hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (الستر والساتر في الصلاة ـ القسم الثاني)

تاريخ الاعداد: 8/20/2024 تاريخ النشر: 8/22/2024
1461
التحميل

حيدر حبّ الله

 

هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(15 ـ 8 ـ 2024م)


 

الفصل الثاني

(ما يُعتبر في لباس المصلّي)

....

الخامس: أن لا يكون من الذهب ـ للرجال ـ ولو كان حليّاً كالخاتم([1])، أمّا إذا كان مذهّباً بالتمويه والطلي على نحو يعدّ عند العرف لوناً فلا بأس. ويجوز ذلك كلّه للنساء، كما يجوز أيضاً حمله للرجال كالساعة([2]) والدنانير. نعم الظاهر عدم جواز مثل زنجير الساعة إذا كان ذهباً ومعلّقاً برقبته أو بلباسه على نحو يصدق عليه عنوان اللبس عرفاً.

مسألة 527: إذا صلّى في الذهب، جاهلاً أو ناسياً، صحّت صلاته.

مسألة 528: لا يجوز للرجال لبس الذهب في غير الصلاة أيضاً، وفاعلُ ذلك آثم([3])، والظاهر عدم حرمة التزيّن بالذهب فيما لا يصدق عليه اللبس، مثل جعل مقدّم الأسنان من الذهب، وأمّا شدّ الأسنان به، أو جعل الأسنان الداخلة منه فلا بأس به بلا إشكال([4]).

السادس: أن لا يكون من الحرير الخالص([5]) ـ للرجال([6]) ـ ولا يجوز لبسه في غير الصلاة أيضاً كالذهب. نعم لا بأس به في الحرب([7]) والضرورة كالبرد والمرض حتّى في الصلاة، كما لا بأس بحمله في حال الصلاة وغيرها، وكذا افتراشه والتغطّي به ونحو ذلك مما لا يُعدّ لبساً له، ولا بأس بكفّ الثوب به([8])، والأحوط أن لا يزيد على أربع أصابع([9])، كما لا بأس بالأزرار منه والسفائف([10]) (والقياطين)([11])، وإن تعدّدت وكثرت([12])، وأمّا ما لا تتمّ فيه الصلاة من اللباس، فالأحوط وجوباً تركه.

مسألة 529: لا يجوز جعل البطانة من الحرير وإن كانت إلى النصف([13]).

مسألة 530: لا بأس بالحرير الممتزج بالقطن أو الصوف أو‌ غيرهما مما يجوز لبسه في الصلاة، لكن بشرط أن يكون الخلط بحيث يخرج اللباس به عن صدق الحرير الخالص، فلا يكفي الخلط بالمقدار اليسير المستهلك عرفاً([14]).

مسألة 531: إذا شكّ في كون اللباس حريراً أو غيره، جاز لبسه، وكذا إذا شكّ في أنّه حرير خالص أو ممتزج([15]).

مسألة 532: يجوز للوليّ إلباس الصبي الحريرَ أو الذهب، ولكن لا تصحّ صلاة الصبيّ فيه([16]).

 

الفصل الثالث

(أحكام لباس المصلّي)

إذا لم يجد المصلّي لباساً يلبسه في الصلاة، فإن وجد ساتراً غيره كالحشيش وورق الشجر والطين ونحوها، تستّر به وصلّى صلاة المختار([17])، وإن لم يجد ذلك أيضاً، فإن أمن الناظر المحترم صلّى قائماً مومياً إلى الركوع والسجود، والأحوط له وضع يديه على سوأته، وإن لم يأمن الناظر المحترم صلّى جالساً، مومياً إلى الركوع والسجود، والأحوط الأولى أن يجعل إيماء السجود أخفض من إيماء الركوع([18]).

مسألة 533: إذا انحصر الساتر بالمغصوب أو الذهب أو الحرير أو ما لا يؤكل لحمه، أو النجس، فإن اضطرّ إلى لبسه([19]) صحّت صلاته فيه، وإن لم يضطرّ صلّى عارياً في الأربعة الأولى([20])، وأمّا في النجس فالأحوط الجمع بين الصلاة فيه والصلاة عارياً، وإن كان الأظهر الاجتزاء بالصلاة فيه كما سبق في أحكام النجاسات([21]).

مسألة 534: الأحوط لزوماً تأخير الصلاة عن أوّل الوقت إذا لم يكن عنده ساتر، واحتمل وجوده في آخر الوقت([22])، وإذا يئس وصلّى في أوّل الوقت صلاته الاضطراريّة بدون ساتر، فإن استمرّ العذر إلى آخر الوقت صحّت صلاته، وإن لم يستمرّ لم تصحّ.

مسألة 535: إذا كان عنده ثوبان يعلم إجمالاً أنّ أحدهما مغصوب أو حرير، والآخر مما تصحّ الصلاة فيه، لا تجوز الصلاة في واحد منهما، بل يصلّي عارياً([23])، وإن علم أنّ أحدهما من غير المأكول والآخر من المأكول، أو أنّ أحدهما نجس والآخر طاهر، صلّى صلاتين في كلّ منهما صلاة.

_________________________

([1]) يقع البحث هنا في مرحلتين:

المرحلة الأولى: الحكم التكليفي، أو حكم لبس الذهب للرجال في نفسه بصرف النظر عن الصلاة، والتحقيق ـ أوّليّاً، بعد وضوح أنّ النصوص القرآنية لا تحوي حكماً بالتحريم بعنوانه ولا نطيل ـ أنّ ضمّ الروايات والأحاديث الموجودة عند الشيعة إلى مثلها مما هو موجود عند سائر المذاهب يورث الوثوق بتحريم لبس الذهب للرجال، واللافت أنّ بعض أهمّ النصوص التحريميّة عند أهل السنّة مرويٌّ بالإسناد إلى عليّ بن أبي طالب× إلى رسول الله‘، غاية الأمر أنّ هناك عنصرين معارضين:

العنصر الأوّل: ما يمكن أن يوظّف فيه كلام السيد البروجردي، حيث قال: «ولا يخفى أنّ هذه المسألة لم تكن مذكورة في الكتب الفقهيّة الأصولية الموضوعة لنقل فتاوى الأئمة عليهم السلام بعين الألفاظ الصادرة عنهم، بل لم يتعرّض لها قدماء الأصحاب رضوان الله عليهم إلا شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في كتاب المبسوط ـ المعدّ لبيان أحكام الفروع الخارجة عن موارد النصوص اجتهاداً فيها واستنباطاً منها كما أفاده في مقدّمة الكتاب ـ وكذا لم يتعرّض لها المتأخّرون عنه إلى زمان المحقّق والعلامة إلا نادراً منهم» (نهاية التقرير في مباحث الصلاة 1: 382). وربما يكون ذلك لوضوح الأمر فضلاً عن أنّ النهي موجود في كتاب الفقه الرضوي الذي ذهبوا إلى أنّه كتاب الشلمغاني أو غيره من الكتب القديمة.

