التعليقة على منهاج الصالحين (أفعال الصلاة ـ القراءة ـ القسم الثاني)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(1 ـ 11 ـ 2024م)
الفصل الرابع
في القراءة
...
مسألة 617: يجب على الرجال الجهر بالقراءة في الصبح والأولين من المغرب، والعشاء، والإخفات في غير الأوليين منهما، وكذا في الظهر، والعصر في غير يوم الجمعة عدا البسملة، أمّا فيه فيستحبّ الجهر في صلاة الجمعة، بل في الظهر أيضاً على الأقوى([1]).
مسألة 618: إذا جهر في موضع الإخفات، أو أخفت في موضع الجهر ـ عمداً ـ بطلت صلاته، وإذا كان ناسياً أو جاهلاً بالحكم من أصله، أو بمعنى الجهر والإخفات صحّت صلاته، والأحوط الأولى الإعادة إذا كان متردّداً فجهر، أو أخفت في غير محلّه ـ برجاء المطلوبيّة ـ وإذا تذكّر الناسي، أو علم الجاهل في أثناء القراءة مضى في القراءة، ولم تجب عليه إعادة ما قرأه([2]).
مسألة 619: لا جهر على النساء، بل يتخيّرن بينه وبين الإخفات في الجهريّة، ويجب عليهنّ الإخفات في الإخفاتيّة، ويعذرن فيما يعذر الرجال فيه([3]).
مسألة 620: مناط الجهر والإخفات الصدق العرفي، لا سماع من بجانبه وعدمه، ولا يصدق الإخفات على ما يشبه كلام المبحوح، وإن كان لا يظهر جوهر الصوت فيه، ولا يجوز الإفراط في الجهر كالصياح، والأحوط في الإخفات أن يسمع نفسه، تحقيقاً أو تقديراً، كما إذا كان أصم، أو كان هناك مانعٌ من سماعه([4]).
مسألة 621: من لا يقدر إلا على الملحون، ولو لتبديل بعض الحروف، ولا يمكنه التعلّم أجزأه ذلك، ولا يجب عليه أن يصلّي صلاته مأموماً، وكذا إذا ضاق الوقت عن التعلّم([5]). نعم إذا كان مقصّراً في ترك التعلم، وجب عليه أن يصلّي مأموماً. وإذا تعلّم بعض الفاتحة قرأه والأحوط ـ استحباباً ـ أن يقرأ من سائر القرآن عوض البقيّة، وإذا لم يعلم شيئاً منها قرأ من سائر القرآن([6])، والأحوط ـ وجوباً([7]) ـ أن يكون بقدر الفاتحة، وإذا لم يعرف شيئاً من القرآن أجزأه أن يكبّر ويسبّح، والأحوط ـ وجوباً([8]) ـ أن يكون بقدرها أيضاً، بل الأحوط([9]) الإتيان بالتسبيحات الأربع. وإذا عرف الفاتحة وجهل السورة، فالظاهر سقوطها مع العجز عن تعلّمها.
مسألة 622: تجوز اختياراً القراءة في المصحف الشريف، وبالتلقين، وإن كان الأحوط ـ استحباباً ـ الاقتصار في ذلك على حال الاضطرار.
مسألة 623: يجوز العدول اختياراً من سورةٍ إلى أخرى ما لم يتجاوز النصف، والأحوط عدم العدول ما بين النصف والثلثين، ولا يجوز العدول بعد بلوغ الثلثين، هذا في غير سورتي الجحد والتوحيد، وأمّا فيهما فلا يجوز العدول من إحداهما إلى غيرهما، ولا إلى الأخرى مطلقاً، نعم يجوز العدول من غيرهما ـ ولو بعد تجاوز النصف ـ أو من إحدى السورتين مع الاضطرار لنسيان بعضها، أو ضيق الوقت عن إتمامها، أو كون الصلاة نافلة([10]).
مسألة 624: يستثنى من الحكم المتقدّم يوم الجمعة، فإنّ من كان بانياً فيه على قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى وسورة (المنافقون) في الثانية من صلاة الجمعة، أو الظهر فغفل وشرع في سورةٍ أخرى، فإنّه يجوز له العدول إلى السورتين وإن كان من سورة التوحيد أو الجحد([11]) أو بعد تجاوز الثلثين من أيّ سورة كانت، والأحوط وجوباً عدم العدول عن الجمعة والمنافقون يوم الجمعة، حتى إلى السورتين (التوحيد والجحد) إلا مع الضرورة فيعدل إلى إحداهما دون غيرهما على الأحوط([12]).
