hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (الأعيان النجسة ـ القسم الثالث)

تاريخ الاعداد: 5/29/2024 تاريخ النشر: 6/6/2024
6350
التحميل

حيدر حبّ الله

  

هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(30 ـ 5 ـ 2024م)

 

 

المبحث السادس

الطهارة من الخبث‌

وفيه فصول:

الفصل الأوّل

في عدد الأعيان النجسة

....

الثامن: المسكر المائع بالأصالة بجميع أقسامه ـ لكنّ الحكم في غير الخمر والنبيذ المسكر مبنيٌّ على الاحتياط، وأما الجامد كالحشيشة ـ وإن غلى وصار مائعاً بالعارض ـ فهو طاهر لكنّه حرام، وأما السبيرتو المتخذ من الأخشاب أو الأجسام الأخر، فالظاهر طهارته بجميع أقسامه([1]).

مسألة 406: العصير العنبي إذا غلى بالنار أو بغيرها، فالظاهر بقاؤه على الطهارة، وإن صار حراماً([2])، فإذا ذهب ثلثاه بالنار صار حلالاً، والظاهر عدم كفاية ذهاب الثلثين بغير النّار في الحليّة([3]).

مسألة 407: العصير الزبيبي، والتمري لا ينجس ولا يحرم بالغليان بالنار، فيجوز وضع التمر، والزبيب، والكشمش في المطبوخات مثل المرق، والمحشي، والطبيخ وغيرها، وكذا دبس التمر المسمى بدبس الدمعة([4]).

التاسع: الفقاع، وهو شراب مخصوص متخذ من الشعير، وليس منه ماء الشعير الذي يصفه الأطباء([5]).

العاشر: الكافر، وهو من لم ينتحل ديناً أو انتحل ديناً غير الإسلام أو انتحل الإسلام وجحد ما يعلم أنّه من الدين الإسلامي، بحيث رجع جحده إلى إنكار الرسالة([6]). نعم إنكار المعاد يوجب الكفر مطلقاً([7])، ولا فرق بين المرتدّ، والكافر الأصلي، والحربي، والذمي، والخارجي، والغالي والناصب. هذا في غير الكتابي، أما الكتابي فالمشهور نجاسته وهو الأحوط([8]).

مسألة 408: عرق الجنب من الحرام طاهر ولكن لا تجوز الصلاة فيه على الأحوط الأولى. ويختصّ الحكم بما إذا كان التحريم ثابتاً لموجب الجنابة بعنوانه كالزنا، واللواط، والاستمناء، بل ووطئ الحائض أيضاً، وأما إذا كان بعنوان آخر كإفطار الصائم، أو مخالفة النذر، ونحو ذلك فلا يعمّه الحكم([9]).

مسألة 409: عرق الإبل الجلالة، وغيرها من الحيوان الجلال طاهر، ولكن لا تجوز الصلاة فيه([10]).

_______________________________

([1]) المشهور بين فقهاء المسلمين بمذاهبهم نجاسة الخمر العنبي، وعمّمه كثيرون لمطلق المسكر المائع بالأصالة، وبخاصّة النبيذ (بالمصطلح الروائي والفقهي القديم للكلمة)، أمّا المسكر الجامد بالأصالة والذي مثّلوا له بالحشيش، فهو طاهر عندهم. ولكنّ المنسوبَ شيعيّاً إلى الشيخ الصدوق ـ وعباراته تدلّ على ذلك ـ ووالده، وكذلك إلى الجعفي وابن أبي عقيل العماني القولُ بالطهارة، كما أنّ المنسوب في فقه الجمهور القول بالطهارة لجماعة منهم: الشافعي في أحد قوليه، والليث بن سعد (175هـ)، وداود الظاهري (275هـ)، وربيعة وغيرهم.

