hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (المطهّرات ـ القسم الثاني)

تاريخ الاعداد: 6/29/2024 تاريخ النشر: 7/11/2024
2691
التحميل

حيدر حبّ الله

 

هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(4 ـ 7 ـ 2024م)

 

 

الفصل الرابع

في المطهّرات

....

الثالث: الشمس([1])، فإنّها تطهّر الأرض وكلّ ما لا يُنقل من الأبنية وما اتصل بها من أخشاب وأعتاب وأبواب وأوتاد، وكذلك الأشجار والثمار، والنبات، والخضروات، وإن حان قطفها وغير ذلك، وفي تطهير الحصر والبواري بها إشكالٌ، بل منع([2]).

مسألة 482: يشترط في الطهارة بالشمس ـ مضافاً إلى زوال عين النجاسة، وإلى رطوبة المحلّ ـ اليبوسة المستندة إلى الإشراق عرفاً وإن شاركها غيرها في الجملة، من ريحٍ أو غيرها.

مسألة 483: الباطن النجس يطهر تبعاً لطهارة الظاهر بالإشراق([3]).

مسألة 484: إذا كانت الأرض النجسة جافّة، وأريد تطهيرها، صبّ عليها الماء الطاهر أو النجس، فإذا يبس بالشمس طهرت.

مسألة 485: إذا تنجّست الأرض بالبول، فأشرقت عليها الشمس حتى يبست طهرت، من دون حاجة إلى صبّ الماء عليها، نعم إذا كان البول غليظاً له جرم لم يطهر جرمه بالجفاف، بل لا يطهر سطح الأرض الذي عليه الجرم([4]).

مسألة 486: الحصى والتراب والطين والأحجار المعدودة جزءاً من الأرض، بحكم الأرض في الطهارة بالشمس وإن كانت في نفسها منقولة. نعم لو لم تكن معدودة من الأرض كقطعة من اللبن في أرض مفروشة بالزفت أو بالصخر أو نحوهما، فثبوت الحكم حينئذٍ لها محلّ إشكال([5]).

مسألة 487: المسمار الثابت في الأرض أو البناء، بحكم الأرض؛ فإذا قُلع لم يجر عليه الحكم، فإذا رجعَ رجعَ حكمُه، وهكذا([6]).

الرابع: الاستحالة إلى جسمٍ آخر([7])، فيطهر ما أحالته النار رماداً أو دخاناً أو بخاراً، سواء أكان نجساً أم متنجّساً، وكذا يطهر ما استحال بخاراً بغير النار. أمّا ما أحالته النار خزفاً أم آجراً أم جصّاً أم نورة، فهو باقٍ على النجاسة([8])، وفيما أحالته فحماً إشكالٌ.

مسألة 488: لو استحال الشي‌ء بخاراً، ثمّ استحال عرقاً، فإن كان متنجسّاً فهو طاهر، وإن كان نجساً فكذلك، إلا إذا صدق على العرق نفسه عنوان إحدى النجاسات، كعرق الخمر، فإنّه مسكر([9]).

مسألة 489: الدود المستحيل من العذرة أو الميتة طاهر، وكذا كلّ حيوان تكوّن من نجسٍ أو متنجّس.

مسألة 490: الماء النجس إذا صار بولاً لحيوان مأكول اللحم أو عرقاً له أو لعاباً، فهو طاهر.

مسألة 491: الغذاء النجس أو المتنجس إذا صار روثاً لحيوان مأكول اللحم أو لبناً، أو صار جزءاً من الخضروات أو النباتات أو الأشجار أو الأثمار فهو طاهر، وكذلك الكلب إذا استحال ملحاً، وكذا الحكم في غير ذلك ممّا يعدّ المستحال إليه متولّداً من المستحال منه.

الخامس: الانقلاب، فإنه مطهّر للخمر إذا انقلبت خلاً بنفسها أو بعلاج([10])، نعم لو تنجّس إناء الخمر بنجاسة خارجيّة، ثم انقلبت الخمر خلاً لم تطهر على الأحوط وجوباً([11]). وأمّا إذا وقعت النجاسة في الخمر واستهلكت فيها ولم يتنجّس الإناء بها، فانقلب الخمر خلاً طهُرت على الأظهر، وكما أنّ الانقلاب إلى الخلّ يطهّر الخمر، كذلك العصير العنبي إذا غلى ـ بناء على نجاسته ـ فإنّه يطهر إذا انقلب خلاً([12]).

السادس: ذهاب الثلثين بحسب الكمّ لا بحسب الثقل، فإنه مطهّر للعصير العنبي إذا غلى، بناءً على نجاسته([13]).

السابع: الانتقال، فإنه مطهّر للمنتقل إذا أضيف إلى المنتقَل إليه وعدّ جزءاً منه، كدم الإنسان الذي يشربه البقّ والبرغوث والقمل. نعم لو لم يعدّ جزءاً منه أو شكّ في ذلك ـ كدم الإنسان الذي يمصّه العلق ـ فهو باقٍ على النجاسة([14]).

الثامن: الإسلام، فإنّه مطهّر للكافر بجميع أقسامه حتى المرتد عن فطرة على الأقوى([15])، ويتبعه أجزاؤه كشعره وظفره وفضلاته من بصاقه ونخامته وقيئه، وغيرها([16]).

التاسع: التبعيّة، فإنّ الكافر إذا أسلم يتبعه ولده في الطهارة، أباً كان الكافر، أم جدّاً، أم أمّاً، والطفل المسبيّ للمسلم يتبعه في الطهارة إذا لم يكن مع الطفل أحد آبائه، ويشترط في طهارة الطفل في الصورتين أن لا يظهر الكفر إذا كان مميّزاً([17])، وكذا أواني الخمر فإنّها تتبعها في الطهارة إذا انقلبت الخمر خلاً، وكذا أواني العصير إذا ذهب ثلثاه ـ بناء على النجاسة ـ. وكذا يد الغاسل للميّت، والسدّة التي يغسل عليها، والثياب التي يغسل فيها، فإنّها تتبع الميّت في الطهارة، وأما بدن الغاسل، وثيابه، وسائر آلات التغسيل، فالحكم بطهارتها تبعا للميت محل إشكال([18]).

