التعليقة على منهاج الصالحين (أفعال الصلاة ـ التشهّد)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(5 ـ 12 ـ 2024م)
الفصل السابع
في التشهّد
وهو واجب في الثنائيّة مرّة بعد رفع الرأس من السجدة الأخيرة من الركعة الثانية، وفي الثلاثيّة والرباعيّة مرتين، الأولى كما ذكر، والثانية بعد رفع الرأس من السجدة الأخيرة من الركعة الأخيرة، وهو واجبٌ غير ركن، فإذا تركه ـ عمداً ـ بطلت الصلاة، وإذا تركه ـ سهواً ـ أتى به ما لم يركع، وإلا قضاه بعد الصلاة على الأحوط([1]).
وكيفيّته على الأحوط: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله، اللهم صلّ على محمّد وآل محمد»([2]). ويجب فيه الجلوس، والطمأنينة، وأن يكون على النهج العربي([3])، مع الموالاة بين فقراته وكلماته([4]). والعاجز عن التعلّم إذا لم يجد من يلقّنه، يأتي بما أمكنه إن صدق عليه الشهادة، مثل أن يقول: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله» وإن عجز فالأحوط وجوباً([5]) أن يأتي بترجمته، وإذا عجز عنها أتى بسائر الأذكار بقدره([6]).
مسألة 660: يكره الإقعاء فيه([7])، بل يستحب فيه الجلوس متورّكاً كما تقدّم فيما بين السجدتين، وأن يقول قبل الشروع في الذكر: «الحمد لله»، أو يقول: «بسم الله وبالله، والحمد لله، وخير الأسماء لله، أو الأسماء الحسنى كلّها لله»، وأن يجعل يديه على فخذيه منضمّة الأصابع، وأن يكون نظره إلى حجره، وأن يقول بعد الصلاة على النبيّ‘: «وتقبّل شفاعته وارفع درجته([8])» في التشهّد الأوّل، وأن يقول: «سبحان الله» سبعاً بعد التشهّد الأوّل، ثم يقوم، وأن يقول حال النهوض عنه: «بحول الله وقوّته أقوم وأقعد»، وأن تضمّ المرأة فخذيها إلى نفسها، وترفع ركبتيها عن الأرض([9]).
_________________________
([1]) سيأتي في مباحث الخلل الحديثُ عن نسيان التشهّد، وقضائه، وسجدتي السهو.
([2]) الروايات الإماميّة في كيفيّة التشهّد مختلفة ومتعدّدة، بل لو حسبنا روايات سائر المذاهب أيضاً لظهر اختلافٌ أكبر، والكيفيّة التي ذكرها السيد الماتن في الشهادتين مجزية ولا شكّ أنّها مقتضى الاحتياط الوجوبي في كيفيّتهما.
أمّا الصلاة على النبيّ وآله في التشهّد، فلم تثبت بوصفها واجبةً فيه أو جزءاً منه، فإنّ غاية ما دلّت عليه النصوص هنا ـ لو أخذنا بها ـ هو لزوم الصلاة على النبيّ في الصلاة ولو مرّة واحدة، دون تعيين أنّ ذلك لزوماً يجب أن يكون في التشهّد، فقد يقوم به العبد في الركوع أو السجود أو آخر الصلاة أو في أيّ موضع منها. ومجرّد أنّ السيرة المتعارفة قائمة على ذلك لا يعني بالضرورة تعيّنه، بل قد يكون بنحو تأكّد استحباب إيقاع هذا الواجب في هذا الموضع من الصلاة فجرت السيرة على ذلك. وبعض الروايات ـ مثل خبر الأحول وخبر أبي بصير ـ اجتمعت فيه المستحبّات مع الواجبات، فلا يحرز عرفاً أنّ المراد من الصلاة فيهما ما هو بنحو الوجوب، بل لعلّ اختيار إيقاع الصلاة على النبي وآله في التشهّد جاء نتيجة ذكر اسم النبيّ محمّد في الشهادة الثانية، فجمع استحباب الصلاة عليه عند ذكر اسمه مع كليّة ذكر الصلاة على النبيّ في الصلاة عموماً، لا لخصوصيّة كونها متعيّنة في التشهّد، فانتبه.
