hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (أفعال الصلاة ـ النيّة)

تاريخ الاعداد: 10/3/2024 تاريخ النشر: 10/3/2024
4130
التحميل

حيدر حبّ الله


هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(26 ـ 9 ـ 2024م)

   

المبحث الثاني

فيما يجب في الصلاة‌

وهو أحد عشر([1]): النيّة، وتكبيرة الإحرام، والقيام، والقراءة، والذكر، والركوع، والسجود، والتشهّد، والتسليم، والترتيب، والموالاة. والأركان ـ وهي التي تبطل الصلاة بنقيصتها عمداً وسهواً ـ خمسة: النيّة، والتكبير، والقيام، والركوع، والسجود([2]). والبقية أجزاء غير ركنيّة لا تبطل الصلاة بنقصها سهواً، وفي بطلانها بالزيادة تفصيلٌ يأتي إن شاء الله تعالى([3])، فهنا فصول:

 

الفصل الأوّل

في النيّة

وقد تقدّم في الوضوء أنّها([4]): القصد إلى الفعل على نحو يكون الباعث إليه أمر الله تعالى([5]). ولا يُعتبر التلفّظ بها([6])، ولا إخطار صورة العمل تفصيلاً عند القصد إليه، ولا نية الوجوب ولا الندب، ولا تمييز الواجبات من الأجزاء عن مستحبّاتها([7])، ولا غير ذلك من الصفات والغايات، بل يكفي الإرادة الإجماليّة المنبعثة عن أمر الله تعالى، المؤثرة في وجود الفعل كسائر الأفعال الاختياريّة الصادرة عن المختار، المقابل للساهي والغافل.

مسألة 569: يعتبر فيها الإخلاص، فإذا انضمّ إلى أمر الله تعالى الرياء بطلت الصلاة، وكذا غيرها من العبادات الواجبة والمستحبّة([8])، سواء أكان الرياء في الابتداء أم في الأثناء، وفي تمام الأجزاء، أو في بعضها الواجبة، وفي ذات الفعل أم بعض قيوده، مثل أن يرائي في صلاته جماعة، أو في المسجد أو في الصفّ الأوّل، أو خلف الإمام الفلاني، أو أوّل الوقت، أو نحو ذلك([9]). نعم في بطلانها بالرياء في الأجزاء المستحبّة مثل القنوت أو زيادة التسبيح أو نحو ذلك إشكال([10])، بل الظاهر عدم البطلان بالرياء بما هو خارج عن الصلاة، مثل إزالة الخبث قبل الصلاة، والتصدّق في أثنائها، وليس من الرياء المبطل ما لو أتى بالعمل خالصاً لله، ولكنّه كان يعجبه أن يراه الناس، كما أنّ الخطور القلبي لا يُبطل الصلاة، خصوصاً إذا كان يتأذّى بهذا الخطور. ولو كان المقصود من العبادة أمام الناس رفع الذمّ عن نفسه أو ضرر آخر غير ذلك، لم يكن رياء ولا مفسداً([11]). والرياء المتأخّر عن العبادة لا يُبطلها، كما لو كان قاصداً الإخلاص، ثمّ بعد إتمام العمل بدا له أن يذكر عمله([12]). والعجب لا يبطل العبادة سواء أكان متأخّراً أو مقارناً([13]).

مسألة 570: الضمائم الأخر غير الرياء إن كانت محرّمة وموجبة لحرمة العبادة أبطلت العبادة، وإلا فإن كانت راجحة أو مباحة فالظاهر صحّة العبادة إذا كان داعي القربة صالحاً للاستقلال في البعث إلى الفعل بحيث يفعل للأمر به ولو لم تكن تلك الضميمة، وإن لم يكن صالحاً للاستقلال، فالظاهر البطلان.

مسألة 571: يعتبر تعيين الصلاة التي يريد الإتيان بها إذا كانت صالحة لأن تكون على أحد وجهين متميّزين، ويكفي التعيين الإجمالي مثل عنوان ما اشتغلت به الذمّة ـ إذا كان متحداً ـ أو ما اشتغلت به أوّلاً ـ إذا كان متعدّداً ـ أو نحو ذلك، فإذا صلّى صلاةً مردّدة بين الفجر ونافلتها، لم تصحّ كلّ منهما. نعم إذا لم تصلح لأن تكون على أحد وجهين متميّزين، كما إذا نذر نافلتين لم يجب التعيين؛ لعدم تميّز إحداهما في مقابل الأخرى([14]).

مسألة 572: لا تجب نية القضاء ولا الأداء، فإذا علم أنّه مشغول الذمّة بصلاة الظهر، ولا يعلم أنّها قضاء أو أداء، صحّت إذا قصد الإتيان بما اشتغلت به الذمّة فعلاً. وإذا اعتقد أنّها أداء فنواها أداء صحّت أيضاً إذا قصد امتثال الأمر المتوجّه إليه وإن كانت في الواقع قضاء، وكذا الحكم في العكس.

مسألة 573: لا يجب الجزم بالنيّة في صحّة العبادة، فلو صلّى في ثوبٍ مشتبه بالنجس لاحتمال طهارته، وبعد الفراغ تبيّنت طهارته صحّت الصلاة، وإن كان عنده ثوب معلوم الطهارة، وكذا إذا صلّى في موضع الزحام لاحتمال التمكّن من الإتمام فاتفق تمكّنه صحّت صلاته، وإن كان يمكنه الصلاة في غير موضع الزحام.