العاشر: زوال عين النجاسة عن بواطن الإنسان وجسد الحيوان الصامت، فيطهر منقار الدجاجة الملوّث بالعذرة بمجرّد زوال عينها ورطوبتها، وكذا بدن الدابة المجروحة، وفم الهرّة الملوّث بالدم، وولد الحيوان الملوّث بالدم عند الولادة بمجرّد زوال عين النجاسة، وكذا يطهر باطن فم الإنسان إذا أكل نجساً أو شربه بمجرّد زوال العين، وكذا‌ باطن عينه عند الاكتحال بالنجس أو المتنجس، بل في ثبوت النجاسة لبواطن الإنسان بالنسبة إلى ما دون الحلق وجسد الحيوان منع، بل وكذا المنع في سراية النجاسة من النجس إلى الطاهر إذا كانت الملاقاة بينهما في الباطن، سواء أكانا متكوّنين في الباطن كالمذي يلاقي البول في الباطن، أو كان النجس متكوّناً في الباطن والطاهر يدخل إليه كماء الحقنة، فإنّه لا ينجس بملاقاة النجاسة في المعاء، أم كان النجس في الخارج، كالماء النجس الذي يشربه الإنسان فإنّه لا ينجس ما دون الحلق، وأمّا ما فوق الحلق فإنّه ينجس ويطهر بزوال العين، وكذا إذا كانا معاً متكوّنين في الخارج ودخلا وتلاقيا في الداخل، كما إذا ابتلع شيئاً طاهراً، وشرب عليه ماءً نجساً، فإنّه إذا خرج ذلك الطاهر من جوفه حكم عليه بالطهارة ولا يجري الحكم الأخير في الملاقاة في باطن الفم، فلا بدّ من تطهير الملاقي([19]).

الحادي عشر: الغَيبة، فإنّها مطهّرة للإنسان وثيابه وفراشه وأوانيه وغيرها من توابعه إذا علم بنجاستها ولم يكن ممن لا يبالي بالطهارة والنجاسة وكان يستعملها فيما يعتبر فيه الطهارة، فإنّه حينئذ يُحكم بطهارة ما ذكر بمجرّد احتمال حصول الطهارة له([20]).

الثاني عشر: استبراء الحيوان الجلال، فإنّه مطهّر له من نجاسة الجلل([21]). والأحوط([22]) اعتبار مضيّ المدّة المعيّنة له شرعاً، وهي في الإبل أربعون يوماً، وفي البقرة عشرون، وفي الغنم عشرة، وفي البطّة خمسة، وفي الدجاجة ثلاثة، ويعتبر زوال اسم الجلل عنها مع ذلك، ومع عدم تعيّن مدّة شرعاً يكفي زوال الاسم([23]).

مسألة 492: الظاهر قبول كلّ حيوان ذي جلد للتذكية عدا نجس العين فإذا ذكّي الحيوان الطاهر العين، جاز استعمال جلده، وكذا سائر أجزائه فيما يشترط فيه الطهارة ولو لم يدبغ جلده على الأقوى([24]).

مسألة 493: تثبت الطهارة بالعلم، والبيّنة، وباخبار ذي اليد‌ إذا لم تكن قرينة على اتهامه، بل بإخبار الثقة أيضاً على الأظهر([25])، وإذا شكّ في نجاسة ما علم طهارته سابقاً يبنى على طهارته.

________________________

([1]) المعروف بين فقهاء الإماميّة والأحناف مطهّريّة الشمس، لكنّ فقهاء المذاهب الثلاثة الأخرى رفضوا ذلك، كما أنّ بعض فقهاء الإمامية ـ من المتقدّمين والمتأخّرين، ومنهم الشيخ المفيد ـ نُسب إليهم القول بكون ما تشرق عليه الشمس هو من المعفوّ عنه، لا أنّه يطهر، كما ذهب بعض آخر إلى المنع مطلقاً عن مطهريّة الشمس ونحو ذلك، ومن المتأخّرين الذين أخذوا بالمنع هنا الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض والسيّد محمّد محمّد صادق الصدر، ويظهر التردّد أوّلاً من السيد الحائري في التعليقة على الفتاوى الواضحة ثم القبول بمطهريّة الشمس للثوابت، ولم يذكر السيد كمال الحيدري الشمسَ في عداد المطهّرات بما يظهر منه أنّه لا يعتبرها منها.

والأقرب أنّه ـ بصرف النظر عن الكليّة التي قلناها في مطلع الحديث عن المطهّرات ـ لا دليل معتبراً على مطهريّة الشمس ولا على العفو عمّا أشرقت عليه؛ وذلك أنّ العمدة روايات قليلة جداً، وهي وإن كان بينها ما هو معتبر الإسناد مثل صحيح زرارة، غير أنّها معارضة بصحيح محمّد بن إسماعيل بن بزيع. وما قيل من أنّ المراد بصحيحة ابن بزيع هو ضرورة وجود الماء كي يكون إشراق الشمس موجباً لجفاف الموضع المتنجّس، غيرُ ظاهر؛ فإنّ السؤال في الرواية عن البول الواقع على السطح والأرض، ومن الواضح أنّه رطب بنفسه، ومع ذلك استنكر الإمام أن تطهّره الشمس من غير ماء، فلو كان المراد من الماء كون الموضع رطباً فالمفروض رطوبته بالبول. وحملُ الرواية على صورة جفاف البول ثمّ إشراق الشمس غير واضح من طريقة سؤال السائل، بل سيكون حينئذٍ من الخلل في بيان الإمام لمّا لم يفصّل للراوي أو لم يسأله عن الحالة، فالوثوق بالحكم هنا غير واضح؛ لهذا نبني على عدم مطهريّة الشمس بصرف النظر عن مطهريّة مطلق زوال عين النجاسة مع ارتفاع القذارة العرفيّة، علماً أنّ بعض روايات الباب قد تكون لها علاقة بكون جفاف الموضع مما يُسمح معه بالصلاة على الموضع المتنجّس، لا أنه يطهر الموضع بجفافه بالشمس.

([2]) إذا سرنا مع الاتجاه الفقهي السائد في فهم النجاسة والطهارة، وفهمنا الجانب التعبّدي الخالص، فإنّه من الصعب إثبات أنّ الشمس تطهّر غير الأرض والأبنية كالسطوح، فالأشجار والثمار والأوراق والبواري والحصر والشبابيك والأبواب، فضلاً عن تمام المنقولات ـ عدا المنقولات التي سوف تتمّ الإشارة إليها في المسألة رقم: 486 ـ لا دليل على طهارتها بالشمس. وعمدةُ النصوص في المقام واردة في مثل الأرض والأبنية، لا غير.

