التعليقة على منهاج الصالحين (الأعيان النجسة ـ القسم الثاني)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
(23 ـ 5 ـ 2024م)
المبحث السادس
الطهارة من الخبث
وفيه فصول:
الفصل الأوّل
في عدد الأعيان النجسة
.......
الخامس: الدم من الحيوان ذي النفس السائلة([1])، أما دم ما لا نفس له سائلة كدم السمك والبرغوث، والقمل ونحوها، فإنّه طاهر([2]).
مسألة 401: إذا وجد في ثوبه مثلاً دماً لا يدري أنّه من الحيوان ذي النفس السائلة أو من غيره بنى على طهارته([3]).
مسألة 402: دم العلقة المستحيلة من النطفة، والدم الذي يكون في البيضة نجس على الأحوط وجوباً([4]).
مسألة 403: الدم المتخلّف في الذبيحة بعد خروج ما يعتاد خروجه منها بالذبح طاهر، إلا أن يتنجّس بنجاسة خارجيّة، مثل السكّين التي يذبح بها([5]).
مسألة 404: إذا خرج من الجرح، أو الدمل شيءٌ أصفر يشكّ في أنّه دمٌ أم لا، يحكم بطهارته، وكذا إذا شكّ من جهة الظلمة أنّه دم أم قيح، ولا يجب عليه الاستعلام، وكذلك إذا حكّ جسده فخرجت رطوبة يشكّ في أنّها دم أو ماء أصفر يحكم بطهارتها.
مسألة 405: الدم الذي قد يوجد في اللبن عند الحلب، نجس ومنجّس له([6]).
السادس والسابع: الكلب([7])
والخنزير([8]) البرّيان بجميع أجزائهما وفضلاتهما ورطوباتهما دون البحريّين.
_______________________________
([1]) الأقوى أنّ دم الإنسان نجس، ولو كان دم شهيدٍ، خلافاً لبعض فقهاء أهل السنّة الذين قالوا بطهارة دم الشهيد. أمّا دم غير الإنسان من سائر الحيوانات ذوات النفس السائلة وغيرها، فلا دليل معتبراً على نجاسته، وإن كان هو مقتضى الاحتياط الاستحبابي؛ وذلك أنّه لا يوجد في نصوص الباب نصٌّ مطلق غير آحادي، يفيد الشمول لغير دم الإنسان، فالنصوص إمّا واردة في دم الإنسان أو في مقام بيان أمور أخرى بنحو لا ينعقد فيها إطلاق في الدم نفسه، بل تؤخذ بصفة المفروغيّة عن نجاسة الدم دون بيان نوع الدم النجس، وعمدة دليل بعضهم على التعميم هو خبر عمّار الساباطي وهو ـ لو سلّمنا دلالته، الأمر الذي لم يوافق عليه بعض الفقهاء ـ خبرٌ آحادي. وأمّا دعوى الاستناد لنصوص وقوع بعض الميتات في البئر والماء، فغير دقيقة؛ فإنّ النظر هنا للتنجّس بملاحظة الميتة لا بملاحظة الدم، حتى لو فرضنا وسلّمنا أنّه في بعض الموارد سوف تتفسّخ الميتة ويخرج الدم، فإنّ نظر الرواية للميتة لا للدم، وقد تزال الميتة قبل تفسّخها. بل يؤيّد ما نقول ما ذكروه في باب الدم المتخلّف في الذبيحة، فإنّهم أقرّوا بأنّه لا توجد أيّ أسئلة حول هذا الموضوع بين المتشرّعة خلال القرون الأولى، وهذا مؤيّد لفرضيّة أنّ دم الحيوان ـ لا أقلّ محلّل الأكل ـ ما كانوا ينظرون إليه على أنّه نجس، وإلا لظهرت أسئلة تتعلّق بالدم المتخلّف، ليعرفوا هل هو متميّز عن الدم الآخر النجس الذي يخرج قبله أو لا. بل لعلّ العرب في صدر الإسلام ما كانوا يعتبرون دم الحيوان قذراً، والدليل على ذلك أنّهم كانوا يعتبرون الدم المشويّ في المباعر من أرقى أنواع الأطعمة التي تقدّم للضيف، كما تحدّثنا عن ذلك في كتاب "فقه الأطعمة والأشربة"، فليس من البعيد أن لا يكون دم الحيوان قذراً بمنظورهم، ولهذا لم يسألوا عنه، والقدر المتيقّن من النصوص ـ كما قلنا ـ هو دم الإنسان.
