hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

ظاهرة الغلوّ / مطالعة تاريخية أوليّة في القرون الأربعة الهجريّة الأولى

تاريخ الاعداد: 4/18/2024 تاريخ النشر: 4/19/2024
20840
التحميل

حيدر حبّ الله([1])

تحرير وتقرير بقلم: السيّد أيمن عبد الزهرة الموسوي

 

 

تمهيد

سيتركز كلامنا عن الغلو في القرون الأربعة الهجريّة الأولى، وسنحاول قدر الإمكان أن نقدّم إطاراً عاماً أو صورة تاريخيّة عامة يمكنها أن تساعدنا في أخذ فكرة عن حركات الغلوّ التي ظهرت في القرون الهجريّة الأولى.

 وسوف أقسّم الموضوع إلى ثلاثة فصول أساسيّة، ثم خاتمة:

الفصل الأوّل: يشتمل على ذكر مقدّمات خمس، نذكر فيها بعض المداخل الأساسيّة.

الفصل الثاني: يركّز على حركات الغلو في القرنين الأوّل والثاني الهجريّين.

الفصل الثالث: يختصّ بالكلام عن حركات الغلوّ في القرنين الثالث والرابع الهجريّين.

الخاتمة: وتقع في تنويع الغلاة وتحليل مفهوم الغلوّ عند علماء الإماميّة في القرون الأولى.


 

 

 

الفصل الأوّل

مقدّماتٌ خمس

 

سوف أتعرّض في هذا الفصل التمهيدي لمجموعة مقدّمات عامّة، تعطينا فكرة حول الغلوّ ومصادره ومجالات الحديث عنه، وسوف أرتّبه على الشكل الآتي:

1 ـ الغلوّ في اللغة

تعني كلمة "الغلوّ" تجاوز الحد، حيث يقال: غلا الماء، أي تجاوز الحدّ الطبيعي وبدأ بالانسكاب، ويقال: غلاء الأسعار، بمعنى أنّها تجاوزت حدّها الطبيعي، ويقال: غلوان الشباب، أي الثوران والعنفوان اللذان يكونان عند الشباب، فكأنّ الطاقة الموجودة عند الشاب تطغى وتخرج عن حدّها الطبيعي.

وقد استخدمت كلمة "الغلو" في القرآن الكريم بمعناها اللغوي، في قوله تعالى: ﴿یَـٰأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لَا تَغۡلُوا۟ فِی دِینِكُمۡ وَلَا تَقُولُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ..﴾ (النساء: 171)، أي لا تزيدوا في الدّين ولا تتجاوزوا الحدّ الذي وضع لكم في الدّين، فتقولوا على الله شيئاً غير الحقّ. ثم بيّن ما هو هذا الغلوّ، وما هو هذا القول على الله غير الحقّ من خلال بيان نقيضه عندما قال: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمَسِیحُ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ..﴾ أي أنّه ليس شيئاً أكثر من كونه عبداً ورسولاً.

أمّا المعنى الاصطلاحي لكلمة الغلو، فقبل كلّ شيء يجب أن نعرف أنّ كلمة "الغلو" من الكلمات المبهمة جداً في التاريخ، فالغلوّ ليس طائفة أو مذهباً محدّد المعالم بالضرورة، وإنّما هو كلمة تحتوي قدراً من النسبيّة، ومن ثمّ لا أستطيع أن أصف أحداً بالغلوّ كما أصف أحداً بأنّه إمامي إثنا عشري مثلاً ـ رغم الاختلافات والانقسامات داخل المذهب الإمامي ـ فالحديث عن الغلوّ والغلاة يحوطه قدرٌ من الإبهام والغموض خاصّة في القرون الأولى الهجريّة التي لم ترفدنا إلا بمعلومات شحيحة جداً، كما سنرى قريباً إن شاء الله.

إذن، نحن أمام حركات اتخذت مواقف تجاوزت الحدّ في التعاطي مع الرسول ومع أهل البيت بشكل مركّز، وتفاوتت فيما بينها تفاوتاً كبيراً على المستوى النظري أو السلوكي. وكان لدى الغلاة قراءات كلاميّة خاصة ـ وإن كانت مختلفة جزئيّاً بينهم ـ كما كانت لديهم قراءات فقهية شرعيّة سلوكية أخلاقية، مختلفة فيما بينهم؛ ولذلك نفضّل أن نستخدم هنا كلمة "الغلو" بالمعنى الإجمالي العام دون أن ندخل في عمليّة تحليل المصطلح، وإن كنّا سوف نشير في آخر البحث إلى أمرٍ له صلة، بعد أن نكون قد حصلنا على تصوّرات تاريخيّة معقولة.

وعليه، يحتوي مصطلح "الغلوّ" قدراً من الإبهام والغموض وبخاصّة عند المتأخّرين الذين انقسموا فيما بينهم انقسامات عجيبة في تحديد المعنى الاصطلاحي للغلو حتّى بلغت ما يقارب أو يزيد عن تسعة آراء تقريباً، وبعضهم اعتبر كلمة "الغلو" كلمة سياسية وليست كلمة دينيّة، أي أنّها لا تعبّر عن انتماء ديني معيّن، وإنّما تعبر عن نمط في العمل السياسي.

2 ـ المصادر القديمة لدراسة الغلوّ

قبل أن نذكر المصادر القديمة لدراسة الغلوّ أودّ أن أشير إلى نقطة مهمّة، وهي أنّ أكثر المعلومات التي نملكها عن الغُلاة في القرون الهجريّة الأولى ـ وبخاصّة في القرن الأوّل والثاني الهجريّين ـ ليست منهم، وإنّما نعرفها من خلال خصومهم، أي من خلال أهل السنّة والماتريدية والأشاعرة والمعتزلة والشيعة وأمثالهم، وهؤلاء في الحقيقة هم خصوم الغلاة على اختلاف المستويات بينهم. وحتى نكون موضوعيّين ودقيقين يجب أن نقرّ بأنّ مصادر المعلومات الأولى المتوفّرة لدينا حول هذه الحركات قد أتتنا من خصومهم، وهذا لا يعني أنّ هذه المعلومات التي قدّمها لنا الخصوم لا قيمة لها، بل يعني أنّه يجب أن نأخذ بعين الاعتبار احتمال وجود خطأ في التفسير أحياناً أو خطأ في فهم مراد أصحاب هذه الحركات ـ أو بعضهم ـ وكذلك احتمال المبالغة في تصوير آرائهم ومعتقداتهم، ولا سيما في ظلّ الخصام الطائفي حيث تبرز التبريرات الفقهيّة بين الطوائف الإسلاميّة لمحاولة الافتراء على المذاهب الأخرى بواسطة تشويه صورتها.

وعليه، يمكن القول بأنّه ربما حصل بعض الشيء من ذلك مع بعض هذه الحركات المغالية، فنحن لا نستطيع التأكّد أنّه قد حصل شيء من ذلك، كما لا نستطيع نفي أنّه حصوله، لكن من خلال تجميع المعطيات من الكتب التاريخيّة وكتب الحديث وكتب الملل والنحل وأمثالها، نستطيع أن نصل إلى إطار محدّد موثوق به يعطينا معلومات موثوقة أو شبه موثوقة حول هذه الحركات التي ظهرت في القرون الهجريّة الأولى.

سأذكر هنا أهم عشرة مصادر أساسية لدراسة الغلوّ، ونتوقّف مع بعضها قليلاً؛ لأهميّتها:

2 ـ 1 ـ فرق الشيعة، لأبي محمد الحسن بن موسى النوبختي (300 أو 310هـ)

لعلّ هذا الكتاب هو أهمّ مصدر حول الغلاة، ومنه أخذت الكثير من المصادر معلوماتها عن أهم الفرق المغالية في التاريخ الأوّل، وهو من تأليف المتكلّم الإماميّ أبي محمد الحسن بن موسى النوبختي (300 أو 310هـ). وهذا الكتاب هو أقدم ـ حسب ما هو متوفّر لدينا ـ أو من أوائل المصادر التي تكلّمت عن فرق الغلاة في القرون الثلاثة الأولى الهجريّة، وهو من أقدم المصادر الفرقيّة الموجودة بأيدينا أيضاً. الشيء اللافت في هذا الكتاب أنّه يرصد الحركات والفرق الشيعية ـ ومن ضمنها حركات الغلو ـ بمرصد تاريخي وفق ترتيبها الزمني، من الفرقة الأقدم إلى الفرقة الأحدث، وترتيب الفرق بهذه الطريقة سيساعدنا كثيراً على فهم عمليّة التأثير والتأثر المتبادل بين الفرق، فنعرف أيّ فرقة تأثرت بالأخرى أو أيّ فرقة تُعتبر نُسخة معدّلة عن فرقة أخرى وهكذا. وعلى الرغم من أنّ اسم الكتاب هو "فرق الشيعة" إلا أنّه لا يقتصر على ذكر الفرق الشيعيّة، بل هو يذكر بمناسبات متعدّدة فرقاً إسلاميّة غير شيعيّة.