([3]) إذا صدق على الباطن النجس أنّه قد أصابته الشمس وجفّ بفعلها، فيقول العرف بأنّ الشمس أصابت هذا الموضع من الأرض، ويقصدون أنّ ما ظهر وما كان تحت ذلك قد جفّ بفعل إصابة الشمس بالمعنى العرفي للكلمة وليس الدقّي، فهنا يطهر الباطن بالشمس لا بالتبعيّة للظاهر، وأمّا إذا جفّ بلا صدق عنوان أنّه أصابته الشمس، كما لو كانت النجاسة قد نفذت إلى باطن الأرض الرمليّة بمسافة عشرة أمتار، فإنّ صدق إشراق الشمس أو الجفاف بالشمس أو إصابة الشمس في هذه الحال قد لا يكون عرفيّاً، فلا يطهر الباطن لا بالشمس ولا بالتبعيّة، والمرجع في التطبيق هنا هو العرف.

وأمّا استدلال بعضهم بأنّ قوله في الرواية: «إذا جفّفته الشمس فصلّ عليه فهو طاهر»، على أساس أنّ «هو» يشمل الظاهر والباطن، فقد يناقش بأنّ مورد السؤال هو الظاهر؛ لأنّ المفروض أنّه يريد الصلاة عليه، ولا يُصلّى على باطن الأرض كما هو واضح، كما أنّ الرواية لا تصحّح طهارة الباطن مطلقاً، بل الباطن المنسوب جفافه إلى الشمس.

([4]) المراد هنا أنّ البول ـ وبسبب أنّ له جرماً ـ ما زال باقياً على سطح الأرض حتى بعد التجفيف، فيكون تماماً كالغائط الذي جفّ لكنّ عينه الجافّة تبقى على الأرض. وقد يقال: إنّ إطلاق الرواية يشمل فرض كون البول ذا جرم، ويجاب بأنّ خروج نجس العين عن كونه نجساً مع بقائه، هو أمر لا تكفي فيه رواية واحدة؛ إذ هو تخصيصٌ قوي في دلالة دليل نجس العين نفسه. ومجرّد كون السؤال عن البول يكون على السطح، لا يعني أنّ السائل يسأل عن تطهير البول مع بقاء عينه، بل هو يسأل عن تطهير السطح نفسه.

([5]) بل الأقرب عدم الثبوت إن لم تكن جزءاً من الأرض، بل كانت شيئاً موجوداً على الأرض كسائر المنقولات.

([6]) هذا من النتائج الطبيعيّة لمسلك الفقهاء هنا في الفهم التعبّدي الاعتباري للنجاسات، وقد نفينا سابقاً الاعتباريّة المطلقة في هذا الباب، دون أن ننفي مطلق البعد الاعتباري، فراجع ما علّقنا به في أوّل باب المطهّرات وأوّل باب النجاسات.

([7]) خلافاً لما ذهب إليه العديد من فقهاء الشافعيّة من حصر مطهّرية الاستحالة بموارد مخصوصة.

([8]) الفكرة هنا أنّ المراد بالاستحالة هو التغيّر العنواني لا مطلق التغيّر الوصفي، فصيرورة الماء ثلجاً أو بالعكس ليس تغيراً عنوانياً حتى يطهر هذا أو ذاك، بل تغير وصفي عارض، وهذا المعيار هو الذي جعلهم يبحثون في العديد من الأمثلة هنا بحثاً تطبيقيّاً حتى يميّزوا بين التغيّر العنواني ومطلق التغيّر الوصفي غير العنواني.

([9]) المثال مبنيٌّ على القول بنجاسة المسكر، وقد تقدّم في النجاسات ترجيح القول بطهارة مطلق المسكر. أمّا القاعدة الواردة في كلام الماتن فصحيحة، بل يضاف إليها أنّه بعد تحقّق الاستحالة، لو شكّ في المستحال إليه أنّه متنجّس أو عين نجاسةٍ، كما لو شككنا في صدق المسكر على المستحال إليه، وقلنا بنجاسة المسكر، حكم بالطهارة هنا دون النجاسة، إذ الاستصحاب غير جارٍ مع فرض تبدّل الموضوع.

هذا، وأنت ترى أنّ العديد من هذه المسائل التي ذكرها الماتن هنا، إنّما هو تطبيق للحكم وتشخيص للمصاديق، فلا نطيل.

([10]) هنا تعليقان:

التعليق الأوّل: في مفهوم الانقلاب وعلاقته بمفهوم الاستحالة، وذلك أنّه يستخدم الفقهاء مفردة «الانقلاب» في معناها اللغوي عادةً، كحديثهم عن انقلاب العقد من لازمٍ إلى جائز، أو عن انقلاب النكاح المنقطع إلى نكاحٍ دائم في بعض الحالات. لكنّهم في مختلف الحالات، لا يستخدمون الكلمة بوصفها اصطلاحاً فقهيّاً خاصاً، إلا في موضعٍ واحد تعرّضوا له في كتابَي: الطهارة والأشربة؛ ففي هذين الكتابين يطلق مصطح الانقلاب ويراد به تحوّل الخمر إلى خَلّ، فهذه الظاهرة هي معنى الانقلاب المصطلح عند الفقهاء. وقد وقع كلامٌ بين الفقهاء في تميّز الانقلاب عن الاستحالة، التي تعدّ من المطهّرات، وهي تعني تحوّل جسمٍ أو مادّة إلى جسمٍ آخر، أو خروج جسم من حالة وطبع وهويّة معيّنة إلى طبعٍ وهويّةٍ أخرى. وهنا يبدو وجود فريقين: الفريق الأوّل: ويرون أنّ الاستحالة غير الانقلاب؛ لأنّها تعني تبدّل الحقيقة النوعيّة للشيء أو التحوّل الماهوي، كصيرورة الخشب رماداً ونحو ذلك، بينما لا يبلغ التحوّل في الانقلاب هذا الحدّ، وإنّما هو تبدّل في الأوصاف مع بقاء الحقيقة النوعيّة، كتبدّل الخمر خلاً، فالفرق بين الاستحالة والانقلاب هو الفرق بين التحوّل الماهوي والتحوّل الصفتي. ويعزّز هذا الأمر أنّ أدلّة مطهريّة الانقلاب تغاير أدلّة مطهريّة الاستحالة، ولهذا نجد أنّ الكثير من الفقهاء قد أفردوا الانقلاب في المطهّرات بالذكر عن الاستحالة، بل وجدناهم يميّزون حتى في الأحكام والآثار بالنسبة إليهما، كقول كثيرين بأنّ الاستحالة تطهّر النجس والمتنجّس، بينما الانقلاب لا يطهّر إلا النجاسات دون المتنجّسات. الفريق الثاني: وهم الذين جعلوا الانقلاب من الاستحالة وقسماً منه، ولم يميّزوا بينهما.