([2]) إذا قلنا بنجاسة مطلق الدم، فإنّ غاية ما يمكن أن يستثنى هو دم مثل الحشرات الصغيرة كالبراغيث والبقّ، دون مطلق ما لا نفس سائلة له. هذا ولا بدّ من الإشارة إلى عدم نجاسة القيء ولا المذي ولا الودي ولا القيح خلافاً للعديد من فقهاء أهل السنّة الذي قالوا بنجاسة هذه الأمور.
([3]) القاعدة التي أفادها الماتن صحيحة، بصرف النظر عن موضوع النفس غير السائلة الذي ألمحنا إليه آنفاً.
([4]) الاحتياط الوجوبي في دم العلقة في الإنسان في محلّه، أمّا الدم في البيضة فالأقرب طهارته وجواز تناوله أيضاً، على ما بحثناه في "فقه الأطعمة والأشربة".
([5]) إذا بنينا على عدم ثبوت نجاسة غير دم الإنسان بوصفه القدر المتيقّن من النصوص، فالحكم هنا واضح، وهو طهارة الدم المتخلّف حتى لو لاقته السكّين التي عليها الدم غير المتخلّف من الحيوان، وأمّا إذا بنينا على نجاسة دم كلّ حيوان له نفس سائلة، فإنّ القدر المتيقّن من الدم المتخلّف المحكوم بطهارته ـ نظراً إلى أنّ عمدة الدليل هنا لبيٌّ على الأقوى ـ هو الدم المتخلّف من حيوان محلّل الأكل ولم تلاقه نجاسة أخرى ولم يتخلّف في الداخل نتيجة حالة استثنائيّة مثل أن يكون رأس الذبيحة مرفوعاً إلى الأعلى فبقي مقدار من الدم نتيجة ذلك، فإذا كان الحيوان محرّم الأكل أو لاقى الدمَ المتخلّف نجاسةٌ أخرى أو لم يكن المتخلّف قد تخلّف نتيجة وضع طبيعي، فإنّ هذا الدم المتخلّف يُحكم بنجاسته في هذه الحال.
([6]) بناءً على نجاسة دم غير الإنسان، وإلا فهو طاهر، نعم إذا كان كثيراً بحيث يصدق عليه أنّه دمٌ مسفوح حرُم تناوله، ولو قلنا بطهارته، وإلا ـ كما لو كان مجرّد نقطة دم مثلاً ـ جاز. بل لو قلنا بنجاسته ولكنّه بعد الحلب تمّ نزع الدم من اللبن بحيث لم يعد هناك عين نجاسةٍ فيه، جاز تناول اللبن؛ لما سيأتي في بحث الأطعمة والأشربة من عدم وجود دليل على حرمة تناول المتنجّس بما هو متنجّس.
([7]) اختلف فقهاء الإسلام في نجاسة الكلب على أقوال عدّة: 1 ـ القول بنجاسة الكلب مطلقاً، وهو ما عليه جمهور الإماميّة والحنابلة والشافعيّة. 2 ـ القول بطهارة الكلب مطلقاً، وهو المعروف من مذهب المالكيّة وبعض الفقهاء من سائر المذاهب، وأنّ الغسل من ولوغه سبع مرات أمرٌ تعبّدي لا دليل على كونه ناشئاً من فكرة النجاسة. ومن المعروف أنّ المذهب المالكي أسهل المذاهب في باب الطهارة والنجاسة على عكس المذهب الشافعي الذي يعدّ من أصعب المذاهب فيهما. وقد ذهب بعض الكتّاب المعاصرين إلى طهارة الكلب والخنزير مطلقاً وأنّه لو سلّمنا الروايات فيقتصر على اللعاب وأمثاله مما يعدّ قذراً، واليوم حيث تطوّرت وسائل التعقيم واللقاحات صار موضوع قذارة اللعاب بلا معنى أيضاً عنده. وبعض متأخّري المتأخّرين من فقهاء أهل السنّة أخذوا يرون طهارة الكلب مثل الشيخ يوسف القرضاوي. 3 ـ التفصيل بين كلب الصيد فطاهر وغيره فنجس، وهو المنسوب إلى الشيخ الصدوق من الإماميّة. 4 ـ التفصيل بين الكلب وشعره، فالكلب في نفسه نجس أمّا شعره فطاهر، وهو ما ذهب إليه السيد المرتضى في "الناصريات"، على مثل أساس أنّه لا تحلّه الحياة، ونسب القول بطهارة الشعر إلى الناصر الأطروش من علماء الزيديّة وكذلك نسبه للأحناف. وقد ذهب الشيخ محمّد الصادقي الطهراني أيضاً إلى طهارة شعر الكلب. 5 ـ التفصيل بين ذات الكلب وبين سؤره والرطوبات الآتية منه، وهذا القول هو المنسوب إلى الأحناف. ولعلّ الأحناف والمالكيّة على قول واحد أو لعلّ الفرق بينهما أنّ المالكية ترى الغسل من الولوغ شأناً تعبّدياً لا علاقة له بالنجاسة، فيما يراه الأحناف كاشفاً عن نجاسة لعاب الكلب وأمثاله. وثمّة في الفترة الأخيرة من ذهب إلى التفصيل بين الكلاب المستأنسة سواء كانت كلب صيد أم غيره، وبين الكلاب الشاردة المتوحّشة غير المستأنَسة، فالأوّل طاهر مطلقاً دون الثاني فنجس مطلقاً، إلى غير ذلك من الأقوال.