العنصر الثاني: وجود روايتين هما خبر عبيد الله بن علي الحلبي عن أبي عبد الله× قال: قال عليّ×: «نهاني رسول الله ـ ولا أقول نهاكم ـ عن التختّم بالذهب وعن ثياب القسيّ و..»، وكذلك خبر ابن القداح عن أبي عبد الله× قال: «إنّ النبيّ تختّم في يساره بخاتم من ذهب، ثم خرج على الناس، فطفق الناس ينظرون إليه، فوضع يده اليمنى على خنصره اليسرى حتى رجع إلى البيت فرمى به فما لبسه». فإنّ الرواية الأولى كأنّها واضحة في أنّ النهي لا يشمل الناس، فلو كان تحريم لبس الذهب شاملاً لغير عليّ فلماذا قال بأنّه نهاني ـ ولا أقول بأنّه نهاكم ـ؟! كما أنّ الرواية الثانية واضحة في أنّ النبيَّ فعله، ولعلّه تركه لمكان الاعتبارات الاجتماعية آنذاك من أنّه لا يليق به أو بأمثاله ونحو ذلك. وقد حاول غير واحد من الفقهاء ـ منهم السيد الماتن في بحوثه ـ الجواب عن رواية ابن القداح بأنّه لعلّ الحكم آنذاك كان هو الجواز، ثمّ جاء حكم النهي لاحقاً بعد ذلك، كما أجابوا عن خبر الحلبيّ بأنّ عليّاً يبيّن أنّ النبيّ نهاه لا أنّه يبيّن أنّه جوّزه لغيره، فربما كان حراماً لغيره ولو لاحقاً. هذا وتؤيّد هاتين الروايتين نصوصٌ أخرى متفرّقة مثل خبر لبس النبيّ يوسف خاتم الذهب بعد تنصيبه وزيراً.

ويمكن التعليق هنا باختصار:

أوّلاً: إنّ عدم تعرض الكتب القديمة لهذا الموضوع يصلح لمواجهة دعوى ثبوت شهرة التحريم بين المتقدّمين، فنقول بأنّه قبل مثل كتاب المبسوط لم نجد شيئاً من هذا القبيل، فيصلح ذلك لزعزعة الوثوق بوجود شهرة بين المتقدّمين حول هذا الحكم، لكنّه لا يصلح لهدم الحكم بالتحريم مع وجود نصوص سنيّة وشيعيّة، منها ما هو معتبر على مباني الفريقين، فغايته إعراض متقدّمي الشيعة عن هذه النصوص، وهو بنفسه وإن كان قد يؤثر في درجة الوثوق بها ويجعل ذلك أبطأ، لكنّه لا يقدر على هدم الوثوق تماماً؛ لاحتمال أنّهم لاحظوا التعارض بين الروايات ورجّحوا روايات التحليل على التحريم، على أنّ هذا مختص بالكتب الشيعية ولا يشمل كتب سائر المذاهب الإسلامية، نعم هناك ذكر لآحاد من المسلمين ذكر المؤرخون وأصحاب السير والحديث أنّهم لبسوا الذهب ولو في بعض فترات حياتهم، مثل صهيب، وأبي حامد الغزالي، والبراء، وعبد الله بن يزيد.

ثانياً: إنّ الجواب عن رواية الحلبيّ بأنّ الحديث غير ظاهر في الترخيص لهم ولو لاحقاً، غير مقنع؛ وذلك أنّ الإمام يصرّح بأنّه لم ينههم، وهذا معناه أنّ الإمام عليّاً يقول بأنّ هذه الأمور ليست من المنهيّات بالنسبة إليكم، فهذا التعبير واضح في الدلالة عرفاً على الترخيص، نعم هل ارتفع هذا الترخيص أو لا بعد ذلك؟ فهذا لا يسقط دلالة هذه الرواية على الترخيص لغير عليّ، وعلينا فضّ الاشتباك بين النصوص في المرحلة اللاحقة. وكذلك الجواب عن رواية ابن القدّاح فإنّها بحكم ذلك. ودعوى عدم الفرق بين عليّ وسائر المسلمين غير واضحة فهو إمام استثنائيٌّ مقتدى به، ولعلّه لمقامه بين الناس يلزمه مزيد من الزهد الذي ينافيه مثل هذا، والعلم عند الله.