وقد بحثنا حول الانقلاب وكذلك عن علاقته بالاستحالة في كتاب "فقه الأطعمة والأشربة"، وممّا توصّلنا إليه هناك هو أنّ الانقلاب تارةً ننظر إليه بمعناه الفقهيّ الخاص، وهو خصوص صيرورة الخمر خَلاً، وأخرى ننظر إليه بمعنى مطلق التحوّل من شيء إلى آخر ولو في صفةٍ من صفاته كتحوّل العقد من اللزوم إلى الجواز أو تحوّل الحنطة إلى طحين أو تحوّل الماء إلى ثلج أو تحوّل اللحم إلى مرق بالذوبان على النار أو تحوّل شعر الخنزير إلى وسادة أو.. فإذا نظرنا للمصطلح الفقهي الخاصّ للانقلاب، فسنجد أنّ الانقلاب فردٌ من أفراد الاستحالة بالمفهوم العرفيّ لعنوان الخمر، وليس لعنوان السائل، فإنّ التحوّلات العنوانية تختلف هنا. أمّا لو أخذنا المعنى العام للانقلاب والاستحالة، فإن لاحظنا مطلق الاستخدام اللغوي فمن الواضح التداخل، أمّا لو لاحظنا ما ينظر إليه الفقهاء في الاستحالة بوصفها مطهراً من المطهّرات، لرأينا أنّ جوهر مطهريّة الاستحالة هو زوال عنوان النجس عن الشيء، وقصور دليل النجاسة عن الشمول له، فعندما صار الكلب ملحاً ـ كما يمثّلون ـ لم يعد يشمله دليل نجاسة الكلب، بل صار يشمله دليل طهارة الملح أو أصالة الطهارة في الملح بعد عدم إمكان جريان استصحاب النجاسة؛ لتغيّر الموضوع. وقد أقرّ السيد الماتن في بحوثه بأنّ عدّ الاستحالة من المطهّرات هو من التسامح في التعبير، بل هي من مُعدِمات موضوع النجاسة. وهنا ننظر في الانقلاب، فإن حقّق هذه الخاصية الجوهريّة في مفهوم الاستحالة فقهيّاً كان منها وإلا فلا، فكلّ انقلاب يحقّق تغيّر موضوع الحكم كصيرورة الخمر خَلاً والعصير العنبي دبساً، فهو استحالة بهذا المعنى الفقهيّ للاستحالة بوصفها مطهّراً من المطهرات، وكلّ انقلاب يحدث في الشيء لا يوجب ذلك فلا معنى لإدراجه في الاستحالة التي يعتبرها الفقهاء من المطهّرات. نعم، لا مانع أن يحكم الشارع على انقلابٍ خاصّ بحكمٍ خاص كما في انقلاب الخمر خَلاً. وعليه، فلعلّ الراجح بالنظر هو معالجة الموضوع بهذه الطريقة، وبه يصير الانقلاب بالمعنى الخاصّ ـ صيرورة الخمر خَلاً ـ فرداً من أفراد الاستحالة. وتكون الصيغة النهائيّة الدقيقة كالآتي: الاستحالة ـ بمعناها الفقهي وبوصفها مطهّراً ولو بإطلاقٍ تسامحي ـ هي خروج الشيء عن العنوان الذي به صار مشمولاً لدليل النجاسة، إلى عنوان مشمول لدليل الطهارة أو أصالتها، وفقاً للنظر العرفي. وعليه، فإذا قصد من الانقلاب المعنى الخاصّ ـ وهو صيرورة الخمر خَلاً ـ فهو فردٌ من الاستحالة، غايته له أحكام خاصّة. وأمّا إذا قصد من الانقلاب مطلق التحوّل في الشيء ولو ببعض أوصافه، فيكون أعمّ من الاستحالة بوصفها مطهّراً؛ لأنّ التحوّل الانقلابي إن أوجب زوال العنوان صار الانقلاب استحالةً، وإلا ـ كما في صيرورة الماء ثلجاً والحنطة خبزاً وشعر الميتة مِحفظةً ـ تباين الانقلاب والاستحالة، فلم يعد مطهّراً أساساً، لا بدليل المطهريّة العام للاستحالة، ولا بدليلٍ خاص، فالانقلاب بالمعنى الخاصّ، وهو صيرورة الخمر خَلاً، فردٌ من أفراد الاستحالة المتجوهرة بزوال العنوان عرفاً، أمّا الانقلاب بالمعنى العام ـ وهو مطلق التحوّل الأعمّ من الجوهري أو الصفتي ـ فهو أعمّ من الاستحالة كذلك.

التعليق الثاني: في أصل مطهّرية الانقلاب، وذلك أنّ مطهّريّته في الجملة ـ بناءً على نجاسة الخمر ـ من الأمور المتفق عليها بين مذاهب أهل الإسلام على ما يبدو، فقد ذهبت إليه الإماميّة، كما يظهر من المذاهب الأربعة أيضاً، بل ادّعي بالفعل أنّه متّفق عليه بينهم؛ ومن هنا ادّعي اتفاق المسلمين عليه. واستدلّ له بزوال الإسم؛ فإنّ الخمر لم يعد لها وجود بعد أن صارت خَلاً، والأحكام تابعة للأسماء والعناوين وجوداً وعدماً، وحيث إنّ اسم الخمر قد انعدم، فموضوع النجاسة، وكذلك موضوع الحرمة، لم يعد لهما وجود حتى يشملهما دليل النجاسة والحرمة، والحكم ينعدم بانعدام موضوعه، وعليه فبالانقلاب انعدم موضوع النجاسة وثبت موضوع جديد مشمول لدليل طهارة خاصّ أو عام، أو لأصل موجب للطهارة، هذا مضافاً لدلالة العديد من الروايات التي بحثناها بالتفصيل في محلّه. وعليه، فأصلُ مطهّريّة الانقلاب ثابتٌ لا نقاش فيه. كما أنّه لا فرق في المطهّرية ـ على ما بحثناه في محلّه ـ بين الانقلاب الذاتي والانقلاب العلاجي، وفاقاً لما ذهب إليه السيد الماتن هنا.

([11]) هذا مبنيٌّ على تنجيس المتنجّس الجامد الذي لا نقول به، وعلى تقديره فما ذهب إليه الماتن هو الأحوط، بل الأقوى؛ لفرض أنّ الخلّ لاقى بعد الانقلاب الإناء المتنجّس، فيتنجّس به، وهذا لا علاقة له بالانقلاب أصلاً؛ لفرض حصول التنجّس بعد الانقلاب. ودليل مطهّرية الانقلاب ومحلّليّته لا يفيد طهارة الإناء، بل هو ناظر للخمر نفسها بعد انقلابها خلاً. كما أنّ دليل مطهّريّة التبعيّة ناظر للإناء المتنجّس بالخمر نفسها، لا بنجاسة خارجيّة.

