التعليقة على منهاج الصالحين (أفعال الصلاة ـ السجود ـ القسم الثاني)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(28 ـ 11 ـ 2024م)
الفصل السادس
في السجود
....
تتميم
(سجود التلاوة والشكر و..)
يجب السجود عند قراءة آياته الأربع في السور الأربع، وهي الم تنزيل عند قوله تعالى وهُمْ لٰا يَسْتَكْبِرُونَ وحم فصلت عند قوله تَعْبُدُونَ، والنجم، والعلق في آخرهما. وكذا يجب على المستمع إذا لم يكن في حال الصلاة، فإن كان في حال الصلاة أومأ إلى السجود، وسجد بعد الصلاة على الأحوط. ويستحبّ في أحد عشر موضعاً: في الأعراف عند قوله تعالى: ولَهُ يَسْجُدُونَ، وفي الرعد عند قوله تعالى: وظِلٰالُهُمْ بِالْغُدُوِّ والْآصٰالِ، وفي النحل قوله تعالى: ويَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ، وفي بني إسرائيل عند قوله تعالى: ويَزِيدُهُمْ خُشُوعاً، وفي مريم عند قوله تعالى: خَرُّوا سُجَّداً وبُكِيًّا، وفي سورة الحج في موضعين عند قوله: إِنَّ اللّٰهَ يَفْعَلُ مٰا يَشٰاءُ، وعند قوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وفي الفرقان عند قوله: وزٰادَهُمْ نُفُوراً، وفي النمل عند قوله: رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وفي «ص» عند قوله: خَرَّ رٰاكِعاً وأَنٰابَ، وفي الانشقاق عند قوله: لٰا يَسْجُدُونَ، بل الأولى السجود عند كلّ آية فيها أمرٌ بالسجود([1]).
مسألة 655: ليس في هذا السجود تكبيرة افتتاح، ولا تشهد ولا تسليم. نعم يستحبّ التكبير للرفع منه، بل الأحوط ـ استحباباً ـ عدم تركه([2]). ولا يشترط فيه الطهارة من الحدث، ولا الخبث، ولا الاستقبال ولا طهارة محلّ السجود، ولا الستر، ولا صفات الساتر، بل يصحّ حتى في المغصوب إذا لم يكن السجود تصرّفاً فيه([3]). والأحوط ـ وجوباً([4]) ـ فيه السجود على الأعضاء السبعة، ووضع الجبهة على الأرض، أو ما في حكمها، وعدم اختلاف المسجد عن الموقف في العلوّ والانخفاض. ولا بدّ فيه من النية، واباحة المكان. ويستحبّ فيه الذكر الواجب في سجود الصلاة([5]).
مسألة 656: يتكرّر السجود بتكرّر السبب([6])، وإذا شكّ بين الأقل والأكثر، جاز الاقتصار على الأقلّ([7])، ويكفي في التعدّد رفع الجبهة، ثمّ وضعها من دون رفع بقية المساجد أو الجلوس.
مسألة 657: يستحبّ السجود ـ شكراً لله تعالى([8]) ـ عند تجدّد كلّ نعمة، ودفع كلّ نقمة، وعند تذكّر ذلك، والتوفيق لأداء كلّ فريضة ونافلة، بل كلّ فعل خير، ومنه إصلاح ذات البين، ويكفي سجدة واحدة، والأفضل سجدتان، فيفصل بينهما بتعفير الخدّين، أو الجبينين أو الجميع([9])، مقدّماً الأيمن على الأيسر، ثمّ وضع الجبهة ثانياً. ويستحبّ فيه افتراش الذراعين وإلصاق الصدر والبطن بالأرض، وأن يمسح موضع سجوده بيده، ثم يمرّها على وجهه ومقاديم بدنه([10])، وأن يقول فيه: «شكراً لله شكراً لله» أو مائة مرّة: «شكراً شكراً» أو مائة مرّة «عفواً عفواً» أو مائة مرة «الحمد لله شكراً» وكلّما قاله عشر مرات قال: «شكراً لمجيب» ثمّ يقول: «يا ذا المنّ الذي لا ينقطع أبداً، ولا يحصيه غيره عدداً، ويا ذا المعروف الذي لا ينفد أبداً، يا كريم يا كريم يا كريم»، ثم يدعو ويتضرّع ويذكر حاجته، وقد ورد في بعض الروايات غير ذلك([11]). والأحوط([12]) فيه السجود على ما يصحّ السجود عليه، والسجود على المساجد السبعة.