مسألة 574: قد عرفت أنّه لا يجب ـ حين العمل ـ الالتفات إليه تفصيلاً وتعلّق القصد به، بل يكفي الالتفات إليه وتعلّق القصد به قبل الشروع فيه وبقاء ذلك القصد إجمالاً على نحو يستوجب وقوع الفعل من أوّله إلى آخره عن داعي الأمر، بحيث لو التفت إلى نفسه لرأى أنّه يفعل عن قصد الأمر، وإذا سئل أجاب بذلك، ولا فرق بين أوّل الفعل وآخره، وهذا المعنى هو المراد من الاستدامة الحكميّة بلحاظ النيّة التفصيليّة حال حدوثها، أمّا بلحاظ نفس النيّة فهي استدامة حقيقيّة([15]).

مسألة 575: إذا كان في أثناء الصلاة فنوى قطعها أو نوى الإتيان بالقاطع ولو بعد ذلك، فإن أتمّ صلاته على هذا الحال بطلت، وكذا إذا أتى ببعض الأجزاء ثمّ عاد إلى النيّة الأولى، وأمّا إذا عاد إلى النية الأولى قبل أن يأتي بشيء منها، صحّت وأتمّها.

مسألة 576: إذا شكّ في الصلاة التي بيده أنّه عيّنها ظهراً أو عصراً، فإن لم يأت بالظهر قبل ذلك نواها ظهرا وأتمّها وإن أتى بالظهر بطلت([16])، إلا إذا رأى نفسه فعلاً في صلاة العصر، وشكّ في أنّه نواها عصراً من أوّل الأمر أو أنّه نواها ظهراً، فإنّه حينئذ يحكم بصحّتها ويتمّها عصراً.

مسألة 577: إذا دخل في فريضة، فأتمّها بزعم أنّها نافلة غفلةً صحّت فريضة، وفي العكس تصحّ نافلة.

مسألة 578: إذا قام لصلاة ثم دخل في الصلاة، وشكّ في أنّه نوى ما قام إليها أو غيرها، فالأحوط الإتمام ثمّ الإعادة([17]).

مسألة 579: لا يجوز العدول عن صلاة إلى أخرى([18])، إلا في موارد:

منها: ما إذا كانت الصلاتان أدائيّتين مترتّبتين ـ كالظهرين والعشائين ـ وقد دخل في الثانية قبل الأولى، فإنّه يجب أن يعدل إلى الأولى إذا تذكّر في الأثناء.

ومنها: إذا كانت الصلاتان قضائيّتين، فدخل في اللاحقة، ثمّ تذكّر أنّ عليه سابقة، فإنّه يجب أن يعدل إلى السابقة في المترتّبتين، ويجوز العدول في غيرهما.

ومنها: ما إذا دخل في الحاضرة فذكر أنّ عليه فائتة، فإنّه يجوز العدول إلى الفائتة.

وإنّما يجوز العدول في الموارد المذكورة، إذا ذكر قبل أن يتجاوز محلّه، أمّا إذا ذكر في ركوع رابعة العشاء، أنّه لم يصلّ المغرب فإنّها تبطل، ولا بدّ من أن يأتي بها بعد أن يأتي بالمغرب([19]).

ومنها: ما إذا نسي فقرأ في الركعة الأولى من فريضة يوم الجمعة غير سورة الجمعة، وتذكّر بعد أن تجاوز النصف، فإنّه يستحبّ له العدول إلى النافلة، ثمّ يستأنف الفريضة ويقرأ سورتها([20]).

ومنها: ما إذا دخل في فريضة منفرداً ثمّ أقيمت الجماعة، فإنّه يستحبّ له العدول بها إلى النافلة مع بقاء محلّه، ثمّ يتمّها ويدخل في الجماعة([21]).

ومنها: ما إذا دخل المسافر في القصر ثمّ نوى الإقامة قبل التسليم فإنّه يعدل بها إلى التمام، وإذا دخل المقيم في التمام فعدل عن الإقامة قبل ركوع الركعة الثالثة عدل إلى القصر، وإذا كان بعد الركوع بطلت صلاته([22]).

مسألة 580: إذا عدل في غير محلّ العدول، فإن لم يفعل شيئاً جاز له العود إلى ما نواه أوّلاً، وإن فعل شيئاً فإن كان عامداً بطلت الصلاتان، وإن كان ساهياً، ثمّ التفت، أتمّ الأولى إن لم يزد ركوعاً أو سجدتين.

مسألة 581: الأظهر جواز ترامي العدول([23])، فإذا كان في فائتة فذكر أنّ عليه فائتة سابقة، فعدل إليها، فذكر أنّ عليه فائتة أخرى سابقة عليها، فعدل إليها أيضاً، صحّ.

_____________________________

([1]) عبارة السيد الماتن تختلف عن عبارات كثيرين ممن عدّ الواجبات ثمانية، بحذف الترتيب والموالاة والذكر، والظاهر أنّ لكلّ شخص معياره بين الجزئيّة، والأعمّ منها ومن الشرطيّة، ومطلق الواجب، فمثلاً وقع كلام في أنّ النيّة جزءٌ أو شرط، والصحيح أنّها شرط وليست جزءاً، ولا داعي للإطالة هنا، وسيأتي عند الحديث عن كلّ واحدة من هذه الأمور تحديدها والكلام فيها.

([2]) سيأتي في محلّه الكلام في إطلاق هذا التعبير من السيد الماتن. هذا وقد كان الماتن دقيقاً عندما عبّر بالنقيصة ولم يعبّر معها بالزيادة، وسوف يأتي بحث هذا كلّه، فإنّه ـ على سبيل المثال ـ لا يرى بطلان الصلاة بزيادة تكبيرة الإحرام سهواً، كما سيأتي منه مطلع الحديث في الفصل الثاني حول تكبيرة الإحرام، فانتظر.

