التعليقة على منهاج الصالحين (أفعال الصلاة ـ القراءة ـ القسم الثالث)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(7 ـ 11 ـ 2024م)
الفصل الرابع
في القراءة
...
مسألة 625: يتخيّر المصلّي في ثالثة المغرب، وأخيرتَي الرباعيات بين الفاتحة والتسبيح، وصورته: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر»، هذا في غير المأموم في الصلوات الجهريّة، وأمّا فيه فالأحوط ـ لزوماً ـ اختيار التسبيح. وتجب المحافظة على العربيّة، ويجزئ ذلك مرّة واحدة، والأحوط ـ استحباباً ـ التكرار ثلاثاً، والأفضل إضافة الاستغفار إليه، ويجب الإخفات في الذكر، وفي القراءة بدله حتى البسملة ـ على الأحوط وجوباً([1]).
مسألة 626: لا تجب مساواة الركعتين الأخيرتين في القراءة والذكر، بل له القراءة في إحداهما، والذكر في الأخرى.
مسألة 627: إذا قصد أحدهما فسبق لسانه إلى الآخر، فالظاهر عدم الاجتزاء به، وعليه الاستئناف له أو لبديله([2])، وإذا كان غافلاً وأتى به بقصد الصلاة اجتزأ به، وإن كان خلاف عادته، أو كان عازماً في أوّل الصلاة على غيره، وإذا قرأ الحمد بتخيّل أنّه في الأولتين، فذكر أنّه في الأخيرتين اجتزأ، وكذا إذا قرأ سورة التوحيد ـ مثلاً ـ بتخيّل أنّه في الركعة الأولى، فذكر أنّه في الثانية.
مسألة 628: إذا نسي القراءة، والذكر، وتذكّر بعد الوصول إلى حدّ الركوع صحّت الصلاة، وإذا تذكّر قبل ذلك ـ ولو بعد الهوي ـ رجع وتدارك، وإذا شكّ في قراءتها بعد الركوع مضى، وإذا شكّ قبل ذلك تدارك، وإن كان الشكّ بعد الاستغفار، بل بعد الهوي أيضاً.
مسألة 629: الذكر للمأموم أفضل في الصلوات الإخفاتيّة من القراءة، وفي أفضليّته للإمام، والمنفرد إشكال([3]). وتقدّم أنّ الأحوط ـ لزوماً ـ اختيار الذكر للمأموم في الصلوات الجهريّة([4]).
مسألة 630: تستحبّ الاستعاذة قبل الشروع في القراءة في الركعة الأولى بأن يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، والأولى الإخفات بها([5])، والجهر بالبسملة في أوليَي الظهرين، والترتيل في القراءة، وتحسين الصوت بلا غناء، والوقف على فواصل الآيات، والسكتة بين الحمد والسورة، وبين السورة وتكبير الركوع أو القنوت، وأن يقول بعد قراءة التوحيد «كذلك الله ربي» أو «ربنا». وأن يقول بعد الفراغ من الفاتحة: «الحمد لله ربّ العالمين»، والمأموم يقولها بعد فراغ الامام، وقراءة بعض السور في بعض الصلوات كقراءة: عم، وهل أتى، وهل أتاك، ولا أقسم، في صلاة الصبح، وسورة الأعلى، والشمس، ونحوهما في الظهر، والعشاء، وسورة النصر، والتكاثر، في العصر، والمغرب، وسورة الجمعة في الركعة الأولى، وسورة الأعلى في الثانية من العشاءين ليلة الجمعة، وسورة الجمعة في الأولى، والتوحيد في الثانية من صبحها، وسورة الجمعة في الأولى، والمنافقون في الثانية من ظهريها، وسورة هل أتى في الأولى، وهل أتاك في الثانية في صبح الخميس والاثنين، ويستحبّ في كلّ صلاة قراءة القدر في الأولى، والتوحيد في الثانية، وإذا عدل عن غيرهما إليهما لما فيهما من فضل، أعطي أجر السورة التي عدل عنها، مضافاً إلى أجرهما([6]).