ونذكر هنا ـ على سبيل المثال ـ بعض الغلاة الذين أوردهم النوبختي في كتابه، وهم:

1 ـ حمزة بن عمارة البربري.

2 ـ صائد النهدي.

3 ـ بيان بن سمعان النهدي، وهو شخصيّة مهمة جداً سنتكلّم عنها لاحقاً.

4 ـ عبد الله بن الحارث، صاحب الفرقة الحارثيّة.

5 ـ الخُرّمدينيّة، وسوف نتكلم عنها لاحقاً، فهي فرقة سياسيّة عسكريّة كان لها نفوذ سياسيّ. وهذا يدفعنا إلى التنبيه على عدم صحّة الفكرة القائلة بأنّ الغلاة هم فقط حركات دينيّة دعويّة، بل بعضهم وصل إلى السلطة وأصبحت لهم دولٌ، ما ترك تأثيراً كبيراً على انتشار أفكارهم في المجتمعات الإسلاميّة لاحقاً.

6 ـ أبو منصور العجلي، وهو من الغلاة المشهورين، وصاحب الفرقة المنصوريّة.

7 ـ المغيرة بن سعيد، صاحب الفرقة المغيريّة.

8 ـ أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي، صاحب الفرقة الخطابيّة.

9 ـ أبو هاشم عبدالله بن محمّد بن الحنفية، صاحب الفرقة الهاشميّة.

10 ـ محمّد بن بشير الكوفي، صاحب فرقة البشيريّة.

11 ـ القرامطة.

12 ـ المفوّضة.

على الرغم من أنّ النوبختي يذكر كثيراً من فرق الغلاة، إلا أنّه يفرد عنواناً خاصّاً للمفوّضة، وهذا يثير تساؤلاً عن طبيعة التداخل والتفاصل ما بين التفويض والغلوّ، فهل كان مفهوم الغلوّ في وعيهم ـ ونحن نتكلّم عن شخص عاش في القرن الثالث الهجريّ ـ شيئاً منفصلاً عن مفهوم التفويض، والتفويض مفهوم آخر غير سائر مدارس الغلاة أو لا؟ مع ملاحظة أنّه كان معتقداً بأنّ المفوضة يندرجون تحت عنوان الغلوّ، لكنّه يفصل بينهم وبين أهمّ الفرق المغاليّة في التاريخ.

إذن، يعدّ كتاب فرق الشيعة للنوبختي أقدم كتاب ومن أهم الكتب التي نقل عنها الآخرون في موضوع الفرق الإسلاميّة.

2 ـ 2 ـ المقالات والفرق، لسعد بن عبد الله الأشعري القمي (301هـ)

يعدّ سعد بن عبد الله الأشعري القمي من كبار محدّثي الشيعة، وكان معاصراً للحسن بن موسى النوبختي، ومن مشايخ محمد بن جعفر بن قولويه ـ والد صاحب كتاب كامل الزيارات ـ أي أنّ صاحب كامل الزيارات يروي عن سعد بن عبد الله الأشعري القمي بواسطة واحدة، وهذه الواسطة هي والده([2])، ونحن نعرف أنّ سعد بن عبد الله الأشعري وقع في كثير من الأسانيد الشيعيّة الإمامية، ووقع في كثير من الطرق إلى الكتب الحديثيّة عند قدماء المحدّثين الشيعة. وشخصية سعد بن عبد الله الأشعري لا نقاش في أهميّتها التاريخية ومكانتها العلميّة، ولا نقاش أيضاً في وثاقتها عند علماء الشيعة.

تضمّن كتاب المقالات والفرق لسعد بن عبد الله الأشعري حديثاً عن الغلاة والفرق المغاليّة، لكنّ ما يلفت النظر في هذا الكتاب ـ وهو الذي أثار حفيظة كثير من الباحثين في العصر الحديث ـ أنّك عندما تضع كتاب فرق الشيعة للنوبختي وتضع بجانبه كتاب المقالات والفرق للأشعري ستجد تشابهاً عظيماً وهنا نرصد ثلاث محاولات لتفسير هذا التشابه:

المحاولة الأولى: وهي التي تبنّاها بعض الباحثين، وترى أنّ مؤلّف الكتاب شخصٌ واحد.

المحاولة الثانية: وتبنّاها باحثون آخرون، فقالوا بأنّ الكتابين لمؤلّفَين اثنين، وقد أخذا من مؤلّف واحد قبلهما، ولا نعرف من هو.

المحاولة الثالثة: ما قاله بعضٌ من أنّ مؤلف هذا الكتاب هو سعد بن عبد الله الأشعري، ولا يوجد للنوبختي كتاب في فرق الشيعة أصلاً.

إنّ التضاد والتضارب في نسبة الكتاب قد وقع نتيجة للتشابه الكبير بين كتاب فرق الشيعة وكتاب المقالات والفرق. ونحن هنا لسنا بصدد التحقيق في نسبة الكتاب إلى مؤلّفه، فمن الممكن أن يكون الأشعري أخذ من النوبختي، ومن الممكن أن يكون النوبختي هو من أخذ من الأشعري، ومن الممكن أيضاً أن يكون كلاهما أخذا من شخص قبلهما دون أن يشير أحدهما إلى ذلك، وهذه كانت عادة منتشرة إلى زمن قريب بين جميع علماء الإسلام، بحيث إنّهم قد ينقلون من بعضهم بعضاً دون أن يشيروا إلى المصادر، ودون أن يوثقوا المعلومات التي أخذوها، باستثناء المحدّثين الذين كانوا يهتمّون بالأسانيد ومصدر المعلومات إلى حدّ غير قليل.

وبالمحصّلة لا نجد في كتاب المقالات والفرق لسعد بن عبد الله الأشعري شيئاً إضافيّاً غير ما وجدناه في كتاب فرق الشيعة للنوبختي.

2 ـ 3 ـ مقالات الإسلاميّين واختلاف المصلّين، لأبي الحسن الأشعري (324هـ)

من خلال الكتابين السابقين لاحظنا كيف أنّ بدايات الكلام عن الغلاة كانت في الوسط الشيعي مع النوبختي والأشعري، ومن خلال كتاب مقالات الإسلاميّين سينتقل الكلام عن الغلاة إلى الوسط السنّي، أي أنّنا سنرصد الحديث عن الغلاة من منظار سنّي هذه المرّة.

كان أبو الحسن الأشعري معاصراً للنوبختي والأشعري القمي، وقد توفّي بعد عقد أو عقدين من وفاتهما، وهما يصنّفان في رتبة مشايخه، وإن لم يكونا من مشايخه بالفعل.

وهنالك نقطة أساسيّة يجب التوقّف عندها في هذا الكتاب؛ لأنّها توضح لنا كيفيّة تعامل العلماء والمؤرّخين وعلماء الفرق عبر التاريخ مع الغلاة وحركات الغلوّ. وهذه النقطة تتعلّق بتصنيف أبي الحسن الأشعري للغلاة ضمن فرق الشيعة، هذا التصنيف يقودنا إلى وجود منهجين في كيفيّة التعاطي مع موضوع الغلاة:

المنهج الأول: المنهج العقائدي

يرتكز هذا المنهج على معياريّة المقولات العقائديّة في تصنيف الفرق الإسلامية، وهذا المنهج اعتمده بعض علماء الإمامية المعاصرين مثل الشيخ جعفر السبحاني، حيث وجّه نقداً للتصنيف الذي وضعه أبو الحسن الأشعري ـ والذي سار عليه غير واحد من المؤرّخين والباحثين حتى يومنا هذا ـ لفرق الغلاة ووضْعهم ضمن طوائف الشيعة. وكان منطلق السبحاني في نقده للأشعري يقوم على التفكيك والتمييز بين عقائد الغلاة وعقائد الشيعة، من حيث إن الغلاة كفّار، فكيف تصنّفهم ـ أيّها الأشعري ـ ضمن طوائف الشيعة، والحال أنّ الشيعة يُحسبون من المسلمين؟! ثمّة تناقض داخلي في تقسيم أبي الحسن الأشعري، فعقائد الغلاة ليست عقائد إسلاميّة، وليس من الصحيح وضعهم ضمن الفرق الإسلاميّة، فضلاً عن وضعهم ضمن الفرق الشيعيّة. وبناءً على هذا المعيار العقائدي في قراءة الموضوع تصبح الخطوة التي قام بها أبو الحسن الأشعري وتأثر بها كثيرٌ ممن جاء بعده خاطئةً وغير منهجيّة.