هذا، ومصطلح الركن أو أركان الصلاة لم يرد في النصوص القرآنيّة والحديثيّة، وإنّما هو اصطلاح فقهي، لهذا فليس المهم هو تعبير الركن، بل المهم مضمونه وآثاره، ولهذا ينبغي النظر في كلّ جزء من الصلاة في أنّه هل تبطل الصلاة بالزيادة أو النقيصة السهويّة فيه أو لا، وإلا فتقسيم الصلاة إلى أجزاء وأركان هو عمل فقهيّ خالص.

([3]) كما وهناك تفاصيل ستأتي، مرتبطة بالنوافل، وكذلك بحالات الاضطرار.

([4]) تعتبر مباحث النيّة من المباحث التي شهدت تضخّماً تدريجياً عبر التاريخ، وبخاصّة في الفقه الإمامي، فحتى القرن الخامس الهجري، نجد جمهور الفقهاء والمحدّثين الشيعة يتناولون قضيّة النية بشكلٍ بسيط جداً، ويمرّون عليه مروراً سريعاً، وتبدأ بعض القيود والموضوعات ـ التي سنرى بعضها فيما سيذكره الماتن هنا، وذكره في الوضوء وسيأتي أيضاً في الصوم وغيره ـ تزداد بشكل بطيء، وبالأخص منذ زمن المحقّق الحلّي (676هـ)، فتكثر القيود والتفريعات والشروط فيها تدريجياً. وغالب الظنّ أنّ ذلك بفعل انتقال مباحث النيّة ـ كغيرها ـ من الفقه السنّي إلى الشيعي، وتصبح النيّة قضيّة معقّدة وشائكة، وصولاً حتى عصر المحقّق الأردبيلي (993هـ)، حيث يبدأ بعمليّة نقد لطريقة تعقيد الفقهاء لموضوعٍ بسيط وعفوي، ويحاول المناقشة في الكثير من القيود ومعه جملة من العلماء الذين جاؤوا من بعده كالمحقّق السبزواري والمحدّث البحراني والشيخ مرتضى الأنصاري، لكنّ عمليات النقد هذه كرّست ـ في الحقيقة ـ حضور هذه البحوث في النيّة إلى يومنا هذا، بل وزادت منها، وفرضت جعلَ موضوع النيّة إشكاليّاً، رغم أنّ العديد من الشروط التي أضيفت بين القرن الخامس والعاشر كانت قد أُبطلت لاحقاً، وبهذا تحوّل بحث النية إلى بحث معقّد متشابك في الكثير من الكتب الفقهيّة الاستدلاليّة.

ولو أنّنا راجعنا الروايات الواردة في قضايا النيّة، والتي جمع أغلبها الحرّ العاملي في الجزء الأوّل من الوسائل (في مقدّمات العبادات) وكذلك في مطلع مثل كتاب الصلاة، فسوف نلاحظ أنّ أغلبيّة هذه الروايات يركّز على مفاهيم أخلاقيّة ـ شرعيّة في النيّة، من نوع الإخلاص وعدم الرياء وعدم العجب وعدم الفخر بالعمل ونحو ذلك، إلى جانب مسألة العدول في النيّة من صلاةٍ إلى أخرى. أمّا باقي البحوث التحليليّة التي طرحها الفقهاء وما يزالون فقد لا يكون لها عين ولا أثر في النصوص، والله العالم.

ولعلّ بدايات هذا التضخّم في مباحث النيّة في الفقه السنّي ترجع إلى النزعة الفرضيّة أو ما يُعرف بفقه الأرايتيّين الذي انتشر بشكل مذهل منذ القرن الثاني الهجري في العراق ومنه إلى سائر البلدان، وهؤلاء كانوا يحبّون فرض وقائع لم تتحقّق بعدُ للوصول إلى أجوبة، بما يدلّ عندهم على براعة الاجتهاد وقدرته الفائقة. وممّا ساعد على تكوّن هذه الظاهرة في القرن الثاني وما بعده، هو "القضاة"، حيث سيطر الفقه الحنفي في القسم الثاني من القرن الثاني الهجري على مواقع القضاء، وأهل القضاء تأتيهم فروض كثيرة وحالات عديدة عادةً، وربما لهذا نشأ عندهم الفقه الفرضي بوصفه علامة على تقوية ملكة الاجتهاد.

([5]) تعريف النية بأنَّها القصد إلى الفعل على نحوٍ يكون الباعث إليه أمر الله تعالى يفيد أنَّ النيَّة هنا متقوِّمة بقصد امتثال أمر الله تعالى، وقد يعبّر بعض الفقهاء في موضوع النيّة بما يفيد أنَّها متقوِّمة بقصد القربة، ويظهر من بعضٍ اختلاف مفهوم قصد القربة عن مفهوم امتثال الأمر، فلو أخذا معاً لزم أخذهما في تعريف النيّة أيضاً. من هنا قد يقال بضرورة ملاحظة الأمرين معاً.

ويمكن التعليق: إنّ التمييز بين قصد القربة وقصد امتثال الأمر له وجهان:

وجهٌ صوفي عرفاني، بحيث يعتبر أنّ القربة هنا مفهومٌ حقيقي وليس تعبيراً مجازياً، وهذا ما يُلمس بوضوح في كلمات بعض علماء الأخلاق والعرفان.

