التعليقة على منهاج الصالحين (أفعال الصلاة ـ القنوت والتعقيب)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(19 ـ 12 ـ 2024م)
الفصل الحادي عشر
في القنوت
وهو مستحبّ في جميع الصلوات([1])، فريضة كانت أو نافلة، على إشكال في الشفع، والأحوط الإتيان به فيها برجاء المطلوبيّة. ويتأكّد استحبابه في الفرائض الجهريّة، خصوصاً في الصبح، والجمعة، والمغرب، وفي الوتر من النوافل([2]). والمستحبّ منه مرّة بعد القراءة قبل الركوع في الركعة الثانية، إلا في الجمعة، ففيه قنوتان قبل الركوع في الأولى، وبعده في الثانية([3])، وإلا في العيدين ففيهما خمسة قنوتات في الأولى، وأربعة في الثانية، وإلا في الآيات، ففيها قنوتان قبل الركوع الخامس من الأولى وقبله في الثانية، بل خمسة قنوتات قبل كلّ ركوع زوج، كما سيأتي إن شاء الله تعالى([4])، وإلا في الوتر ففيها قنوتان، قبل الركوع وبعده على إشكال في الثاني([5]). نعم يستحبّ بعده أن يدعو بما دعا به أبو الحسن موسى×، وهو: «هذا مقام من حسناته نعمة منك، وشكره ضعيف وذنبه عظيم، وليس لذلك إلا رفقك ورحمتك، فإنّك قلت في كتابك المنزل على نبيّك المرسل ـ صلى الله عليه وآله ـ كٰانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مٰا يَهْجَعُونَ، وبِالْأَسْحٰارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ طال والله هجوعي، وقلّ قيامي، وهذا السحر، وأنا أستغفرك لذنوبي استغفار من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً»([6]). كما يستحبّ أن يدعو في القنوت قبل الركوع في الوتر بدعاء الفرج وهو: «لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العليّ العظيم، سبحان الله ربّ السموات السبع، وربّ الأرضين السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ، وربّ العرش العظيم، والحمد لله ربّ العالمين»([7])، وأن يستغفر لأربعين مؤمناً، أمواتاً وأحياء([8])، وأن يقول سبعين مرة: «استغفر الله ربّي وأتوب إليه»([9])، ثم يقول: «استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم، ذو الجلال والإكرام، لجميع ظلمي وجرمي، وإسرافي على نفسي وأتوب إليه»، سبع مرات، وسبع مرات: «هذا مقام العائذ بك من النار»، ثمّ يقول: «رب أسأت، وظلمت نفسي، وبئس ما صنعت، وهذي يدي جزاء بما كسبت، وهذي رقبتي خاضعة لما أتيت، وها أنا ذا بين يديك، فخذ لنفسك من نفسي الرضا حتى ترضى، لك العتبى لا أعود»، ثم يقول: «العفو» ثلاثمائة مرة ويقول: «ربّ اغفر لي، وارحمني، وتب عليّ، إنّك أنت التوّاب الرحيم»([10]).
مسألة 664: لا يشترط في القنوت قولٌ مخصوص، بل يكفي فيه ما يتيسّر من ذكرٍ أو دعاء أو حمد أو ثناء، ويجزي سبحان الله، خمساً أو ثلاثاً أو مرّة. والأولى قراءة المأثور عن المعصومين عليهم السلام([11]).
مسألة 665: يستحبّ التكبير قبل القنوت، ورفع اليدين حال التكبير، ووضعهما، ثمّ رفعهما حيال الوجه، قيل: وبسطهماً جاعلا باطنهما نحو السماء، وظاهرهما نحو الأرض، وأن تكونا منضمّتين مضمومتي الأصابع، إلا الإبهامين، وأن يكون نظره إلى كفّيه([12]).
مسألة 666: يستحبّ الجهر بالقنوت للإمام والمنفرد، والمأموم، ولكن يكره للمأموم أن يسمع الامام صوته([13]).