المنهج الثاني: المنهج التاريخي ـ الاجتماعي

 يرى أصحاب هذا المنهج ـ وهم المنتصرون لرأي أبي الحسن الأشعري ـ أنّ عالِم الملل والنحل لا ينبغي له أن يجعل من العقائد التي يحملها الغلاة ـ من حيث كونها إسلاميّة أو غير إسلاميّة ـ هي المعيار الحاكم في تصنيفهم، فمؤرّخ الملل والنحل لا ينظر إلى نوعيّة الاعتقاد وهو يرصد تصنيف الفرق، وإنّما يراقب منهجاً تاريخيّاً اجتماعيّاً ينطلق فيه من البيئة التي ظهرت فيها هذه الفرق، وبمراجعة سريعة لفرق الغلاة نجد أنّ ثمانين في المائة منها ولدت في بيئة شيعيّة وبالتحديد بيئة كوفيّة.

إذن، من منظار تاريخيّ اجتماعيّ سيسيولوجيّ يكون الحقّ مع أبي الحسن الأشعري؛ لأنّ هؤلاء فرق ولّدتها البيئة الشيعيّة، سواء وافقت عليها أم لم توافق عليها. لكن من منظار أيديولوجيّ كلاميّ عقائديّ فإنّ ما فعله أبو الحسن الأشعري كان خطأً فادحاً تسبّب في أن يقوم بنفس العمليّة أشخاص كثر مما أوجب خلطاً بين مفهوم الغلوّ ومفهوم التشيّع، على الأقلّ عند بعض الباحثين من غير الشيعة.

وعلى أيّة حال، فقد تحدّث الأشعري في كتابه عن كثير من الفرق التي ذكرها النوبختي، ومن الفرق التي ذكرها:

1 ـ الحربيّة، نسبةً إلى عبد الله بن عمرو بن حرب.

2 ـ الشريعيّة، نسبةً إلى محمد بن الحسن الشريعي.

3 ـ السبئيّة، نسبةً إلى عبد الله بن سبأ.

4 ـ العميريّة، نسبة إلى عمير بن بيان العجلي.

5 ـ المفضليّة، نسبة إلى المفضل الصيرفي، وهو غير المفضّل بن عمر.

وهكذا نرى أنّ الأشعري قد أضاف بعض الفرق زائداً على ما ذكره النوبختي، وإن كان أكثر ما ذكره النوبختي قد احتواه كتاب الأشعري أيضاً.

2 ـ 4 ـ التنبيه والردّ على أهل الأهواء والبدع، لأبي الحسن محمّد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي (377هـ)

تقتضي الموضوعيّة منّا القول أنّ كتّاب الملل والنحل على نوعين:

أ ـ الذي يكتفي بالوصف، فعالم الملل والنحل يفترض به أن يكون محايداً وهو يمارس مهنة التأريخ، أي عندما يؤرّخ للفرق والانشعابات العقائديّة بين المسلمين ـ أو بين غيرهم ـ عليه أن يكتفي بتوصيف عقائدهم، وهو بهذا يكون أقرب إلى المؤرّخ العقائدي منه إلى المتكلّم.

ب ـ الذي يتجاوز الوصف إلى المحاكمة العقائديّة، وفي هذا النوع نلاحظ الدمج الواضح بين علمَي: الكلام والملل والنحل، فبعض علماء الملل والنحل ـ ومنهم الملطي الشافعي ـ قد دمجوا كثيراً بين عرض أفكار وعقائد الفرق الأخرى وبين النقد الكلامي ـ المتشدّد أحياناً ـ لها، وهذه العملية هي ـ من وجهة نظر موضوعيّة ـ تدفعنا للتريّث فيما ينسبه أمثال هؤلاء للفرق والتيارات العقائدية الأخرى؛ لأنّ التشدّد في النقد الكلامي والاندفاع الاعتقادي الذي ينطلق منه هؤلاء للدفاع عن الدين ربما يترك تأثيراً على تقويمهم للفرق الأخرى، ومن ثم يوقعهم في أخطاء في توصيف تلك الفرق أو في بعض المعلومات عنها أو قد يتساهلون في نسبة بعض الأمور إليها على اعتبار أنّها يجب أن تكون محلاً للنقد الكلامي، وخاصّة على عقيدة من يقول بأنّ أهل البدع يجوز بهتانهم والافتراء عليهم، بل وهذا البهتان والافتراء ضرب من التقرّب إلى الله سبحانه وتعالى.

ولتعزيز هذه الفكرة نأخذ ـ على سبيل المثال ـ ما ذكره الملطيّ الشافعيّ في كتابه هذا، عن هشام بن الحكم ونسبة القول بالتشبيه إليه ـ وهي فكرة موجودة ومطروحة بين الباحثين عن هشام بن الحكم وأنّه هل يقول بالتشبيه والتجسيم أو لا ـ فإنّه لا يكتفي بوصف هشام بن الحكم بأنّه يقول بالتشبيه، بل يقوم بلعنه، وهذه الاندفاعة العقائديّة تجعلنا لا نشعر بحياديّة الباحث ونحن محتاجون هنا إلى هذه الحياديّة لكونه مؤرّخاً.

يذكر الملطيّ الشافعيّ ثمان عشرة فرقة شيعيّة، ومن بينها ستّ فرقٍ مغالية، ونلاحظ هنا كيف أنّه يسيرعلى طريقة أبي الحسن الأشعري فيجعل الفرق المغالية الست ضمن الفرق الشيعيّة، وهي:

1 ـ السبئيّة.

2 ـ القرامطة.

3 ـ أصحاب التناسخ. وتجدر هنا الإشارة إلى الترابط العجيب بين الغلاة وفكرة التناسخ، وهذا موضوع مهم جداً فالعلاقة بين الغُلاة والتناسخ أشبه بالوجهين لعملة واحدة، وهذا ما سنشتغل عليه بالتحليل لاحقاً لمعرفة لماذا اضطرّ الغلاة إلى الذهاب نحو فكرة التناسخ؟!

4 ـ الحلوليّة.

5 ـ السمعانيّة.

6 ـ الجاروديّة.

2 ـ 5 ـ الفَرق بين الفِرَق وبيان الفرقة الناجية منهم، لعبد القاهر بن طاهر البغدادي (429هـ)

أوّل شيء يمكن ملاحظته في عنوان الكتاب هو المنزع الكلامي الواضح في عبارة "بيان الفرقة الناجية"، فكأنّه يقول: إنّني بعد أن أستعرض المذاهب سأحدّد لكم ـ أيّها القرّاء ـ أيّ فرقة هي الفرقة الناجية، فهناك دمج واضح بين الشخصيّة الكلاميّة للمؤلِّف والشخصيّة الملليّة باعتباره مؤرّخاً للملل والنحل.

إنّ كتاب "الفرق بين الفرق" معدّ لنصرة أهل السنّة والجماعة، وعندما يصل إلى الرافضة يقسّمهم إلى ثلاث فرق:

الفرقة الأولى: الزيديّة.

الفرقة الثانية: الكيسانيّة.

الفرقة الثالثة: الإماميّة.

وتظهر أهميّة هذه التقسيمات في أنّها تكشف لنا كيف قرأ العقل الإسلاميّ مذاهب الغلاة، فهو يصنف الغلاة تحت فرقتَي: الكيسانيّة والإماميّة، دون أن يدرج تحت الزيديّة أيّ فرقةٍ من الفرق المغالية، فمثلاً يجعل فرقة البيانيّة السمعانيّة وفرقة الحربيّة من انشعابات الكيسانيّة، وفرقة المغيريّة للمغيرة بن سعيد من انشعابات فرقة الإماميّة. وهنا نلاحظ كيف أنّ البغدادي أبعد الغلو عن الزيديّة، ثم وضع داخل كلّ فرقة من الكيسانيّة والإماميّة فرقةً من فرق الغلاة، لكنّه في الباب الرابع من هذا الكتاب والذي عنونه بـ (في بيان الفرق التي انتسبت إلى الإسلام وليست منه) يذكر البيانيّة والحربيّة مع أنّه ذكرهما سابقاً بأنّهما من انشعابات الكيسانيّة فيذكرهما مرّة أخرى في هذا الباب على أنّها من الفرق الخارجة عن الإسلام. ويذكر أيضاً السبئية والمغيريّة والمنصوريّة والحلاجيّة ـ نسبةً إلى الحسين بن منصور الحلاج ـ ويذكر أيضاً فرقة العذاقرة ـ وقد تسمّى العذافرة ـ وهي المنسوبة إلى محمد بن علي بن أبي العزاقر الشلمغاني.

