التعليقة على منهاج الصالحين (صلاة الجمعة ـ القسم الأوّل)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(26 ـ 12 ـ 2024م)
الفصل الثالث عشر
في صلاة الجمعة وفي فروعها
الأول: صلاة الجمعة ركعتان، كصلاة الصبح، وتمتاز عنها بخطبتين قبلها، ففي الأولى منهما يقوم الإمام ويحمد الله ويثني عليه ويوصي بتقوى الله ويقرأ سورة من الكتاب العزيز ثم يجلس قليلاً، وفي الثانية يقوم ويحمد الله ويثني عليه ويصلّي على محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ وعلى أئمّة المسلمين عليهم السلام، ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات([1]).
الثاني: يعتبر في القدر الواجب من الخطبة: العربية، ولا تعتبر في الزائد عليه، وإذا كان الحاضرون غير عارفين باللغة العربية فالأحوط هو الجمع بين اللغة العربية ولغة الحاضرين بالنسبة إلى الوصيّة بتقوى الله([2]).
_______________________
([1]) ما أفاده السيد الماتن صحيحٌ في الجملة، لكن لا بدّ من بعض التعليق والتوضيح، ضمن أمور:
الأمر الأوّل: لعلّ السيد الماتن اختار هذا الموضع لذكر صلاة الجمعة بين بحثَي: أفعال الصلاة ومنافياتها، لكون صلاة الجمعة فرداً من أفراد الصلاة اليوميّة وليست منفصلة عنها، ولهذا اختلف الفقه الإسلامي في أنّ صلاة الجمعة هل هي صلاة ظهرٍ لكنّها مقصورة أو أنّها صلاةٌ أخرى في عرض صلاة الظهر، وتعتبر مستقلّةً، غايته هي من الصلوات اليوميّة؟ ولكنّ العديد من الفقهاء الذين تعرّضوا لصلاة الجمعة لم يفعلوا كما فعل الماتن، بل ذكروها بعد ذلك عندما كانوا يتحدّثون عن أنواع الصلاة الأخرى، كصلاة الآيات وصلاة الجماعة وصلاة المسافر وصلاة القضاء وصلاة الاستئجار ونحوها. ولعلّ الأنسب بالمنهجة ذكرها هناك، والله العالم.
الأمر الثاني: كيفيّة الخطبتين، فقد وردت مجموعة من الروايات التي ذكرت الكيفيّة، وذلك على الشكل الآتي:
أما الخطبة الأولى، فلا بدّ فيها من: أ ـ حمد الله والثناء عليه. ب ـ الحثّ على التقوى. ج ـ قراءة سورة قصيرة.
وأمّا الخطبة الثانية، فلا بدّ فيها أيضاً من: أ ـ حمد الله والثناء عليه. ب ـ الصلاة على محمّد وآله الطاهرين. ج ـ الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات.
وهذا الترتيب دلّت عليه بعض الروايات، مثل موثقة سماعة ـ في حديث ـ قال: قال أبو عبدالله×: «يخطب، يعني إمام الجمعة، وهو قائم يحمد الله ويثني عليه، ثمّ يوصي بتقوى الله، ثمّ يقرأ سورة من القرآن صغيرة (قصيرة)، ثم يجلس، ثمّ يقوم فيحمد الله ويثني عليه، ويصلّي على محمّد‘ وعلى أئمّة المسلمين، ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإذا فرغ..»، ووردت روايات أخر ـ وفيها ما هو صحيح السند ـ بكيفيّات مختلفة بعض الشيء، ومع ضمّ نصوص أهل السنّة يكثر الاختلاف، لكنّ مجموع النصوص يعطي التأكيد على هذه المفاهيم مثل: حمد الله والثناء عليه، والصلاة على النبيّ وآله، وقراءة شيء من القرآن الكريم، والوعظ والأمر بالتقوى، والاستغفار، فالخطبة يلزم أن تشتمل على مثل هذه الأمور المركزيّة بحيث تكون نواة الخطبة، بل قيل بأنّ "الخطبة" عامّةً في الثقافة العربيّة الإسلامية تعني هذه المفاهيم، وكأنّ هذه التعريفات والكيفيّات الواردة في النصوص لبيان ما يصدق عليه عنوان الخطبة في العرف اللغوي العربي في العصر الإسلامي، فكأنّه لا يصدق عنوان الخطبة بدون مثل هذه الأمور، ويصدق بها لوحدها.
