hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

متابعات

مجلة بحوث في اللغة العربيّة الصادرة عن جامعة إصفهان تنشر دراسة حول "أثر السياق في توجيه الدلالة القرآنية عند الشيخ حيدر حبُّ الله"

تاريخ الاعداد: 8/13/2024 تاريخ النشر: 8/14/2024
1890
التحميل

نشرت مجلّة "بحوث في اللغة العربيّة"، وهي مجلّة نصف سنوية محكّمة تصدر عن كليّة اللغات في جامعة إصفهان، مقالةً تحت عنوان "أثر السياق في توجيه الدلالة القرآنية عند الشيخ حيدر حبُّ الله"، وقد نشرت المقالة في العدد 30، ربيع وصيف عام 2024م. وقد شارك في كتابة البحث كلّ من الدكتور مالك عبدي الأستاذ المشارك في قسم اللغة العربيّة بجامعة إيلام في إيران، والدكتور محمد رضاشيرخاني الأستاذ المشارك في قسم اللغة العربية بجامعة إيلام، والدكتور عايد جدوع حنون الأستاذ في قسم اللغة العربيّة بجامعة المثنّى في العراق، وحسن فالح رشاش الحائز على ماجستير في اللغة العربيّة.

 

وهذا هو نص المقال:

 

 

أثر السّياق في توجيه الدلالة القرآنية عند الشيخ حيدر حبُّ الله

 

 

مالك عبدي

محمد رضاشيرخاني

عايد جدوع حنون

حسن فالح رشاش

 

الملخص

لقد كان السياق ولا زال أداة أساسية في فهم المعاني الغامضة بل واكتشاف مقاصد المتكلم في استعمال حروف دون حروف، وكلمات من دون أخرى، وعبارات غريبة أحيانا بدل أخرى ألف المتلقي تلقيها، فينكشف النص في تَجَلٍّ جديد، لتأخذ قراءته منحى لم يكن ليظهر لولا مباشرة السياق وإسهامه في ذلك. فالقارئ وهو يقرأ نصا ما، يتلقى حروفه وكلماته ومقولاته في مسار ذهني معين، يستدعي من خلال المسافات الأولى التي كتب فيها هذا النص ، مستحضرا عاملين أساسيين في ذلك ، أولهما نسق النص، من خلال سوابق الكلمات والجمل ولواحقهما وما إلی ذلك من الأنساق الداخلية الترکيبية، والآخر هو معرفته بالمتكلم، وكلما زادت معرفة القارئ بالمتكلم زاد اقترابه من إدراك ملابسات الخطاب التي أنتج فيها. فإن النصّ القرآني كتاب مقدّس حظي بقراءات عدّة تختلف باختلاف المرجعيات الثقافية التي ينطلق منها الكاتب، ومن هذه القراءات نظرية السّياق ومدى تأثيره على المعنى، فسيکون هدفنا في هذه الدراسة هو الحصول علی مجموعة من اللافتات السياقية المميزة التي قام حب الله من خلالها بتجسيد المعنی القرآني وتوجيه دلالاته في نطاقات معينة. إذا سنتناول في بحثنا هذا –ووفق المنهج الوصفي التحليلي- السيّاقَ لِما له من أهمية في تحديد المعاني وفهم النصّ القرآني، وقد استأثرت أصول النظرية السياقية باهتمام بعض الباحثين المحدثين منهم الشيخ حيدر حبُّ الله إذ وجد في هذه النظرية ما ينبهنا على فهم النصّ القرآني وتفسيره، ويجنبنا الوقوع في الخطأ. وإجمال نتائج البحث يبيّن لنا أنّ تحديد دلالة اللفظ في النص تكون أقرب إلى قصد صاحب النص ومن نظرية السياق وأثرها الواضح في توجيه الدلالة نتعرّف على القصد الإلهي المراد من دلالات الألفاظ في القرآن الكريم، واتضح کذلك من خلاله أنّ النصوص القرآنية لا يكون فهمها فهمًا شاملًا إلا من السياق القرآني بالنظر إليه كوحدة سياقية كبرى؛ لأن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا، وقد تنبّه حب الله لهذه الوتيرة السياقيّة المؤثرة في نصوصه بشکل حاسم.

الكلمات المفتاحيّة: السّياق، الدلالة، توجيه الدلالة القرآنية، حيدر حبُّ الله.

1. المقدمة

 نجد أن نظرية السياق ومدى تأثيرها على المعنى لم يغفلها علماؤنا الأوائل، فقد كانوا ينظرون إلى معنى اللفظ في القرآن الكريم من دون أن يهملوا الظروف المحيطة به، وكانوا يربطون المقام بالمقال، وقالوا لكلّ مقامٍ مقالٌ، وركز الجاحظ وابن جني وعبد القاهر الجرجاني على معرفة معاني الألفاظ من السياقات الواردة فيها، وكان لنظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني الأثر الواضح في تحديد معاني الألفاظ وفقاً لسياقاتها، وقد أفاد العالم الإنكليزي فيرث من نظرية النظم لعبد القاهر الجرجاني وطورها ليجعل منها نظرية لغوية متكاملة مستقلة، لها أسسها التي حظيت باهتمام الدارسين من بعده وطوروها وأفاد منها العرب في دراسة النصوص والتعرف على دلالتها، وخاصة النص القرآني، لأنّ الاتكاء على معاني الألفاظ في المعجمات العربية لا تكفي في التعرف على دلالات الألفاظ في النص القرآني وغيره من النصوص العربية لكثرة المعاني وتعددها، أما معنى اللفظ الواحد في السياق الواحد لا يتعدد بل يقتصر على دلالة واحدة لا يقبل غيرها.

فلا يأتي السياق القرآني وفق نوع واحد يحكمه، ولا وفق طريقة محددة لا تتغير، بل يأتي وفقًا لأنواع مختلفة يتم من بها معرفة السياق، وينطلق المفسر ضمن الأنواع المختلفة من الدائرة القرآنية الواحدة ثم يتوسع في هذا السياق القرآني عبر المقطع، والسورة وانتهاءً بالسياق القرآني للقرآن بأكمله. إذن «فالسياق القرآني يطلق على الآية القرآنية الكريمة، ويطلق على النص، أي المقطع القرآني، كما يطلق في ناحية أخرى على السورة القرآنية، ويطلق أيضًا على القرآن بأكمله، فهو يبدأ بمحور الآية، ثم يمتد ليصبح شاملًا للقرآن بأكمله». (الطلحي، 1423هـ، ص 88). وإن الدلالات القرآنية تختلف باختلاف سياقاتها القرآنية المختلفة، فاللفظة «تعني شيئًا ما في سياق معين، ويختلف معناها في سياق آخر، وهذا كله مرتبط ارتباطًا وثيقًا بطبيعة السياق، ومن هنا يتبين لنا كيف يؤثر السياق القرآني في طبيعة الدلالات» (المطيري، 2008م، ص 105).

فإن معنی الوحدات الدلالية لا يمکن أن نصفها أو نحدّدها إلا بعد أن لاحظنا سائر الوحدات الدلالية التي تجاورها. وعلی هذا فإنّ «البحث عن معنی الکلمات يتطلّب تحليلا للسياقات والمواقف التي ترد فيها، حتی ما کان منها غيرَ لغويّ» (Berry,1973, 8). وينبني علی ذلك أن العلماء والدلاليين من المستشرقين والعرب المعاصرين قد حاولوا تقديم نماذج أو تقسيمات منوّعة لأنواع السياقات التي يمکن من خلالها توجيه المعنی واکتشاف الدلالات الخفيّة والثانوية التي قد لا يوحي بها النص الأدبي في أول وهلة من معالجته. ومن جملة تلك التصنيفات ما اقترحه کورت إيمر[1] من تقسيمٍ ذي أربعِ شُعَبٍ يشمل «السياقات اللغوية، والسياقات العاطفية، وسياقات الموقف، والسياقات الثقافية، وضرب علی کل من تلك السياقات أمثلة تکشف للمخاطب عن سرّ المعاني الجمّة وأحيانا المتباينة التي قد تحصل للفظة الواحدة خلالَ تسييقها ووضعها بمجاورة الألفاظ الأخری» (مختار عمر، 1998م، ص 69). وهذا ما يسوقنا نحو معاجة فکر الشيخ حيدر حب اللَّه السياقي من خلال نظرته الدلالية إلی بعض آي القرآن الحکيم لتبيين أهميّة هذا التسييق الدلالي في إماطة اللثام عن وجه المعاني المخبوءة في القرآن الکريم کأرقی نصّ أدبيٍّ ظهر علی وجه الأرض. ولا ننسی أنّ الشيخ کان ولايزال يحظی بمکانة مرموقة عند کبار العلماء إذ أُعجبوا ببعض مؤلفاته «وکتبوا لها تقاريظ ووجّهوا نحوها إشادات وتقديرات، منهم المرجع الديني آية الله محمود هاشمي الشاهرودي وعلوي الجرجاني وغيرهما، وکان من أهمّ مؤلفاته القرآنية "مدخل إلی الوحي وبشرية اللفظ القرآني، والوحي والظاهرة القرآنية» (/السيرة-الذاتية(https://hobbollah.com/. کما کان له الباع الطويل في التعبير عن الخلل المعرفي الذي يعتري بنيان المذهب بسبب «توسيع علماء الإمامية أو أکثرهم لدائرة التقية إلی الحد الذي قضی علی الأمل في الوصول إلی الحقيقة الدينية بمعزل عن الشکوك والغبش» (الخضر، 2017م، ص 142-141). فإنّ مثل هذه الشخصية المتعددة الأطراف ينبغي أن يُتناول بالدرس والاستقصاء في مجال الدراسات السياقية التي تمتّ إلی الجانب الإعجازي للقرآن الکريم بصلة مباشرة.