ثالثاً: كيف يمكن حلّ هذا التعارض؟ ذهب الفقهاء هنا إلى أنّ التحريم لاحقٌ، فلعلّه نسخ التحليل أو لم يصدر تحليل ثم صدر التحريم لاحقاً، وهذا غير مفهوم بالنسبة لي؛ وذلك أنّ هاتين الروايتين لم تُنقَلا لنا عن عصر النبيّ مباشرةً، بل نُقلتا بتوسّط الإمام الصادق، وحيث إنّهما ـ كما فهمناهما ـ دلّتا على الترخيص في نفسيهما لولا المعارضة، فهذا يعني أنّ الحكم لو كان هو التحريم واقعاً، فكيف لم يبيّن الإمام الصادق ذلك بعد نقله هاتين الروايتين؟! وكيف لم يسأله الحلبيّ أو ابن القداح عن الموضوع لو كان تحريم الذهب ثابتاً من قبل عندهما؟! ولماذا تمّ حذف سياق السؤال والجواب لو كان هناك سياق؟! بل ثمّة إشكالية أخرى هنا، وهي أنّ بعض الروايات العمدة هنا بيّنت تحريم ذلك على الرجال؛ لأنّه لباسهم يوم القيامة، فإذا صحّ هذا التعليل فقد نصّ القرآن الكريم (الإنسان: 21) على أنّ أهل الجنّة يحلّون بأساور من فضّة أيضاً، مع أنّه أجمع المسلمون ونصوصهم على حليّة لبس الفضّة للرجال؟! فكيف لم يخطر هذا التساؤل إطلاقاً ببال الرواة والمتشرّعة لو صحّت هذه الروايات؟! بل إنّ موثقة عمار نفسها التي تحدّثت عن لباس أهل الجنّة ذكرت النهي عن لبس الحديد؛ لأنّه لباس أهل النار، مع أنّه واضحٌ تجويز لبس الحديد! هذا مضافاً إلى أنّ رواية روح بن عبد الرحيم ورواية أبي الجارود ورواية حنان بن سدير خاصّة بعليّ×، ولا يظهر منها الشمول لغيره، فلو جمعناها مع خبر الحلبي، تخرج أيضاً عن مجال الاستدلال هنا، كما أنّ رواية البراء بن عازب فيها من الأوامر ما ليس واجباً قطعاً، فدلالتها على الإلزام لا بأس بها، لكنّها غير قويّة، وأمّا رواية علي بن جعفر في أنّه لا يصلح للرجل لبس خاتم الذهب، فهي غير واضحة الدلالة على التحريم، فإنّ كلمة «لا يصلح» تحتمل التوجيه والإرشاد والكراهة والحرمة، فيبقى لدينا ـ بعد إخراج ما اختصّ بالصلاة ولا يشمل غيرها ـ حوالي خمس روايات بين الشيعة والسنّة معارَضة بالخبرين المتقدّمين، ولهذا نبني الموقف على الاحتياط الوجوبي.

قد يقال ـ كما عن بعض المعاصرين ـ: بأنّ الظاهر من تعليل المنع بأنّه لباس أهل الجنّة مع أنّ الفضة من لباسهم وهو غير ممنوع.. الظاهر منه كون نكتة عدم لبس الرجال للذهب في الدنيا أنّ الله خصّ لبس الرجال للذهب بأهل الجنّة دون أهل الدنيا، فكأنّه قيل: «لا يلبس الرجال الذهب؛ لأنّ الله حرّم لبسه على الرجال في الدنيا، وخصّه لهم في الآخرة»، وبذلك اتضح الفرق بين الذهب وبين مثل الفضة.

ويجاب: بأنّ هذا خلاف ظاهر الحديث جداً؛ إذ الحديث واضح في أنّ الله منع لبسهم للذهب في الدنيا؛ لأنّه لباس أهل الجنّة في الآخرة، فلا معنى للتقييد بكونه مخصوص لباس أهل الجنّة، حتى نقول بأنّ الله حرّم لبسه عليهم في الدنيا؛ لأنّه خصّ لبسهم له في الجنّة، بخلاف الفضّة الذي لم يخص لبسه لهم بالجنّة، بل يلبسونه في الدنيا والآخرة.

وقد يقال أيضاً: إنّ التعبير بـ«ولا أقول نهاكم» يمكن تفسيره ببعض النصوص الأخرى التي هي متحدة المجلس مع هذا الخبر على الأظهر؛ فمنها مثلًا: عَنْ عَلِيٍّ قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ‘: «يَا عَلِيُّ، إِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، وَأَكْرَهُ لَكَ مَا أَكْرَهُ لِنَفْسِي لَا تَلْبَسِ الْقِسِّيَّ..» (مصنّف عبد الرزاق 2: 429، ونحوه: كتاب من لا يحضره الفقيه 1: 253) إذ يتبين أنّ جملة: «ولا أقول نهاكم»، كانت للإخبار عن مجموعة وصايا من النبيّ إليه، والوصايا أعمّ من كونها مختصّات به دون غيره، وأعمّ من كونها أحكاماً إلزاميّة أو لا. ويؤيّد ذلك أنّ بعض مفردات المناهي أو الوصايا يُطمأنّ بعدم اختصاصها بعليّ كالقراءة حال الركوع، كما أنّ هذا الخبر أو بعض أجزائه جاء بصيغ أخرى لا تحتوي على هذا القيد «ولا أقول نهاكم» مما يشكّك جديّاً بالدلالة على الاختصاص بعليّ أو ثبوت هذا القيد، بل روي أنّ عليّاً نهى عن القراءة حال الركوع؛ فكيف يجتمع ذلك مع الاختصاص به؟

والجواب: إنّ دعوى أنّ النهي الذي تشير إليه الرواية هو عينه ما جاء في الرواية الأخرى في المصنّف وكتاب الفقيه، تحتاج إلى دليل، فإنّ ذات التعبير بأنّه نهاني ولا أقول نهاكم، شاهد على كون المراد شيئاً آخر غير هذه الرواية، فلا وجه لترتيب الآثار على ادّعاء الوحدة. ودعوى أنّ الرواية وردت بدون هذا القيد وإن كانت تؤثر، لكنّها لا تلغي تأثير احتماليّة هذا القيد كونه ورد في بعض النصوص. بل لو سلمنا بكلّ ذلك فإنّ هذا معناه أنّ تعبير النهي في الرواية لا يراد منه التحريم، فتكون أوضح في نفي التحريم عن عليّ وغيره معاً.

المرحلة الثانية: في الحكم الوضعي، أو مانعيّة لبس الذهب عن صحّة الصلاة، وهنا يبدو لي أنّ الأقرب عدم وجود دليل كافٍ على بطلان الصلاة بذلك أو على مانعيّة لبس الذهب عن صحّة الصلاة؛ فإنّ دليله آحادي قليل جداً، فراجع، علماً أنّ أهل السنّة لم يرد لديهم شيءٌ في موضوع الصلاة، مع أنّ مشهورهم ـ عدا نفر قليل جداً من الأحناف ـ قالوا بحرمة لبس الذهب للرجال، ولهذا مال جمهورهم لصحّة الصلاة في الذهب رغم أنّ لبسه حرام، وهذا ـ أي عدم ثبوت مانعيّة لبس الذهب في الصلاة ـ هو الأقوى.