مسألة 667: إذا نسي القنوت وهوى، فإن ذكر قبل الوصول إلى حدّ الركوع رجع، وإن كان بعد الوصول إليه قضاه حين الانتصاب بعد الركوع([14])، وإذا ذكره بعد الدخول في السجود قضاه بعد الصلاة جالساً مستقبلاً([15])، والأحوط ذلك فيما إذا ذكره بعد الهويّ إلى السجود قبل وضع الجبهة، وإذا تركه عمداً في محلّه، أو بعد ما ذكره بعد الركوع، فلا قضاء له.
مسألة 668: الظاهر أنّه لا تؤدّى وظيفة القنوت بالدعاء الملحون أو بغير العربي([16])، وإن كان لا يقدح ذلك في صحّة الصلاة.
الفصل الثاني عشر
في التعقيب
وهو الاشتغال بعد الفراغ من الصلاة بالذكر والدعاء([17]). ومنه أن يكبّر ثلاثاً بعد التسليم، رافعاً يديه على نحو ما سبق، ومنه ـ وهو أفضله ـ تسبيح الزهراء÷ وهو التكبير أربعاً وثلاثين، ثمّ الحمد ثلاثاً وثلاثين، ثمّ التسبيح ثلاثاً وثلاثين. ومنه قراءة الحمد، وآية الكرسي، وآية شهد الله، وآية الملك، ومنه غير ذلك مما هو كثير مذكور في الكتب المعَدّة له([18]).
__________________
([1]) خلافاً لجمهور فقهاء أهل السنّة الذين قالوا بأنّه مسنون في صلاتي الصبح أو الوتر على الخلاف بينهم، وكذا بأنّه مستحب عند الصلوات الجهرية التي تكون عند نزول نازلة بالمسلمين من قحطٍ أو وباء أو غير ذلك، ولم يثبت القنوت عندهم خارج هذه الموارد، فما ذكره السيد الماتن من الاستحباب المطلق هو الصحيح، وفقاً لفقه أهل البيت عليهم السلام، بل الاستحباب مؤكّد.
([2]) لم يثبت تأكّد هذا الاستحباب في هذه الموارد.
([3]) بلا فرقٍ بين الإمام والمأموم. هذا في صلاة الجمعة، أمّا صلاة الظهر يوم الجمعة فالقنوت فيها قبل الركوع في الركعة الثانية خاصّة، بلا فرقٍ بين الإمام والمأموم والمنفرد.
([4]) سوف يأتي منّا بالتفصيل الحديث عن قنوت صلاة العيدين، وكذا صلاة الآيات في محلّهما، وذلك عند بيان كيفيّة هاتين الصلاتين.
([5]) والإشكال في محلّه.
([6]) لم يثبت استحباب هذا الدعاء بعنوانه في صلاة الوتر، فإنّ مستنده خبر آحادي منفرد رواه أحمد بن عبد العزيز ـ ولم تثبت وثاقته ـ عن بعض أصحابنا، ففي السند غير واحد ممن لم تثبت وثاقته، فضلاً عن الإرسال والانفراد، نعم قوله بما هو مطلق دعاءٍ مما لا ضير فيه في الوتر وفي غيرها.
([7]) لم يثبت استحباب هذا الدعاء بعنوانه في قنوت صلاة الوتر، بل ولا في غيرها بعنوان كونه منصوصاً عليه في القنوت، فالأدلّة قليلة العدد جداً ضعيفة الإسناد. واللافت أنّ السيد الماتن أقرّ بذلك في بحوثه الاستدلاليّة.
([8]) هذه الفكرة ـ الاستغفار أو الدعاء لأربعين مؤمناً في قنوت صلاة الوتر ـ من المشهورات التي قد لا يمكن تصوّر عدم وجود أصل مباشر لها، لكنّ الحقّ ـ وفاقاً لما ذكره المحدّث البحراني والعلامة المجلسي ـ أنّه لا عين ولا أثر في النصوص الصحيحة ولا الضعيفة لفكرة الدعاء أو الاستغفار لأربعين مؤمناً في صلاة الوتر، فضلاً عن ذكرهم بأسمائهم. نعم الثابت هو كليّةُ استحباب الدعاء للمؤمن بظهر الغيب، وورد في بعض الروايات العامّة رقم الأربعين من المؤمنين، أمّا أنّه مأخوذ في قنوت الصلاة، فضلاً عن قنوت الوتر، فهذا ما لا أساس له بعنوانه.