1-1. أهمية البحث وأهدافه

 أهمية السّياق القرآني تکمن في التعرف على أسرار القرآن الكريم ولطائفه، كونه أصلا عظيما من أصول التفسير التي يجب أن يعتمد عليها في التفسير، فالشيخ حيدر حب الله قد عرض المعاني المذكورة في التفاسير ورجح معنى من دون غيره، أو رفض المعاني واختار بعضها الآخر، والذي بدا لي منذ الوهلة الأولى أنه يميل للسياق القرآني أكثر من الاعتبارات الأخرى، عِلمًا إنّي اعْتمدتُ علی المنهج السّياقي الدلالي. وبناءً على ما سبق، جاءت فكرة هذا البحث، وكانت الغاية منها تحقيق الأهداف الآتية:

خدمة القرآن الكريم والتعرف على أسراره الإعجازية من خلال البحث السياقي الذي يحاول تجذير أصول السياقات الموجِّهة لدلالة نص القرآن المبين من منظور الشيخ حبّ الله، وبيان أثر السّياق في معرفة فاعليّات الدلالة القرآنية، ومِن ثَمَّ التركيز على الدلالات الإلهية المقصودة، والابتعاد عن التأويلات المتعددة للوصول إلی محطّة ترکيزيّة معتمدة في استبيان حقائق النص القرآنيّ علی أساس منهج التسييق الدلالي الذي يعتمده حب الله، وأخيرا بيان مقدرته العلمية والتنظيريّة في التعرّف على دلالة اللفظ وفقاً للسياق الوارد فيه.

1-2. أسئلة البحث:

تحاول هذه الدراسة الحصول علی إجابات عن الأسئلة التالية:

1. كيف يمکن التعرف على دلالة اللفظ الوارد في القرآن من خلال السياقات المتعددة الوارد فيه؟

2. ما علاقة السياق بالمعنى من وجهة نظر الشيخ حيدر حب الله؟

3. كيف حصلت التوجيهات الدلالية عند الشيخ حيدر حب الله نظرا للسياقات التي قام بتخريج الآيات علی أساسها؟

1-3. خلفية البحث

 لقد وجدتُ دراسات عدّة تخص أثر السياق والدلالة، منها أطروحة دكتوراه عنوانها «السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة – دراسة نظرية تطبيقيـة» وهي أطروحة تمت مناقشتها في جامعـة أم القرى في مكـة المكرمـة سنة (1427هـ-2006م) للباحـث سـعيد بـن محمـد الشهراني، وقد قام الکاتب بتقسيم الرسالة إلی بابين، الباب الأول هو الدراسة النظرية للسياقات القرآنية، والباب الآخر هو المعالجة التطبيقية للسياق القرآني، وأکّد فيه الباحث على بيان أثر السياقات من منظور تفاسير المدرسة العقلية. وكذلك رسالة ماجستير تحمل عنوان «دلالة السياق القرآني في تفسير أضواء البيان للعلامة الشـنقيطي – دراسـة موضـوعية تحليلية» مقدمـة للجامعـة الأردنيـة، للباحـث أحمـد لافي فـلاح المطيري سنة (2007)، وتتحدث الرسالة عن دراسة تطبيقية لأصل من أصول التفسير وهو دلالة السياقات القرآنية، من خلال العلامة الشنقيطي وهو تفسير أضواء البيان، تناول في المبحث الأول أثر السياق القرآني في المأثور، والمبحث الثاني يوضح اعتماد الشنقيطي على السياق في بيان المناسبة للكلمة، والفاصلة القرآنية، أما المبحث الثالث فقد تناول فيه تحرير مدلولات الألفاظ في ضوء السياق القرآني، وفي المبحث الرابع تناول أهمية السياق للمعنى الإجمالي وما يحيط به. وقواعده. وهناك مقالة مفصلة تحمل عنوان «السياق القرآني وأثره في التفسير» إذ قام بإعدادها أحمد ماهر سعيد نصر بکلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالسادات عام 2019، وذکر فيها أهم المناهج السياقية التي لها دور بارز في الکشف عن المعنی القرآني في أساليبه التفسيرية. کما وجدنا مقالة مطبوعة بمجلة إضاءات نقدية عام 2017 تحت عنوان «السياق وأثره في تأصيل نظرية التصوير الفني، دلالة المفردة القرآنية نموذجا لمحمود شکيب أنصاري وزميليه إذ تطرقا فيها إلی إهم المفاهيم التي تخرج بها اللفظة القرآنية من منظور السياقات اللغوية والموقفية التي ترد فيها والتي تنتج عنها دلالة تصويرية انزياحية. وهناك مذکرة تخرج قدمها کل من بن زيتون منال وحسيني حفيظة أمينة لنيل درجة الليسانس في جامعة البويرة بالجزائر عام 2017 بعنوان «دلالة السياق ودوره في فهم النص القرآني سورة البقرة نموذجا» وتناولا فيها أثر السياقات اللغوية وغير اللغوية في تفسير المشترك اللفظي في سورة البقرة. کما تقدّم علي عبدالأمير هبن العابدي برسالة تحت عنوان «أثر السياق في توجيه أساليب النحو في القرآن الکريم إلی مجلس کلية العلوم الإسلامية بجامعة کربلاء عام 2021 وعالج فيها موضوع السياق أو تسييق الوحدات الدلالية النحوية بغرض الحصول علی معانٍ أرقی في النص القرآني المبين. وأعدّ سيروان عبدالزهرة الجنابي وحيدر جبار عيدان مقالة أسمياها «جدليّة السياق والدلالة في اللغة العربية، النص القرآني أنموذجا» ونشراها في مجلة مرکز دراسات الکوفة عام 2008 وحاولا فيها التوفيق بين العيّنات السياقية والنماذج الدلالية المقتبسة من النص القرآني وتبيين دورها في تخصيب الأساليب المعنوية المستخرجة من آي القرآن الکريم. کما عثرنا علی مذکرة مقدمة لنيل شهادة الماستر في الآداب واللغة العربية في جامعة محمد خيضر بسکرة بعنوان «دلالة السياق في فهم النص، سورة يوسف أنموذجا» أعدّها عبد الفتاح خمّار عام 2015 واستعرض فيها أهم الدلالات التي يوحي بها السياق في تفسير النماذج القرآنية المختارة من سورة يوسف عليه السلام. وکذلك مقالة بعنوان «نقش سیاق در کشف معاني قرآن از منظر مؤلف المیزان» مطبوعة عام 1385 بمجلة "فصلنامه دانشکده الهیات ومعارف مشهد" في العدد 72، بقلم سید علي أکبر ربيع نتاج، وقد ارتکز فيها الباحث علی أهمية المعنی السياقي في الکشف عن دلالات النص القرآني عند العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان. وأخيرا تمّ العثور علی مقالة لکاتبيه عبد الله أحمد الزيوت وهيثم الدهون بعنوان «أثر السياق في توجيه المتشابه اللفظي في الذکر والحذف عند الإمام البقاعي في تفسيره نظم الدرر» إذ قاما بنشرها في مجلة IUG للدراسات الإسلامية في الجامعة الإسلامية بغزة عام 2018 وتناولا فيها أثر السياق القرآني في توجيه المتشابه اللفظي في الذکر والحذف عند البقاعي. ولم نعد نعثر علی مقالة أو رسالة أخری تخص هذا الشأن عموما وتتطرق إلی مناهج المعنی السياقي في توجيه الدلالة القرآنية عند حب الله علی وجه الخصوص، وکان هذا مما أباح لنا ضرورة القيام بهذا البحث المستجدّ حول إنجازات الشيخ حب الله الدلالية في نطاق المعاني السياقية.

 

2. أثر السّياق في توجيه الدلالة القرآنية عند الشيخ حيدر حبُّ الله

سنتطرق ههنا إلی بيان أثر السّياق في توجيه الدلالة القرآنية في هذا البحث المتمثل بأثر السّياق في توجيه دلالة الآية الكريمة، ودلالة سياق النصّ (المقطع)، ودلالة سياق السورة، ودلالة سياق القرآن عامّة.

2-1. أثر السياق في توجيه دلالة الآية

إن السياقات التي ترد فيها الآيات القرآنية لها تأثير بالغ في فهم المقصود من الآي، وفقًا للنظام اللغوي العام الذي تخضع له اللغة، «واعتمد طوائف من العلماء والمفسرين علی سياق الآيات، فأخذوا أوله بنظر الاعتبار ووصلوا بينه وبين آخره، ثم قاموا بالمقاربة بين الجملات والفقر في آية واحدة وحصلوا منها علی معان غير قليلة، وهذا لا يكون إلا بالاعتماد على سابق الآية ولاحقها» (حب الله، 2015م، ج 5، ص 129).

ومن أمثلته قوله عزّ من قائل ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)﴾ (النحل 16: 75-76)»

يرى الشيخ الطوسي أنّ في معنى الآية قولين «أولهما إنه مثل ضُرِبَ للكافر الذي لا خير عنده، والمؤمن الذي يكتسب الخير، للدعاء إلى حال المؤمن، والصرف عن حال الكافر، وهو قول ابن عباس وقتادة، والثاني: نقل عن مجاهد: إنه مثل ضربه لعبادتهم الأوثان التي لا تملك، شيئا، والعدول عن عبادة الله الذي يملك كل شيء، والمعنى أن الاثنين المتساويين في الخلق إذا كان أحدهما قادرا على الانفاق مالكا، والآخر عاجزا لا يقدر على الانفاق لا يستويان، فكيف يسوى بين الحجارة التي لا تتحرك ولا تعقل، وبين الله تعالى القادر على كل شيء، الرازق لجميع خلقه، فبين بذلك لهم أمر ضلالتهم وبعدهم عن الحق في عبادة الأوثان» (الطوسي، 1957م، ج 6، ص 403-404).

 وقد استُدِلَّ بهذه الآية الكريمة علی أنّ فيها حكمًا شرعيًا وهو أن المملوك لا يملك شيئًا، ففي قوله تعالى:﴿مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾ ليس المقصود منه إنکار القدرة إذ إنه قادرٌ على التصرف فيما يملك، وإنما المراد هنا «أنه لا يملك تصرفا فيما مُلِّکَـهُ، ويعُـمّ ذلك في جميع ما هو مالکه أو يکون متصرّفًا فيه» (المصدر السابق، ج 6، ص 404). أما الزمخشري فيرى أن في قوله تعالى ﴿عبدًا مملوکًا لا يقدر علی شيءٍ﴾ حكمًا شرعيًّا، إذ قال «أما ذكر المملوك فليميز من الحرّ، لأن اسم العبد يقع عليهما جميعًا من عباد الله. وأما لا يقدر على شيءٍ فليجعل غير مكاتب ولا مأذون له، لأنهما يقدران على التصرف» (الزمخشري، 1407 هـ، ج 2، ص 622).