إذن، مع "الفرق بين الفرق" نجد أنفسنا أمام نمط جديد من التصنيف في الملل والنحل، فمن جهة تُذكر بعض فرق الغلاة تحت الفرق الإسلاميّة كالكيسانيّة والإماميّة، ومن جهة أخرى يفرد باب خاص للفرق خارج الإطار الإسلامي تُذكر فيه أغلب فرق الغلاة، وجملة من فرق المتصوّفة.

2 ـ 6 ـ الملل والنحل، لعبد القاهر بن محمد التميمي البغدادي (429هـ)

لا جديد في هذا الكتاب، فهو أُعدّ للانتصار لأهل السنّة والجماعة، ويذكر فيه فرق الرافضة، ومنها: البيانيّة والحربيّة والمنصوريّة والخطابيّة.

2 ـ 7 ـ الفِصَل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم الظاهري الأندلسي (456هـ)

يعدّ ابن حزم الظاهري من كبار علماء الإسلام وألمعهم في التاريخ، وهو الذي بلغ بالمذهب الظاهري أوجَهُ، لكنّ ما كان يُعاب عليه هو أنّه كان ـ سواء في الفقه أم الأصول أم الكلام ـ سليط اللسان، شديداً على خصومه وعلى من يختلف معه، عنيفاً في نقده. ويقال بأنّ أُفول نجم المذهب الظاهري في العالم الإسلامي كان بسبب اللغة التي استخدمها ابن حزم الأندلسي، حيث أدّت إلى أن يصبح هذا المذهب في الزاوية وغير مقبول في الوسط الإسلامي، وعلى الرغم من انقراض المذهب إلّا أنَّ أصول التفكير الظاهري ونظريّاته ما زالت إلى يومنا هذا تطرح في مختلف كتب المسلمين الفقهيّة والأصوليّة والكلاميّة.

كتابُ "الفصل في الملل والأهواء والنحل" كتابٌ كلامي بامتياز، وفي داخله أيضاً يمارس عمليّة شرح الملل والنحل، والملفت للنظر أنّ ابن حزم وضع فيه تقسيماً خاصّاً للغلاة ـ وإن كان يعتبرهم من الفرق الشيعيّة ـ فهو يقسّمهم إلى قسمين:

القسم الأوّل: القائلون بنبوّة أحد بعد النبيّ محمّد‘، ومنهم: السبئيّة، والخطابيّة، والحلاجيّة، والحربيّة، والشلمغانيّة.

القسم الثاني: القائلون بألوهيّة غير الله عزوجل، وفي هذا القسم نجد السبئيّة، والمحمديّة، وغيرها من الفرق.

هذا يعني أنّنا في هذا الكتاب أمام نمطين أو مسارين من الغلوّ، غلوّ بشريّ يعلو بشخص فوق النبي محمد، وغلوّ أُلوهي أي يجعل شخصاً بمثابة إله من دون الله سبحانه وتعالى.

2 ـ 8 ـ التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، أبو المظفر شاهفور([3]) بن طاهر الإسفرائيني (471هـ)

وهو كتابٌ كلاميّ وملليّ في نفس الوقت مهمّ جداً، وقد خصّص مؤلّفه باباً للحديث عن الغلاة، وهو الباب الثالث عشر من الكتاب وعنوانه (في بيان فرق أهل البدع الذين ينتسبون إلى دين الإسلام ولا يعدّون في زمرة المسلمين) وذكر منهم: السبئيّة، والبيانيّة، والمغيريّة، والمنصوريّة، والحربيّة، وغيرهم.

2 ـ 9 ـ بيان الأديان در شرح اديان ومذاهب جاهلي واسلامي، لأبي المعالي محمّد الحسيني العلوي

هذا الكتاب هو أقدم كتاب متوفّر لدينا كُتب باللغة الفارسيّة في موضوع الملل والنحل، ويبدو أنّه تمّ تأليفه عام 485 للهجرة. ويقسّم مؤلّفه مذاهب الإسلام إلى ثلاثة: سنّة، وخوارج، وشيعة. ويقسّم الشيعة إلى: زيديّة، وكيسانيّة، وغلاة، وإسماعيليّة، وإماميّة.

يصرّح المؤلف أنَّ الغلاة كفّار، لكنّه مع ذلك يضع الغلاة ضمن فرق الشيعة على الرغم من أنّ المؤلف شيعيّ، ويبدو أنّه سار على منهج أبي الحسن الأشعري في تصنيف الفرق الإسلاميّة، وهذا يعزز فكرة أنّ الأشعري اعتمد منهجاً اجتماعيّاً تاريخيّاً في تصنيف الفرق والمذاهب وليس منهجاّ اعتقادياً.

ومن جملة الفرق التي يذكرها، فرقة البزيعيّة وهم جماعة بزيع بن يونس، واليعقوبيّة وهم جماعة محمّد بن يعقوب ـ وهو غير محمّد بن يعقوب الكليني ـ والمنصوريّة، والغرابيّة، والسبئيّة إلى غيرها من الفرق.

2 ـ 10 ـ الملل والنحل، لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (548هـ)

يقسّم الشهرستاني في كتابه "الملل والنحل" الشيعةَ إلى أربع فرق، هي: الكيسانيّة، والزيديّة، والإماميّة، والغلاة. ويدرج جماعات كثيرة في الغلاة.

هذه هي أهمّ المصادر الملليّة والنحليّة الأقدم التي يعتمد عليها اللاحقون في دراسة الغلاة في القرون الخمسة الهجريّة الأولى.

3 ـ بعض المصنّفات المفقودة لأصحاب الأئمّة في ردّ الغلاة

عندما نراجع كتب الرجال والفهارس، مثل فهرست ابن النديم وفهرست النجاشي وفهرست الطوسي وما سبقها ولحقها من كتب رجال وتراجم وفهارس، نجد أنّهم يشيرون إلى مصنّفات كتبها أصحاب أئمّة أهل البيت في الردّ على الغلاة، لكن يكاد لا يوجد أيّ من هذه الكتب بين أيدينا، ولا نملك معلومات عن طبيعة هذه الكتب، فهل كانت ذات طبيعة كلاميّة عقليّة جدليّة أم كانت مجرّد جمع أحاديث أهل البيت في الردّ على الغلاة أم كانت ذات طابع فقهيّ؟ وبخاصّة أنّ الغلاة لم يكونوا مختصّين بالعقائد، بل كان لهم بعد ورؤية سلوكيّة وممارسة عمليّة للحياة.

هذه الكتب تؤكّد لنا أنّ أصحاب أهل البيت قد شاركوا في الردّ على الغلاة في الأزمنة الأولى لظهورهم ـ تقريباً ـ وإن كانت تلك الردود أغلبها جاء في بدايات القرن الثالث الهجريّ، رغم أنّ القرن الثاني الهجريّ، وخاصّة ما بين سنة 80 ـ 170، تعدّ أخصب فترة نمت فيها حركات الغلوّ في تاريخ الإسلام. لكن في تلك الفترة قلّما نجد معلومات عمّن ألف في الردّ على فرق الغلاة وربما لم يكن الشيعة لهم باع في التأليف ردّاً على الغلاة في تلك الفترة، لكن في بداية القرن الثالث الهجريّ نجد أنّ حركة التأليف قد نشطت.

ونذكر هنا بعض هذه الكتب وأسماء مؤلّفيها:

1 ـ الردّ على الغالية المحمديّة، للفضل بن شاذان النيسابوري (260هـ). وله كتاب في الردّ على القرامطة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الشيخ الكليني كان له كتاب في الرد على القرامطة لكنّه مفقود.

2 ـ الردّ على الغالية، للحسن بن علي بن فضّال الكوفي (224هـ).

3 ـ الردّ على الغالية وأبي الخطّاب، لإبراهيم بن أبي حفص، المعروف بأبي إسحاق الكاتب. وهو من أصحاب الإمام الحسن العسكري.

4 ـ الردّ على الغلاة، لأبي الحسن عليّ بن مهزيار الأهوازي. وهو من أصحاب الرضا والجواد والهادي.

5 ـ الردّ على الغلاة، لأبي جعفر محمد بن أورمة القمي. وهو من أصحاب الجواد النقي. والجدير بالذكر أنّه هو نفسه اتُّهم بالغلوّ، وهذا يكشف لنا عن نسبيّة مفهوم الغلو، فعلى الرغم من أنّه ألف كتاباً خاصّاً للردّ على الغلاة، إلّا أنّه تعرّض للتهمة نفسها التي كتب ردّاً عليها، ولعلّ غلوّه كان في بعض فترات حياته.

6 ـ الردّ على الغلاة، ليونس بن عبد الرحمن. وهو من أصحاب الرضا.