([12]) هذا هو الصحيح، بل لا يختصّ الأمر بالعصير العنبي وإنّما مطلق المسكرات وما يلحق بها إذا انقلبت خلاً، فإنّها تطهر بناء على نجاسة المسكر. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى لا خصوصيّة للخلّ هنا، بل لو فرض انقلاب الخمر أو العصير العنبي أو غيره لشيء غير الخلّ بحيث خرج عن كونه خمراً أو عصيراً عنبيّاً أو مسكراً أو غير ذلك، طهُر أيضاً.

([13]) قد حقّقنا في محلّه من "فقه الأطعمة والأشربة" بالتفصيل مسألة العصير العنبي وذهاب الثلثين، وقلنا بأنّها جميعاً ليست تعبّديات، وإنّما هي طرق لخروج العصير العنبي عن حالة الإسكار ولو الخفيف واحتماليّته، فذهاب الثلثين ليس إلا طريق لصيرورة العصير دبساً ونحوه، بحيث لم يعد مسكراً ولا محتمل المسكريّة عرفاً، فلو خرج عن ذلك لم يعد موضوعاً للنجاسة؛ لأنّ موضوع النجاسة ـ على تقديرها ـ ليس عنوانية العصير العنبي، بل هو بصفته مسكراً، فراجع تفصيل ذلك هناك.

([14]) مطهريّة الانتقال لم ترد في آية ولا رواية، وإنّما بناها الفقهاء على أوجهٍ، أهمّها صدق عنوان أنّه ـ مثلاً ـ دم المنتقل إليه، والمفروض أنّ دم المنتقل إليه كبعض الحشرات طاهرٌ، إلى غير ذلك من التحليلات. والحقّ هنا أن يقال بأنّ صدق انتساب الدم إلى المنتقل إليه أمرٌ يختلف باختلاف الحالات والحيوانات التي ينتقل إليها الدم وغير ذلك، فلا يكفي أن يصدق عليه أنّه دمه، بل المهم أيضاً أن لا يظلّ يصدق عليه أنّه دم إنسانٍ أو حيوان نجس الدم، وإلا حكم بنجاسته على الأقرب، فالعبرة بخروجه عن صدق الانتساب الأوّل دون نسبته ثانياً إلى ما هو نجس الدم أيضاً، لا بمجرّد تحقّق نسبته إلى المنتقل إليه حتى يكون المعيار هو الشك في صيرورته جزءاً منه كما يفهم من عبارة السيّد الماتن. ومن الضروري في هذه الحالات الرجوع للعلم ودراسة حال الدم ـ على سبيل المثال ـ في جوف هذا الحيوان المنتقل إليه الدم، وهل هو مجرّد وعاء أو أنّه اندمج في جسده وغير ذلك مما يؤثر على فهمنا لطبيعة انتساب الدم إلى المنتقل إليه أو انقطاعه عن المنتقل عنه، والمدّة الزمنيّة المطلوبة وغير ذلك، فالعلم هنا قادر على توجيه فهم العرف وتصحيحه.

([15]) مطهّريّة الإسلام مبنيّة على منجّسية الكفر، وحيث لم نقل بنجاسة الكافر، بل قلنا بطهارة مطلق الإنسان، فلا معنى لكون الإسلام مطهّراً، فالخلاف مبنائي.

([16]) من الطبيعي أنّ الماتن لا يقصد من كلمة "غيرها" ما يشمل الفضلات النجسة عنده كالبول والمنيّ. كما أنّ مطهّرية الإسلام يُقصد بها المطهّرية من حيث النجاسة الذاتيّة، وهي الكفر، لا العارضة، فلو كان بدن الكافر متنجّساً بالبول، ثم أسلم، لم يطهر جسده من حيث البول، بل طهر من حيث الكفر.

([17]) الحقّ هنا ما أفتى به أمثال الشيخ محمّد إسحاق الفياض ـ وهو الذي يلوح من تعليقة السيد كاظم الحائري على الفتاوى الواضحة ـ وهو أنّه لا يوجد عنوان اسمه التبعيّة في باب الإسلام والكفر ونحوهما؛ والسبب في ذلك ـ عندنا ـ أنّ الرواية المعتمد عليها آحاديّة ضعيفة الإسناد (خبر حفص)، فالعبرة بصدق عنوان الكافر على الطفل، فإنّ هذا العنوان هو المقتضي للنجاسة، فإذا كان مميّزاً وأبدى إسلامه أو كفره حكم بمقتضى ذلك، وإلا فإن صدق عليه بعد إسلام والده أو والدته عنوان الكفر كان نجساً ـ بناء على القول بنجاسة الكافر ـ وإلا يحكم بطهارته، ولا يشترط صدق عنوان الإسلام عليه، بل يكفي عدم ثبوت عنوان الكفر وأمثاله عليه مما هو مقتضي النجاسة. وبناء على هذا كلّه يظهر أنّ أولاد غير المسلمين إذا لم يصدق عليهم عنوان الكافر أو أهل الكتاب أو نحو ذلك لم يحكم بنجاستهم أساساً؛ وذلك أنّ دليل نجاستهم ـ كما أقرّ به السيد الماتن في بحوثه ـ هو الإجماع، ولا نقول به هنا؛ لاحتمال أنّهم انطلقوا فيه من صدق عنوان الكافر عرفاً على الطفل الذي يكون والداه كافرين، فيقال عنه: إنّه مسيحي مثلاً أو يهودي أو بوذي أو نحو ذلك، لا لخصوصيّة التبعيّة في باب الكفر، فتأمّل جيّداً.

([18]) إذا قلنا بنجاسة الميّت الإنساني قبل غسله، وهو ما احتطنا فيه وجوباً سابقاً في باب النجاسات، فإنّ القول بالتبعيّة هنا في جميع هذه الأمور التي وافق عليها الماتن أو ناقش فيها مما يتعلّق بالغاسل والمغتسل وآلات الغسل ونحو ذلك، هو محلّ إشكال؛ إذ لا دليل عليه عندهم إلا السيرة، ومن أين لنا أن نُثبت سيرتهم في عصر النصّ في مثل هذه الموارد؟! وبخاصّة وفقاً لما أفاده أستاذنا السيد محمود الهاشمي في فتاويه من أنّ يد الغاسل والمغتَسَل والثياب التي يغسّل بها الميّت تُغسَل عادةً مع غسل الميّت، فتطهر تلقائيّاً بذلك لا بالتبعيّة، فلعلّ سيرتهم بُنيت على مثل ذلك.