وأردف قائلًا «اختلف في العبد هل الملك يصح له؟ والذي يظهر أنه ليس بصحيح له. فإن قلت: مَنْ في قوله ومَنْ رزقناهُ ما هي؟ قلت: الذي يظهر هو أنها موصوفة، كأنه قيل: وحرًا رزقناه، ليطابق عبدًا. ولا يمتنع أن تكون موصوفة. فإن قلت: لِمَ قيل يستوون على الجمع؟ قلت: معناه: هل يستوي الأحرار والعبيد» (المصدر السابق، ج 2، ص 623).

أما الطبرسي فيرى في قول الله تعالى ﴿عبدا مملوكا﴾ شيوعا في الجنس لا تخصيصا، «يريد أن الاثنين المتساويين في الخلق إذا كان أحدهما يقدر على الإنفاق، وکان الآخر قاصرا عن ذلك لايکونان متساويين، فكيف يُسَـوَّی بين الحجارة التي لا تحمل عقلا ولا إدراکا ولا حراك لها وبين الله تعالی وهو قادر على كل شيء خالق رزاق لجميع خلقه» (الطبرسي، 1995، ج 6، ص 161). فلو کانت نظرتنا في هذا الشيوع دون التخصيص لاستبان لنا أنه لا يمکن الخلط بين ما هو مالك أصيل بحسب ذاته وفطرته وبين ما يکون مرذولا أو معيبا أو مذبذبا، إذ لا يُعقَل أن تتمّ التسوية هنا بين الأقوی والأضعف من حيث توافر قوة الامتلاك والتمليك كليهما، لا بين الضعيف الواهن والقوي المقتدر فحسب! وکذا ليس من المعقول أن يُنوَی هنالك عقد مقارنةٍ بين ما هو الأصل المُوجِد وما يتفرّع منه من مخلوقاته المتناثرة علی وجه الأرض، ويستحيل بذلك أن يُراد مجاراة ما هو متولّدٌ من ذاتٍ رصينة بما يکون له بمثابة المرجع والمنحدر.

وقال الشيخ حيدر حب الله في قول الله تعالى ﴿عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾ «وقد استند كثير من الفقهاء إلى هذه الآية لإثبات أن العبد لا يملك شيئًا من أمره وأن معاملاته وغيرها هي غير نافذة، وحتى هو لا يملك أساسا شيئا، لكنَّ له سيدًا يملكه. ومع ذلك، فإذا تأملنا في سياق الآية القرآنية الشريفة وجدنا أنها سياق من الأمثال، وليست سياق بيان حكم شرعي أو تأسيس قاعدة أو مبادئ شرعية. فلا يريد الله تعالى أن يقيم حكماً شرعياً على العبيد، بل هو على وشك أن يقدم مثالاً بشخصين أحدهما فاعل وقادر والآخر عاجز غير قادر، وهذان الاثنان لا يشبهان كل منهما الآخر، لذلك يريد أن يقارن في الآيتين الأولى والثانية بين الفعل وعدم النشاط، وبين النشاط والكسل، وبين الفعل والترك» (حب الله، 2015، ج 5، ص 131). فالشيخ حيدر حب الله يرى أنّ هذه الآية الكريمة بصدد ضرب مثال، بيّن فيه الله تعالى الفرق بين العبد والحر ولا حكم شرعي فيها. فكما أنَّ هناك فرقًا واسعًا بين هذين الجنسين فمن باب أوْلَى يجب أنْ يكونَ هناك فرقٌ بين عبادة الله تعالى وهذه الأصنام التي لا تملك من أمرها شيئًا لا ضرًا ولا نفعًا. فكيف بهم وهم مساوون بينها وبين الله تعالى؟! فالمقارنة التي لا تسمن ولا تغني من جوع عند إرادة المعنی من حيث ما هو عليه من مرتکزات النظام التکافُئـيّ الصحيح لا يمکن أن يرضخ له الشيخ حب الله ولا غيره ممن يسندون أمارات البيان التسييقي إلی حججه العقلية القويمة، وممّا تقدم نلحظ أنّ الشيخ حيدر حب الله جاء متوافقًا مع ما ذكره الطوسي نقلًا عن مجاهد الذي أشرنا إليه أنفًا.

2-2. أثر السّياق في توجيه دلالة النصّ (المقطع): والمقصود بالسياق هذا هو عدّ طائفة من الآي مقطعًا واحدًا، والأخذ بسياق هذا المقطع، وهنا يمكن أن نفرض صورتين اثنتين: الصورة الأولى: «أن نحرر أن هذا المقطع المفترض له وحدة تنازلية، إما من خلال دليل داخلي يؤكد وحدته الهابطة، أو من دليل خارجي متمثل في أسباب الوحي ونحو ذلك، إذا كانت تعتبر دليلاً، وفي هذه الحالة فمن الطبيعي أن يكون لهذا المقطع سياق حجة؛ لأن الوحدة التنازلية تضمن أن جميع آيات المقطع تعتبر جزءا من شخص المتحدث، وهذا يعني أن كل آية هي افتراض مستمر ضد الآية الأخرى، وأن ارتباط الافتراض كافٍ لتحقيق حجية السياق الاتصالي؛ والصورة الثانية: هذا المقطع اللفظي المفترض ليس له وحدة تنازلية، لا من أدلة داخلية ولا من أدلة خارجية، وفي هذه الحالة تارة نتأكد من أنّهما لا يشكّلان وحيًا واحدًا على الرغم من اجتماعهما في المجمع القرآني مع بعضهم البعض، ونحن نشكك في الآخر ونفترض أننا نتسامح أيضًا مع غيابه» (المصدر السابق، ج 5، 133-134).

ففي الحالة الأولى: من الطبيعي -بغض النظر عما سيأتي بعد ذلك ، أنه لا توجد علاقة سياقية وتواصلية لكل من المقطعين أو الآيتين فيما يتعلق بالأخری؛ لأنه من المفترض أن كل آية نزلت من تلقاء نفسها، فكيف نفرض الوحدة السياقية التواصلية !؟ أما بالنسبة للحالة الثانية فمن الصحيح أننا لم نكن متأكدين من الوحدة السياقية التواصلية، بل شكوكنا في الارتباط الذي نشأ من التعاقب الموجود الآن في آيات الكتاب أثناء استكشاف طبيعة المعنى، فمن المحتمل أن يكون متصلاً، و«يرجع هذا الشك إلى الشك في سياق هذا الموجود أو سياق الاتصال، وفي هذه الحالة لا يوجد مظهر في الخطاب إذا أردنا حذف المقطع بناءً على تقدير الوحدة السياقية التنازلية للمقطعين، وهذا ما يستلزم مراعاة القدر المعين من معنى الآية التي تأخذ بعين الاعتبار الآية الأخرى» (المصدر السابق، ج 5، ص 134).

ومن أمثلته ماجاء في قول الله تعالى ﴿ما أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر 59: 7)؛ فالشيخ الطوسي يرى «أنَّ في معنى قول الله تعالى ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ ما أعطاكم الرسول من الفيء فخذوه وارضوا به، وما أمركم به فافعلوه. فأنه لا يأمر ولا ينهى إلا عن أمر الله سبحانه وتعالى» (الطوسي، 1957م، ج 9، ص 549؛ ويُنظر: الطبرسي، 1995م، ج 9، ص 391).

في حين يرى الزمخشري معنى ﴿وما آتاکم الرسول فخذوه وما نهاکم عنه فانتهوا﴾ «فيه إشارة إلى قسمة الغنيمة والفيء، إلا أن المعنى الأجود فيه هو أنْ يكون عامًا في كل ما أمر به الرسول صلوات الله عليه وعلی آله أو نهى عن ذلك» (الزمخشري، 1407هـ، ج 4، ص 503؛ الرازي، 1420هـ، ج29 ، ص507 ؛ الخازن، 1415هـ، ج 4، ص 270).

والمعنى الذي أشار إليه الآلوسي في تفسير روح المعاني «وهو ما أعطاك إياه الرسولُ من الأمر فتشبَّثْ به، وما نَهَاكَ عنه فامتنع عن ذلك، أي أخذ كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما جاءت به هذه الآيات» (الآلوسي، 1415هـ، ج 14، ص 244؛ ابن­عاشور، 1984م، ج 28، ص 87).

ويرى العلامة الطباطبائي في قول الله تعالى ﴿وما آتاکُمُ الرسولُ فخُذُوهُ وما نَهاکُم عَنهُ فَانتَهُوا﴾ «أي ما أعطاك الرسول من الغنيمة فخذها كما أعطاها للمهاجرين وجماعة من الأنصار، وما نهاك عنه ومنعك فامتنع عنه ولا تطلبه» (الطباطبائي، 1997م، ج 19، ص 111)، وبيّنٌ أن ما استفاده العلامة من مضمون الآية سوف يکون هو قصرا علی الدلالة الغنائمية التي يصرّح بها القرآن مع العلم بأنها لا يمکن عنده أن تتعداها إلی مدلولٍ آخر نظرا للحکم العام الذي قال به المفسرون اللاحقون الذين سيأتي الکلام علی تعليلاتهم.

فإن جميع المسلمين ملزمون باتّباع التعاليم المحمّدية، وإطاعة أوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واجتناب ما نهى عنه، «سواء في مجال المسائل المرتبطة بالحكومة الإسلامية أم الاقتصادية أم العبادية وغيرها، ولا سيما أنّ الله سبحانه وتعالى هدّد في نهاية الآية جميع المخالفين لتعاليمه بعذاب شديد» (مکارم الشيرازي، 1992م، ج 18، ص 181).