وفي العصر الحديث، ظهرت مواقف لبعض الفقهاء. وعلى سبيل المثال، فإنّ السيد محمّد باقر الصدر خصّص النجاسة في تعليقته على المنهاج بالخمر العنبي دون مطلق المسكر. أمّا السيد الخوئي فاعتبر أنّ غير الخمر والنبيذ يحكم بنجاسته ولو كان مائعاً بناء على الاحتياط دون الفتوى، وتبعه في ذلك جماعة مثل السيد محمّد صادق الروحاني، وهو ظاهر الشيخ التبريزي في غير الخمر العنبي. ولكنّ الشيخ الوحيد الخراساني جعل غير الخمر والنبيذ مبنيّاً على الاحتياط الاستحبابي. وهكذا أفتى السيد السيستاني بنجاسة الخمر العنبي لكنّه اعتبر أنّ إلحاق كلّ مسكر مائع بالأصالة به مبنيٌ على الاحتياط الاستحبابي. أمّا الشيخ محمّد إسحاق الفياض فأفتى صريحاً بعدم نجاسة مطلق المسكرات عدا الخمر العنبي خاصّة.

غير أنّ موقفاً أكثر مخالفةً توحيه عباراتٌ أخرى، فالسيد محمّد الروحاني والشيخ ناصر مكارم الشيرازي والشيخ آصف محسني اعتبروا أنّ نجاسة الخمر العنبي نفسها وكذا كلّ مسكر مائع بالأصل مبنيّة على الاحتياط الوجوبي دون الفتوى. بل السيد محمود الهاشمي يرى أنّ نجاسة الخمر العنبي مبنيّة على الاحتياط الوجوبي وأمّا سائر المسكرات مطلقاً فطاهرة عنده بلا فرق بين المائعة والجامدة بالأصل أو بالعارض. فيما أفتى السيد محمّد حسين فضل الله صريحاً بطهارة الخمر وجميع المسكرات بأنواعها مطلقاً. وكذلك الحال مع السيد كاظم الحائري حيث أفتى بطهارة الخمر وجميع المسكرات عدا في مورد الأكل والشرب، فاعتبر أنّ الطعام والشراب الذي يلاقي الخمر والمسكر لا يجوز تناوله إلا بعد تطهيره.

والأقوى ـ بعد مراجعة مختلف الأدلّة عند مختلف المذاهب ـ هو طهارة الخمر وجميع أنواع الأنبذة والمسكرات المائعة والجامدة بالأصل أو بالعارض، وكذا مطلق أنواع الكحول المصنّعة. وكذلك طهارة ما يمكن أن نسمّيه بملحقات الخمر، مثل الفقّاع (كالبيرة المتعارفة اليوم)، والعصائر العنبيّة وأمثالها المغليّة بالنار وغير ذلك. والمجال لا يسع للتفصيل وإلا فالكلام كثيٌر هنا، فالنصوص القرآنيّة التي استند إليها الشيعة والسنّة لا علاقة لها بنجاسة الخمر نجاسةً عينية حسيّة بالمفهوم الفقهي، وهذا ما عاد وأقرّ به المتأخرون من الفقهاء. والإجماع غير محرز، بل الأمر خلافيٌّ سواء في الوسط السنّي أم الشيعي. والشهرة واضحة المدركيّة كالإجماع لو كان. وأمّا الروايات فمتعارضة، فبعضها دلّ على النجاسة وبعضها الآخر دلّ على الطهارة. والغالبيّة الساحقة من روايات النجاسة في مصادر أهل السنّة، وكثير منها في مصادر الشيعة، مرتبط بالأكل والشرب من أواني الخمر وأمثالها، وهذا كما قلنا سابقاً وفصّلناه في كتاب "فقه الأطعمة والأشربة" ليس إلا تحفّظاً عن تناول المسكرات ولو بشكلٍ بسيط، ولا علاقة واضحة له بمفهوم النجاسة، فما قاله السيد الحائري يمكن قبوله، لكنّه لا ربط له بمفهوم النجاسة، فالمنع عن الشرب في أواني الخمر قبل تغسيلها حكمٌ تحفّظي احتياطي لازم، وهو في الوقت عينه يفعل فعل "الاعتبار الأدبي" بهدف سدّ الطرق على تورّط المسلمين في شرب الخمر وخلق حاجز عام عندهم من شربه، وليس لأجل مفهوم النجاسة. وحملُ روايات الطهارة على التقيّة، كما فعله الكثير من فقهاء الإماميّة، في غاية الغرابة بعد مراجعة المشهد التاريخي الفقهي عند مذاهب المسلمين، بل لو صحّ الحمل على التقيّة لربما كان الأولى حمل روايات النجاسة عليها دون العكس. ورواية علي بن مهزيار التي اعتبرها بعضهم بمثابة علاج للتعارض هي ـ في تقديري ـ تقع نفسها طرفاً في المعارضة؛ إذ لا تشرح لنا غير تكليف علي بن مهزيار نفسه في جواب الإمام له، وهذا غير توضيح الموقف من التعارض، فراجع. بل لو قلنا بنظرها فهو لا يكفي؛ لأنّه يُشترط في الجمع العرفي أن تكون الطائفتان المتعارضتان قابلتين لتحمّل ناتج الجمع بينهما، ومن الواضح أنّه من الصعب جداً هنا أن نقبل أنّ الطائفتين المتعارضتين قابلتان لتحمّل الناتج الذي تقدّمه رواية علي بن مهزيار، إذ لو كانت تقصد ذلك لكانت بياناً رديئاً، هذا مضافاً إلى كونها مجرّد خبر آحادي منفرد. وللموضوع مجالٌ واسع للتفصيل لا يسعه هذا المختصر.