ولا بأس بعرض أبرز أدلّة القائلين بالنجاسة، ثم النظر فيما لدى القول بالطهارة مطلقاً أو تفصيلاً، وذلك كلّه باختصار شديد يتناسب مع طبيعة هذه التعليقة. وأبرز أدلّة القائلين بالنجاسة أمور:
1 ـ الاستناد إلى الإجماع والشهرة وأمثالهما.
وهو قابل للمناقشة بوضوح؛ فإنّه لو سلّمت حجيّة الإجماع فإنّ الإجماع هنا مدركيّ، معتمَدُه النصوص المتوفّرة عند الفريقين، بل لو ادّعي الإجماع تحقيقاً فهو واضح البطلان؛ إذ تبيّن مما تقدّم أنّ المسلمين، بل والإماميّة، لا يوجد اتفاق رأي بينهم في هذه المسألة بكلّ تفاصيلها. والشهرة الفتوائيّة ليست حجّة في نفسها على التحقيق.
2 ـ الاعتماد على النصوص الحديثيّة بعد عدم وجود شيء في الكتاب العزيز في إثبات النجاسة، وهي تقع على مجموعات:
المجموعة الأولى: ما دلّ على نجاسة سؤر الكلب ولعابه ووجوب غسل الإناء وتعفيره إذا ولغ فيه، وهي نصوص عديدة تزيد عن الخمسة، مثل خبر محمّد بن مسلم وخبر أبي بصير وخبر ابن المغفّل، وقد وردت عند الشيعة والسنّة، وإن كان عمدة نصوص باب الكلب هي عند الشيعة.
ولكنّ هذه المجموعة قد يدّعى أنّها معارضة بخبر ابن مسكان الدالّ على جواز الوضوء من الماء الذي ولغ فيه الكلب. غير أنّ الإنصاف أنّ خبر ابن مسكان ـ كما أشرنا عند التعليق على شرط طهارة ماء الوضوء في بحث الوضوء ـ غير معتبر سنداً لوقوع محمّد بن سنان قطعاً أو احتمالاً في إسناده، فضلاً عن عدم وضوح كون مورده في الماء القليل كما ألمحنا هناك. وأمّا القول بأنّ الطوسي تفرّد بهذه الروايات، فهو لا يضرّ بعد وجود روايات أخرى رواها الصدوق والكليني وغيرهما في مطلق نجاسة الكلب. وعليه فهذه المجموعة تامّة لكن غاية ما تدلّ عليه هو نجاسة لعاب الكلب، دون مطلق أجزائه ولا مطلق رطوباته، والتفصيلُ بين اللعاب وغيره معقول وعرفي أيضاً، فلا نستطيع التعدّي، وسيأتي مزيد تعليق يشكّك في أصل دلالة هذه المجموعة على نجاسة لعاب الكلب، فانتظر.
المجموعة الثانية: ما دلّ على عنوان نجاسة الكلب مستخدماً تعبير أنّه نجس، أو تعبير أنّه أنجس، مثل خبر معاوية بن شريح وخبر ابن أبي يعفور وخبر الفضل أبي العباس. وبين هذه المجموعة والمجموعة السابقة تداخل، حيث دلّت بعض نصوص هذه المجموعة على مفاد المجموعة الأولى أيضاً. ومن الواضح أنّ مفاد هذه المجموعة أوسع من مفاد الأولى؛ لأنّ الأولى خاصّة بالسؤر والولوغ فيما هذه تطلق الكلام في توصيف الكلب بأنّه نجس.