ولم تكن الخطب في القديم طويلةً كما هي اليوم، بل كانت قصيرة جداً، ولعلّ هذا ما يفسّر أنّه لم تنقل خطب النبيّ أو غيره في الجمعات، لكونها في الغالب كانت مقتصرةً على كلمات قليلة لا تتعدّى بضع دقائق محدودة جداً، ومن هنا فالمتداول في النصوص الفقهيّة والتاريخية أنّ خطب النبيّ في الجمعة كانت قرآناً، حتى أنّ بعض المسلمين كانوا يحفظون بعض السور؛ بسبب تكرار النبي لها في خطب الجمعة، كسورة "ق". لكن من ملاحظة النصوص المتعارضة جزئياً هنا يُفهم أنّ الفكرة المركزيّة هي اشتمال الخطب على هذه القضايا المشار إليها آنفاً، أمّا تحديد الخطبة الأولى والثانية بكيفيّات خاصّة ومختلفة، فهذا لا يبدو واضحاً من حيث البُعد الإلزامي، والاحتياط حسنٌ بذكر كلّ ما هو محتمل الوجوب.
الأمر الثالث: القيام والجلسة الخفيفة بين الخطبتين، فقد ذكروا أنّه حينما يقرأ الإمام الخطبتين، لا بدّ له من:
أ ـ القيام أثناء الخطبة.
ب ـ الجلوس جلسة خفيفة بين الخطبتين.
والمدرك لذلك عدّة روايات، كخبر محمّد بن مسلم: قال: سألته عن الجمعة؟ فقال: «بأذان وإقامة، يخرج الإمام بعد الأذان فيصعد المنبر فيخطب، ولا يصلّي الناس ما دام الإمام على المنبر، ثم يقعد الإمام على المنبر قدر ما يقرأ >قل هو الله أحد<، ثم يقوم فيفتتح خطبته، ثم ينزل فيصلّي بالناس..». كما ورد في بعض الروايات أنّ أوَّل من أخذ بالجلوس أثناء الخطبة هو معاوية بن أبي سفيان؛ لوجعٍ في رجليه، كما دلّت عليه رواية معاوية بن وهب: قال: قال أبو عبدالله×: «إنّ أوّل من خطب وهو جالس معاوية، واستأذن الناس في ذلك، من وجعٍ كان في ركبتيه..». وقد ورد موضوع القيام والجلسة الخفيفة في النصوص الشيعيّة والسنيّة المتعدّدة.
الأمر الرابع: مفهوم الخطبة السياسيّة والخطبة الدينيّة، وهو مفهومٌ راج بقوّة في العصر الحديث، ويوحي بأنّ خطبتَي الجمعة تشتملان على قسمٍ ديني وقسم سياسي يتعلّق بأمور المسلمين، ونلاحظ الحديث عن هذا الأمر في كلمات فقهاء ينتمون للحركة الإسلاميّة، وعلى سبيل المثال، يقول السيد محمّد حسين فضل الله في رسالته العملية: «ينبغي في الخطبة الثانية، عند التحدّث عن تقوى الله تعالى، الدعوةُ إلى العدل والإحسان والوحدة والإصلاح بين النّاس والتعرّض لقضايا المجتمع العامّة والمصيرية في شؤون السياسة والاقتصاد، وما يمسّ العالم الإسلامي من قضايا وأوضاع، ونحو ذلك مما يحرّك الوعي الشامل في الأمّة ويساهم في تثقيفها وتعريفها بمشاكلها وحلولها الناجعة، لتستطيع مواجهة التحدّيات من موقع الوعي الشامل؛ لأنَّ صلاة الجمعة تمثّل الصلاة العبادية الاجتماعيّة السياسيّة في فكر الإسلام وشريعته». ومثل ذلك نجد عند السيد روح الله الخميني والشيخ حسين علي المنتظري والسيد علي الخامنئي، وكذلك عند الشيخ محمّد الصادقي الطهراني، لكنّه ـ أي الطهراني ـ خصّص ذلك بالخطبة الأولى التي اعتبرها الخطبة السياسيّة، على عكس ما أفاده السيد فضل الله الذي اعتبر الخطبة الثانية هي الخطبة السياسيّة. وقريبٌ ـ نوعاً ما ـ من موقف هؤلاء الفقهاء ما ذهب إليه السيد محمّد سعيد الحكيم، إلى غيرهم من الفقهاء الذين يتبنّون في الغالب فكر الإسلام الحركي السياسي أو يكونون على مقربةٍ منه.