_____________________
([1]) تعرّض السيّد الماتن هنا لمسائل:
المسألة الأولى: حكم الجهر والإخفات بشكل عام
وقد ذهب مشهور فقهاء الإماميّة إلى وجوب الجهر في القراءة على الرجال في الركعتين الأوليين من صلوات الصبح والمغرب والعشاء، والإخفات كذلك في الظهرين، وفي غير الأوليين من الصلوات الرباعيّة والثلاثيّة. أمّا النساء فهنّ بالخيار في الصلوات الجهريّة بين الجهر والإخفات، وقال بعضٌ بوجوب الإخفات عليهنّ لو كان يسمعهنّ أجنبيّ. ولو أخلّ المصلّي بهذا الحكم عالماً عامداً بطلت صلاته. هذا في القراءة والتسبيحات، أمّا في سائر أذكار الصلاة كما في الركوع والسجود والتشهّد وغير ذلك فيجوز الجهر والإخفات مطلقاً.
وقال جمهور أهل السنّة باستحباب الجهر والإخفات في مواضعهما، وبعض الشافعية قال بالوجوب، لكنّ جمهورهم يرى ـ على ما يبدو ـ أنّه لو أخلّ ولو عمداً، لا تبطل الصلاة. وبعضهم أثبت سجدتي السهو.
وخالف مشهورَ الإماميّة جماعةٌ منهم، فقد نسب المحقّق الحلّي إلى السيّد المرتضى (436هـ)، أنّه اعتبره من السنن المؤكّدة، وناقش بعضٌ في دلالة العبارة على ذهاب المرتضى للاستحباب، لكنّ عبارة العلامة الحلّي صريحة في نسبة الاستحباب للمرتضى في كتابه المصباح. ونسب الحلّيان أيضاً إلى ابن الجنيد أنّه يرى صريحاً استحباب الجهر والإخفات. ومال المحقّق الأردبيلي (993هـ) والسيّد العاملي صاحب المدارك (1009هـ) لعدم الوجوب، وذهب لنفي الوجوب المحقّق السبزواري (1090هـ). وقال العلامة المجلسي بعد ملاحظته تعارض الروايات: «والمسألة في غاية الإشكال، ولا يترك الاحتياط فيها». ومن المعاصرين ذهب السيد علي السيستاني إلى الاحتياط الوجوبي دون الفتوى. أمّا الشيخ الفياض فاحتاط وجوباً في الجهر، وتحتمل عبارته كون الإخفات فتوى كما تحتمل أنّه احتياط وجوبي أيضاً، والتفصيل بين الجهر والإخفات معقول انطلاقاً من أحد أشكال الجمع بين الروايات. كما أنّ السيد محمّد الروحاني بنى الحكم في الرجل على الاحتياط الوجوبي، وظاهر عبارته أنّ الإخفات على المرأة في الصلوات الإخفاتيّة فتوى.
والأقرب هو عدم وجوب الجهر ولا الإخفات مطلقاً، وعدم بطلان الصلاة بتركهما عن علم وعمد، ولا عن سهو أو جهل، غاية الأمر أنّ الجهر والإخفات من المستحبّات المؤكّدة جدّاً، وبخاصّة لإمام الجماعة في الجهريّة، فإنّ النصوص الحديثية العديدة عند الشيعة والسنّة معاً (بعد عدم دلالة الآية (الإسراء: 110) على دعوى المشهور هنا)، مع السيرة، مع الشهرة، تتعاضد كلّها في إثبات ثلاثة مبادئ: مبدأ وجود صلوات جهريّة وإخفاتيّة، ومبدأ كون الجهريّة والإخفاتيّة متعلّقة بالقراءة حتى لو فرضنا تعلّقها بغيرها أيضاً ولو أحياناً، ومبدأ جامع رجحان الجهر والإخفات بصرف النظر عن الوجوب أو الاستحباب بعنوانهما. إنّما الكلام في الوجوب والبطلان على تقدير المخالفة، وأدلّتُه كلّها قابلة للنقاش، بل قد نوقش أغلبها بالفعل من قبل بعض المتأخّرين فلا نطيل، والمتبقّي من الأدلّة العمدة في تقديري أمران:
أ ـ الروايات، وليس هناك إلا روايتان صحيحتان لزرارة، وهما ـ وفقاً لتحليلي ـ ليستا على الأرجح إلا رواية واحدة، تمّ نقلها بطريقتين متنوّعتين، يظهر ذلك بملاحظة المصدر والسند (حماد ـ حريز ـ زرارة)، وبملاحظة السائل والمسؤول، وبملاحظة متن الرواية، ولا أقلّ من صعوبة الوثوق بأنّهما روايتان.. إنّ صحيحة زرارة هذه تعارضها صحيحة عليّ بن جعفر المفيدة لنفي الوجوب، الأمر الذي دفع الفقهاء لاعتبار صحيح ابن جعفر محمولاً على التقية تبعاً للشيخ الطوسي، فيما ذهب القائلون بالاستحباب إلى أنّ الجمع بين الأمر والترخيص يفيد الاستحباب، وأنّ صحيح زرارة حتى لو صرّح بلزوم إعادة الصلاة، لكنّ هذا أمر شائع أيضاً في الروايات المفيدة لاستحباب شيء، فتكون الإعادة مستحبّة أيضاً. والصحيحتان المتعارضتان هنا فيهما اختلافات في النُّسَخ تترك تأثيرات جزئيّة لكنّها لا تهدم دلالتَيهما بنظري خلافاً لما حاوله بعضٌ. والغريب أنّ الروايتين لا تحدّدان ما هي الصلوات الجهريّة وما هي الصلوات الإخفاتيّة أصلاً. وبعض النصوص يوحي بأنّ الجهر كأنّه من شؤون إمامة الجماعة، لا مطلق المصلّي، لكنّ نصوصاً أخَر تخالفُ هذا الإيحاء.
وعليه، فصحيح زرارة مضافاً لكونه خبراً آحاديّاً ظنيّاً منفرداً في بابه، ولا نقول بحجيّة خبر الواحد الظنّي، معارضٌ بصحيح ابن جعفر. واللافت جدّاً هنا هو عدم ذكر الكليني هذه الرواية التي يظهر أنّها مأخوذة من أصل حريز المشهور في الصلاة، رغم أنّه وصله حتماً كما يظهر في عشرات المواضع من الكافي. فإمّا اختلفت نُسخ كتاب حريز، أو أنّ الكليني لم يأخذ بهذه الرواية لسببٍ ما. كما أنّ اللافت للنظر أنّ هذه المسألة تعدّ من الفوارق الأساسيّة بين الشيعة والسنّة، فكيف لم يظهر أيّ سؤال يفيد الوجوب أو البطلان على تقدير المخالفة عدا رواية واحدة أو روايتين لراوٍ واحد، خاصّة وأنّ السهو والجهل في مثل هذه المواضع كثير، فيتوقّع ظهور أسئلة، بل يتوقّع تركيز الأئمّة أكثر على هذا الموضوع لتأكيده وترسيخه؛ كونه مخالفاً لجمهور المسلمين، مع أنّنا لا نجد إلا صحيح زرارة المرويّ عن الإمام الباقر، أي عن فترة مبكّرة نسبيّاً! لا أريد بذلك دعوى كذب الرواية بل تقليل فرص تحصيل الظنّ أو الوثوق بها. والبحث فيه مجال طويل للتحليل والنقاش وفي بالي أفكار كثيرة هنا، ممّا لا يسعه هذا المختصر.
بل قد يقال: لماذا لا يمكن جعل آیة (وَلاٰ تَجْهَرْ بِصَلاٰتِكَ وَلاٰ تُخٰافِتْ بِهٰا) معارضةً لروایة زرارة؟ وذلك أنّ ظاهر الآية وجوب جعل القراءة قراءة وسطاً، ویؤیّده تعلیل الحکم في بعض الروایات بهذة الآیة، مثل خبر عبد الله بن سنان، قال: قلت لأبي عبد الله: على الإمام أن يُسمع من خلفه وإن كثروا؟ فقال: «ليقرأ قراءة وسطاً، يقول الله تبارك وتعالى: وَلاٰ تَجْهَرْ بِصَلاٰتِكَ وَلاٰ تُخٰافِتْ بِهٰا»، ومثله خبر عليّ بن إبراهيم في تفسيره، عن أبيه، عن أبي الصباح، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله×، في قول الله عزّ وجلّ: وَلاٰ تَجْهَرْ بِصَلاٰتِكَ وَلاٰ تُخٰافِتْ بِهٰا؟ قال: «الجهر بها رفع الصوت، والتخافت ما لم تُسمع نفسك، واقرأ ما بين ذلك».