وقد تناقش هذه المجموعة بأمور:
منها: إنّ رواية ابن أبي يعفور تدلّ على كون الله لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وأنّ الناصبي أنجس من الكلب، وهذا تناقض، فضلاً عن أنّ النجاسة لا تشكيك فيها، فلا بدّ أن تحمل روايات النجاسة وما فيه مثل هذا التعبير على المفهوم العرفي، وهو القذارة؛ فإنّ القذارة العرفيّة مفهومٌ مشكّك دون النجاسة الشرعيّة التعبديّة.
لكن يمكن الجواب بأنّ هذا التعبير من نوع المبالغة في بيان نجاسة الكلب، وفهمه بحرفيّته خروج عن قواعد الفهم البلاغي عند العرب، فكأنّ الرواية تريد أن تقول: إنّ أنجس خلق الله هو الكلب، وإنّ الناصبي أنجس منه، فيكون المحصّل: إنّ الكلب هو الأنجس بعد الناصبي، وربما يكون هذا من نوع الاعتبار الأدبي الذي يهدف لبيان شدّة نجاسة الناصبي. وأمّا دعوى أنّ النجاسة الشرعية لا تشكيك فيها، فهي أيضاً قابلة للنقاش لو سلمنا أنّ تعبير "أنجس" هنا يراد منه التشكيك، لا أنّه يراد منه المبالغة في توصيف الناصبي بالنجاسة؛ وذلك أنّ النجاسة الشرعيّة أمرٌ اعتباري، فكما يمكن للمولى أن يعتبر شيئين نجسين بمعنى واحد، يمكنه أن يعتبر أحدهما أكثر نجاسة من الآخر، مع وحدة النتائج القانونيّة المترتّبة على النجاستين معاً، فالاعتبارات القانونيّة سهلة المؤونة.
ومنها: أنّه بناء على القول بطهارة مطلق الإنسان ـ كما هو الصحيح ـ فإنّ رواية ابن أبي يعفور لا يمكن حملها على النجاسة الشرعيّة، بل لا بدّ أن تفرض دالّةً على نجاسة معنويّة أو على قذارة بمعنى من المعاني.
وهذا الإشكال في محلّه؛ لصعوبة التفكيك بين الكلمات في رواية واحدة، لكنّه خاصّ بخبر ابن أبي يعفور لا بمطلق أخبار هذه المجموعة التي عبّرت عن الكلب بوصف النجاسة.
المجموعة الثالثة: ما دلّ على لزوم غسل الثوب أو البدن فيما لو أصابه كلب، وهي مجموعة من الروايات تقارب الخمسة. ومثل هذا الأمر إرشاد لنجاسة الكلب.
وقد يُناقش بمناقشات:
منها: إنّ بعض هذه الروايات دلّ على نضح الماء على الثوب لو مسّه الكلب جافاً، وهذا حكمٌ لا وجود له في الفقه الإسلامي؛ لاشتراط الرطوبة في التنجيس، فلا بدّ من حمل الموقف على النجاسة العرفيّة دون الشرعيّة.
لكنّه يمكن أن يُجاب بأنّ عدم وجوده في الفقه ليس بضائر، بل قد وجدنا في الروايات في أبواب مختلفة الحديث عن النضح بما لم نجد الفقهاء يفتون به اليوم، فليس الأمر خاصّاً بهذه الرواية. وإعراض المشهور ليس بقادح.
ومنها: إنّ بعض هذه الروايات (خبر محمّد بن مسلم) يفيد غسل اليد لو مسّ الإنسان الكلب السلوقي مطلقاً، بما يفهم منه الشمول لحالة الجفاف، وهذا يقتضى المنع عن فهم النجاسة المصطلحيّة هنا.
ويجاب عنه بأنّ الإطلاق الموجود في بعض هذه النصوص قابل للتقييد بما دلّ على شرط الرطوبة؛ لا أنّ الإطلاق كاشف عن عدم النجاسة، إذ مثل هذا الإطلاق غير عزيز في ألسنة نصوص باب النجاسات. كما يحتمل جداً مركوزيّة شرط الرطوبة في انتقال النجاسة؛ لأنّه عرفيٌّ وعقلائي أيضاً، كما سنذكر ذلك عند الحديث عن انتقال النجاسات قريباً، فلا يوثق بانعقاد إطلاق في النصوص في هذه الحال، فراجع.
