعض الآراء والتي ترى أنّه قد دلّت بعض الروايات على أنّ الخطبتين بمنزلة الركعتين، وفي بعضها أنّها صلاة، ومعه فسوف يبقى المأتيّ به ظهر الجمعة أربع ركعات، غايته في حال الإتيان بالظهر تكون أربع ركعاتٍ حقيقيّة، وفي حال الإتيان بالجمعة تكون هناك ركعتان تنزيليّتان، وهذا لا ضير فيه، فلا منافاة بين الإطلاق ووجوب الجمعة.
وعليه، فالإطلاقات والعمومات الفوقانيّة حياديّة هنا، فلزم الانتقال للخظوة التالية.
الخطوة الثانية: البحث في مقتضى الأصل، وهنا يتركّز نظرهم على تحديد الموقف زمن الغيبة، فيقال: تارة نبني على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، وأخرى ننكر ذلك، ونبني على اختصاص جريانه بالشبهات الموضوعيّة.
1 ـ فإن قلنا بجريانه في الشبهات الحكميّة كالموضوعيّة، فمقتضاه حينئذٍ استصحاب وجوب الجمعة الثابت قبل الغيبة، فيثبت وجوب الجمعة ـ بهويّته الواحدة ـ في عصري الحضور والغيبة، بالدليل والأصل.
قد يقال: إنّ إجراء الاستصحاب في المقام غير ممكن؛ إذ إنّ الموضوع مختلف، فالمتيقّن السابق هو وجوب الجمعة على المكلّفين في عصر الحضور، وهم يغايرون المكلّفين عصر الغيبة المشكوك شمول الحكم لهم بقاءً، ومع تغاير الموضوع كيف يمكن الاستصحاب؟!
ويجاب: إنّ الأحكام الشرعيّة مسوقة على نهج القضية الحقيقيّة، فليست متهجة للأفراد الخارجيين، حتى يُدّعى تغاير الموضوع، بل متعلّقة بعنوان المكلّف الصادق على جميع المكلّفين الموجودين والمقدّري الوجود، وإن اختلفوا في كثير من الأحوال والعوارض الجانبيّة كعارض معاصرة الحضور والغيبة، فإن تلك العوارض لا توجب تغايراً في عنوان المكلّف، وعليه فالحكم من البداية متعلقٌ بالجميع، غايته يُشكّ بعد الغيبة في ارتفاعه عن بعضهم، فيُستصحب.
2 ـ وأمّا إذا أنكرنا جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، فلا بدّ من معالجة المسألة ضمن افتراضات حاصرة ذكروها:
الافتراض الأوّل: أن يدور الأمر بين أن تكون الجمعة حراماً أو واجباً تخييرياً أو تعييناً، وهذا هو أوسع الافتراضات.
والمناسب في مثل هذه الحالة هو إجراء البراءة عن الحرمة والتعيين؛ لأنّ كلّ واحد منهما فيه مؤونة وضيقٌ زائد منفيٌّ بالأصل، وعليه فيحكم بالتخيير بين فعلها وتركها.
الافتراض الثاني: أن يدور الأمر بين الحرمة والوجوب التخييري مع استبعاد احتمال الوجوب التعييني.
وهنا لا بدّ من إجراء البراءة عن الحرمة؛ لأنّها تكليف مشكوك، فيكون منفيّاً بالأصل. ولا يعارَض إجراء البراءة عن الحرمة بإجرائها عن الوجوب التخييري؛ لعدم جريانه في طرفه من رأس؛ وذلك لأنّ نفي هذا الوجوب التخييري لازمه أحد احتمالات ثلاثة:
إثبات الوجوب التعييني، وهو موجب لعدم جريان البراءة؛ لفرض كونها دليلاً امتنانياً وإجراؤها عن الوجوب التخييري صار مستدعياً لضيق وتكليف زائد وهو خلف الامتنان.