ولكنّ المراجع للنصوص الدينية عند المذاهب المختلفة، لا يرى عيناً ولا أثراً لشيءٍ من ذلك، ولا يظهر أنّ فكرة خطبة الجمعة تشتمل على فكرة التعرّض لقضايا المسلمين بقدر ما تشتمل على قضيّة الوعظ والأمر بتقوى الله سبحانه. هذا فضلاً عن فكرة أنّ الخطبة الثانية أو الأولى هي التي تكون مخصّصة لتناول قضايا الأمّة، كما يفهم من عبارتَي: فضل الله والطهراني.
ويرى بعض نقّاد سياسات الحركة الإسلاميّة أو ما يسمّى بـ "الإسلام السياسي" في العصر الحديث، أنّ الإسلام السياسي حاول التنافس على سلطة منبر الجمعة، وسعى لتغيير هويّته، وأنّه سخّر كلّ الأدوات المتاحة لمواجهة العلمانيّة والأنظمة الاستبداديّة، والتي منها سلطة منبر الجمعة وسلطة الفتوى، ولهذا ظهر في الأوساط السنيّة تيارٌ ثالث يتخطّى التيار الوعظي في خطبة الجمعة والتيار السياسي في هذه الخطبة، إلى القول بأنّ خطبة الجمعة يجب أن تكون موزّعة على شخصيّات متعدّدة لها اختصاصاتها بحيث لا تصبح حكراً على الخطيب الديني التقليدي (العالم الديني) ولا على الخطيب الإسلامي السياسي. ويذهب بعضهم أكثر من ذلك عبر القول بأنّ أوّل من سيّس خطبة الجمعة هم الأمويّون الذين أدخلوا في مراسيمها لعنَ عليّ بن أبي طالب وغيره من معارضي الدولة الأمويّة، إلى أن ألغى ذلك الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (101هـ)، ثم عادت هذه الظاهرة وتكرّرت في فترات محدودة، مثل أمر المأمون العباسي (218هـ) ـ كما يقول المسعودي ـ بلعن معاوية على منابر الجمعة، بل في بعض فترات العصر السلجوقي ظهر لعن الأشاعرة وسبّهم على بعض منابر الجمعة، الأمر الذي أثار اعتراضاتهم في غير مكان. وهكذا شيوع فكرة الدعاء للخليفة ضمن خطبة الجمعة ـ في العصر الأموي والعباسي والفاطمي والبويهي وغيرها ـ والذي استمرّ قروناً عديدة، وما يزال يُعمل به إلى اليوم في غير بلد، تعبيرٌ آخر عن تسييس خطبة الجمعة.
لكنّ أنصار الخطّ الإسلامي الحركي يرون أنّ صلاة الجمعة هي تجمّع إسلامي كبير، وهو فرصة عظيمة للنهوض بالأمّة. وتركُها لمجرّد الوعظ التقليدي البعيد عن معاصرة القضايا الحيّة في الأمّة، هو نوعٌ من تذويب هذا التجمّع العظيم والتضحية بإمكاناته الثرّة.