مسألة 631: يكره ترك سورة التوحيد في جميع الفرائض الخمس، وقراءتها بنفس واحد، وقراءة سورة واحدة في كلتا الركعتين الأوليين إلا سورة التوحيد، فإنه لا بأس بقراءتها في كلّ من الركعة الأولى والثانية([7]).
مسألة 632: يجوز تكرار الآية والبكاء، وتجوز قراءة المعوّذتين في الصلاة، وهما من القرآن([8])، ويجوز إنشاء الخطاب بمثل: «إياك نعبد وإياك نستعين» مع قصد القرآنيّة، وكذا إنشاء الحمد بقوله: «الحمد لله ربّ العالمين»، وإنشاء المدح بمثل الرحمن الرحيم.
مسألة 633: إذا أراد أن يتقدّم أو يتأخّر في أثناء القراءة يسكت وبعد الطمأنينة يرجع إلى القراءة([9])، ولا يضرّ تحريك اليد أو أصابع الرجلين حال القراءة.
مسألة 634: إذا تحرّك في حال القراءة قهراً لريحٍ أو غيرها بحيث فاتت الطمأنينة، فالأحوط ـ استحباباً ـ إعادة ما قرأ في تلك الحال([10]).
مسألة 635: يجب الجهر في جميع الكلمات والحروف في القراءة الجهريّة([11]).
مسألة 636: تجب الموالاة بين حروف الكلمة بالمقدار الذي يتوقّف عليه صدق الكلمة، فإذا فاتت الموالاة ـ سهواً ـ بطلت الكلمة، وإذا كان عمداً بطلت الصلاة. وكذا الموالاة بين الجارّ والمجرور، وحرف التعريف ومدخوله، ونحو ذلك مما يعدّ جزءَ الكلمة. والأحوط الموالاة بين المضاف والمضاف إليه، والمبتدأ وخبره، والفعل وفاعله، والشرط وجزائه، والموصوف وصفته، والمجرور ومتعلّقه، ونحو ذلك مما له هيئة خاصّة على نحو لا يجوز الفصل فيه بالأجنبي، فإذا فاتت سهواً أعاد القراءة، وإذا فاتت عمداً فالأحوط ـ وجوباً ـ الإتمام والاستئناف([12]).
مسألة 637: إذا شكّ في حركة كلمةٍ، أو مخرج حروفها، لا يجوز أن يقرأ بالوجهين، فيما إذا لم يصدق على الآخر أنّه ذكر ولو غلطاً. ولكن لو اختار أحد الوجهين جازت القراءة عليه، فإذا انكشف أنّه مطابق للواقع لم يعد الصلاة، وإلا أعادها([13]).
______________________________
([1]) هنا نقاط:
النقطة الأولى: ذهب جمهور علماء أهل السنّة ـ خلافاً للزيدية والاثني عشريّة ـ إلى أنّ الفرق بين الركعتين: الأولى والثانية والركعتين الثالثة والرابعة من الثلاثيّة والرباعيّة، هو أنّ الأولى والثانية يقرأ معهما بشيء غير الفاتحة، بينما في الثالثة والرابعة لا يُقرأ إلا بالفاتحة، مع بعض الاستثناءات عند بعض، ولهذا فإنّ التسبيحات الأربع لا وجود لها عندهم، لا بنحو التعيين ولا بنحو التخيير، بل تبطل الصلاة بعدم قراءة الفاتحة في الأخيرتين.
وعندما نراجع مستندهم في ذلك، نجده تارةً حديث «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»، وهو غير ناهض في تعيين الفاتحة في أيّ ركعةٍ هي، فإنّ الحديث يعتبر أنّ الفاتحة ضروريّة في الصلاة، لكنّه لا يعيّن أنّها كذلك في كلّ ركعة، وتارةً أخرى يستدلّون بأنّ النبيَّ كان يقرأ الفاتحة في الصلاة، في الركعتين الأخيرتين، وهذا أيضاً لا ينفي أن يكون هناك خيار آخر وهو التسبيح؛ لاحتمال أنّ الفاتحة أفضل بكثير من التسبيح في الركعتين الأخيرتين؛ لهذا كان يداوم النبيّ على قراءتها لتأكّد استحبابها فيهما. فالعمدة في الفقه السنّي يفترض أن يكون عبارة عن غياب النصوص عن فكرة التسبيح في الركعات الأخيرة، مع حضور النصوص في خصوص الفاتحة.