وختاماً، لا بأس بالإشارة إلى أنّ اللون الأصفر ليس من مقوّمات الذهب، بل لو صدق على شيء أنّه ذهب، ولو كان بلون آخر في طبعه أو بعد إضافة شيء له، ترتبت عليه أحكامه.

([2]) مراده الساعة التي توضع في الجيب ولها قاب، لا تلك الساعة التي تُلبس في اليد، فإنّه يصدق في موردها عنوان اللبس عرفاً.

([3]) قد بيّنا الموقف قبل قليل عند التعليق على أصل هذا الشرط هنا.

هذا، ولا بأس ببيان الموقف من لبس النساء للذهب المحلَّق، وذلك أنّه لعلّه يمكن القول بأنّه قد أطبق علماء الإسلام بمذاهبهم منذ العصر الأوّل على جواز لبس الذهب للنساء مطلقاً، بلا فرق بين المحلَّق منه كالخاتم والأساور وغيره، مستندين في ذلك للكثير من المعطيات والنصوص القرآنية والحديثية والتاريخيّة التي وإن أمكن النقاش في بعضها، لكنّ الكثير منها جيّد. وقد خالف في هذه المسألة مؤخّراً الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني (1420هـ)، فذهب إلى تخصيص حلّية الذهب للنساء بما إذا لم يكن محلّقاً مطوَّقاً، وإلا فهو حرام، ونَسَبَ ذلك لبعض السلف. وقد أودع ذلك في رسالته (آداب الزفاف في السنّة المطهّرة)، وبيّن القول فيه، كما أشار لذلك في كتابه (تمام المنّة في التعليق على فقه السنّة). وقد كُتبت وقيلت ردودٌ كثيرة من مختلف علماء المسلمين على هذا القول للشيخ الألباني. ولكن الأقرب بالنظر هو صحّة ما ذهب إليه جمهور علماء الإسلام، من القول بحليّة الذهب للنساء مطلقاً بلا فرقٍ بين المحلَّق وغيره، وذلك ضمن الشروط الشرعيّة مثل عدم إبدائه للأجنبي بما هو زينة في غير ما استُثني وهكذا. وقد تعرّضنا لمناقشة هذا الرأي الذي ذهب إليه الألباني مختصراً في موضعه، فراجع كتابنا: (إضاءات 5: 350 ـ 352)، حتى لا نطيل.

([4]) الأقوى أنّ النصوص الواردة في أصل لبس الذهب للرجال ـ بصرف النظر عن الصلاة ـ يفهم من أغلبها التزيّن، فبعضها ورد فيه تعبير التختّم، وهو نوعٌ من الزينة عرفاً، وبعضها الآخر ورد فيه تعبير زينة أهل الجنّة، وغير ذلك. مضافاً إلى أنّ لبس الذهب عادةً ـ وبخاصّة في تلك الأزمنة ـ يكون للزينة والتباهي، كما هي الحال مع النساء، فالأقرب أنّ كلّ تصرّف في الذهب يصدق عليه عنوان الزينة يكون حراماً على الأحوط وجوباً، تبعاً لاحتياطنا بالحرمة في أصل الموضوع، حتى لو لم يصدق عليه عنوان اللبس. والتشخيص تابعٌ للعرف.

([5]) سيأتي التعليق على موضوع "الخالص"، لكن لا بأس هنا بالإشارة إلى أنّ المراد بالحرير هو الحرير الطبيعي ـ وهو الحرير الحيواني ـ دون الصناعي.

([6]) لبس النساء للحرير لا إشكال فيه في نفسه، إنّما يحرم لبسه على الرجال في الصلاة وخارجها، لكنّ بعض النصوص ـ وبعض المطلقات إطلاقاً أوّليّاً ـ فيه ما يفيد نهي النساء أيضاً عن لبس الحرير في خصوص الصلاة، فالأحوط استحباباً عدم صلاة المرأة بالحرير. وقد احتاط وجوباً هنا السيد موسى الشبيري الزنجاني في بعض كتبه، وفي بعضها الآخر يظهر منه الفتوى.

([7]) لبسه في الحرب وردت فيه نصوص مرخِّصة، وتناوله فقهاء الشيعة والسنّة، ولكنّ الفهم السياقي التاريخي يفرض علينا تحليل هذا الاستثناء، فإنّ لبس الحرير في الحرب آنذاك كان من الأشياء التي توقع الهيبة في نفوس الأعداء، وكان لمعان الحرير له وقعه، كما يعلم بالمراجعة التاريخيّة، من هنا فنحن لا نفهم وجود إطلاق في نصوص الترخيص في لبس الحرير خارج سياق متطلّبات الحرب ولو لم يكن ذلك لضرورة قاهرة، أمّا لو كان لبس الحرير في الحرب لا يقدّم ولا يؤخّر شيئاً في الحرب نفسها، ولو بملاحظة مساعدته المقاتلين من حيث كونه أكثر راحة للجسم مثلاً، فالأوجه هو الحرمة، فإنّ مثل هذه النصوص تفهم بمناسباتها الموضوعيّة التاريخيّة. لكن لو فرضنا جواز لبس الحرير في الحرب، فهل هذا يعني جواز لبسه في الصلاة حال الحرب وارتفاع المانعيّة؟ الظاهر أنّه لو قلنا بإطلاق الترخيص ـ كما يفهم من الماتن وكثير غيره ـ فلا وجه لدعوى سقوط المانعيّة؛ فإنّ النصوص ناظرة لأصل لبس الحرير مقابل حرمة لبسه، لا لخصوصيّة الصلاة، ودعوى الإطلاق المقامي، فضلاً عن اللفظي، غير واضحة هنا، فإنّ المتشرّعة لا يُعلم أنّهم يفهمون آنذاك من هذا الاستثناء ما يشمل الصلاة من حيث المانعيّة لا من حيث الحرمة التكليفيّة، تماماً كلبس جلد ما لا يؤكل لحمه، فهو حلال لكنّه مانع عن صحّة الصلاة، أمّا على ما بنينا عليه من أنّ هذا الاستثناء له صلة بحاجات الحرب ومصالحها وأولويّاتها ولو لم يبلغ حدّ الضرورة القاهرة، فقد يقال بأنّ الأمر يتبع هذه الحاجات، فإن كانت تشمل الصلاة، فلا بأس، وإلا فلا، لكنّ الأقرب خروج الصلاة؛ للسبب عينه الذي قلناه، إذا لم يبلغ الأمر حدّ الضرورة المسقطة للتكاليف والمستوعبة للوقت.