ونجد مواقف عديدة لعلماء كانوا يتحفّظون من بعض التفاصيل المتصلة بالخطبة السياسيّة، من نوع أنّه لا ينبغي لها أن تكون مادّةً للفرقة وتناول الخلافات السياسيّة والداخلية بين المسلمين، بل خطبة الجمعة توحّد وتجمع ولا تفرّق، وهذا ما ذهب إليه أمثال الشيخ محمّد الغزالي (1996م)، وقد رأى بعض هؤلاء أنّه لا ينبغي جعل خطبة الجمعة ناطقة باسم نظامٍ معين أو حزب معين أو فريق معيّن، بل تتكلّم في القضايا الإسلامية العامة الدينية والسياسيّة. فيما انتقد بعضهم ـ مثل الشيخ عائض القرني ـ أن تكون الخطبة في تسعين بالمائة منها سياسيّة، فيما عشرة بالمائة منها فقط دينيّة.
وقد ينطلق المنافحون عن الوجه السياسي لمنبر الجمعة من فكرة أنّ إمام الجمعة هو إمام المسلمين أو من يقوم مقامه، فهذا بنفسه يعطي صلاة الجمعة بُعداً سياسيّاً، ومن ثمّ يبرّر تحويل منبر الجمعة إلى منبر ديني سياسي معاً، وما يعزّز ذلك أنّ حالات التمرّد على السلطة السياسيّة كانت تظهر في التاريخ من خلال مقاطعة صلاة الجمعة، فكأنّ لها صلة بالسلطة، كما يبيّن ذلك الشيخ ناصر مكارم الشيرازي أيضاً في تفسيره. كما أنّه عبر التاريخ وقع جدلٌ واسع في مشروعيّة الثناء على السلطان أو الخليفة ومدحه، حتى أنّ بعض فقهاء المذهب الحنفي كان يرى استحباب أن يجلس المصلّي في الصفوف الأخيرة حتى يتفادى سماع مدح السلطة الجائرة، وكان الإمام الشاطبي (790هـ) يرى ـ في موقفٍ شهير له سبّب له مشاكل عدّة ـ بدعيّةَ الدعاء للخلفاء وإمام المسلمين وسلطان الوقت، وأنّ هذا ليس شيئاً موجوداً في فرائض أو أعمال صلاة الجمعة.
إلا أنّ هذه المنافحة غير كافية؛ وذلك أنّ الغطاء السياسي أو الجانب السياسي في صلاة الجمعة من خلال ارتباط إمام الجمعة بالسلطة، حتى لو سلّمناه ـ وسيأتي الحديث عنه قريباً ـ لا يعني أنّ خطبة الجمعة صارت تتطلّب حديثاً سياسيّاً أو اقتصاديّاً أو عسكريّاً أو نحو ذلك، بحيث تكون هذه هي هويّتها، فنحن نتكلّم هنا في الهويّة الأصليّة الشرعيّة لمنبر الجمعة، بل لعلّ المراد هو أنّ على السلطة السياسيّة أن تشارك في وعظ الناس وأنّها ليست محايدة أمام دين الناس وتقواهم، خلافاً لما تراه بعض التيارات العلمانية المتديّنة في العصر الحديث ـ وسبق أن ناقشناهم في كتابنا: فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ بل عليها، أعني السلطة السياسيّة، الحضور بنفسها لتساهم في تقوية إيمان الناس وربطهم بالله عزّ وجلّ، وأين هذا من فكرة التغيير الماهوي لخطبة الجمعة؟! كما أنّ الدعاء للخليفة والسلطان لم يرد في أعمال خطبة الجمعة، فالنقاش حوله نقاشٌ في البدعيّة والمشروعيّة، ولا ربط له بهويّة صلاة الجمعة.