هذا، مضافاً إلى أنّه لو أُريد الإتيان بالصلاة على النبيّ وآله في التشهّد أو في غيره، فإنّ ذلك لا يتعيّن بصيغة: "اللهم صلّ على محمد وآل محمّد"، بل يمكن الإتيان بأيّ صيغة يصدق عليها تحقيق الصلاة عليه وعلى آله، مثل: "صل اللهم على محمد وعلى آل محمد"، أو "اللهم صلّ وسلّم على محمّد وآله"، أو "اللهم صلّ على النبيّ محمّد وعلى آله" أو غير ذلك من الصيغ التي تحقّق عنوان الإتيان بالصلاة عليه. وسوف يأتي في خاتمة مباحث منافيات الصلاة ما يرتبط بقضايا الصلاة على النبيّ من كيفيتها، وزيادة الآل، والموقف من بعض الزيادات التي طرأت لاحقاً مثل: وعجّل فرجهم، وغير ذلك إن شاء الله. كما أنّه لا يوجد دليل معتبر وقويّ يُثبت أنّ الصلاة على النبيّ إذا أريد الإتيان بها في التشهّد، يلزم أن تكون بعد الشهادتين، بل يمكن أن تكون قبلهما، نعم الأحوط إيقاعها بعدهما.
هذا، وقد رأينا بعد كتابة هذه التعليقة هنا أنّ السيد محمّد سعيد الحكيم لم يثبت لديه (منهاج الصالحين 1: 238) جزئيّة الصلاة على محمّد وآل محمّد في التشهّد، لكنّه قال بأنّ الأحوط وجوباً عدم تركها.
وأمّا الشهادة الثالثة في التشهّد، فقد ذهب بعض المتأخّرين ـ منذ العصر الصفوي إلى اليوم، وليس آخرهم الشيخ محمّد السند الذي خصّص مجلداً للشهادة الثالثة في التشهّد والتسليم، وحشد الكثير مما اعتبره شواهد ولا محصّل له، لهذا لا نتتبّع إلا الشواهد المعتدّ بها مما ذكره وذكروه، كما ومنهم الشيخ جميل حمود العاملي الذي دعا لضمّ الشهادة للسيدة الزهراء أيضاً معتبراً ذلك هو "الأحوط، بل الأقوى" حسب تعبيره ـ ذهب بعض المتأخّرين إلى استحبابها أو جزئيّتها. وعمدة المستند ـ غير ما ذكرناه من أدلّة وناقشناه في بحث الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة، وما سيأتي في بحث التسليم، مما لا نعيده هنا بل يراجع هناك ـ هو الآتي:
1 ـ خبر الفقه الرضوي، الوارد في التشهّد الثاني، قال: «..فإذا صلّيت الركعة الرابعة فقل في تشهّدك: بسم الله وبالله، والحمد لله، والأسماء الحسنى كلّها لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله بالحقّ بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، التحيات لله، والصلوات الطيبات الزاكيات، الغاديات الرائحات، التامّات الناعمات، المباركات الصالحات لله، ما طاب وزكا، وطهر ونما، وخلص فلله، وما خبث فلغير الله. أشهد أنّك نعم الربّ، وأنّ محمّداً نعم الرسول، وأنّ عليّاً (علي بن أبي طالب) نعم المولى، وأنّ الجنّة حقّ..» (فقه الرضا: 108 ـ 109).
والجواب: إنّه لم يثبت نسبة هذا الكتاب للإمام الرضا، بل رجّح بعضهم أنّه من تصنيف الشيخ الصدوق الأوّل، وقال آخرون بأنّه من تصنيف الشلمغاني، وغير ذلك.
2 ـ ما ذكره المجلسي الأوّل من الرواية عن أبي بصير، عن الإمام الصادق، مما يتضمّن صياغةً للتشهّد تشبه التي تقدّمت في موضع الشاهد (فقه كامل فارسي: 31).
والجواب: إنّ هذه الرواية ـ فضلاً عن تأخّرها في الظهور إلى القرن الحادي عشر لو قيل بأنّها مغايرة لرواية التهذيب ـ تحتمل جداً أنّها عين رواية التهذيب التي نقلها الطوسي، وليس فيها التعبير بأنّ علياً نِعم الإمام، فإمّا حصلت زيادة أو حصلت نقيصة، وعلى هذا لا يمكننا التأكّد أو الاحتجاج بخبرٍ من هذا النوع؛ لإثبات الاستحباب، فضلاً عن الجزئيّة والوجوب.
3 ـ إنّه هو المشهور بين المتقدّمين، بحجّة أنّهم كانوا يقولون بأنّ أقلّ ما يجزي في التشهّد هو الشهادتان أو مع ضمّ الصلاة على النبي وآله، مما يعني أنّ الشهادة الثالثة مأخوذة عندهم، غاية الأمر أنّها ليست لازمة.