أمّا في الفقه الزيدي، فالظاهر تعيّن التسبيح؛ عملاً بنصوص أهل البيت، وأمّا الفقه الإمامي فالمشهور التخيير مع بعض التفاصيل؛ عملاً بنصوص أهل البيت النبويّ أيضاً.
وعليه، فوفقاً لمرجعيّة أهل البيت النبوي يفترض القول بالتخيير بين الفاتحة والتسبيح في الركعتين الأخيرتين، وبضمّ نصوص أهل البيت لنصوص أهل السنّة عن النبيّ نكتشف إمكانيّة التوافق، أمّا من لا يرى حجيّة سنّة أهل البيت، فإنّ ما ذهب إليه أهل السنّة يكون متعيّناً عنده للعلم بفراغ الذمّة بالفاتحة دون غيرها.
النقطة الثانية: إنّ النصوص الواردة في موضوع التسبيحات مختلفة، وما ذكره السيد الماتن من كيفيّة التسبيحات، وهي التسبيحات الأربع، هو القدر المتيقّن من كونه يفيد براءة الذمّة، أمّا غير ذلك فالنصوص فيه موجودة، ولا يبعد القول بأنّه يكفي مطلق التسبيح، وإن كان الأفضل هو الصيغة الرباعيّة المشار إليها في المتن، بل هي الأحوط أيضاً.
النقطة الثالثة: إنّ النصوص الحديثيّة الموجودة عند الإماميّة مختلفة، فبعضها يخيّر بين التسبيح والحمد، وبعضها يعيّن التسبيح، وهو ـ أعني تعيّن التسبيح ـ ما نُسب القول به لبعض المتقدّمين، لكنّ الإنصاف أنّ نصوص التعيين، مضافاً لمعارضتها لنصوص التخيير، تعارض أيضاً ما دلّ في مصادر الحديث عند جمهور المسلمين من مداومة النبيّ على قراءة الفاتحة في الأخيرتين، وفي مثل هذه الحال من الصعب الوثوق بتعيّن الفاتحة أو التسبيح، فالأقرب هو التخيير وفاقاً للمشهور.
النقطة الرابعة: إنّ ما ذهب إليه السيد الماتن من الاحتياط الوجوبي باختيار التسبيح بالنسبة للمأموم في الصلوات الجهريّة خاصّة، مستنده خبر آحادي، ليس بحجّة، وإن كان الاحتياط حسناً.
النقطة الخامسة: إنّ ضمّ النصوص إلى بعضها لا يعطي أكثر من تسبيحة واحدة، فهذا هو القدر المتيقّن من مجموع النصوص على مستوى التكليف، فما أفاده الماتن في محلّه.
النقطة السادسة: إنّه لم يثبت أفضليّة أو استحباب إضافة الاستغفار للتسبيح، إذ إنّ دليله آحاديٌّ معارَض، كما أنّه قد تقدّم الكلام آنفاً في موضوع الجهر والإخفات، وأنّه لا يجب الجهر ولا الإخفات في الفاتحة أو التسبيحات في الركعات الأخيرة أيضاً، بل المكلّف مخيَّر، وإن كان الأحوط استحباباً هو الإخفات. وتقدّم أيضاً في مطلع بحث تكبيرة الإحرام عدم لزوم اللغة العربيّة في التسبيحات، وإنّما هو الأحوط وجوباً في الفاتحة وما يرتبط بقراءة القرآن الكريم فقط.
([2]) بل الأقوى الاجتزاء بناء على التخيير بين التسبيحات والفاتحة، ما دام في الجملة قاصداً للقيام بالفعل الصلاتي. نعم لو قصد قراءة الفاتحة من باب التبرّك بقراءة القرآن مثلاً بنحو الـ "بشرط لا" من حيث غيره، فهنا يلزمه الإعادة لتحقيق المطلوب أو الإتيان بالبديل.
ونقطة الخلاف تكمن في أنّ مجرّد سبق اللسان، يعني عندهم أنّ الفعل لم يكن مقصوداً ومنويّاً، والمفروض أنّنا نتكلّم عن عبادة مشروطة بالنيّة والقربة، بينما ما قلناه هو تفصيل يمنع عن صحّة إطلاق هذا الكلام، وإلا فإنّ قاعدة هذا الكلام الذي ذكره الماتن صحيحة، فانتبه.