وهذا الكلام يقوّي ما ذهبنا إليه، والمشكلة أنّ الآية نفسها غير واضحة في الحديث عن الجهر في الصلاة بالطريقة الموجودة في الفقه، فإنّها إن حملنا الصلاة فيها على فرد الصلاة، كان ذلك على النقيض من الفتوى الفقهيّة؛ لأنّها تنهى عن الجهر والإخفات، والفقه يقول: عليك بالجهر تارةً والإخفات أخرى، ولهذا ورد في كتب أهل السنة كصحيح البخاري وموطّأ مالك ما يفيد أنّ بعضهم في عصر النبي كانوا يفهمون منها خصوص الدعاء، أي لا ترفع صوتك بالدعاء في الصلاة ولا تخفه، بل اجعل ذلك وسطاً، ولهذا قالوا بأنّ العرب تطلق على الدعاء الصلاة، فالمراد بالصلاة هنا الدعاء، حتى أنّ المسيحيّين العرب إلى اليوم يعبّرون عن الدعاء بالصلاة، فيقولون: صلّ لي، أي أُدع لي، وقد ورد في نقل ابن عباس في صحاح أهل السنّة أنّ الآية نزلت عندما كان النبيّ يرفع صوته بالصلاة في مكّة، فيسبّه المشركون أو يؤذونه، فأمره أن لا يجهر بصوته، فيسمعه المشركون فيسبّوه، ولا يخافت بها فلا يسمعه المسلمون الذين من ورائه يأتمّون به، وهذا أيضاً يناقض الفتاوى الفقهيّة الموجودة اليوم، وفي البال أنّ الطبري صحّح ما نقله ابن عباس، كما أنّه يحتمل جداً أنّ الآية ليست ناظرة لهذا كلّه، بل هي ناظرة للجهر بالصلاة، لا في الصلاة، ومن ثم تحتمل بقوّة أن يراد أن تصلّي صلواتٍ أمام الناس وصلواتٍ خفيّة، فلا تجعل صلواتك كلّها علنية ولا تجعلها كلّها خفيّة، علماً أنّ الآية لو كانت تريد الجهر داخل الصلاة، للزم الأخذ بشمولها للقراءة وغيرها. وأمّا رواية عبد الله بن سنان، ففيها مشكلة شبهة الإرسال بين محمد بن عيسى بن عبيد ويونس، وقد بحثنا هذا الموضوع في محلّه، وأمّا الرواية الثانية، فهي من التفسير المنسوب لعليّ بن إبراهيم، ولم يثبت صحّته سنداً، ما لم يعضده سندٌ آخر للرواية نفسها. وعلى أيّة حال فهذان الخبران يقعان ـ بشكلٍ من الأشكال ـ على عكس مفاد خبر زرارة.
ب ـ ذهاب المشهور إلى الوجوب، ولكنّ الشهرة الفتوائيّة ليست بحجّة، كما أنّه لا دليل على أنّ منشأه خصوص رواية زرارة هنا، حتى نرفع بعمل المشهور قوّةَ الوثوق بالرواية، إذ لعلّهم لمّا تعارضت الروايات احتاجوا لتحصيل فراغ الذمّة حيث وقعوا في الشكّ، فأفتوا بالجهر والإخفات لذلك، لا لترجيحهم رواية زرارة بعينها. وكلامي هذا ليس افتراضيّاً، فقد استدلّوا بالفعل بضرورة تحصيل فراغ الذمّة، واعتبروه من أدلّة الوجوب هنا، فراجع كتبهم الفقهيّة. بل إنّ الغريب في المقام هو أنّ هذه المسألة يفترض أن تكون من مسائل الخلاف المذهبي، وأن يذكرها أمثال المرتضى في كتب الخلاف المذهبي ومتفرّدات الإماميّة، ومع ذلك لا عين ولا أثر لدرجها ضمن هذا النوع من القضايا أو هذا النوع من المصنّفات الفقهيّة خلال القرون السبعة الأولى.
المسألة الثانية: في حكم الجهر بالقراءة في صلاة الجمعة أو صلاة الظهر يوم الجمعة
والصحيح أنّ الجهر في صلاة الجمعة للإمام مسنونٌ، أمّا الجهر في صلاة الظهر فلم يثبت استحبابه لا للإمام ولا للمأموم ولا للمنفرد؛ إذ الرواية فيه متعارضة.