7 ـ الردّ على الغلاة، لأبي جعفر محمد بن الحسن بن فرّوخ الصفار (290هـ).

8 ـ الردّ على الغلاة، لأبي القاسم سعد بن عبد الله الأشعري القمي (301هـ).

9 ـ كتاب الردّ على أصحاب التناسخ والغلاة، لأبي محمّد الحسن بن موسى النوبختي ( 300 أو 310هـ)، مؤلّف كتاب "فرق الشيعة".

4 ـ أهمّ العلوم ذات الصلة بدراسة الغلوّ والغلاة

هذه أبرز العلوم التي لها صلة بدراسة حركات الغلوّ:

4 ـ 1 ـ علم التاريخ الإسلامي

أشرنا سابقاً إلى أنّ الغلاة ليسوا مجرّد جماعات لها أفكار عقائديّة خاصة أو لديها ممارسات طقسية معيّنة، بل قد انخرطوا في الفضاء الاجتماعي والسياسي، وشكّل بعضهم دولاً وصلت حدّ أن تكون امبراطوريّة، ومن الطبيعي أن تتعرّض كتب التاريخ الإسلامي لمثل هذه الجماعات التي لها هذا التأثير الواضح مثل القرامطة والمحمّرة والمغيرية والكيسانية وغيرهم.

نعم، ليس المرجوّ من كتب التاريخ أن تزوّدنا بمعلومات عن العقائد والأفكار التي تحملها هذه الفرق، بل المرجو منها أن تسعفنا بالمعلومات الوقائعيّة عمّا حدث وما الذي فعلوه.

4 ـ 2 ـ علم الملل والنحل

ذكرنا سابقاً المصنّفات الأساسيّة في الملل والنحل ومقدار أهميّتها في دراسة الفرق الإسلاميّة:

أ ـ لكنّ العجيب في هذه الكتب أنّها وخلال أربعة عشر قرناً قد تباينت أشدّ التباين بين عدد الفرق المغالية، ففي بعضها يكون الغلاة تسع فرقٍ فقط، وفي بعضها الآخر يرتفع العدد ليصل إلى مائة فرقة. فمن المعقول أن يكون الاختلاف بين مؤرّخي الملل والنحل في فرقةٍ أو فرقتين، بل في عشرة، لكن أن يكون الاختلاف بسبعين أو ثمانين فرقة، فهذا أمرٌ لافت للنظر، ومن ثمّ يشرع السؤالُ عن المعايير التي على أساسها تمّ اختزال فرق أو تمّ تكثير فرق، وهذا الأمر بحاجة لدراسة موسّعة لسنا بصددها الآن.

ب ـ الأمر الآخر الذي نلاحظه في كتب الملل والنحل هو عدم الدقّة في تعيين الفرق، فعلى سبيل المثال، ذكرت بعض الكتب أسماء فرق واعتبرتها من الغلاة في حين أنّنا نكاد نقطع بعدم كونها وأصحابها مما ينطبق عليهم عنوان الغلاة ولا وجود لمعلومات عن كونهم من الغلاة ، مثلاً من فرق الغلاة ذُكر: الزراريّة نسبة إلى زرارة بن أعين، والجواليقيّة نسبة إلى هشام بن سالم الجواليقي، واليونسيّة نسبة إلى يونس بن عبد الرحمن.

وربما يمكن تبرير هذا الأمر بأنّ بعض مؤلّفي الملل والنحل قد نظروا إلى أقل حدّ من الغلو وفي ضوئه أدخلو مَن أدخلوا في فرق الغلاة، وبهذا الصدد يأتي ما نقله الشيخ الصدوق عن أستاذه ابن الوليد في أنّ أدنى مراتب الغلوّ نفي السهو عن النبي، وبهذا توسّعت دائرة الفرق المغالية، ومن ثمّ أصبحت أكثر من مائة فرقة.

هذا الاضطراب في معيار الغلوّ فتح باب النقاش عن وجود بعض الفرق من عدمها مثل السبئيّة وغيرها، وهل هي فعلاً فرق لها هيكلها الخاصّ أم مجرّد جماعات صغيرة لا يصح اطلاق تسمية فرقة عليهم؟ لأنّ مجرد ذهاب شخص لقولٍ ما وتابعه عليه بضعة أفراد لا يجعل منهم فرقةً مستقلّة.

4 ـ 3 ـ علم الكلام الإسلامي

تمّ التعرض للغلاة في علم الكلام الإسلامي في مباحث النبوّات والإمامة والتناسخ والحلول وغيرها.

4 ـ 4 ـ علم الحديث والرجال

اهتمّ علم الحديث والرجال اهتماماً بالغاً بموضوع الغلوّ من خلال الاهتمام بالراوي ومذهبه من حيث الاعتبار وعدمه، وهل الغلوّ يسقط حجيّة الخبر أو لا؟ وماذا لو كان مستقيماً ثمّ صار مغالياً أو بالعكس؟ وكيف نعرف رواياته حال الاستقامة؟

يبدو أنّ في وعي علماء الرجال تنافراً بين الغلوّ والصدق، فلا نجد في موردٍ أنّهم قالوا: مغالٍ صادق، مع أنّهم يقولون: واقفي صادق أو سنّي صادق أو شيعي إمامي صادق أو زيدي صادق وهكذا.

وقد تحدّثت كتب الرجال عن أكثر من 150 رواياً متهمين بالغلوّ، وأحصى بعضهم الأحاديث في المصادر الشيعيّة فبلغت الروايات التي في أسانيدها من هو متهم بالغلوّ 3000 رواية، وفي تقديري فإنّ الرقم أكبر من ذلك.

وأهمّ الكتب الرجالية القديمة في التراث الشيعيّ التي تعرّضت للغلاة ورصدتهم بالدقة هو كتاب الفهرست للنجاشي، وكتاب معرفة الرجال للكشي، وكتاب الضعفاء لابن الغضائري. وقد خصّص الكثير من الرجاليّين بعد عصر العلامة الحلّي فصلاً لدراسة الفرق والمذاهب والتعريف بها، وتحدّثوا هناك عن الغلوّ أيضاً، ولهذا تعتبر كتب الرجال المتأخّرة من مصادر بحث الفرق والمذاهب.

4 ـ 5 ـ علم الفقه الإسلامي

تعتبر المصادر الفقهيّة مهمّة في تحديد الغلاة ومعنى الغلوّ والموقف منهم. ويدرس علم الفقه الغلوّ من منظار شرعي وما يترتب عليه من آثار شرعية من ناحية الطهارة والنجاسة وتحديد العلاقة معهم في الزيجات والمعاملات وغيرها.

5 ـ عوامل مؤثرة في نشوء الغلوّ تاريخيّاً

ما هي العوامل المؤثرة في نشوء الغلو تاريخيّاً؟ لماذا حدث الذي حدث؟ لماذا ظهرت هذه التيارات التي تعدّ بالعشرات، على أقلّ تقدير، وأفرطت في اعتقادها بأئمّةٍ أو رموز؟ ما السبب في ذلك؟ خاصّة إذا اخذنا بعين الاعتبار معطيين أساسيين هما:

أ ـ المعطى الجغرافي، حيث يمكننا القول باطمئنان بأنّ أكثر من ثمانين في المائة من حركات الغلوّ، ولا سيما حركات الغلوّ الأولى، كانت الكوفة ـ بالمفهوم الجغرافي القديم لمدينة الكوفة، وليست الكوفة بحدودها الإداريّة الحالية فقط ـ وسطها الجغرافي الذي ولدت فيه تلك الحركات، فالكوفة تاريخيّاً تصنف بأنّها مهد ظهور حركات الغلوّ، ليس مرّةً واحدة، بل مراراً وتكراراً، وبشكل مركّز في القرنين الأوّل والثاني الهجريّين.

ب ـ المعطى البيئي ـ الثقافي، حيث شهدت حركات الغلو أوج تجلّياتها في البيئة الشيعيّة، نتيجةً لموقف هذه الحركات من أهل البيت، سواء بتأليههم أم بادّعاء النبوّة لهم، وإلى جانب حركات الغلوّ في أهل البيت برزت حركات غلوّ أخرى لها علاقة بالتصوّف([4]).