مسألة 658: يستحبّ السجود بقصد التذلّل لله تعالى، بل هو من أعظم العبادات، وقد ورد أنّه أقرب ما يكون العبد إلى الله تعالى وهو ساجد، ويستحبّ إطالته.
مسألة 659: يحرم السجود لغير الله تعالى، من دون فرق بين المعصومين ـ عليهم السلام ـ وغيرهم. وما يفعله الشيعة في مشاهد الأئمّة ـ عليهم السلام ـ لا بدّ أن يكون لله تعالى؛ شكراً على توفيقهم لزيارتهم ـ عليهم السلام ـ والحضور في مشاهدهم، جمعنا الله تعالى وإيّاهم في الدنيا والآخرة، إنّه أرحم الراحمين([13]).
________________________
([1]) قد تقدّم الكلام عن هذا كلّه وغيره، وذلك عند التعليق على (المسائل رقم: 600 ـ 602)، من الفصل الرابع (القراءة) من أفعال الصلاة، فراجع، حتى لا نعيد.
وقد تسأل في مسألة التفريق بين السامع والمستمع هنا فتقول: إنّ الروایات هنا مطلقة، وقد ورد فیها تعابیر مثل: «إذا سمعت»، و «..فسمعتها»، فلماذا لا تشمل السامع والمستمع؟
والجواب: المراد بالاستماع أن يلاحِظ الإنسانُ ـ حال وصول الصوت إلى الأذن ـ ما هو الذي يصل إلى سمعه، أمّا السماع فهو مجرّد أن يصل الصوت إلى الأذن دون أن يلاحظه الإنسان، فمثلاً لو كنتَ في مجلسٍ، وكانوا يضعون القرآن الكريم عبر الراديو، وكالعادة في مجتمعاتنا ـ مع الأسف الشديد ـ لا يهتمّون بالقرآن، فيبدؤون بالحديث فيما بينهم حتى ولو بصوتٍ مرتفع، فإذا شرع قارئ العزاء أو الخطيب أو الشيخ بالحديث، سكت الجميع.. هنا في لحظة المحادثات الكثيرة لا أحد يعرف ماذا يقول قارئ القرآن، فهنا لو سألك شخصٌ: لقد قرأ القارئ آيةَ السجدة فهل سجدتَ؟ فتقول له: لم أنتبه لقوله آية السجدة، مع أنّك سمعته، لكن لعدم التركيز معه لم تلتفت لما قال، فالسماع هو مجرّد وصول الصوت، أمّا الاستماع فهو الانتباه للصوت الواصل ومعرفة ما فيه، ولهذا نقول بأنّه لا يُعلم أنّ كلمة "سمع" يراد منها ما يشمل محض السماع، بل ربما يقال: إنّ مناسبات الحکم و الموضوع تمنع عن انعقاد ظهور «من سمع» في محض السماع، ویقوى احتمال إرادة الاستماع منه، وهذا كافٍ في عدم الوثوق بانعقاد إطلاق.
([2]) لم يثبت استحباب التكبير بعد الرفع منه، فإنّ النصوص ـ على قلّتها ـ غير ظاهرة في المطلوبيّة، بقدر ما هي ظاهرة في الترخيص بوصفه قدراً متيقّناً.
قد تُشكل: إنّه قد ورد في الرواية: «فِيمَنْ يَقْرَأُ اَلسَّجْدَةَ مِنَ اَلْقُرْآنِ مِنَ اَلْعَزَائِمِ، فَلاَ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ وَلَكِنْ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ»، وورد: «إِذَا قَرَأْتَ شَيْئاً مِنَ اَلْعَزَائِمِ اَلَّتِي يُسْجَدُ فِيهَا فَلاَ تُكَبِّرْ قَبْلَ سُجُودِكَ وَلَكِنْ تُكَبِّرُ حِينَ تَرْفَعُ رَأْسَكَ». فهذه النصوص عبارة عن إنشاءٍ بصیغة إخبار، فتكون ظاهرةً في الوجوب، فکیف تقولون بأنّها ظاهرة في الترخیص أکثر مما هي ظاهرة في المطلوبیّة؟!
