hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (مكان المصلّي ـ القسم الثاني)

تاريخ الاعداد: 8/28/2024 تاريخ النشر: 9/5/2024
2430
التحميل

حيدر حبّ الله


 

هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(29 ـ 8 ـ 2024م)

 

 

المقصد الرابع

مكان المصلي‌

...

مسألة 549: يعتبر في مسجد الجبهة ـ مضافاً إلى ما تقدّم من الطهارة([1]) ـ أن يكون من الأرض، أو نباتها، أو القرطاس. والأفضل أن يكون من التربة الشريفة الحسينيّة ـ على مشرّفها أفضل الصلاة والتحية ـ فقد ورد فيها فضلٌ عظيم([2]).

ولا يجوز السجود على ما خرج عن اسم الأرض من المعادن([3]) ـ كالذهب، والفضّة وغيرهما ـ ولا على ما خرج عن اسم النبات كالرماد والفحم([4]). ويجوز السجود على الخزف والآجر والجصّ والنورة بعد طبخها([5]).

مسألة 550: يعتبر في جواز السجود على النبات، أن لا يكون مأكولاً([6]) كالحنطة والشعير والبقول والفواكه ونحوها من المأكول، ولو قبل وصولها إلى زمان الأكل، أو احتيج في أكلها إلى عمل من طبخ ونحوه. نعم يجوز السجود على قشورها ونواها، وعلى التبن والقصيل والجت ونحوها([7])، وفيما لم يتعارف أكله مع صلاحيّته لذلك لما فيه من حُسن الطعم المستوجب لإقبال النفس على أكله إشكال، وإن كان الأظهر‌ في مثله الجواز. ومثله عقاقير الأدوية كورد لسان الثور، وعنب الثعلب، والخوبة، ونحوها مما له طعم وذوق حسن، وأمّا ما ليس له ذلك، فلا إشكال في جواز السجود عليه وإن استُعمل للتداوي به، وكذا ما يؤكل عند الضرورة والمخمصة، أو عند بعض الناس نادراً([8]).

مسألة 551: يعتبر أيضاً في جواز السجود على النبات، أن لا يكون ملبوساً كالقطن والكتان والقنب، ولو قبل الغزل أو النسج([9]). ولا بأس بالسجود على خشبها وورقها، وكذا الخوص والليف ونحوهما مما لا صلاحية فيه لذلك، وإن لُبس لضرورة أو شبهها، أو عند بعض الناس نادراً([10]).

مسألة 552: الأظهر جواز السجود على القرطاس مطلقاً، وإن اتخذ مما لا يصحّ السجود عليه، كالمتخذ من الحرير أو القطن أو الكتان([11]).

مسألة 553: لا بأس بالسجود على القرطاس المكتوب إذا كانت الكتابة معدودة صبغاً، لا جُرماً.

مسألة 554: إذا لم يتمكّن من السجود على ما يصحّ السجود عليه لتقية، جاز له السجود على كلّ ما تقتضيه التقية، وأما إذا لم يتمكّن لفقد ما يصحّ السجود عليه أو لمانع من حرّ أو برد، فالأظهر وجوب السجود على ثوبه، فإن لم يمكن فعلى ظهر الكفّ أو على شي‌ء آخر مما لا يصحّ السجود عليه حال الاختيار([12]).

مسألة 555: لا يجوز السجود على الوحل أو التراب([13]) اللذين لا يحصل تمكّن الجبهة في السجود عليهما، وإن حصل التمكّن جاز. وإن لصق بجبهته شي‌ءٌ منهما أزاله للسجدة الثانية على الأحوط([14])، وإن لم يجد إلا الطين الذي لا يمكن الاعتماد عليه صلّى إيماء([15]).

مسألة 556: إذا كانت الأرض ذات طين بحيث يتلطّخ بدنه أو ثيابه إذا صلّى فيها صلاة المختار، وكان ذلك حرجيّاً، صلّى مؤمياً للسجود، ولا يجب عليه الجلوس للسجود ولا للتشهّد.

مسألة 557: إذا اشتغل بالصلاة، وفي أثنائها فقد ما يصح السجود عليه، قطعها في سعة الوقت، وفي الضيق ينتقل إلى البدل من الثوب أو ظهر الكفّ على الترتيب المتقدّم([16]).

مسألة 558: إذا سجد على ما لا يصحّ السجود عليه باعتقاده أنّه مما يصحّ السجود عليه([17])، فإن التفت بعد رفع الرأس، فالأحوط إعادة السجدة الواحدة حتى فيما إذا كانت الغلطة في السجدتين، ثمّ إعادة الصلاة، وإن التفت في أثناء السجود رفع رأسه وسجد على ما يصحّ السجود عليه مع التمكّن وسعة الوقت، ومع ذلك فالأحوط إعادة الصلاة([18]).

مسألة 559: يعتبر في مكان الصلاة أن يكون بحيث يستقرّ فيه المصلّي ولا يضطرب، فلا تجوز الصلاة على الدابة السائرة والأرجوحة ونحوهما مما يفوت معه الاستقرار، وتجوز الصلاة على الدابة وفي السفينة الواقفتين مع حصول الاستقرار، وكذا إذا كانتا سائرتين إن حصل ذلك أيضاً، ونحوهما العربة والقطار وأمثالهما، فإنّه تصحّ الصلاة فيها إذا حصل الاستقرار والاستقبال، ولا تصحّ إذا فات واحد منهما([19])، إلا مع الضرورة، وحينئذٍ([20]) ينحرف إلى القبلة كلّما انحرفت الدابة أو نحوها، وإن لم يتمكّن من الاستقبال، إلا في تكبيرة الإحرام([21]) اقتصر عليه، وإن لم يتمكّن من الاستقبال أصلاً سقط، والأحوط استحباباً تحرّي الأقرب إلى القبلة فالأقرب، وكذا الحال في الماشي وغيره من المعذورين.

مسألة 560: الأقوى جواز إيقاع الفريضة في جوف الكعبة الشريفة اختياراً، وإن كان الأحوط تركه، أمّا اضطراراً فلا إشكال في جوازها، وكذا النافلة ولو اختياراً.

مسألة 561: تستحبّ الصلاة في المساجد([22])، وأفضلها المسجد الحرام، والصلاة فيه تعدل ألف ألف صلاة، ثمّ مسجد النبيّ‘ والصلاة فيه تعدل عشرة آلاف صلاة، ثمّ مسجد الكوفة([23])، والأقصى([24])، والصلاة فيهما تعدل ألف صلاة، ثم مسجد الجامع والصلاة فيه بمائة صلاة، ثم مسجد القبيلة وفيه تعدل خمساً وعشرين، ثم مسجد السوق والصلاة فيه تعدل اثنتي عشرة صلاة([25]).

وصلاة المرأة في بيتها أفضل، وأفضل البيوت المخدع([26]).

مسألة 562: تستحبّ الصلاة في مشاهد الأئمّة ـ عليهم السلام ـ بل قيل: إنّها أفضل من المساجد، وقد ورد أنّ الصلاة عند عليّ× بمائتي ألف صلاة([27]).

مسألة 563: يكره تعطيل المسجد، ففي الخبر: ثلاثة يشكون إلى الله تعالى، مسجد خراب لا يصلّي فيه أحد، وعالم بين جهّال، ومصحف معلّق قد وقع عليه الغبار لا يُقرأ فيه([28]).

مسألة 564: يستحبّ التردّد إلى المساجد، ففي الخبر: من مشى إلى مسجد من مساجد الله فله بكلّ خطوةٍ خطاها حتى يرجع إلى منزله عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات. ويكره لجار المسجد أن يصلّي في غيره لغير علّة كالمطر، وفي الخبر: لا صلاة لجار المسجد إلا في مسجده([29]).

مسألة 565: يستحبّ للمصلّي أن يجعل بين يديه حائلاً إذا كان في معرض مرور أحدٍ قدّامه، ويكفي في الحائل عود أو حبل أو كومة تراب([30]).

مسألة 566: قد ذكروا أنه تكره الصلاة في الحمام، والمزبلة، والمجزرة، والموضع المعدّ للتخلّي، وبيت المسكر، ومعاطن الإبل، ومرابط الخيل، والبغال، والحمير، والغنم، بل في كلّ مكان قذر، وفي الطريق، وإذا أضرّت بالمارّة حرمت وبطلت، وفي مجاري المياه، والأرض السبخة، وبيت النار كالمطبخ، وأن يكون أمامه نار مضرمة ولو سراجاً، أو تمثال ذي روح، أو مصحف مفتوح، أو كتاب كذلك، والصلاة على القبر وفي المقبرة، أو أمامه قبر، وبين قبرين. وإذا كان في الأخيرين حائل أو بُعد عشرة أذرع، فلا كراهة، وأن يكون قدّامه انسان مواجه له، وهناك موارد أخرى للكراهة مذكورة في محلّها([31]).

_____________________________

([1]) قد علّقنا سابقاً على شرط طهارة مواضع السجود مطلقاً، وأنّه ليس بصحيح. هذا وقد تنوّع موضع بحث الفقهاء لمسجد الجبهة، فتعرّض له بعضهم هنا في باب مكان المصلّي مثل السيد الماتن، فيما تعرّض له آخرون في باب السجود، ولكلّ واحدٍ منهما وجهٌ، وإن كان الأليق بحثه في باب السجود، فهو ألصق به وأقرب، والفهم العرفي العادي لعنوان "مكان المصلّي" ينصرف عادةً عن مثل موضع الجبهة وشروطه، والعلم عند الله.

([2]) المشهور المعروف بين الإماميّة استحباب السجود على تربة قبر الإمام الحسين×، فيما يرى العديد من علماء السلفيّة أنّ هذا الأمر محرّم أو بدعة أو زندقة وأمثال ذلك، ومن الواضح ـ والمجال ليس مجال التفصيل في ذلك ـ أنّ مجرّد السجود على تربة الحسين بقصد التبرّك أو الاستحباب لا غير، ليس فيه شيء من هذه العناوين، فضلاً عن الكفر أو الشرك بالله، فالسجود جائز ولا ضير فيه، وهو سجودٌ على التربة وليس للتربة أو صاحب التربة، وسيأتي موضوع السجود لغير الله تعالى في بحث السجود عند تعرّض الماتن لذلك في (المسألة رقم: 659). وربما يكون انتشار السجود على التربة الحسينية شهد قفزةً نوعيّة في العصر الصفوي، وفي هذا العصر انتشرت ـ أو ظهرت ـ قضيّة حرق التربة أو التربة المشويّة أو طبخ التربة (وكان هناك نقاش في جواز السجود على التربة المطبوخة، فراجع: الاسترآبادي، الفوائد المدنيّة، جوابات المسائل الظهيريّة: 565، 575)، ثم تطوّرت الوسائل إلى العصر الحديث الذي باتت تصنع فيه الآلاف من التربة الحسينيّة للصلاة أو للاستشفاء أو للهديّة أو لغيرها يوميّاً، وفقاً لتقارير العتبات الدينيّة في العراق.

