hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (مكان المصلّي ـ القسم الأوّل)

تاريخ الاعداد: 8/28/2024 تاريخ النشر: 8/29/2024
1211
التحميل

حيدر حبّ الله

 

هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(22 ـ 8 ـ 2024م) 


 

المقصد الرابع

مكان المصلي‌

(مسألة 536): لا تجوز الصلاة، فريضة أو نافلة، في مكان يكون أحد المساجد السبعة فيه مغصوباً([1])، عيناً أو منفعة، أو لتعلّق حقّ موجب لعدم جواز التصرّف فيه، ولا فرق في ذلك في مسجد الجبهة بين العالم بالغصب والجاهل به على الأظهر. نعم إذا كان معتقداً عدم الغصب، أو كان ناسياً له، ولم يكن هو الغاصب صحّت صلاته([2]). وكذلك تصحّ صلاة من كان مضطراً أو مكرَهاً على التصرّف في المغصوب كالمحبوس بغير حقّ، والأظهر صحّة الصلاة في المكان الذي يحرم المكث فيه لضررٍ على النفس أو البدن، لحرٍّ أو برد أو نحو ذلك، وكذلك المكان الذي فيه لعب قمار أو نحوه([3])، كما أنّ الأظهر صحّة الصلاة فيما إذا وقعت تحت سقف مغصوب أو خيمة مغصوبة.

مسألة 537: إذا اعتقد غصب المكان، فصلّى فيه بطلت صلاته، وإن انكشف الخلاف([4]).

مسألة 538: لا يجوز لأحد الشركاء الصلاة في الأرض المشتركة إلا بإذن بقيّة الشركاء، كما لا تجوز الصلاة في الأرض المجهولة المالك إلا بإذن الحاكم الشرعي([5]).

مسألة 539: إذا سبق واحدٌ إلى مكانٍ في المسجد فغصبه منه غاصب، فصلّى فيه، ففي صحّة صلاته إشكال([6]).

مسألة 540: إنّما تبطل الصلاة في المغصوب مع عدم الإذن من المالك في الصلاة، ولو لخصوص زيد المصلّي، وإلا فالصلاة صحيحة([7]).

مسألة 541: المراد من إذن المالك المسوّغ للصلاة أو غيرها من التصرّفات، أعمّ من الإذن الفعليّة بأن كان المالك ملتفتاً إلى الصلاة مثلاً وأذن فيها، والإذن التقديريّة بأن يُعلم من حاله أنّه لو التفت إلى التصرّف لأذِنَ فيه، فتجوز الصلاة في ملك غيره مع غفلته إذا عُلم من حاله أنّه لو التفت لأذِن.

مسألة 542: تعلم الإذن في الصلاة، إمّا بالقول كأن يقول: صلّ في بيتي، أو بالفعل كأن يفرش له سجّادة إلى القبلة، أو بشاهد الحال كما في المضائف المفتوحة الأبواب ونحوها، وفي غير ذلك لا تجوز الصلاة ولا غيرها من التصرّفات، إلا مع العلم بالإذن ولو كان تقديريّاً، ولذا يشكل في بعض المجالس المعدّة لقراءة التعزية الدخول في المرحاض والوضوء بلا إذن، ولا سيما إذا توقّف ذلك على تغيّر بعض أوضاع المجلس من رفع ستر أو طيّ بعض فراش المجلس أو نحو ذلك مما يثقل على صاحب المجلس، ومثله في الإشكال كثرة البصاق على الجدران النَّزِهَة، والجلوس في بعض مواضع المجلس المعدّة لغير مثل الجالس، لما فيها من مظاهر الكرامة المعدّة لأهل الشرف في الدين مثلاً، أو لعدم كونها معدّة للجلوس فيها، مثل الغطاء الذي يكون على الحوض المعمول في وسط الدار، أو على درج السطح، أو فتح بعض الغرف والدخول‌ فيها. والحاصل أنّه لا بد من إحراز رضا صاحب المجلس في كيفيّة التصرّف وكمّه، وموضع الجلوس، ومقداره، ومجرّد فتح باب المجلس لا يدلّ([8]) على الرضا بكلّ تصرّف يشاء الداخل.