ويرى حيدر حب الله «أنّ سياق الآية نفسها يمنحنا معنى مختلفًا في دلالتها، فالآية في نصّها الكامل جاءت على الشكل التالي: ﴿ما أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ هذا السياق هو سياق غنائم وعوائد الحرب والقتال. تهدف الآية إلى تقسيم الغنيمة بين المسلمين، مبررة أن المال لا يقتصر على طبقة واحدة في المجتمع، وهي طبقة الأغنياء للتعاطف الفوري مع الواو "وما" ومعها المعنى الأقرب إلى القرينة أن ما أعطاك إياه الرسول من قسمة الغنائم فخذها وما نهاك عنه فطلب منك تركها وتجنبها، فامتنع عنها واجتنبها» (حب الله، 2011، ص 122).

هذا ما يتعلق بالسّياق اللغوي الداخلي، وفضلًا عمّا تقدّم فإن السّياق المحيط بالآية والذي يدور حول الحرب أيضًا، هناك تعبير ﴿آتاكم﴾ و﴿خذوه﴾، حتى لو كان من الممكن إحضار تکليف أو مهمة، بحيث يكون اسم الموصول إشارة إلى التکليف ومجيئها بمعنى توصيلها ونقلها، «إلا أن انسجامه الأوّلي بحيث يكون المتبادر عرفًا هو الإعطاء والأخذ العينيين وهما يبدوان أوفر حظًا من نصيب الآية الدلالي ومغزاه المباشرة، والشاهد على ذلك قرينة المقابلة، فإن ﴿وما نهاکم عنه فانتهوا﴾ يقابلها ما أمركم به فافعلوه لا ما أوصلكم إليكم من التشريع فخذوه؛ لأن ﴿وما آتاکم الرسول فخذوه﴾ (إذا كان كما تمّ توضيحه سابقا فقد كان من الضروري ألا تقع المعارضة في الظاهر، لأنها ستشمل النهي أيضًا، لأنها مما أعطانا الرسول ، لذلك فهي من التعاطف الخاص على العام، بينما تعابير "خذ" و"انتهِ" دليل على التباين، لأن النهاية هنا هي التخلي عن أخذ، وهذا يعزز الإرادة لإعطاء الغنائم أكثر من تأسيس حجية السنة» (المصدر السابق، ص 122).

وممّا تقدم يبدو أنّ الشيخ حيدر حب الله يرى أنَّ هذه الآية لا تؤسّس لحجّية السنّة بالمعنى العام، بل هي أمرٌ مخصوص بالغنائم وعائدات الحرب والقتال، وهذا ما أشار إليه مسبقًا العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان، إلا أنّ أغلب المفسرين يرون أنَّ هذه الآية تدلُ على التمسك والامتثال لكل الأوامر الصادرة عن النبي الأمين صلوات الله عليه وآله، والكف عن كل ما نهى عنه.     وأما نحن کباحثين في آراء الشيخ حيدر فلا يسعنا إلا أن نميل أو ننحاز إلی ما قاله الزمخشري أولا ثم تابعه في ذلك کل من الآلوسي وابن­عاشور من کون هذا السياق عاما يشمل القصيّ والداني ويضم المغنم والمغرم وغيرهما، لأن السياق المقيد بالشرط العام الذي يتخصص بکونه دالا علی المبهمين من غير ذوي العقول فهو يشمل ما لا يقع تحت حصر من جميع المأمورات به والمنهيّـات عنه لدی الرسول الأعظم ونظرته الدستورية التأسيسيّة، فلا يمکننا أن نعقل حصرَ طموحات النبي في دائرة المغانم التي أمر بأخذها أو نهی عن الإمساك بها، وهذا مما يجعل بيننا وبين رؤية الشيخ حيدر فرقانا من حيث أننا لا نتفق معه في تضييق دائرة الأوامر والنواهي بما نصّت عليه الآية تصريحا بحسب لفظه، بل إن للسياق العام الذي وردت فيه أداة الشرط أولويّة علی الترکيب المفرداتي من حيث استيفاء جنبات المعنی التي تقصر عن تأديتها اللفظ المنعزل عن السياق، فنميل إلی دائرة الموسعين من حيث أنّ المأمور به هو عام يشمل جميع بوادر الخير لدی الرسول، وأن المنهي عنه هو جميع المحظورات التي بادر إلی رسم حدودها مع الترکيز علی هذا النوع الخاصّ من المحظور الذي تحدثت عنه الآية.

ومثل ذلك قوله عز وجل ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة 2: 256).

وقوله ﴿قَدْ تَبيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ﴾ معناه «وقد ظهر معناها في عدد كبير من الحجج والآيات التي تدل على ارتباط ما جاء به الرسول بما في ذلك الألف واللام. وفي قوله ﴿الدِّين﴾ احتمال أمرين اثنين– الأول أن يكون نظير قوله سبحانه ﴿فإنّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَی﴾ (النازعات 79: 41) بمعنى: مأواه، وأيضا ﴿لَا إِکراهَ في الدِّينِ﴾ أي في دينه، لأنه سبق ذكر الباري عزّ وجلّ كأنه قال ﴿لَا إِکراهَ في الدِّينِ﴾ والثاني لتعريف دين الاسلام، والغي ضد الرشد، تقول غوى يغوي وغواية: إذا سلك خلاف طريق الرشد» (الطوسي، 1957م، ج 2، ص 311)؛ وکذلك «بنى الأمر على الاختيار قد تبين الرشد من الغي قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة فمن يكفر بالطاغوت» (الزمخشري، 1407هـ، ج 1، ص 303).

وبما أنه سبق ذكر الاختلاف بين الأمم، وأنه لو أراد الباري عزّ وجلَّ لأجبرهم على الدين ثم بين تعالى دين الحق والتوحيد عقبه بأن الحق قد ظهر والعبد قد خير إكراه بقوله «قالوا إنّ في معنی ﴿لَا إِکراهَ في الدِّينِ﴾ أقوالا أربعة: أولها - قال الحسن وقتادة والضحاك: إنها في أهل الكتاب ولاسيما الذين يدفعون الجزية؛ الثاني- قال السدي وابن زيد إن الآية نُسِخَت بالآي التي فيها أمر بالحرب مثل قوله سبحانه ﴿فَاقْتُلُوا المُشرِکينَ حَيثُ وَجَدتُمُوهُم﴾ (التوبة 9: 5)؛ وقوله تعالی جدّه ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذينَ کَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ (محمّد 47: 4)؛ والثالث- قال ابن عباس وسعيد بن جبير: إن الآية نازلة في بعض الأنصار وكانوا من قبل يهودا فأريد إجبارهم على دين الاسلام؛ والرابع- قيل «﴿لَا إِکراهَ في الدِّينِ﴾ أي لا تقولوا لمن دخلها بعد حرب أنه دخل فيها تحت الإكراه، لأنه إذا رضي بعد الحرب، وکان صحيح الإسلام فليس بذي إکراه، فان قال أحد كيف تقولون ﴿لَا إِکراهَ في الدِّينِ﴾ وهم مقتولون بسببه؟! أجبنا أنّ المراد بذلك لا إكراه فيما هو دين في الحقيقة، لأن ذلك من أفعال القلوب إذا فعل لوجه بوجوبه، فأما ما يکون مُکرها عليه من إظهار الشهادتين فليس بدين، كما أن الذي أَکْرَهُوهُ علی القول بکلمة الکفر ليس داخلا في حيّز هذا» (الطوسي، 1957م، ج 2، ص 310؛ الطبرسي، 1995م، ج 2، ص 144؛ القرطبي، 1964م، ج 3، ص 280).

وقال الرازي: «إنّه تعالى ما بنى أمرا من الإيمان على الإجبار والقسر، وإنّما بناه على التمكن والاختيار أي لا إجبار فيه، ثم احتج محمد بن علي المعروف بالقفال على أن وهذا هو المراد به تعالى، إذ أوضح أدلة التوحيد تفسيرا واضحا قاطعا للعذر، فقال بعد ذلك: بعد بيان هذه الأدلة للكافر لا عذر في الكفر إلا أنه هو يُكرِه على الإيمان ويُكرَه عليه، وهذا لا يجوز في الدنيا التي هي دار ابتلاء الإنسان واختباره، فالقهر والإكراه في الدين يبطلان معنى الابتلاء والامتحان، فتتضح العقلانية وتتضح الأدلة وأمارات الرشد، وبعد ذلك لم يبق إلا طريق الإكراه والقسر، وهذا لا يجوز لأنّه يتعارض مع التکليف» (الرازي، 1420هـ، ج 7، ص 15؛ الآلوسي، 1415هـ، ج 2، ص 14).

 وقد بيّن الله تعالى ﴿لَا إِکراهَ في الدِّينِ﴾ بقوله ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾ «وهو في موقع التعليل والتدليل، لأن الإكراه والقسر لا يعتمد عليهما إلا المربي الحكيم والعاقل في الأمور الهامة التي لا سبيل فيها لتوضيح وجه الحقيقة فيها بسبب بساطة فهم الأمور وسوء عقل المحكوم، أو لغير ذلك من الأسباب ، فيحكم الحاكم بالإكراه أو بالأمر بالتقييد ونحو ذلك، وأما الأمور المهمة التي يظهر فيها وجه الخير والشر، وقرّر وجه العقوبة التي تعلَّق فعلها وترکها، فلا داعي للإكراه، بل أن يختار الإنسان لنفسه ما يشاء من وجهي الفعل وعاقبتي الثواب والعقاب، والدين عندما اتضحت معالمه وظهرت حقائقه واستبان طريقه بالبينات الإلهية المبينة بالسنة النبوية، فتبين أن الدين رشد والرشد يتأتّی لاتباعه، والغيّ في تجنبه والميل عنه. وهذه من الآيات التي تدل على أن الإسلام ليس على أساس السيف والدم، وليس مبنيًّا على الإكراه أو العنوة.» (الطباطبائي، 1997م، ج 2، ص 196).

وقد تحتوي هذه الآية «ردًّا حاسما على کل من يتهم الإسلام بأنّه قد يتوسل بالقوة والقهر والعنوة ويستعين بظبا السيف والقدرة العسكرية في تقدمه وانتشاره، وعندما نرى أن الدين الإسلامي لم يُجِز الاستعانة بالعنف والعنوة والقسر في حمل الوالد لولده على تحويل ملته واعتقاداته الدينية فإن ما يتوجّب علی الآخرين بهذا الشأن لا يکون خفيًّا، إذ لو كان حمل الناس على تغيير معتقده وأصول شرائعه ودينه، هذا وإنه لم يوفّر له مثل هذا الحق» (مکارم الشيرازي، 1992، ج 2، ص 260).

