hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

القراءة التاريخيّة ومحاولات اكتشاف المنسيّ في التاريخ

تاريخ الاعداد: 8/28/2024 تاريخ النشر: 8/28/2024
7730
التحميل

حيدر حبّ الله([1])

 

تحتفظ كلّ أمة بهويّتها من خلال رمزيات تاريخيّة وجغرافية، فالجغرافيا تعبّر عن أماكن محفورة في الذاكرة الجماعيّة بوصفها جزءاً مكوّناً للهويّة، فيما التاريخ يحتوي وقائع وشخصيات نافذة في العقل الجمعي تساعد على تكوين هويّته.

ولم تشذ الأمّة الإسلاميّة عن هذه القاعدة؛ لأنّ كلَّ حاضر مركّبٌ من جزء من الماضي، وأنّه من دون هذا الماضي المحفور في أعماق أفراد المجتمع يكون الحاضر ناقصاً، من هنا جمع الإسلام بين التاريخ والجغرافيا ليساعد على تكوين الهويّة الصحيحة للمسلمين. فعندما نتكلّم عن مكّة والمدينة وما يرتبط بهما من حجٍّ وعمرة وزيارة، فنحن نتكلّم عن الماضي المتضمَّن في الحاضر عبر التاريخ والجغرافيا معاً، وكذلك عندما نتكلّم عن كربلاء الجغرافيا والتاريخ فنحن نتكلّم عن تشكيل هويّة، وليس عن مجرّد قصص أو أحجار أو قبور بالمعنى المادّي المحدود للكلمة، ولهذا عندما تدافع الجماعة عن أحجار هنا وهناك (مقامات ـ كعبة..) فمن الخطأ تبسيط الحدث لتفسيره بسفك الدم لأجل أحجار! لأنّ القضية ليست قضيّة أحجار بقدر ما هي قضيّة هوية جماعة وكينونتها، وإلا فالأوطان ليست إلا بقعاً جغرافيّة صامتة!

وربما هذا ما يفسّر دعوة النصوص الدينية لإحياء مراسم كربلاء التاريخ في شهر محرّم، وكذلك زيارة قبر الإمام الحسين (الجغرافيا) من بعيد أو قريب، لكي يكون التاريخ والجغرافيا مساهمين في تكوين هويّة من نوعٍ مختلف.

وعندما نتكلّم عن كربلاء فنحن نتكلّم عن جماع عناصر متعدّدة ومتشابكة، ومن ثم فهي حدثٌ وجغرافيا يمكن قراءتهما معاً من زوايا مختلفة، وأحد هذه الزوايا هو المرأة ودورها في الحياة. شخصياً لست من الذين يبالغون في تحويل الأحداث الاستثنائيّة إلى سياق ذي ديمومة، بمعنى أنّ أحداثاً وقعت في التاريخ نتيجة ظرف استثنائي قد لا تسمح لنا باعتبارها رمزاً لاستجابةٍ مماثلة لكن خارجة عن سياق الاستثناء؛ لأنّ هذا يخلّ بالقراءة التاريخية المتوازنة وكذلك بالقراءة الاجتهادية الشرعيّة المتسقة مع حقائق التاريخ وسياقاته، وبخاصّة عندما نتكلّم عن سلوك أو فعل أو ردّ فعل أو حركة سياسيّة أو اجتماعية لها لحظتها الخاصّة.

والإنسان وإن كان لا يميل لاستنباط الكثير من النتائج حول دور المرأة في الحياة العامّة عبر واقعة كربلاء، وبخاصّة عندما نقف عند سيدة عظيمة من آل البيت هي السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب، فلا أحمّل الحدث أكبر مما يتحمّل، بحيث أجعل من الحدث أساساً في "أصالة فعاليّة المرأة في الحياة السياسيّة" (وإن كان هذا الموضوع يمكن فتح بابه من خلال نصوص أو وقائع أخرى، فلسنا بوارد نفيه هنا).. لكنّ دور المرأة في كربلاء ـ ولا سيما السيدة زينب ـ هو بكلّ المقاييس غير عادي، ليس فقط لجهة الحديث عن الشجاعة والقوّة والصلابة والعنفوان والتحدّي والصبر والتوكّل على الله والتسليم له والوقوف بوجهٍ سلطان جائر، بل وأيضاً لجهة إدارة أمور الجماعة خلال فترة عصيبة وهي إدارة دلّت على قدرة هذه المرأة المنهكة والمفجوعة، والتي جاوزت الخامسة والخمسين من عمرها آنذاك، قدرتها على وعي الأحداث والدفاع عن جماعتها.