مسألة 543: الحمامات المفتوحة والخانات، لا يجوز الدخول فيها لغير الوجه المقصود منها، إلا بالإذن، فلا يصحّ الوضوء من مائها والصلاة فيها إلا بإذن المالك أو وكيله. ومجرّد فتح أبوابها لا يدلّ على الإذن في ذلك، وليست هي كالمضايف المسبلة للانتفاع بها([9]).

مسألة 544: تجوز الصلاة في الأراضي المتسعة والوضوء من مائها وإن لم يعلم الإذن من المالك، إذا لم يكن المالك لها صغيراً أو مجنونا أو عُلم كراهته، وكذلك الأراضي غير المحجّبة، كالبساتين التي لا سور لها ولا حجاب، فيجوز الدخول إليها والصلاة فيها وإن لم يعلم الإذن من المالك. نعم إذا ظنّ كراهة المالك فالأحوط الاجتناب عنها([10]).

مسألة 545: الأقوى صحّة صلاة كلّ من الرجل والمرأة إذا كانا متحاذيين حال الصلاة، أو كانت المرأة متقدّمة إذا كان الفصل بينهما مقدار شبر أو أكثر، وإن كان الأحوط استحباباً أن يتقدّم الرجل بموقفه على مسجد المرأة، أو يكون بينهما حائل، أو مسافة عشرة أذرع بذراع اليد، ولا فرق في ذلك بين المحارم وغيرهم، والزوج والزوجة وغيرهما، نعم يختص ذلك بصورة وحدة المكان بحيث يصدق التقدّم والمحاذاة، فإذا كان أحدهما في موضعٍ عال، دون الآخر على وجهٍ لا يصدق التقدّم والمحاذاة، فلا بأس([11]).

مسألة 546: لا يجوز التقدّم في الصلاة على قبر المعصوم إذا كان مستلزماً للهتك وإساءة الأدب، ولا بأس به مع البُعد المفرط، أو الحاجب المانع الرافع لسوء الأدب، ولا يكفي فيه([12]) الضرائح المقدّسة ولا ما يحيط بها من غطاء ونحوه([13]).

مسألة 547: تجوز الصلاة في بيوت من تضمّنت الآية جواز الأكل فيها بلا إذن مع عدم العلم بالكراهة، كالأب، والأم، والأخ، والعم، والخال، والعمّة، والخالة، ومن ملك الشخص مفتاح بيته، والصديق. وأمّا مع العلم بالكراهة فلا يجوز([14]).

مسألة 548: إذا دخل المكان المغصوب، جهلاً أو نسياناً، بتخيّل الإذن، ثمّ التفت وبان الخلاف، ففي سعة الوقت لا يجوز التشاغل بالصلاة ويجب قطعها([15])، وفي ضيق الوقت يجوز الاشتغال بها حال الخروج مبادراً إليه سالكاً أقرب الطرق، مراعياً للاستقبال بقدر الإمكان، ويومي للسجود ويركع، إلا أن يستلزم ركوعه تصرّفاً زائداً فيومي له حينئذ، وتصحّ صلاته ولا يجب عليه القضاء. والمراد بالضيق أن لا يتمكّن من إدراك ركعة في الوقت على تقدير تأخير الصلاة إلى ما بعد الخروج([16]).

___________________________

([1]) المكان تعبيرٌ يطلق تارةً على ما يستقرّ عليه الإنسان، وأخرى على الفضاء الذي يحجزه ويشغله، ومن الواضح أنّ السيد الماتن يرى شرطيّة الإباحة في المكان بالمعنى الأوّل هنا دون الثاني، والأقرب أنّه لا تجوز الصلاة والحركات التي في داخلها في المكان المغصوب بالمعنى الأوّل والثاني تكليفاً، فيكون قد ارتكب حراماً، أمّا وضعاً ـ بطلان الصلاة ـ فهو مربوط بإمكان قصد القربة، ففي كلّ مورد يمكن أن يجتمع فيه حقيقةً قصد القربة مع الغصب الواقعي تصحّ الصلاة، وإلا تبطل لعدم تأتي قصد القربة الذي هو شرطٌ فيها، فليس هو شرط مستقلّ.