ومنها: إنّ خبر سعيد الأعرج دالٌّ على إمكان الأكل من السمن أو الزيت الذي يقع فيه الكلب أو الفأرة ويخرج حيّاً، وهذا يعارض ما دلّ على النجاسة هنا ويُبطل مفاد المجموعة الثالثة هذه.
ويجاب بما حقّقنا في باب الأطعمة والأشربة، من أنّ هذه النصوص لا تدلّ على النجاسة ولا الطهارة، بل تدلّ على جواز أكل المتنجّس. والفقهاء لأنّهم ربطوا بين حرمة الأكل والنجاسة افترضوا أنّ الترخيص في الأكل هنا معناه عدم النجاسة، في حين حيث ثبت عدم قيام دليل على حرمة تناول المتنجّس بما هو متنجّس، فإنّ الترخيص هنا لا يدلّ على الطهارة.
ومنها: إنّ خبر عليّ بن جعفر ـ بطريق أبي قتادة ـ يفيد وحدة الحكم بين الكلب والفأرة في غسل أثرهما، مما يكشف عن أنّ الكلب ليس بنجس بعد عدم كون الفأرة نجسة، مما يُفهم منه أنّ التطهير هنا ترغيبي استحبابي، وليس إلزاميّاً لكي يكون كاشفاً أو إرشاداً للنجاسة.
وقد يجاب عنه بأنّ ظاهر الحديث هو النجاسة، فلو خرج من الحديث الفأرة؛ لأدلّةٍ أخرى، فلا يمنع ذلك من بقاء الكلب، وبخاصّة أنّ النصوص الأخرى تعضد نجاسته. لكنّ الإنصاف أنّ الاستدلال بخبر علي بن جعفر بطريق أبي قتادة عبر عمليّة التجزئة هذه أمرٌ غير عرفي، فلنقل بأنّ هذا الخبر يسقط عن اعتبار الدلالة ويبقى الباقي على حاله، علماً أنّ هذه الرواية نقلها الكليني والشيخ من دون ذكر مماثلة الكلب للفأرة.
ومنها: إنّ بعض النصوص علّل حكم النجاسة بأمر النبيّ بقتل الكلاب، وهذا ما يفهم منه أنّ المراد بهذه الكلاب هو الكلاب المسعورة المفترسة دون المستأنَسة التي يُعلم أنّ النبيّ لم يأمر بقتلها، مما يدلّ على التفصيل أو يفيد أنّ الموقف يراد منه بيان القذارة من حيث إنّ تلك الكلاب المفترسة أقذر في العادة من الكلاب المستأنَسة.
وهذا الكلام لا بأس به، إلا أنّ رواية تعليل غسل ما مسّه الكلب بأمر النبيّ بقتله ـ وهي خبر الفضل أبي العباس ـ في نفسها غير مفهومة الربط بين العلّة والمعلول حتى نستند إلى التعليل في فهم شيء هنا، فإنّنا لا نفهم وجه علاقة بين الأمر بالقتل وبين الحكم بالنجاسة، فهل أمر النبيّ بإعدام النجاسات؟! وهل أمر بإعدام القذارات من الوجود؟! ولماذا لم يأمر بقتل الخنازير؟! ولماذا لم يأمر بقتل الكفار مطلقاً بناء على القول بنجاسة مطلق الكافر؟! ولماذا لم يأمر بقتل الحيوانات محرّمة الأكل إذا كان بولها وغائطها نجسين؟!.. وعلى المقلب الآخر هل كلّ ما أُمر بقتله كان معناه أنّه نجس؟! إنّ أصل الربط بين العلّة والمعلول في هذا الحديث غير مفهوم، فعلينا إمّا أن نتوقّف في أمر هذا الحديث أو نوكل علم هذا الربط إلى أهله، ومن ثمّ لا نستطيع استكشاف فكرة القذارة العرفية ونحوها من هذا التعليل.
أمّا القول بطهارة الكلب، ولو في الجملة، فقد يستدلّ له بأمور:
منها: عدم ثبوت أدلّة النجاسة بناء على المناقشات المتقدّمة التي طرحوها. وسيأتي التعليق قريباً على ذلك، فانتظر.
ومنها: قصّة كلب أصحاب الكهف، المفيدة لنوعٍ من تكريم الكلب، وهو منافٍ للقول بنجاسته، وإذا كان طاهراً في الشرائع السابقة فنستصحب طهارته.