عوداً إلى كيفيّة مساهمة الماضي في تشكيل الهويّة الحاضرة، يجب أن ندرك جيّداً أنّ الماضي لا يحضر بنفسه في تشكيل هويّتنا؛ لأنّ الماضي قد ذهب ورحل، إنّما الذي يفعل ذلك هو تصوّراتنا عن الماضي من جهة أولى، وكيفيّة تنزيل هذه التصوّرات على حاضرنا من جهةٍ ثانية.

هذا يعني أنّ حاضرك وهويّتك رهينان بالصورة التي رسمتها أنت عن الماضي، وقد تتطابق هذه الصورة مع الماضي نفسه وقد لا تتطابق، وعندما نعتبر الماضي حدثاً مقدّساً له صلة بقيم عليا، فهذا يعني أنّ الخطأ في فهم الماضي وتصوّره يرتدّ خطأ على كيفيّة تلقينا لهذا المقدّس ولهذه القيم العليا، ومن ثمّ سوف نكوّن مجموعة قيم وسلوكيات وعادات من خلال فهمنا للتاريخ قد لا تتطابق مع التاريخ نفسه وقيمه بوصفه تاريخاً مقدّساً.

هنا تكمن أهميّة تنقية التاريخ والسيرة؛ واعتبار ذلك مما لا يقلّ أهميةً عن تنقية الحديث في سياق استنباط حكمٍ شرعي جزئيّ هنا أو هناك؛ لأنّ دور التاريخ المقدّس للجماعة في تكوين هويّتها لا يقلّ تأثيراً عن دور بعض النصوص الدينيّة التي تعطي أحكاماً في مجالات جزئيّة فرديّة. إنّ تنقيح صورة التاريخ في وعينا وكيف نقدّمه ليس ترفاً زائداً حتى يتصوّر إجراء أصل التسامح فيه، بحجّة أنّ الغاية حسنة؛ فإنّ حُسن الغاية لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن تأثيرات الصورة التاريخيّة على تشكيل ثقافة الجماعة ووعيها وهويّتها. لقد رأينا كيف تلعب المفاهيم التاريخية دوراً في شلّ حركة الجماعة عن الإبداع أو في حصر حياتها في إطار محدّد أو في تعطيل قدرتها على مدّ جسور التواصل مع المحيط وجعلها أقرب للانطوائيّة منها للانفتاح، فعندما يتمّ فهم حركة أئمّة أهل البيت خلال قرنين ونصف في سياقٍ طائفي وتتمّ قراءة تاريخهم كلّه في سياق طائفي وأنّهم لا همّ لهم إلا الجماعة الخاصّة وليس الأمّة عامّة، إنّ هذه الصورة للتاريخ سوف تنعكس على تحويل الشيعة اليوم إلى جماعة، بمعنى أنّهم يشعرون بانتمائهم للجماعة أكثر من انتمائهم للأمّة، كما كان يقول العلامة محمّد مهدي شمس الدين (2001م)، لكن عندما ننقّح التاريخ ونعيد تشكيل صورته في وعينا دون استبعاد نصٍّ هنا أو التساهل في نصّ آخر هناك، وفرضنا أنّ المعطيات أوصلتنا لنحت صورةٍ أخرى عن سيرة أهل البيت، وأنّهم كانوا يحملون همّ الأمّة كلّها، وليس همّ جماعتهم والموالين لهم فقط، فإنّ تأثير ذلك على هويّة الجماعة الشيعيّة اليوم سيكون بالغاً، وسيعيد تشكيل دورها في الحياة العامّة للمسلمين، كما سيساهم في تكوينٍ جديد لأولوياتها. هذا المثال يؤكّد أنّ صورة التاريخ في أذهاننا لها دور في سلوكنا بوصفنا جماعة.

