التعليقة على منهاج الصالحين (أفعال الصلاة ـ السجود ـ القسم الأوّل)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(21 ـ 11 ـ 2024م)
الفصل السادس
في السجود
والواجب منه في كلّ ركعةٍ سجدتان، وهما معاً ركنٌ تبطل الصلاة بنقصانهما معاً، وبزيادتهما كذلك عمداً وسهواً، ولا تبطل بزيادة واحدة ولا بنقصها سهواً([1]). والمدار في تحقّق مفهوم السجدة على وضع الجبهة، أو ما يقوم مقامها، بقصد التذلّل والخضوع([2])، وعلى هذا المعنى تدور الزيادة والنقيصة دون بقيّة الواجبات.
وهي أمور:
الأوّل: السجود على ستة أعضاء: الكفّين، والركبتين، وإبهامي الرجلين([3]). ويجب في الكفّين الباطن، وفي الضرورة ينتقل إلى الظاهر، ثمّ إلى الأقرب فالأقرب على الأحوط، ولا يجزئ السجود على رؤوس الأصابع، وكذا إذا ضمّ أصابعه إلى راحته وسجد على ظهرها([4]). ولا يجب الاستيعاب في الجبهة، بل يكفي المسمّى. ولا يعتبر أن يكون مقدار المسمّى مجتمعاً، بل يكفي وإن كان متفرقاً، فيجوز السجود على السبحة غير المطبوخة إذا كان مجموع ما وقعت عليه بمقدار مسمى السجود، مع كون أجزائها غير متباعدة([5]). ويجزئ في الركبتين أيضاً المسمى، وفي الإبهامين وضع ظاهرهما، أو باطنهما، وإن كان الأحوط وضع طرفهما.
مسألة 646: لا بدّ في الجبهة من مماسّتها لما يصحّ السجود عليه من أرضٍ ونحوها، ولا تعتبر في غيرها من الأعضاء المذكورة.
الثاني: الذكر على نحو ما تقدّم في الركوع، والأحوط في التسبيحة الكبرى إبدال العظيم بالأعلى([6]).
الثالث: الطمأنينة فيه كما في ذكر الركوع([7]).
الرابع: كون المساجد في محالهّا حال الذكر، وإذا أراد رفع شيء منها سكت إلى أن يضعه، ثمّ يرجع إلى الذكر.
الخامس: رفع الرأس من السجدة الأولى إلى أن ينتصب جالساً مطمئنّاً([8]).
السادس: تساوي موضع جبهته وموقفه، إلا أن يكون الاختلاف بمقدار لبنة([9])، وقدّر بأربعة أصابع مضمومة. ولا فرق بين الانحدار والتسنيم فيما إذا كان الانحدار ظاهراً، وأمّا في غير الظاهر فلا اعتبار بالتقدير المذكور وإن كان هو الأحوط استحباباً، ولا يعتبر ذلك في باقي المساجد على الأقوى.
مسألة 647: إذا وضع جبهته على الموضع المرتفع أو المنخفض فإن لم يصدق معه السجود رفعها ثم سجد على المستوي، وإن صدق معه السجود، أو كان المسجد مما لا يصحّ السجود عليه، فالظاهر أيضاً لزوم الرفع والسجود على ما يجوز السجود عليه، وإذا وضعها على ما يصحّ السجود عليه جاز جرّها إلى الأفضل، أو الأسهل.
مسألة 648: إذا ارتفعت جبهته عن المسجد قهراً، قبل الذكر أو بعده، فإن أمكن حفظها عن الوقوع ثانياً احتسبت له([10])، وسجد أخرى بعد الجلوس معتدلاً، وإن وقعت على المسجد ثانياً قهراً لم تحسب الثانية، فيرفع رأسه ويسجد الثانية.
مسألة 649: إذا عجز عن السجود التام انحنى بالمقدار الممكن ورفع المسجد إلى جبهته، ووضعها عليه ووضع سائر المساجد في محالّها، وإن لم يمكن الانحناء أصلاً، أو أمكن بمقدار لا يصدق معه السجود عرفاً، أومأ برأسه، فإن لم يمكن فبالعينين، وإن لم يمكن فالأولى أن يشير إلى السجود باليد أو نحوها، وينويه بقلبه([11])، والأحوط ـ استحباباً ـ له رفع المسجد إلى الجبهة، وكذا وضع المساجد في محالّها، وإن كان الأظهر عدم وجوبه.