قال العلامة المجلسي: «أمّا الدعاء لأربعين من المؤمنين في خصوص قنوت الوتر، فلم أره في رواية، ولعلّهم أخذوا من العمومات الواردة في ذلك كما يومي إليه كلامهم، نعم ورد في بعض الروايات في السجود بعد صلاة الليل كما مرّ» (بحار الأنوار 84: 276)، على أنّ ما قاله من رواية استحباب الدعاء للمؤمنين بعد الانتهاء من الوتر خبر آحادي ضعيف السند.
وقال المحدّث البحراني: «لا ريب في استحباب الدعاء للإخوان، وكذا الأربعين من الإخوان، كما ورد في عدّة أخبار زيادة على ما ذكره، إلا أنّها لا تقييد فيها بوقتٍ مخصوص من صلاةٍ أو غيرها، وأمّا الروايات الواردة في قنوت الوتر على تعدّدها وكثرتها، فلم ينهض شيء منها على استحباب الدعاء للأربعين، بل ولا الإخوان بقول مطلق. ولعلّ من ذكر ذلك من أصحابنا نظر إلى كون هذا الوقت من أفضل الأوقات وأنّه مظنّة للإجابة، فذكر هذا الحكم فيه، وإلا فلا أعرف لذكره في خصوص الموضع وجهاً مع خلوّ الأخبار عنه، وكيف كان فالعمل بذلك بقصد ما ذكرناه لا بأس به. وأمّا ما نقل عن بعض مشايخنا المعاصرين من المبالغة في الدعاء للأربعين في هذا القنوت، حتى أنّه يأتي به بعد الفراغ من الركعة لو أخلّ به، فالظاهر أنّه وهمٌ من الناقل لما عرفت» (الحدائق الناضرة 6: 44 ـ 45).
وربما يكون مستند القائلين بالاستحباب هنا ما قاله الشيخ الطوسي: «ويستحبّ أن يذكر أربعين نفساً فما زاد عليهم، فإنّ من فعل ذلك استجيبت دعوته إن شاء الله، وتدعو بما أحببت..» (مصباح المتهجّد: 155). لكنّه لم ينسب الطوسي ذلك هنا إلى رواية، ولعلّه ذكره تطبيقاً للعمومات فقط.
([9]) الظاهر ثبوت استحباب الاستغفار كثيراً ـ سبعين مرّة ـ في صلاة الوتر، فقد ورد في روايات عديدة، أمّا صيغته فلا تتعيّن بالذي ذكره الماتن، بل يكفي مطلق الاستغفار.
([10]) إنّ ما ذكره السيد الماتن من مستحبّاتٍ وأدعية هنا من قوله: « استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم ..» إلى آخر هذه المسألة، لم يثبت بعنوانه بدليلٍ معتبر، وعمدته خبر آحادي ضعيف السند.
([11]) هنا أمور:
أوّلاً: إنّ قراءة الأدعية الواردة عن الأنبياء والأئمّة لا يصح أن يكون بقصد الورود، ما لم تثبت نسبة هذه الأدعية لهم، لكن لا مانع من الدعاء بالأدعية غير الثابتة عنهم ـ بلا قصد الورود ـ ما لم تتضمّن مشكلةً متنيّة معيّنة.
ثانياً: إنّ أرجحيّة قراءة الثابت عن النبيّ وأهل البيت على مطلق الدعاء، تأتي من كونهم ـ عليهم السلام ـ أعلم بكيفيّة الدعاء وأدواته وأشكاله ومضمونه ومراعاة أدبه مع الله تعالى، أمّا الاستدلال على ذلك بالتأسّي، فغير واضح، كما أنّ الروايات التي نقلها أمثال الحرّ العاملي (في الباب السابع من أبواب القنوت من الوسائل) لا تدلّ على فكرة استحباب القنوت بالمأثور، بل تدلّ على حثّ الإمام على القنوت وأنّه يُدعى فيه بكذا وكذا، وهذا لا يُعلم أنّه من باب بيان استحباب الدعاء بالمأثور؛ إذ ليس هو في مقام البيان من هذه الناحية، بقدر ما هو في مقام بيان كيفيّات أو أنواع للدعاء وموضوعاته في القنوت، فانتبه.