مثالٌ آخر له دلالاته أيضاً، وهو علاقة أهل البيت بالعمل السياسي أو النضالي، إنّ قراءة التاريخ والتدقيق في معطياته إذا أعطانا صورةً عن أهل البيت أنّهم أئمّة مشغولون بنشر العلم والإيمان فقط، ومنعزلون تماماً عن الحياة السياسية والنضاليّة، كما يقول الكثير من الباحثين الغربيّين إلى يومنا هذا فيما يتعلّق بحياة الأئمّة بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام، فبالتأكيد سوف يترك ذلك تأثيراً كبيراً على كينونة الجماعة الشيعيّة اليوم واستراتيجيّتها في العمل، على عكس تصوّر أنّ حركة أهل البيت كلّها وقعت في سياقٍ نضالي، فإنّ النتائج سوف تكون مختلفة، ولهذا نجد اليوم أنّ تيار الحركة الإسلاميّة ينافح عن تصوّر تاريخ البيت النبوي على أنّه تاريخ نضالي ولو سرّي، مما يسمح له اليوم أن يفكّر بطريقة زيديّة نضالية ضمن سياقٍ إمامي شهد هو نفسه خلافاً مع الزيديّين والحسنيّين في القرن الثاني الهجري على خلفيّة مبدأ "الخروج" وتكوين مفهوم الإمامة على أساس الخروج وشهر السيف وليس على أساس الاصطفاء، بينما نلاحظ ـ ومجدّداً ـ أنّ الصورة التي قرأت أهل البيت في التاريخ على أنّهم منعزلون عن ساحات السياسة والنضال جعلت هويّة المذهب الإمامي هويّةً مسالمة، وفي الوقت نفسه غير متواطئة مع السلطات الظالمة، وإنّما تعتمد المقاومة السلبيّة الصامتة. هذا شيء ليس بسيطاً؛ لأنّنا رأينا في العصر الحاضر كيف أنّ فريق الحركة الإسلاميّة أعاد فهم ظواهر الطقوس الدينية الشيعيّة فهماً في سياقٍ نضالي وسياسي، بينما حافظ الفريق الآخر على مبدأ تحييد الطقوس عن هذا المجال.

ما أريد أن أصل إليه هو أن لا نستخفّ بتنقيح التاريخ والتدقيق به والتثبّت من مجرياته، ومحاولة فهمه على قواعد علميّة رصينة ما أمكن إلى ذلك سبيلاً؛ لأنّ هذا الأمر لا ينفكّ عن التأثير علينا في حياتنا اليوميّة ولو من حيث لا نشعر. ولعمري فإنّ تأثير التاريخ علينا اليوم قد لا يقلّ عن تأثير الشريعة على بعض الصعد.