مسألة 650: إذا كان بجبهته قرحة أو نحوها، مما يمنعه من وضعها على المسجد، فإن لم يستغرقها سجد على الموضع السليم، ولو بأن يحفر حفيرة ليقع السليم على الأرض، وإن استغرقها سجد على أحد الجبينين، مقدّماً الأيمن على الأحوط استحباباً، والأحوط لزوماً الجمع بينه وبين السجود على الذقن ولو بتكرار الصلاة، فإن تعذّر السجود على الجبين، اقتصر على السجود على الذقن، فإن تعذّر أومأ إلى السجود برأسه أو بعينه على ما تقدّم([12]).
مسألة 651: لا بأس بالسجود على غير الأرض ونحوها، مثل الفراش، في حال التقية، ولا يجب التخلّص منها بالذهاب إلى مكان آخر. نعم لو كان في ذلك المكان وسيلة لترك التقية بأن يصلّي على البارية، أو نحوها مما يصح السجود عليه وجب اختيارها.
مسألة 652: إذا نسي السجدتين فإن تذكر قبل الدخول في الركوع وجب العود إليهما، وإن تذكّر بعد الدخول فيه بطلت الصلاة، وإن كان المنسيّ سجدة واحدة رجع وأتى بها إن تذكّر قبل الركوع، وإن تذكّر بعده مضى وقضاها بعد السلام، وسيأتي في مبحث الخلل التعرّض لذلك([13]).
مسألة 653: يستحبّ في السجود التكبير حال الانتصاب بعد الركوع، ورفع اليدين حاله، والسبق باليدين إلى الأرض، واستيعاب الجبهة في السجود عليها، والإرغام بالأنف، وبسط اليدين مضمومتي الأصابع حتى الإبهام حذاء الأذنين متوجها بهما إلى القبلة، وشغل النظر إلى طرف الأنف حال السجود، والدعاء قبل الشروع في الذكر فيقول: «اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت، وأنت ربي سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره الحمد للّه رب العالمين تبارك اللّه أحسن الخالقين» وتكرار الذكر، والختم على الوتر، واختيار التسبيح والكبرى منه وتثليثها، والأفضل تخميسها، والأفضل تسبيعها، وأن يسجد على الأرض بل التراب، ومساواة موضع الجبهة للموقف، بل مساواة جميع المساجد لهما. قيل: والدعاء في السجود بما يريد من حوائج الدنيا والآخرة، خصوصا الرزق فيقول: «يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين ارزقني وارزق عيالي من فضلك، فإنك ذو الفضل العظيم»، والتورك في الجلوس بين السجدتين وبعدهما، بأن يجلس على فخذه اليسرى، جاعلا ظهر قدمه اليمنى على باطن اليسرى، وأن يقول في الجلوس بين السجدتين: «استغفر اللّه ربي وأتوب إليه»، وأن يكبر بعد الرفع من السجدة الأولى بعد الجلوس مطمئناً، ويكبّر للسجدة الثانية وهو جالس، ويكبّر بعد الرفع من الثانية كذلك، ويرفع اليدين حال التكبيرات، ووضع اليدين على الفخذين حال الجلوس، واليمنى على اليمنى، واليسرى على اليسرى، والتجافي حال السجود عن الأرض، والتجنّح بمعنى أن يباعد بين عضديه عن جنبيه ويديه عن بدنه، وأن يصلّي على النبيّ وآله في السجدتين، وأن يقوم رافعاً ركبتيه قبل يديه، وأن يقول بين السجدتين: «اللهم اغفر لي، وارحمني، وأجرني، وادفع عني، إني لما أنزلت إليّ من خير فقير، تبارك الله ربّ العالمين» وأن يقول عند النهوض: «بحول الله وقوّته أقوم واقعد وأركع وأسجد» أو «بحولك وقوتك أقوم وأقعد» أو «اللهم بحولك وقوتك أقوم وأقعد» ويضمّ إليه «وأركع وأسجد» وأن يبسط يديه على الأرض، معتمداً عليها للنهوض، وأن يطيل السجود ويكثر فيه من الذكر والتسبيح، ويباشر الأرض بكفّيه، وزيادة تمكين الجبهة. ويستحبّ للمرأة وضع اليدين بعد الركبتين عند الهويّ للسجود وعدم تجافيهما بل تفرش ذراعيها، وتلصق بطنها بالأرض، وتضم أعضاءها ولا ترفع عجيزتها حال النهوض للقيام، بل تنهض معتدلة. ويكره الإقعاء في الجلوس بين السجدتين بل بعدهما أيضاً، وهو أن يعتمد بصدر قدميه على الأرض ويجلس على عقبيه، ويكره أيضاً نفخ موضع السجود إذا لم يتولّد منه حرفان، وإلا لم يجز، وأن لا يرفع بيديه عن الأرض بين السجدتين، وأن يقرأ القرآن في السجود([14]).