وقد كان غير واحدٍ من الفقهاء تردّد في الحكم الوضعي هنا، وبعض المحشّين على العروة وغيرهم احتاط وجوباً ولم يفتِ، كالسيد الميلاني والسيد السيستاني والسيد حسن القمي والسيد محمود الهاشمي والشيخ ناصر مكارم الشيرازي والسيد موسى الشبيري الزنجاني والشيخ جوادي آملي وغيرهم. وتفصيل السيد الماتن مبنيّ على تدقيقات بعضها راجع لبحث اجتماع الأمر والنهي، وبعضها الآخر راجع لكيفيّة فهمه لأجزاء الصلاة، وعلى سبيل المثال فإنّ الهويّ للسجود ليس جزءاً من الصلاة، بل هو مقدّمة الجزء، والجزء هو السجود نفسه وهكذا، والمجال لا يتّسع للتفصيل، بل لديّ ملاحظات منهجيّة على طريقة معالجة مثل هذه الأمور عند جمهور المتأخّرين.

قد يقال ـ كما ذكره بعض المعاصرين ـ أنّه وإن قيل بإمكان اجتماع الأمر والنهي إلا أنّ هناك أمراً مركوزاً في ذهن العقلاء، وهو عدم صلاحية الفعل المبعّد عن المولى للمقربيّة إليه، وإن تمشّى منه قصد القربة، مع العلم والعمد أو الجهل التقصيري.

والجواب: إنّه بعد تحقّق قصد القربة منه، يكون ما أتى به متقرّباً هو المعنون المفروض عدم اتحاده مع الآخر بناء على اجتماع الأمر والنهي، فهو لم يأتِ بفعلٍ هو في ذاته مبغوض للمولى، بل ما أتى به محبوب، غاية الأمر أنّ الإتيان بالمحبوب تزامن والتصق بالإتيان بالمبغوض، فلو تأتّى منه قصد القربة لم يكن هناك ارتكاز البطلان، يضاف على ذلك أنّ عنوان المقرّبية ليس عنواناً حقيقيّاً ـ خلافاً للعرفاء ـ بل هو بمعنى الخضوع لأمر المولى وتحصيل رضاه، والمولى هنا وإن كان غاضباً من فعل الغصب لكنّه أيضاً يلاحِظ أنّ المكلف أتى بالصلاة، فأيّ مانع ـ بناء على الفهم العقلائي لقضيّة اجتماع الأمر والنهي، دون الفهم العقلي ـ من الجمع بين الأمرين، فيكون راضياً عنه وغاضباً في الوقت نفسه بلحاظين، بناء على جواز الاجتماع، كما هو مفروض القائل هنا.

هذا، ومن تعليقتنا هذه يظهر الموقف من سلسلة من الفروع التي ذكرها الماتن هنا، فلا نطيل.

([2]) وفقاً لما ذكرناه في التعليقة الآنفة، فإنّ الصلاة تصحّ في كلّ أشكال الجهل والنسيان، موضوعاً أو حكماً، قصوراً أو تقصيراً، غاصباً أو غيره؛ حيث يمكن اجتماع الغصب فيها مع قصد القربة، حتى لو فرض كونه مأثوماً من جهة التقصير والغصب، فالأمرُ راجع لواقع المكلف وما صدر منه.

([3]) مراده المكان الذي فيه معصية تُقام، ولعبُ القمار ليس سوى مثال.

([4]) مع فرض عدم تحقّق قصد القربة منه.

([5]) في مورد ثبوت الولاية له على هذا المال مجهول المالك.

([6]) لا يحقّ لأيّ شخص أخذ المكان الذي سبقه إليه غيره في مثل المسجد، لكنّه لو فعل ذلك تصحّ صلاته، مع تأتي قصد القربة منه.