ووجهٌ فقهي، طرحه أمثال السيد علي السيستاني، وهو امتثال الأمر بنحو الخضوع والتذلّل، فقصد القربة نوعٌ من العلاقة الامتثاليّة التذلليّة الخضوعيّة، فأنا امتثل الفعل بنحو الخضوع والتذلّل، وعليه لا يكون تناقضٌ بينهما أو تباين تامّ، وعليه فلا داعي لما ذكره بعض ـ مثل السيِّد اليزدي ـ من جمع الأمرين، وجعل النيَّة متقوِّمة بهما معاً، بالقول: هي القصد إلى الفعل بعنوان الامتثال والقربة.

ولعلّ بإمكاننا القول بأنّ قصد القربة هو قصد فعل ما يحبّه المولى؛ لأنّه يحبّه، بهدف رضاه عنه ونيل الحظوة لديه.

([6]) بل لم يثبت استحبابه ـ خلافاً لجمهور الحنابلة والحنفيّة والشافعيّة الذين قالوا بأنّه مندوب ـ بل قال بعض فقهاء الإماميّة بكراهته. نعم في نيّة الحجّ كلامٌ سيأتي في محلّه من كتاب الحجّ إن شاء الله. كما أنّه لو قلنا بأنّ صلاة الاحتياط جزءٌ متمّم للصلاة، فإنّ مقتضى ذلك هنا عدم التلفّظ بنيّة صلاة الاحتياط، كما أنّه على تقدير القول بوجوب الإقامة وكونها جزءاً من الصلاة أو بحرمة الفصل بينها وبين الصلاة بكلام، فإنّ اللازم مراعاة ذلك بترك التلفّظ بالنيّة بعد الإقامة.

هذا، ولا قيمة للنيّة اللفظيّة إذا خالفت النيّة القلبيّة، فالعبرة بنيّة القلب، فلو نوى بقلبه أنّه يريد أن يصلّي الظهر، لكنّه قال: أصلي صلاة نافلة الظهر قربةً إلى الله تعالى ـ خطأً أو غيره ـ فلا قيمة لما قال بلسانه، وتنعقد نيّته القلبيّة صحيحةً. وأمّا ما ورد في بعض النصوص مما يوحي بأنّ البيان اللفظي ولو السهوي غير المقصود كأنّه هو المدار، فلا يُقصد من تلك النصوص ذلك، مثل رواية العيص بن القاسم عن أبي عبد الله×، أنّه قال: «إذا غلب الرجل النوم وهو في الصلاة فليضع رأسه فلينم، فإنّي أتخوّف عليه إن أراد أن يقول: اللهم أدخلني الجنّة، أن يقول: اللهم أدخلني النار» (كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 479)، فإنّه لا يراد أنّ الله يرتّب أثراً على كلامه غير المقصود، بل المراد أنّه لا يعرف ماذا يقول، وماذا يطلب من الله، فيطلب لنفسه نقيض ما يريد، وهذا أشبه بالسكران الذي لا يعرف ماذا يقول، وقد نهى القرآن عن الصلاة لمن هو سكران، مبيّناً أنّه حتى تعلموا ما تقولون، فكأنّه لعين هذه النكتة ذكر الإمام ذلك، والمسألة واضحة.

([7]) فإنّ نيّة الوجه، وكذا نية التمييز، لم يثبت وجوبهما بدليل معتبر. هذا والنیة التي تتعلّق بسنخ الحکم من الوجوب والندب وغیرهما یعبّر عنها في لسان الفقهاء بقصد الوجه أو نیة الوجه، أمّا تلك التي تتعلّق بنوع العمل من حيث کونه صلاة الظهر أو العصر أو المغرب أو غير ذلك، فإنّه یعبّر عنها بقصد التمییز أو نیة التمییز.

([8]) إنّ غاية ما تدلّ عليه النصوص ـ كما ألمحنا في بحث الوضوء ـ هو اشتراط الفعل العبادي بكون نيّة القربة لله باعثاً مستقلاً فيه، بمعنى أنّه لو لم يقصد غير ذلك لكفت هذه النيّة في بعثه نحو الفعل، فلو صلّى بقصد إطاعة أمر الله، وفي الوقت نفسه بقصد أن يراه الناس، فهنا لو لم يكن الناس موجودين في تلك اللحظة فهل كان سينبعث حينها عن أمر الله تعالى أو لا؟ فإن لم يكن لينبعث فإنّ صلاته باطلة؛ لأنّها غير قربيّة ولم تقع عن أمر الله، ولو كان ينبعث فهذا كافٍ في تحقّق القربيّة في الصلاة أو العبادة. نعم مدى قبول هذه العبادة ومستوى الثواب عليها أمرٌ آخر. ومنه يظهر الموقف من التفاصيل التي ذكرها السيد الماتن.

وقد تسأل: هل مرادکم أنّ المستفاد من الأدلّة کفایة النیّة الشأنيّة، بمعنی أنّ المکلّف إذا أتى بالصلاة بنیّة أمر الله ورياءً، فالصلاة تكون قد دخل في تکوینها دافعان، لكن حيث إنّ هذا المکلّف من شأنه أن یأتي بالصلاة لو لم یکن عنده دافعُ الریاء، ولکن ما دفعه الآن هو المرکّب من قصدي القربة والریاء، صحّت صلاته، وهذا يعني أنّكم ترون كفاية النيّة الشأنية.

