رحلتي إلى عمان من الفلسفة وسؤال الأخلاق إلى التسامح والحوار البنّاء
حيدر حبّ الله
10 ـ 6 ـ 2024م
كانت هذه هي المرّة الرابعة التي أزور فيها هذا البلد المسلم العربي، سلطنة عُمان، فقد وجّه لي النادي الثقافي العماني ـ مشكوراً ـ دعوة لإلقاء محاضرة حول سلطة الشريعة، إلى جانب بعض الفعاليات الثقافيّة الأخرى، وصلت صباح يوم السبت الرابع من شهر مايو ـ أيار 2024، إلى مطار مسقط الدولي، كنت في العام الماضي قد رأيتُ التطوير الكبير والمذهل الذي حدث في المطار ونقله نقلةً نوعية، ويسرّ الإنسانَ كلُّ تقدّم يراه في أيّ بلد من بلاد المسلمين.
في هذه الرحلة التي استمرّت أربعة أيام، لاحظتُ أموراً عدّة كوّنت عندي مجموعة انطباعات أكّدت لي الصورةَ السابقة التي كنت أحملها، أوّلها استقرار درجة التسامح والسكينة الموجودة في هذا البلد الشقيق، والذي أصبح مثالاً يحتذى في التعارف والتوالف، لم أشعر إطلاقاً بأيّ فرقٍ بين جلوسي مع الإخوة الإباضيّة وجلوسي مع الشيعة، فالجوّ الودّي والاستعداد للاستماع وتقبّل الرأي وحمل أسئلة متشابهة يظلّ ملحوظاً في هذه البيئة العمانيّة، تستشعر معها درجة التداخل والمعرفة ببعضنا بعضاً، على الأقل في مجتمع النخبة هنا.
ثاني الأمور التي لاحظتها، وهي ميزة إسلامية وعربيّة وإنسانيّة، الكرم والجود وحُسن الضيافة، فقد دُعيت في أكثر من مكان، ومن ذلك الدعوة التي وجّهها لي الكاتب والدكتور الفاضل زكريا المحرمي، حيث كانت تتميّز بحسن الضيافة، كما هي الحال مع كلّ الدعوات التي وجّهت لي. في مجلسه العامر كنّا نتداول قضايا الحريّات وهموم الفكر الإسلامي في العصر الحاضر، من نوع كيفية فهم النصّ وكيف نتعامل معه وغير ذلك.. وكيف يمكن لنا الخروج من عنق الزجاجة الذي نحن فيه. ورغم تنوّع الآراء وتباعدها أحياناً بين فريقٍ وفريق، لكنّك لا تجد فرقاً في نهج التعامل والنقاش. بلدٌ وشعبٌ يستحقّ أن يبني على ما لديه؛ ليتقدّم أكثر فأكثر إلى الإمام، فيكونَ قدوةً للآخرين.
كنتُ حضرت لحلقة حوار مفتوح معي في مركز النادي الثقافي العماني، ثمّ وفي اليوم التالي كانت كلمتي حول سلطة الشريعة وحدودها بدعوة من النادي في قاعة المحاضرات في جامع السلطان قابوس الأكبر، وهو المسجد الجميل الرائع الذي يفوح منه عبق التاريخ وتستمع فيه إلى سكون الروح، وكنت قد تجوّلت في هذا المسجد قبل حوالي عشر سنوات، حيث دُعيت من قبل ديوان البلاط السلطاني حينها للحضور في مؤتمر تعارف الحضارات، وأُجريت للوفد حينها زيارات إلى هذا المسجد كما إلى مدينة نزوى الرائعة.. في هذين اللقاءين (الحوار المفتوح وفي جامع السلطان قابوس الأكبر) أثرتُ بعضَ الأفكار التي ربما لا تكون مقبولةً عند فريق كبير من الناس، فتحدّثتُ عن إمكان الرجوع لأيّ مسلم في الاجتهاد ضمن ضوابط، دون حاجة للبقاء في الدائرة المذهبيّة لمن يُرجع إليه في الفتوى، وتحدّثت عن محدوديّة الشريعة ليمنح الشرعُ العقلَ قدرة سنّ القوانين في دائرة معيّنة تحت رعاية الدين وفي إطار هديه.. ورغم أنّ الموضوعان أثارا حساسيةً أعتبرُها طبيعيّة جداً مع الأخذ بعين الاعتبار سياقات مجتمعاتنا، غير أنّ ردود الأفعال ظلّت مقبولة في المجمل، بل رأينا بعض خطب الجمعة من بعض العلماء الأفاضل تعاملت بكلّ إيجابيّة وبروح مرنة ملؤها الصدق، وتحدّثت عن ضرورة الهدوء في مناقشة الأفكار، وهذا يدلّ على المدى الرائع الذي وصله هذا المجتمع في ضبط إيقاع خلافاته وقدرته على سماع الآخر.. وقد أعجبني أيّما إعجاب أنّ بعض العلماء هناك خصّص درساً أسبوعيّاً لمناقشة فكرتي في شمول الشريعة ونقدها، فبهذه الطريقة تنمو الأفكار ويكون بعضنا مرآةً لبعضنا الآخر، شرط أن تكون كيفيّة الطرح موضوعيّة وغير متحاملة. ليس هذا فحسب بل قد أجرى معي القسم الثقافي في الإذاعة الرسمية العمانية حواراً حول سلطة الشريعة، وأودّ أن أغنتم الفرصة هنا لتوجيه شكرٍ لكلّ من ساهم في إنجازه.