([7]) من الواضح انتفاء الموضوع هنا مع الإذن ولو كان بملاحظة الصلاة فقط، والسيد الماتن إنّما ذكر ذلك ليقول بأنّه قد يغصب زيدٌ وعمروٌ مكاناً مثلاً فيكون مغصوباً، لكنّ المالك يسمح لزيدٍ خاصّة مثلاً بالصلاة فيه دون ما هو غير ذلك، فالمكان مغصوب بالعنوان العام، لكنّ الصلاة لا تقع في المغصوب بعد فرض الإذن.

([8]) مراده أنّه لا يدلّ بالضرورة ومطلقاً.

([9]) من الواضح أنّ السيّد الماتن يمارس عمليّة تطبيق القاعدة على مجموعة أمثلة ومصاديق، والقاعدة أصبحت واضحة.

([10]) قد تقدّم التعليق على ما أفاده الماتن في هذه المسألة بتفاصيلها، وذلك عند التعليق على المسألة رقم: 135، في مبحث شروط الوضوء، فإنّها هي نفسها، فراجع.

([11]) المشهور بين الفقهاء المتقدّمين بطلان الصلاة هنا، لكن ذهب بعض الفقهاء المتأخرين ـ وقيل بأنّه المشهور بينهم ـ إلى جواز الصلاة هنا مطلقاً، ومن متأخّري المتأخّرين ممن ذهب إلى ذلك (الجواز): السيد محمّد باقر الصدر، والسيد محمد محمد صادق الصدر، والشيخ المنتظري، والسيد محمّد سعيد الحكيم، والسيد فضل الله، والسيد الخميني، والشيخ الصانعي، والشيخ جوادي آملي، وغيرهم. وبنى بعضهم المسألة على الاحتياط الوجوبي كالسيّد السيستاني، والسيد عبد الكريم الأردبيلي، والسيد الخامنئي، وغيرهم.

والأقرب بالنظر هو ما ذهب إليه السيّد الماتن، موافقاً من المتقدّمين الشيخَ الجعفي، وحاصله: إنّه إذا لم تكن المرأة تصلّي أو لم يكن الرجل يصلّي فإنّه لا بأس بالصلاة ولو كان الطرف الآخر متقدّماً عليه يقف أو يجلس أمامه أو محاذياً له يميناً أو شمالاً أو غير ذلك، حتى لو كان ملاصقاً له؛ وذلك لمقتضى الأصل، بل النصوص الخاصّة المرخّصة هنا. وأمّا في حال صلاتهما معاً، فإذا تأخّرت المرأة عن الرجل فلا بأس؛ للأصل ودلالة النصوص الخاصّة أيضاً، وأمّا مع المحاذاة يميناً أو شمالاً أو مع تقدّم المرأة، فيجب أن لا يلتصقا ببعضهما، بحيث يلزم أن يكون بينهما مقدار شبرٍ ـ وهو الذراع ـ على الأقلّ، فإنّ هذا هو القدر المتيقّن من مجموع النصوص، والأحوط استحباباً عشرة أذرع. وباقي تفاصيل المسألة مما ذكره الماتن صحيح.

([12]) أي في المانع الرافع لسوء الأدب.

([13]) لعلّ المشهور بين فقهاء الإماميّة هو القول بكراهة التقدّم على قبر المعصوم في الصلاة (استدبار القبر)، وكذلك التساوي، فلو صلّى وجعل القبر خلفه فهو مكروه. لكن ذهب بعضهم ـ ولعلّ من أوائلهم الشيخ البهائي في القرن الحادي عشر الهجري، وتبعه بعض المتأخّرين ـ فقالوا بالمنع عن التقدّم على قبر المعصوم، وقد بحث الفقهاء هذه المسألة في باب مكان المصلّي، كما فعله الماتن. غير أنّ العديد من الفقهاء المتأخّرين والمعاصرين ـ بل لعلّه المشهور بينهم اليوم ـ رفضوا القول بالمنع، بل بعضهم رفض حتى الكراهة إلا على مبنى التسامح في أدلّة السنن، وخصّصوا المنع عن التقدّم أو التساوي بحالة ما لو لزم منهما هتك حرمة المعصوم أو سوء الأدب معه، ولهذا قالوا بأنّه مع الحائل أو المسافة البعيدة يرتفع هذا المحذور ولا يكون هناك بأس. نعم احتاط بعضهم.