مسألة 654: الأحوط ـ استحباباً ـ الإتيان بجلسة الاستراحة، وهي الجلوس بعد السجدة الثانية في الركعة الأولى والثالثة، مما لا تشهّد فيه([15]).
_________________________
([1]) سوف يتعرّض السيد الماتن لتفصيل ذلك في مباحث الخلل إن شاء الله. هذا والبطلان بالزيادة السهويّة للسجدتين مبنيٌّ على الاحتياط الوجوبي.
([2]) قد تسأل: هل أُخذ قصد التذلّل والخضوع في السجود والرکوع أو أنّهما إسمٌ لحالة خاصّة؟ فإذا أمر شخص آخرَ بأن یرکع للتمرین، فهل استعماله لهذا اللفظ مجازيٌّ؟ وإذا کان قصد التذلّل ذا دور في المفهوم، فهل إذا لم یأت المکلّف بقصد التذلّل، بل لم یلتفت أصلاً وأتی بالرکوع والسجود بوصفهما عادة، فهل صلاته باطلة لأنّه لم یسجد حقیقةً؟
ويمكن الجواب: إنّ الركوع والسجود اللغوي إذا قصد منه مجرّد توصيف حالة جسديّة فقط، فلا علاقة لهما بقصد التذلّل، أمّا الركوع والسجود في الصلاة فلا بدّ أن يكون بقصد التذلّل؛ لأنّ المعنى القربي العبادي لهذا الفعل أمام الله هو ذلك، في مقابل ما لو ركع لأجل أن يأتي بشيءٍ وَقَعَ على الأرض، فلا نقول بأنّه ركع لله، ولا نقول عنه بأنّه سجد؛ لأنّه يريد أن يطرق رأسه بالأرض نتيجة كونه منفعلاً مثلاً، فهذا لم يسجد سجوداً عباديّاً، والذي هو متمحّض بقصد التذلّل. وأمّا السجود بمقتضى العادة ففيه حضورٌ بسيط كامن لفكرة التذلّل، أو فقل: هو تحقيق الحدّ الأدنى من التذلّل ولو عبر القصد الإجمالي، وإلا فالحقّ أنّ الإنسان الذي يسجد ويشعر بالخضوع تعرضه بالتأكيد حالات روحية خاصّة، ومع الأسف فإنّ العبادة عندما تتحوّل إلى عادة تفقد الكثير من مزاياها.
وقد تقول: إنّ ظاهر عبارة السيد الماتن: «وضع الجبهة بقصّد التذلّل» هو القصد التفصیلي مع الالتفات، بینما بناءً علی التوضیح المتقدّم یمکن أن لا یلتفت المکلّف حین السجود إلی فعله أصلاً، كي یقصد منه التذلّل أو غیره، وذلك عندما يأتي به بوصفه عادة، فهل عبارة السيد الماتن وافية بما تقدّم من كفاية علم المكلّف بصلاته أو نیّته في أوّلها، في تحقّق قصده الإجمالي للتذلّل، ولو بواسطة قصد عنوان العبادة؟
ويجاب: لعلّ السيد الماتن اعتمد على ما قاله في بحث النيّة، من أنّ النية الإجماليّة كافية، وليس هناك حاجة لنية تفصيليّة، وهذا يعني أنّ النية الإجماليّة منعقدة على القيام بهذه الأفعال بداعي العبوديّة لله.