والجواب: إنّنا لا نقصد هنا النيّة الشأنيّة أو التقديريّة بالمعنى الفرضي للكلمة، بل نقصد النيّة الفعلية، بمعنى لو حذفنا الآن قصدَ الرياء من هذه النيّة المركبة، فهل سوف يكون قصد المكلّف القائم بالفعل لامتثال الأمر كافياً لانبعاثه نحو الصلاة أو لا؟ فإن كان كافياً صحّ وإلا فلا، وقد تعرّضنا لهذا التفصيل في كتابنا (فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 531 ـ 580)، بمناسبة الحديث عن أخذ الأجرة على الواجبات العباديّة وغيرها.

وقد تسأل مرّةً أخرى: هل ینبغي هنا طرح ما طرحتموه في اجتماع الأمر والنهي؟ بأن نقول: الصلاة ریاءً منهيٌّ عنها؛ لأدلّة النهی عن الریاء، ومأمورٌ بها من جهة کونها صلاةً، فهنا إذا أمکن للمکلّف قصد القربة بهذه الصلاة صحّت صلاته وعصی، وإن لم یمکن له قصد التقرّب بالعمل المنهيّ عنه فتبطل.

والجواب: إنّ القضيّة هنا هو أنّ فعله الصلاة حال كونه قاصداً للقربة إلى الله لا يصدق عليه أنّه صلّى رياءً، بمعنى فعل عبادةً محرّمة؛ لأنّ المفروض أنّ عبادته هذه كانت لله تعالى، نعم ربما قصده لم يكن جيّداً. وبهذا نفرّق بين من قصد الصلاة للرياء فقط، فيكون قد فعل فعلاً جوارحيّاً محرّماً، وبين من قصد الله بفعله، غايته ضمّ هذا القصد لقصدٍ آخر.

([9]) إذا كان رياؤه في هذه التفاصيل والقيود، فإنّ هذا معناه بطلان صلاته جماعة أو عدم الاعتداد بكونه في الصف الأوّل أو في كونه مصليّاً أوّل الوقت، لكنّ هذا لا يوجب بطلان أصل صلاته على تقدير عدم تأثير هذه القيود في أصل الأفعال الصلاتيّة، بأن لا يلزم من بطلان الفعل المستحبّ مثلاً ما يوجب بطلان الصلاة لعنوانٍ آخر غير عنوان الرياء، مثل الفعل الكثير الماحي أو كلام الآدمي المبطل أو نحو ذلك، فلو صلّى جماعة رياءً فإنّه لو التحق ـ مثلاً ـ في الركعة الرابعة وقرأ الفاتحة وما بعدها، فإنّ صلاة الجماعة لا تقع منه، لفرض وقوعها عن رياء فلا تصحّ، لكنّ صلاته تقع صحيحة؛ لعدم نقصانها بأيّ شيء، والمفروض أنّه ينبعث للصلاة حتى لو لم ينبعث للجماعة، فالانبعاث للصلاة قربيّ بينما الانبعاث للجماعة لم يكن قربيّاً، فيمكن التمييز والفصل، وهكذا في سائر الموارد، علينا ملاحظة انبعاثه لأصل الصلاة أو لقيودها وخصوصيّاتها، فيصحّ في الأوّل دون الثاني ما لم يترك الثاني تأثيراً على إتيانه بأفعال الصلاة نفسها على وجه القربة، فتبطل بملاحظة ذلك، فتأمّل جيّداً.

ولا بأس أن نشير هنا على أنّه لو أتى بالجزء الواجب رياءً، كما لو قرأ الفاتحة رياءً، لكنّه قبل فوات محلّ التدارك عاد وأتى به قربةً إلى الله تعالى، صحّ إذا لم يلزم من ذات التكرار محذورٌ آخر.

([10]) أقربه عدم البطلان.

وقد يقال: إنّنا نرى بطلان الصلاة بالرياء بالأجزاء المستحبّة؛ وذلك لأمرين:

الأول: إنّ الأجزاء المستحبّة في الصلاة هي من أجزاء الصلاة، واستحبابها لا يغيّر من كونها جزءاً من أجزاء الصلاة، ولا فرق بينها وبين الأجزاء الواجبة سوى أنّ مطلوبيّة الثانية أشدّ وآكد من الأولى، فكما تبطل الصلاة بالإخلال بالجزء الواجب تبطل كذلك بالإخلال بالجزء المستحبّ.

الثاني: وقوع الجزء المستحبّ رياءً سيجعله غير قربيّ وغير عبادي، فتكون الكلمات المستخدمة في هذا الجزء المستحبّ ممّا لا محلّ له في الصلاة، فتدخل في كلام الآدميين المبطل للصلاة.

ويمكن أن يُجاب:

أوّلاً: إنّ هناك بحث حول أنّ الجزء المستحبّ معقولٌ أو لا؟ فالسید الماتن يرى عدم معقولیّة الجزء المستحبّ، سواء أرید به جزء الطبيعة أم جزء الفرد، والعنصر الأساس في استدلاله هو عدم معقولیّة الإهمال في مقام الثبوت الذي یلزم من الجمع بین الاستحباب والجزئیّة، على ما أفاده في مباحثه الأصوليّة (راجع: مصباح الأصول 3: 300 ـ 301). بل حتى لو قبلنا أنّ المستحبّ جزءٌ للصلاة وأنّ استحبابه لا یجعله خارجاً عنها، فما الوجه في سرایة بطلانه إلی غیره من الأجزاء؟ فإنّ الإخلال بجزءٍ مستحبّ لا یسري إلی الأجزاء الواجبة. ودعوى أنّه لو قلنا بجزئيّة المستحبّ فإنّ الموجب للبطلان هو الموجب للبطلان ببطلان الجزء الواجب، وهو وقوع الرياء في بعض أجزاء الصلاة، غير صحيحة؛ فإنّ الجزء المستحبّ لو بطل يكون مجرّد حركة زائدة أو قولاً زائداً، ومن الواضح أنّ المستحبّات في الصلاة إما دعاء أو ذكر أو تسبيح أو رفع اليدين في القنوت وأمثال ذلك، وهذه حتى لو أبطلها الإنسان، بأن قطعها مثلاً لا تبطل صلاته؛ لأنّها ذكر وتسبيح وفعلٌ غير مُخلّ، فلو فرضنا أن المكلّف رفع يده للقنوت، ثم قال: «اللهم صلّ»، وقطع قنوته ونزل للركوع، فما الموجب للبطلان؟!