ويجاب بأنّ قصة أصحاب الكهف ليس فيها أيّ إشارة لتكريم الكلب، كلّ ما في الأمر أنّها صوّرت مشهدهم مع كلبهم الذي كان معهم، ومن الواضح أنّ كلب الصيد والحراسة وأمثال ذلك هو الذي يكون مع الناس عند الخروج، وليس كلباً آخر من الكلاب المتوحّشة أو البريّة، وهذه الصورة المشهديّة التي تقضي بوجود كلبهم معهم للحراسة وغيرها موجودة حتى في الإسلام وحتى عند القائلين بنجاسة الكلب، فإنّ اقتناء الكلب الذي من هذا النوع، بل وبيعه والمتاجرة به والانتفاع به مما لا إشكال فيه، فما وجه العلاقة بين تلك القصّة وموضوع التكريم؟! بل إنّ قصّة أصحاب الكهف تفيد كون الكلب قد وقف بالباب، وهذا يعني أنّه لم يكن معهم في الداخل، الأمر الذي يقرب كونه كلب حراسة، بل بعض المفسّرين ذكر أنّه لم يكن معهم في الداخل انسجاماً مع النصوص التي ترى أنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، فيكون توصيف الكلب على أنّه "بالوصيد" إشارة تجريحيّة إذا قبلنا بهذا التفسير، وعلى الأقلّ ليست إشارة مدح أو تكريم، علماً أنّ القرآن الكريم ضرب المثل بالكلب على نحو القدح في قوله: «مثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث»، وإن لم يكن القدح في الكلب نفسه هنا كما هو واضح.
ومنها: إنّ نجاسة الكلب توجب حرجاً شديداً وبخاصّة الكلاب المستأنَسة، ولا سيّما اليوم في كثير من بلدان العالم كالبلاد الغربيّة، وبمقتضى قاعدة اليسر والسماحة في الشريعة الإسلاميّة يحكم برفع القول بالنجاسة للحرج وأمثاله.
ويناقش بأنّ الحرج يقدّر بقدره، وقاعدة الطهارة والاستصحاب وغير ذلك من القواعد الجارية في موارد الشكّ تساعد على التسهيل. والبلدان الغربيّة ككثير غيرها ـ مثل الاستوائيّة ـ يتواصل فيها هطول المطر في مختلف المواسم، فيحكم بطهارة الأرض، هذا فضلاً عن إشراق الشمس عند من يرى مطهّرية الشمس، فالقول بنجاسة الكلب لا توجب حرجاً عامّاً يوجب إسقاط القول بالنجاسة مطلقاً.
ومنها: إنّ الكلب من جنس الثعالب والسباع، فكما أنّها طاهرة فبطريق أولى لا بدّ أن يُحكم بطهارته؛ إذ الكلب قابل للتربية والتنظيف، وفيه منافع، فالقول بطهارتها يلازمه بالأولويّة القول بطهارته.
ويمكن أن يناقش بأنّ مفترض البحث هنا هو نظريّة النجاسة الاعتباريّة التعبديّة الشرعيّة، وأيّ مانع أن يحكم المولى بنجاسة صنف من الحيوان دون سائر الأصناف المشتركة معه في النوع أو الجنس، كما أنّ خبر الفضل أبي العباس البقباق وخبر معاوية بن شريح صريحان في التمييز بين السباع والكلب وفي بيان أنّ الكلب نجس رجس دونها، فدعوى الأولويّة هنا مع وجود مثل هذين النصّين غير واضحة.
ومنها: ما يمكن أن يكون هو مستند الشيخ الصدوق، وهو الاعتماد على النصّ القرآني الدالّ على حليّة الأكل مما أمسك كلب الصيد من الحيوان المصطاد، بدعوى أنّ ذلك مطلق يشمل غسل موضع الاتصال بين فم الكلب والحيوان المصطاد وعدمه، فيدلّ على طهارة كلب الصيد على الأقلّ. وقد كان هذا أحد أدلّة المالكية أيضاً على القول بطهارة الكلب مطلقاً.
ويناقش بأنّ الآية الكريمة ليست في مقام البيان من حيث هذه التفاصيل، وكم من موضع في القرآن والسنّة يشير لخاصية معيّنة من جهة ويترك الإشارة إلى جهات أخرى ليس هو بصدد الحديث عنها، فالآية بصدد الحديث عن باب الصيد وما يصطاد به، أمّا التفاصيل اللاحقة فليست ناظرة إليها، تماماً كما لا يمكن أن يستدلّ بهذه الآية على حليّة جميع الحيوانات بحجّة أنّه رخّص في الأكل مما اصطاد الكلب دون بيان نوع الحيوان! بل يمكننا أن نضيف بأنّ أكل الناس من الحيوان المصطاد دون غسله وما شابه ذلك بعيدٌ أو ليس بكثير، فلعلّ السكوت لمكان أنّهم لا يأكلونه إلا بعد التطهير، وبخاصّة على القول بمطهّرية النار. بل هذا الاستدلال كله مبنيٌّ على حرمة أكل المتنجّس، وقد قلنا وسيأتي عدم وجود دليل عليه.
