التعليقة على منهاج الصالحين (أفعال الصلاة ـ التسليم والترتيب والموالاة)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(12 ـ 12 ـ 2024م)
الفصل الثامن
في التسليم
وهو واجبٌ في كلّ صلاة وآخر أجزائها، وبه يخرج عنها وتحلّ له منافياتها([1]). وله صيغتان، الأولى: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» والثانية «السلام عليكم» بإضافة «ورحمة الله وبركاته» على الأحوط، وإن كان الأظهر عدم وجوبها، فبأيّهما أتى فقد خرج عن الصلاة، وإذا بدأ بالأولى استحبّت له الثانية بخلاف العكس، وأمّا قول «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» فليس من صيغ السلام، ولا يخرج به عن الصلاة، بل هو مستحبّ([2]).
مسألة 661: يجب الإتيان بالتسليم على النهج العربي، كما يجب فيه الجلوس والطمأنينة حاله، والعاجز عنه كالعاجز عن التشهّد في الحكم المتقدّم([3]).
مسألة 662: إذا أحدث قبل التسليم بطلت الصلاة([4])، وكذا إذا فعل غيره من المنافيات، وإذا نسي التسليم حتى وقع منه المنافي فالظاهر صحّة الصلاة وإن كانت إعادتها أحوط، وإذا نسي السجدتين حتى سلّم أعاد الصلاة، إذا صدر منه ما ينافي الصلاة عمداً وسهواً([5])، وإلا أتى بالسجدتين والتشهّد والتسليم، وسجد سجدتَي السهو لزيادة السلام([6]).
مسألة 663: يستحبّ فيه التورّك في الجلوس حاله، ووضع اليدين على الفخذين، ويكره الإقعاء كما سبق في التشهّد([7]).
الفصل التاسع
في الترتيب
يجب الترتيب بين أفعال الصلاة على نحو ما عرفت، فإذا عكس الترتيب فقدّم مؤخّراً، فإن كان عمداً بطلت الصلاة، وإن كان سهواً، أو عن جهلٍ بالحكم من غير تقصير، فإن قدّم ركناً على ركنٍ بطلت([8])، وإن قدّم ركناً على غيره ـ كما إذا ركع قبل القراءة ـ مضى وفات محلّ ما ترك، ولو قدّم غير الركن عليه تدارك على وجهٍ يحصل الترتيب، وكذا لو قدّم غير الأركان بعضها على بعض.
الفصل العاشر
في الموالاة
وهي واجبة في أفعال الصلاة، بمعنى عدم الفصل بينها على وجهٍ يوجب محوَ صورة الصلاة في نظر أهل الشرع([9])، وهي بهذا المعنى تبطل الصلاة بفواتها عمداً وسهواً. ولا يضرّ فيها تطويل الركوع والسجود، وقراءة السور الطوال. وأمّا بمعنى توالي الأجزاء وتتابعها وإن لم يكن دخيلاً في حفظ مفهوم الصلاة، فوجوبها محلّ إشكال، والأظهر عدم الوجوب من دون فرقٍ بين العمد والسهو.
__________________________
([1]) توضيح الكلام في هذه المسألة يمكن بيانه من خلال مراحل:
المرحلة الأولى: التسليم واجب، مع وقوع نقاش في نوعيّة الإلزام به بين أهل السنّة، وذهاب الأحناف إلى نقاشٍ فيه. لكن يجب أن ننبّه لأمر بالغ الأهميّة، وهو أنّ التسليم في مشهور الفقه الإمامي هو جزء من الصلاة، مثله مثل التشهّد والقراءة والسجود والركوع، ومن ثمّ يلزم الإتيان به متوجّهاً إلى القبلة، وبعد الانتهاء منه يمكن للإنسان أن يلتفت ويصدر منه أيّ شيء من منافيات الصلاة. هذا هو مفهوم التسليم الذي يختاره كثير من الإمامية ومنهم السيد الماتن. أمّا في الفقه السنّي فالتسليم له مفهومٌ آخر، فبعد الانتهاء من التشهّد يقوم المكلّف بالالتفات إلى اليمين أو إلى اليمين واليسار حال كونه يسلّم باتجاه اليمين أو باتجاه اليمين واليسار على اختلاف القول بوجوب تسليمة واحدة أو تسليمتين عند فقهاء المذاهب الأربعة، فالتسليم الواجب عندهم هو بعينه عمليّة خروج من الصلاة، بعكس التسليم الواجب عند الإماميّة فهو ليس خروجاً بذاته من الصلاة، بل هو نهاية أجزائها وبعدها يكون الخروج.