ثالثاً: إنّ منافاة بعض الفقرات في الأدعيّة لحال المكلّف، كما في مثل «حرّم شيبتي على النار» ويضع يده على شيبته، مع أنّ الداعي قد يكون شاباً صغيراً وربما لا لحية له، وكذا بعض الأدعية المتناسبة مع ذكوريّة النبيّ أو الإمام، مما لا معنى لأن تقرأه المرأة الداعية، والعكس صحيح، وغير ذلك من الموارد، لا يعلم فيه أرجحيّة قراءة الوارد عن النبيّ والأئمّة؛ إذ الأمر ليس تعبديّاً في النطق بهذه الكلمات كيفما اتفق، فما لا محلّ له بالنسبة للداعي لا يحرز ـ بالفهم المقصدي ومناسبات الحكم والموضوع ـ أرجحيّة الدعاء به له.
إنّ مثل هذه إمّا أن يُلتزم بالتلفّظ بألفاظها تعبّداً، أو يقال بأنّ على كلّ إنسان أن يقول ما يناسب حاله، وإنّما قال الإمام ما قال لأجل تناسب ما قاله مع حاله من كونه ذكراً كبيراً في السنّ له شيبة أو غير ذلك، فأنت تسأل الله الحفظ لأولادك وقد تكون عقيماً لا ولد لك! وهكذا، ما لم ندخل في التقديرات والتأوّلات، كأن نقول بتحريم شيبتي على تقدير كبر سنّي، أو بحفظ أولادي على تقدير مجيئهم في المستقبل!
إنّ هذه الأدعية قالها النبيّ أو الإمام متناسبةً غالباً مع حاله، فلا مانع من تغييرها بما يتناسب مع حالنا، شرط عدم نسبة التغيير إلى النبيّ أو النصّ الشرعي. وأزعم أنّ الإطلاقات ما دامت لا تشمل حالنا، فهي لا تشملنا، فلا معنى ـ بمناسبات الحكم والموضوع ـ لأن نكون مشمولين بموضوع الشيبة مثلاً ولا لحية لنا أساساً، ولا سيما أنّه ورد في بعض الأدعية أنّه عندما تقول مثل هذه الكلمات تضع يدك على شيبتك، فلا بدّ من موضوع لهذه التصرّفات يكون مفروضاً سلفاً حتى يكون الإنسان مشمولاً لذلك. وهكذا عندما يكون ظاهر الدعاء ذكوريّة الداعي أو كبر سنّه أو صغر سنّه أو كون والديه أحياء أو متوفّين أو كونه يملك مالاً كثيراً أو بالعكس، فلا معنى لأن تقرأه المرأة بهذه الطريقة الخاصّة بحالة كون الداعي رجلاً، أو يقرأه صغير السنّ أو كبيره إلى غير ذلك من الحالات. نعم بعض النصوص التي لا يظهر منها أنّها تحكي عن حالنا الآن لا مانع منها.
وبالجمع بين "ثانياً" و "ثالثاً"، نتوصّل إلى أنّ أفضلية الدعاء بالمأثور هي من جانب كونه مصداقاً لأرفع مراتب الأدب ولياقة الكلام مع الله سبحانه وعمق المضمون وسلامته، لكنّ هذا لا يمنع من وجود مناسبات ظرفيّة تأخذ حقّها في الترجيح، وعليه فنقول: إنّ الأصل ـ حيث لا مناسبات ظرفيّة ـ هو أرجحيّة الدعاء بالمأثور.
([12]) لم يثبت أيّ من هذه المستحبّات التي بعضها ليس فيه رواية أصلاً ـ ولعلّه لهذا استخدم الماتن عبارة: «قيل» ـ عدا:
أ ـ التكبير قبل القنوت ورفع اليدين حال التكبير.
ب ـ رفع اليدين حال القنوت، دون أن يثبت كون الرفع لمستوى معيّن أو حيال الوجه، والأحوط استحباباً أن لا يرفعهما بما يتجاوز رأسه.