ثانياً: إنّ ما قلناه آنفاً يظهر منه الجواب عن المداخلة الثانية التي ذكرت، ولهذا قلنا آنفاً «أن لا يلزم من بطلان الفعل المستحبّ ما يوجب بطلان الصلاة لعنوانٍ آخر غير عنوان الرياء، مثل الفعل الكثير الماحي أو كلام الآدمي المبطل أو نحو ذلك».

ودعوى الفرق بين الذكر والتسبيح ـ وأمثالهما من أفعال وأقوال مستحبّة في الصلاة ـ وحالة النيّة الريائيّة التي نتكلّم عنها؛ حيث إنّه في الأولى تكون هذه الأقوال والأفعال المستحبّة مطلوبة في الصلاة، والحركات التي تصدر عن هذه الأفعال والكلمات التي تقال فيها ستكون كلمات يصدق عليها عنوان الذكر والتسبيح، وإن شاء المصلّي قطعها فلن يضرّه ذلك بشيء سوى عدم ترتّب الثواب، أمّا في الحالة الثانية فهذه الكلمات المأتي بها رياءً لا يصدق عليها عنوان الذكر والتسبيح، ولا تكون مطلوبةً، فلا تخرج عن كونها كلمات زائدة تبطل الصلاة بنطقها، فمجرّد أن يبدأ المصلّي بالقنوت ـ مثلاً ـ ويقول: اللهم اغفر لي.. وتكون نيّته ريائيّةً، فإنّ هذه الكلمات الصادرة منه لا ينطبق عليها عنوان الذكر، بل تكون من مصاديق الكلام الزائد في الصلاة. وبعبارة مختصرة: الذكر والتسبيح وأمثالهما متقوّمة بالكلمات مع النيّة القربيّة، وليست الكلمات وحدها كافية في اعتبارها ذكراً أو تسبيحاً، فمع فقد النيّة القربية تصبح كلاماً آدمياً، فتكون مبطلةً للصلاة.. قابلة للنقاش مبنائيّاً؛ وذلك أنّه يصدق عليه في الحالة الثانية أنّه سبّح الله لغير قصد القربة إليه، وفي صدق عنوان أنّه كلام الآدمي هنا إشكال. وسيأتي تحقيق مسألة كلام الآدمي المبطل في بحث منافيات الصلاة إن شاء الله.

وقد تقول: كيف تكون الصلاة صحيحةً مع عدم قبول الفعل المستحبّ أو بطلانه؟! وأيضاً بعض أئمة الجماعة يقولون أذكاراً مستحبّة، لا لشيء إلا لأنّهم في صلاة الجماعة حال اقتداء الناس بهم، مع أنّهم لا يقولونها عادةً في صلواتهم الفردية، فما هي الوجوه التي يمكن حمل فعل إمام الجماعة عليها هنا غير الرياء؟ هل يمكن أن تكون النية من أجل إكساب الناس المزيد من الأجر مثلاً؟

ويمكن التعليق: أمّا السؤال الأوّل، فجوابه بالإيجاب، وهو بطلان الفعل العبادي المستحبّ إذا قصد به غير الله، بمعنى أنّه يبطل من حيث هو عبادة، وهذا بصرف النظر عن بطلان الصلاة كلّها. وأمّا السؤال الثاني فيمكن القول بأنّه لا حاجة لتفسير الرياء بهذا المعنى في إمام الجماعة؛ لأنّه من الممكن للإنسان أنّ نفس كونه بين الناس يشكّل أحياناً محفّزاً له على القيام بأفعال لا بقصد أن يراها الناس، بل لحصول حماس أكبر لديه، وهذا أمرٌ مشهود لبعض الناس المأمومين أيضاً، فهم إذا صلّوا جماعة مثلا تحمّسوا لقراءة المستحبّات أكثر، وأتوا بالتعقيبات مع الناس، وصلّوا الصلوات على الرسول وآله ـ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ـ بعد إنهاء الصلاة، وهكذا، فليس من الضروريّ أن يكون قصد إمام الجماعة الرياء، بل قد يكون ذلك من باب أنّ الجوّ المحيط يحمّس الإنسان على بعض الأفعال، نعم ربما يكون رياءً، فنحن لا نريد أن ننفي، بقدر ما نريد طرح فرضيات أخرى ممكنة وواقعيّة.

وقد تقول: أليس هذا الحماس الذي يحصل بسبب الناس هو من قبيل الرياء المبطل؟ إذ هو لولا الناس لما فعل المستحبّات.