والجواب: لا بدّ دائماً من ملاحظة السياقات التاريخيّة المحيطة بصدور النصوص، وهنا ثمّة احتمال قويّ في كون النصوص ناظرة لقولٍ مطروح آنذاك، ولهذا يأتي السائل ويسأل عن التكبير قبل وبعد. وعندما نراجع الفقه السنّي نجد أنّ المذاهب الأربعة معاً قالت بالتكبير عند الخفض والرفع معاً، فكأنّ الإمام ـ في احتمالٍ قويّ ـ أراد إبطال هذه الفكرة، فنهى عن التكبير عند الخفض وطلب التكبير عند الرفع، ولهذا جاء التعبير في الرواية أعلاه بأنّه لا تكبّر قبل السجود، أي عند الخفض، وتكبّر حين ترفع، فجاء الأمر بعد النهي، ولهذا قلنا بأنّه يوجب تردّداً، ولم أدّعِ بأنّ الروايات ظاهرة في الترخيص، بل قلتُ بأنّ ظهورها فيه بوصفه قدراً متيقّناً أقوى من ظهورها في الاستحباب، فنأخذ بالقدر المتيقّن من مفاد الأدلّة.
([3]) يصحّ ـ مع صدق التصرّف فيه ـ على تقدير حصول قصد القربة منه، ولا يصحّ مع عدمه، وفقاً لما بحثناه في شرط الإباحة في مكان المصلّي من مقدّمات الصلاة، فراجع. ومثله ما سيذكره الماتن في آخر هذه المسألة من شرط إباحة المكان.
هذا، وقد تسأل في موضوع شرط الاستقبال بأنّه إذا قلنا بأنّ السجود یجب أن یکون لله، فقد لا يصدق عليه أنّه لله سبحانه إلا إذا کان المکلّف مستقبلاً القبلة، فهل یمکن أن نقول بأنّ مقوّم کون السجود «لله» هو کون السجود نحو الکعبة أو یکفي لتحقّق کونه لله قصد التذلّل أمامه سبحانه؟ وبتعبير آخر: إنّ السجود إذا کان للإصنام فکونه للأصنام ینتزع من کون السجود تجاهها، وعلى هذا فهل کون السجود لله یلزم فیه کونه إلی الکعبة أو یکفي في صدقه قصد الساجد من السجود؟
والجواب: إنّه لا وجه لتقوّم السجود بالاستقبال أساساً إنّما المتقوّم بالاستقبال هي الصلاة، كما أنّ السجود لله غير متقوّم باستقبال القبلة، بل يكفي في صدقه عنوان أن يكون خضوعاً لله، وهذا ما يشهد به العرف والعقلاء.
([4]) بل استحباباً، وفاقاً لغير واحدٍ من الفقهاء، منهم السيد محمود الهاشمي.
([5]) لم يثبت هذا الاستحباب بعنوانه بمعنى استحباب ما ثبت للفقيه أنّه ذكرُ السجود الواجب؛ لأنّ عمدته رواية آحاديّة هي خبر عمّار المنقول في مستطرفات السرائر عن كتاب محمّد بن علي بن محبوب، وهو ضعيف السند بعلي بن خالد، وقد وردت روايات أخرى ـ قليلة العدد وأغلبها ضعيف السند ـ تذكر أدعيةً وأذكاراً مختلفة. والظاهر أنّه ليس هناك شيء موظّف للقول، بل المهم ـ بنحو الاستحباب ـ مطلق الذكر والدعاء، والأفضل أن لا يخرج عما هو المنصوص في الروايات واختيار ولو واحدة منها.
([6]) سواء مع تخلّل السجود بين كلّ سبب وعدمه، نعم لو قرأها جماعة في وقت واحد فسمعها منهم جميعاً مرّة واحدة، لم يجب السجود أكثر من مرّة، وهكذا لو كان يقرأ معهم فقرأ آية السجدة وفي الوقت عينه سمعها منهم، فإنّ اللازم سجودٌ واحد، خلافاً لمن أفتى بالسجود مرّتين في هذه الحال مثل السيد علي الخامنئي. ولا فرق في السبب بين أن يكون إنساناً أو تسجيلاً صوتيّاً أو بثاً مباشراً أو غير مباشر، بل حتى لو كان باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي؛ إذ المهم صدق أنّه استمع لهذه الآية.