ومنها: إنّه إذا أثبتنا طهارة الخنزير، ثبتت طهارة الكلب؛ للتلازم بينهما في الفقه، وارتكاز الفقهاء قائم على الملازمة بينهما في الحكم.
ويناقش بأنّه لم يثبت تلازم من هذا القبيل في النصوص بل ولا عرفاً ولا عقلائيّاً. وفرض التلازم في ذهن الفقهاء ـ لو تمّ ـ ناتج عن تشابههما في الأحكام مسبقاً عندهم، بل مجرّد أنّ الفقهاء تحدثوا عنهما معاً في مواضع عدّة لا يثبت فكرة الملازمة عندهم، والتي هي غير مجرّد الانضمام لبعضهما بعضاً في الأحكام وتشابههما. أمّا إذا أريد من هذه الدعوى القول بأنّ طريقة الاستدلال على نجاسة الكلب تشابه طريقة الاستدلال على نجاسة الخنزير، لتشابه طرائق تعبير الروايات وملابساتها، فإذا ناقشناها في الخنزير تمّت كذلك في الكلب، فهذا عودٌ إلى مناقشة الأدلّة نفسها، وليس شيئاً جديداً يُضاف هنا بوصفه دليلاً قائماً بنفسه على الطهارة.
ومنها: ما يمكن أن يكون مستند القائلين بالتفصيل بين ظاهر الكلب وباطنه، وهو أنّ جميع نصوص نجاسة الكلب غاية ما تدلّ عليه هو نجاسة ظاهره أو شعره ولعابه، أمّا نجاسة باطنه فليس في أيّ من هذه الروايات إشارة إليها، والتفصيل معقولٌ؛ وذلك أنّه من المحتمل أن يكون الكلب قذراً في ظاهره لا في باطنه، فلو استخرجت قطعة لحم منه فلا دليل على شمول النصوص لذلك، بل الأقرب أنّها منصرفة عن مثل هذه الحال، فالأقوى القول بنجاسة ظاهر الكلب وما كان مثل لعابه لا غير.
لكن الإنصاف أنّ هذا الفهم رغم احتماله، قد لا يُفهم من تعابير النجس وأنّه أنجس وغير ذلك.
ومنها: ما ذكره السيد المرتضى من أنّ الشعر طاهر؛ لأنّه لا تحلّه الحياة.
ولكن يجاب عنه بأنّ دليل النجاسة لو تمّ لا يفرق فيه بين ما تحلّه الحياة وغيره، فهذا التمييز ورد في باب الميتة وله مبرّره هناك دون مثل الكلب والخنزير، فيكون الإطلاق والعموم محكّمين.
ولعلّ الأرجح بالنظر هو القول: إنّ اختلاط الناس بالكلاب أمرٌ ابتلائي واسع عبر العصور والأزمنة وبخاصّة في القرى والأرياف والمجتمعات الزراعيّة، وعندما نراجع النصوص الواردة هنا نجد أنّها قليلة جداً بمعنى أنّ جميع الروايات تقارب الاثنتي عشرة رواية، ثلاثة منها عن الفضل أبي العباس البقباق، وبملاحظة الأسانيد يرجّح أنّها رواية واحدة تمّ تقطيعها، كما أنّ مرسل حريز عمّن أخبره لا يبعد أن يكون هو بنفسه خبر البقباق، فقارن تجد ذلك، وثلاثة أخرى منها راويها محمّد بن مسلم، مع وحدة الإسناد مما يرجّح أنّها رواية واحدة أيضاً تمّ تقطيعها، فلاحظ المصادر والأسانيد، فنحن حتى الآن أمام سبع روايات ترجع لروايتين في احتمالٍ قوي جداً، ولا يحرز كونهما أكثر من ذلك، كما أنّ مثل خبر أبي بصير دالّ على النهي عن شرب سؤر الكلب إلا إذا كان حوضاً كبيراً، ومن غير المعلوم أنّ الأساس في ذلك هو النجاسة، فلعلّ الأصل فيه هو التحرّز عن سؤره المضرّ الناقل للعدوى والمايكروبات، فلا يمكن الجزم بدلالته على النجاسة لمجرّد النهي عن الشرب من السؤر، وقد رأينا النهي عن الشرب من السؤر في موارد لا علاقة لها بالنجاسات، فراجع باب الأسآر. وكذلك الحال في الروايات الشيعية والسنيّة الدالّة على تطهير