إنّما الكلام في إثبات استحباب شرعي في السجود على خصوص التربة الحسينيّة بعنوانه، وقبل الحديث عن ذلك لا بدّ من الفصل بين سلسلة أمور متعلّقة بالتربة، فنحن هنا لا نتحدّث عن الاستشفاء بها أو عن الترخيص في أكلها خروجاً عن تحريم أكل الطين، ولا عن صناعة سُبحةٍ منها للتسبيح، ولا عن خصائصها التكوينيّة أو التشريعية الأخرى كوضعها في الكفن وغير ذلك، إنّما كلامنا محصور في استحباب السجود عليها، وكونها أفضل ما يُسجد عليه، كما يُفهم من السيّد الماتن وكثيرٍ غيره قبله وبعده. وعمدة الاستدلال هنا ـ بعد صرف النظر عن الشهرة والإجماع اللذين قد يكونان مبنيّين على قاعدة التسامح في أدلّة السنن أو على النصوص الآتية أو على بعض الوجوه الاعتباريّة ـ هو بعض الروايات، وهي:

1 ـ مرسل الصدوق في "الفقيه" قال: قال الصادق×: «السجود على طين قبر الحسين× ينوّر الأرضين السبعة..».

وهذا الخبر من مراسيل الصدوق المصدّرة بـ "قال"، والتحقيق أنّه مرسل غير حجّة على ما بحثناه في محلّه، ووافقنا فيه نظر الكثير من الفقهاء والمحدّثين، ومنهم السيّد الماتن.

2 ـ خبر الطبرسي في "الاحتجاج" عن محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن صاحب الزمان× أنّه كتب إليه يسأله عن السجدة على لوح من طين القبر، هل فيه فضل؟ فأجاب: «يجوز ذلك، وفيه الفضل».

وهذا الخبر مرسلٌ؛ فإنّ السند بين الطبرسي والحميري غير مذكور، مع أنّ الحميري يرجع للقرن الثالث والرابع فيما الطبرسي يرجع للقرن السادس الهجري. وفي الخبر بعض ما يثير أسئلة، فكيف يسأل شخص مثل الحميري صاحبَ الزمان بالمكاتبة ـ أي نحن نتكلّم في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري ـ عن أصل وجود الفضل في السجود على تربة الحسين؟! إنّ هذا يعني أنّ فكرةً من هذا القبيل لم تكن جزءاً من الثقافة الشيعيّة العامّة، خلافاً لما يقوله بعض الكتّاب المعاصرين، وإلا لكانت بديهيّة وواضحة بعد مرور قرنين من الزمان على شهادة الحسين×، والأغرب من ذلك أنّ الإمام يكلّمه عن أنّ ذلك جائز! وما يعزّز عدم وجود هذه الفكرة عند الشيعة أنّنا لا نكاد نملك نصوصاً تاريخيّة تفيد أنّ الشيعة ـ في عصر النصّ ـ قد تعارف بينهم السجود على هذه التربة، رغم أنّنا نملك عشرات النصوص حول التربة الحسينيّة، ومنها حوالي ثلاثين نصّاً حول أكل التربة الحسينية تتبّعناها بالتفصيل في كتابنا: (فقه الأطعمة والأشربة 2: 343 ـ 371)، وهذا كلّه يدلّ على تداول التربة في أيّامهم، فلماذا لم يشتهر بينهم نصوص في السجود عليها وهو أكثر ابتلاءً من الأمراض؟! نعم ورد في مستدرك الوسائل نقلاً عن المشهدي في المزار الكبير، قال: بإسناده عن إبراهيم بن محمد الثقفي، عن أبيه، عن الصادق جعفر بن محمد ـ عليهما السلام ـ قال: «إنّ فاطمة بنت رسول الله‘ كان سبحتها من خيط صوف مفتل، معقود عليه عدد التكبيرات، وكانت ـ عليها السلام ـ تديرها بيدها تكبّر، وتسبح، حتى قتل حمزة بن عبد المطلب فاستعملت تربته، وعملت التسابيح، فاستعملها الناس، فلما قتل الحسين×، عدل بالأمر إليه فاستعملوا تربته، لما فيه من الفضل والمزية»، ومع ذلك فالخبر ضعيف السند وغير صريح في السجود.

3 ـ خبر الطوسي في "مصباح المتهجّد" عن معاوية بن عمار، قال: كان لأبي عبد الله× خريطة ديباج صفراء فيها تربة أبي عبد الله×، فكان إذا حضرته الصلاة صبّه على سجادته وسجد عليه، ثم قال×: «إنّ السجودعلى تربة أبي عبد الله× يخرج الحجب السبعة». والخريطة قطعة قماشيّة أشبه بصرّة النقود توضع فيها الأشياء ثم يغلق بابها.

وهذه الرواية مرسلة ظاهراً، لكن حاول أمثال الشيخ محمّد السند ـ ولعلّه هذا هو السبب في توصيف الشيخ الوحيد الخراساني لها بأنّها صحيحة ـ أن يعتبر أنّ الطوسي لما ذكر أنّ هذه الرواية رواها معاوية بن عمار، فهذا يعني أنّ طريقه إلى معاوية في الفهرست مثلاً سيكون هو بنفسه الطريق إليه هنا، وحيث إنّ الطريق هناك صحيحٌ، فالرواية هنا معتبرة السند. ولعلّ الحرّ العاملي نفسه فهم ما يشبه ذلك؛ لأنّه صدّر الرواية في الوسائل بتعبير "بإسناده"، مع أنّ الطوسي في "المصباح" لم يذكر تعبير: "بإسنادي إلى معاوية بن عمار"، وكأنّ الحر العاملي يوحي بأنّ هناك سنداً للطوسي إلى معاوية في هذه الرواية.

ولكنّ هذا الكلام غير واضح؛ فإنّه لا دليل على أنّ هذه الرواية وصلته بذاك الطريق، فلعلّها وصلته بطريقٍ آخر، ولهذا بنى العديد من العلماء ـ مثل السيد الخوئي ـ على إرسال مئات الروايات في كتاب "مصباح المتهجّد" رغم أنّه صدّر السند في كثير منها بأسماء الرواة الذين له إليهم طرق في الفهرست ومشيخة التهذيب والاستبصار.

4 ـ مرسل الديلمي في "الإرشاد"، قال: كان الصادق× لا يسجد إلا على تربة الحسين×، تذلّلاً لله واستكانة له».

وهذا الخبر واضح الإرسال جداً، ومجهول مصدره الأصلي، بل لا يستبعد أنّه مأخوذ بالمعنى من خبر معاوية بن عمار، والعلم عند الله.

واللافت وجود خبر هنا، وهو معتبرة حمران عن أحدهما ـ عليهما السلام ـ قال: «كان أبي يصلّي على الخمرة يجعلها على الطنفسة ويسجد عليها، فإذا لم تكن خمرة جعل حصى على الطنفسة حيث يسجد". والخُمرة مصلّى صغير مصنوع من سعف النخل أشبه بالحصير يكون صغيراً فلو اتسع كان حصيراً، وسُمّي بذلك لكونه يخمر أي يستر الوجه من حرّ الأرض، وورد في النصوص أنّ النبي كانت له خمرة؛ والطُّنْفُسة هي ثوب أو بساط يُستلقى عليه. هذه الرواية التي ينقلها الكليني والطوسي، تفيد أنّ الإمام زين العابدين أو الإمام الباقر لم يكن من دأبه وضع التربة الحسينيّة، بل كان يضع الحصى، فانتبه. فهذا يشير إلى أنّ ظاهرة السجود على التربة الحسينيّة لم تكن معروفة في ذلك الوقت، أو لم تكن متوفّرة! بل هذا يناقض ما قاله الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء ـ فيما استفاده، على حدّ تعبيره، من الآثار ومهرة الحديث من مشايخه ـ من أنّ الإمام زين العابدين هو أوّل من فتح باب السجود على التربة الحسينيّة وأنّه أتى معه بهذه التربة من كربلاء، ثمّ يُرجع القارئ إلى كتاب البحار، وما يترجّح بالنظر أنّ سبب الخطأ هو ما جاء في (بحار الأنوار 46: 79)، حيث قال في مقام الحديث عن الإمام زين العابدين: «مصباح المتهجّد: كان له خريطة فيها تربة الحسين×، وكان لا يسجد إلا على التراب». ولكنّ الموجود في مصباح الطوسي هو ما نقلناه عن معاوية بن عمار عن الإمام الصادق، وليس الإمام زين العابدين.

5 ـ ما ذكره المحدّث النوري في "المستدرك" حيث قال: وجدت بخطّ شيخنا الشهيد الثاني: نقلت عن شيخنا الأجلّ عليّ بن عبد العالي الميسي أدام الله تعالى أيامه، عن السيد محمد بن أبي الحسن، عن جدّه، عن الحاج محمد بن أبي جامع الكوسي، عن أبي سيف الحاسي، عن الشهيد ـ رحمه الله ـ أنّ السجود على التربة الحسينيّة تقبل به الصلاة، وإن كانت غير مقبولة لولا السجود عليها.

ومن الواضح أنّ هذا لا يُعلم أساساً أنّه حديث، فلعلّه استنتاج من الشهيد الأوّل، لو صحّت النسبة.

6 ـ ما ورد في فضل هذه التربة عموماً، وهو روايات بالعشرات.

ويجاب بأنّ فضل هذه التربة لا يثبت استحباباً شرعياً للسجود عليها، والا لزم القول باستحباب كون مكان المصلّي كلّه عبارة عن تربة الحسين أو استحباب وضعها أمام الإنسان عند الأكل والشرب والعمل وغير ذلك من عشرات الأشياء التي لم تثبت، فكون التربة لها قدسيّة شيء واستحباب السجود عليها بعنوانه شرعاً شيء آخر. كما أنّ الاستناد لقاعدة الاعتبار بالأشرف، ليست دليلاً شرعياً اجتهاديّاً هنا، فليس عندنا قاعدة على أفضليّة السجود على ما هو الأفضل من حيث الأمكنة وغيرها.

وبهذا يتبيّن أنّ فكرة السجود على التربة الحسينيّة لم تظهر في المدوّنات التي وصلتنا قبل القرن الرابع الهجري، فأقدم نصّ منقول هو نصّ الصدوق في القرن الرابع الهجري، ولا يمكن التثبّت من وجود إسنادٍ حقيقي غير مرسل لهذه النصوص المنقولة، واللافت أنّ الكليني والطوسي (في التهذيب والاستبصار) والبرقي وابن قولويه لم ينقلوا شيئاً في هذا الصدد رغم أنّهم كانوا أهم المصادر التي وصلتنا من خلالها عشرات النصوص ـ المسندة وغيرها ـ المتعلّقة بالتبرّك بالتربة الحسينيّة، بحيث يمكننا الترجيح بقوّة أنّ فكرة العلاقة مع التربة الحسينيّة وإن لم يكن لها وجود في القرن الأوّل الهجري ـ وفق ما وصلنا ـ لكنّها بالتأكيد كانت موجودة في القرن الثاني، حتى أصبحت علاقة الشيعة بالتربة في القرون الأولى تمثل جزءاً من هويّة التشيّع في مفهوم علاقة المادي بغير المادي، أي علاقة الإنسان بالمقدّس من خلال عنصرٍ مادي وهو التربة، ومع ذلك لا نجد موضوع السجود حاضراً بالدرجة نفسها، كيف وما قد يؤيّد ذلك تأييداً، مرفوعة الحسن بن علي بن شعيب عن الإمام الكاظم× أنّه قال: «لا تستغني شيعتنا عن أربع: خمرة يصلّي عليها، وخاتم يتختم به، وسواك يستاك به، وسبحة من طين قبر أبي عبد الله»، فالصلاة ربطت بالخمرة، فيما التسبيح ربط بالتربة الحسينيّة، فلو كان السجود عليها متعارفاً ـ كما هي الحال اليوم ـ فلماذا لم يذكر التربة الحسينيّة مع الخمرة؟!