وهذه المقاربة الاستدلاليّة قابلة للنقاش؛ وذلك أنّنا نعلم أنّ صيغ التشهّد كثيرة ومتعدّدة في الروايات الإماميّة، فضلاً عن غيرها، فالقول بالإجزاء هنا هو في مقابل ما هو متعارف من الصيغ الطويلة المنصوصة في الروايات، فأنّى لنا معرفة أنّه ناظر للشهادة الثالثة؟! هذا فضلاً عن عدم حجيّة الشهرة الفتوائيّة لو دلّ كلامهم على شيءٍ من ذلك.
4 ـ الاستناد إلى مكاتبة الحميري للإمام المهدي، والواردة في كتاب (الاحتجاج 2: 307 ـ 308)، حيث جاء فيها عند الحديث عن تكبيرات افتتاح الصلاة: .. وسأل عن التوجّه للصلاة أن يقول: على ملّة إبراهيم ودين محمّد ـ صلّى الله عليه وآله ـ فإنّ بعض أصحابنا ذكر أنّه إذا قال: على دين محمّد فقد أبدع؛ لأنّا لم نجده في شيء من كتب الصلاة خلا حديثاً في كتاب القاسم بن محمّد عن جدّه عن الحسن بن راشد أنّ الصادق× قال للحسن: كيف تتوجّه؟ فقال: أقول لبيك وسعديك. فقال له الصادق×: ليس عن هذا أسألك. كيف تقول وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً؟ قال الحسن: أقول. فقال الصادق×: إذا قلت ذلك فقل: على ملّة إبراهيم، ودين محمّد، ومنهاج عليّ بن أبي طالب، والايتمام بآل محمّد، حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين. فأجاب×: «التوجّه كلّه ليس بفريضة، والسنّة المؤكّدة فيه التي هي كالإجماع الذي لا خلاف فيه: وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم ودين محمّد وهدي أمير المؤمنين، وما أنا من المشركين. إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين..».
والجواب: إنّ هذه الرواية فاقدة للإسناد أساساً، بل غاية ما تُثبت قول ذلك في حال التوجّه للصلاة، ولا يشمل حال التشهّد أو التسليم، وهي بذلك لا تكون ذكراً.
وعليه، فلم يثبت شيءٌ من ذلك، وقاعدة التسامح لم تثبت أيضاً كما قلنا مراراً.
بل في المقابل، ذهب غير واحد من الفقهاء إلى منع ذكر الشهادة الثالثة في داخل الصلاة، على أساس أنّها ليست ذكراً ولا دعاء ولا قرآناً، ومن هؤلاء السيد الخوئي فيما نسبه له السيد حسن القبانجي (شرح رسالة الحقوق 2: 97)، من استفتاءٍ جاء في جوابه: «..قد جرت سيرة العلماء والأبرار على الشهادة بالولاية في الأذان والإقامة لا بقصد الجزئيّة منذ عهدٍ بعيد من دون نكير من أحدهم حتى أصبح ذلك شعاراً للشيعة ومميّزاً لهم عن غيرهم، ولا ريب في أنّ لكلّ أمّة أن تأخذ ما هو سائغ في نفسه، بل راجح في الشريعة المقدّسة، شعاراً لها، نعم لا يجوز ذلك فيما هو ممنوع منه في الدين، ومن هنا لا تجوز الشهادة الثالثة في الصلاة؛ لأنّ الدين منع عن كلّ كلام فيها غير القرآن والذكر والدعاء، فليس كلّ كلام مستحب في نفسه يجوز في الصلاة ما لم يكن قرآناً أو ذكراً أو دعاء..». كما احتاط السيد علي السيستاني وجوباً بترك الشهادة الثالثة في التشهّد على ما جاء في استفتاءاته.
وعليه، فلم تثبت جزئيّة الشهادة الثالثة وأمثالها في التشهّد، ولا الوجوب ولا الاستحباب فضلاً عن كون ذلك شعيرة، نعم لو صاغ الشهادة الثالثة على شكل دعاء، فهذا جائز حتماً، كما لو قال: اللهم تقبّل ولائي لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فهذا لا بأس به، فإنّ التشهّد وردت فيه صيغ كثيرة، والظاهر أنّ الإنسان يمكنه إضافة أيّ دعاء في تلك الحال، على أن لا يكون هناك شبهة البدعيّة كما قلنا مراراً. وأمّا بطلان الصلاة بالشهادة الثالثة من حيث كونها كلام الآدميين، فسوف يأتي تحقيق الموقف من موضوع مبطليّة مطلق كلام الآدمي في الصلاة، وذلك في بحث "منافيات الصلاة".