وبهذا يُعلم أنّ القنوت متقوّم بالدعاء قبل ركوع الركعة الثانية، لا أنّه متقوّم برفع اليدين بالهيئة المخصوصة فانتبه، فإنّ هذا مستحبٌّ ضمن مستحبّ، خلافاً لبعض الفقهاء الذين رأوا اعتبار رفع اليدين في القنوت وأنّه مقوّم له، وإن كان هو الأحوط استحباباً.
([13]) لم تثبت هذه المستحبّات والمكروهات، وإن كان الراجح استحباب إسماع الإمام من خَلفه، بلا فرق بين القنوت وغيره، وبين الصلوات الإخفاتيّة وغيرها، في غير ما فيه إخفاتٌ في الأصل، ولو بنحوٍ استحبابي، كالقراءة.
([14]) الأقرب أنّ موضع القنوت هو قبل الركوع، وأنّ ما ذهب إليه بعض الفقهاء من أنّ المكلف مخيّر في القنوت بين الإتيان به قبل الركوع أو بعده غير ثابت، لكن لو فرض أنّه نسي الإتيان به قبل الركوع، فركع، فهل هناك وظيفة محدّدة هنا؟
ذهب مشهور فقهاء الإماميّة إلى أنّه يمكنه قضاؤه بعد الركوع عند رفع رأسه، والعمدة في ذلك ثلاث روايات صحيحة السند، لكن يعارضها خبران: الأول هو معتبرة معاوية بن عمار، قال: سألته عن الرجل ينسى القنوت حتى يركع أيقنت؟ قال: «لا»، والثانية معتبرة معاوية بن عمار الأخرى عن نسيان القنوت في الوتر فأجابه بالجواب نفسه.
وقد حمل غير واحد من الفقهاء هاتين الروايتين على التقية لموافقتهما لأهل السنّة؛ لأنّهم يرون قنوت الوتر والغداة بعد الركوع، وعليه فتبقى الصحاح الثلاث على حالها بلا معارض.
لكنّ مراجعة الفقه السنّي تعطينا معلومات مختلفة؛ وذلك أنّ روايتَي معاوية بن عمار وردتا عن الإمام جعفر الصادق، والمذهب الحنفي يرى القنوت قبل الركوع في الوتر، لكنّهم يرون أنّه لو نسيه قبل الركوع فلا يأتي به بعده، وأمّا المالكية فقالوا بأنّ القنوت المستحبّ هو في صلاة الصبح قبل الركوع، ويجوز بعد الركوع، أمّا الشافعيّة والحنابلة فالقنوت عندهم بعد الركوع على اختلافٍ بينهم في أنّ المستحبّ هو القنوت في صلاة الصبح كما ذهب إليه الشافعيّة أو في صلاة الوتر كما ذهبت إليه الحنابلة.
وبناء عليه، فإذا أردنا ملاحظة المعاصرين للإمام الصادق، فإنّ من المتوقّع أن يكونوا من المالكية أو الأحناف، إذ لم يكن للشافعيّة ولا للحنابلة وجودٌ حينها، والمفروض أنّهما معاً يريان القنوت قبل الركوع لا بعده، مع كون المالكيّة مجيزةً للقنوت بعد الركوع، فما هو الموجب لاعتبار خبر معاوية بن عمار محمولاً على التقية أو على موافقة أهل السنّة؟! نعم ذهاب الأحناف لنفي القضاء بعد الركوع قد يكون مبرّراً لفرضية التقيّة، لكنّ القنوت بعد الركوع ـ مع كونه مقبولاً عند المالكيّة ـ لن يكون شعاراً للتشيّع حتى يوجب التقيّة، كما أنّ سياقات الرواية لا تعطي فرضية التقية، فصلاة الوتر غالباً ما تكون في خلوة، ولو فرضنا أنّ التقية هي الأساس لقال له الإمام: حاول الإتيان بالقنوت حال تكبيرك للهوي للسجود ولو بدعاءٍ قصير جداً، ما لم يكن الإمام نفسه في مقام التقية أثناء الجواب، لهذا لا يبدو لي واضحاً افتراض التقية هنا، فضلاً عن مثل هذه الموارد الجزئيّة جداً ما لم تتحوّل لشعار، وقد علّقنا على ذلك، علماً أنّ الرواية الأولى لمعاوية بن عمار ليست خاصّة بصلاة الصبح بل هي مطلقة، ما لم نقل بكونها مطابقة للرواية الثانية ونقلت بشكلَين رغم اختلاف السند بينهما لمعاوية، لهذا لا يترجّح بالنظر الوقوف مع أيّ من المجموعتين الحديثيّتين، فالأقرب أن يأتي المكلّف بالقنوت بعد رفع الرأس من الركوع بنيّة رجاء المطلوبيّة أو القربة المطلقة، والعلم عند الله.