والأقوى أنّه لم يثبت لا حرمة ولا كراهة التقدّم ولا التساوي على قبر المعصوم، لا في الصلاة ولا في غيرها، ما لم يلزم منه عنوان ثانوي تحريمي أو كراهتي، مثل هتك الحرمة ونحو ذلك، فتصحّ الصلاة مطلقاً بالعنوان الأوّلي ولا يكون قد ارتكب حراماً. ومنه يعلم أنّه لا فرق بين قبر المعصوم وغيره مع وجود العنوان الثانوي التحريمي أو مع عدمه.

والمستند الأساس هنا في التساوي مرسلة الحميري في الاحتجاج، وهي على ضعفها السندي وتفرّدها بهذا الحكم، معارضة برواية الحميري نفسها في مصادر أخر؛ حيث تنصّ تلك على جواز الكون عن اليمين والشمال من القبر. وأمّا المنع عن التقدّم، فعمدته ثلاث روايات إحداها عين مرسلة الاحتجاج المتقدّمة، والثانية ضعيفة بعبد الله الأصَمّ المتَّهَم بالكذب والغلوّ، والثالثة هي رواية الحميري الواردة بطريق الطوسي، وهي العمدة. والتحقيق عدم صحّتها سنداً، ليس فقط لاحتماليّة الإرسال فيها من قبل الراوي، بل لمشاكل أخرى تتصل بمحمّد بن أحمد بن داود وطريق الطوسي إليه. هذا فضلاً عن أنّ الكلّ هنا خبرٌ آحادي، فتتميمُ القول بالحرمة أو الكراهة مشكلٌ. والاحتياط حسنٌ.

هذا، وأمّا قول السيّد الماتن في آخر المسألة بأنّه لا يكفي في المانع الرافع لسوء الأدب الضرائحُ المقدّسة ولا ما يحيط بها من غطاء ونحوه، فهذا تشخيص مصداقي منه ـ رحمه الله ـ وليس فتوى ذات مستند شرعي مستقلّ، فانتبه.

([14]) هنا نقطتان:

النقطة الأولى: إنّ الآية القرآنيّة الكريمة (النور: 61) دلّت على حليّة الأكل من هذه البيوت، ولم تُشِر لموضوع الصلاة، لكنّ الفقهاء ذكروا أنّ تحليل الأكل ـ وهو يتضمّن الإتلاف ـ يدلّ بالفحوى على تحليل الصلاة في هذه البيوت مما لا يتضمّن الإتلاف، بل إنّ هناك ملازمة بين تحليل الأكل من هذه البيوت وبين الدخول فيها والمشي وغير ذلك، من هنا جرى العبور من المفاد الحرفي للآية إلى ما نحن فيه. وأصل الأخذ بهذه الآية يبدو أنّه متفق عليه بين المسلمين لم يخالف فيه إلا عدد قليل نادر، كما فيما نُسب إلى الجبائي من أنّ هذه الآية منسوخة.

النقطة الثانية: ليس في الآية أيّ تقييد بكون جواز الأكل من هذه البيوت مشروطاً بشيء، ومقتضى الإطلاق هو أنّه يجوز الأكل منها سواء كان المالك راضياً أم لا، علمنا برضاه أو عدم رضاه أم لا، ظننا بهما ظنّاً معتبراً أو غير معتبر أم لا، لكنّ جمهور الفقهاء قيّد الحكم هنا بحالة عدم العلم بكراهة المالك، وبعضهم استشكل حتى في حالة الظنّ أيضاً. بل لعلّه ظاهر السيد الماتن في كتاب الأطعمة والأشربة من الجزء الثاني من المنهاج، في المسألة رقم: 1700؛ لقوّة احتمال الاحتياط الوجوبي من كلامه هناك، وإن كان احتاط استحباباً في صورة الشكّ. كما أنّه هناك قيّد الترخيص في الأكل من هذه البيوت بأن يكون على النحو المتعارف، ولم يقيّد هنا إقامة الصلوات بأن تكون على النحو المتعارف. كما أنّه هناك عمّم الحكم للزوجة والولد (وبعض الفقهاء صرّح بالتعميم للزوج أيضاً)، بمعنى الأكل من بيوت الزوجات والأولاد، دون أن ينصّ عليه هنا. كما أنّه هنا عبّر بمن ملك الشخص مفتاح بيته، فيما عبّر هناك بالموكّلَ المفوَّض إليه الأمر. وعلى أيّة حال فتفاصيل مسألة الأكل نعلّق عليها في كتاب الأطعمة والأشربة إن شاء الله.