([3]) عمدة الدليل على اشتراط وضع الإبهامين خبرٌ آحاديّ، وهو صحيح زرارة، وبقيّة النصوص ـ الشيعيّة والسنيّة ـ اشتملت على تعبير الرجلين أو القدمين أو كانت ساكتة، وخبر حمّاد الدالّ على وضع أنامل الإبهامين فيه مشاكل عديدة، ولهذا يتعيّن ـ وفقاً لحجيّة خبر الواحد ـ الأخذ بصحيح زرارة في توضيح معنى القدمين والرجلين، لكن حيث لا نقول بهذا المبنى الأصولي فإنّه يجزئ وضع القدمين بما يصدق عرفاً أنّه وضع قدميه على الأرض ولم يرفعهما، سواء من خلال الإبهامين أم غيرهما، وإن كان الأحوط استحباباً تضمين الإبهامين في وضع القدمين على الأرض.
قد تقول: لو فرضنا خبر الواحد حجّة، فلماذا نقدّم روایة أنامل الإبهامین علی روایات الرجل، ونحمل الثاني علی الأوّل، بعد عدم کون هذا الحمل من باب التخصیص، بل هو من باب التفسیر؟ فهل تفسیر العام بالخاصّ هو أیضاً جمع عرفي علی رأي المشهور؟ ثمّ هل مبنی الفقيه في التخصیص من القول بمناطیّة الأخصیّة أو الأظهریّة في تقدیم الخاصّ علی العام یؤثّر هنا في تقدیم الأخصّ في مقام التفسیر؟
ويجاب: إنّ رواية زرارة قابلة لكونها تفسيراً للمراد من القدم في سائر النصوص، فنحن الآن رغم قولنا مثلاً بالإبهامين، لكنّنا نعبّر بوضع القدمين أيضاً، فتكون رواية زرارة في تقييدها بالإبهامين لها وضوحٌ أكبر، وبخاصّة أنّها في مقام البيان من حيث مواضع الوجوب، وما هو سنّة وما هو فريضة.
([4]) الإنصاف أنّه لا يوجد نصّ معتبر واضح يفيد فكرة باطن الكفّين، وقد اعتمدوا على مثل السيرة والتبادر ونحو ذلك، لكنّ الأقرب بالنظر هو كفاية صدق أنّه وضع يديه على الأرض بما يحقّق مفهوم السجود عرفاً، فلو ضمّهما ووضعهما كفى، وكذلك لو وضع ظاهرهما أو غير ذلك، لكن مع الشكّ في صدق عنوان وضع اليدين للسجود يجب الاحتياط والأخذ بالقدر المتيقّن.
هذا، ويمكن أن يناقش في مسألة وجود روایات وردت فیها عبارة «وضع الکفّین»، فأغلب النصوص وردت فیها کلمة «ید»، وادّعاء الانصراف فیها قابلٌ للمناقشة، وما ورد فیه کلمة «الکفّ» ـ کما فیما رواه الصدوق بسنده إلى زرارة ـ فهو آحادي.
([5]) قيد عدم كون الأجزاء متباعدة تشخيصٌ عرفي وليس مدلولاً لنصٍّ معتبر.
([6]) قد تقدّم الحديث عن ذكر الركوع والسجود في واجبات الركوع، فراجع.
([7]) قد تقدّم الحديث عن الطمأنينة عند التعليق في بحث تكبيرة الإحرام على (المسألة رقم: 583)، فراجع.
([8]) قد تقدّم الحديث عن الطمأنينة عند التعليق في بحث تكبيرة الإحرام على (المسألة رقم: 583)، فراجع.
([9]) إذا صدق عنوان السجود عرفاً، فإنّ الحكم بعدم كون التفاوت بين الموقف والمسجد أزيد من مقدار لبنة، مبنيٌّ على الاحتياط الوجوبي.