هذا، وتجب المبادرة العرفيّة لهذا السجود بحيث يصدق أنّه سجد عند استماعه أو قراءته لهذه الآية.
([7]) هذا في الشك في موجب السجود، أمّا لو علم أنّه يجب عليه ثلاث سجدات مثلاً، ثم شكّ في أنّه أتى باثنتين أو بثلاث، فإنّه يبني على إتيانه الأقلّ، ويلزمه الثالثة.
([8]) ما ذهب إليه السيّد الماتن هو الموافق لجمهور علماء الإسلام ورواياتهم، خلافاً لبعضٍ من علماء الجمهور الذين ناقشوا في أصل شرعيّة سجود الشكر. هذا وقد ذهب الكثير من علماء الشافعيّة والحنابلة وبعض من علماء الحنفيّة والمالكيّة لشرط هذا السجود بما تشترط به النافلة، ولم يثبت.
([9]) لم يثبت شيء من تعفير الجبينين أو الجميع بعنوانه.
([10]) ثبوت هذا الاستحباب وما قبله راجح، لكنّه غير مؤكّد عندي.
([11]) إثبات هذه الخصوصية أو هذه الكيفيّة بخصوصها أو تلك، يبدو صعباً؛ لكنّ الجامع بينها ـ وهو كثرة الشكر وتكراره والدعاء والثناء على الله تعالى ـ قدرٌ مستفاد من مجموع النصوص هنا، ومن طبيعة هذا السجود أيضاً.
([12]) استحباباً.
([13]) الكلام هنا يقع في مرحلتين:
المرحلة الأولى: في أصل حكم السجود لغير الله تعالى
المعروف بين الفقهاء ـ وبخاصّة منذ عصر صاحب العروة وإلى اليوم ـ بيان تحريم السجود لغير الله مطلقاً في كثير من كتب الفتاوى والرسائل العمليّة، ويبدو أنّ الأغلبيّة الساحقة من المعلّقين على العروة ومن بعدهم إلى اليوم، يرون حرمة السجود لغير الله مطلقاً. وظاهر عبارتهم أنّ مطلق تحقيق حالة السجود بوضع المساجد السبعة في محالّها لشخصٍ آخر أو لكائنٍ آخر هو حرام، وقد قادتهم هذه المسألة للتعليق على ما هو متعارف بين الشيعة أو بعضهم من السجود في مشاهد أئمّة أهل البيت النبوي، كما فعل السيد الماتن هنا.
لكنّ الأقرب بالنظر أنّه يجب علينا هنا أن نميّز بين حالتين للسجود:
الحالة الأولى: السجود بقصد عبادة غير الله تعالى، فقصد التعبّد موجود ومتضمّن في عمليّة السجود، فمعنى أنّك تسجد لشخص هو أن تعبده أو تقدّسه فتسجد له كما يسجد العابدون لمعبودهم. وهنا لا شكّ في التحريم، فإنّه شركٌ بالله تعالى وعبادة لغيره، وهو محرّم بالاتفاق.