([19]) بعيداً عمّا قلناه أوّل بحثَي: النجاسات والمطهّرات، من البحث الكبروي، هنا أمور:

أ ـ حيث إنّنا لا نقول بتنجيس المتنجّس الجامد مطلقاً، فإنّه لا دليل على عدم تنجّس جسد الحيوان الصامت، كما لا دليل على طهارته بمجرّد زوال عين النجاسة؛ فإنّ غاية ما هناك أنّ جسد هذا الحيوان متنجّس، ولكن لا ينجّس ما يلاقيه، وتظهر الثمرة فيما لو جعل جلده المتنجّس هذا لباساً يريد المكلّف أن يصلّي فيه، فإنّه يكون من الصلاة بالثوب المتنجّس.

ب ـ إنّه لا فرق في حصول التنجيس بملاقاة عين النجس بين حصول الملاقاة في الظاهر أو الباطن، سواء وردت النجاسة على الباطن الطاهر أو ورد الطاهر على الباطن النجس، أو ورد الاثنان على الباطن والتقيا في الداخل ثم خرج الطاهر، غاية ما في الأمر أنّه ما دام الشيء في الباطن فإنّ نجاسته وعدم نجاسته ليسا بشيء ولا يغيّران من واقع التكاليف الشرعيّة وشروطها شيئاً. وبهذا يظهر أنّ ملاقي ما فوق الحلق كملاقي ما دونه ينجس بالملاقاة على القاعدة. وليس في المورد نصوص موثوقة يمكن البناء عليها أساساً إلا حالة واحدة وهي عبارة عما يفرزه الجسم من أشياء تكوّنت في الداخل وحكمت الشريعة بطهارتها مع العلم بكونها تلاقي النجاسة في الداخل، مثل الودي الذي يلاقي في خروجه البول؛ لأنّه يخرج بعد البول.

ج ـ إنّه لا دليل على طهارة ما فوق الحلق، كباطن فم الإنسان، بمجرّد زوال عين النجاسة، بل حكمه حكم غيره. نعم لا دليل على شرط طهارة هذا الباطن في الصلاة وغيرها.

د ـ إنّ زوال عين النجاسة عن الباطن الذي هو دون الحلق لا يوجب الطهارة، غايته أنّه حال كونه في الباطن لا أثر لنجاسته، أمّا لو خرج وعلم بالملاقاة مع النجس ترتّبت عليه أحكام المتنجّس.

وقد يقال: إنّه بمراجعة روايات هذه المسألة يظهر أن أغلبها لا يدلّ بأيّ نحو من أنحاء الدلالة على المطلوب، بل موضوع بعضها يتعلّق بأحكام الجبيرة، وبعضها الآخر يتعلق بالوضوء، وروايتان في باب الاستنجاء، ورواية تتعلّق بعدم قطع الصلاة إن خرج من الأنف دمٌ يابس. ويتحصّل أنّ ستّ روايات من مجموع روايات الباب السبعة التي ذكرها الحرّ العاملي لا تدلّ على المطلوب، وهناك رواية واحدة تدلّ بالدلالة المطابقيّة على المطلوب، وهي خبر عمار الساباطي، نعم لو قلنا بنجاسة الخمر فيمكن إضافة خبر عبد الحميد بن أبي الديلم الوارد في بصاق شارب الخمر إلى خبر عمار، ويكون المجموع خبران. ومع ذلك يمكن طرح بعض الأمور لتوجيه الحكم بعدم تنجّس البواطن أو طهارته بمجرد الإزالة وذلك:

أ ـ إنّ النصوص الواردة في النجاسات وكذلك في كيفيّة التطهير لا يوجد فيها إطلاق يشمل بواطن الإنسان، وبمراجعة سياق الروايات يطمئنّ من أنّها تتحدّث عن الظاهر ليس إلا، ومع الشكّ في وجود إطلاق منعقد في هذه النصوص يكون المحكّم هو أصل الطهارة.

ب ـ إنّ تنجّس بواطن الإنسان مسألة ابتلائية، وعدم ورود نصوص واضحة في هذه المسألة من حيث التنجّس وكيفيّة التطهير، يجعلنا أمام فرضيّتين: الأولى: أنّ هناك وضوحاً في حكم البواطن وأنّها كما الظاهر من ناحية النجاسة والطهارة. وهذه الفرضية تتطلّب وجود أسئلة من قبيل كيفيّة تطهير الباطن المتنجّس، وهل يتنجّس ملاقي هذه البواطن؟ ولا سيما أنّها ابتلائيّة، فمثلاً إذا تنجّس باطن الفم فهل الشرب والأكل في أواني الطعام والشراب يؤدّي إلى نجاستها أو لا؟ وهل بصاق الفم المتنجّس نجس أو لا؟ ثمّ كيف يتطهّر؟ هل بمجرّد المضمضة أو يكفي شرب الماء؟ إلى غيرها من الأسئلة التي تستدعي أن تُطرح على الإمام، شأنها شأن الأسئلة المطروحة في الظواهر، وهذا ما لا نجد له عيناً ولا أثراً. الفرضية الثانية: أنّ هناك وضوحاً في عدم تنجّس تلك البواطن أو عدم الحاجة إلى تطهيرها؛ لأنّها تطهر بزوال النجاسة، ولذلك لم تظهر أسئلة تتعلّق بها كما هي الحال في ظاهر البدن. ويبدو أن الجواب المناسب لتفسير غياب هذه الأسئلة هو الفرضية الثانية.

ج ـ إنّ القول بتنجّس البواطن والحاجة إلى تطهيرها مما يستلزم الحرج عادةً، فيكون القول بعدم التنجّس منسجماً مع سهولة الشريعة، ولا سيما في باب الطهارة.

لكن يجاب:

أ ـ لماذا لا تشمل المطلقات والعمومات الباطن؟ وهل يرى العرف فرقاً بين باطن الفم وظاهره؟ فكما أنّه لا فرق بين اليد والرجل لو دلّت الرواية على حالة نجاسة متعلّقة باليد، فإنّه لا فرق ـ بعيداً عما أنسناه من الفتاوى الفقهيّة ـ بين باطن الفم وبين الشفتين مثلاً، وعليه فقد أخذ المتشرّعة بالنصوص وطبّقوها على الباطن والظاهر معاً.