ولا بأس أن أختم هنا بقصّة لطيفة، سمعتُ أحد الفقهاء رحمه الله ينقلها، حيث قال بأنّ السيد محمّد الروحاني (1997م) كان يرى علميّاً طهارة الخمر، ولكنّه في الرسالة العمليّة احتاطَ وجوباً، فسأله أحدهم: لماذا تحتاط والنتيجة النهائيّة عندك هي الطهارة؟! فأجابه بأنّ الناس لا تميّز الأشياء عن بعضها، فلو قلنا لهم: الخمر طاهرة، ظنّوا أنّنا نقول: يجوز شرب الخمر!

والقصّة على لطافتها يمكن الجواب عنها؛ فإنّ التباس الأمر على الناس ولو كان صحيحاً في الجملة حيث يخلطون الأمور ببعضها أحياناً، وهذا لمسته شخصيّاً بالتجربة، غير أنّ الفقيه لديه من القدرة على التبيين ولو المتكرّر ما يرفع هذا الالتباس الذي قد يقع بشكل جزئيّ في بداية الأمر، فليس هذا مبرّراً في تقديري ـ لو صحّت القصّة ـ لامتناع الفقيه عن الإفتاء. وقد كان الشيخ محمّد جواد مغنيّة قد انتقد ـ على طريقته ـ السيدَ الخوئي؛ لاحتياطه هنا في بعض الموارد مخافة مخالفة المشهور في الفتوى، معلِّقاً ـ أعني الشيخ مغنيّة ـ بالقول: «ويلاحظ بأنّ الاحتياط والشهرة ليسا من الأدلّة الشرعيّة، حتى عند السيّد. ورحم الله الشهيد الثاني، حيث قال: العمل بخلاف ما عليه المشهور مشكل، والأخذ بقولهم من دون دليلٍ أشكل». هذا، ورحم الله جميع العلماء والفقهاء على اختلاف مشاربهم ومنطلقاتهم في اتخاذ مواقفهم، ورزقنا ثقافة احترامهم وتقديرهم والانحناء إجلالاً لهم، دون أن تُسلب الأجيال المتخصّصة اللاحقة في الوسط العلمي الديني والحوزوي حقّ التفكير والنقد والمناقشة الموضوعيّة والأخلاقيّة لهم إن شاء الله تعالى.