وقد ذهب السيّد محمّد مهدي الخرسان (2023م) إلى أنّ موقف الأئمّة هنا كان على الشكل الآتي: ففي المرحلة الأولى، كان الإمام السجّاد× يصلّي على التربة، ناقلاً ذلك عن ابن شهر آشوب في (المناقب 2: 251). ثمّ الإمام الباقر لا تتعرّض نصوصه لموضوع السجود على التربة، لتتركّز النصوص عن الإمام الصادق بعد ذلك لانفتاح عصره، ليعود الوضع مع الإمام الكاظم حيث لا إشارة لموضوع السجود، وإنّما لموضوع السبحة فقط، فيما الإمام الرضا كان يستعمل التربة في غير موضوع السجود. وأمّا سائر الأئمة فليس عنهم شيء منقول في موضوع السجود أيضاً. وأمّا الإمام المهدي فيرى الخرسان أنّه يمكن فهم أمرين من مكاتبة الحميري له: الأول: إنّ السجود على التربة الحسينية في عصر الغيبة الصغرى كان قد اختفى عمليّاً عند المتشرّعة، لدرجة الشكّ في أصل الجواز، فضلاً عن الاستحباب، والثاني: الجهل بجهات الفضل في السجود عليها، فكان الجواب أنّ بها فضلاً. ويرى السيد الخرسان أنّ سبب غياب النصّ المباشر للتصريح باستحباب السجود على التربة الحسينيّة يعود لسببين أساسيّين: أحدهما: التضييق الذي كان على الأئمّة ـ عليهم السلام ـ وظروف التقية التي كانت تلزمهم الابتعاد عن شيعتهم غالباً. وثانيهما: الخوف على شيعتهم من أن تكون لهم سمة مميّزة مثل السجود على تربة الحسين، فيعرفهم سلاطين الجور فيأخذونهم بها. هذا حاصل ما أفاده (السجود على التربة الحسينيّة: 335 ـ 356).

ويمكن التعليق على كلامه:

أوّلاً: إنّ كتاب المناقب نقل الحديث عن مصباح المتهجّد؛ وقد قلنا سابقاً بأنّه ليس عن الإمام السجّاد بل الإمام الصادق، ولو فرض تعدّد النسخ فهذا أيضاً يُبقي مسألة الإمام زين العابدين مجرّد احتمال.

ثانياً: إنّ دعواه أنّ مكاتبة الحميري تشير لغياب الفكرة عن المتشرّعة مجدّداً يُفترض معها أن يثبُت مسبقاً أنّها كانت موجودة، حتى ندّعي أنّها غابت في عصر الغيبة الصغرى، والمفروض أنّنا لا نملك أيّ نص عن أيّ إمام على الإطلاق في هذا الموضوع سوى روايات ضعيفة قليلة للغاية عن الإمام الصادق دون أن يكون فيها إشارة لمعروفيّة هذه الظاهرة حتى في عصره فضلاً عمّا بعده، فالأقرب أنّ ضمّ المعطيات لبعضها يرجّح أنّه لا دليل على معروفيّة السجود على التربة الحسينيّة في عصر النصّ شيعيّاً.

ثالثاً: إنّ ما ذكره السيد الخرسان ـ رحمه الله ـ في تبرير نقص الروايات، قابلٌ للنقاش؛ وذلك أنّ النصوص منذ عصر الإمام زين العابدين وصولاً حتى نهاية عصر الغيبة الصغرى ـ وهي بالمئات ـ اشتملت على التأكيد على زيارة قبر الحسين والبكاء عليه وذكر مصيبته وإنشاء القصائد والشعر فيه والاستشفاء بتربته وصناعة السبحة منها وغير ذلك، رغم كلّ المخاطر والتهديدات، والسيد الخرسان نقل ذلك بنفسه في هذا الكتاب عندما تكلّم عن حثّ الإمام الباقر للشيعة على زيارة الحسين وغير ذلك، فما هو السبب في أنّ طروف التقية غيّبت تماماً فكرة السجود على التربة فيما ظهرت كلّ هذه الأنشطة التي قسمٌ كبير منها علنيٌّ بطبيعته، فيما التربة يمكن أن تكون موجودة في غير موارد العلن؟! فما هو الفارق بين السبحة والسجود على التربة؟! ولو قيل بأنّ السبحة قابلة للإخفاء في مساجد سائر المذاهب، لجرى الكلام عينه في التربة، فتبرير التقية ليس في محلّه مع إمكان التحذّر من السلاطين، كما يفعل مع السبحة وغيرها من موارد الانتفاع بالتربة سواء للتبرك أم الشفاء ونحو ذلك. هذا كلّه مضافاً إلى أنّ الإمام الرضا× كان وليّاً للعهد، ولم يكن ـ فيما وصلنا ـ يستعمل التربة للسجود مع إمكان ذلك بالنسبة له نتيجةً لمحاولة استرضاء المأمون له. وعليه فلو كان هناك تركيز على التربة في العصور الأولى لظهر وبان بشكل مختلف تماماً، ولم يُنقل أنّ خصوم الشيعة كانوا يعيّرونهم بشيءٍ من ذلك في تلك الفترة.

والنتيجة: جواز السجود على التربة الحسينية قطعاً، مع عدم ثبوت استحباب شرعي على ذلك بعنوانه إلا على قاعدة التسامح في أدلّة السنن أو على بعض المباني الرجاليّة والحديثية مثل تصحيح مراسيل الصدوق في "الفقيه"، وكلاهما لا نقول به، فضلاً عن قلّتها وكونها أخباراً آحادية، مضافاً للتحليل التاريخي الذي أشرنا إليه. وسوف يأتي في باب الأطعمة والأشربة تفصيلات متعلّقة بالتربة، وتعيين ما هو المراد بتربة الحسين، وهل أنّ تربة كربلاء تكفي أو لا؟ وغير ذلك، وقد بحثنا ذلك كلّه مفصّلاً في كتابنا "فقه الأطعمة والأشربة"، فراجع.

هذا، ولم يظهر لي وجه ما ذكره بعض الفقهاء ـ مثل السيد محمّد محمّد صادق الصدر ـ من أنّ التربة الرضويّة تأتي بعد التربة الحسينيّة في الفضل، ثم تليهما تربة سائر الأئمّة،، فلم أعثر على شيء موثوق يرتبط باستحباب السجود على تربة النبيّ وأهل بيته غير الحسين×، والعلم عند الله.

([3]) إذا قصد السيد الماتن من كلمة "من" في قوله: "من المعادن" البيانيّةَ، فقد يقال بأنّه غير صحيح؛ فإنّه ليست كلّ المعادن خارجة عن اسم الأرض، فضلاً عن أنّ ذلك تشخيص مصداق ليس من شؤون الفقيه بما هو فقيه، كما أنّ المعادن بعنوان كونها معادن لم ترد في نصّ ثابت، حتى نقول بأنّها مما لا يصح السجود عليه بعنوانه، وأمّا إن قصد من "من" التبعيضيّة، كما لعلّه هو الأوفق ببعض فتاويه في تعليقة العروة، فهو صحيح، فيكون الذهب والفضة مثالاً للمعدن الذي لا يصدق عليه اسم الأرض. وقد مثّل بعض العلماء ـ كالسيد الفاني والسيد السيستاني والسيد حسن القمي في تعليقتهم على العروة ـ للمعادن التي يصدق عليها اسم الأرض بالمرمر والعقيق والفيروزج والفحم الحجري.

([4]) على الأحوط وجوباً في مثل الرماد والفحم.

([5]) بل لا يبعد الجواز على مثل الاسمنت، وهذا من باب تشخيص المصداق لا غير.

([6]) المراد هنا كونه مأكول الإنسان، أمّا كونه مأكول الحيوانات ـ مثلاً ـ فلا عبرة به وجوداً وعدماً.

([7]) القصيل هو ما يقصّ من الزرع الأخضر الرطب لعلف الدواب، أو الشعير قبل نضوجه. والجتّ قيل: علف الحيوانات، والظاهر أنّه ما يُعرف بالبرسيم الحجازي الذي يُعدّ مهماً للأبقار الحلوبة.

([8]) سيأتي تعليقٌ متصل بهذه المسألة والتي تليها، قريباً إن شاء الله، فانتظر.

([9]) إنّ مراجعة الروايات المرتبطة بعدم كون المسجود عليه ملبوساً، تعطينا أنّ عمدتها يدلّ على الآتي: روايتان عامّتان في النهي عن السجود على الملبوس، وثلاث روايات في النهي عن السجود على القطن والكتّان، ورواية في النهي عن السجود على الصوف والشعر، ورواية في النهي عن السجود على الرياش، وروايتان يفهم منهما بالمفهوم ان لا يكون المسجود عليه بساطاً، وروايتان في الترخيص بالسجود على القطن والكتّان ولو لغير ضرورة أو تقية. وبالتأمّل في مجموع هذه النصوص العمدة يظهر لنا ـ وفقاً لمسلك حجيّة الخبر الاطمئناني ـ صعوبة القول بإطلاق اشتراط أن يكون المسجود عليه مما لا يُلبس، فمع هذا التعارض واختصاص النصوص بالقطن والكتّان والشعر والصوف والبسط التي كانت تصنع من هذه الأشياء عادةً، يترجّح بالنظر القول بأنّ الأحوط وجوباً عدم السجود على القطن والكتان والشعر والصوف والرياش (والسجّاد المتداول اليوم يُصنع من الصوف، وقد يكون فيه القطن أيضاً، وبعض أنواعه فيها موادّ صناعية)، وأمّا غيرها مما يصدق عليه اسم الأرض أو نباتها ـ بعيداً عما يؤكل ـ فالأقرب جواز السجود عليه، وإن كان الأحوط استحباباً تجنّبه.

أمّا فيما يتعلّق بحالة ما قبل الغزل وما بعده مما أشار له الماتن، فالأحوط وجوباً عدم السجود على هذه الأمور التي ذكرناها آنفاً قبل الغزل أو النسج أيضاً، نعم ذهب بعض الفقهاء ـ مثل الشيخ محمّد الصادقي الطهراني ـ إلى عدم شمول الحكم لمثل الفرش والسجّاد، ورأى أنّها غير ملبوسة، ولا أدري هل يقصد بالملبوس خصوص ما صار معداً للبس كالثياب أو أنّه يعتبر أنّ السجاد بعد صيرورته سجاداً خرج عن هذا العنوان ولو كانت ذات مادّته مما لا يجوز السجود عليه؟ والذي يبدو من بعض النصوص أنّها ناظرة للملبوس بما هو ثياب، لكنّ نصوصاً أخَر عامّة، بل بعضها يصرّح بنوعيّة المادّة لا بالثوب، مثل الكتّان والصوف والشعر.