ويجاب: الرياء ليس كون الآخر محفّزاً لي على العمل لله، فهذا أشبه بالداعي إلى الداعي، وهو مما لا إشكال فيه، كما حقّق في محلّه، إنّما الرياء هو أن أعمل كي يراني الآخر، فمثلاً لو أنّ شخصاً صادَقَ إنساناً متديّناً، فكانت علاقته به تدفعه تلقائيّاً لدخول المسجد، بحيث لو كان شخصٌ آخر صديقاً له لما دخل المسجد، فهذا لا يعني أنّ دخول المسجد ريائيٌّ. ومجرّد أنّ هذا الشخص سيذهب إلى المسجد بسبب الحماسة التي تصيبه للإقبال على ربّه من صديقه، ثم تذهب هذه الحماسة بذهاب صديقه، فلا يذهب بعدها إلى المسجد.. إنّ مجرّد ذلك لا يجعل عمله رياءً، ولا ينطبق عليه عنوانه، بل هو قاصد لشيءٍ يجعله قاصداً للقربة، فتحقّق المطلوب.

هذا، وقد تشدّد بعض العلماء كثيراً في قضيّة هذه التفاصيل، حتى على مستوى حياتهم الشخصيّة، وعلى سبيل المثال، فقد نقل لي بعض الأفاضل أنّ بعض كبار الفقهاء ـ رحمه الله ـ الذين كانوا من أئمّة الجماعات الكبرى في حرم السيدة المعصومة في قم، كان بعد أن يُنهي صلاته إماماً للجماعة في الحرم يعيدها فرادى؛ وذلك لأنّه كان يقول: ما الذي يمنعني من قطع صلاتي إلا وجود الناس خلفي، وليس الله تعالى؟ وبهذا كان يشكّ في قصد القربيّة عنده في مثل هذه الحال.

([11]) إذا كان سيصلّي على أيّة حال، وكان إيقاع الفعل أمام الناس بقصد ذلك لا أنّ أصل الصلاة وقع بهذا القصد.

([12]) الرياء المتأخّر حال الصلاة ـ كما لو تسنّى له الرياء بالقراءة بعد صيرورته في السجود ـ حكمه حكم الرياء المتأخّر الواقع بعدها؛ لأنّ المفروض أنّ الفعل وقع في ظرفه قربيّاً.

([13]) قد تعرّضنا لبعض هذه التفاصيل أيضاً عند التعليق على شرط النيّة، في بحث شرائط الوضوء، فراجع.

([14]) أصل فكرة لزوم التعيين يبدو أنّه هو الرأي السائد في المذهب الإمامي وكذلك عند المذاهب الأربعة، ولا شكّ أنّه لو نوى العصر وصلّى أربع ركعات، ثم نوى الظهر وصلّى أربعاً أنّه تبطل صلاته الأولى؛ لعدم جواز تقديم العصر على الظهر، بل يؤتى بهذه قبل هذه كما أفادته النصوص، وهذا معناه أنّه لا شكّ أنّه لو عيّن النيّة بطريقة خاطئة وغير مقبولة فلا يصحّ منه ما فعل، لأنّه لا يكون قد نوى تحقيق مصداق للمأمور به، إنّما تحقيق مصداق أمر آخر. إنّما السؤال هنا أنّه لو لم يعيّن مع فرض التعدّد ـ لا مع فرض الوحدة الذي هو الفرض الأخير في المسألة حسب عبارة الماتن ـ ومثاله أن يصلّي بعد الزوال أربع ركعات ثمّ يصلّي خلفها أربعاً، دون أن ينوي أنّ الأولى للظهر والثانية للعصر، فهو يعرف أنّ عليه ثماني ركعات، فيصلّي أربعاً ثمّ أربعاً ولا يعيّن، فهل هذا يصحّ؟ أو يصلّي أربعاً فقط دون أن ينويها الظهر، بل صلّى بقصد رفع الأمر المتوجّه إليه، دون أن يقيّده برفع الأمر المتوجّه إليه أوّلاً كما ذكر الماتن، فهل يصحّ أو لا؟

عمدة الاستدلال هنا وجوهٌ، منها وأهمّها عدم صدق قصد امتثال الأمر في هذه الحال، فلا يصدق عليه أنّه قصد امتثال أمر صلاة الظهر، ومن ثمّ فهناك خلل مركزي في النيّة؛ لأنّ المأتيّ به لن يتطابق مع المأمور به ولن يكون مصداقاً له.

لكنّ الأقرب بالنظر أنّه تصحّ الصلاة، وتقع الأولى ظهراً والثانية عصراً؛ وذلك أنّ المطلوب هو الانبعاث عن الأمر، وهذا الشخص يدرك أنّ أمامَه أمرين إلزاميين متوجّهين إليه، هما الأمر بالظهر والأمر بالعصر، فيقصد امتثالهما دون تعيين، فيصدق عليه أنّه انبعث عن الأمر الإلهي، وإنّما يحصل التعيّن بملاحظة الواقع هنا، فالتعيّن واقعي في عالم الاعتبار والإجزاء، لا أنّ الأمر يحتاج لتعيين من المكلّف، وكأنّه بإتيانه الركعات الثماني يكون قد حقّق المطلوب، فتقع الأولى بشكل تلقائي ظهراً والثانية عصراً؛ فدعوى أنّه لم يقصد الامتثال غير واضحة. نعم هو لم يقصد امتثال أمر صلاة الظهر بعنوان أنّه أمر صلاة الظهر عند الإتيان بالأربع الأولى، لكنّ الكلام في اشتراط مثل هذا التفصيل في القصد، فمن قال بأنّه لازمٌ في تحقيق نيّة قصد الامتثال والانبعاث عن الأمر الإلهي؟ هذا والنصوص الواردة في المسألة رقم: 577، تؤيّد ما ذهبنا إليه، وأنّ أمر النيّة أبسط من ذلك، بل بملاحظة مختلف نصوص موارد العدول من صلاةٍ إلى صلاة، وهي الموارد التي سوف يتحدّث عنها السيد الماتن في المسألة رقم: 579، يفهم أنّ الأمر ليس بالشكل الذي فهمه الفقهاء هنا، والله العالم.