أما الشيخ حيدر حب الله فيرى أنَّ هذه الآية الكريمة تبني قاعدة لإزاحة القسر في الدين، بمعنى أن يحمل عليه فيجعل فيه إرعابا أو کراهية ذا كراهية کأن يکون عن طريق الإخافة والإرهاب مثلا بما هو أشد منه كراهية، فالدين لا يعمل علی أساس الکراهية بتاتا ولا سبيل للإکراه والعنف والإجبار إليه، فتكون بمثابة القاعدة العامّة التي لا يخرج عنها إلا بدليل، فالآية تحتوي علی النفي والنهي لكنها تنصّ علی عدم التناغم بين الدين والقسر والإجبار، ولا بد لنا من النظر في قوله ﴿قد تبيّن الرشد من الغيّ﴾ فهذه الفقرة من الآية –كما يقرره أصحاب التفسير- هي بمنزلة بيان العلة لصدر الآية، وهنا إما أن تقول: «إنه لا قسر في الفعل الذي مصدره القلب (الفعل القلبي) على نحو الجمل الإخبارية؛ لأن الغيّ والرشد هما واضحان وقد بان کلّ منهما، أو نقول: إنه لا يجوز الإجبار في حدود الظاهر؛ لأن الرشد والغي قد ظهرا واستبانا، والذي يکون أنسب -وفقا لسياقات التعليل- هو الثاني، لأن استبانة الحقّ والباطل علةً ولا مؤثرًا في نفي الإكراه في الشؤون القلبية، فسواء أکان ظاهرا أم خفيّا أم خفي فلا مجال لوجود هذا القسر والإجبار، لاستحالة أن يتحقق المعلول -وهو الاعتقاد – دون أن تتحقق علته وهي التوطئة والتخطيط وتقديماته الفكرية، وبناء علی ذلك فليس هذا تعليلًا، إذ يکون المعنى عندئذ: لا تجبروا أحدًا على إجبار ظاهريًا على اعتناق الدين؛ لأنّ الحق والباطل أصبحا متّضحين حقًّا، فليکون الأمر محوّلا إلى الإنسان ذاته كي يتخيّرهما ويتحمّل مسؤولياته تجاههما» (حب الله، 2020م، ص 255).

وفي ظننا أنّ عند الشيخ ههنا تعميما وشياعا بخلاف النظرة التضييقية التي رأيناها عنده في آية المغانم، فالإنسان هو المختار لطريقة الصواب أو الخطاء وهو المتحمل لأعباء کل من هاتين الطريقتين مهما کانت من عقاب أو ثواب، وفي ظننا أنه نظر إلی نفي أو استبعاد وجه الإکراه من خلال الأمر اللامحسوس الذي تتضمنه الآية في طليعة قوله تعالی "لا إکراه" أي تأملوا حتی تجدوا أن لا إکراه في الدين قطعا أي ومن أراد أن يتأمل فليجد أنه ليس في حيّز الاقتسار ولا يکون تحت نير مذلة الإکراه حيثما أراد أن يختار دينا أو يتبع ملة، فهو يکون حرًّا طليقا في اختيار العقيدة واعتناق الديانة أيا کانت، ولکنه إذا خضع لبنيان الشريعة الإسلامية فليس له إلا الاتباع –حسبما يستفاد من الآي- إذ لا يمکن أن يحب المرءُ شخصا مثلا ويصطفيه لنفسه خليلا بحسب اختياره ثم يأتي ليستعصي عليه ويتمرد في کل ما يراه عنده من الأسس والمبادئ التي يلتزم بها فيدّعي أني حرٌّ في اتباعك أو عدمه، وبديهيّ أن مثل هذا لا يُعقَل لدی الفطرة السليمة، إذ لو کان هو أراد أن يتمرد علی دستوره لما کان يرتضيه أو يختاره أولا. فالمنطلق العقدي يکون فيه الخيرة أولا ثم إذا ما تمّ الإقرار به فلا يتأتی لمعتنقه إلا التسليم والاتباع والله أعلم.

2-3. أثر السّياق في توجيه دلالة السورة

 وهو السياق الذي يُنظر فيه إلى الغرض الرئيس الذي تدور فيه السورة كما أشرنا إليه آنفًا، طرحت فكرة سياق السورة في كلام الباحثين اللاحقين مثل الدكتور محمد عبد الله دراز وأنصار التفسير البنائي - مثل الدکتور محمود البستاني - الذين اعتبروا أن كل سورة في القرآن الكريم له هيكله ونظامه ومكوناته الخاصة التي تعبر عن الوحدة التي تجمعها على الرغم من تعدد أقسامها والاختلاف في وحيها، وإنّ نهاية السورة تخبرنا عن بدايتها ووسطها وترتبط بطرفيها. «كان لدى القدماء محاولات ميدانية قد توحي بفكرة من هذا النوع، كما نجد في تفسير مجمع البيان للطبرسي والتفسير الكبير للرازي ، وقد يعتبر النظر في السورة الكاملة بكونها بنية متکاملة ذات وحدة موضوعية عنوان "فقه السورة القرآنية".)» (حب الله، 2015م، ج 5، ص 135).

ولمعرفة السياق المتصل بالسورة القرآنية «بالملاحظ الميدانية للسورة، وهذه الملاحظة الميدانية لها العديدمن المشاكل، ودونها عقبات لإثبات قاعدة عامة في جميع السور، لأنه إذا كان صحيحًا في بعض السور التي نفترض أنها نزلت كلها بطريقة واحدة، فستكون شاهداً على وحدة السورة النزولية كما هي في سورة يوسف والدهر، ومعظم قصار السور قصيرة بدون إمکانية تقرير أو إثبات الوحدة السياقية مع تعدد النزول؛ لأن ما نريده هنا هو إثبات الوحدة السياقية لجميع السور بنزولات متعددة، وإلا فإن هذا الافتراض لن يقدم أيَّ شيء جديد. ولا بد هنا من إثبات أن جميع سور القرآن هي بلا استثناء، فإذا توصلت إلى أي تركيبة قد يتم اختلاق صورة متکاملة لها فيمكن لمثل هذا العقل الأيديولوجي أن يمنح كل سورة - بغض النظر عن كيفية تشكيلها لها- وحدة سياقية، والتي لا تخضع لمعطيات لغوية واضحة في كثير من الحالات. في كثير من الأحيان» (المصدر السابق، ج 5، ص 136). فالوحدة السياقية يبدو أنها ثابتة غير متحولة في جميع الآي التي نزلت، إلا أنها تتقولب في إطار المکانيزمات البيانية المنوعة حسبما تقتضيه الأبنية المعنوية المنسبکة في کل سورة من سور القرآن وبحسب الأجواء المعرفية التي تسودها أو المرجعيات الثقافية التي تسوقها أو الهيکليات التأسيسية التي تنبني عليها محتويات الآي الکريمة من حيث الجهات التعبيرية التي ترصدها للمعنی.

 وأضاف الشيخ حيدر حب الله موضوعًا وهو أنه من الذي أمر بوضع الآيات في أماكنها؟ النبي أم المسلمون؟ إذا كان قد بني في الدراسات القرآنية على حقيقة أن ذلك كان من المسلمين أنفسهم فيما رأوه من مصالح ومقاصد في الصدر الأول، فهذا يقضي على فلسفة وحدة السورة، لأن فعلهم هذا ليس بحجة ضدنا، ولا يكشف بالضرورة عن وجود نية إلهية في ترتيب السورة حتى ننسب نتائج هذا الترتيب إلى الله تعالى نفسه، «أما إذا كان الواضع هو الرسول مما يفتح الباب أمام إمكانية الهداية الإلهية في هذا الصدد -كما ورد في بعض الروايات التاريخية- فإن مسألة سياق السورة تكون أسهل، إذا أمكن إثبات أن جميع الآيات والمقاطع قد تم ترتيبها بالوحي الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله، حيث إننا أثبتنا أن تعمد هذا الترتيب من قبل النبي الأکرم كان بالوحي الإلهي الذي يهدف إلى جعل السورة وحدة اتصال حقيقية، حتى لو لم تكن وحدة اتصال نزولية» (المصدر السابق، ج 5، ص 137).

ومن أمثلته ما جاء في تفسير قصار السور قوله تعالی ﴿إِذا جاءَ نَصرُ اللَّهِ والفَتحُ (1) ورَأَيتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللَّهِ أَفواجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ کان تَوَّابًا (3)﴾ (النصر 110: 1-3).

هذه السورة نزلت في المدينة المنورة بعد الهجرة، وفيها بشرى عظيمة للنصر ودخول الناس إلى دين الله بأعداد كبيرة، وتدعو الرسول إلى التعظيم والحمد لله والاستغفار في ذلك شكرا على تلك النعمة، وما ظن به بعضهم من أن هذه السورة نزلت بعد فتح مكة في السنة العاشرة للهجرة أثناء حجة الوداع فهو ظنّ بعيد جدا، لأن آيات السورة لا تتطابق بل لا تنسجم مع هذا المعنى، لأنها تخبر عن حادثة تتعلق بالمستقبل لا الماضي، وسُميت بسورة التوديع لأنها تتضمن نهاية حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفي الرواية: «لما نزلت هذه السورة قرأها رسول الله صلى الله عليه وآله علی صحبه ففرحوا وابتهجوا، وسمعها العباس فبكى، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ما يبكيك يا عم؟" قال: أظنك قد نعيت إليك نفسك يا رسول الله، فقال: "إنه لکما تقول" ويبدو أن دلالة ظاهر السورة ليست على قرب ارتحال النبي الأعظم صلوات الله عليه بل علی النصر والفتح، فکيف أدرك العباس أنها تنعی إلی الرسول نفسه؟ فيبدو أن السورة بدلالتها علی اکتمال الرسالة وتثبيت الدين هي التي أوحت بقرب رحيل النبي الأکرم صلی الله عليه وآله» (مکارم الشيرازي، 1992م، ج 20، ص 517-518).