ب ـ إنّ الشيء الذي نتكلّم عنه هنا هو الباطن ما فوق الحلق، لا ما دونه كما ذكرنا، فما دون الحلق ـ كما في باطن الجسم والمعدة وغير ذلك ـ نجزم بأنّ النجاسة موجودة، لكن لا أثر شرعيّاً لها قطعاً، ولهذا لم يسألوا عنها؛ لوضوح الأمر؛ إذ لو كان لها أثر شرعي فكلّ إنسان يحمل أعيان النجاسات في داخله من دمٍ وبول غيرهما. فالقضيّة التي هي محلّ الابتلاء حقيقةً هي مثل باطن الفم ما فوق الحلق، وباطن الأنف، وباطن الأذن، وما شابه ذلك.. وهذا لا حرج في تطهيره مثله مثل أيّ نجاسة أخرى على البدن، فعمدة دليلنا هنا هو النصوص العامّة والمطلقة في باب الطهارات والنجاسات، حيث لا يرى العرف فرقاً بين الباطن بالمعنى الثاني وبين الظاهر، فيسرّي الأحكام.

([20]) المتداول بين الفقهاء عند عدّهم للمطهرات ذكر مطهّرٍ يطلقون عليه عنوان "غَيبة المسلم"، ويقصدون به أنّه لو تنجّست ملابس مسلمٍ نعرفه، وكانت بحوزته، ثم لم نشاهده لأيّام أو شهور مثلاً، ثم رأيناه بتلك الملابس، فإنّه يحكم بطهارة هذه الملابس بمجرّد احتمال أنّه طهّرها، فيكفي هذا الاحتمال للبناء على الطهارة، ولسنا بحاجة لأيّ دليل ولو ظنّي يثبت الطهارة. غير أنّ العديد من الفقهاء وضعوا شروطاً هنا. واختُلف في عدد الشروط التي يذكرونها، ومن هذه الشروط مثلاً: أن يكون ذلك المسلم عالماً بالنجاسة، وأن يكون عالماً باشتراط الطهارة في الصلاة والأكل، وأن يكون مهتماً بأمور الطهارة والنجاسة ولا يكون غير مبالٍ بهما، وأن يكون بالغاً، وأن يكون هذا اللباس أو الطعام أو غيرهما مما يستعمله هو في الأمور المشروطة بالطهارة كأن يكون لباسه هذا من الألبسة التي يصلّي هو فيها، وغير ذلك. وبعض الفقهاء أخذ بهذه الشروط، وبعضهم احتاط ببعضها، وبعض الفقهاء ـ مثل الشيخ علي الجواهري والسيد الخميني والشيخ بهجت ـ لم يضع أيّ شرط هنا للحكم بالطهارة عدا احتمال تطهير المسلم لها، وبعضهم أخذ ببعض هذه الشروط دون بعض، فراجع حتى لا نطيل. وقد اختلفت مقاربة الفقهاء لهذا المطهّر، ففيما فهمه بعضهم على أنّه حكم تعبّدي، حاول آخرون أن يفهموه على أنّه من باب دلالة العمل على التطهير، فكما أنّ المسلم لو أخبرني بأنّه طهّر ثوبه فإنّني آخذ بقوله، من باب حجيّة خبر الثقة في الموضوعات أو من باب حجيّة إخبار ذي اليد أو غير ذلك، كذلك هنا، فإنّ سلوكه كأنّه إخبار عن حال بدنه وملابسه وتوابعه. بل قد نقول: إنّ ظاهر حال المسلم يخبرنا بذلك، فعملنا يكون على ظهور حاله، تماماً كما نعمل بظهور مقاله. وبعضهم أقامها على قاعدة حمل عمل المسلم على الصحّة لو رآه يستعمل هذا اللباس فيما تُشترط فيه الطهارة.

وقد أقرّ العديد من الفقهاء بأنّه لا يوجد شيء اسمه مطهريّة الغَيبة، ولا ينبغي عدّ الغَيبة من المطهّرات؛ إذ هذا التعبير مسامحة، وإنّما الغَيبة من وسائل إثبات الطهارة، لا أنّها مطهّرٌ لنجاسة شيء كمطهّريّة الماء مثلاً، ومع ذلك ما يزال يضعها جمهور الفقهاء المتأخّرين والمعاصرين في عداد المطهّرات باستثناء بعضٍ قليلٍ منهم أعاد ترتيب مكانها، فوضعها في باب إثبات الطهارة، مثل السيد محمّد باقر الصدر في "الفتاوى الواضحة".

والأقرب بالنظر عدم كون الغَيبة لا من المطهّرات ولا من مثبتات الطهارة أو وسائل التحقّق منها، بل نحن نحكم بالطهارة مع الغَيبة لحصول الاطمئنان والوثوق بصيرورة هذا اللباس طاهراً بعد هذه المدّة، فمع الاطمئنان وتلاشي الاحتمالات الضئيلة عقلائيّاً يُحكم بالطهارة، لا للغَيبة، بل للاطمئنان نفسه فهو الحجّة، ومن دون الاطمئنان لا قيمة للغَيبة في نفسها. هذا وإنّني بعد بحثي هذه المسألة ودراسة أدلّتها منذ مدّة، عدتُ ورأيت أنّ المرجع الديني المعاصر السيد موسى الشبيري الزنجاني يرى هذا الرأي عينه، فقد كان يرى الاحتياط الوجوبي في القضيّة، ثم أفتى في الطبعة الأخيرة من رسالته العمليّة بعدم ثبوت الطهارة بالغَيبة مع عدم حصول الاطمئنان النوعي أو الشخصي. كما ذكر السيد القمي في تعليقته على العروة هنا أنّ إثبات المطهّرية في غاية الإشكال.