وإذا كانت الكوفة هي الحاضنة الجغرافيّة لنشوء حركات الغلوّ، والتشيّع ـ نستبعد التصوّف حالياً؛ لأنّه ليس محلّ بحثنا ـ هو الحاضنة البيئيّة لها، فما هو السبب الذي جعل حركات الغلوّ الأولى المبالِغة بتأليه آل البيت تظهر في الكوفة وفي المجتمع الشيعي؟

توجد نظريّات متعدّدة، بعضها يقوم على دراسات اجتماعيّة سيسيولوجية، وبعضها يقوم على تحليل علم النفس الاجتماعي. سنذكر ـ باختصار ـ ثلاث نظريات أساسيّة طرحت بهذا الصدد:

النظرية الأولى: وهي النظريّة التي يبدو لي أنّها تحاول أن تنتمي إلى علم النفس الاجتماعي، حيث تعتقد هذه النظريّة التي يؤمن بها أمثال الدكتور علي الوردي بأنّ الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسين بن علي شعروا بحسرةٍ وألم شديدَين، وبدأ الشعور بالذنب يطغى عليهم ـ ولا سيّما بعد أن بدأ عصر العنف ضدّهم ـ لأنّهم قصّروا في نصرة الإمام الحسين، ولم يقفوا مع الإمام الحسن والإمام علي من قبل، فصار عندهم نوع من الإحساس بالذنب العميق جداً تجاه هذه الأسرة النبويّة، ونوع من الشعور بالتعويض ـ بالاصطلاح النفسي ـ وبدأ نوع من الإحساس بضرورة الوفاء لهم مجدّداً حتى بعد رحيلهم عن هذا العالم، هذا الإحساس أخذ نوعاً من المبالغة شيئاً فشيئاً. وكأنّ المبالغة هنا تهدف إلى طمأنة النفس وتكوين شعور بالرضا النفسي وتجبر بداخلهم المعصية والنقص وسوء الأدب الذي فعلوه من قبل مع هذه الأسرة المباركة. هذا الإحساس العميق بالذنب فيما فعلوه مع آل علي دفعهم إلى نوع من التعويض بأن يجبروا ما فات، فبدأوا يعظّمون من أمرهم.

وإذا أردنا تشبيه حالتهم تلك بمثال توضيحي، فكأنّنا أمام شخص كان يسيء لوالده في حياته، وفي لحظةٍ من اللحظات توفّي هذا الوالد ورحل إلى عالمٍ آخر، فيشعر هذا الشخص بعقدة الذنب نتيجة سوء تعامله مع والده، فيبدأ بتعظيم أمره حتى يجبر ما فات من عمله، فتراه يتكلّم دائماً عن حسناته ويتصدّق عنه، إلى غيرها من الأفعال التي هي ردّ فعل على الإساءة التي كانت قد حصلت من قبله، وهذا هو الذي حصل مع أهل الكوفة.

إذن، هذا التفسير يحاول أن يركّز على البعد النفسي، ويقول: بسبب إساءة أهل الكوفة العلاقة مع الإمام علي وآله يريدون الآن وبعد أن استيقظوا من سكرتهم أن يكرّموا عليّاً وآله ويفوا لهم، فبدأوا يعظّمون من أمرهم ويرفعون من شأنهم، وكأنّ في ذلك نوعاً من التعبير عن التعويض عمّا حصل من قبل.

النظريّة الثانية: ترى هذه النظرية أنّ المشكلة التي دفعت لظهور الغلاة تكمن في إشكاليّة العلاقة بين الدولة والأمّة. فعندما بدأ العصر الأموي بدأت معه سياسة سبّ الإمام علي على المنابر وسلب حريّة الانتماء له، فكانت سياسة تكميم الأفواه قد بلغت أعلى أشكالها. والمفارقة تظهر في طبيعة تعامل الكوفيّين مع الإمام علي عندما كان حاكماً عليهم، فشيعة الكوفة ـ أو بعبارة أكثر دقّة الذين يدّعون التشيّع ـ لم يكن موقفهم معه دائماً بالشكل المطلوب، وقد أفصح الإمام عليّ عن ذلك غير مرّة، على ما جاء في نهج البلاغة، فالإمام كان يتألّم من وضعهم وطريقة تعاملهم معه وعدم استجابتهم له، وكأنهم كانوا يتنمّرون على الإمام علي، ولكن عندما انتهت دولة الإمام علي ورحل عن هذه الدنيا مقتولاً جاءهم نمط سيّء جداً من الحكم، وهو الحكم الأموي، وبدأوا يرفضون أيضاً الدولة القائمة، فكأنّ هناك أزمة علاقة في المجتمع الكوفي آنذاك ما بين الأمّة من جهة والسلطة وكلّ مَن يمثلها من جهة ثانية، وبالتالي فلمّا كان عليّ في السلطة لم يكن أداؤهم معه جيّداً وعندما رحل عليّ وجاءهم الأمويّون شعروا بالقمع والاضطهاد وسلب الحريات، فدفعهم ذلك للتمسّك بالشيء الذي يعارض الدولة، فأخذوا يبالغون في كلّ شيء يكون على النقيض مما عليه الدولة الأمويّة.

وهذا هو الذي يفسّر لنا الغلوّ بعليّ، بينما لا نجد غلوّاً في النبي نفسه ـ على سبيل المثال ـ وإن كانت هنالك إشارات قليلة جداً عن وجود غلوّ في النبيّ، لكنّها لا تمثل شيئاً يذكر في جغرافيّة الشخصيّات المغالى بها. والسبب في عدم وجود غلوّ في النبي ـ وفقاً لهذه النظريّة ـ يرجع إلى أنّ الدولة لم تكن تمارس قمعاً في قضيّة النبيّ، ولم يكن هنالك سلب لحريّة الانتماء له، ولم يكن هناك سبّ للنبي كما هي الحال مع الإمام عليّ، لكن عندما كانت سياسة الدولة قمع كلّ علوي وكلّ شخص ينتمي لعليّ، صار ردّ فعل القاعدة الشعبيّة على النقيض تماماً، فأخذوا يبالغون في الانتماء لعليّ، وأدّى ذلك لظهور فكرة الغلوّ.

هذه الفكرة ـ أعني تناقض الأمّة والدولة في حياة الكوفيّين ـ يشير إليها الدكتور علي الوردي. كما يشير الدكتور حسين مدرسي الطباطبائي إلى أنّ بداية تشكّل فكرة الغلوّ عند الكيسانيّة ـ كما سنتكلّم عنهم لاحقاً إن شاء الله ـ كانت عبر فكرة المهدويّة؛ لأنّهم كانوا يريدون أن يواجهوا السلطة، فكانوا متشبّثين أكثر بفكرة وجود شخص سوف يظهر ويصفّي الحساب مع هذه السلطة الظالمة، فبالغوا في هذا الشخص اعتقاداً منهم بأنّ هذه المبالغة تعبّر عن رفضهم لهذه السلطة وعن الموقف السلبي منها.

النظرية الثالثة: وهي النظرية التي طرحها كلّ من الدكتور علي سامي النشار والدكتور أحمد أمين وغيرهما أيضاً. وتنطلق هذه النظريّة من التحليل السيسيولوجي المحض لطبيعة المجتمع الكوفي آنذاك، حيث يرى أصحاب هذه النظرية أنّنا لو حلّلنا طبيعة المجتمع الكوفي في تلك الحقبة الزمنية لوجدنا الآتي:

أوّلاً: إنّ الكوفة كانت مدينةً حديثة الظهور، فما هي إلّا عبارة عن تجمع للقوات العسكريّة للمسلمين في زمن عمر بن الخطاب، ولم تكن القبائل التي تجمّعت في هذه المدينة الجديدة تتصف بالانضباط، فلم تعتد هذه القبائل على مفهوم الدولة المركزيّة، بل لم تكن تعرف شيئاً اسمه الدولة. نعم كان لمفهوم النبوّة تأثيرٌ كبير عليها، لكن لما ذهب النبيّ ظلّت هذه القبائل محتفظة بنَفَسها القبلي، لذلك لم تعرف شيئاً اسمه "الدولة"، فقد كانت تعيش هذه القبائل بنوع من التشظّي الذاتي في هذا المجتمع نتيجة الروح القبلية التي كانت قائمة.

ثانياً: كان المجتمع الكوفي حديث الظهور؛ لذلك من الطبيعي أن تكون شبكة العلاقات فيه ليست مستحكمة ومتآلفة، وحتى تصل إلى هذه الدرجة من الاستحكام والانسجام يتطلّب الأمر وقتاً طويلاً نسبياً.

ثالثاً: تتمتّع المنطقة على المستوى الجغرافي ـ جنوب العراق ـ بتاريخ طويل مع الأديان السابقة، فهي ليست منطقة نائية لا تاريخ أديانيّ لها، بل لها تاريخ حافل وغنيّ أيضاً مع الزرادشتيّة واليهودية، كما أنّ لها تاريخها مع حضارات سابقة، ومن ثمّ هناك إرث ثقافي ـ ديني كان قد وصل إلى أهل تلك المنطقة، فتواشج وتداخل مع الوافدين من أبناء القبائل العربيّة التي أتت من الجنوب.