إثبات الحرمة وهو أيضاً مانع عن إجراء البراءة لنفس النكتة المتقدّمة.
إثبات الإباحة، وهذا غير معقول في حدّ نفسه؛ لفرض كونها عبادة، ولا معنى للإباحة في العبادات كما هو معروف.
وعليه فلا مجال لإجراء البراءة عنه، فتكون أصالة البراءة عن الحرمة محكّمة وسالمة عن المعارض، ومعه تكون النتيجة ثبوت الوجوب التخييري.
الافتراض الثالث: أن يدور الامر بين الحرمة والوجوب التعييني مع استبعاد احتمال الوجوب التخييري.
لا إشكال في عدم إمكان الحكم بالتخييري من الوجوب لفرض عدم احتماله، ومعه فيوجد أمامنا إجابتان:
الإجابة الأولى: ما ذكره السيد الخوئي من لزوم الاحتياط بالإتيان بالظهر والجمعة معاً؛ وذلك لأنّه يوجد في الحقيقة عندنا علم إجمالي بوجود وجوب تعييني متعلّق بإحدى الصلاتين الجمعة والظهر، ومعه فيلزم الاحتياط بفعله معاً وفاءً لمنهجيّة العلم الإجمالي، ولا يمكن التخيير بينهما لفرض انتفائه في المقام حسب الفرض (شرح العروة الوثقى، كتاب الصلاة 1: 58).
الإجابة الثانية: ما ذكره بعضٌ من أنّه يلزم الإتيان بالظهر لا محالة، إلا أنّه يتخيّر المكلف بين فعل الجمعة وتركها.
وقال بعضٌ بأنّ الراجح من هاتين الإجابتين هي الثانية، وذلك أنّ لدينا هنا علمين إجماليين:
الأول: علم إجمالي بوجوبٍ تعييني متعلّق، إمّا بالظهر أو الجمعة؛ إذ يعلم بوجوب صلاةٍ يوم الجمعة وجوباً تعيينيّاً ولا احتمال لكونه تخييرياً كما هو الفرض.
الثاني: علم إجمالي بكون الجمعة إمّا واجبة تعييناً أو محرّمة؛ إذ هذا هو الفرض مع وجود علمين إجماليّين، فلا بدّ من ملاحظة دائرة تنجيزهما، وعليه نخرج بلزوم الظهر حتماً تعييناً؛ لفرض كونها طرفاً في العلم الإجمالي الأوّل، وأمّا الجمعة فالمفروض أنّ أمرها كما هو الحال في العلم الإجمالي الثاني دائرٌ بين المحذورين الوجوب والتحريم، ومعه فيحكم بكون المكلّف ـ وكما القاعدة العامة في موارد دوران الأمر بين المحذورين ـ مخيّراً بين الفعل والترك. والنتيجة لزوم الإتيان بالظهر على كلّ حال والتخيير العملي بين الفعل والترك بالنسبة للجمعة، دون الاحتياط بفعلهما معاً.
الافتراض الرابع: أن يُفرض العلم بجامع الوجوب إلا أنّه يدور الأمر بين كونه وجوباً تعيينياً أو تخييرياً مع استبعاد احتمال الحرمة تماماً.
وهنا قالوا بأنّه لا بدّ من إجراء البراءة عن الوجوب التعييني؛ لأنّه تكليف مشكوك؛ إذ في التعيين مؤونة وكلفة زائدة، ولا يمكن إجراء البراءة عن الوجوب التخييري؛ لأنّ البراءة عنه تؤدّي إلى التعيين، لفرض انحصار الأمر بهما، ودليل البراءة مسوقٌ مساق الامتنان والتوسعة، فلا يعقل جريانه في طرف الوجوب التخييري؛ لأدائه إلى التعيين الذي هو خلف الامتنان والتوسعة.
نكتفي بهذا القدر، فالمقام ليس مقام التوسّع والتفصيل.