وقد يتصوّر بعضٌ أنّ صيغ التسليم التي يراها الفقه الإمامي لا وجود لها في الصلاة في الفقه السنّي، لكنّ هذا غير صحيح؛ فإنّ تعابير من نوع: السلام على النبيّ والسلام على عباد الله الصالحين، موجودة في التشهّد نفسه في الفقه السنّي، ويسبقان عادةً صيغة الشهادتين، فيقولون مثلاً: «التحيّات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله»، وبهذا يتبين أنّ إحدى صيغ التسليم في الفقه الإمامي (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) هي جزءٌ من التشهّد في الفقه السنّي، وبانتهاء التشهّد في الفقه السنّي، يبدأ التسليم عندهم، والذي شرحناه قبل قليل.
المرحلة الثانية: يعتبر مشهور فقهاء أهل السنّة أنّ الالتفات عند تسليم المصلّي يميناً وشمالاً من الأمور المسنونة، ويستندون في ذلك لبعض الروايات التي من أبرزها خبر عبد الله بن مسعود المعروف عن فعل النبيّ ذلك (سنن النسائي 3: 63)، ويختلفون في بعض التفاصيل فمثلاً يرى بعضهم أنّ المصلي عليه أن يبدأ التسليم وهو مستقبل القبلة، ثمّ يحرك رأسه باتجاه اليمين بعد بدء التسليم، ويُنهي التسليم عندما يصير وجهه باتجاه اليمين وهكذا، فيما قال آخرون بأنّه يبدأ السلام مع بدء الالتفات، لا حال كونه متجّهاً للقبلة. ويحبّذ فقهاء أهل السنّة ـ اعتماداً على بعض الأحاديث ـ أن يكون التفاته يميناً أو شمالاً، بحيث يرى من خلفه بياضَ وجهه، أي التفاتاً كاملاً. وتعطي هذه التفاصيل في الفقه السنّي مقاربةً ترى أنّ التسليم ليس سوى توجيه السلام لمن حولك أو للمأمومين أو للإمام، ولهذا ذهب بعض المالكيّة إلى أنّ الإمام عندما يقول: السلام عليكم، فإنّ المأموم أيضاً يقول: وعليكم السلام، وهذا تسليمٌ ثالث، وكأنّ هذه السلامات هي خطابات خارج الصلاة بين الناس أو ربما ـ حال الانفراد ـ مع المَلَكين الشريفين.
أمّا الإماميّة:
أ ـ فلعلّ المعروف بينهم أنّه يستحبّ للمنفرد أن يومئ أثناء التسليم الأخير إلى يمينه بعينه أو نحو ذلك بما لا ينافي استقبال القبلة بوجهه، وذكر بعض الفقهاء أنّ المسنون للمنفرد أن يسلّم بلا أيّ التفات أبداً ولا إيماء، والرأي الأوّل هو مقتضى الجمع بين بعض الروايات التي وردت في المقام. وبعض العلماء جمع بين الروايات هنا بالتخيير، فلك أن تسلّم مستقبلاً القبلة بلا أيّ تعديل، ولك الالتفات بمؤخّرة العين اليمنى.
ب ـ وأمّا إذا كان المصلّي إماماً، فذهب بعض الفقهاء إلى أنّه يومئ في التسليم بصفحة وجهه عن يمينه، دون اليسار، واستدلّ له ببعض الأخبار، وذهب بعض العلماء إلى عدم الفرق بين الإمام والمنفرد في أنّ التسليم يكون إلى القبلة.