([2]) النبيذ والفقّاع والعصير العنبيّ والعصير الزبيبي والعصير التمري وعصير الحصرم وغير ذلك من العصائر والمشروبات المغليّة ـ بالنار وغيرها ـ وما إلى ذلك، إنّما تحرم حال كونها مسكرة وصدق عنوان المسكر عرفاً عليها ولو بإسكارٍ خفيف، والاحتياط الواجب هو تجنّبها في حال احتماليّة صيرورتها مسكرة احتماليّةً معقولة معتدّ بها، ولم يحصل التبيّن. والعبرة في التحريم ليس اسم العصير العنبي المغلي أو الفقّاع أو نحوهما، وليس أصل وجود الكحول، بل النسبة الكحوليّة الموجبة لصدق عنوان المسكر عليه عرفاً، ولو بإسكارٍ خفيف. وسيأتي المزيد حول ذلك ذلك في باب الأطعمة والأشربة.

([3]) بل يكفي إذا زال وصف المسكريّة منه.

([4]) قد صار الأمر واضحاً مما تقدّم، وأنّ الصحيح هو الطهارة، أمّا الحرمة فمرتبطة بالمسكريّة.

([5]) قد قلنا بأنّ الفقّاع إنّما يحرم حال كونه مسكراً وصدق عنوان المسكر عرفاً عليها ولو بإسكارٍ خفيف. والعبرة في التحريم ليس اسم الفقّاع، وليس أصل وجود الكحول، بل النسبة الكحوليّة الموجبة لصدق عنوان المسكر عليه عرفاً، ولو بإسكارٍ خفيف. من هنا، لا يوجد حكمٌ شرعي مستقلّ في الشريعة بعنوانه اسمه تحريم الفقّاع، بحيث كلّما صدق عنوان الفقّاع حرُم مطلقاً، بل هو مجرّد تطبيق للقاعدة الثابتة في الشريعة، والتي تقول: «كلّ ما أسكر كثيرُه فقليله حرام»؛ ولهذا ورد في بعض الروايات حول الفقّاع أنّه «خُميرةٌ استصغرها الناس»، وفي بعضها الآخر تعبير: «خمرٌ مجهول». وعليه فمعيار تحريم الفقّاع مهما سمّيناه اليوم، ليس في كيفيّة صنعه، ولا في النشيش والغليان وغير ذلك، ولا في صدق اسم الفقّاع عليه بحيث تخرج منه نتيجة التخمير فقاقيع من أسفله إلى أعلاه فيحدث ما يُسمّى بالانقلاب فيه، ولا غير ذلك، فهذه ليست إلا علامات قد نرجع إليها وتفيدنا حصول الخمريّة فيه عند الشكّ وعدم العلم، وإنّما المعيار الحقيقي هو في اشتماله على نسبة كحوليّة توجب لو شرب منه الإنسان العادي كثيراً ـ أعني الإنسان غير المدمن عليه والمعتاد جسدُه عليه ـ أن يسكر ولو سُكراً خفيفاً.

وينتج عن ذلك أنّ العبرة ـ حيث يمكن ويتوفّر ـ بالدراسة المخبريّة والكيميائيّة التي تكشف لنا أنّ هذا السائل المتخذ من الشعير أو غيره، هل يحتوي على نسبة كحوليّة توجب الإسكار ـ ولو الخفيف ـ على تقدير الإكثار منه أو لا؟ وليس المهم كيف تمّ تصنيعه؟ وما هو اسمه لغةً وعرفاً؟ وما هي عوارض التصنيع ووقائعه؟ كما يفعل بعض الناس اليوم، فلو صنّعناه بطريقة توجب النشيش والغليان المعروفين وصَدَق عليه اسم الفقّاع عرفاً ولغةً، لكنّنا وضعنا معه حال التصنيع مادّةً تمنع تكوّن نسبةٍ كحوليّة فيه ـ وهذا افتراض فقط ـ فإنّه لا يكون محرّماً؛ لأنّ التحريم لم يثبت للإسم بذاته، بل ثبت له بوصفه مسكراً ولو خفيف الإسكار.