ومستند الاستثناء المشار إليه هو أنّ هذا الحكم في الآية حكم ظاهري، والطريق الظاهري لا معنى له في صورة العلم بالخلاف، مضافاً إلى الإجماع، وربما التسالم، على عدم الجواز في حال العلم بالكراهة. ومعه يكون الفرق بين هذه البيوت وغيرها أنّه في غيرها لا تجوز الصلاة، فضلاً عن الأكل، إلا بعد إحراز الإذن، أمّا فيها فتجوز بلا حاجة لإحراز الإذن، نعم لا تجوز مع العلم بالكراهة وسلب الإذن.

وفي تفسير الآية فقهيّاً، فإنّ مجموع ما ذكره المفسّرون والفقهاء هنا يرجع مهمُّه لثلاثة احتمالات:

1 ـ إنّها بصدد إنشاء إباحة واقعيّة من المالك الحقيقي وهو الله، في التصرّف بهذا المال مطلقاً، حتى لو عُلم بكراهة المالك الثانوي وهو الإنسان. والمفاد الأوّلي للفظ الآية هو هذا المعنى؛ أخذاً بالإطلاق.

2 ـ إنّها بصدد إنشاء إباحة ظاهريّة، بمعنى أنّ ظاهر حال الناس آنذاك هو أنّهم يدخلون هذه البيوت ويعلم برضا أصحابها، فأعلنت أنّه يجوز لكم ذلك؛ لمكان رضاهم، وعليه فلا يجوز الدخول في غير حال وجود مؤشر على الرضا.

لكنّه إذا كان الأمر كذلك، فلماذا اضطرت الآية للنزول لتوضيح أمرٍ واضح عرفاً، وهو الأكل من بيوت أشخاص يقبلون بالأكل من بيوتهم؟! فهل حصل شيءٌ ما جعل المسلمين يتحرّزون عن الأكل من هذه البيوت، فأعلنت الآية أنّه لا بأس بأن تأكلوا وفقاً للمتعارف الموجود بينكم؟! هذا ما يحتمله بعضٌ من أنّ آية النهي عن أكل المال بالباطل وآية الاستئذان للدخول في أوقات ثلاثة في النهار والليل، قد تكون جعلت المسلمين يتحرّزون، فنزلت هذه الآية هنا؛ لرفع تحرّزهم، فلا مانع من أن تكون آية أكل المال بالباطل قد أوجبت توهّماً بالحظر وتحرّزاً بين المسلمين حتى مع تعارف الأكل بينهم؛ لاحتمال أنّهم قد شكّوا في دخول هذا العرف في عموم النهي؛ لالتباس هذا التصرف وتقاربه مع التصرّفات المالية التي لم يمنع عنها العرف مع دخولها في عموم النهي.

غير أنّ هذا الأمر غير مفهوم؛ وذلك أنّ أكل المال بالباطل وقع ضمن سياق استثناء ما يكون عن تراضٍ، فإذا كان العرف آنذاك يرضى بالأكل من البيوت هذه، وأصحاب هذه البيوت هم جزءٌ من العرف، فلماذا سيفهم المسلمون أنّ آية النهي عن أكل المال بالباطل شاملة لهذا الموقف بالخصوص حتى تنزل آية أخرى هنا؟! فهل فهم العُرف آنذاك أنّ هذا مصداق أكل المال بالباطل فجاءت الشريعة لتصحيح هذا الخطأ؟! كما أنّ آية الاستئذان للدخول لا علاقة لها بالأكل، بل هي بصدد الحديث عن موضوع كشف العورات في أوقات معيّنة، لا بصدد الحديث عن أصل مبدأ الدخول على البيوت، فهذا الاحتمال غير واضح سياقياً، وشواهده التاريخيّة محدودة جداً.