ج ـ أمّا المأموم، فذكر بعض الفقهاء أنّه إن لم يكن أحدٌ على يساره أومأ إلى يمينه، وإلا أومأ بتسليمة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار، واستدلّ لذلك بروايات متعدّدة، وقالوا بأنّه ليس في الروايات أنّ الالتفات بصفحة الوجه، فلعلّ المراد هو الإيماء بالعين أو بالوجه بما لا ينافي الاستقبال.
وهذه الأمور ترتبط كلّها بما يفعله المصلّي أثناء التسليم الذي يأتي بعد التشهّد، والذي هو جزء من الصلاة على المشهور الإمامي، أمّا ما يفعله بعض المؤمنين اليوم من أنّهم بعد الانتهاء من التسليم تماماً، يقومون بالتكبير ثلاث مرات، ثم يلتفتون إلى اليمين ثم اليسار ثم القبلة، قائلين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذا لا علاقة له ـ في السياق الإمامي ـ بهذا الموضوع إطلاقاً، وهذا لم يشرّع أصلاً، فمن أراد الإتيان به فلا يصحّ أن يأتي به بقصد المشروعيّة أو وروده في الدين، وإنّما بعد التسليم يستحبّ ـ على المعروف ـ التكبير ثلاث مرات مستقبلاً القبلة، ثم الشروع بالتعقيبات.
والذي يظهر أنّ فكرة الالتفات حال التسليم فكرةٌ وجيهة في الجملة، ففضلاً عن النصوص الواردة عند أهل السنّة في ذلك، وهي متعدّدة، نلاحظ أنّ هذه الفكرة موجودة في الجملة في العديد من النصوص في المصادر الشيعيّة أيضاً، ففي خبرٍ رواه الصدوق في "الفقيه" في تفسير التسليم من قبل إمام الجماعة بأنّه: «إنّ الإمام يترجم عن الله عزّ وجلّ، ويقول في ترجمته لأهل الجماعة: أمان لكم من عذاب يوم القيامة»، مما يوحي بأنّه يخاطب الجماعة التي خلفه، بل قد ورد في خبر الفضل بن شاذان عن الرضا× أنّه قال: «إنّما جعل التسليم تحليلَ الصلاة ولم يجعل بدلها تكبيراً أو تسبيحاً أو ضرباً آخر؛ لأنّه لما كان الدخول في الصلاة تحريم الكلام للمخلوقين، والتوجّه إلى الخالق، كان تحليلها كلام المخلوقين والانتقال عنها وابتداء المخلوقين في الكلام أوّلاً بالتسليم»، وفي خبر المفضّل بن عمر أنّ التسليم تحيّة للمَلَكَين، ونحن نعرف أنّهما عن اليمين وعن الشمال قعيد، ومثله خبر عبد الله بن الفضل الهاشمي، بل في خبر ليث المرادي أنّ الذي يكون في صفٍّ يسلم عن اليمين وعن الشمال؛ لأنّ عن يسارك من يسلّم عليك، أمّا الإمام فيسلّم تسليمة حال كونه مستقبل القبلة، كما أنّ خبر علي بن جعفر واضح في أنّ موسى الكاظم وإسحاق ومحمّد ـ بني جعفر الصادق ـ كانوا يسلّمون في الصلاة عن اليمين والشمال، بقول: السلام عليكم ورحمة الله، كما ورد في خبر عبد الحميد بن عواض تفصيلٌ في التسليم مستقبل القبلة في بعض الحالات وعن اليمين في حالات أخَر، وهو تفصيلٌ يشهد أنّ التسليم لا يكون دوماً حال استقبال القبلة، وورد في خبر عنبسة بن مصعب أنّ الذي يكون في الصفّ خلف الإمام وليس على يساره أحد، أنّه يسلّم تسليمة واحدة عن يمينه؛ لأنّه ليس على يساره أحد.