وبهذا نعرف أيضاً أنّ المسكر والفقّاع ليسا نجاستين اثنتين، كما هو ظاهر بيانات الفقهاء في باب النجاسات، بل ينبغي إدراج الفقّاع في المسكر لا فصله عنه، فليس له عنوانيّة مستقلّة، بل هو مصداق من مصاديق المسكر النجس عند من يقول بنجاسة المسكر، وقد قلنا آنفاً بأنّه لم تثبت نجاسة الخمر ولا المسكر مطلقاً، فالفقّاع ليس بنجس.

([6]) هذا التعريف الذي يقدّمه الماتن للكافر ينبغي أن يكون بمعنى موضوع النجاسة عندهم في الفقه، وإلا فهناك بحثٌ طويل في معنى الكفر والكافر في استخدامات الكتاب والسنّة، وهل يشمل الجاحد وغيره أو يختصّ بالجاحد؟ وهل يشمل القاصر والمقصّر أو يختصّ بالمقصّر؟ وهل مفردة "الكفر والكافر" التي تؤخذ صفةً أو موضوعاً أو عنصراً وتترتّب عليها نتائج عدّة في موضوعات مختلفة في الفقه وفي غير الفقه، تعطي في الجميع معنى واحداً أو لا؟ وعليه، فالتعريف الذي يقدّمه السيّد الماتن هو ـ من وجهة نظرنا ـ تعريفٌ فقهي لما هو عندهم موضوع النجاسة، ولما لم نكن من القائلين بنجاسة أحد ذاتاً، لهذا سوف نترك الحديث عن تعريف الكفر والإسلام والإيمان إلى موضعه.

([7]) الإيمان بالمعاد من أعظم الاعتقادات الدينيّة ولا سيما في الإسلام، ولكنّ إنكاره لا يوجب الكفر بعنوانه ما لم يرجع إلى إنكار أحد الركنين الأساسيّين وهما: التوحيد والرسالة، وما استشهد به الماتن في بحوثه الاستدلاليّة غايته إثبات أهميّة الإيمان بالمعاد، أمّا ترتيب الكفر على إنكاره بعنوانه فغيرُ واضح.

([8]) اشتهر في مذهب الإماميّة ـ خلافاً لجمهور فقهاء المسلمين ـ القولُ بنجاسة غير المسلم، سواء كان من أهل الكتاب أم من غيرهم، بل قال جماعةٌ منهم بنجاسة بعض المنتسبين للإسلام أيضاً كالغلاة والنواصب والخوارج، بل قال بعضٌ بنجاسة مطلق غير الإمامي الاثني عشري من مذاهب أهل السنّة وأمثالهم، بل نُسب القول بنجاسة ولد الزنا ولو كان أبواه مسلمين إلى الشيخ الصدوق والسيد المرتضى. ولعلّ ابن إدريس الحلّي يوافق أيضاً على نجاسة ابن الزنا؛ لأنّه كان يعتقد بكفر ولد الزنا مطلقاً، في رأيٍ خالف فيه ـ رحمه الله ـ جمهورَ الفقهاء. وقد حدث تحوّلٌ تاريخي على مستوى هذا الرأي في القرن العشرين، وبخاصّة على يد السيّد محسن الحكيم (1390هـ) في قضيّة طهارة أهل الكتاب، ثمّ السيد محمّد باقر الصدر في قضيّة طهارة الإنسان، فاشتهر ـ وإلى اليوم ـ القول بطهارة أهل الكتاب دون غيرهم. ثمّ أخذ القول بطهارة مطلق الإنسان يحظى بحضور متزايد تدريجيّاً في الأوساط البحثيّة الفقهيّة بل والفتاوى العمليّة، فاحتاط وجوباً في نجاسة الكافر غير الكتابي غيرُ واحدٍ، من أمثال: السيد محمد باقر الصدر، والسيد محمّد سعيد الحكيم، والشيخ حسين علي المنتظري، والسيد كاظم الحائري، والسيد محمود الهاشمي الشاهرودي، والسيد علي السيستاني في رأيه الأخير، الذي عدل فيه عن الإفتاء بنجاسة غير أهل الكتاب إلى الاحتياط، وغيرهم. بل قد أفتى بطهارة مطلق الإنسان جماعةٌ، منهم: السيد محمّد حسين فضل الله، والشيخ إبراهيم الجناتي، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تعليقته الأخيرة على العروة الوثقى، ونُقل عن السيد محمد سعيد الحكيم قبيل وفاته، وغيرهم.