أما المعنى في قوله جلّ وعلا ﴿فَسَبِّح بِحَمدِ ربِّك واسْتَغْفِرْهُ﴾ فيرى الشيخ الطوسي فيه «أنّ هذا أمر من الله عزّ وجلّ لرسوله أن يخلصه من صفات النقص التي لا تليق به ويستغفره، وذلك بالفتح والنصر؛ وأنّ النعماء به تقتضي قبول حق النعمة الذي يناقض المصيبة. كأنه قال قد حدث أمر يستوجب الاستغفار مما جدده الله لك، فاستغفره بالتوبة، فيقبل منك، ومخرجه هو مخرج الكلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو تعليم لأمته جمعاء، ومعنى ﴿فَسَبِّح بِحَمدِ ربِّك﴾ تعظيم ربك وأن تنزّهه مما لا يجوز عليه. وقيل في معناه أنه صلّ شاکرا للنعمة الجديدة التي وفّرها لديك. وقد يكون طلب الغفران عند ذكر الخطيئة بطريقة تتعارض مع الإلحاح ، أو قد تكون في صورة تسبيح لله وانفصاله عن الغير إلی الله تعالی» (الطوسي، 1957م، ج 10، ص 405-406).

وقال الرازي: «النصر لا يکون لائقا ولا جديرا إلا بالله ولا يليق فعله إلا من الله أو لا يکون جديرا إلا بحكمته ويقال: هذا صنعة زيدٍ إذا كان هو مشتهرا بإحكام صنعته، والمقصود منه تعظيم حال تلك الصنعة، فكذا ها هنا، أو نصر الله لأنّه تلبْ~ لدعوتهم، وفي هذه الآية قدم الاشتغال بالخلاق العليم على الاشتغال بالذات فذكر اولًا ممن خلق أمرين أوّلهما: التسبيح، والثاني: التحميد، ثم جاؤوا بالاستغفار في المرتبة الثالثة وهو حالة ممتزجة من التوجُّه إلى الخلاق العليم وإلی الخلق» (الرازي، 1420هـ، ج 32، ص 336-337). فكان الأمر بالتسبيح وبالاستغفار على حصول النصر والفتح إيماءً إلى تسبيح واستغفار يحصل بهما تقرب لم يُنْوَ من قبل، وهو التهيؤ للقاء الله، و«أن حياته النبوية باتت علی مشارف الانتهاء، وانتهت العبادات والطاعات والقُرُبات التي تزيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرتبته عند ربه، لذلك فلم يبق هنالك إلا أن يطلب من ربه الصفح عما يعتريه من انشغال ببعض المتاعات والحظوظ الضرورية للحياة، أو انشغال بمسألة خطيرة مما يتعلق بشؤون للأمة يفوته بسببه شيء آخر يکون أهمّ منه» (ابن­عاشور، 1984م، ج 34، ص 594).

ويرى الشنقيطي في آية ﴿فَسَبِّح بِحَمدِ ربِّك واسْتَغْفِرْهُ﴾ «قرن التسبيح بالحمد، وتحتوي ارتباطا ببداية السورة ومـآلها، بحيث تکون دالّة على اكتمال وظيفة الرسالة بتحقق نصر الله لنبيه المختار أحمد صلوات الله عليه وللمؤمنين ولدينه الذي ارتضی له. ومجيء الفتح العام على المسلمين لبلاد الله بالفعل أو بالوعد الصادق وهذه النعمة تستوجب شكر الله والحمد والثناء، فالتسبيح هنا مقترن بالحمد. والأمر بالاستغفار مقرونا بالتسبيح مكمل للأمر، فهو أساس أمر الدين، بالجمع بين الطاعة والحذر من الخطيئات واجتناب المعاصي، وکذا ليكون أمره بذلك مقرونا بعصمته نفاذاً إلى اللطف بحقّ أمته، ولأن الاستغفار من التواضع والهضم للنفس، فهو عبادة في حد ذاتها» (الشنقيطي، 1995م، ج 9، ص 140).

ويقول العلامة الطباطبائي «وبما أن الفتح والنصر كانا إذلالا من العلي الأعلی للشرك وتعزيزا لکيان التوحيد، وبعبارة أخرى هما مسببان لإبطال الباطل وإحقاق الحق، فإنه من المناسب من الناحية الأولى تسبيح الله عز وجل وتمجيده، ومن الجانب الثاني - وهو نعمة الحق- يليق بحمده والثناء عليه ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾» (الطباطبائي، 1997م، ج 20، ص 215).

وهناك طريقة أخرى يوجه بها الأمر بالحمد والتسبيح والاستغفار جميعًا وهو «أن للرب الأعلی أن يذكره العبد بصفات كماله ويذكر نفسه بما لديه من نقص وحاجة وافتقار، ولما كان في هذا الفتح فراغ له صلى الله عليه وآله وسلم من غالبيّة ما كان يجتهد في سبيله من إزالة الباطل واجتثاث أصول الفساد أمره بتذكيره في ذلك الحين بجلالته وهو التسبيح، وبجماله وهو الحمد، وکذا تذكيره بنقصه في نفسه وحاجته إلى ربه وهو وجه الاستغفار» (المصدر السابق، ج 20، ص 215).

أما الشيخ حيدر حب الله فيرى هذه السورة أن مقصدها ما يسمى بأخلاقيات النصر، وإنّ الشعوب اعتادت عندما تنتصر تتفاخر بنصرها، وتصفق لقائدها، ويرجعون الفضل إلى أنفسهم وحكمة قائدهم، فينسى الله في هذه اللحظات؛ لأن في لحظة الحرب يقصدون المساجد ويدعون الله في سبيل النصر وعند الانتهاء من الحرب ينسون الله، وكذلك الأمرُ في عصرنا هذا إذ ندعو الله عند اشتداد البأس ومسيس الحاجات فحسب، فهذه السورة رسالتها الأساسية «أن تقول إن ذكر الله حال النصر أشد حاجة للإنسان من ذكره قبل النصر؛ لان ذكره قبل النصر ربما يكون ناشئ من طبع ظرفي عند الإنسان أي بمعنى غريزي، لكن ذكره بعد النصر ناشئ من تربية دينية جهادية نفسية في أنه إذا انتصر لا ينسى الله، إذا جاء نصر الله والفتح فسبح بحمد ربك واستغفره، ثم سماه نصر الله ولم يسميه إذا جاء نصركم، ليشيروا المسلمون ونبيهم إلى فضل الله في كل ما يحصل، ولا ينسوا ذكر الله في لحظات الرخاء كما لم ينسوا ذكر الله في لحظات الشدة، فنسمي هذه السورة ومضمونها او مقصدها اخلاقيات النصر» (حب الله، 2015م، الموقع الإلکتروني).

ونلحظ إذن المعنى العام لهذه السورة هو الكلام عن أخلاقيات النصر من وجوب التسبيح، والتحميد، والاستغفار لله تعالى مقابل ما يحصل عليه من النصر من عنده، إلا أنّ بعض المفسرين يذهبون إلى أن الغاية من الحمد والتسبيح والاستغفار كانت في نقطة مقابلة لختم الرسالة النبوية وهذا ما قاله الشنقيطي. ويبدو أن ذلك بعيدٌ، وأن ما ذهب إليه الشيخ حيدر حبّ الله هو عين الصواب، لأن الله تعالى في معرض تربية نبيه وتربية المسلمين على الأخلاق، ومنها اخلاقيات النصر، فعندما ينتصر المسلم بعد التوكل على الله تعالى عليه أن يتذكر الله بعد النصر بالتسبيح والتحميد (سُبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إلهَ إلّا اللهُ واللهُ أکبرُ) وبعدما يكمل مجموعة من التسبيحات يبدأ بالاستغفار، شكرًا وحمدًا وتنزيهًا لله تعالى، واعترافًا بالنقص أمام الذات الإلهية المقدّسة. وهذه السورة من مصاديق قول الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه: «أَدَّبَني ربّي فأحسنَ تأديبي» (البغوي، 1995: 263)، ليكون هذا المصداق هدفًا ورسالة للمسلمين في كيفية العمل بعد تحقيق النصر؛ فكما ندعو الله أن ينصرنا قبل تحقق نصره نسبحه ونحمده ونستغفره بعد تحقق النصر. ولا نتفاخر بنصرنا ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ (الأنفال 8: 10).

وإذا أردنا أن نتأمل الأيات الکريمة من حيث النضد الکَلِميّ والتنسيق الآلياتي البديع الذي ورد فيها لفظا ومعنی فنقول أوّلا إنّ السبح لغة تعني «المرّ السريع في الماء والهواء، واستعير کذلك لمرّ النجوم في الفلك نحو: كل في فلك يسبحون؛ ويستعار کذلك لجري الفرس ولسرعة الذهاب في العمل، والتسبيح أصلا هو المرّ السريع في العبادة» (الراغب الأصفهاني، 1412هـ، ج 1، 392)؛ فيبدو أن الأمر بالتسبيح أولا يقتضي المبادرة السريعة إلی الانشغال بطاعة الله تعالی عن کل ما هو دونه لأنه تعالی سبّب لهم هذا الخير والنصر العظيم وبسرعة فائقة، فإن هذه السرعة الخارقة في تحقيق النصر تستدعي سرعةً أعلی في امتثال أمر الرب بمبادرة التسبيح ثم الاستغفار، ولاسيما وأن السياق مبدوء فيه بأداة الشرط الکثير الوقوع –إذا- دون إن ولو، وهذا يعني بدوره أن النصر والفتح لا محالة آتيان واقعان من عند الله العزيز الحکيم فيجب أن يعقبهما تسبيحٌ واستغفارٌ مباغتةً، ثم أن في تقديم التسبيح علی الاستغفار حکمة وهي أن الاستغفار يتعلق بالعبد وهو أمر عبوديّ بخلاف التسبيح الذي هو أمر عبادي، فيُقتضَی للمرء أن يکون واعيا أولا بما يترتب عليه من وظائف التسبيح والتقديس وتبيين المکرمات، ثم أن يبادر إلی طلب الغفران بالوجه الاستنجادي الذي يأمره به الرب الأعلی، وفي الآية صنعة بديعية طريفة وهي اللف والنشر حيث جاء بالنصر والفتح أولا ثم رتّب عليهما التسبيح والاستغفار علی سبيل الطي والنشر المرتب أو حتی المشوش من حيث المناسبة التي تُنوی بين کل من النصر والفتح وما يقابلهما من معاني التسبيح والاستغفار، حيث طوی سبحانه معالم النصر والفتح أولا ثم نشرهما أو نشر بدائع ظهورهما علی سبيل المرتبتين العبادية والعبودية اللتين تليهما.