الحالة الثانية: السجود لا بقصد العبادة أو التعبّد، بل لمجرّد فعل ذلك، كما لو فعل مزاحاً، أو احتراماً وتكريماً وتحيّة، أو كان من عادات بعض الشعوب أو القبائل في الترحيب بالضيف أن يسجدوا له مثلاً تعبيراً عن الاحترام، كما هي عادة شعوب أخرى أن ينحنوا قليلاً عند التحيّة تعبيراً عن التقدير والاحترام والمودّة (هناك كتاب لباحثَين سوريّين هما الدكتور عمر الدقاق والدكتور بشر الدقاق تحت عنوان "التحية عبر العصور، دراسة تاريخيّة اجتماعيّة أدبيّة" وقد اشتمل الكتاب على تفاصيل كثيرة في عادات الشعوب عبر التاريخ على هذا الصعيد، ونقل أشكالاً غير مألوفة لنا اليوم في مناطق ما يُسمّى بالشرق الأوسط، فليراجع)، ففي هذه الحال لا دليل معتبراً على تحريم السجود. فإنّ النصوص الواردة في تحريم السجود لغير الله ـ والتي نقل جملة منها الحرّ العاملي في الباب السابع والعشرين من أبواب السجود من كتاب الصلاة، وكذلك في الباب الخامس والثلاثين من أبواب المزار (تفصيل وسائل الشيعة 6: 385 ـ 388، و14: 407 ـ 408) كلّها ضعيفة الإسناد جداً ومتأخّرة (مجمع البيان ـ الاحتجاج..)، وفي بعضها يختفي وجود السند أساساً، وفي بعضها الآخر غلاة متهمون بالكذب والوضع (مثل خبر بصائر الدرجات ومختصره)، وهناك رواية وردت في التفسير المنسوب للإمام العسكري، ولم تثبت صحّة النسبة على ما حقّقناه في محلّه، فليس بيدنا حكمٌ مطلق يحرّم مطلق السجود لغير الله إذا لم يكن بقصد العبادة أو يكون واقعاً في طريق تحقيق الشرك ولو لاحقاً فيكون محرّماً.
بل إنّ في دلالة بعض هذه الروايات نظر؛ فإنّه ورد النهي عن السجود للنبيّ ـ ومثله خبر معاذ بن جبل وخبر قيس بن سعد الوارد في مصادر أهل السنّة ـ وأُمر بدلاً عنه بالسجود لله. وفي ظلّ مجتمع وثني خرج للتوّ من الوثنية فإنّ السجود هنا لشخصٍ مثل النبيّ، يمكن أن تكون فيه مخاطر، فلا يُعلم أنّ النهي عن السجود له‘ يساوق النهي عن مطلق السجود لأيّ شخص في أيّ سياقٍ آخر، وكذلك خبر التفسير المنسوب للعسكري فإنّه ينهى عن السجود لغير الله كالسجود لله، وعن تعظيم غيره بالسجود له كتعظيم الله بالسجود له، وهو غير واضح في معنى السجود بغير قصد العباديّة والتقديس، كما أنّ الحديث النبوي أنّه لو كان آمراً أحداً بالسجود لأحد، لأمر المرأة أن تسجد لزوجها، وهو حديث وارد عند السنّة والشيعة، لا يفيد هنا؛ لأنّه ينفي الأمر لا أنّه يُثبت التحريم، إلى غير ذلك من الملاحظات الواردة على الاستدلال بهذه الروايات وأمثالها. ومن الواضح أنّ النصّ القرآني عندما يتحدّث عن السجود فهو يتحدّث عن مفهومه التعبّدي ورمزيّته العباديّة، وعلى الأقل فهذا هو القدر المتيقّن منه وفقاً للسياقات ومناسبات الحكم والموضوع.
وأمّا دعوى أنّ السجود هو بذاته عبادة مطلقاً فلا تنفكّ العباديّة عن السجود، فغير واضحة، فإنّ هذا الأمر ليس مسألة فقهيّة أو دينيّة، بل هو أمر يمكن فهمه في سياق التجارب الاجتماعيّة للبشر، وكما يركع بعض الناس لغيرهم بما يرونه عرفاً تعبيراً عن الاحترام والتعظيم لا غير، قد يسجدون لغيرهم تعبيراً عن ذلك أيضاً، بل لو كان بذاته فعلاً عباديّاً لكان سجود الملائكة وإخوة يوسف لهما شركاً، والعياذ بالله، بل قد ورد في بعض الروايات عند المسلمين سجود بعض الحيوانات للنبيّ محمّد‘، وذلك في سياقٍ مادح، وهم يسجدون لله كما نعرف.
وربما يُضاف إلى ما تقدّم، فيُقال: إنّ السجود مطلقاً ليس بمحرّم، والدليل على ذلك حادثتا سجود الملائكة لآدم× وسجود أسرة يوسف× له بعد دخولهم أرض مصر معاً، فإذا كان السجود لغير الله محرّماً مطلقاً، فما معنى إخبار القرآن لنا عن هاتين الحادثتين دون تعليقٍ أو تنبيه؟!