قد يقال: إنّ الملاحظ في النصوص هو هذه الأشياء بعد غزلها كلباسٍ، جمعاً بين الروايات المحرّمة للسجود على اللباس ـ التي لا معارض لها ـ وروايات تحريم السجود على القطن والكتان وما يعارضها من روايات تجويز السجود على القطن والكتان، إضافة إلى رواية الغزل بوصفها شاهداً، فهذا يرجّح كون المحرّم في السجود هو ما بعد صيرورته لباساً، علماً أنّ الروايات التي تدلّ على حرمة الملبوس ثلاث في "الوسائل"، أما فيما يرتبط بغير الأرض من شعر وصوف فهو لا يمكن ضمّه إلى ما يرتبط بحكم الأرض. وعلى هذا، وفق ما جرى ذكره يغدو السجّاد المصنوع من الكتان أو القطن مما يجوز السجود عليه، مع عدم اعتبار العرف له مما يُلبس، على أنّ بحث القطن والكتان يرتبط جداً بثقافة استخدامهما في تلك العصور.

ويجاب: إنّ رواية النهي عن الملبوس بما هو ملبوس آحاديّة جداً، فلو حذفنا روايات القطن والصوف والكتان والشعر فلا يبقى إلا القليل جدّاً، ودعوى أنّها ثلاث روايات لكنّها تحلّ التعارض الواقع بين الروايات التي تجيز وتحرّم القطن والكتان، قابلة للدفع بأنّ حمل الروايات بهذه الطريقة يحتاج إلى حمل كلّ روايات الصوف والقطن والشعر والكتان والرياش والبسط على صورة كونه ملبوساً، وليس فقط روايات القطن والكتان، هذا أوّلاً، وثانياً يلزم في الجمع العرفي المبني على تثليث المجموعات الحديثيّة أن يكون بيان المجموعات الثلاث قابلاً لأن يُحمل على ناتج هذا الجمع، وإلا كان إخلالاً في البيان من الإمام، فهل ـ لو كان الممنوع هو خصوص الملبوس لا خصوصيّة المادة التي صنع منها الملبوس ـ من البيان الجيد ورود تعبير القطن والرياش والصوف والشعر والكتان والبسط في أغلب الروايات هنا؟

وقد تقول مرّةً أخرى: إنّه يلاحظ من تتبّع الروايات وجود تمايز بين ما تنبته الأرض وما هو من غير الأرض، وما تُنبته الأرض إذا غزل بغية اللبس فلا يصحّ السجود عليه، أمّا إذا بقي على مادته فيجوز، أمّا ما هو من غير الأرض فحكمه حرمة السجود عليه كيف ما كان، وعلى هذا فحين تقرأ الروايات كلّها، ينصرف الأمر فيها إلى اللباس لكون القطن والكتان لا يستخدمان في ذلك الزمان إلا في اللباس.

ويجاب: إنّ التمييز بين ما هو غير الأرض وما هو مما أنبتت الارض واضح، وقد فصله الفقهاء وكذا السيد الماتن بوضوح، وهما مسألتان مختلفتان، أمّا أنّه لا يُتعارف في القطن والصوف والكتان والرياش إلا أن يكون ملبوساً فهذا يحتاج لتدقيق؛ إذ كثير من أنواع الفرش والبسط وما ينام الإنسان عليه و (المخدّة) التي يضع رأسه عليها حين النوم أو ما يضعه خلف ظهره من متكأ.. الكثير منه كانت تستعمل فيه هذه المواد.

هذا، والظاهر أنّ مراد الماتن من القنب هو نبات فصيلة القُنّب الهندي (الحشيشة)، حيث تصنع من أليافه بعض الأقمشة والحبال والخيوط والأكياس والأغطية وغيرها. أمّا الخوص مما سيذكره الماتن قريباً في المسألة عينها فهو المتخذ من أوراق النخيل، وتصنع منه السلال وتبنى به الأسقف قديماً وكذا الحصائر وغير ذلك، والعمل في ذلك يُسمّى "حرفة الخواصة" في العربية القديمة. والليف نباتٌ معروف يؤخذ باطنه ويستخدم في تنظيف الجسد.

([10]) هنا أمور تتصل بهذه المسألة والتي سبقتها:

منها: إنّ الفقهاء تدخّلوا هنا كثيراً في المصاديق، فهل هذا أو ذاك يدخل تحت اسم الأرض أو لا؟ وهل يدخل ضمن المأكول أو الملبوس أو لا؟ فتحدّثوا عن الذهب والفضة والعقيق والفيروزج والقير والزفت والرماد والفحم والخزف والآجر والنورة والجصّ والبلّور والزجاج والطين الأرمني والعقاقير والأدوية والتبن والعلف وورق الشاي والقهوة والترياك وقشر اللوز والجوز ونوى المشمش والفستق ونخالة الحنطة والشعير وقشر الأرز ونوى التمر وورق الشجر وسعف النخل وورق العنب والتنباك ونبات الماء والقبقاب وثوب الخوص والقنّب والقطن وقراب السيف والخنجر وقشر البطيخ والرقّي والرمان والخيار والتفاح وغير ذلك، وهذا ليس من شؤون الفقيه بما هو فقيه، نعم وردت بعض النصوص في بعض هذه الأمور كالقرطاس وسيأتي الحديث عنه. وقد كنّا التقينا بالمرجع الديني المعاصر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي حفظه الله يوماً على مائدة إفطارٍ دُعينا إليها قبل ما يقرب من عشرين عاماً، وجرى نقاشٌ طويل حول قضيّة تدخّل الفقهاء في المصاديق بمناسبة إفتاء سماحته بحرمة تدخين السجائر والتنباك، ومال سماحته إلى ضرورة تدخّل الفقهاء، وقد كنّا سابقاً تعرّضنا لهذا الموضوع في المقدّمات المنهجيّة واختلفنا اختلافاً جذرياً مع هذا الرأي، وقلنا بأنّ الفقهاء أكثروا في الرسائل العمليّة وفي الاستفتاءات من التدخّل في المصاديق التي كان ينبغي إحالتها للمكلّفين ـ أفراداً أو جماعات ـ أو التبيين لهم أنّ الجواب هنا أو هناك ليس بنحو الفتوى، بل بنحو التشخيص. نعم بعض المصاديق يستحقّ التدخّل بصفة الحاكميّة لا بصفة الفقاهة، وبعضها يكون التدخّل فيه لا من باب الفتوى، بل من باب إعانة الناس؛ لمكان موثوقيّة الفقيه وموقعه، لكنّ الناس تتلقّى الأمر على أنّه فتوى، وفي مسألتنا هذه تدخّل الفقهاء كثيراً في تفاصيل من نوع بعض الأعشاب وغيرها بما لا حاجة إليه، فانظر سائر الكتب الفتوائية والاستفتائيّة تجد ما نقول.

ومنها: إنّه قد تكون أمورٌ تُلبس في مجتمع دون آخر أو تؤكل في مجتمعٍ دون آخر، وهذا لا بنحو الندرة بل بنحو الحقيقة القائمة المعتدّ بها، فلو قارنّا بين العديد من مجتمعات الشرق الآسيوي ومجتمعات ما يُسمّى بالشرق الأوسط، لوجدنا اختلافاً على هذه الصعد، وهنا لم يرد في النصوص شيءٌ يرتبط بهذه الظاهرة؛ إذ أغلب السائلين ينتمون لفضاءٍ متقارب مناخياً وثقافتهم في الأكل والشرب واللباس متقاربة نسبيّاً، وربما لهذا لا نجد مثل هذه الأسئلة عندهم. ولعلّ الأقرب بالنظر ـ وبخاصّة بملاحظة بعض نصوص التعليل هنا ـ أن يؤخذ بالمجتمع الذي ينتمي إليه المكلّف، سواء كان موجوداً في جغرافيا هذا المجتمع أو خارجه، ما لم ينتقل لمجتمعٍ آخر بحيث ينتمي إليه ويصبح هذا الشيء أو ذاك، تبعاً لتكوّن وعيه الاجتماعي الجديد، ملبوساً أو لا، فليست العبرة بتواجد المكلّف في بلاد لا تعتبر هذا الشيء ملبوساً حتى لو كان هو ومجتمعه الذي ينتمي إليه يعدّه ملبوساً أو مأكولاً، فإنّه يصدق بالنسبة إليه ـ اجتماعياً وثقافياً ـ أنّ هذا الشيء ملبوس أو مأكول، فتأمّل جيداً. وقد احتاط بعضهم هنا، وبعض ميّز الحكم على أساس أين يتواجد المكلّف، فيما ذهب السيد الماتن في بحوثه الاستدلاليّة إلى كفاية أن يؤكل في بعض البلدان لكي لا يصحّ السجود عليه مطلقاً في جميع البلدان، على أساس أن الموضوع في النصوص قابليّة الأكل أو اللبس، مميّزاً بين هذا المفهوم ومفهوم المكيل والموزون الظاهرَين في الفعليّة عنده، وهذا غير مفهوم لي؛ فإنّ قابلية الأكل لا تتطلّب تحقّق الأكل أساساً، فورق البرتقال قابل للأكل قطعاً من قبل البشر ولو لم يأكله أحد، بل ما هو الفرق بين أكل عشرة أشخاص في مجتمع مؤلف من عشرة آلاف لشيءٍ ولا نقول بأنّه مأكول لخصوصية الندرة، وبين مجتمعٍ صغير يأكل شيئاً لكنّ جميع أهل الكرة الأرضيّة لا يأكلونه ولا يلبسونه؟! فإمّا أن نقول بأنّ المدار على عموم أهل الكرة الأرضيّة لا على هذا المجتمع أو ذاك، وهذا ما لا نجد أثراً له في النصوص، أو نقول بأنّ المدار على عرف ذلك المكلّف. ولم أجد ـ بحكم تتبّعي المتواضع ـ من ذهب إلى ما ذهبنا إليه رغم أنّه أقرب للاعتبار العرفي، فالمصري الذي يعيش في تايلند مثلاً لن يعتبر الشيء الفلاني نباتاً مأكولاً ما دام ينتمي إلى مجتمعه المصري انتماءً اجتماعيّاً وثقافياً، حتى لو عاش في تايلاند عشرين سنة ما لم يندمج في المجتمع ويصبح كائناً من أفراده بهذا اللحاظ، والعلم عند الله.