والأقرب بالنظر أنّ خطبة الجمعة تتسم ببُعدٍ عبادي وعظي كما هو واضح من النصوص العديدة، وأنّ الجانب الديني هو الجانب المركزيّ في هذه الخطبة، وأنّه لا يصحّ تهميشه تماماً، أو خلق تصوّر ديني عام بأنّ خطبة الجمعة هي في الشرع خطبةٌ سياسيّة، أو أنّ تصوّرَ الشريعةِ لخطبة الجمعة هو أنّها "سياسيّة ـ عباديّة"، فهذا غير صحيح. نعم لا يحرم الحديث عن القضايا السياسيّة وغيرها بما ينفع المسلمين، بل هو أمرٌ محمودٌ في الجملة، لكنّه ليس جزءاً من وظيفة خطبة الجمعة الثابتة دينيّاً، ولا يصحّ أن يطغى عليها بحيث يتحوّل الوعظ الديني إلى مجرّد كلمتين رتيبتين في بداية الخطبة «عباد الله اتقوا الله»، أو «عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله فإنّها حصنٌ حصين»، وبخاصّة فكرة أنّ الخطبة الثانية ـ أو الأولى ـ يصبح عنوانها "الخطبة السياسيّة"، فهذا تغيير جوهري في هويّة الخطبة الثانية ويجب الالتفات له. ولهذا ورد أنّ النبيّ كانت خطبه العارضة أطول من خطبه الراتبة، فخطبة الجمعة هي الخطبة الراتبة، وأمّا لو طرأ حدثٌ على المسلمين وأراد النبيّ أن يكلّمهم بقضاياهم، فكانت خطبه العارضة هي التي تظهر في تلك الحال. نعم قد يجب الحديث السياسي بمعنى أن يكون متضمَّناً في صيغة الأمر بتقوى الله ومصاديق هذه التقوى كالجهاد أو إعانة المسلمين المضطهدين أو نحو ذلك، أو إذا كان هناك عنوان ثانوي ملزِم.
وربما تقول: إنّ خطب النبيّ والمسلمين الأوائل كانت قصيرة جداً وتكتفي بمثل هذه النصوص القليلة المشار إليها في بيان السيد الماتن، فهل هذا يعني أنّ الخطبة يجب أن تقتصر على هذا أو تكون قصيرة من هذا النوع؛ نظراً لجريان سيرة الأوائل على ذلك، وبخاصّة ما يقال تاريخيّاً من أنّ أوّل من أطال في خطبة الجمعة هم الأمويّون، وكانوا ينكّلون بمن يعترض عليهم في ذلك؟
والجواب: إنّ هذا غير صحيح؛ فإنّه لم يرد في دليل معتبر ما يفيد بوضوح لزوم قصر الخطبة ـ ولهذا قال جمهور فقهاء أهل السنّة بأنّ تقصير الخطبتين سنّة، وقال المالكية بأنّه مندوب ـ بل إنّ طبيعة الخطب القصيرة كانت من عادات البلاغة العربيّة، والعرب قبل العصر العباسي كانت خطبهم في العادة قصيرة، وفي العصر العباسي حدثت تحوّلات في بنية الكتابة والخطابة العربيّة، فأصبحنا نشاهد الجمل الطويلة والفقرات الطويلة والصفحات العديدة في الكتابة، وهو أمرٌ لم يكن مستحسناً كثيراً في أدبيّات العرب الأوائل، فلا يُعلم أنّ ذلك ـ قصر الخطبة ـ لمكان خصوصيّةٍ دينيّة ما. وما حدث في العصر الأموي ليس دليلاً على وجود بُعد شرعي، لا في الإطالة ولا في الاختصار.
ولا بدّ لي أخيراً من الإشارة المهمّة هنا إلى ضرورة الانتباه لقضيّة تغيير المفاهيم والهويّات الدينيّة، وهو أمرٌ لاحظناه على بعض التيارات التي ظهرت خلال القرن الأخير، فهي تقوم ـ وبدون مقاربات اجتهاديّة ـ بتحويل هويّة أمرٍ معين لتعطيه هويّةً أخرى، عبر مجرّد مقاربات خطابيّة أو عاطفيّة تنسجم مع السياق الاجتماعي الطاغي، أو تسلب عنه هويّته الأصيلة لتفرّغه من مضمونه تماماً، وهذه مشكلة لاحظناها عند أكثر من طرف، بمن فيهم بعض الإسلاميّين، وبعض التجديديّين الإصلاحيّين، وبعض المذهبيّين.