وقد أجاب غير واحدٍ من العلماء والفقهاء والمفسّرين عن هذا الكلام:
أوّلاً: إنّ آدم ويوسف كانا قبلةً للساجدين ـ كما هي الكعبة قبلة للساجدين والمصلّين المسلمين في كلّ أنحاء العالم، وموضع البيت المقدّس قبلة اليهود أيضاً، والشرق قبلة بعض المسيحيّين ـ وقد ورد ذلك أيضاً في مثل خبر التفسير المنسوب للإمام العسكري.
غير أنّ هذا الجواب غير مقنع؛ وذلك أنّ هناك فرقاً بين الأمر بالسجود لشخصٍ والأمر بالسجود إلى شخص أو نحوه، وظاهر النصّ القرآني أنّهم أمروا بجعل آدم مسجوداً له، لا السجود لله مع جعل آدم قبلة، كذلك الحال في قصّة يوسف فإنّهم خرّوا ليوسف سجّداً، وكان ذلك تطبيقاً للرؤيا التي رآها، والتي كانت تتضمّن سجود الكواكب ليوسف، لا أنّها تسجد لغيره، غاية الأمر يكون سجودها لجهته.
ثانياً: إنّ السجود بأمر الله سجودٌ لله تعالى، وفي حالة آدم ويوسف كان السجود بأمرٍ من الله سبحانه، فيكون سجوداً لله حيث كان بأمرٍ منه، وقد ورد هذا المضمون أيضاً في إحدى الروايات التي نقلها هنا الطبرسيُّ في "الاحتجاج" عن الإمام جعفر الصادق×.
وهذا الجواب قابلٌ للنقاش أيضاً؛ فإنّ السجود بأمر الله ليس سجوداً لله، بل هو سجودٌ لغير الله حال كون هذا السجود للغير إطاعة لأمر الله، ولهذا نحن لا نقول: إنّ إطعام المسكين إطعامٌ لله، ولا نقول: إنّ إعانة الفقير إعانة لله، فهذا غير صحيح لغةً وعرفاً، فتأويل السجود أنّه صار لله لمجرّد أنّه كان بأمر الله غير واضح، وعلى الأقلّ لا يصح سلب عنوان السجود لغير الله عليه هنا.
ومثل هذا الجواب ما ورد في خبر تفسير القمي ـ ويلوح من بعض علماء أهل السنّة مثل الطبري وابن حزم الأندلسي ـ من أنّ السجود هو لله وتحية ليوسف، وأنّ هذا السجود كان شكراً لله وليس سجوداً لغير الله. والأبعد منه ما ذكره بعض المفسّرين ـ منهم صاحب مجمع البيان ـ من أنّ الضمير في قوله تعالى: (خرّوا له سجّداً) يرجع إلى الله، أي خرّوا لله سجداً شكراً له وتحيةً ليوسف، فهذا غريب جداً؛ وذلك أنّه لا يتّسق مع مطلع سورة يوسف التي يعبّر منتهاها عن تأويل رؤيا يوسف في مطلعها.
ثالثاً: ما نراه الأقرب بالنظر، وألمح له بعض العلماء، مثل السيد عبد الله الشيرازي وقريب منه السيد تقي القمي في تعليقتهما على العروة، وهو أنّ السجود بذاته ليس محرّماً أو قبيحاً ذاتياً، فلا مانع أن يقبل التخصيص، وعليه فيمكن أن يحرّمه الله إلا في حقّ زيد وعمرو وبكر، فإنّها أمور اعتباريّة وتشريعات قانونيّة تتبع مصالحها، وعليه فأمر الله للملائكة بالسجود لآدم أو سجود إخوة يوسف له لا يدلّ على أنّ السجود حلال مطلقاً، فلو دلّ الدليل على حرمته مطلقاً أمكن الأخذ به وإخراج هاتين الحالتين أو غيرهما ـ لو قام عليه دليل ـ عن تحت عمومات التحريم.