([10]) هذا يصحّ على تقدير استقرار الجبهة على الأرض قبل الارتفاع القهري، وإلا فلا يصدق عليه أنّه سجد، كما قلنا في بحث الطمأنينة.
([11]) لا دليل معتبراً على لزوم السجود بالعينين أو بالإشارة. والإيماء مرحلة تقع قبل مرحلة الإشارة.
([12]) هنا أمور:
أ ـ إنّ النصوص القليلة الدالّة على أنّ الذقن يمكنها أن تقوم مقام السجود على الجبهة عند تعذّر السجود عليها وعلى الجبين، ضعيفة الإسناد آحاديّة.
ب ـ إنّ مقتضى القاعدة هنا هو أنّ الواجب هو السجود، وأنّ الشريعة حدّدت للسجود كيفيّة خاصّة، فإذا صعب تحقيق هذه الكيفية لكن أمكن تحقيق مفهوم السجود عرفاً، لزم الاحتياط بتحقيقه، وتكون روايات الأذقان وروايات السجود على طرفي الجبهة وكذا السجود على الحاجب وغير ذلك مما يساعد على فهم هذه الحقيقة العرفيّة، وهو أنّ السجود يتعيّن بكيفيّة خاصّة، وهو وضع الجبهة على الأرض، أمّا مع التعذّر فيمكنه الانتقال إلى أيّ طريقة من شأنها تحقيق مفهوم السجود كالسجود على الجبين أو على الوجه أو على الذقن أو على الحاجب أو غير ذلك، بحيث يصدق عليه أنّه سجود المضطرّ عرفاً، فالنصوص تعضد أو تساعد بمجموعها على فهمٍ من هذا القبيل، والله العالم.
([13]) ما أفاده تامّ، وسيأتي الحديث عن موضوع القضاء بعد التسليم، وكذا سجود السهو في بعض حالات هذا المورد، في محلّه إن شاء الله من مباحث الخلل وسجود السهو.
([14]) جميع المستحبّات والمكروهات المذكورة هنا لم تثبت؛ إمّا لعدم دلالة الروايات على ما قالوه ـ (ومن أمثلته: النهي عن النفخ في مواضع السجود، حيث عُلّل في بعض النصوص بأنّه حتى لا يؤذي أحداً بالغبار المنبعث، فليست فيه خصوصيّة تعبديّة محرزة، وكذا وضع اليدين قبل الركبتين على الأرض؛ فإنّ النصوص لا يُعلم أنّها تسأل عن الاستحباب بل الظاهر السؤال عن الجواز، ولا أقلّ من قوّة الاحتمال، وبخاصّة أنّ الفقه السنّي يذهب بجمهوره ـ عدا المالكيّة ـ إلى تقديم وضع الركبتين أوّلاً ثمّ اليدين ثم الجبهة. ومن أمثلته أيضاً روايات زيادة تمكين الجبهة؛ فإنّها غير واضحة الدلالة في ذلك، بل لعلّ نظرها لكثرة السجود أو إطالته بحيث يظهر للسجود أثر) ـ أو لعدم وجود رواية أصلاً (ومن أمثلته: مساواة جميع المساجد لموضعي القيام والسجود) أو لضعف الإسناد، أو لآحاديّة الخبر (خبر حماد المعروف الذي اشتمل على العديد من هذه المستحبات). وما يمكن القول بأنّه ثابت ـ وبعضه من خلال ضمّ نصوص المذاهب الإسلاميّة المتوافقة إلى بعضها ما يقوّي مستوى الوثوق بالصدور ـ هو:
1 ـ استحباب الإرغام بالأنف استحباباً مؤكّداً.
2 ـ استحباب الحوقلة حال القيام للركعة التالية، وليس لها كيفيّة خاصّة وإن كانت الكيفيات التي ذكرها الماتن لا ينبغي التعدّي عنها.
3 ـ استحباب إطالة السجود، وكذا كثرة الذكر والدعاء فيه.
4 ـ استحباب التكبيرات المشار إليها في المتن.
5 ـ استحباب التورّك.
6 ـ قوّة احتمال استحباب وضع الكفّين حيال المنكبين أو حيال الوجه عند السجود.