هذا، وسوف يأتي منّا بحول الله، عند التعليق على فقه الحجّ، ما يرتبط بالوظيفة السياسيّة للحجّ، وموضوع إعلان البراءة من المشركين فيه، والمنطلقات الفقهيّة والجدل الفقهي المرتبط بذلك.
([2]) اختلف فقهاء المسلمين في اشتراط اللغة العربيّة في خُطب الجمعة (وأحياناً اختلفوا في العيدين أيضاً):
أ ـ فذهب بعضهم إلى وجوب اللغة العربيّة، وهو ما اختاره العديد من فقهاء الإماميّة (في القدر الواجب من الخطبة)، والمالكيّة والحنابلة؛ حيث أفتوا بشرط العربيّة حتّى ولو كان السامعون لا يعرفون اللغة العربيّة، واحتاط وجوباً بعض الفقهاء بالجمع بين العربيّة وغيرها لو كان الحاضرون لا يعرفون العربيّة. وحاول بعضٌ الحديث عن إلقاء الخطبة بالعربيّة، ثم ترجمتها إلى لغة المستمعين.
ب ـ فيما رأى آخرون أنّ شرط العربية إنّما يثبت لو كان السامعون يعرفون العربيّة، أمّا لو كانوا لا يعرفونها فإنّه يجوز إلقاء الخطبة بغير العربيّة. وهو ما مال إليه بعض الحنابلة واشتهر بين الشافعيّة.
ج ـ ورأى فريقٌ ثالث أنّه لا تُشترط العربيّة أصلاً في الخطبة، فيمكن الإتيان بأيّ لغةٍ أخرى ما دام السامعون يفهمونها. والعربيّة مستحبّة أو هي الأحوط استحباباً لا أكثر. وهذا هو مذهب العديد من فقهاء الأحناف ومال إليه بعض الشافعيّة.
وفي العصر الحديث أفتى الكثير من فقهاء ومجامع الفقه عند أهل السنّة بجواز الخطبة بغير العربيّة إذا كان الحاضرون لا يفهمون اللغة العربيّة.
وقد بنى أصلَ المسألة بعضُ فقهاء الإمامية هنا على الاحتياط الوجوبي، مثل السيد الگلپایگاني، والسيد علي السيستاني، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والسيد محمّد سعيد الحكيم، والسيد صادق الشيرازي، وغيرهم. بل خالف صريحاً في أصل اشتراط العربية جماعةٌ (في غير النصّ القرآني المتضمَّن في الخطبة)، فأجازوا الخطبة بغير العربيّة، ومن هؤلاء: السيد محمّد باقر الصدر، والسيد كاظم الحائري، والشيخ محمد علي الأراكي، والسيد محمد حسين فضل الله، والسيد محمّد محمد صادق الصدر، والشيخ محمّد إسحاق الفيّاض، والسيد كمال الحيدري، والشيخ محمد الصادقي الطهراني، وغيرهم.
والأقرب بالنظر هو عدم اشتراط اللغة العربيّة، لا في خطبتَي الجمعة ولا في خطبة العيد ولا غير ذلك مما يُشبه هذا المقام، بل العبرة باستخدام اللغة التي توصل الفكرةَ للحاضرين، فلو استُخدمت العربيّةُ والحضور من غير العرب ولا يفهمون شيئاً من اللغة العربيّة بما في ذلك الأمر بتقوى الله مثلاً، فإنّ الاكتفاء باستخدام اللغة العربيّة مشكلٌ جدّاً هنا، بل ممنوع، كما أنّهم لو كانوا يعرفون العربية وغيرها جاز استخدام أيّ من اللغتين ما دام الغرض يحصل من ذلك، وإن كان الأحوط استحباباً هنا ـ أي في صورة معرفتهم العربيّة وغيرها ـ استخدام العربيّة، ولو كانوا لا يعرفون إلا العربية لزم استخدام العربيّة، وهكذا. نعم، مقتضى الاحتياط ذكر النصّ القرآني الذي في الخطبة باللغة العربيّة.