واللافت أنّه لا توجد أيّ آية ولا أيّ رواية ولو ضعيفة السند تمثل عندهم الدليل المباشر على مطهريّة الغَيبة، كلّ ما في الأمر أنّهم تارةً اعتمدوا على ظهور حال المسلم في التطهير، وهو ظهور غير مقنع بعيداً عن الاطمئنان، وأخرى استندوا للسيرة المتشرّعية في العصور الأولى، والتي هي العمدة والأساس في بحوثهم إلى اليوم، باعتبار أنّ المسلمين كانوا يبنون على طهارة ملابس بعضهم بالغَيبة ولا يسألون ولا يلتفتون، لكنّ هذا ليس دليلاً على مطهّرية الغيبة، بل هو دليل على أنّهم كان يحصل لهم وثوق بأنّ الآخر المسلم يطهّر، فكم هو احتمال أن تبقى الملابس نجسة إذا غاب متديّن ـ يعرف الصلاة والطهارة ـ عنك، ثم رجع يصلّي بهذه الملابس حتى لو كان بينك وبينه اختلاف في الأحكام الفقهيّة المرتبطة بالطهارة والنجاسة تقليداً أو اجتهاداً؟! ولا دليل على جريان السيرة المتشرّعية في غير حالات الاطمئنان وعدم الالتفات أصلاً، فالسيرة دليل لُبّي يؤخذ فيه بالقدر المتيقّن، فتأمّل الموضوع جيّداً تجد صدق ما نقول، والعلم عند الله. فلسنا هنا أمام أحكام تعبديّة، بل لو كان تعبديّاً فمن أين جاء ارتكازه في ذهن عموم المسلمين بهذه القوّة مع شدّة الابتلاء دون وجود أيّ سؤال وجواب حوله؟! وأيضاً لو كان المرجع ظهور الحال فلماذا لم يأخذوا بظاهر حال غير المسلم فيما يرجع للطهارات التي لا تحتاج لخصوصيّات، بل تصدر من عامّة الناس كما لو كان يكفي فيها الغسل مرّة واحدة أو طهارة القدم بالمشي على الأرض وهكذا. وعدم ظهور أسئلة أمرٌ ينسجم مع فرضيّة الاطمئنان؛ لأنّهم كانوا يجرون الاستصحاب ما لم يحصل لهم وثوق بالطهارة أو يقوم دليل معتبر عليها، فليسوا بحاجة لأسئلة، فضلاً عن أنّ حالات العلم بالنجاسة قليلة جداً، وإلا فأصالة الطهارة واستصحابها هما المحكّمان في العادة.

وقاعدة حمل عمل المسلم على الصحّة لا تفيد طهارة اللباس، خاصّة على مثل مبنى من لم يشرط أيّ شرطٍ هنا كالسيد الخميني، وهي أخصّ بكثير من المدّعى المشهور؛ لاشتراطها قيامه بعمل مشروط بالطهارة، بل تفيد صحّة عمله من حيث هو صادر منه في لحظة صدوره، فتجتمع مع نسيانه التطهير، فلعلّه صلّى به ناسياً للحكم وليس للموضوع، أو صلّى فيه مع العلم لعذرٍ، فيما لو وقع ذلك منه مرّة أو مرّتين، بل لو قلنا بها لزم الحكم بطهارة لباسٍ هو لنا ونعلم بنجاسته وأعطيناه لمسلم لا يعلم بنجاسته، ثمّ رأيناه يصلّي فيه بعد يومين، فإنّ قاعدة حمل عمل المسلم على الصحّة لو جرت هنا حكمت بطهارة اللباس، وهو في غاية الغرابة. بل أساساً لا نرى وجوب الإعادة والقضاء على من صلّى بالنجاسة ناسياً الحكم أو الموضوع، كما تقدّم. وعليه، فادّعاء أنّهم كانوا بمجرّد الغيبة يحكمون بالطهارة مطلقاً فيه مجازفة كبيرة، وإثباته تاريخيّاً صعب.

([21]) والاستبراء الموجب للطهارة هو زوال وصف الجلل عن الحيوان، فيكون هذا المطهّر من نوع انعدام موضوع النجاسة، بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

([22]) استحباباً.

([23]) المتحصّل من مجموع تعليقاتنا الآنفة في باب المطهّرات أنّه ـ بصرف النظر عن فكرة حصول الطهارة بمجرّد زوال عين النجاسة مطلقاً ـ فقد:

1 ـ ثبت من المطهّرات أربعة فقط، وهي: الماء، والأرض، والاستحالة (تغيّر الموضوع)، والانتقال.

2 ـ أمّا البقيّة:

أ ـ فبعضها لم يثبت أصلاً، وهو: الشمس، والغَيبة، وزوال عين النجاسة في بواطن الإنسان وجسد الحيوان، والتبعيّة.

ب ـ وبعضها الآخر يرجع ـ لو كان له موضوع ـ إلى أحد المطهّرات الأربعة السابقة (الاستحالة وتغيّر الموضوع)، ولا يستحقّ أن يكون مطهّراً مستقلاً، وهو: الانقلاب، وذهاب الثلثين، واستبراء الجلال بزوال وصف الجلل عنه، والإسلام. وإن كان هذا القسم يصدق عليه ـ وفقاً لما بنينا عليه في باب النجاسات ـ أنّه لا موضوع له؛ لأنّنا هناك قلنا بطهارة مطلق الإنسان وعرق الحيوان الجلال والمسكرات وملحقاتها بجميع أنواعها.

([24]) وفقاً لما بحثناه في "فقه الأطعمة والأشربة" بمناسبة الحديث عن "أصالة عدم التذكية" فإنّ كلّ الحيوانات تقبل التذكية بما فيها الإنسان والحيوان نجس العين؛ لأنّ التذكية هي إماتة الحيوان بالطريقة المعتبرة كالذبح أو الصيد أو النحر، غاية الأمر أنّ التذكية تارةً تكون لها آثار في الحيوان المذكّى كطهارته أو جواز الصلاة بجلده أو حلية أكله أو نحو ذلك، وأخرى لا تكون لها أيّ آثار، فالخنزير مثلاً إذا قلنا بنجاسته الذاتية وحرمته مطلقاً، فهو نجس حيّاً وميتاً مذبوحاً أو غير مذبوح، ولا يجوز أكله مطلقاً وهكذا، فلا أثر لذكاته، وبعبارة أخرى: الذكاة تارة تطلق ويراد معناها الأصلي، وهو الإماتة بطريقة معتبرة، وهنا تارة يكون لها أثر وأخرى لا يكون، تبعاً لأدلّة ذلك الأثر، ومرّة أخرى تطلق التذكية ويراد منها آثارها أو بعض آثارها، فيقال: حيوان مذكّى، ويقصد أنّه حلال الأكل أو أنّه طاهر، والصحيح أنّ كلّ الحيوانات تقع عليها التذكية بالمعنى الأوّل، غايته لا بدّ لكلّ منها من البحث عن دليله، وأنّه هل التذكية التي تقع عليه تؤثر على طهارته أو لا؟ وهل تؤثر على حليّته أو لا؟ وهكذا. وبناء عليه نقول: إنّ كل حيوان غير الحيوان نجس العين يمكن عروض التذكية عليه بالمعنى الأوّل، بما ينتج عنه التذكية بالمعنى الثاني في باب الطهارة، فيكون طاهراً من حيث هو حيوان ميّت، فما ذهب إليه الماتن صحيح من حيث الآثار، غير أنّه لا يختصّ بما له جِلد.

([25]) قلنا في بحث "كيفيّة سراية النجاسة إلى الملاقي"، عند التعليق على المسألة رقم: 416، أنّ ثبوت النجاسة بالبيّنة أو بإخبار ذي اليد أو بإخبار مطلق الثقة مشروطٌ بحصول الوثوق، والأمر عينه يجري في ثبوت الطهارة.