([3]) قد تقدّم الكلام في شرطَي: الطمأنينة، والعربيّة في أفعال الصلاة، وذلك عند التعليق على مطلع بحث تكبيرة الإحرام، وكذلك عند التعليق على (المسألة رقم: 583)، فراجع.
([4]) بالمعنى الذي يصدق عليه الوحدة العرفيّة لا أكثر.
([5]) بل هو الأقوى.
([6]) لا ىُعلم وجوبه إذا لم يصدق عليه عنوان الشهادتين، نعم هو الأحوط استحباباً.
([7]) ورد في بعض النصوص الإسلاميّة ما يعرف بالنهي عن التشبّه بالحيوانات في الصلاة، وقد ذكرت لذلك أمثلة استُخدمت فيها الحيوانات للتشبيه، مثل نقر الغراب أو نقر الديك، كناية عن العجلة في السجود والركوع وغيرهما، وافتراش السبع أو الكلب، بمعنى أن لا يبسط ذراعيه على الأرض عند السجود، بل يضع كفّيه ويرفع ذراعيه، وأذناب خيل شُمْس، وهو كناية عن رفع الأيدي في الصلاة بقصد التحيّة، والتفات الثعلب، تشبيهاً لمن يُكثر النظرَ الخاطف حوله في الصلاة بالثعلب الذي يظلّ دائماً مستشعراً الخطر، وهكذا. ومن جملة هذه التشبيهات إقعاء الكلب، وفي بعض الروايات إقعاء القرد.
والإقعاء له معنيان:
أحدهما المعنى اللغوي، وهو أن يضع الرجل أليَتيه على الأرض ويرفع ساقيه وفخذيه واضعاً يديه على الأرض (أو لا يضعهما)، وهذا هو الذي يتمّ تشبيهه بجلوس الكلب، فإنّه يضع مؤخرته على الأرض ويرفع فخذيه وساقيه، يقال : أقعى الكلبُ إذا جلس على أسته، وبهذا يكون الإقعاء مختلفاً تماماً عن التورّك.
وثانيهما المعنى الفقهي، وهو أن يضع المصلّي صدر قدميه على الأرض، ثمّ يجلس على عقبيه، قال المحقّق النجفي: «المراد بالإقعاء المبحوث عنه عندنا وعند الجمهور: وضع الأليتين على العقبين معتمداً على صدور القدمين» (جواهر الكلام 10: 193). وهذا ـ أي الإقعاء الفقهي ـ ما أفتى بحرمته الشيخ يوسف البحراني متفرّداً به تقريباً، بينما قال الكثير من علماء أهل السنّة بأنّه مستحبّ، وأنّه ورد الحثّ عليه في كلمات مثل ابن عباس. لكنّ بعض فقهاء المالكيّة قالوا بحرمة الإقعاء بالمعنى اللغوي لكنّه لا يبطل الصلاة. أمّا جعل بطون أصابعه للأرض ونصب القدمين وجعل الأليتين على العقبين، وكذا الجلوس على القدمين وكون ظهر القدمين للأرض، فقد قالت المالكيّة فيه بأنّه مكروه.
ولعلّ السبب في أنّ الفقهاء فهموا الإقعاء بمعنى مختلف عما هو المعنى الأوّل الموجود في كتب اللغة، هو ما ذكره الوحيد البهبهاني، حيث قال: «إنّ إقعاء الكلب بين السجدتين في غاية الصعوبة بحيث لا يكاد يرتكبه أحدٌ حتى يحتاج إلى المنع منه، سيّما والتأكيد في المنع، بخلاف ما ذكره الفقهاء، فإنّه في غاية السهولة، سيّما في مقام العجلة يرتكبونه» (حاشية المدارك 3: 90). وربما يكون لأنّ نقطة الاختلاف بين فقهاء الشيعة والعديد من فقهاء السنّة هو الإقعاء بالمعنى الثاني.
والبحث في الإقعاء تارةً يكون في فعله بين السجدتين، وأخرى في التشهّد (وجلسة الاستراحة)، وثالثة عند الأكل:
أ ـ أمّا بين السجدتين، فقد تقدّم عند التعليق على (المسألة رقم: 653) من مبحث السجود أنّ الإقعاء بين السجدتين مكروه، وقد دلّت النصوص العديدة العامّة والخاصّة عليه.