وعُمدة أدلّة الفقهاء هنا:
1 ـ التأسّي بالنبيّ وأهل بيته وصحابته، فإنّهم كانوا يستخدمون اللغة العربيّة.
ومن الواضح أنّه دليلٌ قابل للمناقشة جدّاً؛ إذ المفروض أنّ الحضور أو أغلبهم كانوا من الذين يفهمون العربيّة، لا أقلّ في المقدار الواجب من الخطبة، فكيف نعرف الاشتراط في مثل هذه الحال حتى بالنسبة لمن لا يعرف العربيّة؟! بل مقتضى طبيعة الأشياء أن يتكلّموا بالعربيّة فكيف يمكن استنتاج الموقف من مثل هذه الوقائع التاريخيّة؟!
2 ـ قاعدة الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
ومن الواضح أنّها محكومة لما يفيد نفي الاشتراط هنا، ولو كان أصلاً عمليّاً، كما حقّقه الأصوليّون في أمثال المقام.
3 ـ دعوى انصراف الأدلّة إلى العربيّة، فعندما تأمر النصوص بتحميد الله وتسبيحه ونحو ذلك فهذا منصرف إلى اللغة العربيّة.
وجوابه في تقديري واضحٌ، فلا دليل على هذا الانصراف، فالله يمكن تسبيحه بمختلف اللغات، وقد سبّحه الأنبياء السابقون وحمدوه وأثنوا عليه وغير ذلك بمختلف اللغات العربيّة وغيرها كما هو واضح، وصدق عنوان التسبيح والثناء والحمد على ذلك كلّه مؤكّد لغةً وعرفاً.
4 ـ إنّ الخطبتين في صلاة الجمعة تقومان مقام ركعتين، فكما تُشترط العربيّة في الركعات الصلاتيّة كذا هنا.
وجوابه: إنّه لو سلّمنا اشتراط العربيّة في الصلاة في غير القراءة ـ وقد ناقشناه سابقاً في مبحث تكبيرة الإحرام ـ فإنّه لا إطلاق في دليل التنزيل هنا، لو قلنا بحجيّته وبأنّ المراد منه التنزيل حقّاً (روايات جعل الجمعة ركعتين لمكان الخطبتين، لا دلالة لها على كون الخطبتين جزءاً من الصلاة وتترتّب عليهما أحكام الصلاة، باستثناء عدد قليل جدّاً من الأخبار الآحاديّة والتي عمدتها خبر عبد الله بن سنان، فإنّ فيها ما يفيد ذلك، لكنّ ظاهر بعض الروايات تخفيف الجمعة لركعتين لأجل الخطبتين، لا كون الجمعة هي المركّب من الخطبتين والركعتين، فراجع وتأمّل جيّداً)، ولهذا لم يشترطوا في الخطيب أن يكون مستقبلاً القبلة، بل لا يعقل أن يكون هو مستقبلها ويكون الحاضرون كذلك، والمفروض أنّ الخطبة جزءٌ من صلاة الجميع! ولم يشترط كثيرون العربيّةَ في غير المقدار الواجب من الخطبة، بل ذهب بعضهم لجواز الشروع في الخطبتين قبل الزوال، بل أغلب شروط الصلاة غير مأخوذة في المصلّين حال الخطبتين من الطهارة وغير ذلك، بل لم يرَ بعضهم اشتراط حضور الخطبة في تصحيح الصلاة، وهكذا، وهذا كلّه مؤشرٌ على أنّ التنزيل المدّعى ليس مراداً بنحوٍ يكون مرجعاً إطلاقيّاً.
إلى غير ذلك من الوجوه والمناقشات، فلا نطيل.