وعليه، ففي كلّ مورد يصدق تحقيق الانبعاث عن الأمر يصحّ، وإلا فلا يصحّ. ويختلف ذلك أحياناً باختلاف العوامل والتداخلات. ومنه يعلم أنّه لو كان في أماكن التخيير التي يجوز فيها الصلاة تماماً وقصراً فنوى الظهر وشرع فيها، فله في الركعة الثانية أن ينويها قصراً، وله أن يكمل تماماً، ولا يحتاج لتقرير ذلك من قبل، بل حتى لو عيّنها قصراً ثم عدل أثناءها صحّ ذلك، والعكس صحيح؛ وبخاصّة أنّ القصر والتمام هنا ليس نوعين للصلاة، بل فردين لصلاةٍ واحدة.

([15]) هنا أمران:

أ ـ إنّ المراد بأنّه إذا سُئل أجاب ولم يتردّد هو حضور النيّة في قاع ذهنه، لكنّ هذا لا يمنع في بعض الأحيان أن يتردّد ويأخذ جوابه وقتاً؛ لانشغاله بأمرٍ آخر عند السؤال، فقد يكون شخص جالساً يخبز العجين، ويركّز ذهنه في العمل، فإذا سأله شخصٌ ماذا تفعل؟ ففي بعض الأحيان يحتاج لثوانٍ للتركيز على السؤال نفسه ثمّ الإجابة، وبخاصّة عند بعض كبار السنّ أو بعض من يعاني من ضعف في التركيز، فهذا لا يضرّ بوجود النيّة؛ لأنّ التأخّر في الجواب لم يكن لغيبوبة النيّة في نفسه، بل لضعف قدراته الذهنيّة عن استقبال السؤال والإسراع في الجواب، فليُلاحَظ ذلك.

ب ـ إنّه لو غاب عن النيّة لثوانٍ ولم يقم فيها بأيّ فعل عبادي كجزء من الأجزاء أو ركنٍ من الأركان، كما لو أنهى التشهّد في الركعة الثانية من صلاة الظهر، ثم سها لثوانٍ، ثم عاد، ثم وقف لإكمال الصلاة، فإنّ القول ببطلان صلاته لانعدام النيّة مبنيٌّ على الاحتياط الاستحبابي؛ إذ المطلوب صدور الأفعال الصلاتيّة منه عن قصد القربة، وهذا متحقّق. والعرف لا يرى محذوراً في مثل ذلك. وسيأتي من الماتن في المسألة رقم: 575، ما ينفع.

([16]) بل صحّت، وله أن ينويها عصراً.

([17]) بل لا يبعد الصحّة، وينوي ما يريد، إذا لم يكن قد تجاوز المحلّ أو كان في النيّة محذور. وتجاوز المحل يكون كما لو قام إلى صلاة ثنائيّة، ثم دخل في صلاة رباعيّة، فتجاوز الركعة الثانية، وإلا فصلاته صحيحة، ولا يحتاج لتبديلٍ أو إعادة.

([18]) الأقرب أنّ ما هو مذكور في موارد العدول المتعدّدة في النصوص، يفيد ـ بضمّ الموارد لبعضها ـ أنّ مبدأ العدول صحيح، ولا ضرر فيه ـ بل ما ذكرناه في موضوع تعيين النيّة يُساعد بدرجةٍ ما هنا ـ ولم يرد فيه شيءٌ معتبر يمنع عنه، فإذا لم ينضم إليه عامل آخر يوجب البطلان، كالعدول بعد تجاوز محلّ العدول، أو العدول في المترتّبتين من الظهر إلى العصر بحيث تقع صلاة العصر قبل صلاة الظهر.. فالأقرب الصحّة وجواز العدول.

([19]) ومثله ما لو شرع في العصر، ثمّ تذكّر أنّه لم يأتِ بالظهر، لكنّه لو عدل إلى الظهر، فإنّ الوقت ضيّق ولن يسمح له بالإتيان بالعصر بعد الظهر، فهنا لا يعدل إلى الظهر، بل يكملها عصراً، ويقضي الظهر بعد ذلك.

([20]) جواز العدول هنا ثابت، أمّا استحبابه فدليله آحادي.

([21]) أصل العدول جائزٌ، أمّا استحبابه بعنوانه فدليله آحادي، لكنّ هذا الدليل الآحادي يمكن أن يتقوّى هنا عندما نلاحظ أنّه مشفوع بكبرى أهميّة صلاة الجماعة، ويكون هذا المورد من مصاديق تقديم الأهمّ على المهم، فيجمع بين النافلة والجماعة، فلا يبعد أنّه شرعاً مقدّم على إكمال الصلاة منفرداً وخسارة ثواب الجماعة. وليس المقصود هنا ترجيح خبر آحادي لموافقته العقل، وإنّما الحكم بالترجيح يمكن فهمه من أهميّة صلاة الجماعة، وتكون الرواية مؤيّدة لهذا الفهم، فالاستحباب بعنوانه لم یثبت، لکن في الوقت نفسه یکون العدول عن النیّة؛ لإیجاد مجال للإتیان بالمستحبّ المؤکّد، وهو صلاة الجماعة.

([22]) ما ذكره صحيح، وستأتي بعض التفصيلات المرتبطة به في بحث أحكام المسافر، إن شاء الله.

([23]) وكذا ترامي العود مما عدل إليه إلى ما عدل عنه.