([3]) الروايات متعارضة جداً، ومن الصعب الوثوق بشيءٍ هنا يفيد التعيّن في الموارد كلّها.
([4]) قد قلنا آنفاً بأنّ هذا الاحتياط استحبابيٌّ وليس وجوبيّاً.
([5]) ذهب مشهور فقهاء الإسلام ـ كما ذكره العلامة الحلّي في "تذكرة الفقهاء" ـ إلى القول باستحباب الاستعاذة قبل القراءة في الصلاة في الركعة الأولى أو فيها وفي الثانية، ولم يظهر ـ وفق كلماتهم ـ أنّ هناك من خالف في هذا الاستحباب إلا ما نُسب لأبي علي الطوسي ولد الشيخ أبي جعفر الطوسي، كما نقله المحقّق النراقي في "مستند الشيعة"، حيث قال بالوجوب، وكذلك ما نسب إلى مالك بن أنس من أهل السنّة حيث قال بالمنع أو بكراهة التعوّذ في الصلاة المكتوبة، وقصره على قيام شهر رمضان المبارك، على ما أفاده العلامة الحلّي أيضاً وغيره. ولا بدّ من البحث في هذا الموضوع ـ سواء في الصلاة أم خارجها ـ وبشكلٍ مختصرٍ متناسبٍ مع هذه التعليقة.
وحاصل ما يمكن أن يُستدلّ به للوجوب وجوهٌ:
الوجه الأوّل: قوله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنّه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنّما سلطانه على الذين يتولّونه والذين هم به مشركون) (النحل: 98 ـ 100)، بتقريب أنّ الأمر في الآية ظاهرٌ في الوجوب، وهو مطلق سواء في الصلاة في أيّ من ركعاتها أم خارجها. ويظهر مما هو المنسوب إلى النخعي وابن سيرين أنّ الاستعاذة المقصودة في هذه الآية هو الإتيان بها بعد قراءة القرآن؛ لأنّ الآية تقول بأنّك إذا قرأت ـ أي تحقّق فعل قراءة القرآن منك ـ لزمتك الاستعاذة، فصيغة الماضي تساعد على ذلك. ورغم أنّ هذه الآية تستحق التوقّف عندها هنا، غير أنّ العديد من الفقهاء تجاهلها كليّاً في هذا البحث، ومنهم السيد الماتن في بحوثه الاستدلاليّة.
إلا أنّ الذي يخطر في البال أنّ هذا الاستدلال بهذه الآية قابل للنقاش؛ وذلك أنّ ثمّة احتمالاً معتدّاً به في أن يكون المراد هنا توجيه أمرٍ خاصّ بالنبيّ في موضوع تلاوة القرآن للناس، فإنّ استعاذته بمعنى أن يحول دون تدخّل الشيطان في أن يقول النبيّ شيئاً غير حقّ وليس من عند الله، ولهذا جاءت الآية اللاحقة تتحدّث عن تبديل آية مكان آية وأنّهم يقولون بأنّك تفتري القرآن الكريم لتؤكّد الآية التي تليها أنّ القرآن نزل به الروح الأمين على قلب رسول الله وهكذا، فهذه الآية نظراً لتوجيهها الخطاب لشخصِ النبيّ وأخذ المضمون الذي تشتمل عليه بعين الاعتبار، يُحتمل جدّاً ارتباطها بموضوع إبلاغ الوحي، فلا يكون لها ظهورٌ في العموم لغير النبيّ، فهي على وزان ما جاء في القرآن من أنّ الشيطان يتدخّل في أمنيات الأنبياء، لكنّ الله تعالى يمحو آثار الشيطان ويُحكم آياته، وعليه فمن الصعب فهم العموم اللزومي من هذه الآية القرآنيّة الكريمة، وبهذا يظهر أنّ الأرجح في تفسيرها ـ وفقاً لهذا الاحتمال ـ أنّ المراد الاستعاذة قبل القراءة؛ لحماية نفسه من تدخّلات الشيطان وإلقائه شيئاً في البَين، والله العالم.