إلا أنّ الكلام في أصل وجود عمومات أو مطلقات تحريميّة، وقد قلنا بأنّه لا دليل على التحريم أساساً في حالة عدم وجود قصد العبادة أو ما يلزم منه الوقوع في الشرك ولو لاحقاً، فقصد العبادة محرّم وقصد التعظيم والإكرام أو غيرهما حلال، ومثله تقبيل الأرض التي ىمشي عليها شخصٌ كالعلماء والصالحين فإنّه لا دليل على تحريمه بعنوانه لو لم يتضمّن شركاً ولا بدعة أو لا يجرّ بطبعه لاحقاً إلى واحدة منهما. ولعلّه لمجمل ما قلناه ذهب الشيخ فاضل اللنكراني في حاشيته على العروة إلى عدم ثبوت تحريمٍ مطلق للسجود لغير الله خارج سياق العبادة، لكنّه ختم تعليقته بالقول: «نعم، الظاهر احتياج الجواز إلى الدليل، وبدونه لا مجال للالتزام به»، وهذا غير مفهومٍ لي؛ فإنّه إذا لم تكن توجد أدلة على التحريم فإنّ أصالة البراءة كافية في الترخيص هنا، فلماذا نحتاج إلى دليل على الجواز؟! ولعلّ عندي قصوراً في فهم مراده رحمه الله.
ومما تقدّم يعلم أنّ السجود لغير الله بغير قصد العبادة ونحوها لا يلزم منه الكفر، خلافاً لجماعة من فقهاء أهل السنّة الذين قالوا بأنّه يلزم منه الكفر، وخالفهم في ذلك الكثير من العلماء الشيعة والسنّة، الذين قالوا بأنّه محرّم، لكنّه لا يوجب كفراً ما دام بغير قصد العبادة.
المرحلة الثانية: في السجود المتعارف بين بعض الشيعة في المشاهد المشرّفة
بناءً على مجمل ما تقدّم، يأتي الحديث في المرحلة التالية، وهي السجود على أعتاب المشاهد المشرّفة للنبيّ وأهل بيته، وكذا غيرهم من الأولياء والصالحين، فإنّ هذا السجود لم يثبت بدليل أنّه مستحبّ بعنوانه، أو أنّه شعيرة من الشعائر، ولم يكن معروفاً من قَبل إطلاقاً، وليست فيه نصوص قرآنية أو حديثيّة أو تاريخية، وإنّما هو عادة جرت بين بعض الشيعة.
والذي توصّلنا إليه آنفاً في المرحلة الأولى يجعل موقفنا من السجود في العتبات مختلفاً عن موقف المشهور بمن فيهم السيد الماتن، وذلك أنّهم قالوا بأنّه لا بدّ أن يكون القصد من هذا السجود الشكر لله تعالى ونحو ذلك على توفيق العبد لزيارتهم ـ عليهم السلام ـ بينما نحن نقول: إنّه لا يشترط ذلك، بل يلزم لكي يكون جائزاً:
أ ـ أن لا يكون مقصوداً به التقديس والتأليه أو العبادة لأهل البيت، فإنّه محرّم وشرك.
ب ـ أن لا يكون بحيث يصبح في الذهن العام شعيرة من الشعائر فيتصوّر أنّه فعلٌ يقع في أصل الدين، إذ هنا يكون بدعة أو فيه شبهة البدعيّة، حيث لا عين له ولا أثر في النصوص، فيلزم الاحتياط لتركه.
ج ـ أن لا يلزم منه عنوان ثانوي تحريمي عام، مثل أن يكون سبباً في وقوع الفتن بين المسلمين أو محرّضاً على قتل الشيعة والموالين أو قتل المتصوّفة ولو ظلماً وعدواناً، أو موجباً لتعريض حياتهم للخطر، أو مفضياً ـ في احتمالٍ معقول ـ إلى وقوع الشرك لاحقاً، ونحو ذلك من العناوين الثانويّة التي تتبع دائرتها.
فإذا تحقّقت هذه الشروط جاز هذا السجود، ولو لم يكن بعنوان الشكر لله ونحو ذلك، بل كان بعنوان التحية والتكريم لأهل البيت مثلاً.
هذا، وسوف يأتي في مباحث الحجّ والعمرة والزيارة ما يرتبط ببعض السلوكيّات المتصلة بذلك، مثل تقبيل العتبات وغيرها.