3 ـ إنّها بصدد إنشاء إباحة ظاهريّة في مورد الشكّ، فيكون المعنى: يجوز لكم الدخول والأكل حال عدم العلم بالكراهة. وقد فهم بعضٌ من بعضِ سياقات أسباب النزول أنّها تفيد هذا المعنى.

غير أنّ هذا الفهم بعيدٌ عن ظاهر الآية؛ فإنّ الآية إمّا أن نقول بأنّها بصدد رفع شرط الإذن الذي هو المأخوذ في سائر التصرّفات مع سائر الناس، أو أنّها مطلقة، أمّا القول بأنّها ناظرة لحال الشكّ وتريد إنشاء إباحة ظاهريّة في مورد الشكّ، فليس في تركيبة الآية مفروض الشك وعدم العلم إطلاقاً.

من هنا قد يدّعى أنّ الأقرب في دلالة الآية بعد نفي الاحتمالين الأخيرين هو القول بأنّها ترخّص في الأكل من هذه البيوت بلا إذن، وكأنّها تريد أن تجعل هذه البيوت بيتاً للإنسان، وتؤسّس أسرة كبيرة أوسع من الأسر الداخليّة الصغيرة، غاية الأمر أنّ هناك نوعاً من التقييد اللبي أو بحكمه المتصل بالآية وهو أن لا يكون هذا الأكل موجباً لوقوع صاحب البيت في ضيق أو أذية أو حرج غير متعارف. أو يقال بأنّ الآية جعلت الإباحة الواقعيّة، لكن المرتكزات القوية قيّدتها بما لو لم يعلم بالمنع، وذلك أنّه لو أرادت الآية صناعة ثقافة جديدة لنصّت على تجويز الأكل حتى حال العلم بعدم الإذن، لقوّة هذه المرتكزات وتأكّدها بعمومات الآيات والروايات فتحتاج إلى صراحة مماثلة لخلق واقع جديد.

لكن قد يقال في المقابل بأنّ السياق التاريخي المحيط بالآية مبهمٌ جداً، ولهذا حار العلماء في فهم استثناء الأعمى والمريض والأعرج هنا، ونقلوا قضايا غير مفهومة عن هذا السياق، يمكن مراجعتها في كتب التفسير والرواية، حتى أنّ بعضهم لما عجز عن فهم ربط هؤلاء الثلاثة بموضوع الأكل من البيوت، اعتبر أنّ هؤلاء الثلاثة نُفي الحرج عنهم في الجهاد، فيما كانت بقيّة الآية استئنافاً لحكمٍ جديد مرتبط بالأكل، وهذا يبدو غريباً عن السياق التركيبي في الآية الواحدة، وإذا فتحنا على مثل هذا فربما يأتي قائل ويقول بأنّ مطلع الآية وضع هنا خطأ وهو موجود في مكان آخر من القرآن مثلاً! وهذا كلّه غريب جداً. من هنا فلمّا لم نكن نعرف ما هي الملابسات التاريخيّة للموضوع والذي ضجّت به كتب التفسير والرواية، لهذا يمكن القول بأنّنا نأخذ بالقدر المتيقّن السياقي، ونقول بأنّ الآية تعطي الإذن في الأكل حال وجود تعارف بين الناس بالأكل من هذه البيوت بلا حاجة لإذن مباشر شخصي، بل يكفي العرف، ولو توسّعنا قلنا بأنّ الترخيص لا يُعلم شموله لحال العلم بكراهة المالك أو الظنّ بها، وهكذا، وإلا فالأقرب بدلالة الآية هو ما قلناه آنفاً. بل ربما يقال بأنّ التحليل يدور مدار العرف، فلا يجوز الأكل من بيوت من ذكرت أسماؤهم في الآية إذا كان لا يُتعارف الآن الأكل من بيوتهم، ويجوز الأكل من غيرهم لو تعورف على الأكل عندهم، كبيت أهل الزوجة أو أهل الزوج.