الأواني من لعابه أو ولوغه، فإنّه لا يعلم كونه لمكان النجاسة بالمفهوم الشرعي الذي يوجب التطهير مطلقاً من لعابه حتى لو مسّ الثوب وليس الآنية، إذ قد يكون احترازاً صحّياً عن تناول ما في الأواني من دون التحرّز عن لعاب الكلب، فتأمّل جيداً (وقد رأيتُ ـ بعد طرحي لهذا ـ أنّ ابن رشد الحفيد طرح احتمال أنّ علّة غسل الأواني من ولوغ الكلب طبيّةً، وليست لمفهوم النجاسة). ومثل هذه الروايات خبر محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عن الكلب السلوقي؟ فقال: «إذا مسسته فاغسل يدك»، فإنّ خصوصيّة اليد هنا يحتمل جداً رجوعها إلى عنصر النظافة الراجعة للجانب الصحّي والطبيّ، وبهذا يفرّق بين مثل هذه الرواية والأخبار التي تتكلّم عن مسّ الثوب مثلاً، ومعه فالفقهاء افترضوا أن هذه النصوص مرتبطة بالنجاسة، في حين لا دليل واضحاً على ارتباطها بها في مثل اليد والأواني وغيرها مما هو في معرض الوصول إلى الفم، ودعوى الارتباط تحتاج لدليل. وأمّا سائر النصوص فضعيفة الإسناد، مثل خبر الأربعمائة الذي رواه الصدوق، وخبر أبي سهل القرشي الضعيف بسهل بن زياد وبأبي سهل القرشي نفسه أيضاً. والحاصل أنّنا أمام روايتين صحيحتين، مع حوالي ثلاث روايات ضعيفة، وغيرها لا دلالة فيه، والكلّ معارَض بخبر ابن مسكان ـ احتمالاً ـ ولو لم يصحّ سنداً. وما يعزّز هذا كلّه أنّ أهل السنّة ليس لديهم رواية في نجاسة الكلب عن النبيّ إلا رواية الأمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات والتي نقلها مسلم وغيره، وفي المقابل ورد في صحيح البخاري عن ابن عمر أنّه قال: «كانت الكلاب تبول وتُقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله فلم يكونوا يرشّون شيئاً من ذلك». ولهذا حاول بعض فقهاء أهل السنّة تفسير هذا الحديث بأنّه كان في بدو الهجرة وليس في آخرها، وبعضهم أوّله بأنّه يطهر بالجفاف وشروق الشمس، وحمله بعضٌ على تبوّلها خارج المسجد وعدم إحراز نزول رطوبة منها أو أثر باق من البول على أعضائها في المسجد. لهذا يعدّ من الغريب أن لا ينقل فقهاء أهل السنّة ومحدّثوهم أحاديث في نجاسة الكلب رغم ذهاب جمهورهم إلى القول بنجاسته، بل لا نجد في الرواية الإماميّة نسبة النجاسة إلى النبيّ في أيّ حديث، مع أنّه كان من المناسب جداً في مقابل قول المالكيّة الذين كانوا في المدينة في عصر الإمام الصادق ومن بعده أن ينقل الإمامُ روايةً نبويّة.
والذي يترجّح بالنظر هو لزوم تطهير الأواني من ولوغ الكلب، حتى لو لم نقل بأنّ الآنية نجسة بالمفهوم المطروح هنا، وأمّا نجاسة الكلب فمبنيّةٌ عندي على الاحتياط الوجوبي، بلا فرق بين الكلاب المستأنسة وغيرها، وبلا فرق بين الظاهر والباطن، وبلا فرق بين الشعر وغيره، وبلا فرق بين كلب الصيد وغيره، والعلم عند الله.
هذا كلّه في الطهارة والنجاسة، أمّا الاقتناء والتربية والانتفاع والبيع والشراء فسوف نتكلّم عن ذلك قريباً، وكذلك عند التعليق على مباحث المكاسب المحرّمة من الجزء الثاني من المنهاج، إن شاء الله.
([8]) على الأقوى في غير شعره، أمّا نجاسة شعره فمبنيّة على الاحتياط الوجوبي.