([8]) أي خياطة حاشية الثوب به، ما دام لا يصدق عليه عنوان لبس الحرير، وإلا حرم وكان مانعاً.

([9]) العبرة بصدق عنوان لبس الحرير عرفاً، وما دلّ على التحديد بإصبعين أو ثلاث أو أربع قليلٌ عدداً وضعيف، بل الأقرب أنّه محاولة تشخيصيّة لتبيان ما هو المعيار عرفاً.

([10]) الظاهر أنّه شريط أو حزام يزيّن به الملابس وحواشيها، وتكون له ألوان جميلة زاهية.

([11]) الظاهر أنّ المراد بها الزركشة والزخرفة (كشاكش..) للملابس، عادة ما يوضع فيها حبل أو خيط لتدور عليه ويستخدم في أنواع كثيرة من الملابس منها العباءات الخليجية المتعارفة، وتلك التي يستخدمها بعض علماء الدين.

([12]) هذه تشخيصات مصداقيّة، والعبرة بفهم العرف أنّه يلبس الحرير أو لا.

([13]) العبرة بصدق عنوان لبس الحرير عرفاً.

([14]) ليست العبرة بالخروج عن صدق عنوان لبس الحرير الخالص، بل العبرة بعدم صدق لبس الحرير عليه، فهل يقال فلان يلبس الحرير أو لا؟ وهل يقال: لباس فلان هو الحرير أو لا؟ وهل يقال: فلان لبس اليوم حريراً أو لا؟ وهذا كلّه يجب أن يكون بالنظر العرفي، دون الدقّي.

([15]) ذلك كلّه بلا فرق بين الجهة التكليفيّة والجهة الوضعيّة، فإنّ المعيار هنا هو المانعية وليس الشرطيّة.

([16]) ما ذكره الماتن صحيح. نعم حيث إنّنا لم نقل بمانعيّة لبس الذهب في الصلاة، فلا موضوع لهذا الجانب فقط من هذه المسألة.

([17]) قد توحي عبارة السيد الماتن أنّه لو كان لديه لباسٌ فلا تنتقل النوبة إلى مثل الطين أو الورق؛ لعدم صدق اللباس عليهما، فالشرط الأصلي هو وجود لباس للمصلّي، واللباس له شروط كالطهارة وغيرها، بل بعضهم ـ كالسيّد السيستاني ـ بنى ذلك على الاحتياط الاستحبابي، فيما بناه بعض آخر ـ كالسيد محمّد سعيد الحكيم ـ على الاحتياط الوجوبي، لكنّه غير صحيح، بل العبرة بستر ما يجب ستره، سواء كان بلباس أم بأيّ شيء آخر.

([18]) تعامل الفقهاء مع نصوص هذه المسألة بطريقةٍ حاولوا فيها جمع الروايات التي ظاهر بعضها الصلاة قائماً مع إيماء، وبعضها الآخر جالساً معه، وبعضها الثالث التفصيل بين الأمن من الناظر وعدمه، وغير ذلك، ولكنّ الجمع بين النصوص برمّتها يبدو صعباً عندما نأخذ إطلاقاتها بعين الاعتبار، وعليه يلزمنا الرجوع لمقتضى القاعدة، وهو تحقيق الحدّ الممكن من الستر بملاحظة الصلاة نفسها تارةً وبملاحظة الناظر أخرى، ولهذا وردت فيها تعابير متعدّدة، فيصلّي قائماً ثم يؤمئ للركوع والسجود، وإذا كان ذلك لا يحقّق الستر وكان الجلوس هو الذي يحقّقه صلّى جالساً أو صلّى قائماً ثم جلس للركوع والسجود الإيمائيين، والخلاصة يلزمه الإتيان بالحدّ الأعلى الممكن من الصلاة ـ أجزاءً وشروطاً ـ مع المحافظة على الستر، بلا فرق في ذلك بين وجود الناظر وعدمه، ومجمل الروايات في قدرها المتيقّن يعطي أولويّة الستر، وهذا يعني أنّه يلزمه وضع يده على عورته، وعدم الانخفاض في الإيماء بحيث تبدو العورة وهكذا. ولا يظهر من النصوص تمييز بين الرجل والمرأة في طريقة الصلاة هنا، مع أنّها أشارت لهما معاً. وأمّا جعل إيماء السجود أخفض من إيماء الركوع، فهو الأحوط.

لكن تبقى حالة وهي ما لو تعارضت ميدانياً الشروط والأجزاء، فمثلاً كان الجلوس أقرب للستر من القيام كما لو كان مقطوع اليدين لا يقدر على ستر عورته بيديه لو قام بينما يقدر على سترها بفخذيه لو جلس، فهل نتنازل عن القيام لصالح شرط الستر وبخاصّة لو كان هناك ناظر، أو نتنازل عن الستر لصالح ركنيّة القيام وبخاصّة لو لم يكن هناك ناظر؟ الذي يترجّح من خلال محتملات الأهمية أنّ المحافظة على القيام مقدّمة على المحافظة على ذات الستر الصلاتي، وأنّ المحافظة على ستر العورة أمام الناظر مقدّمة على المحافظة على قيام الصلاة، وهكذا، والعلم عند الله.

([19]) في نفسه بصرف النظر عن الصلاة.

([20]) وإن كان الأحوط استحباباً في الصورة الرابعة (ما لا يؤكل لحمه) الجمع بين الصلاة فيه والصلاة عارياً.

([21]) وتعرّضنا له في الفصل الثالث (أحكام النجاسة) من المبحث السادس (الطهارة من الخبث)، عند التعليق على المسألة رقم: 428.

([22]) لا يجب عليه التأخير، بل يمكنه الإتيان بالصلاة عارياً أوّل الوقت رجاءً، فإن تبيّن له ارتفاع العذر قبل انقضاء الوقت أعاد، وإلا صحّ.