الوجه الثاني: التمسّك بجملةٍ من الأخبار، وأبرزها:
أ ـ خبر الحلبي، عن أبي عبد الله× ـ وذكر دعاء التوجّه بعد تكبيرة الإحرام، ثم قال ـ: «ثمّ تعوّذ من الشيطان الرجيم، ثمّ اقرأ فاتحة الكتاب». وتقريب الاستدلال به أنّه ـ مع اختصاصه بالركعة الأولى من خصوص الصلاة ـ ظاهرٌ في الوجوب.
لكنّ بعض الفقهاء ناقش في هذا الظهور ـ مثل السيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي ـ بأنّ ما سبق هذه الفقرة هو حديثٌ عن دعاء التوجّه وكيفيّة رفع اليدين حال التكبير، ثمّ بيان التكبيرات المستحبّة وما يتخلّلها من أدعية، ومثل هذا السياق موجبٌ لظهور الأمر بالاستحباب، ولا أقلّ من صرفه عن الوجوب، أو إعاقة الدلالة عليه.
وهذا الإشكال في محلّه على مبنانا في الأصول، لكنّه غير مفهومٍ من مثل السيد الخوئي، إذ هو في مواضع كثيرة مشابهة عزل الأوامر عن بعضها؛ اعتماداً على مسلكه في أنّ استفادة الوجوب من صيغة الأمر إنّما هي بتركيب جامع الطلب المستفاد من ظاهر الدليل مع حكم العقل بالوجوب حيث لا ترخيص، والمفروض هنا أنّ هذا الطلب موجود ولا ترخيص في الترك، فمن غير الواضح ما ذهب إليه وفقاً لمبناه، فيصلح إشكالاً نقضيّاً عليه أو أنّه ـ رحمه الله ـ انساق خلف الفهم العرفي الصحيح، والذي هو مخالفٌ لما سلكه في الأصول على ما ذكرناه مراراً.
ب ـ مضمرة سماعة، قال: سألته عن الرجل يقوم في الصلاة فينسى فاتحة الكتاب؟ قال: «فليقل: أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم إنّ الله هو السميع العليم، ثمّ ليقرأها ما دام لم يركع».
ولكنّ هذه المضمرة قابلة للنقاش دلالةً؛ لقوّة احتمال اختصاصها بالنسيان الذي هو نسيانٌ في أمرٍ عباديّ، فالاستعاذة هنا لدفع تأثير الشيطان في إلهائه عن العبادة، ولهذا سمّيت سجدتا السهو بالمرغِمَتَين كما سيأتي؛ لأنّهما ترغمان أنف الشيطان الذي أوقع الإنسان في السهو حال العبادة، فلا يُفهم من هذه المضمرة ما هو أوسع من ذلك.
ج ـ خبر حنان بن سدير، قال: صلّيت خلف أبي عبد الله×.. فتعوّذ بالله بإجهار، ثم جهر ببسم الله..
والكلام في هذا الخبر ـ كالكلام في الخبر الذي نقله الشهيد الأوّل في "ذكرى الشيعة" عن أبي سعيد الخدري ـ هو أنّ غاية ما يدلّ عليه هو فعل النبيّ أو الإمام، وهذا لا يفيد الوجوب بالضرورة، بل لعلّه لكون الاستعاذة من المستحبّات المؤكّدة.
د ـ خبر التفسير المنسوب للإمام العسكري، قال: «وأمّا قوله الذي ندبك الله إليه وأمرك به عند قراءة القرآن: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.. والاستعاذة هي ما قد أمر الله به عباده عند قراءتهم القرآن بقوله:..».
وهذا الخبر ظاهرٌ في الوجوب؛ حيث تكرّر فيه استعمال مادّة الأمر، ولا ينافيه تعبير «ندبك إليه»؛ فإنّ الندب هنا لا يعني الاستحباب المصطلح كما هو واضح. غير أنّ هذه الرواية ضعيفة السند بعدم ثبوت نسبة هذا التفسير للإمام العسكري كما تعرّضنا له في محلّه.
هـ ـ خبر الحلبي، عن أبي عبد الله× قال: سألته عنه التعوّذ من الشيطان الرجيم عند كلّ سورة نفتتحها؟ قال: «نعم، فتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم».