في بعض اللقاءات الأخوية هنا وهناك، لاحظت أيضا اهتماماً بالسؤال الأخلاقي، وهو من أكثر الأسئلة إلحالاً اليوم في العالم، وكأنّ هناك شعوراً أو فضاء في هذا البلد الطيّب لتلمّس معنى الحياة واكتشاف الصالح من الأفعال والدخول أكثر في عمليّة تقويم سلوكياتنا أخلاقياً، بما فيها سلوكيّات الطبقات الغنيّة في ضبط إيقاع اهتماماتها الماديّة، وهذا شيء يؤشّر لحالة صحية عالية، فأن يرتفع صوت سؤال الأخلاق في هذا المجتمع أو ذاك دليلٌ على السلامة الروحيّة لأبنائه، وهنا أودّ أن أشكر علماء الدين والعاملين الاجتماعيّين والناشطين في المجال التربوي على جهودهم التي تجعل سؤال الأخلاق والروح حيّاً في المجتمع، فيما نجده أقلّ حضوراً في مجتمعاتٍ أُخَر.
ومن سؤال الأخلاق إلى عالم الكُتب، فقد تشرّفت بزيارة مكتبة قرّاء المعرفة ولفت نظري التنوّع في المكتبة العمانيّة، وأحسست حقاً أنّ النخبة في عمان تتطلّع لصناعة كيانها الثقافي واكتشاف تاريخها العميق والارتقاء بالأدب والشعر والنثر، وهي مظاهر الرقيّ والإنسانية في حياة البشر. في تلك المكتبة وكذلك في مكتبة النادي الثقافي وغيرهما، رأيت اهتماماً بالكتاب، لا أدري إلى أيّ حدّ يصل هذا الاهتمام في داخل تفاصيل المجتمع العماني، وبخاصة أنّ وسائل التواصل الاجتماعي قضت على روح الكتاب في الكثير من المجتمعات، لكن أن تتطّلع النخب لحماية الكتاب والكتّاب فذلك ما ترتقي به الأمم والشعوب.
قبل أن أصل سلطنة عمان بأسبوع تقريباً، كانت هناك ندوةٌ فلسفية، وفي ثنايا بعض لقاءاتنا لمست جدل مشروعيّة الفلسفة وجدواها لدى بعض النخب، وهذا الجدل يدلّ على وجود حركة فلسفيّة لها حضورها، غاية الأمر أنّها تواجه فضاءً نقديّاً، ولست مطّلعاً بدقّة على المشهد، لكنّني أخمّن أنّ وراء حركة النقد عاملين: الخوف من التفكير الفلسفي أن يطيح بالرؤية الدينيّة أو يتلاعب بها، إلى جانب الشعور بأنّ الفلسفة تمثل نمطاً من الدوغمائيّة، وبخاصّة أنّ مجتمعاتنا تعرف أكثر ـ مدرسيّاً ـ الفلسفةَ اليونانية، والأرسطيّة تحديداً، وهذا يحدوني للتفكير بأنّ الاشتغال على تكوينٍ فلسفي جديد يُخرج الفلسفة من تجريديّتها ومخمليّتها، كما يخفّف من دوغمائية بعض مدارسها، وربط الفلسفة بالواقع المعاصر، بحيث تصبح حاجة لإدارة شؤون الإنسان، ولا سيما على صعيد ما فعله العرفاء من الدمج بين الرؤية الفلسفيّة والعرفانيّة، الأمر الذي حوّل الفلسفة إلى منتَج روحي فاعل في التغيير.. ذلك كلّه يمكن أن يساعد على تقبّل الفلسفة في مجتمعاتنا بنسختها الجديدة ذات التأثير إن شاء الله تعالى. لكن قبل ذلك يجب تكوين نخب خبيرة بالدرس الفلسفي جيّداً وتعرف تعقيداته الداخليّة والاجتماعيّة معاً، كي تساهم في الارتقاء العقلاني بالمجتمع، وهو ما لاحظت ملامح له في أكثر من رحلةٍ لي إلى عمان.
لا أريد أن أكون مثالياً في توصيفي، فمن الطبيعي أنّ لكل مجتمع مشاكله الداخليّة على غير صعيد، وهذا أمر طبيعي تقتضية بشريّتُنا الناقصة، لكنّ المسألة النسبية تستحقّ أيضاً التوقّف عندها.
ختاماً، أتوجّه بالشكر الجزيل لكلّ الذين ساهموا في نجاح هذه الزيارة التي أعتزّ بها، من جهات ومؤسسات وأفراد، سائلاً المولى القدير أن يديم الخير على هذا البلد الكريم، وأن يكشف كلّ كرب وبلاء عن أمتنا عامّة، وعن فلسطين الحبيبة خاصّة، إنّه قريب مجيب.