([23]) الصلاة فيهما معاً حرام قطعاً، لكن هو في حال من التردّد بين وجوب الصلاة في أحدهما وحرمة الصلاة في الآخر، فكلّ واحد يضع يده عليه يحتمل فيه الوجوب والحرمة، وحيث إنّه يجوز له اختيار واحدٍ منهما والصلاة فيه؛ لفرض دوران الأمر بين محظورين أو فقل: بين علمين إجماليّين، فهذا معناه أنّه قادر تكليفاً ـ بحسب المحصّلة النهائيّة ـ على الستر، فلا تجوز له الصلاة عارياً، بل يجب عليه اختيار واحد منهما فقط والصلاة به، وتصحّ صلاته وفعله وضعاً وتكليفاً. هذا وفي مثل الحرير والذهب إذا أمكنه الستر دون صدق عنوان اللبس والتزيّن تعيّن.

ولا بأس هنا بمناسبة الحديث عن لباس المصلّي من التعرّض لأمرين:

الأمر الأوّل: في استحباب لبس العمامة في الصلاة وغيرها

والظاهر أنّ الروايات الواردة في المقام ـ عند الفريقين ـ على نوعين:

نوعٌ تركيزه على كيفيّة لبس العمامة، ولعلّه أكثر الروايات في المقام، كالتحنّك والإسدال والتدوير والتلحّي والإرخاء، والظاهر أنّ هذا كان من علامات التواضع، ولهذا تميّز لباس المسلمين عن غيرهم بذلك، لا بأصل العمامة، إذ أصل العمامة كان موجوداً بين الناس من قَبل، وتعرفه الشعوب الشرقيّة، وإن أشارت رواية واحدة في كتاب أهل السنّة إلى كون العمائم مائز المسلمين في مقابل القلانس التي كان يضعها المشركون دون عمامة، لكنّ هذه الرواية ليست بواضحة الدلالة، فضلاً عن ورودها في طرق الإماميّة مشيرة إلى أنّ المائز هو التلحّي بالعمامة، دون أصل العمامة. هذا إلى جانب النهي عن بعض الأشكال مثل الاقتعاط. وتوجد نقاشات في تفاصيل كيفيّة ارتداء العمامة بين السنّة والشيعة، فلا نطيل هنا.

أمّا النوع الثاني، فهو ما يفيد استحباب أصل التعمّم بصرف النظر عن التحنّك وأمثاله، والروايات الدالّة هنا قليلة جداً وضعيفة إسناداً، بل غير واحدةٍ منها تفرّد بنقله مرسلاً الطبرسيّ في "مكارم الأخلاق"، وكذلك صرّح علماء أهل السنّة بضعف بعض الروايات القليلة جداً مثل: صلاةٌ بعمامة تعدل سبعين صلاة بلا عمامة، أو ما في خبر أنس: تعدل عشرة آلاف، بل بعضهم نقل أنّه موضوع لا أصل له. هذا مضافاً إلى أنّ العديد من الروايات يشير إلى فعل النبيّ وغيره تارةً للفت النظر إلى كيفيّة لبس العمامة من الإسدال والتحنّك، وهذا لا يدل كما تقدّم، وأخرى للإشارة إلى ما هو متعارف لديهم في اللباس، فلا تكون فيه دلالة على الاستحباب، فضلاً عن الوجوب. وأمّا الرواية التي ذكرت أنّ العمائم تيجان العرب، فهي ـ مضافاً لضعفها السندي بالنوفلي ـ لا تحكي، بحسب طبيعة النص، عن حكمٍ شرعي، وإلا لرأينا دعوة لذلك بصرف النظر عن العرب، بل يبدو أنّه لباس له رمزيّة، لا أنّه مطلوب شرعاً في نفسه، ولا أقلّ من الاحتمال الموجب لهدم الاستدلال هنا. وعليه فمن الصعب إثبات أصل استحباب التعمّم، سواء في الصلاة أم في غيرها، فالعمائم ليست سنّة مستحبّة، بل هي عادة قائمة. وأمّا ما دلّ على استحباب ستر الرأس في الصلاة، فهو ـ لو تمّ ـ لا يتعيّن في العمامة، كما هو واضح، ولا يجعلها مستحبّةً بعنوانها في الصلاة فضلاً عن خارجها.

الأمر الثاني: في عمامة علماء الدين ولباسهم

وهنا نقول: وضع العمّة أو العمامة موضوعٌ تمّ تداوله في التراث الحديثي والفقهي عند المسلمين في مواضع متعدّدة، كالصلاة والسفر وغير ذلك. وسوف أتناول هنا ـ من منظور فقهي ـ العمامة بوصفها رمزاً للباس رجل الدين أو عالم الدين، فحديثنا حول عمامة علماء الدين أو لباسهم الخاصّ بشكل عامّ، على اختلافه وتنوّعه بين المذاهب والقوميات والبلدان والأنساب والحقبات التاريخيّة.

والأقرب بالنظر هو أنّه لم نعثر على شيءٍ في الكتاب الكريم أو في السنّة الشريفة يفيد التمييز في اللباس بين علماء الدين وغيرهم، أو أنّ لهم لباساً خاصّاً، فضلاً عن أن يكون بهذه الطريقة أو تلك، أو أنّ هذه العمامة أو هذا اللباس هو نمطٌ متوارث عن النبيّ بما هو نبيّ يحمل ما علّمه الله إيّاه من علمٍ، بل قد كانت سيرة الرسول الأكرم| وأهل البيت النبويّ وصحابة الرسول والتابعين وأصحاب الأئمّة يلبسون ما يلبس الناس، ولم يكونوا ليتمايزوا عن الآخرين في ذلك. ولعلّ بدايات هذا التمييز ظهرت ـ على ما يقال ـ في العصر العباسي الأوّل، وبخاصّة في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، ويقال بأنّ المرجع في ذلك هو بعض فقهاء الأحناف، وأنّ الأمر بلغ ذروته في العصر المملوكي، ثمّ العثماني.