والأقوى هو القول بطهارة الإنسان مطلقاً، منتسباً للإسلام كان ـ كالخوارج والنواصب والمجبرة والمجسّمة والصوفية والقائلين بوحدة الوجود والغلاة ومطلق مذاهب المسلمين من الشيعة والسنّة و.. ـ أو لا، كتابيّاً كان أو غيره، مؤمناً بدينٍ ما أو ملحداً تماماً، مرتدّاً عن الإسلام أو غير مسلم من الأصل، وسواء كان ابن زنا أم لا، مقصّراً كان في كفره أو قاصراً، فهؤلاء جميعاً طاهرون من حيث ذواتهم.

ولا بأس هنا من الإشارة إلى موضوع تكفير ابن الزنا، وذلك أنّه يعتبر الموقف من "الهويّة الدينيّة" و "المصير الأخروي" لولد الزنا من القضايا ذات الطابع الإشكالي في بعض زوايا البحث في التراث الديني، فإذا كان ابن الزنا صغيراً وكان أحد والدَيه على الأقلّ مسلماً، أو كان صغيراً مميّزاً أو كبيراً بالغاً، ولكنّه أعلن الشهادتين وعاش حياة المسلمين مؤمناً بالله سبحانه، فهل يعتبر مسلماً نتعامل معه معاملة المسلمين أو يُحكَم بكفره؟ وماذا عن مصيره الأخروي؟ هل يدخل الجنّة إذا كان إنساناً صالحاً في الدنيا، أو أنّه يدخل النار حتماً مهما بدا لنا في الدنيا أنّه مؤمن صالح؟

ذهب الشيخ ابن إدريس الحلّي (598هـ) إلى الحكم بكفر ابن الزنا، في رأيٍ مخالف لجمهور العلماء، ورتّب على ذلك مجموعةً من الأحكام، كتحريم مناكحته؛ لأنّ القرآن حرّم نكاح الكافر، وعدم اعتبار شهادته، وعدم اعتبار عتقه، فإنّ هذه كلّها مشروطة بعدم الكفر، وابن الزنا عنده كافر. بل قد نُسب القول بكفر ونجاسة ولد الزنا إلى السيد المرتضى والشيخ الصدوق أيضاً. وقد ذهب المحدّث يوسف البحراني (1186هـ) إلى أنّ ابن الزنا يقع في حالةٍ وسطى بين الإسلام والكفر؛ لهذا فهو لا يدخل الجنّة، لكنّه لا يدخل النار. ورأى البحراني ـ يتابعه هنا الشيخ جواد التبريزي ـ أنّ ابن الزنا المؤمن يُثاب يوم القيامة في النار، أي يكون ثوابه منها، فهو يعيش في النار لكنّه لا يعذّب بها بل يأخذ نعيمه الذي يصله إلى بيته الذي في جهنّم. وقد وردت الروايةُ في هذا الأمر أيضاً.