المسألة الثالثة: الجهر بالبسملة
وهذه من المسائل الخلافيّة المعروفة بين السنّة والشيعة، حتى صار الجهر بالبسملة شعاراً للشيعة ومعروفاً، وصنّفه بعض الفقهاء ضمن منفردات الإماميّة، وظاهرهم أنّ الجهر مسنونٌ في الصلوات الإخفاتيّة حيث تُقال البسملة، سواء في الفاتحة أم السورة أم الآيات التي تُقرأ بعدها، لكنّ القدر المتيقّن من النصوص هو الجهر ببسملة الفاتحة، وأمّا غيرها فليس واضحاً من النصوص الواردة في المقام، وإن كان محتملاً احتمالاً معتدّاً به.
هذا ما يمكن أن يقال للوهلة الأولى، لكنّ النظر في السياقات التاريخية في الفقه السنّي يفتح لنا آفاقاً على احتمالين تفسيريّين في فهم النصوص الواردة عن أهل البيت النبويّ:
الاحتمال الأوّل: إنّ الفقه والحديث السنّيين تحدّثا عن الإخفات في البسملة في مطلق الصلوات بما فيها الصلوات الجهريّة، واعتبر كثيرون أنّ هذا مسنونٌ، وتركيزهم كان على فاتحة الكتاب، ولكن الموضوع عندهم لم يكن متفقاً عليه، بل كثر الاختلاف فيه والقول والردّ، وإن اشتهر بينهم ترجيح الإخفات رغم تجويزهم الجهر بها في الصلوات الجهريّة، وهنا عندما نقرأ النصوص في هذا السياق التاريخي ينفتح احتمال مهمّ جداً، وهو أن تكون نصوص الجهر بالبسملة في أحاديث أهل البيت لا يراد بها الجهر في الصلوات الإخفاتيّة، بل المراد الجهر في الجهريّة، فيكون من علامة التشيّع الجهر بالبسملة في مقابل الإخفات فيها في الصلوات الجهريّة، وإلا ففي الإخفاتيّة تكون غير ظاهرة بطبيعة الحال، وقد لاحظت أنّ مجمل النصوص يمكن فهمها ضمن هذا السياق التاريخي، باستثناء ثلاث روايات، اثنان منها متّحدان في مقطعٍ من السند، حيث تصرّح بالجهر في مختلف الصلوات في اليوم والليلة، ولا أقلّ من إجمال بقيّة النصوص، بل لعلّ خبر الكاهلي «صلّى بنا أبو عبد الله× في مسجد بني كاهل، فجهر مرّتين ببسم الله الرحمن الرحيم، وقنت في الفجر..» (تفصيل وسائل الشيعة 6: 57 ـ 58)، قد يفهم منه أنّ المراد هو الجهر في بداية الفاتحة في صلاة جهريّة؛ لأنّ الصلاة من ركعتين، والمفروض أنّه جهر مرّتين.
الاحتمال الثاني: إنّ هناك نقاشاً في الوسط السنّي حول جزئيّة البسملة من الفاتحة (جمهور المالكيّة والأحناف قالوا بأنّها ليست بآية من الفاتحة، بينما قال الحنابلة والشافعيّة بأنّها آية منها) وكذلك من كلّ سورة، فإذا أخذنا بعين الاعتبار القول بعدم جزئيّة البسملة عند أهل السنّة، فإنّه يرتفع احتمال كون إصرار أهل البيت على الجهر بالبسملة إنّما هو لغرض بيان جزئيّتها وإبطال تصوّر عدم جزئيّتها، وليس هو مستحبّاً مستقلّاً في أصل الشرع، فكأنّ أهل البيت يريدون أن يُبطلوا القول بعدم الجزئيّة عبر جعل البسملة حاضرة علناً في الصلاة، وعلى هذا الأساس فإذا كنّا نقول بجزئيّة البسملة من كلّ السور عدا براءة، أمكن فهم النصوص هنا على أنّها غير خاصّة بالفاتحة بل شاملة لمطلق البسملة التي تقع في بدايات السور، وأمّا إذا قلنا بأنّ البسملة ليست جزءاً إلا من الفاتحة ووسط سورة النمل، كما قوّيناه سابقاً، فهذا يرجّح أنّ الجهر المأخوذ هنا هو الجهر ببسملة الفاتحة لا غيرها.