وفي اليهودية ورد في (سفر الخروج، الإصحاح 29: 6) ما نصّه: «وتضع العمامة على رأسه وتجعل الإكليل المقدّس على العمامة»، وهذا مرتبط بما يكون من صفات وأدوار الكهنة، فكأنّه تمييز بين الكهنة وغيرهم ـ وليس بين علماء الدين (الحاخامات) وغيرهم ـ بطقوس منها العمامة على طريقة خاصّة، ولم يرد في المسيحيّة شيءٌ من هذا، لكنّ بعض الكنائس المسيحيّة، ولا سيما الشرقيّة، يضع رجال الدين فيها العمامة، إمّا اتّباعاً لما في العهد القديم، أو هو نوع من الرمزيّة لإكليل الشوك الذي وضع على رأس السيّد المسيح.

وعليه، فليس هناك حتّى استحباب شرعي للباسٍ خاصّ يرتديه رجال الدين، ولو كانت العمامة مستحبّة ـ ولم يثبت كما تقدّم ـ لكان استحبابها عامّاً وغير خاصّ برجال الدين، فيُرجى الانتباه، فليس كلامنا في استحباب العمامة في الصلاة أو مطلقاً؛ لأنّ هذا الاستحبابَ ـ لو ثبت ـ عامٌ، بل كلامنا في التمييز بين رجال الدين وغيرهم في اللباس بحيث تكون العمامة عنصرَ تمييزٍ مقصودٍ للشريعة هنا. ومع هذا كلّه، ليس هناك مانعٌ من تمايز الناس عن بعضها في لباسٍ خاصٍّ بطبيعة نشاطهم، كما هي ألبسة القضاة أو الأطباء أو رجال الشرطة في عملهم، شرط:

أ ـ أن لا يُعتبر ذلك التمايز في اللباس ـ بحيث يُقصد أو يُتلقَّى ـ أمراً دينيّاً فيصير ابتداعاً في الدين.

ب ـ ولا يؤدّي إلى ممارسة حالة طبقيّة مرفوضة إسلاميّاً وأخلاقيّاً.

ومن دون ذلك ليست هناك أيّ مشكلة في الموضوع، بل قد يكون اللباس الخاصّ راجحاً عقلانيّاً وفقاً لبعض الاعتبارات الزمنيّة أو الموضوعيّة، والعكس صحيح.

ولا بأس هنا بنقل كلام الشيخ محمّد جواد مغنيّة (1400هـ)، والذي هو نصّ مقالة مختصرة له كان نشرها في مجلّة العرفان عام 1954م، ثم نشرها في كتابه: الشيعة في الميزان، حيث يقول ما نصّه: «كان اللباس في عهد الرسول‘ والخلفاء الراشدين، وأوّل عهد العباسيّين واحداً لا تمييز فيه لأحدٍ على أحد، فلا فرق بين لباس العالم والجاهل، ولا بين رجل الدين وغيره، فالنبيّ‘ وخلفاؤه وأصحابه جميعاً كانوا يلبسون كما تلبس الناس، فكان العالم يُعرف بهديه وآثاره، لا بثيابه ومظاهره. وأوّل من غيّر لباس رجال الدين في الإسلام إلى هيئة خاصّة هو أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة. وفي المجلّد الأوّل من كتاب المدخل لابن الحاج ص 137 أنّ تمييز رجال الدين باللباس عن غيرهم مخالفٌ للسنّة، ثمّ ذكر مفاسد تترتب على هذا التمييز نلخّصها بما يلي:

إنّ تمييز رجال الدين في اللباس يستدعي ـ كما رأينا ـ أن يتزيّا بزيّهم من لا أهليّة له، فيتقدّم ويترأس في المجالس وغيرها على من هو خير منه علماً وخلقاً، وتنخدع العوام بثوبه فيأتمنونه ويسألونه عن أشياء لا يعرف حكمها، ويمنعُه زيّه ولباسه أن يقول: لا أعلم، كي لا يقال: إنّه جاهل ومتطفّل يلبس ثوب غيره فيُفتي بما لا يعلم، ويحكم بغير ما أنزل الله سبحانه. ولو كان لباس العلماء كلباس غيرهم من الناس لم تقع هذه المفاسد، ولعمّ بهم النفع، وحصلت البركة والراحة والخير على أيديهم. وضَرَبَ شاهداً على ذلك ما حكي عن العالم أبي الحسن الزيّات. كان من عادة هذا العالم الجليل أن يلبس لباس العمال، ويعمل في أرضه كما يعملون، وفي ذات يوم خرج ليعمل في أرضه كعادته، وإذا بالشرطة يأخذونه مع غيره من العمال ليشتغلوا سخرة في بستان السلطان، وكان الشرطة يسمعون باسمه، ولكنّهم يجهلون شخصَه، وليس عليه ما يدلّ على علمه ومكانته، فسمع وأطاع، وعمل كغيره، ودخل الوزيرُ البستانَ يراقب الأعمال، وما أن وقعت عيناه على الشيخ حتى انكبّ على قدميه يقبّلهما ويعتذر، ويقول: من جاء بك يا سيّدي، فقال: أعوانكم أيّها الظلمة، قال: أَقِلْنا يا سيدي، واخرج بسلام، فأبى الشيخ إلا أن يبقى مع المظلومين، وقال: وهؤلاء إخواني، كيف أخرج وأدعهم في ظلمكم؟! قال الوزير: يخرجون معك، فأبى الشيخ، وقال: غدا تعودون بهم إلى السخرة، فأعطاه الوزير أوثق العهود على أن لا يسخر أحداً أبداً، فرضي الشيخ، وخرج هو والعمال. ثم قال صاحب كتاب المدخل في صفحة 139 "إنّما عزّ الفقيه بفهم المسائل وشرحها ومعرفتها، ومعرفة السنن والعمل بها.. ومعرفة البدع وتجنّبها.. قال الله سبحانه: إنما يخشى الله من عباده العلماء. فجعل خلعة العالم الخشيةَ والورع، ولكنّ البعض جعل خلعته توسيع الثياب والأكمام وكبرها وحسنها وصقالتها".

قال صاحب البحار في المجلّد السادس ص 209 طبعة 1323 هجرية: "كان النبيّ‘ يلبس القلانس تحت العمائم، والعمائم بغير القلانس.. وكانت له عمامة يقال لها: السحاب، فوهبها للإمام علي× وكان ربما طلع فيها الإمامُ، فيقول النبيّ‘: أتاكم عليّ في السحاب". ويدلّ على هذا أنّ النبيَّ لم يكن يتقيّد بزيّ خاص، ولم يوجب أحد من أئمة الدين على طلاب العلم وشيوخه لباساً معيّناً.