2-4. أثر السياق في توجيه دلالة القرآن عامّة

 ويمكن وضع أكثر من تصور للسياق القرآني العام وهو أن يقصد بالسياق القرآني العام جميع آي القرآن الكريم بمثابة قرائن متصل يحكمها نص واحد من شخص واحد وفي مجلس واحد. وهكذا فإن جميع الآيات القرآنية متأثرة بعضها ببعض ولا يترتب علی أية آيةٍ ظهورٌ إلا أن يُضَمَّ إليها كل الآيات المتعلقة بها والتي تتصل بها اتصالا وثيقا، وقد يتفرّغ على هذا التصور أنه "لا يمكن ممارسة تفسير مجزأ لنصوص القرآن الکريم بالطرق المستعملة لدى قاطبة أصحاب التفسير، وهي تلك الأساليب والطرق التي تنظر إلى الآية وما يسبقها وما يتلوها، وأحيانًا يمتد إلى بعض الآيات ذات الصلة، لكن من الضروري فهم كل آية في سياق مجموعة آيات الكتاب، ويصبح التفسير المجزَّأ (=التجزيئي) قريبًا من التفسير الموضوعي في أحد معاني النوع الثاني» (حب الله، 2015، ج 5، ص 138).

وکذلك أن يکون المراد بالسياق القرآني العام هو تفسير القرآن بالقرآن ويکون هذا المعنى مقبولا، لأنه مطلوب بموجب قانون الفهم اللغوي العقلاني لأي كلمات تنبعث من متحدث عاقل وحكيم، «فإذا كان المتحدث هو الله سبحانه وتعالى، فطبيعي– أن لا يوجد تناقض في كلماته، ولا تغيير ولا تبديل في علمه وأن تکون كلماته تكمل بعضها بعضا، وتتحول الآيات والسور إلى مداميك تكمل بعضها البعض، ليس بمعنى آيات الوحدة الاتصالية التي أشرنا إلی صعوبة إثباتها في جميع الآيات، بل بمعنى الوحدة الجماعية (المجموعية) التي يکون مُفادها أنَّ أيّةَ آيةٍ ما أو سورة أو مقطعٍ ينقل معنى» (المصدر السابق، ج 5، ص 138). وكذلك أن يُقصد بالسياق القرآني العام، هو المقاصد الأساسية أو الأغراض التي من أجلها جاء القرآن الكريم أو استجابة لإلزاماتها واستدعاءاتها، بحيث «تحكم على فهمنا لأهميته وتشكل إطارًا لحركته. فعلى سبيل المثال، إذا حسبنا أن القرآن الكريم جاء لغرض الإرشاد والهداية وليس لغرض شرح جميع العلوم والفنون أو تبيينها، فإن هذا السياق (في الأغراض) سيترك أثرا على فهمنا للنصوص» (المصدر السابق، ج 5، ص 139).

ومن أمثلته نصوص الشدّة ونفي المودة، كما في قول الباري عزّ وجلّ ﴿يَا أيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الکُفَّارَ والمَنافقينَ وَاغْلُظْ عَلَيهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ﴾ (التحريم، 66: 9). ونقل الثعلبي عن ابن عباس قال «باللسان وشدة الزجر بتغليظ الكلام، وجاءت هذه الآية ناسخةً لكل شيءمن العفو والصلح والصفح» (الثعلبي، 2002، ج 5، ص 69؛ القرطبي، 1964م، ج 8، ص 205). ويرى الزجاج في معنى هذه الآية «أمر بجهادهم، أي جاهدهم بالقتل والحجة علی المنافقين قتال لهم» (الزجاج، 1988م، ج 2، ص 461). وقوله ﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾، «أمر منه سبحانه لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وآله أن يقوي قلبه على إحلال الألم بهم واسماعهم الكلام الغليظ الشديد ولا يرق عليهم» (الطوسي، 1957م، ج 5، ص 254؛ الطبرسي، 1995م، ج 5، ص 76).

ويرى الزمخشري أنَّ الغلظة تكون حتى في غير القتال وقال في الآية «جاهد الکفار بالسيف والمنافقين بالحجة، واغلظ عليهم في الجهادين جميعا ولا تحابهم وکل من وقف منه علی الفساد في العقيدة فهذا حکم ثابت فيه، يجاهد بالحجة، وتستعمل منه الغلظة ما أمکن منها» (الزمخشري، 1407هـ، ج 2، ص 290).

فأمر الله تعالى في هذه الآية بالغلظة على الفريقين في جهاده التأديبي لهم- ومثلها بنصها في سورة التحريم وهو جهاد فيه مشقة عظيمة، «لأنّه موقف وسط بين رحمته ولينه للمؤمنين المخلصين، وشدته في قتال للأعداء الحربيين، يجب فيه إقامة العدل، واجتناب الظلم» (الحسيني، 1990م، ج 10، ص 475).

وقال ابن عاشور في معنى هذه الآية ﴿وَاغْلُظ عَلَيهِمْ﴾ هي «أمر بأن يكون فيه غلظة معهم، أي وجه هذا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه صلوات الله عليه مجبول علی الرحمة، فأمر أن يتخلى عن طبيعته (جبلّته) تجاه الكفار والمنافقين، وألا يغض الطرف عنهم كما كان من قبل هکذا، وهذه الآية تقتضي نسخ إعطاء الكافرين المؤلّفة قلوبهم علی الإسلام ، لكن إنما يبقى هذا لمن دخل في الإسلام حديثا» (ابن­عاشور، 1984م، ج 10، ص 267).

وقال الرازي «وهي الشدة في الانتقام، والفائدة فيها أن لها أثرا أقوى في توبيخ القبيح والتحذير منه، ثمّ إنّ الأمر في هذا الباب ليس باطّرادٍ، بل يحتاج أحيانًا إلى اللطف والرفق، وأحيانًا إلی العنف، ولهذا قال الله تعالى ﴿وليجدوا فيکم غلظة﴾ مع أنه لا يجوز الاقتصار علی القسوة مطلقا، لأن ذلك سبب النفور ويقتضي تشتيت الناس، فقوله: يدلّ على تقليل الغلظة، كأنه قيل: لا بد أنهم لو عاينوا أخلاقكم وطبيعتكم وتصفّحوها لوجدوا فيکم قسوة، وهذا الكلام لا يصح إلا فيمن يکون أکثر أحواله الرحمة واللين والشفقة، ومع ذلك فهو لا يخلو من شيء من الغلظة» (الرازي، 1420هـ، ج 13، ص 173-174).

ويقول أبو زهرة في معنى الغلظة «تجمع الجرأة، وعدم التواني، والصبر، والمبادرة، والعنف في القتال من غير اعتداء فيه، وألّا تأخذهم بهم رأفة في دين الله تعالى» (أبو زهرة، د.ت، ج 7، ص 3486).

 أما الشيخ حيدر حب الله فيرى أنَّ نصوص الشدّة ونفي المودة في سورة التحريم المذكورة آنفًا ، والتوبة المذكورة آنفًا، والمجادلة في قوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾ (المجادلة 58: 20-22)؛ والممتحنة في قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ (الممتحنة 60: 1) ؛ والمائدة في قوله تعالى ﴿يَا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنکُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتَي اللَّهُ بقومٍ يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَی المُؤمنينَ أَعِزَّةٍ عَلَی الکافرينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللَّهِ وَلَا يَخافُونَ لَومَةَ لائِمٍ ذلكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤتِيهِ مَن يَشاءُ وَاللَّهُ واسعٌ عليمٌ إِنَّما وَليُّکُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والّذَينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّکَوةَ وَهُمْ راکِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ ورسُولَهُ والَّذينَ آمنُوا فَإِنّ حِزبَ اللَّهِ هُمُ الغالِبونَ يَا أيُّهَا الَّذينَ آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذينَ اتَّخَذُوا دِيَنُکم هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذينَ أُوتُوا الکتابَ مِن قَبلِکُم والکُفَّارَ أولياءَ واتَّقُوا اللَّهَ إِنْ کُنتُم مُؤْمِنينَ﴾ (المائدة 5: 54-57)؛ والفتح في قوله تعالى ﴿مُحَمَّدٌ رَسولُ اللّهِ والَّذينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَی الکُفَّارِ رُحَماءُ بَينَهُم تراهُم رُکّعًا سُجَّدًا يَبتَغُونَ فضلًا مِنَ اللَّهِ ورضوانًا سِيماهُم في وُجُوهِهِم مِن أَثَرِ السُّجُودِ ذلكِ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ ومَثَلُهُمْ في الإِنجيلِ کَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهْ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَی عَلَی سُوقِهَ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الکُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنهُم مَغفِرَةً وَأجْرًا عَظيمًا﴾ (الفتح 48: 29)؛ لا علاقة لها بتكريس مبدأ الكراهية، فالنصوص القرآنية التي تناولتها تتحدث عن الفئة التي يكون المسلمون مأمورين بمجاهدتهم، « فالذي يجب علينا الغلظة تجاهه هو الذي نقاتله، وذلك أنّ الغلظة هنا جاءت في سياق القتال والحرب، فلا يُعقل أن يشمل هذا الحكم بدلالاته حالة الذميّة أو المهادنة أو الاستجارة أو غير ذلك، وحيث إننا أثبتنا في مبدأ السلم والصلح أنّ الأصل في العلاقة هو السلم، وأنّ القتال لا يكون إلا لرد العدوان، فهذا معناها، وهذه الآيات تدعو إلى استخدام الغلظة والشدّة في حال مواجهة المعتدي لا غير، وبتعبير آخر مبدأ الغلظة هنا مبدأ جهادي، وليس مبدأ علائقيًّا عامًا بين الأديان، ونتيجة مجموع ما قلناه لا يمكن القول بأنّ مطلق الكافر يقاتَل ويُغلظ عليه فإذا تقيّد القتال بخصوص حال الاعتداء، ظلّت الغلظة مطلقة من حيث مطلوبيّتها !» (حب الله، 2020، ص 508-512).