لكنّ الأقوى هو أنّ ابن الزنا كسائر الناس يحكم بإسلامه على القواعد عينها التي نحكم فيها بإسلام شخص، ويحكم بكفره على القواعد عينها التي نحكم فيها بكفر آخر. كما أنّه طاهر ذاتاً ـ من حيث هو ابن زنا ـ حتى لو قلنا بنجاسة الكافر. وأمّا مصيره الأخروي فهو كغيره لا يغيّر كونُه ولداً غير شرعي من معايير الثواب والعقاب في حقّه شيئاً، كسائر الناس تماماً.

والذي دفع بعض العلماء للقول بكفره، ثمّ ترتيب آثار النجاسة عليه (إلى اليوم ما يزال الفقهاء يبحثون حول نجاسة وطهارة ابن الزنا في قسم النجاسات من كتاب الطهارة، وبعضهم يرى أنّه لا مانع من القول بنجاسته دون كفره، فهو نجس لكنّه غير كافر)، أو حكمهم بدخوله النار، هو الروايات، حيث وردت روايات في ذلك تفوق الخمس عشرة رواية لها دلالة مباشرة أو غير مباشرة عندهم، كما استدلّوا بأدلة اعتبارية أيضاً، وكلّها غير مقنعة، وخضعت لمناقشات متعدّدة. وقد بحثناها مفصّلاً في محلّه من كتابنا (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر)، فراجع.

([9]) ذهب الكثير من فقهاء الإماميّة إلى نجاسة عرق الجنب من الحرام، سواء كان في البدن أم اللباس، وسواء في ذلك الرجل والمرأة. وهو العرق الذي يكون بسبب الجنابة المحرّمة ـ كالزنا ـ أو بعدها، فالمجنب من حرام عرقُه يكون نجساً ولو حدث هذا العرق بعد الجنابة المحرّمة، مادام لم يرتفع عنوان المجنب عنه بمثل الاغتسال. وخصّص بعضُهم الحكم بالمحرّم ذاتاً كالزنا، فيما عمّمه بعضٌ آخر للمحرّم بالعرض كمقاربة الزوجة في نهار شهر رمضان المبارك مع ثبوت وجوب الصيام. فيما ذكر آخرون تفصيلاً آخر بين موجب الجنابة بعنوانه الشامل لمثل الزنا والاستمناء واللواط ومقاربة الحائض، وبين ما يوجب بغير عنوانه مثل مخالفة النذر أو إفطار الصائم، ولعلّ المراد واحد. وهذا الفريق من الفقهاء بحثوا هنا في أنّه لو اغتسل بالماء الحارّ من هذه الجنابة المحرّمة أشكل الأمر، حيث إنّه قبل انتهاء الغسل سوف يتواصل خروج العرق منه بسبب حرارة الماء، فيتنجّس البدن باستمرار فيشكل الأمر، ولهذا ذهبوا إلى ضرورة أن يغتسل بمثل الماء البارد حذراً من هذا المحذور. وهذه المسألة ـ أعني موضوع نجاسة عرق الجنب من الحرام ـ ابتلائيّة جداً، فإنّه بعد البناء على حرمة الاستمناء يكون العرق الذي يخرج من المستمني ـ ولو بعد انتهاء الاستمناء وقبل الغسل ـ نجساً.

وخالف في هذا الحكم كلّه كثيرٌ من فقهاء الإماميّة، فقالوا بعدم نجاسة عرق الجنب من الحرام مطلقاً، بل إنّما لا تصحّ الصلاة فيه، فهذا العرق مانعٌ عن صحّة الصلاة لا أنّه نجس. والفرق بينهما أنّه لو أزيل العرق مثلاً عن الثوب بغير وسائل التطهير الشرعيّة، كفى في صحّة الصلاة على الرأي الثاني دون الأوّل، ولو مسّت اليد الثوب الذي عليه العرق تنجّست على الرأي الأوّل دون الثاني، ولو سقطت نقطة من هذا العرق في الإناء حرم شرب الماء على الرأي الأوّل دون الثاني، وهكذا. لكنّ فريقاً ثالثاً له أنصار كثر أيضاً قالوا بعدم كون عرق الجنب من الحرام نجساً ولا مانعاً عن صحّة الصلاة. وكثير من الفقهاء المعاصرين يرون هذا الرأيَ الثالث أو يحتاطون في المانعيّة. وعلى أيّة حال، فمورد البحث عند الجميع هنا هو خصوص العرق، لا أيّ شيء آخر كاللعاب أو الدموع أو غيرهما، فهذه لا إشكال فيها.