إلى غيرها من الروايات الكثيرة التي توضح أنّ فكرة التسليم يمكن أن تكون في بعض الحالات مع التفات الإنسان ناحية اليمين واليسار، وأنّه في بعض الحالات ـ مثل حال الإمام ـ يكون بعدم الالتفات، ولهذا نرى أنّ الروايات التي تحدّثت عن عدم الالتفات حال التسليم كانت في الغالب ناظرة للإمام، بل صريح خبر أبي بصير أنّه قال: «إذا ولّى وجهه عن القبلة، وقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقد فرغ من الصلاة»، وهو كاشف عن أنّ التسليم يكون عندما يولّي وجهه عن القبلة.
أمّا فكرة الإيماء بالعين أو بطرف الوجه الموجودة في كلمات بعض فقهاء الإماميّة ـ كما أشرنا آنفاً ـ فليس لها عينٌ ولا أثر في النصوص، بل أخذت من عمليّة الجمع بين الروايات، فبعضها يقول: وأنت مستقبل القبلة، وبعضها يتكلّم عن الالتفات عند التسليم، فجمعوا بينهما بفكرة الإيماء بالعين، وإلا فلا دلالة في النصوص على فكرةٍ من هذا القبيل.
ولعلّ مقتضى الاحتياط أن يسلّم الإنسان مستقبل القبلة، كما هو مقتضى بعض النصوص، قاصداً بذلك مخاطبة الغير بالدعاء، ثم يسلّم ناحية اليمين أو اليمين واليسار قاصداً التحيّة، أمّا الجزم فيبدو لي في غاية الصعوبة، بسبب كثرة اضطراب الأخبار، ولعلّ القدر المتيقّن ـ والله العالم ـ هو تسليم المنفرد عن يمينه وعن يساره، وأمّا المأموم فيسلّم عن يمينه أو يساره تبعاً لتواجد المأمومين الآخرين يميناً ويساراً، وأمّا الإمام فالأمر فيه عندي في غاية الإشكال، فلا يُترك الاحتياط بالجمع.
ولا يضرّ بهذا الاحتياط قول كلمة "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" قبل الالتفات، حيث قد يقال بأنّها قد تكون كلاماً إضافيّاً، فإنّ صيغ التشهّد ـ كما قلنا سابقاً ـ كثيرة، ولا يضرّ فيها دخول مثل هذه التعابير والتي وردت في بعض صيغ التشهّد، بل إنّ تقييدنا هنا بصيغة الدعاء جاء للفرار من مثل هذا الإشكال، والعلم عند الله.
المرحلة الثالثة: نتيجة طبيعة تحليل الفقه الإمامي لقضيّة التسليم، والذي قلنا بأنّه يختلف عن طريقة تحليل الفقه السنّي، ظهرت مسألة في الفقه الإمامي، وهي مشروعيّة قصد التحيّة بالتسليم، فهل يشرع لي أن أقصد توجيه تحيّة للمَلَكين أو لمن حولي أو لمن خلفي أو للنبيّ والأئمّة أو غير ذلك، أو أنّها كلمات تعبديّة يجب قولها دون قصد شيء إطلاقاً؟
أفتى بعض الفقهاء بوجوب قصد التحيّة ولو إجمالاً، ومنهم الشيخ ناصر مكارم الشيرازي والسيد الخميني، فيما رأى آخرون المنع عن قصدها حتى أفتى المحقّق النجفي ببطلان الصلاة لو قصدها، واحتاط بعضٌ ثالث، كالسيد صاحب العروة، بعدم قصد التحيّة، وقد ذهب السيد الماتن في تعليقاته على العروة وكذا في بحوثه الاستدلاليّة إلى أنّ الحكم هو الجواز دون الوجوب أو المنع، فلك قصد التحيّة لكنّه ليس بلازم ولا حرام إلا بالعنوان الإجمالي الارتكازي فيكون مطلوباً. وقد استغرب الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تعليقته على العروة ممّن قال بالمنع عن قصد التحيّة، قائلاً: «هل يكون السلام أو غيره من أجزاء الصلاة ألفاظاً بلا معنى أو مجرّد لقلقة اللسان؟!»، وقال الشيخ المنتظري بأنّ المفهوم من أخبار الباب أنّ التسليم شرّع للتحيّة وأنّ هذه الألفاظ ليست مهملة، بل مقصودٌ بها مخاطبة المَلَكين أو المأموين أو الإمام أو نحو ذلك.