([15]) هو مقتضى الاحتياط الاستحبابي.
([16]) قد قلنا في مباحث تكبيرة الإحرام أنّه لا تشترط العربيّة في الصلاة خارج القراءة، ونقول هنا بأنّه لا تشترط العربيّة في القنوت، بل لا تشترط فيه العربية الصحيحة، حيث يمكن بأيّ طريقة يصدق عليها عرفاً أنّها دعاء أو ذكر أو تسبيح، وفاقاً لغير واحد من الفقهاء هنا.
([17]) وهو من المستحبّات المؤكّدة حتى ورد أنّ الدعاء بعد الفريضة أفضل من التنفّل. ولم يشر السيّد الماتن لحكمه ربما لوضوح الأمر، فاكتفى بتبيينه وتبيان بعض مصاديقه. هذا، وقال بعض الفقهاء ـ مثل الحرّ العاملي ـ بتأكّد استحباب التعقيب بعد صلاتَي: الصبح والعصر، ولكنّ مستنده في صلاة العصر ضعيف. نعم استحباب بقاء المكلّف في مصلاه بعد صلاة الصبح وذكر الله حتى تطلع الشمس، وزيادة الأذكار في تعقيب الصباح أكثر من غيره، هذا كلّه وردت فيه روايات كثيرة حاثّة يمكن الأخذ بها. ولا بأس بالإشارة هنا إلى أنّه لم يثبت شرط اللغة العربيّة في التعقيب، وفاقاً لما نصّ عليه بعض الفقهاء أيضاً.
([18]) هذه المستحبات بعضها غير ثابت، وبعضها ثابت، وتوضيحه باختصار:
أ ـ التكبيرات الثلاث بعد الصلاة ورفع اليدين حالها، لم يثبت استحبابه بعنوانه، فالرواية آحاديّة، وخبر المفضّل بن عمر ضعيف السند.
ب ـ تسبيحة الزهراء÷ بالكيفيّة التي ذكرها الماتن، وهو ثابت الاستحباب، بل هو من أعظم التعقيبات وأكثرها حثاً وروايةً. والأحوط استحباباً بعد الانتهاء من تسبيحة الزهراء إضافة "لا إله إلا الله" مرّة واحدة.
ج ـ قراءة الحمد وآية الكرسي وآية شهد الله وآية الملك، وهذا لم يثبت استحبابه بعنوانه؛ إذ فيه روايتان على أبعد تقدير إحداهما مرسلة إبراهيم بن مهزم، ودلالتها مقتصرة على آية الكرسي من هذه الأربع دون البقية، والثانية صحيحة السند؛ فإنّ الأصح فيها أنّ اسم الراوي هو الحسن بن محمد، وليس الحسين بن محمّد، والظاهر أنّه الحسن بن محمّد بن سماعة الثقة. لكن لكون المستند آحادياً منفرداً، فلا يكفي ذلك في ثبوت الاستحباب الخاصّ.
د ـ لعن أعداء الدين عقيب الصلاة بأسمائهم، هذا الاستحباب ـ الذي لم يتعرّض له السيد الماتن ـ لم يثبت، وذلك أنّه قد روى الكليني بسنده عن الحسين بن ثوير وأبي سلمة السراج، قالا: «سمعنا أبا عبد الله×، وهو يلعن في دبر كلّ مكتوبةٍ أربعةً من الرجال وأربعاً من النساء، فلان وفلان وفلان ومعاوية، ويسمّيهم، وفلانة وفلانة وهند وأمّ الحكم أخت معاوية» (الكافي 3: 342)، ونقل هذه الرواية الشيخ الطوسي في (تهذيب الأحكام 2: 321) بسنده إلى محمّد بن يحيى أيضاً مع حذف اسم الخيبري في الطريق. وتعتبر هذه الرواية من مستندات القائلين باستحباب لعن بعض الصحابة وزوجات النبيّ. وتوجد رواية أخرى وهي خبر جابر عن أبي جعفر× قال: «إذا انحرفت عن صلاةٍ مكتوبة، فلا تنحرف إلا بانصراف لعن بني أميّة» (تهذيب الأحكام 2: 109).