وظاهره ـ ولو البدوي ـ تمامية الدلالة، غير أنّه مرسل تفرّد بنقله العياشي في تفسيره.
وبهذا يظهر أنّه لم يتمّ دليل واضح على الوجوب، بل في المقابل، قد يمكن تقديم شواهد على الاستحباب ونفي الوجوب، وأبرزها:
الشاهد الأوّل: بعض الأخبار وأهمّها:
أ ـ خبر فرات بن أحنف، قال: سمعته يقول ـ في حديث ـ: «وإذا قرأت بسم الله الرحمن الرحيم فلا تبالي أن لا تستعيذ».
وهو واضح دلالةً، غير أنّه ضعيف السند، مع احتمال أنّ المراد به عدم لزوم الرجوع للاستعاذة لو دخل في البسملة، فتأمّل جيّداً.
ب ـ خبر الصدوق، قال: «كان رسول الله‘ أتمّ الناس صلاةً وأوجزهم، وكان إذا دخل في صلاته قال: الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم».
وهذه الرواية وإن دلّت على نفي الوجوب، لكنّها لا تدلّ على الاستحباب، على أنّها مرسلة، ومراسيل الصدوق ليست بحجّة، كما حقّقناه في محلّه.
ج ـ خبر الحميري، حيث ذكر فيه الإمام× أنّ التوجّه في الصلاة ليس بفريضة، وقد شرحه وشمله الاستعاذة، ثمّ البسملة، ثم قال: «وتقرأ الحمد»، وهو ظاهر في كون الاستعاذة والبسملة منه، فلا تكون واجبة.
لكنّ هذا الخبر ضعيف السند بالإرسال حيث نقله الطبرسيّ في "الاحتجاج" مرسلاً عن الحميري.
د ـ نصوص الصلوات البيانيّة، مثل خبر حماد الطويل، وخبر عمر بن أذينة، وخبر إسحاق بن عمار، وأمثالها، وفيها ما هو المعتبر سنداً، فإنّها لم تذكر شيئاً عن الاستعاذة في الصلاة رغم اشتمالها حتى على بعض المندوبات.
وعليه، فضمّ هذه النصوص لبعضها يُضعف قوّة الوجوب واحتماليّته.
الشاهد الثاني: ما أفاده السيد الخوئي من وجود قصورٍ في مقتضي الوجوب هنا؛ وذلك أنّ هذه المسألة كثيرة البلوى وفي معرض ابتلاء المكلّفين يوميّاً، فلو كانت الاستعاذة واجبةً لظهر ذلك وبان، ولم يقع في ذلك خلاف، كيف والمشهور ذهب إلى الاستحباب، وعليه فتُحمل النصوص على الاستحباب هنا.
وقد سبق لنا التعرّض لما يُشبه هذه المداخلة، فلا نعيد، فهي حقٌّ في الجملة لا بالجملة.
الشاهد الثالث: ذهاب المشهور إلى نفي الوجوب وإثبات الاستحباب، بل لعلّ المسألة إجماعيّة بمعنى من المعاني.
ويجاب بأنّ قول المشهور محتمل المدركيّة؛ انطلاقاً من المقاربات المتقدّمة، فلا يكون حجّة، نعم هو قرينة معزِّزة لأدلّة نفي الوجوب لو ثبتت.
والحاصل: إنّ الاستعاذة مطلوبة مرغوب إليها، لكنّها ليست بواجبة لا في الصلاة ولا خارجها. وقد كنّا سابقاً نبني على وجوب الاستعاذة قبل قراءة القرآن مطلقاً، عملاً بنصّ الآية الكريمة، مؤيّدةً بشواهد الأحاديث، لكنّ الظاهر أنّ القول بالوجوب ضعيف، فما ذهب إليه المشهور هو الأقوى، والله العالم.
هذا، ولا دليل معتبراً على استحباب الإخفات بالاستعاذة لو أُريد ذكرُها في الصلاة أو غيرها.