وقد يجرّنا هذا لسؤالٍ تطبيقي عما هو المراد من الملبوس؟ فاليوم يشتهر وجود قبّعات من نفس المادة التي يتكوّن منها الحصير بأنواعه، ومع ذلك يصلّي المؤمنون على الحصير وكثير من المساجد مفروشة بالحصر! والحصير منصوص عليه في الروايات أنّه يجوز السجود عليه، بل السنّة استخدام الخمرة، فعلى ما بنينا عليه يجوز السجود على الحصير لعدم كونه صوفاً ولا شعراً ولا كتاناً ولا قطناً، أمّا على المباني المشهورة فلا أدري كيف يمكن تخريج ذلك؟! بل كيف يمكن للسيد الماتن الذي يرى كفاية تعارف شيء في بلد للمنع عن السجود عليه في سائر البلدان تخريج الموقف، مع أنّ استخدام الحصير في اللباس مثل القبّعات شائع اليوم في بلدان عدّة، وكذا الليف والخوص في بعض الأحذية، إلا إذا قال بأنّه المراد من الملبوس هو ما يتمّ به اللباس لا مثل الحذاء والجورب ونحو ذلك.

([11]) القرطاس ـ بكسر القاف وضمّها ـ هو ورق أو صحيفة، وأصل الكلمة يوناني. والقرطاس الطبيعي هو بَرديّ مصر المعروف الذي انتشر انتشاراً هائلاً في صدر الإسلام ثم في زمن العباسيّين، حتى عرفت بعض الأسواق وبعض الأسر بـ "القرطاسي"، وهو يؤخذ من نبات البردي الذي كان موجوداً. والقرطاس الصناعي هو الذي يتخذ من الخشب أو غيره، حيث يصنع من ذلك الصحف والأوراق وأنواع "الكرتون" وغيرها. وقد عرف المسلمون الورق والكاغذ بعد فتح سمرقند وبلاد الشرق وتعرّفهم على الورق الصيني، والذي حصلت بداياته أواخر القرن الأوّل الهجري، وكان لدخول الورق والكاغذ تأثير ثقافي هائل على الحضارة الإسلاميّة وتطوّرها؛ وبخاصّة أنّ البُرد المصريّة كانت غالية الثمن جداً وغدت محدودة نسبياً بعد تطوّر الحركة الفكريّة والكتابيّة في العصر العباسي.

أمّا الحكم، فالظاهر جواز السجود على القراطيس المصنوعة مما يجوز السجود عليه، أمّا غيرها فليس في الأدلّة إطلاقات، وأمّا ما ذكره السيد الماتن في بحوثه من أنّ القرطاس كأنّه يصبح شيئاً آخر غير الأرض ونباتها، وكان يصنع بكثرة من مثل الكتان والحرير وغير ذلك، فتكون نصوص الترخيص في السجود على القرطاس مخصِّصة لعمومات الأدلّة في الباب كلّه.. ما ذكره الماتن فيه تأمّل شديد، فالأقرب عدم صحّة السجود على القرطاس المتخذ مما لا يصحّ السجود عليه.

([12]) الأقرب في الفرض الثاني ـ وهو فقد ما يصحّ السجود عليه ونحو ذلك ـ هو أنّه يصحّ له السجود على أيّ شيء مما لا يصحّ السجود عليه، بلا ترتيبٍ بين ثوبه وكفّه وغيرهما إطلاقاً. وذكرُ الثوب في النصوص لبيان ما هو ميسور عادةً لا للتخصيص، وبخاصة أنّ هذه الحال جاء عمدتها في مفروض كلام السائلين، دون جواب الإمام. وليس المقصود بحال الاضطرار هنا الضرورة القاهرة، بل الضرورة العرفيّة، فإنّ هذا أقرب لروح النصوص الواردة في الباب.

([13]) أو غيرهما.

([14]) استحباباً؛ لصدق أنّه سجد على ما يصحّ السجود عليه في المرّة الثانية. ودعوى أنّه لا بدّ من صدق الإحداث سبق أن ناقشنا شبيهها في مباحث غسل الجنابة، فراجع. كما أنّ الكلام في عدم صدق السجود على التراب لو أنّ التراب كان منتقلاً مع جبهته إلى أن سجد، مع أنّه يصدق عليه عرفاً أنّه سجد على هذا التراب الذي كان ملتصقاً بجبهته قبل وضع رأسه على الأرض.

([15]) بل الأحوط وجوباً اختصاص الإيماء بالسجود لا مطلقاً.

([16]) الذي تكلّمنا عنه آنفاً.

([17]) لجهلٍ بالحكم أو بالموضوع أو لنسيانٍ متعلّق بهما.

([18]) إذا أنهى السجدة ـ بالانتهاء من الذكر الواجب فيها ـ صحّت ولو لم يرفع رأسَه بعد، وإلا جرّها لموضع السجود، فإن اضطرّ لرفع رأسه ـ حيث لا يمكن الجرّ ـ أعاد الصلاة مع سعة الوقت، وإلا صحّت، والأحوط استحباباً القضاء.

([19]) إذا كانت الصلاة المضطربة غير المستقرّة حاويةً لتمام الواجبات والشروط فلا دليل على شرطٍ إضافي بعنوان الاستقرار، بل سيأتي أنّ شرط الطمأنينة الذي شرطوه في مختلف أفعال الصلاة كالركوع والسجود، فيه نقاش، وأنّه لم يثبت، وسنتكلّم عن هذه القضية إن شاء الله في بحث تكبيرة الإحرام (المسألة رقم: 583). كما أنّ روايات الصلاة على الدابة وفي السفينة أُخذ فيها عناصر أخر، دون عنصر الاستقرار مثل عنصر القبلة وموضع السجود وتحقّق القيام وغير ذلك، فراجع فإنّه لا دليل على كونها ناظرة لخاصية الاستقرار، وعليه فيجوز الصلاة في الطائرة والسفينة والقطار والحافلات الناقلة مع مراعاة سائر الشروط، ولو كانت هناك حالة من الحركة أو تمايل في المكان، وهكذا.

([20]) أي في حال الضرورة.

([21]) أو غيرها.

([22]) بل الأحوط استحباباً عدم ترك الصلاة في المسجد إلا مع العذر العرفي. هذا وأحكام المسجد هنا لا تشمل غيره مثل التكايا والحسينيّات والمصلّيات وأمثالها.

([23]) قد وردت نصوص كثيرة في تفضيل الصلاة في المسجد الحرام ثمّ المسجد النبوي، وفي بيان عظمة وأهمّية مسجد الكوفة وأنّه يتلو المسجدين في الفضل، وفي بعضها أنّه أهمّ من المسجد الأقصى.

([24]) البحث في المسجد الأقصى:

أ ـ تارةً يقع على مستوى حادثة الإسراء والمعراج وأنّه ما هو المراد من المسجد الأقصى هناك؟ وهذا لا شأن لنا به هنا، وقد ذكر الكثير من مفسّري الإسلام الشيعة والسنّة أنّه المسجد الأقصى اليوم في فلسطين المحتلّة، وثمّة روايات شيعية قليلة أنّ هذا المسجد الأقصى هو في السماء الرابعة أو في السماء، لكنّها ضعيفة سنداً مثل مرسل سلام الحنّاط الذي رواه العياشي، علماً أنّ العياشي نفسه قد روى أيضاً ما يفيد عكس ذلك، وأنّ المسجد الأقصى هو المعروف اليوم. وكذلك رواية إسماعيل الجعفي الواردة في التفسير المنسوب لعليّ بن إبراهيم القمي، فإنّها ضعيفة السند بغير واحد من المجاهيل، بصرف النظر عن نسبة الكتاب أساساً. وعليه فالروايات الشيعية والسنّية أغلبها متوافق على أنّ المسجد الأقصى هناك هو بيت المقدس في فلسطين، والتحقيق في هذه المسألة خارج عن موضوعنا هنا، فنتركه الآن.

ب ـ وأخرى في أنّ هذا المسجد اليوم المسمّى بمسجد بيت المقدس أو المسجد الأقصى، ما هي فضيلته في مصافّ المساجد الأولى ذات الفضيلة من زاوية التراث الإسلامي المعتبر؟ وما هي أهميّة ودرجة الصلاة فيه؟ وهذا هو بحثنا هنا.

أمّا شيعياً، فإنّه وردت رواية أبي حمزة الثمالي في المساجد الأربعة ومنها المسجد الأقصى، وهي ضعيفة بطريق الصدوق إليه؛ فإنّ فيه محمد بن الفضيل وهو في هذه الطبقة مردّد بين الأزدي الضعيف وغيره، والرواية الثانية هي خبر السكوني التي تجعل الصلاة في المسجد الأقصى بألف صلاة، وهي ضعيفة بالنوفلي على التحقيق، ورواها الطوسي في النهاية عن يونس بن ظبيان الكذّاب الوضاع. وعليه فالروايات قليلة جداً قابلة للنقاش إسناداً، فمن الصعب ـ على مستوى الرواية الإماميّة المنفردة ـ إثبات أنّ المسجد الأقصى يقع ـ من حيث فضيلة الصلاة فيه ـ في مستوى المسجد المكّي والمدني ومسجد الكوفة.

وأمّا سنيّاً، فقد وردت فيه عدّة روايات، مثل ما ورد في مسند أحمد بالطريق إلى أبي هريرة أو عائشة ـ الترديد في السند نفسه ـ ما يدلّ على فضيلة المسجد الأقصى بعد مسجد النبيّ مباشرة، بما يدلّ على أنّه لا فضل للمسجد الحرام عليهما! وفي رواية أبي الدرداء أنّ الصلاة فيه تعدل خمسمائة صلاة، وفي رواية أخرى نقلها الدارقطني وغيره أنّها تعدل مائتين وخمسين صلاة، وفي بعضها أنّها تعدل ألف صلاة، مثل خبر ميمونة بنت سعد الذي نقله ابن ماجة وغيره، وفي بعضها أنّها تعدل خمسين ألف صلاة، مثل حديث أنس بن مالك الوارد بسندٍ ضعيف، وفي بعضها أنّها تعدل مائة صلاة، كخبر الأرقم الذي نقله أحمد بن حنبل وابن عبد البرّ وغيرهما. هذا فضلاً عن رواية «لا تشدّ الرحال إلا..»، والتي ادُّعيَ تواترها.

وينبغي هنا التنبّه لأمر، وهو أنّ المسجد الأقصى أخذ موقعاً حسّاساً في العصر الأموي كما نعرف في سياق الصراع مع الزبيريّين في بلاد الحجاز، حتى أراد الأمويّون نقل الحجّ إليه واهتمّوا بعمارته، ولهذا ينبغي الاحتياط في الروايات الواردة فيه، وبخاصّة أنّها لم ترد في الصحيحين على الظاهر ـ عدا رواية لا تشدّ الرحال ـ تماماً كما ينبغي الاحتياط في الروايات الواردة في مسجد الكوفة، حيث يحتمل وضعها لصالح اعتبارات طائفيّة ومناطقيّة، ما لم تبلغ في الكثرة حداً ينعدم فيه هذا الاحتمال.

([25]) التفصيل الوارد في المسجد الجامع ومسجد السوق ومسجد القبيلة لم يثبت بدليلٍ معتبر، ولعلّ النظر لإقامة الجماعات الكبيرة أكثر من المسجد نفسه، والله العالم.