ب ـ وأمّا في التشهّد (وجلسة الاستراحة)، فإنّ ما دلّ على النهي عنه فيه بشكل مباشر إنّما هو روايتان ضعيفتان إسناداً، فلا يمكن استفادة الحرمة أو الكراهة منهما سواء بالمعنى اللغوي أم الفقهي، غير أنّه وردت نصوص عامّة تنهى عن الإقعاء في الصلاة دون تقييدٍ بكونه بين السجدتين، مثل مرسل حريز، عن أبي جعفر×، قال: قلت له: «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ»، قال: «النحر الاعتدال في القيام أن يقيم صلبه ونحره»، وقال: «لا تكفّر؛ فإنّما يصنع ذلك المجوس، ولا تلثم، ولا تحتفز، ولا تقع على قدميك، ولا تفترش ذراعيك»، ومثله خبر زرارة: «ولا تقعِ على قدميك». وفي خبر أبي هريرة قال: «نهاني رسول الله‘ عن ثلاث: عن نقرة كنقر الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب».
بل في خبر زرارة الآخر: «وإيّاك والقعود على قدميك فتتأذّى بذلك، ولا تكن قاعداً على الأرض، فتكون إنّما قعد بعضك على بعض، فلا تصبر للتشهّد والدعاء» (الكافي ٣: ٣٣٩)، وفي خبر أنس قال: قال‘: «إذا رفعت رأسك من السجود فلا تقْع كما يقْعي الكلب»، وغير ذلك من النصوص، فلا يبعد بضمّ بعضها إلى بعض الحديث عن الكراهة.
لكنّ الشيء الذي يفهمه المطالع لمجموع النصوص هنا هو أنّ المقصود من النصوص هو إقعاء الكلب، وصريح بعضها واضح في ذلك، فإذا ثبت المعنى اللغوي فالأقرب القول بمرجوحيّة الإقعاء في التشهّد وبين السجدتين بالمعنى اللغوي ـ أمّا غيره فتركه هو مقتضى الاحتياط الاستحبابي ـ ولعلّ نكتته ما أشار له خبر زرارة الثاني وهو أنّ الجلوس جلسة الكلب لا تجعل الإنسان مرتاحاً ومستقراً، لكي يصبر على التشهد والدعاء. ولعل تعبير «قعد بعضك على بعض» في الرواية نفسها مراده أنّ الجسد في حال إقعاء الكلب يكون متكئاً بعضه على بعض، مما يُفهمنا تذييل الرواية بأنّ هذا لا يجعلك تصبر على الدعاء والتشهّد، والله العالم.
ج ـ وأمّا عند الأكل، فالأقرب أنّه جائزٌ لا حرمة فيه ولا كراهة، ولم تثبت نصوصٌ تدلّ على شمول الموقف لغير حال الصلاة وأمثالها، بل في خبر عمرو بن جميع أنّ رسول الله‘ أكل مقعياً.
([8]) فسّر بعض العرفاء هذا الدعاء ـ على ما في بالي ـ بأنّه دالٌّ على أنّ الإنسان في عالم القيامة يواصل سيره التكاملي، وأنّ من نِعَم الله على بعض أهل الجنّة ـ على الأقلّ ـ أنّهم يتمتّعون بمبدأ الحركة التكامليّة في الجنّة، وأنّ مستوى هذه الحركة التكامليّة وسرعتها تابعٌ لنوع ومستوى أعماله الصالحة في الدنيا، وعليه فالمقصود برفع درجة النبيّ هو مواصلة رفع درجاته يوماً بعد يوم حال كونه في عالم الآخرة.
وليس لنا شأنٌ بأصل فكرة نعمة الحركة التكامليّة في الآخرة، وهل هي ثابتة أو لا؟ غير أنّ هذا المقطع من الدعاء لا يدلّ ـ بالضرورة ـ على ذلك؛ فإنّ طلب رفع درجة النبيّ معناه: اجعل يا ربّ درجته مرتفعة، فكما نطلب منه أن يقبل شفاعته نطلب منه أن يرفع درجته، وليس في هذا إشارة لفكرة الحركة المتواصلة في رفع الدرجة، فهذا مثل: أنْعِم يا ربّ على زيد، فإنّ هذا معناه منحه النعيم، لا زيادة النعيم بشكل متواصل. نعم هو يفيد الاستمرار في النعيم، لا التكامل والزيادة فيه بعد إعطاء الله له، والله العالم.
([9]) لم يثبت أيّ من هذه المستحبّات بعنوانه، عدا قول: بحول الله وقوّته أقوم وأقعد، وما يشبهه، حال القيام، كما قلنا في باب السجود عند التعليق على (المسألة رقم: 653).