والصحيح هو أنّها ألفاظ تحيّة، ولا سيما وفقاً لما قلناه في المرحلة الثانية المتقدّمة آنفاً، وأنّه يلزم فيها تحقيق عنوان التحيّة ولو إجمالاً، فهذا هو المفهوم من النصوص ومن مناسبات الحكم والموضوع. وفي تقديري فإنّ الفقه الإسلامي،ـ وبخاصّة الإمامي، بحاجة ماسّة لإعادة النظر في هذه المسألة ـ أعني مسألة هويّة التسليم كلّها ـ وفهم النصوص بطريقة مختلفة.
لكن قد تظهر هنا مداخلات نقديّة على ما توصّلنا إليه:
المداخلة الأولى: إنّ ما استندتم إلیه من «مناسبات الحکم والموضوع» لا یرجّح القول بوجوب الإلتفات إلی الیمین والشمال، بل یرجّح القول بالالتفات إلی الأشخاص الموجودین في مکان المصلّي، سواء کانوا عن یمینه أو یساره أو خلفه أو أمامه، ثمّ إنّه علی أساس مناسبات الحکم والموضوع ليس هناك وجهٌ لـ «السلام علیکم ورحمة الله» في مکانٍ لا أحد فیه غیر المصلّي، بل یتعیّن أن نقول بوجوب التسلیم بـ «السلام علینا وعلی عباد الله الصالحین» في هذا الفرض.
ويمكن الجواب: إنّ الالتفات عن اليمين واليسار معناه إلقاء السلام على من على يمينه وعلى يساره، لا على كلّ شخص موجودٍ في المكان، وأمّا فرض عدم وجود أحد فقد ذكرت بعض الروايات مخاطبة المَلَكَين، وكأنّ التسليم يكون بإلقاء السلام عن اليمين واليسار قاصداً مَن حوله من الإنس والملائكة. بل قد يخطر في البال فكرتان:
الفكرة الأولى: إنّ «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» قد تكون فرضَ الذي لا يوجد معه أحد، وأمّا التسليم عن اليمين واليسار فهو فرض السلام على الآخرين، ولهذا ورد في القرآن الكريم السلام على الأنفس عند دخول البيوت الخالية.
الفكرة الثانية: إنّ «السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته» قد تحتمل أنّه يقصد منه تكليف الذين كانوا في زمن النبي بحيث أيضاً كانوا مطالبين بتخصيص النبيّ بالسلام عندما يكون بينهم أو يكون إمامَ الجماعة.
لكنّ الإنصاف أنّ هاتين الفكرتين لا تعزّزهما شواهد، وبخاصّة أن "السلام على النبيّ" قد ورد أيضاً في مثل سجود السهو.
المداخلة الثانية: قد يُشكل على الاحتیاط بالجمع بالطریقة التي ذكرناها، أي من دون تکرار الصلاة، وإنّما بتکرار التسلیم فقط؛ وذلك أنّه إذا سلّم المصلّي مستقبلاً، فهذا معناه أنّه یقصد الخروج عن الصلاة فهو لا ینوی الصلاة ووجود النیة لایتصوّر في حالة الشكّ والتردید بین أنّه خرج من الصلاة أو لم یخرج، فإن کان الاستقبال معتبراً في التسلیم فصلاته وقعت صحیحة، وإن لم یعتبر بل اعتُبر فیه الالتفات فقد بطلت صلاته بنقض النیّة، وعليه فللمستشکل أن یقول بأنّ الاحتیاط هنا ممکن، لکن بتکرار الصلاة تماماً كالشكّ في القبلة.
وقد يجاب بأنّه عندما يأتي بالتسليم مستقبلَ القبلة أوّلاً فهو يقصد القربة المطلقة أو رجاء المطلوبيّة، فإذا كان المطلوب هو هذا التسليم كفاه، ولم يعد للتسليم الثاني معنى، ولا يجب الجزم في النيّة، ولو كان التسليم هو مع الالتفات فهو يقصد الأوّل والثاني معاً بقصد القربة المطلقة أو برجاء المطلوبيّة، بل قد قلنا بإمكان قصد الدعائيّة فيرتفع الإشكال أكثر.