هذا، ولا بأس هنا بالتعرّض لأحد المساجد التي لاقت شهرةً واسعة خلال العقود الأخيرة، وهو مسجد جمكران وأعماله، فمسجد جمكران (أو مسجد صاحب الزمان، وكان يشتهر قديماً باسم مسجد قدمگاه) هو مسجدٌ يقع اليوم في مدينة قم في إيران في منطقة جمكران، ويُنسب للإمام المهديّ، ويبعد عن حرم السيدة فاطمة المعصومة حوالي 10 كيلومترات، كما تُنسب لهذا المسجد أعمال عباديّة ودينية خاصّة. وقد أخذ هذا المسجد شهرةً عظيمة خلال القرن الأخير، وبخاصّة بعد انتصار الثورة في إيران، وصار يحجّ إليه الملايين من الزوار سنويّاً من إيران ومختلف بقاع العالم، بحيث صارت زيارته جزءاً من برامج الزيارة التي يقوم بها الزوّار الكرام. وقد تمّت توسعة المسجد والأبنية والمؤسّسات والمراكز الإدارية التابعة له والباحات وغيرها، بحيث تمّ تصويب وصولها لحوالي 250 هكتاراً. وقد ورد في المنقولات التاريخيّة أنّ الفيض الكاشاني وولده والشيخ البهائي والشيخ محمد تقي المجلسي كانوا يزورون هذا المسجد، وهذا يعني أنّه في العصر الصفوي بدأ هذا المسجد يتخذ حيزاً من الوجود، وبخاصّة في أوساط علماء عُرف عنهم النزعة الروحيّة أو ما يقترب منها. لكن في العصر الحديث تحوّل هذا المسجد إلى محجّة للعديد من العلماء ومراجع التقليد والفقهاء، وصار مصدراً لنقل الكرامات وما يشبهها.

والأقرب أنّه لا شكّ في عدم جواز هتك حرمة هذا المسجد من حيث هو مسجد، ولا شكّ في استحباب الصلاة فيه من حيث هو مسجد أيضاً كسائر مساجد المسلمين. أمّا إثبات انتسابه ـ بشكلٍ أو بآخر ـ للإمام المهدي، فضلاً عن وجود أعمال مستحبّة خاصّة به موقّتة (ليلة الأربعاء أو النصف من شعبان..) أو غير موقتة، أو صلاة بكيفيّة خاصة باسم صلاة صاحب الزمان أو إرسال رسائل للإمام المهدي عبر البئر المخصّصة لذلك، أو غير ذلك، فهذا كلّه مما لا يوجد عليه دليلٌ معتبر بعنوانه.

والمجال لا يسمح لي كثيراً بالتوسّع في الحديث هنا، لكن لا بأس بالإشارة المختصرة لبعض النقاط فقط:

1 ـ إنّ السند التاريخي الأساس لربط هذا المسجد بالإمام المهدي هو القصّة المعروفة للحسن بن مثلة الجمكراني مع الإمام المهدي، والتي وقعت له عام 393هـ (أي في عصر الغيبة الكبرى وفق التصنيف السائد)، وأنّ المهديَّ طلب منه بناء مسجدٍ هنا حتى يتردّد عليه الناس. والمصدر المتوفّر بين أيدينا لنقل هذه القصّة هو الشيخ حسين النوري (1320هـ) في كتابَيه: جنّة المأوى، والنجم الثاقب، وغيرهما، بالنقل عن مخطوطةٍ للسيد نعمة الله الجزائري (وفي بعض كتبه نقلها عن محمّد مهدي بن علي نقي الحسيني القمي (1116هـ)..)، وأنّ الجزائريَّ قام بنقلها عن النصّ المترجم للفارسيّة من كتاب "تاريخ قم" للحسن بن محمد بن الحسن القمي المعاصر للشيخ الصدوق (381هـ)، وأنّ القمي هذا قام بنقل القصّة من كتاب "مؤنس الحزين" للشيخ الصدوق نفسه. كما نسب النوري نقلها في "مستدرك الوسائل" لابن الوحيد البهبهاني (الوحيد البهبهاني متوفى عام 1205هـ). كما نقل هذه القصّة الشيخُ محمد الكچوئي (1335هـ) في كتابه "أنوار المشعشعين في تاريخ قم والقميين"، بالنقل عن كتاب "خلاصة البلدان" للسيد محمد الرضوي القمي (ق 11هـ)، الذي نقلها بدوره عن "مؤنس الحزين" للشيخ الصدوق.

ملاحظة: يتصوّر بعض الناس أنّ العلامة المجلسي نقل هذه القصّة؛ لأنّها موجودة اليوم في الجزء الثالث والخمسين من الطبعة الجديدة من كتاب بحار الأنوار، لكنّه بعد التدقيق يُعلم أنّ القصة هي جزءٌ من كتاب "جنّة المأوى" للمحدّث النوري، المطبوع في كتاب البحار، فانتبه.

هذه القصّة تواجه مشاكل كثيرة، وسأشير باختصار بالغ لبعضها فقط، مثل:

أ ـ إنّ كتاب تاريخ قم في أصله العربي غير موجود الآن، والموجود هو الترجمة الفارسية للكتاب، والتي وقعت عام 865هـ على يد الحسن بن علي بن الحسن القمي، ولكنّها غير كاملة، والمقدار الموجود من هذا الكتاب بالفارسيّة لا توجد فيه هذه القصّة إطلاقاً. بل الراجح من مقارنات نقولات النوري أنّ إبهاماً عجيباً يلفّ الموضوع في نوعيّة المصادر المستقى منها القصّة وتحديدها، وكيف تمّ نقل القصّة بما يستدعي تطويلاً لا يسمح به المجال الآن.

ب ـ لا عين ولا أثر لمخطوطة الجزائري التي يُتكلّم فيها أو تُنقل فيها هذه القصّة.

ج ـ لا يوجد للشيخ الصدوق كتاب باسم مؤنس الحزين، ولم يذكره أحد من علماء الفهارس والرجال والتراجم رغم تفصيلهم كتب الصدوق نفسه، بل إنّ القصّة لو وقعت عام 393هـ فكيف ينقلها الشيخ الصدوق المتوفى عام 381هـ؟! إلا إذا قلنا بوجود تصحيف وأنّ الصحيح هو 373هـ أو 293هـ كما قيل.. نعم ابن الفتال النيسابوري (508هـ) لديه كتاب بهذا الاسم، ولهذا احتمل بعضهم أنّه حصل خلط واشتباه، ولا سيما أنّ بعض الكتب أشارت للنيسابوري بعنوان "الشيخ الصدوق الفتال النيسابوري" فانتبه، وبخاصّة أنّ هذه ليست هي المرّة الأولى التي يُنسب فيها بالخطأ كتابٌ للشيخ الصدوق، فراجع. وعليه فإذا قلنا بأنّ المصدر هو النيسابوري فهذا يعني أنّ بينه وبين القصّة حوالي نصف قرن أو يزيد من الزمن، ولا نعرف مصدر معلوماته عنها، بل لا يوجد بين أيدينا أيّ كتاب للنيسابوري ينقل فيه هذه القصّة!

د ـ لا نملك أيّ معلومات عن مصادر القصّة في كتاب "خلاصة البلدان".

هـ ـ لم يذكر أحد شيئاً عن أعمالٍ مستحبّة مخصوصة بهذا المسجد أو البقعة، فلا عين ولا أثر لهذا المسجد في كتب الأدعية والزيارات، ولا في كتب الفقه والآداب، من نوع: كامل الزيارات، ومصباح المتهجّد، وكتب السيد ابن طاوس، وابن فهد الحلّي، والكفعمي وغيرهم، بل أصحاب الموسوعات الكبرى في التراث الإمامي مثل العلامة المجلسي والسيد هاشم البحراني وأمثالهما لم يشيروا لشيء من هذا القبيل لا في قصّة المسجد ولا حول أعمالٍ مندوبة ترتبط به بخصوصه، بل حتى الشيخ عباس القمي لم ينقل القصّة في "مفاتيح الجنان"، وإنّما نقلها في كتاب "الباقيات الصالحات" فقط، الذي هو بمثابة الحاشية والمستدرك.

و ـ يدّعي العديد من الباحثين المتخصّصين في مجال دراسات تاريخ المساجد أنّه لا ذكر في التاريخ لهذا المسجد من قبل الكتّاب والعلماء الذين يتحدّثون عن المساجد وأنّ أوّل مرّة نجد فيها ذكراً لهذا المسجد هو في كتاب "خلاصة التواريخ" في القرن العاشر الهجري، أي بدايات العصر الصفوي. علماً أنّ الحجر القديم الموجود في المسجد والذي عليه إشارة للبناء وتاريخه، يشير بوضوح لبناء المسجد أو إعادة بنائه عام 1167هـ.

ز ـ إنّ الحسن بن مثلة الجمكراني شخصٌ لا ذكر له في أيّ كتابٍ تاريخي ولا حديثي ولا رجالي ولا فقهي ولا فهرستي ولا كتاب تراجم ولا غير ذلك من كتب المسلمين، فهو مجهول جهالةً تامّة. واللافت أيضاً أنّه لا ذكر له حتى في الكتب المتعلّقة بالمهدويّة والغيبة وغير ذلك إلا في العصر الحديث. مع أنّ المعروف أنّ الشيعة كانوا بحاجة خلال القرن الثالث إلى الخامس الهجري لجمع أيّ قصّة ترتبط بملاقاة الإمام المهدي؛ لرفع إشكاليّة عدم ولادته من جهة وعدم الفائدة من وجوده من جهة ثانية.

ح ـ جوهر القصّة فيه قدرٌ من الإبهام، والعلماء مختلفون في أنّها منام أو يقظة، والسبب هو اضطراب التعابير وتحوّلها بحيث يلتبس الأمر بعض الشيء.

أكتفي بهذا القدر من التعليق على القصّة، إذ مجال التعليق على متنها الداخلي مفتوحٌ أيضاً.

2 ـ إنّ وجود معاجز وكرامات في هذا المسجد، لا يبرّر ربطه بالإمام المهدي أو إعطاءه خصوصيّة إضافيّة، فضلاً عن خصوصيّة تشريعيّة من هذا النوع، خلافاً لما أفاده أمثال السيد موسى الشبيري الزنجاني، فلو سلّمنا تحقّق كرامات وتمّ التثبّت منها، فهذا لا ربط له بالمسجد بالضرورة، بل لعلّه مرتبطٌ بالعلاقة بين الشخص وبين الإمام، غايته أنّ الشخص يعتقد أنّ الإمام مرتبطٌ بالمسجد، فلاحظ ودقِّق.

3 ـ إنّ زيارة العلماء المتأخّرين لهذا المسجد وحديثهم عن حالاتٍ روحيّة لهم فيه، هو الآخر ليس بدليل، لا من الناحية التاريخيّة ولا الواقعيّة ولا الفقهيّة الشرعيّة، فلعلّ هذا ناتج عن اعتقادهم أو ارتباطهم بالإمام روحيّاً، فضلاً عن أنّ سيرة العلماء ـ كما قلنا مراراً ـ لا يُحتجّ بها بل يُحتجّ لها، وبخاصة أنّه لا عين ولا أثر لهذه القضيّة قبل القرن العاشر الهجري. ومن هنا يظهر غرابة دعوى أنّ قصّة المسجد ـ فضلاً عن أعماله ـ هو أمرٌ مسلّم متلقّى بين الشيعة جيلاً بعد جيل، فقبل العصر الصفوي لا نجد شيئاً يُذكر يمكنه إثبات ذلك.