وقد يقال: إنّ جعل الأعمی والمریض والأعرج فی صدر الآیة يولّدُ ظهوراً في أنّ الحکم مرتبط بحالة غیر عادیة، وهي وجود مشکلة في کسب الرزق بسبب المرض والنقص في الجسم، وهذا الظهور یجعلنا نفهم «ولا علی أنفسکم» أیضاً ممثِّلاً لغیر هذا الأعذار المذکورة، ولیس المراد منه "أنفسکم" الذین لا یوجد لدیهم عذر، بل الظاهر هو أنفسکم الذین ابتلوا بعذر مثل ما ابتلی به المریض والأعرج في کسب رزقه، فهو بکلمة "أنفسکم" لا یشمل کلّ أحد، بل یشمل الذي عرض علیه الفقر أو الحجر أو الإفلاس. فالمدّعی هو أنّ ظاهر الآیة عرفاً هو: لیس علی الأعمی ولا علی الأعرج ولا علی المریض حرج، ولا علی أنفسکم (إذا ابتُلیتم بمثل أعذارهم) أن تأکلوا من بیوت.. وعلی هذا فإنّ الآیة الکریمة تبيّن حکماً ثانویاً یرتبط بفرض المشقّة في تأمین المعاش ولا یتوقّف علی رضا المذکورین، بل في هذا الفرض جعل الشارع لهذا الشخص حقّاً في أموال أقربائه، ولا یکون هذا مرتبطاً بجواز الصلاة، كما لا تكون هناك أولویّة.

وإذا قيل: ما هي هذه الحالة الحرجيّة المتعلّقة بالأعمى هنا وأمثاله بحيث تجعله مسموحاً له أن يأكل من بيوت الأقارب دون غيره؟

فإنّنا نجيب بأنّ العلّة هي العاهة والنقص اللذين ابتُليَ بهما المذکورِین ـ غیر «أنفسکم» ـ والتي یصعب معها اکتساب الرزق نوعاً، قياساً بالشخص السلیم، وهذا مبرّر لجعلهم مسموحاً لهم في الأکل، فالأعمی والأعرج والمریض لا یمکن لهم ـ نوعاً ـ كسب الرزق بالعمل، كما هي الحال مع شخصٍ سلیم، وبخاصّة في الزمن الماضي.

وقد يجاب عن هذه المداخلة كلّها: إنّه إذا كان الأمر كذلك فهذا معناه أنّ الأعمى والمريض والأعرج لهم الحقّ في أن يأكلوا من بيوت الأقارب، وهنا عندما تضيف الآية تعبير: «أنفسكم»، يصبح الأعمى وغيره والأعرج وغيره والمريض وغيره في نفس الحكم، فما هو الموجب لذكر هؤلاء الثلاثة ما دامت صفتهم وحالتهم لا توجب شيئاً مغايراً للبقيّة؟!

لكن يُردّ هذا الجواب بأنّ المقصود هو أنّ «أنفسکم» بقرینة «الأعمی والمریض والأعرج» یقیَّد بفرض وجود مشکلة، مثل الإفلاس والحجر، بمعنى أنّ العرف إذا واجه النصّ یری أنّ أنفسکم عٌطف علی «المریض والأعمی والأعرج»، فیَفهم أنّه لیس بمطلق، بل له قیدٌ وهو وجود مشکلة مثل ما في المریض والأعمی وغیره، فیفهم العرفُ من الآية أنّ «أنفسکم» أیضاً له أن یأکل إذا حدث له مثل ما حدث للعناوین الثلاثة المذکورة في صدر الآیة.

وعليه، فالمسألة مفتوحة على أكثر من احتمال.

([15]) ما دام التشاغل بها يصدق عليه التصرّف في المغصوب.

([16]) بل الأحوط وجوباً في مورد عدم إدراك كلّ الصلاة، مع إدراك ركعة أو يزيد، الجمعُ بين ما ذكره الماتن والقضاء؛ نظراً لتوقّفنا في قاعدة "من أدرك ركعة"، كما تقدّم الحديث عن ذلك في مطلع الفصل الثالث من المقصد الأوّل من كتاب الصلاة، فراجع.