ويبدو أنّ ما ذكره الشيخ حيدر حب الله معتمدًا على –السياق القرآن العام- مأمورين في مجاهدتها وإبداء الغلظة اتجاههما هم الذين نقاتلهم فقط، وقد وافق الشيخ حيدر حب الله مجموعة من المفسرين ممّن سبقوه مثل الرازي، وأبو زهرة، والعلامة الطباطبائي، ومن خالفه في الرأي مثل الزمخشري، والطوسي ، والطبرسي ، والثعلبي، ومحمد رشيد الحسيني ، وابن عاشور، أنَّ الغلظة تكون حتى في غير القتال مثلًا في الكلام والمعاملة بصورة عامة وغير ذلك. وأخيرا فإن مبدأ الغيظ أو الغلظة أو الفظاظة الإسلامية المستحسنة إذا لم تکن مصحوبة بالميزة الجهادية وإذا لم تنطلق من منطلقات الروحية النضالية التي يروج ذکرها في آي القرآن الکريم فهي غلظة مستکرهة وتُضمّ إلی سلك الغلظات التي ينبذها القرآن الکريم، فهذه الغلظة يجب أن تکون رادعة أولا، ثم أن تکون واعية ومستهدفة بحيث ترنو إلی الصلاح والإصلاح ودحر معالم الزيغ والنفاق حتی تختلف أماراتها عما تتصف به الفظاظة العارمة الغاشمة التي تتوافر عند أصحاب الشرك والنفاق، وبذلك فإن الشيخ قد يرسم حدودا ومعالم جديدة من هذا الضرب المستجدّ المتغالظ الجهادي الذي يکون فرقانا بيد من أراد إحلال السلام وإقرار الانصياع بين الصفوف النفاقية المتعارضة التي تقف في وجه الإسلام.

3. نتائج البحث

مما توصّلتْ إليه هذه الدراسة من النتائج الهامّة التي وفّرها لنا الإمعانُ في منهج الشيخ حيدر حبّ الله السياقي-التوجيهي في غضون آي القرآن الحکيم ووجوهها التفسيريّة-الدلالية يمکن إجمالُ ما يلي منها في المحاور الآتية:

1.   اتضح من خلال البحث أنّ النصوص القرآنية لا يمکن فهمها فهمًا شاملًا إلا من السياق القرآني بالنظر إليه كوحدة سياقية كبرى؛ لأن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا.

2.   تبيّن لنا أنّ الشيخ حصل علی معان جمّة لمدلولات ألفاظ القرآن الکريم نظرا للسياقات اللغوية والموقفية والمعرفية وحتی الفقهية التي وردت فيها، إذ کان لها إسهام بارز في تسييق الوحدات الدلالية واللغوية للحصول علی معنی أرقی من ورائها.

3.   أفاد الشيخ حيدر حبّ الله من السّياق بأنواعه في تفسير القرآن الكريم، وتوجيه آياته، من دون الاتكاء على آراء المفسرين، وغالبًا ما نجده يخالف المفسرين ويعتمد على رأيه بالتفسير استنادًا للسّياق، ولا سيما السياق اللغوي.

4.   إذا وجد الشيخ حيدر حبّ الله السّياق يوجه الآية توجيهًا ما، يميل إليه ويترك آراء من سبقه من المفسرين، فكان اعتماده على الآية، والمقطع، والنص، والسورة أكثر من اعتماده على آراء المفسرين وإن أجمعوا على رأي، ومن دون أن يقدم أو يعرض آرائهم.

5.   لم يساير الشيخ حيدر حبّ الله المفسرين في الأحكام الشرعية، فبعض الآيات عدّها المفسرون من الأحكام الشرعية كقوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوکًا لَا يَقْدِرُ عَلَی شَيْءٍ﴾، لكن الشيخ حيدر حب الله يرى أنها بصدد ضرب الأمثال ولا حكم فيها، في حين عدّ قوله تعالى ﴿لَا إِکراهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾ حكمًا شرعيًا لنفي الإكراه في الدين، ولم يشر المفسرون إلى ذلك.

6.   مما يميز تفسير الشيخ حيدر حبّ الله للقرآن الكريم نظرته العامة لجميع الآيات المتشابهة في القرآن الكريم، وقد اتضح ذلك جليًا في موضوع أثر السّياق في توجيه دلالة القرآن عامّة، وبهذا فقد تبيّن لنا أنّ للشيخ أحيانا اتفاقًا مع سائر المفسرين والدلاليّين علی المحاور السياقيّة التي يمکن استخلاصها من بطن المفاهيم القرآنية، وقد يکون له موقف مناقض أو معاکس لما طرحه سائر الباحثين الذين ألقوا نظرات دلاليّة-سياقيّة في آي الذکر الحکيم للحصول علی توجيه بعض وجوهها العويصة التي قد تقصر عن إفادتها الآليّات التوجيهيّة المألوفة لاستدراك النص القرآني المُستَشهَد به.

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم.

1. الآلوسي، شهاب الدين محمود بن عبد الله. (1415هـ). روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. الطبعة الأولى. بيروت – لبنان: دار الكتب العلمية.

2. ابن عاشور، محمد الطاهر بن محمد بن محمد. (1984م). التحرير والتنوير: تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد). تونس: الدار التونسية للنشر.

3. أبو زهرة، محمد بن مصطفى. (د.ت). زهرة التفاسير. بيروت- لبنان، دار الفكر.

4. الأصفهاني (الراغب)، أبو القاسم الحسين بن محمد. (1412هـ). المفردات في غريب القرآن. المحقق: صفوان عدنان الداودي. الطبعة الأولی. دمشق: دار القلم-الدار الشامية.

5. البغوي، الحسين بن مسعود. (1995م). الأنوار في شمائل النبي المختار صلی الله عليه وسلّم. حقّقه وخرّج أحاديثه وعلّق عليه الشيخ إبراهيم اليعقوبي. قدّم له محمد اليعقوبي. الطبعة الأولی، الجزء الأول، دمشق: دار المکتبي للطباعة والنشر والتوزيع.

 6. البيضاوي، ناصر الدين ابو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد. (1418هـ). أنوار التنزيل وأسرار التأويل. الطبعة الأولى. بيروت- لبنان: دار إحياء التراث العربي.

7. الثعلبي، أحمد بن محمد بن إبراهيم. (2002م). الكشف والبيان عن تفسير القرآن. الطبعة الأولى. بيروت- لبنان: دار إحياء التراث العربي.

8. حبّ الله، حيدر. (2011م). حجيّة السنّة في الفكر الإسلامي المعاصر: قراءة وتقويم. الطبعة الأولى. بيروت لبنان: مؤسّسة الانتشار العربي.

9. حبّ الله، حيدر. (2015م). دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر. الطبعة الأولى. دار الفقه الإسلامي المعاصر.

 10. حبّ الله، حيدر. (2020م). قواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني دراسة في ضوء النص الإسلامي المسيحي: الحقوق السياسية تطبيقًا. الطبعة الأولى. بيروت- لبنان: دار روافد للطباعة والنشر.

11. حب الله ،حيدر. (2015م). محاضرات الدراسات النقلية. تفسير القرآن الكريم. https://hobbollah.com، 2015م.

12. الحسيني، محمد رشيد بن علي رضا. (1990م). تفسير القرآن الحكيم ( تفسير المنار). الطبعة الثانية. مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

13. الخازن، علاء الدين علي بن محمد بن عمر الشيحي أبو الحسن. (1415هـ). لباب التأويل في معاني التنزيل . بيروت – لبنان، دار الكتب العلمية.

14. الخضر، محمد سالم. (2017م). جدل المذهب والتاريخ، المذهب الجعفري: قيمته وإشکالياته وطبيعة استقبال الفقهاء له. الطبعة الأولی. بيروت: مرکز نماء للبحوث والدراسات.

15. الرازي، أبو عبدالله محمد بن عمر بن الحسن التيمي. (1420هـ). مفاتيح الغيب (التفسير الكبير). الطبعة الثالثة. بيروت: دار إحياء التراث العربي.

16. الزجاج، إبراهيم بن السري بن سهل، أبو أسحاق. (1988م). معاني القرآن وإعرابه. الطبعة الأولى. بيروت- لبنان: عالم الكتب.

17. الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد. (1407هـ). الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل. الطبعة الثالثة. بيروت – لبنان: دار الكتاب العربي.

18. الشنقيطي، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني. (1995م). أضواء البيان في توضيح القرآن بالقرآن. بيروت-لبنان: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

19. الشيرازي، ناصر المكارم. (1992م). الأمثل في تفسير كتاب الله المُنزل. الطبعة الأولى. بيروت- لبنان: مؤسسة البعثة.

20. الطباطبائي، محمد حسين. (1997م). الميزان في تفسير القرآن. الطبعة الأولى. بيروت- لبنان: مؤسسة الأعلمي.

21. الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن. (1995م). مجمع البيان. بيروت- لبنان: مؤسسة الأعملي.

22. الطلحي، ردة الله بن ردة بن ضيف الله. (1423هـ). دلالة السياق. الطبعة الأولى. مكة المكرمة: سلسة الرسائل العلمية الموصی بطبعها.

23. الطوسي، أبوجعفر محمد بن الحسن. (1957م). التبيان في تفسير القرآن . النجف الأشرف: المطبعة العلمية.

24. القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري. (1964م). الجامع لأحكام القرآن. الطبعة الثانية. القاهرة: دار الكتب المصرية.

25. مختار عمر، أحمد. (1998م). علم الدلالة. الطبعة الخامسة. القاهرة: عالم الکتب.

26. المطيري، عبد الرحمن عبدالله سرور جرمان. (2008م). السياق وأثره في التفسير دراسة نظرية تطبيقية من خلال تفسير ابن كثير. رسالة ماجستير. مشرف الرسالة : خالد بن عبدالله القرشي.

27. G. Berry, Rogghe. (1973). The Scope of Semantics [nitaq eilm alma’ani]. in Linguistics, 1973.

___________________

1: Kurt Ammer