وفي الختام، فإنّ بعض المنقولات الشفويّة تفيد أنّ رأي السيد علي السيستاني، والشيخ فاضل اللنكراني، والسيد كاظم الحائري، والسيد روح الله الخميني، أنّهم لا يعتقدون بوجود أيّ خصوصيّة إضافيّة لمسجد جمكران، لكنّني لا أملك دليلاً على صحّة هذه المنقولات، فيحتاج الأمر للتثبّت بشكل رسمي عبر قنوات موثوقة وواضحة، وبخاصّة أن بعض هؤلاء العلماء يُنقل عنهم العكس، مثل السيد الخميني والشيخ اللنكراني، والله العالم.

([26]) وردت في ذلك ـ أي أفضليّة صلاة المرأة في المخدع والبيت ـ رواية معتبرة وهي صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله× أنّه قال: «صلاة المرأة في مخدعها أفضل من الصلاة في بيتها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في الدار»، وورد مثلها ـ أو شبيهها ـ في مصادر أهل السنّة بطرق معتبرة أيضاً، لكنّ هذه الرواية تفاضل بين الدار والبيت والمخدع، فيفهم منها أفضليّة صلاة المرأة في مكان سكنها على الخروج، لكن هل يمكن لهذه الرواية أن تثبت أنّ صلاتها في البيت أفضل من الصلاة في المسجد الذي وردت في الترغيب في الصلاة فيه عشرات الروايات العامّة ودلّت النصوص عند الفريقين على أنّ النساء في عصر النبيّ كنّ يأتين المسجد؟! وهل هذه الرواية ناظرة لما قابل مطلق خروجها أو خصوص خروجها غير الراجح من ناحية ثانية كمثل الخروج للمسجد مثلاً؟ يبدو أنّ الرواية السنّيّة هنا أوضح في الدلالة؛ لأنّ بعض صياغاتها ترجّح ذلك على الصلاة في المسجد صريحاً. نعم وردت أربع روايات أخرى ضعيفة جداً نقلها الحرّ العاملي في "الوسائل"، تشير لموضوع المساجد، غير أنّه لا يمكن الاعتماد عليها لوحدها، كما وردت نصوص أخرى ضعيفة في كتب أهل السنّة.

وقد ذهب السيد محمد حسين فضل الله إلى عدم الفرق في استحباب الصلاة في المسجد بين الرجال والنساء، وأنّ ما ورد من استحباب صلاة المرأة في بيتها، الملحوظ فيه جانب الستر، وقال: «وأمّا كون الصلاة في البيت أفضل من الصلاة في المسجد فلم أجده إلا بسندٍ ضعيف، وقـد يستفاد من بعض الأحاديث الضعيفة، مثل الوارد عن النبيّ× أنّه قال: «صلاة المرأة وحدها في بيتها كفضل صلاتها في الجمع خمساً وعشرين درجة»، قد يستفاد منه أن الله تعالى يعطيها ثواب ذلك رعاية لها وملاحظة للخصوصيات الناتجة عن ارتباطها الغالب بأمور البيت وشؤونه. ولو فرض ثبوت هذا الحديث وصحته، فإنَّ الذي نستقربه بضميمة أمور أخرى، أنَّ فضل الصلاة في البيت ليس مطلقاً، وذلك بملاحظة أنَّ صلاة المرأة في المسجد جماعة، أو للحصول على الحالة الروحية في مجالس الدعاء، أو للاستماع لأحاديث الوعظ والإرشاد، أو نحو ذلك مما لا يتسنّى لها في بيتها تجعل صلاتها وحضورها في المسجد أفضل من الصلاة في البيت، لا سيما مع مراعاة الستر، بل قد يكون واجباً متعيّناً عليها في بعض الحالات، إذ لا تخفى حاجة المرأة إلى هذه الأمور كحاجة الرّجل إليها، كما أنَّ كتب السيرة قد تحدّثت عن صلاة النساء جماعة مع الرسول‘ في المسجد».

وذهب السيد علي السيستاني إلى القول بأنّ استحباب الذهاب للمساجد عام للرجال والنساء، وأنّ الأفضل للمرأة اختيار ما هو الأستر حتى في بيتها. وفي بعض استفتاءاته قال بأنّه استظهر من مجموع النصوص أنّ الأفضل للمرأة اختيار ما هو أبعد عن مرأى الرجال الأجانب، فإذا تهيّأ لها المكان الذي من هذا النوع في المسجد كانت صلاتها في المسجد أفضل، فيما قال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي بأنّه يستحبّ لهنّ المسجد مع شرط الحفظ التامّ من غير المحارم، وقريبٌ منه ما ذكره الشيخ جوادي آملي.

والأقرب بالنظر ما ذهب هؤلاء العلماء، فإنّ طبيعة هذه الرواية ناظرة لخصوصيّة المبالغة في الستر لا لذات المفاضلة بين المسجد والبيت فقط، في حين أنّ أدلّة استحباب صلاة الجماعة، وكذلك أدلّة استحباب حضور المساجد، عامّة وشاملة للرجال والنساء، وليس هناك انصراف للرجال، وبخاصّة أنّ النساء كنّ يحضرن المساجد باستمرار، ويبدو لي أنّ هذه النصوص تعاظمت بعد فترة من وفاة النبيّ، حيث تشير رواية تُنقل عن عائشة تقول: «لو أنّ رسول الله‘ رأى ما أحدث النساء، لمنعهنّ المساجد كما مُنعت نساء بني إسرائيل»، فهي تشير إلى أنّ النبيّ لم يمنع، بل ورد في بعض النصوص أنّ النبيّ نهى المسلمين عن منع زوجاتهم من الذهاب إلى المساجد لو أردن الذهاب إليها، لكنّ ذهابهنّ للمسجد وغيره فتح باباً للفتنة كما يُفهم من كلام عائشة التي تفترض أنّ النبي لو كان موجوداً ورأى الوضع الحاليَّ لمنع. وحاصل الكلام: إنّ ذهاب المرأة إلى المسجد مستحبّ، لكنّ صلاتها في بيتها أكثر استحباباً بالنظر إلى خاصّية الستر والعفاف، بل لو غضضنا الطرف فإنّه يمكن القول هنا بأنّ المسألة قد تصبح من صغريات باب التزاحم، اذ قد يكون في الذهاب إلى المسجد مصالح دينيّة أعلى من مصلحة البقاء في البيت، وقد يكون العكس، فيترجّح ما هو الأرجح بحسب الزمان والمكان والظرف والحال.

قد يقال: إنّ هذه الرواية وأمثالها مخصِّصة لعمومات استحباب ارتياد المسجد والجماعات الشاملة للنساء؛ إذ النساء كنّ يحضرن المساجد، ومع صدور نصوص من هذا القبيل، فإنّها تريد أن تقول بأنّ البيت أفضل، وأنّ عمومات حضور المسجد لا تشمل المرأة.

ولكنّ هذا الكلام كان يمكن قبوله لولا نكتة الترجيح الملاحظة في هذه النصوص، وهي نكتة الستر والعفاف، والتي تُفهم من مثل التمييز بين الدار والبيت والمخدع وغير ذلك، وبهذا نكتشف أنّ هذه النصوص ترجّح العفاف على حضور المسجد، لا أنّها تُلغي استحباب حضور المساجد، ولهذا ورد في بعض هذه الروايات أنّه لا تمنعوهنّ حضور المسجد، ولكن بيوتهنّ خيرٌ لهنّ، فإنّ تعبير "خير لهنّ" الواقع ضمن هذا السياق، يدلّ على ترجيح البيت على المسجد، لا على إلغاء أصل استحباب حضور المسجد لهنّ، فتأمّل جيّداً.

والحاصل: إنّ حضور المسجد للنساء مستحبّ كالرجال، غاية الأمر أنّه لخصوصية الستر والعفاف وتجنّب محاذير الفتنة يرجّح لهنّ البقاء في البيت والصلاة فيه، وهذا أمر يمكننا فهمه اجتماعياً وميدانياً، فقد رأينا في حياتنا أنّ نسبة الاختلاط وبعض العلاقات غير المحمودة بين بعض الرجال والنساء بسبب ارتياد النساء والرجال معاً للمساجد والحسينيات سبّب بعض المشاكل الأخلاقيّة. والنصوص تشرح لنا أنّ الفاصل بين الرجال والنساء في العصر النبويّ لا يبدو أنّه كان مرتفعاً بحيث يمنع الطرفين من رؤية بعضهما بعضاً داخل المسجد، كما أنّ بعض النصوص تشير إلى أمر النساء وهنّ في المساجد أن لا يرفعن رؤوسهن من السجود قبل الرجال؛ لأنّ ملابس الرجال كانت قصيرة، فقد ترى النساء شيئاً لا ينبغي لهنّ رؤيته، وهكذا، فيلزم فهم هذه النصوص ضمن هذا السياق الاجتماعي. وبهذا نستنتج أنّ الجهات المؤمنة المسؤولة عن المساجد والحسينيّات والمزارات والمشاعر والبرامج الدينية العامّة وغيرها مما يجتمع فيه المؤمنون من الجنسين، عليهم أن ينظّموا الأمور بأعلى طريقة ممكنة تحول دون وقوع مشاكل أخلاقيّة، تحقيقاً لأعلى ضمانات السلامة الأخلاقيّة والروحيّة، فإذا حصل ذلك وتحقّقت الغاية من وراء ترجيح البيت لهنّ، صار بإمكانهنّ ـ كغيرهنّ ـ الالتحاق بالمساجد والجماعات دون محذور، ولو كان محذوراً لا يرتقي لمستوى التحريم، كما في مفروض حديثنا كلّه. ومنه يعلم أنّ هذه المحاذير لو ارتفعت عاد حكم استحباب الصلاة في المسجد لهنّ إلى وضعه الطبيعي كما في القواعد من النساء مثلاً وهكذا.