والأقوى هو صحّة الرأي الثالث، وهو عدم نجاسة عرق الجنب، سواء كانت الجنابة من حلال أم حرام، وعدم كونه مانعاً عن صحّة الصلاة، بلا فرقٍ في ذلك كلّه بين كون الحرمة ذاتيّةً أو عرضيّة. والمستند العمدة في هذه المسألة كلّها مجموعة من الروايات إلى جانب دعوى الإجماع والشهرة من قبل الفريق الأوّل والثاني تقريباً، لكنّ الحقّ أنّ المسألة خلافيّة منذ قديم الأيّام، والشهرة ليست حجّة في نفسها ولا توجب ـ ما لم يكن وثوقٌ اطمئنانيٌّ شخصي ـ تصحيحَ الخبر الضعيف. والروايات هنا قليلة جداً تقارب أصابع اليد الواحدة، وكلّها ضعيفة الإسناد تعاني من مشاكل متعدّدة ومن إرسال، بل بعضها ورد في مصادر متأخّرة ناقلة أو في مصادر لم يثبت أصلاً كونها تقدّم رواية جديدة غير سائر الروايات، مثل ما جاء في مرسل مبسوط الشيخ الطوسي أو مرسل الفقه الرضوي. واللافت في بعض هذه الروايات أيضاً أنّ قصّةً واحدة تمّ تكرارها مرّتين لإثبات إمامة الإمام أبي الحسن في مقابل مثل الوقف والواقفة، تارةً مع علي بن مهزيار وأخرى مع إدريس بن داود (يزداد ـ زياد) الكفرثوثي (الكفرتوتي)، وفي مثل هذه الحال يشكُّ الإنسانُ في صحّة إحدى هاتين القصّتين، حيث يرتفع احتمال أن تكون قد نُسجت واحدة منهما على منوال الأخرى، وقد تحدّثنا عن هذا الموضوع (اختراع رواياتٍ محاكية) في بعض البحوث الحديثيّة. وهذا كلّه يقلّص عدد الروايات هنا، ومن ثمّ يقلّص درجة الوثوق الصدوري بها.

([10]) الأقرب هو الحكم بالطهارة وجواز الصلاة فيه، وإن كان الأحوط استحباباً هو الحكم بنجاسة مطلق الجلال، والعمدة هنا روايتان، ولنا في نصوص الجلّال كلامٌ بحثناه بالتفصيل في كتاب "فقه الأطعمة والأشربة"، فلا نطيل. وأمّا ما ذهب إليه الماتن من الحكم بالطهارة غايته مانعيّة عرق الجلال عن الصلاة فيه فهو غير مقنع؛ إذ ظاهر الروايتين هو الإرشاد للنجاسة.

والمتحصّل من مجموع تعليقاتنا على الأعيان النجسة، أنّه ـ بصرف النظر عن فكرة عدم تعبديّة واعتباريّة النجاسة ـ فقد:

أ ـ ثبتت نجاسة كلّ من: بول الإنسان والحيوان محرّم الأكل ولا يُؤكل؛ وغائط ومنيّ ودم الإنسان خاصّة دون غيره؛ والميتة؛ والخنزير في غير شعره.

ب ـ وثبت الاحتياط الوجوبي في نجاسة الكلب مطلقاً، وكذا في شعر الخنزير.

ج ـ ولم تثبت نجاسة كلّ من المسكر مطلقاً وملحقاته؛ والفقّاع؛ والكافر؛ وعرق الحيوان الجلال، وعرق الجنب من الحرام.