المشكلة الأخرى في فهم التاريخ هي إكراهات الاصطفافات الاجتماعية والسياسيّة، فعندما تحدث الاصطفافات الحادّة في المجتمع وتقود المؤرّخ أو الباحث في التاريخ لتجاذباتها، فهذا يعني أنّ موضوعيّة البحث التاريخي سوف تتآكل، وكذلك عنصر الإبداع فيه، بمعنى أنّ الباحث في التاريخ يلزمه أن يكون أكبر من التجاذبات القائمة ومقاوماً عنيداً لإكراهات الواقع، كي يقدّم فهماً متوازناً للتاريخ أو يحمل بصمةً نوعية، والذي يحصل أنّ الاصطفافات تخلق في وعي المؤرخ أو باحث التاريخ ومحلِّلِه ما يمكن تسميته في علم المنطق التطبيقي اليوم بـ "مغالطة الثنائيّات"، بمعنى أنّ الباحث يشعر أنّه يلزمه أن يخرج بنتيجة إمّا لهذا الطرف أو ذاك، ويقوده ذلك من حيث لا يشعر إلى عدم خطور فرضيّة ثالثة في فهم التاريخ عنده، وهذا يعني صيرورة عقله محدوداً في إطار الأقوال القائمة المتجاذبة، وهذا ما يُطلِق عليه بعضٌ اليوم في الدراسات الشرعيّة عنوان "الاجتهاد الترجيحي"، في مقابل "الاجتهاد الإبداعي"، فدور المجتهد والمؤرّخ في الاجتهاد الترجيحي هو أن يختار من بين ما هو قائم قولاً ويسعى لترجيحه، بينما المجتهد المبدع هو ذلك القادر على التعالي عن الاصطفافات القائمة والضاغطة وخلق فرضيات تقع خارج السياق وإثراء الساحة التحليليّة بأفكار جديدة والتفاتات فريدة تثري وعينا للتاريخ. وهنا بالضبط تبدأ فكرة "منسيّات التاريخ"؛ لانّ المؤرّخ في إبداعاته قد يتمكّن من الكشف عن مطمورات تاريخيّة تمّ تغييبها أو نسيانها عبر قرون، ومن شأنّها أن تعيد فهم التاريخ بطريقة مختلفة، فاكتشاف هذا التاريخ الغائب لا يعني فقط الحصول على وثائق جديدة، بل يعني أيضاً إعادة فهم وثائق قرأها الآخرون من قبل لكن بطريقة مختلفة، فالرؤية البصريّة قد لا تعطيك رؤية بصيرة ووعي دوماً. إنّ "التاريخ المنسيّ" هو أحد أعقد المجالات البحثية أمام المؤرّخين اليوم؛ لأنّه يتطلّب التعالي عن التجاذبات القائمة وتخطّي القراءات الموجودة بالفعل والتفتيش في بطون التاريخ عمّأ من شأنه المساعدة في تكوين صورة جديدة. ومهما يكن، فإنّ فهم التاريخ وتحليله وتوظيفه هو عملية معقّدة أكبر مما نتصوّر وتحتاج لتراكم الجهود بشكل متواصل للوصول على ما هو الأفضل والأحسن إن شاء الله.

في هذا السياق، أجد أنّ ما سطرته يراع أخينا الفاضل الأستاذ صادق بن حسن بن علي اللواتي رعاه الله تعالى، في هذا الكتاب الماتع، هو محاولة مشكورة لتقديم إضافة تطلّ على شخصيّة عظيمة في التاريخ الإسلامي، وهي شخصية السيدة زينب، ليس فقط في كربلاء، وإنّما قبل ذلك أيضاً، في محاولة لتحليل تجربتها في سياق قضايا المرأة وضمن عناوين الهويّة، جمعاً بين النقد التاريخي لبعض الوقائع وممارسة تحليل يحاول فيه ـ مشكوراً ـ إعادة تظهير السيدة زينب المنسيّة في مقاربة نقديّة لجوانب من صورتها في الخطاب المتخيّل اليوم. إنّني إذ أشكر الأستاذ الفاضل صادق اللواتي على جهده هذا، أسال الله أن يجعله في ميزان حسناته، وأن يوفّقه للمزيد من العطاء فيما يخدم وعينا وثقافتنا وهويّتنا الإسلاميّة في زمنٍ لم يعد من السهل فيه الجمع بين حماية الهويّة وتحقيق الإصلاح الفكري والديني والاجتماعي، إنّه ولي التوفيق.

 

حيدر محمّد كامل حبّ الله

16 ـ 11 ـ 1445هـ

25 ـ 5 ـ 2024م

____________________________

([1]) هذه مقدّمة كتبها الشيخ حيدر حبّ الله لكتاب "السيّدة زينب بنت علي من المحراب إلى النضال" من تأليف الأستاذ صادق بن حسن بن علي اللواتي، من سلطنة عمان، والذي صدر في طبعته الأولى عن دار المحجّة في بيروت، لبنان، صيف عام 2024م.