([27]) هذه الرواية نقلها ـ بغير إسنادٍ أصلاً ـ الشيخ خضر بن شلال آل خدّام العفكاوي (1255هـ)، في كتابه (أبواب الجنان وبشائر الرضوان: 204)، وتمّ تخريجها في هامش الكتاب من كتاب مصابيح الجنان عن مدينة العلم للشيخ الصدوق، وهي ـ على ضعفها صدوراً ـ خاصّة بالصلاة عند الإمام عليّ×، دون مطلق المشاهد، كما أنّ مراجعة كتب الحديث لا تعطي أفضليّة الصلاة في المشاهد على الصلاة في المساجد، بصرف النظر عن المساجد الواقعة في تلك المشاهد. وأمّا ما أورده ابن قولويه في الباب الثالث والثمانين من (كامل الزيارات: 433 ـ 435)، تحت عنوان: أنّ الصلاة الفريضة عنده ـ يقصد الإمام الحسين ـ تعدل حجّة والنافلة عمرة، فهو عبارة عن خمس روايات فقط، الأولى منها ضعيفة بإرسال ابن أبي عمير عن رجل، والثانية ضعيفة بغير واحدٍ منهم أبو عبد الله الجاموراني الرازي المضعَّف، والثالثة ضعيفة بأبي علي الحرّاني الذي لم يذكر له أيّ توثيق، والرابعة عين الثالثة والظاهر أنّ "الخزاعي" فيها هو تصحيف "الحراني" الذي له كتاب، فترجعان لرواية واحدة والله العالم. أمّا دلالةً فالأولى والثانية تدلّ على فضلٍ عظيم جداً لكنّها لا تصرّح بأفضليّة الصلاة في المشاهد على المساجد، وإنّما يُستنتج ذلك استنتاجاً من مقارنة الثواب والفضل، أمّا الثالثة والرابعة فتدلّ على فضل مجموع زيارته والصلاة عنده، لا على خصوصيّة الصلاة وحدها كما هو مفروض حديثنا، وأمّا الخامسة والأخيرة فتذكر فضل زيارته والصلاة عنده دون أيّ إشارة للأفضليّة أو لثوابٍ مثل ذاك الذي في الروايتين الأولى والثانية. والحاصل أنّنا أمام روايات قليلة العدد غالبها ضعيف الإسناد، بعضها ليس بدالّ أصلاً، وغايتها ـ لو تمّت ـ إثبات أفضليّة الصلاة في مقامَي الإمامين: علي والحسين، وليس مطلقاً، نعم الرواية الثالثة والرابعة في كامل الزيارات تعطي التعميم لكلّ الأئمّة دون غيرهم، غير أنّنا قلنا بأنّها ليست بدالّة أساساً.

وقد حاول بعض الفقهاء الاستناد إلى خبر ابن أبي عمير عن بعض أصحابه، قال: قلت لأبي عبد الله×: إنّي لأكره الصلاة في مساجدهم، فقال: «لا تكره، فما من مسجدٍ بُني إلا على قبر نبيّ أو وصيّ‌ نبيّ قتل فأصاب تلك البقعة رشّة من دمه، فأحبّ‌ الله أن يُذكر فيها، فأدّ فيها الفريضة والنوافل واقض ما فاتك» (الكافي 3: 370 ـ 371)، بتقريب أنّ‌ أوصياء خاتم الأنبياء أفضل من غيرهم من الأنبياء والأوصياء، وهذا يستلزم أفضليّة مشاهدهم الشريفة من سائر المساجد التي بُنيت على دمائهم.

ولكنّه قابل للنقاش؛ وذلك أنّه لو قصد منه أنّ كلّ مسجدٍ إلى يوم القيامة هو كذلك، يلزم أن يكون عدد الأنبياء والأوصياء المقتولين ـ فضلاً عن غيرهم ـ بالملايين إذ يقال اليوم بأنّ عدد المساجد في العالم يتخطّى الثلاثة ملايين مسجداً، وهو خلاف بعض النصوص الدالّة على أنّ عدد الأنبياء كلّهم هو أقلّ من ذلك، ومع الغض عنه، فإنّ الحديث ليس دالاً على أنّ تمام فضيلة المسجد تكمن في وجود القبر أو دم النبيّ فيه، بل يريد أن يقنعه بحثيثيّة إيجابيّة في كلّ مسجد بحيث ولو كان لغير الشيعة فإنّ الصلاة فيه لا شأن لها بمن يؤمّه أو يوقفه مسجداً، بل هو في نفسه له قدسيّة، فالانتقال من هذا الخبر إلى كليّة معياريّة المدفون مثلاً، ثمّ الانتقال من كليّة ذلك إلى كليّة أفضليّة الأئمّة على الأنبياء، ثم إثبات أنّ المشاهد أفضل بهذه الخصوصيّة حتى لو لم تكن بنفسها مسجداً، فيه تكلّف واضح. وبعبارة أخرى: إنّ هؤلاء الفقهاء أضافوا قاعدةً اعتباريّة ليست موجودة في النصّ، وهي التفاضل بملاك تفاضل المدفون في المسجد، لإثبات أفضليّة غير المسجد على المسجد نفسه، والمفروض أنّ هذا هو جوهر حديثنا الذي يحتاج إلى استدلال. هذا مضافاً على أنّ الخبر مرسل في الكافي قبل ابن أبي عمير وبعده، وفي التهذيب مرسل بعد ابن أبي عمير.

واللافت أنّ السيد محمّد سعيد الحكيم حذف في منهاجه الجملة المتوسّطة هنا، وهي: «بل قيل: إنّها أفضل من المساجد»، وكأنّه لا يرى هذه الأفضليّة، والله العالم. هذا، ولا يبدو واضحاً ما ذكره السيد علي الخامنئي في (رسالة الصلاة والصوم: 40)، من استحباب الصلاة في مقامات الأولياء والصالحين والعلماء، من غير الأنبياء والأئمّة، فهذا ما لم يرد بعنوانه في كتابٍ ولا سُنّة، ولعلّ مستنده بعض العمومات وما يفهم من سياق بعض مكروهات الأمكنة، كما سوف نشير لاحقاً عند التعليق على المسألة رقم: 566، والعلم عند الله.

([28]) حضور المساجد وعمارتها بالمؤمنين والصلوات مستحبّ ووردت فيه روايات كثيرة، أمّا كراهة تعطيل المسجد فلم تثبت، بل غايته أنّه تركُ مستحبٍّ مؤكّد، فالروايات في مفهوم التعطيل قليلة العدد جداً قابلة للنقاش إسناداً، وعليه فيستحبّ عمارة المساجد بالصلوات، أمّا كراهة تعطيلها فلم تثبت، إلا إذا قلنا بأنّ ترك المستحب أمرٌ مكروه!

([29]) النصوص في موضوع جيران المسجد كثيرة وعديدة عند الفريقين، لكنّ الكلام في أنّه هل هذا التشدّد في حضور جيران المسجد للمسجد هو لذات الحضور أو للإتيان بالصلاة جماعة، حيث تقام في المسجد دون غيره عادةً؟ الظاهر أنّه من الصعب الوثوق بكون المعيار هو نفس الصلاة في المسجد، ومن ثم فالإفتاء بكراهة أن يصلّي جار المسجد في غير المسجد غير واضحة، بل القدر المتيقّن من ذلك هو حضور الجماعات في المساجد القريبة وعدم تركها، وسوف يأتي إن شاء الله في مطلع بحث صلاة الجماعة كلامٌ غير قليل في وجوب صلاة الجماعة أو أنّها مستحبّة، وعليه فالمستحبّ ـ على الأقلّ ـ لجار المسجد هو حضور الجماعات المقامة في المسجد القريب منه، أمّا كراهة عدم الحضور، أو ربط الأمر بذات المسجد دون وجود الجماعات فيه، فغير واضح على مسلك الوثوق الاطمئناني في حجيّة الخبر، وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار القدر المتيقّن من مجموع نصوص الباب وسياقاتها، وبخاصّة الرواية النبويّة المشهورة التي هدّد فيها النبيُّ بإحراق دور من لا يحضر المسجد من جيرانه.

([30]) هذا هو المصطلح عليه في الفقه الإسلامي بـ "سترة المصلّي"، وهنا نقاط:

أ ـ إنّ وضع السترة مستحبّ مرغوب إليه، دلّت على ذلك نصوصٌ عديدة عند الفريقين، وذهب إلى الاستحباب جمهور فقهاء الإسلام، وكان ذلك من سنّة الرسول‘.

ب ـ إنّ القدر المتيقّن من استحباب السترة هو حالة خوف مرور أحد، خلافاً للعديد من الشافعية والحنابلة الذين عمّموا الحكم لحالة خوف المرور وعدمه.

ج ـ إنّ مرور شخصٍ أمام المصلّي الواضع للسترة أو غير الواضع لها لا يوجب بطلان الصلاة، باتفاق المذاهب الفقهيّة الأربعة مع الفقه الجعفري، وبعض المذاهب مثل الحنابلة تكلّمت عن بطلان الصلاة بمرور الكلب الأسود، لكنّه يفتقد إلى دليلٍ قويّ.

د ـ إنّ هذه الأحكام تجري في غير المواضع التي تكون فيها تجمّعات كبيرة مكتظّة، كمكّة المكرّمة في مثل موسم الحجّ، وقد وردت بعض الروايات في مكّة، والظاهر أنّه لا خصوصيّة لها؛ لأنّ العبرة بالزحام وصعوبة عدم المرور أمام المصلّي، كما وصعوبة أن يضع كلّ شخص حاجزاً أمامه، وعليه ففي مثل المشاهد المشرّفة أو نحو ذلك في حالات الاكتظاظ يكون الحكم هو عينه الحكم في مكّة، والله العالم.

([31]) هناك موارد لم يثبت فيها الكراهة وهي: مرابض الغنم، ومجاري المياه، والأرض السبخة، وبيت النار كالمطبخ، وفي المقبرة وبين القبور وأمامه قبر وبين قبرين، وبيت فيه جنب، وبعض آخر، أمّا سائر الأمور فالذي أفهمه بضمّ هذه النصوص إلى بعضها، مع ما تقدّم، وهي بمجملها كثيرة، هو أنّها في الغالب جاءت لبيان أمثلة لعناوين أربعة يكره فيها الصلاة:

أ ـ كون المكان قذراً أو يحتمل معه لحوق النجاسة للمصلّي أو لا يليق في نظافته المادية أو المعنويّة بالصلاة لله تعالى فيه، ومن ذلك ما ورد في الصلاة في المزبلة، والمجزرة، والموضع المعدّ للتخلّي، وأن يصلّي وأمامه حائط ينزّ من بالوعة يبال فيها أو كنيف، أو يكون قدّامه عذرة، وفي معاطن الأبل وأمثالها، وفي بيت فيه خمر أو مسكر.

ب ـ كون المكان أو الحالة مما فيه شائبة التوجّه لغير الله، وبخاصّة ممن لم يكن متشبّعاً بالإسلام، ومنه ما ورد في الصلاة وأمامه نار مضرمة أو سراج، وفي بعض النصوص التركيز على أنّه إذا كان من أسرة مجوسيّة أن لا يفعل ذلك، أو تمثال ذي روح أو صورة.

ج ـ كون المكان أو الحالة مما فيه ما يخلّ بتوجّه العبد للصلاة بحيث يشتّته، ومن ذلك ما ورد في عدم الصلاة وأمامه مصحف مفتوح أو كتاب مفتوح أو ينظر في خاتمه ليقرأ ما فيه، أو يكون أمامه صورة، أو يكون أمامه إنسان، وربما منه الصلاة في المقابر.

والفرق بين (ب) و (ج)، أنّ (ب) لشبهة عبوديّة غير الله والتحرّز عن الوقوع في ذلك أو ما يشبهه، بينما (ج) للتشتت أثناء عبادة الله وحده عن التركيز على عبادته.

د ـ كون المكان بحيث يمكن أن تُلحِق الصلاة فيه ضرراً بالآخرين أو مزاحمة ولو لم يتحقّق ذلك بالفعل، مثل وسط الطريق وجادّته، بل يذهب يميناً أو شمالاً على حافّته.