فنحن هنا في هذين الاحتمالين أمام أمرين: أحدهما شمول الجهر للصلوات الإخفاتيّة أو كونه مقصوراً على الصلوات الجهريّة، وثانيهما شموله لبسملة السورة أو اختصاصه ببسملة الحمد.
وبضمّ هذين الاحتمالين لبعضهما، ينتج أنّ القدر المتيقّن مع الأخذ بعين الاعتبار السياقات الحافّة ـ وفقاً لما توصّلنا إليه في موضوع جزئيّة البسملة من غير الفاتحة ـ هو استحباب ثانوي للجهر ببسملة الفاتحة في الصلوات الجهريّة، وحيث إنّ الصلوات الجهرية مسنونٌ فيها الجهر بالقراءة مطلقاً، فيكون معنى الاستحباب الثانوي بالجهر بالبسملة فيها هو مزيد توكيد لهذه السنّة؛ وذلك لأمرين: إثبات القول بجزئيّة البسملة للحمد وتكريس ذلك، وعدم التفريق في حكم الجهر بين البسملة وغيرها من الآيات في الصلوات الجهريّة. وأمّا استحباب الجهر بالبسملة في الصلوات الإخفاتيّة، فقد تقدّم أنّ دليله آحاديٌّ قليل قابل للنقاش. هذا ما يخطر بالبال والمسألة قد تكون بحاجة لمزيد تأمّل، والله العالم.
([2]) ما ذكره السيّد الماتن من فروعٍ في هذه المسألة كلّه صحيح، عدا الأوّل ـ وهو العمد، فقد قلنا بأنّه تصحّ الصلاة ـ والأخير فإنّه يلزمه التدارك إذا كان في محلّ القراءة، بناءً على القول بلزوم الجهر والإخفات، وإلا فالأمر واضح.
([3]) إذا سلّمنا بثبوت الجهر والإخفات على الرجال بنحو اللزوم، فإنّه لم يثبت على النساء جهر ولا إخفات، فتفصيلُ السيد الماتن بين الجهر فلا يجب عليهنّ، وبين الإخفات فيجب عليهنّ، غيرُ واضح.
([4]) هنا نقاط:
أ ـ لا شكّ أنّ مناط الجهر والإخفات هو العرف، بحيث يقال: هو يجهر بصلاته أو يخفت، وليست العبرة بأنّ يسمع من بجانبه وعدمه.
ب ـ أمّا كلام المبحوح فلا نعتبره إخفاتاً من باب الشكّ في صدق العنوان عليه، فيجب الاحتياط تحصيلاً للمكلّف به بناءً على الوجوب هنا.
ج ـ وأمّا الصياح فدليل تحريمه خبر آحادي، ودلالة الآية غير واضحة فيه، فهو الأحوط استحباباً، وفاقاً للسيد محمّد محمّد صادق الصدر. والفرق بينه وبين صوت المبحوح أنّه هناك نشكّ في صدق عنوان الإخفات، أمّا هنا فعنوان الجهر قطعاً موجود، غاية الأمر يقع الكلام في وجود منعٍ إضافيّ مرتبط بالصياح أو رفع الصوت شديداً.
د ـ وأمّا شرط إسماع نفسه في الإخفات، فدليله آحادي، بل ثمّة ما يفيد المعارضة له، لذا فهو مبنيٌّ على الاحتياط الاستحبابي، بل العبرة في تحريك شفتيه وإخراج الكلام ولا يكفي الكلام النفسي، ولو ثبتت الملازمة الخارجيّة بين ذلك وبين إسماع نفسه ولو تقديراً فلا بأس.
([5]) إذا أمكنه الصلاة مأموماً بلا حرجٍ، وجب، بناءً على وجوب العربيّة في الصلاة.
([6]) احتياطاً.
([7]) بل استحباباً.
([8]) استحباباً.
([9]) استحباباً.
([10]) الأقرب أنّه يجوز العدول من سورةٍ إلى سورة مطلقاً، بلغ النصف أو تجاوزه، وبلغ الثلثين أو تجاوزهما، فإنّ الدليل آحاديٌّ منفرد، نعم لا يجوز العدول من التوحيد والجحد (الكافرون) مطلقاً.
([11]) الروايات واردة في سورة التوحيد خاصّة دون الجحد، فالأحوط وجوباً عدم العدول من الجحد إلى أيّ من السورتين.
([12]) الاحتياط في الموضعين الأخيرين الذين ذكرهما الماتنُ، استحبابيٌّ عندنا.