والتحقيق: إنّ الكلام في الروايتين يقع كالآتي:
أ ـ أمّا الرواية الأولى، فقد نقلها العلامة المجلسي عن التهذيب والكافي بطريقةٍ أخرى وهي: «عن الحسين بن ثوير وأبي سلمة السراج، قالا: سمعنا أبا عبد الله× وهو يلعن في دبر كلّ مكتوبةٍ أربعةً من الرجال وأربعاً من النساء: التيميّ والعدوي وفعلان ومعاوية.. ويسمّيهم، وفلانة وفلانة وهند وأم الحكم أخت معاوية» (بحار الأنوار 83: 58)، ونقل الفيض الكاشاني هذه الصيغة عن خصوص التهذيب (انظر: الوافي 8: 803) وهو الصحيح الموجود في التهذيب اليوم، ولم نعثر في الكافي الموجود بين أيدينا اليوم على هذه الصيغة الثانية.
وقد علّق المجلسي على الرواية في الكافي بقوله: «مجهول. ورواه في التهذيب، وأسقطه الخيبري بين السند فعدّه الأصحاب صحيحاً، والظاهر أنّه سقط من قلم الشيخ أو النسّاخ كما ذكره في المنتقى، حيث قال: وظنّ بعض الأصحاب صحّة هذا الخبر، كما هو قضيّة البناء على الظاهر، وبعد التصفّح يُعلم أنّه معلّل واضح الضعف؛ لأنّ الكليني رواه عن محمد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن الخيبري ببقيّة الإسناد، وهذا كما ترى عين الطريق الذي رواه به الشيخ إلا في الواسطة التي بين ابن بزيع وابن ثوير، ووجودها يمنع من صحّة الخبر؛ لجهالة حال الرجل. واحتمالُ سقوطها سهواً من رواية الشيخ قائمٌ على وجه يغلب فيه الظنّ فيثبت به العلّة في الخبر، وفي فهرست الشيخ أنّ محمد بن إسماعيل بن بزيع روى كتاب الحسين بن ثوير عن الخيبري عنه، ولعلّ انضمام هذا إلى ما رواه الكليني يفيد وضوح ضعف السند، وقال المازري: المشهور لغةً والمعروف رواية في لفظ: دبر كلّ صلاة، بضمّ الدال والباء، وقال المطرزي أما الجارحة فبالضم، وأما الدبر التي بمعنى آخر الأوقات من الصلاة وغيرها فالمعروف فيه الفتح انتهى. والكنايات الأوَل عبارة عن الثلاثة بترتيبهم والكنايتان الأخيرتان عن عائشة وحفصة» (مرآة العقول 15: 174 ـ 175)، وأصل هذا التعليق أخذه المجلسي ـ كما صرّح بنفسه ـ من الشيخ حسن العاملي صاحب (منتقى الجمان 2: 89).
ولو راجعنا سند هذه الرواية لوجدنا فيه أبا سلمة السرّاج، وهو رجل مجهول الحال؛ لكنّ جهالته لا تضرّ بالسند؛ لأنّ في عرضه الحسين بن ثوير وهو ثقة، فليس هناك مشكلة من هذه الناحيّة، لكنّ مشكلة الحديث الأساسيّة تكمن في الخيبري، واسمه خيبري بن علي الطحان الكوفي الذي وصفه النجاشي فقال فيه: «خيبري بن علي الطحان كوفي، ضعيف في مذهبه، ذكر ذلك أحمد بن الحسين، يقال في مذهبه ارتفاع. روى خيبري عن الحسين بن ثوير، عن الأصبغ، ولم يكن في زمن الحسين بن ثوير من يروي عن الأصبغ غيره..» (النجاشي، الفهرست: 154 ـ 155). وقال ابن الغضائري: «خَيْبَرِيُّ بنُ عليّ، الطحّانُ، كُوْفيٌّ. ضَعِيْفُ الحديث، غالي المَذْهَبِ، كانَ يَصْحَبُ يُونُسَ بنَ ظَبْيان، ويُكْثِرُ الرِوايةَ عنهُ. ولهُ كِتابٌ عن أبي عَبْدِ اللهِ عليه السلام. لا يُلْتَفَتُ إلى حديثِهِ» (رجال ابن الغضائري: 56).