وإشكالُ أنّ التسليم الأوّل على تقدير جزئيّة التسليم الثاني الالتفاتي سيصبح كلاماً زائداً، بعد عدم كون التسليم ذكراً أو دعاءً، قابلٌ للحلّ، بدعوى أنّ من صيغ التشهّد ذكر التسليم، وقد قلنا سابقاً بأنّ صيغ التشهّد متعدّدة، فضلاً عن إمكان قصد الدعائيّة، نعم لو قلنا بأنّ صيغة التشهّد لا تشتمل قطعاً على "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" وأنّ ذكرها في التشهد مبطلٌ للصلاة مطلقاً أو بغير قصد الدعائيّة تمّ الإشكال بحدوده.
المداخلة الثالثة: إذا اعتُبر في التسلیم قصد التحیّة، فإن وجد شخصٌ عن یمین المصلّي أو یساره ووجّه المکلّف تحیّته إلیه بقوله: «السلام علیکم ورحمة الله وبرکاته»، فهل یجب على الآخر الجواب کما یجب في غیر الصلاة؟!
ويجاب: إنّه لهذا قال بعض فقهاء أهل السنّة بوجوب الردّ هنا، بحيث يصبح هناك ثلاثة سلامات، لكن حتى لو قلنا به ـ ولعلّه الأقرب ـ فإنّ كلّ مصلٍّ يقوم بإلقاء السلام عن يمينه ويساره قاصداً الآخرين من حوله بمن فيهم الإمام، فيرتفع الإشكال، فيكون إمّا ملقياً أو مجيباً، وسيأتي في بحث منافيات الصلاة كفاية تقارن الطرفين في إلقاء التحية، خلافاً لما ذهب إليه السيد الماتن من الاحتياط الوجوبي في الردّ، وذلك في (المسألة رقم: 686).
([2]) الكلام في هذه المسألة يقع في أمور:
الأمر الأوّل: لا دليل معتبراً ـ بصرف النظر عن فكرة التسليم عن اليمين واليسار ـ على استحباب الثانية على تقدير البدء بالأولى، تماماً كما لا دليل معتبراً على استحباب الأولى على تقدير البدء بالثانية، فضلاً عن اعتبارهما جزءاً مستحبّاً في هاتين الحالتين. نعم مقتضى الاحتياط الاستحبابي هو الإتيان بهما معاً مع تقديم السلام على عباد الله الصالحين وإضافة ورحمة الله وبركاته على "السلام عليكم".
الأمر الثاني: إنّ ثبوت استحباب قول: السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته، متوقّف على ضمّ نصوص المذاهب المختلفة لبعضها حيث يحصل وثوقٌ بذلك نتيجتَه.
الأمر الثالث: في السلام على الأئمّة وأهل البيت النبويّ في التسليم، حيث مال بعض المعاصرين له. وعمدة الأدلّة هنا هو الآتي:
1 ـ خبر زرارة، عن أبي جعفر×، قال: «.. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام على محمّد بن عبد الله خاتم النبيّين، السلام على الأئمّة الراشدين المهديّين، السلام على جميع أنبياء الله ورسله وملائكته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» (كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 319).
ويجاب بأنّ خبر زرارة لا يعلم شموله لهذا المقطع، بل الظاهر أنّه مجرد ثلاث كلمات وهي: «القنوت كلّه جهار»، وما بقي يحتمل كونه كلام الصدوق؛ لأنّه استئنافٌ لموضوع جديد، فلا يحرز كون ذلك رواية زرارة. نعم لا يبعد أنّ الصدوق أخذه من رواية أخرى، لكنّنا لا نعرف سنده إليها.
2 ـ خبر الفقه الرضوي، في مقام بيان التشهد والتسليم، وقد تقدّمت مقاطع منه في محلّه، وهنا قال: «.. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيّبين، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» (فقه الرضا: 109).