7 ـ كراهة الإقعاء بين السجدتين خاصّة. وسيأتي توضيح معنى الإقعاء في مبحث التشهّد، عند التعليق على (المسألة رقم: 660).
ولا بأس هنا بالإشارة لما يُعرف بالسجدة اليونسيّة أو الذكر اليونسيّ المتداول اليوم بين كثيرين، فإنّه لا يوجد له مستند شرعي في سجود الصلاة الواجبة أو غيرها، وإنّما هو أمرٌ شاع بين العرفاء وعلماء الأخلاق، وذكره جماعة منهم فيما ينقل عنهم، مثل الكشميري، وملكي التبريزي، والسيد علي القاضي وغيرهم. وهو أن يقول في سجوده سبعين مرّة أو ثلائمائة مرّة أو أربعمائة مرّة وهكذا، ما قاله النبيّ يونس× كما ورد في القرآن الكريم: (لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين)، فهذا الذكر مشروعٌ من باب مطلق الذكر في الصلاة، لكنّه ليس بواجب ولا مستحبّ بعنوانه. نعم أصل هذا الدعاء ورد في بعض النصوص دون تحديده برقمٍ معين أو بسجدة معيّنة أو ضمن صلاة معيّنة، وأمّا صلاة الغفيلة التي تذكر فيها هذه الآية فلم تثبت، كما سيأتي عند التعليق على الصلوات المستحبّة التي سيذكرها السيد الماتن في آخر كتاب الصلاة إن شاء الله.
هذا، وقد تحدّثنا في مستحبّات الركوع حول موضوع "الصلاة على محمّد وآل محمّد" في الركوع والسجود، فراجع تعليقنا على (المسألة رقم: 639).
([15]) جلسة الاستراحة ـ وتسمّى جلسة الأوتار ـ هو أن يجلس المصلّي بعد السجدة الثانية وقبل النهوض للركعة اللاحقة في الركعات التي لا يوجد فيها تشهّد مثل الركعة الأولى، وكذلك الركعة الثالثة في الصلوات الرباعيّة. وقد انقسم فقهاء المسلمين هنا على ثلاثة آراء أساسيّة هي:
الرأي الأوّل: إنّها مستحبّة ومندوبة، وهو ما رآه بعضُ فقهاء أهل السنّة، إلى جانب عددٍ كبير من فقهاء الإماميّة.
الرأي الثاني: عدم استحبابها أصلاً، وهذا ما ذهب إليه كثيرٌ من أهل السنّة حتى أصبح المعتمد تقريباً عند المالكيّة والحنفيّة والحنابلة.
الرأي الثالث: وجوب جلسة الاستراحة أو لزوم الإتيان بها، وهو ما ذهب إليه بعضُ فقهاء الإماميّة، فلا يمكن للمصلّي عندهم القيام من السجدة الثانية والنهوض فوراً لبدء الركعة اللاحقة.
وفي العصر الحديث، ذهب الكثير من فقهاء الإماميّة إلى استحباب جلسة الاستراحة وعدم وجوبها، وتعبير كثير منهم أنّها مقتضى الاحتياط الاستحبابي، منهم: الشيخ النجفي صاحب الجواهر، والشيخ عبد الكريم الحائري، والسيّد الماتن، والسيد عبد الأعلى السبزواري، والسيد صادق الروحاني، والسيد محمود الهاشمي، والسيد موسى الزنجاني، والسيّد محمّد حسين فضل الله، والشيخ محمّد تقي بهجت، والشيخ محمد إسحاق الفيّاض، والميرزا جواد التبريزي، والشيخ الوحيد الخراساني، والسيد محمد محمّد صادق الصدر. فيما لم يفتِ كثيرون أيضاً وإنّما بنوا القضيّة على الاحتياط الوجوبي. ولعلّه يمكنني القول بأنّ أغلب الفقهاء المعاصرين بين قائلٍ بالاستحباب، وقائل بالاحتياط الوجوبي في رسالته العمليّة، ومعبّرٍ بالاحتياط الاستحبابي فيها.
والأقرب هو عدم ثبوت وجوب جلسة الاستراحة، بل هي من نوع توقير الصلاة كما ورد في بعض الأحاديث.