ولكنّ تضعيف الغضائري قد لا يعتدّ به كدليل؛ لعدم ثبوت نسبة نسخة هذا الكتاب التي بين أيدينا اليوم إليه، فيُرجع إليه بعنوان الاحتمال والقرينة فقط، وأمّا تضعيف النجاشي فهو تضعيفٌ في المذهب، وليس في الحديث. ويبدو أنّ الرجل كان قريباً من الغلوّ بمقتضى هذين النصّين، ومع ذلك فلم يرد عند أحد من العلماء توثيقٌ لهذا الرجل حتى يعمل بأحاديثه، نعم ورد اسمه في أسانيد كامل الزيارات، فمن يرى وثاقة كلّ رواة كامل الزيارات يمكنه تصحيح هذا الحديث، وأمّا من لا يرى وثاقة غير المشايخ المباشرين لابن قولويه في كامل الزيارات ـ كما بنى عليه السيد الخوئي في آخر حياته، وبنى عليه السيد باقر الصدر، والمحدّث النوري وغيرهم ـ فلا تكون هذه الرواية معتبرة سنداً عنده، فضلاً عمّن لا يرى مبنى كامل الزيارات أساساً، على ما هو الصحيح وحقّقناه في البحوث الرجاليّة. وقد صار واضحاً أنّ سقوط اسم الخيبري من تهذيب الأحكام لا يوجب صحّة السند؛ لأنّ الوارد في الكافي هو وجود الخيبري في السند، كما أنّ الشيخ النجاشي وغيره ذكروا أنّ الخيبري هو من يروي عن الحسين بن ثوير كتبه، وأنّه هو من روى عنه ابن بزيع، وهذا يقوّي جداً احتمال السقط النسخي أو الاشتباهي من كتاب التهذيب الذي كثرت مشاكله النسخيّة والتصحيفيّة كما هو معروف.
وعليه، لم يثبت هذا الحديث بطريق معتبر عن الإمام الصادق، مضافاً إلى أنّ تطبيق الأسماء على زوجتيّ النبيّ عائشة وحفصة يحتاج لجمع قرائن، فالمجلسي طبّق عليهما الروايةَ اجتهاداً منه؛ حيث احتمل بعضهم أنّ يكون المراد مرجانة أو زوجة الإمام الحسن×.
ب ـ وأمّا الرواية الثانية، فقد وصفها المجلسي في (ملاذ الأخيار 3: 619)، بأنّها ضعيفة السند. وقال في موضع آخر من (المصدر نفسه 4: 484): «ضعيف. قوله×: إلا بانصراف، أي: بالانصراف عن لعنهم، أو بالانصراف عن الصلاة مع لعنهم لعنهم الله».
وما أفاده من ضعف السند صحيح، على الأقل بوجود المنَخَّل (المُنْخُل) بن جميل الأسدي، بيّاع الجواري، فقد ضُعّف صريحاً. هذا مضافاً إلى احتمال أنّ الاستحباب في الرواية ـ حيث هي عن الإمام الباقر ـ لعلّه ثابت في لعن الظالمين الذين يعيش المصلّي بين أظهرهم، فطبّق الإمام اللعنة على بني أميّة، لا أنّ الثابت استحباب لعن بني أميّة بعنوانه إلى يوم الدين في عقب كلّ صلاة أو عند منصرف الإنسان من كلّ صلاة.
والنتيجة: إنّه لم يثبت في مستحبّات التعقيب لعن أحدٍ بعنوانه.