([6]) إنّ جميع هذه المذكورات في هذه المسألة لم يثبت استحبابه، فكثير منه فيه روايات ضعيفة الإسناد، وبعضه الآخر فيه خبر آحادي، وبعضٌ ثالث تقدّم الحديث عنه كموضوع الجهر بالبسملة (المسألة رقم: 617) فلا نعيد، لكن ما يمكن أن يقال بثبوت استحبابه بجمع القرائن هو الآتي: 1 ـ الاستعاذة، ولا دليل معتبراً على حصر صورتها بهذه الطريقة التي ذكرها السيد الماتن، بل وردت بصيغ أخرى في بعض النصوص، فيمكن القول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم أو أستعيذ بالله من الشيطان أو غير ذلك. 2 ـ الترتيل في القراءة مع تحسين الصوت. 3 ـ قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى من صلاة الجمعة والمنافقون في الركعة الثانية، ولا يشمل ذلك صلاة الظهر والعصر يوم الجمعة، خلافاً لما هو ظاهر جماعة، وعبارة السيد الماتن أعلاه.
([7]) النصوص في الترغيب بسورة الإخلاص كثيرة، غير أنّه لم يثبت كراهة تركها في الصلوات الخمس ، ولا كراهة قراءتها بنفَس واحد، ولم يثبت كراهة سورة واحدة في الركعتين عدا الإخلاص، فإنّ ذلك كلّه بين نصوص ضعيفة وأخرى آحاديّة، لكنّ المتيقّن هو استحباب قراءة الأخلاص في الصلاة والتأكيد عليها.
([8]) قد فصّلنا البحث عن كونهما من القرآن في بحوثنا التفسيريّة، وذلك عند التعرّض لتفسير سورتَي: الفلق والناس.
([9]) قد تعرّضنا سابقاً لشرط الطمأنينة في بحث تكبيرة الإحرام (المسألة رقم: 583)، فلا نعيد.
([10]) الحقّ ما ذهب إليه السيد الماتن بناءً على القول بلزوم الطمأنينة، وقد تقدّم الحديث عنها (المسألة رقم: 583).
([11]) بناء على الوجوب أو الاستحباب فإنّ العبرة بصدق أنّه قرأ جهراً، ولعلّ العرف يرى أنّه لو اختفى حرفٌ أثناء القراءة فلا يضرّ، فالمرجع هو العرف هنا؛ لأنّ النصوص لم تتعلّق بكلّ حرفٍ حرف أو كلمةٍ كلمة، بل تعلّقت بعنوان القراءة إخفاتاً أو جهراً، ولعلّه لما قلناه احتاط في هذه المسألة وجوباً السيد محمود الهاشمي والسيد علي السيستاني والشيخ جواد التبريزي.
([12]) المرجع هنا صدق أنّه قرأ الفاتحة أو قرأ التسبيحات أو قرأ هذه الآية أو تلك السورة، فلو نطق بحرف الألف في "إيّاك" ثمّ بعد دقيقة مثلاً نطق بحرف الياء وهكذا، فإنّ العرف لا يرى أنّه قرأ كلمة "إيّاك"، وكذلك لو نطق بكلمة ثم نطق بالثانية بعد ربع ساعة مثلاً، فهنا أيضاً لا يُقال عرفاً بأنّه قرأ جملة، ولو صدق ذلك بالدقّة، وهكذا، أمّا الموالاة بغير هذا المعنى فلا دليل عليها، فلو قرأ الجارّ ثمّ بعد لحظات قرأ المجرور، أو قرأ المضاف ثمّ بعد لحظات قرأ المضاف إليه، وهكذا بين المبتدأ والخبر، فتصحّ الصلاة والقراءة، فالعبرة بصدق أنّه قرأ الفاتحة عرفاً ولو بسكتاتٍ بين الكلمات أو الجمل لا تضرّ بصدق العنوان، وإن كان الأحوط استحباباً المواصلة بحيث لا تكون مثل هذه السكتات.
([13]) بل الأقرب أنّه لا تجب إعادتها؛ مع إتيانه بأحد الاحتمالين برجاء كونه هو الواقع، بل في البطلان في الصورة الأولى إشكالٌ؛ لاحتمال عدم صدق عنوان كلام الآدميين في مثل هذه الحال بحيث تشمله نصوص البطلان بكلام الآدميين، حتى تبطل الصلاة.