رابعاً: انتشار ظاهرة الموالي الذين شكّلوا نسبةً ليست كبيرة من الغلاة، لكن كانت لهم خلفيّات دينية لها نزعة تأليهيّة، مثل بعض الفُرس.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أنّ المقاربة التاريخيّة توضح لنا أنّ الغلوّ في تلك الفترة هو غلوّ عربي بنسبة تتجاوز 70%، نعم هناك أشكال من الغلوّ غير العربي نجده عند العجم ـ باختلاف قوميّاتهم ومللهم ـ لكنّ اللحظات الأولى لولادة الغلوّ ـ أعني القرن الأوّل والثاني ـ كان الطابع العام لها طابعاً عربيّاً، مع وجود بعض الموالي الذين حملوا موروثات أديانيّة سابقة، الأمر الذي قد يكون ساهم ـ وفقاً لهذه النظريّة ـ في ظهور الغلوّ في الكوفة.

إذن، وقفنا على ثلاث نظريّات:

أ ـ إحساس الكوفيّين بعقدة الذنب دفعهم إلى نوع من التعويض والوفاء، فبالغوا في محبّة ذلك الذي خذلوه من قبل.

ب ـ ما له علاقة بموضوع الاجتماع ـ السياسي، وهو تناقض الدولة والأمّة، بحسب تحليل علي الوردي، والذي تمثل بسبّ الإمام علي وسلب حريّة الانتماء له والقمع الذي تعرّضوا له، هذا كلّه دفعهم ليعارضوا السلطة بمزيدٍ من الانتماء لعليّ، فرفعوا من مستوى المبالغة، مما أوقعهم في الغلوّ.

ج ـ تفسير الغلوّ من خلال فهم طبيعة المجتمع الكوفي، فهو مجتمع حديث الظهور ويتكوّن من قبائل غير منضبطة، ويعيش في منطقة جغرافيّة ذات خلفيّة دينية متنوّعة وتغصّ بالأفكار الغريبة والعجيبة من هذا النوع، أضف إلى كلّ هذا ظاهرة الموالي التي كان لها تأثير جزئي في تبلور هذه الأفكار.. هذا الخليط برمّته شكّل بيئة حاضنة لولادة أفكار متطرّفة على شاكلة أفكار الغلاة.

إذا تأمّلنا قليلاً في النظريات الثلاث المتقدّمة، سوف نجد أنّ النظريتين الأولى والثانية تفترضان أنّ الغلوّ بدأ في العصر الأموي وبعد عصر معاوية تحديداً، فهما تتكلّمان عن عقدة الذنب مع عليّ والحسن والحسين، وعن سلب الحريات والقمع الذي مارسه الأمويّون. إذاً ـ وفقاً لهذا التفسير ـ نحن نتكلّم عن النصف الثاني تقريباً من القرن الأوّل الهجري، فالنظريّتان الأولى والثانية يبدو لي وكأنّهما تستبعدان فكرة عبد الله بن سبأ. بينما النظريّة الثالثة تتحمّل ولديها القدرة على تفسير ظهور حتى عبد الله بن سبأ؛ لأنّها تتكلّم عن طبيعة المجتمع الكوفي بلا فرق بين النصف الأوّل من القرن الأوّل الهجري أو النصف الثاني من القرن نفسه، فهناك تمايزات بين هذه النظريّات في تفسير ظواهر الغلوّ.


 

 

 

الفصل الثاني

الفرق المغالية في القرنين الأوّل والثاني الهجريّين

نخصّص هذا المحور للحديث عن الفرق المغالية في القرنين الأوّل والثاني الهجريين، وبالتركيز على الأعمدة الأساسيّة التي شكلت ظاهرة الغلوّ في التاريخ الإسلامي في تلك الفترة.

1 ـ السبئيّة أو السبائيّة أو السبأيّة

1 ـ 1 ـ التاريخ والنشأة

في البداية نريد أن نعرض المشهد التاريخي المنقول في الكتب التاريخيّة الأولى والكتب الملليّة عن فرقة السبئيّة، ثمّ بعد ذلك نذهب إلى تحليل عقائدهم، ثمّ النقد الذي ظهر في العصر الأخير لأصل وجود فرقة بهذا الإسم، وما السبب الذي أدّى إلى اختراع هذه الفرقة بناءً على وجهة نظر الناقدين.

السبئيّة فرقةٌ تنتسب إلى عبد الله بن سبأ، وتقول المصادر بأنّه رجل يهودي من صنعاء يُعرف بابن السوداء، وقد اعتنق هذا الرجل الإسلام في زمن عثمان بن عفان، فلم يكن مسلماً من قبل، لا في زمن الرسول ولا في زمن أبي بكر ولا عمر.

إذا سرنا مع المصادر التاريخيّة فإنّنا أمام رجل يعتنق الإسلام بسرعة رهيبة وبنفس السرعة يصبح رقماً صعباً فيما عرف بالفتنة في زمن عثمان، نحن أمام شخصٍ أسلم للتوّ، وإذ به يتحوّل خلال أيّام أو أشهر أو سنوات قليلة جداً إلى رقم صعب، كيف حدث هذا؟!

يقول لنا المنقول التاريخي بأنّ هذا الرجل ـ عبد الله بن سبأ ـ عندما تأزّم الوضع في علاقة الخليفة الثالث عثمان بن عفان في المدينة مع المسلمين في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي، قام بالسفر إلى مدن كثيرة مشتغلاً على تأليب الناس ضدّ الخليفة في المدينة المنوّرة. إذاً لم يكن رجلاً بسيطاً، بل رجل فعّال وسياسي من الطراز الثقيل إلى حدّ أنّه انتقل إلى أماكن متعدّدة على امتداد العالم الإسلامي، وفي كلّ مكان كان يحاول أن يجمع جماعات تحاول أن تنتفض ضدّ عثمان، ومن ثمّ كانت له فعالية سياسيّة واجتماعيّة. وعندما انتشر أمر التململ الحاصل في بلدان مختلفة، مثل العراق والشام ومصر وغيرها، من سياسة عثمان بن عفان، وصل الأمر إليه ـ أي إلى عثمان ـ فأرسل جماعة ليجمعوا الأخبار، وبالتحديد ـ كما تقول الرواية التاريخيّة ـ: ليجمع الأخبار عن الولاة في العراق ومصر وأماكن مختلفة. وإذا أردنا أن نحلّل خطوته هذه فيبدو أنّ عثمان كان يعتقد بأنّ المشكلة المركزية كانت تكمن في الولاة الذين وضعهم، ومن ثمّ هؤلاء هم الذين سبّبوا المشكلة، وأنّ الناس ليست عندها مشكلة معه شخصياً، وكان من بين هذه الجماعة المرسَلة من قبل عثمان عمارُ بن ياسر.

بعد فترة رجعت كلّ الوفود التي طلب منها الخليفة أن تجمع المعلومات إلَّا عمار بن ياسر، وتبيّن فيما بعد ـ حسبما تقول الرواية التاريخيّة ـ أنّ عمار بن ياسر تواطأ مع ابن سبأ في مصر، ومن ثمّ عدم رجوع عمار بن ياسر يعني أنّه كان شريكاً أساسيّاً في الثورة التي اندلعت ضدّ عثمان بن عفان بحسب الرواية التاريخية المنقولة والمتداولة.

ونلاحظ فيما بعد أنّ دور عبد الله بن سبأ لم يقف عند حدّ إسقاط الخليفة بالمدينة ـ وهذا ليس أمراً بسيطاً إن صحّت هذه المعطيات التاريخية ـ بل ساهم في التأثير على الأحداث الكبرى التي لحقت مقتل عثمان، فبعد أن جاء الإمام علي للإمساك بالخلافة الظاهرة نُفاجأ بظهور السبئيّين مرّة أخرى، كيف؟

تقول الرواية التاريخيّة ـ وهو شيء يستحقّ التوقف والتأمّل ـ: إنّ الأجواء بين الإمام عليّ وأصحاب الجمل تبدأ تتجه نحو التسوية والصلح، فيقوم السبئيّون بغارة على معسكر الإمام علي وعلى معسكر أصحاب الجمل في ليلة واحدة لإيقاع الفتنة بين الاثنين، فيتصوّر أصحاب علي أنّ الطرف الاخر قد تحلّل من مشروع التصالح ويتصوّر أصحاب الجمل أنّ عليّاً أيضاً قد فعل الأمر عينه، ومن ثمّ تعود الحرب لتبدأ وتنتهي معركة الجمل إلى ما آلت إليه أحداثها ووقائعها.