والجواب بات واضحاً في عدم ثبوت نسبة الكتاب للإمام الرضا، فلا نعيد.
3 ـ نصوص الفقهاء المتقدّمين، حيث وردت صيغة التسليم على الأئمّة في كتب بعضهم.
والجواب: إنّ هذا غايته وجود روايات اعتمدوا عليها ولا نعرف مصدر هذه الروايات، بل لعلّهم جمعوا النصوص المختلفة في التشهّد والتسليم ضمن صيغة طويلة، وغاية الأمر حصول الشهرة الفتوائيّة، وهي ليست حجّة، بل لعلّهم اعتمدوا على قاعدة التسامح.
هذا، وقد ذكرت وجوه أخرى نعرض عنها؛ لوضوح أمرها، وبخاصّة بعد الذي تقدّم من مناقشات في بحث الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة، وفي التشهّد، فلا نطيل ولا نعيد.
والمتحصّل أنّه لم يثبت كون السلام على أهل البيت والأئمّة ـ عليهم السلام ـ جزءاً من تسليم الصلاة.
([3]) قد تقدّم الحديث عن شرط العربيّة والطمأنينة في مبحث تكبيرة الإحرام، وأمّا أنّ حكمه حكم التشهّد فقد تقدّم آنفاً في التشهّد.
([4]) على الأحوط وجوباً لو أخذنا بعين الاعتبار فكرة أنّ التسليم يتضمّن الالتفات، وإلا فما ذكره الماتن هو الصحيح. هذا ويظهر من السيد محمّد حسين فضل الله، وكذا يستوحى من السيد السيستاني، أنّ هذا الحكم عندهما مبنيٌّ أيضاً على الاحتياط الوجوبي رغم أنّهما يعتبران التسليم جزءاً يقع حال استقبال القبلة كغيره من الأجزاء.
وربما قيل هنا بأنّ اعتبار أو عدم اعتبار الالتفات إلى اليمين واليسار لا موضوعيّة له، بل المهم هو أن نعتبر السلام جزءاً من الصلاة أو لا نعتبره جزءاً منها. ودعوى أنّ اعتبار الالتفات أو عدمه هو المعيار، إنّما هي لأنّ الذين يعتبرون الالتفات يرون في نفس الوقت أنّه لا يمكن أن يكون التسلیم جزءاً من الصلاة؛ لأنّ التوجّه إلى القبلة شرطٌ في جميع أجزاء الصلاة، ولذلك بالإمكان الفرضي أن يقول فقيهٌ ما باعتبار الالتفات في التسليم، وفي الوقت نفسه يعتبر السلام جزءاً من الصلاة.
([5]) أو صدق عليه عنوان الخروج من الصلاة، بحيث لم يعد يصدق عليه أنّه يصلّي، كما لو جلس بعد الصلاة لفترةٍ طويلة ـ دون الإتيان بأحد منافيات الصلاة ـ يذكر الله ويسبّحه بحيث صدق عليه أنّه لم يعد يصلّي. هذا وقد تكون هذه الصورة أيضاً راجعة ـ في بعض أشكالها ـ لفقد الموالاة المطلوبة، فانتبه.
([6]) سيأتي الحديث عن موجبات سجود السهو إن شاء الله.
([7]) يجري في هذه المندوبات والمكروهات ما قلناه آنفاً في التشهّد عند التعليق على (المسألة رقم: 660)، حيث تكلّمنا عنها وعن مفهوم الإقعاء وكيفيّته، فراجع.
([8]) حكم الحالة السهويّة هنا مرتبط بموضوع الزيادة السهويّة لما عُدّ من الأركان، وقد سبق أن ذكرنا ذلك، وستأتي تفصيلات مرتبطة به في مباحث الخلل إن شاء الله.
([9]) بحيث لا يصدق على المأتي به عنوان الصلاة، والظاهر أنّ السيد الماتن ذكر أهل الشرع هنا من باب أنّهم الذين يعرفون الصلاة، فالمعيار بالدقّة هو العرف الذي يعرف الصلاة.