وبعد أن أصبحت العمامة شعاراً مقدّساً بحكم العادة واستمرارها وجب صيانتها من يد العابثين وضحكة الهازئين، وجب على أهلها الحقيقيّين أن يلزموا أولي الأمر بسنّ قانونٍ يحوطها من الفوضى، ويصونها من جاهلٍ مُنتحل، ومُراءٍ محترف، لو تزيّا غير الشرطي بزيّ الشرطي لعاقبه القانون، فهل تأتي الأيّام، ونرى لمرجعٍ ديني كبير ما لشرطيٍّ صغير من نظام يحفظه ويرعاه. وإن عجز أهل الدين والعلم الصحيح عن إيجاد هذا النظام فألف خير لهم وللمجتمع أن يسيروا مكشوفي الرأس، أو يلبسوا الكوفيّة والعقال من أن يتزيّا بزيّهم الجهلاءُ والدخلاء.

إنّ الدين فوق كلّ شيء، ولكن ليس له حارس يحرسه، ولا سياج يحفظه، اللهم إلا صوت الاستعمار يخوّفنا من عدوه، ويوصينا بالاحتراس منه، يخاف الاستعمار على الدين من عدوّ الاستعمار، كأنّ الدين يوالي الاستعمار ويحالفه، وليس للدين عدوّ كالاستعمار ولا خصم كالإقطاع؛ لأنّهما يدينان بالغيّ والفساد، فيكفران بالله وحقوق الإنسانيّة ويتخذان من الدخلاء على الدين وسيلة لتحقيق ما يبغيان، وهذا وحده يحتّم على رجال الدين الذين هم منه في الصميم أن يسلكوا كلّ سبيل للغربلة والتصفية» (مغنيّة، الشيعة في الميزان: 393 ـ 395).

وقال الشيخ محمّد جواد مغنيّة في موضعٍ آخر، وهو يتحدّث عن وقائع زيارته للإمام الرضا× في مدينة مشهد، عام 1382هـ، وكان يصف العلامة الشيخ محمّد تقي شريعتي (1987م) والد الدكتور علي شريعتي، فيقول: «أمّا العلامة التقي شريعت أستاذ التفسير في كليّة المعقول والمنقول بمشهد، فهو ملاكٌ مقدّس وروح طاهرة تجسّدت في هيكل رقيق أبرته العبادات، وأضنته المجاهدات، يعتمر القبّعة لا لشيء إلا ليصطاد بها هذا الشباب الذي لا يرى إلا القشور والظواهر، لبس القبّعة ليصون بها ألوف العمائم واللحى من سخرية الساخرين بأهل الدين لمجرّد الملابس والمظاهر، فقال لهم بلسان الحال: إنّكم تأبون وتنفرون من العمّة والجبّة، فتعالوا إليّ هذه قبّعتي، وهذا بنطلوني على أحدث طراز.. فتقاطروا إليه من هنا وهناك، وهو يصطادهم جماعات وزرافات، ويتجّه بهم إلى الدين وشريعة سيّد المرسلين..» (مغنيّة، كتاب المقالات، من هنا وهناك: 116).

وكلام الشيخ مغنيّة هذا قبل حوالي سبعين عاماً، ظلّت له عبر التاريخ أصداء، تقوم على الدعوة للصلاح والإصلاح، وليس آخرُها ما وجّهه السيد موسى الشبيري الزنجاني من تحذيٍر وتخوّف من نِسَب تراجعٍ عالية في محبوبيّة علماء الدين والمعمّمين في المجتمع. فمثل هذه الدعوات تتطلّب مواقف ومسلكيّات مسؤولة، من أصغر طالب علم ديني إلى أكبر مرجعيّة دينيّة. وأوّل الخطوات هو التواضع والاعتراف بالخطأ وإجراء مراجعات ذاتيّة نقديّة، فالمشكلة حقيقيّة وعميقة، ولا يمكن تجاهلها ووضع الرأس في الرمال، مغترّين بفائض القوّة الذي نملكه اليوم على غير صعيد. والإصلاحات المطلوبة لا تكون بالكلام والشعارات فقط، ولا بمجرّد الأمل والاكتفاء بحبّ الله وحبّ أهل البيت والصدق الداخلي، بل تحتاج لخطوات حقيقيّة عمليّة تأخذ بالأسباب وتتبع مسالكها. وذلك حتى لا نكون كما قال الشاعر أبو العتاهية (211 أو 213هـ):

ترجو النجاةَ ولم تسلُكْ مسالِكَها

إنَّ السفينةَ لا تجري على اليَبَسِ

كما أنّ من المطلوب توعية الناس للتمييز بين العالم وغير العالم من المعمّمين، بدل توهّم أنّ العمامة مساوقة للعلم، حتى لا يذهب الصالح بجريرة غيره. نسأل الله لكلّ العاملين في هذا المضمار التوفيق لصلاح حال الدين وأهله، والعلم ورجاله، إنّه مجيب الدعاء.

وفي المقابل، إنّه لمن الظلم الكبير الذي يمارسه بعضُ الناس، وبخاصّة بعض الكتّاب العلمانيّين المعاصرين وبعض اللادينيين وبعض الأقلام الصحفيّة هنا وهناك، من جعل عمامة رجال الدين هدفاً للتشويه وتصفية الحسابات السياسيّة وغيرها، وكأنّ المعمّمين كلّهم أثرياء متعجرفون متكبّرون يهضمون مال الله، ماكرون يعملون في السياسة بخلاف الأخلاق والحقّ والدين وغير ذلك من التهم.. ومع اعتقادنا باتصاف بعض المعمّمين بهذه التُّهم، والحقّ أحقّ أن يُتبع ويقال، لكنّ دعوتنا لهؤلاء النقّاد هي الدعوة للإنصاف والعدل في تقويم الناس والحكم عليهم، وعدم التعميم بدون معطيات منطقيّة، وعدم النظر بعين واحدة تلتقط كلّ سلبيّةٍ لتتعامى عن كلّ إيجابيّة.. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: 8).