إذن، نحن أمام معطيان ـ حسب الرواية التاريخيّة ـ يلفتان النظر:

أوّلاً: قدرة الجماعة السبئية، وعلى رأسهم عبد الله بن سبأ، على القيام بثورة حقيقيّة تسقط الخليفة في المدينة.

ثانياً: قدرتهم على منع الخليفة اللاحق وهو الإمام عليّ من أن يحقّق تصالحاً أو تسوية مع المعارضين في معركة الجمل، هذا يعني أنَّهم جماعة غير عاديّين، على الأقلّ لديهم ذهنية وتخطيط غير طبيعي، طبعاً هذا كله وفقاً للرواية التاريخية التي تذكرها لنا المصادر الأولى.

بعد هذا الدور الهام الذي قامت به السبئيّة في الثورة على عثمان وإشعال الحرب بين علي وأصحاب الجمل، كان حضورهم الاجتماعي والسياسي يخفت فلا نجد لهم ذكراً في المصادر التاريخيّة في حرب صفين أو النهروان، ثمّ نجد أنفسنا أمام روايتين تاريخيّتين تبيّنان لنا كيفية تعامل الإمام علي معهم بعد أن عرف بعقائدهم وأفكارهم:

الرواية الأولى: وهي رواية مشهورة جداً تقول بأنّ الإمام عليّاً جمع عبد الله بن سبأ وجماعته ووضعهم في مكان وأحرقهم، بعضهم هرب أثناء اندلاع الحريق، وبعضهم أعلن التوبة قبل ذلك، وبعضهم عندما اندلع الحريق بهم أعلنوا ـ كما تقول الرواية ـ بأنّهم تأكّدوا بأنّ علياً هو الله، لكن لماذا قالوا هكذا؟ لأنّه لا يحرق بالنار إلا رب النار، وبما أنّ علياً الآن يقوم بحرقنا إذاً لا يمكن أن يكون عليّ إلا الله.

الرواية الثانية: إنّ الإمام عليّاً قام بنفي أو إبعاد عبدالله بن سبأ إلى المدائن، وذلك في سنة 37 للهجرة. وبعد استشهاد الإمام عليّ جاء الخبر إلى المدائن يعلن أنّ الإمام عليّاً قد استشهد في المسجد، وهنا يرفض عبد الله بن سبأ، ويقول: لا يمكن أن يموت علي، فعليّ لا يُقتل بل لا يموت أصلاً، إنّه يبقى وسوف يأتي بعد غيبة.

إذن نحن أمام روايتين تاريخيّتين في مصير هذه الجماعة، رواية تتكلّم عن إحراقهم، ومن ثمّ موتهم وانتهائهم، ورواية أخرى تتكلّم عن نوع من الإبعاد أو النفي، ووفقاً لهذه الرواية، فإنّ العقليّة السبئية كانت موجودة حتى بعد استشهاد الإمام علي.

سنتوقف قليلاً عند عرض النوبختي للفرقة السبئية، ثم بعد ذلك نعرض الرواية الشيعية الواردة عن الأئمّة، وسنرى تمايزات دقيقة ومهمّة تلفت النظر وتدفعنا للتوقّف والتأمل.

يقول النوبختي: «فلما قتل عليّ× افترقت التي ثبتت على إمامته وأنّها فرض من الله عزّ وجلّ ورسوله عليه السلام، فصاروا فرقاً ثلاثاً، فرقة منهم قالت إنّ عليّاً لم يقتل ولم يمت ولا يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملئ الارض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظُلماً وجوراً، وهي أوّل فرقة قالت في الإسلام بالوقف بعد النبيّ‘ من هذه الأمّة، وأوّل مَن قال منها بالغلو. وهذه الفرقة تسمى السبأيّة أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم وقال: إنّ عليّاً× أمره بذلك، فأخذه عليّ فسأله عن قوله هذا، فأقرّ به، فأمر بقتله، فصاح الناس إليه: يا أمير المؤمنين، أتقتل رجلاً يدعو إلى حبّكم أهل البيت وإلى ولايتك والبراءة من أعدائك، فصيّره إلى المدائن، وحكى جماعة من أهل العلم من أصحاب عليّ× أنّ عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى عليّاً× وكان يقول ـ وهو على يهوديته ـ في يوشع بن نون بعد موسى× بهذه المقالة، فقال في إسلامه بعد وفاة النبيّ‘ في عليّ× بمثل ذلك، وهو أوّل من شهر القول بفرض إمامة عليّ× وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه، فمن هناك قال من خالف الشيعة: إنّ أصل الرفض مأخوذٌ من اليهودية، ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعي عليّ بالمدائن، قالوا له: إنّه قتل علي، قال للذي نعاه: كذبت لو جئت بدماغه في سبعين صرّة وأقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمنا أنّه لم يمت ولم يقتل ولا يموت حتى يملك الأرض»([5]).

ونقف مع هذا النص عدّة وقفاتٍ سريعة:

أوّلاً: نجد في نصّ النوبختي حديثاً عن مهدويّة مبكّرة جداً ـ من الناحية التاريخيّة ـ تعود إلى النصف الأوّل من القرن الأوّل الهجري، بينما قال الدكتور مدرّسي طباطبائي ـ كما أشرنا سابقاً ـ بأنّ بداية المهدويّة كانت مع الكيسانيّة، أي في النصف الثاني من القرن الأوّل الهجري، فهذا النصّ يشير إلى أنّ فكرة المهدويّة ووجود شخص ذهب وسيرجع في آخر الزمان، تبدو موجودة عند السبئيّة بحسب نقل النوبختي.

ثانياً: يبدو من النصّ وكأنّه يشير إلى أنّ الوقف على عليّ وعدم القول بإمامة أحدٍ بعده، هو الوقف الأوّل في تاريخ الإسلام، فالوقف السبئي أوّل مدارس الوقف.

ثالثاً: رغم أنّ النوبختي ذكر فكرة الغلوّ عند السبئيّة غير أنّه لم يشرح لنا مراده من هذه الكلمة، وما هي طبيعة الغلوّ الذي كانوا يقولون به، بينما سنجد لاحقاً روايات أهل البيت تشرح لنا طبيعة هذا الغلوّ.

رابعاً: يركّز النوبختي في عرضه للفرقة السبئيّة على طعنهم في الصحابة، وبالأخصّ أبي بكر وعمر وعثمان، وهذا هو الذي أثار عليّاً ضدّهم. ونصّ النوبختي يجعلنا نتصوّر أنّ القرار الذي اتخذه علي بن أبي طالب في حقّ هذه الجماعة تركّز على فكرة الطعن على الخلفاء الثلاثة الأوائل والطعن في الصحابة، أي نوع من إعلان التبرّي من هؤلاء الصحابة. بينما الذي سنقرأه بعد قليل في الرواية الشيعيّة عن أهل البيت لا يتكلّم عن موضوع الصحابة، ولا يركّز عليه، بل على موضوع التأليه والاعتقاد بأنّ علي بن أبي طالب كان إلهاً بنظرهم.

إذن، يقدّم لنا النوبختي صورة عن غلوّ السبئيّة لكنّه يشير إليه بإيجاز سريع، ويركّز كثيراً على ما هو أقرب للعلاقات السياسيّة ـ الاجتماعية ما بين أنصار عليّ وجمهور المسلمين، وهو موضوع البراءة والسبّ والطعن وما شابه ذلك، ويعتبر النوبختي أنّ ردّ فعل عليّ تركّز على هذا، نعم لا ينفي النوبختي أنّ علياً ربما يكون أراد أن يقتله أيضاً من أجل الغلوّ، لكنّ تركيزه كان على هذه القضية، وهذا أمرٌ يلفت النظر، لكنّه لا يتطابق كثيراً مع الرواية الإماميّة عن أهل البيت كما سنرى بعد قليل.

1 ـ 2 ـ عقائد السبئيّة

إذا تقرّينا كتبَ الملل والنحل وعلم الكلام والحديث، عن عقائد هذه الفرقة، فسوف نجد موضوعات بعضها مفهوم وبعضها غير مفهوم.

منها: ما تنسبه تلك الكتب لهم من القول برجعة النبيّ بعد وفاته ـ فضلاً عن القول برجعة الإمام عليّ، وهو قول ذكرته المصادر بشكل منفصل عن القول برجعة النبيّ ـ وهذه من أقدم النسب التي تنسب فكرة الرجعة لأحد في النصف الأوّل من القرن الأوّل الهجري.

ومنها: الاعتقاد بالوصيّة بشكل عملي، أي أنّ لكلّ نبيّ وصيّاً، وهاتان الفكرتان تذكرهما كتب التاريخ بما فيها كتاب الطبري، حيث يذكر أنّ السبئيّة يعتقدون برجعة النبيّ وبالوصية.

ومنها: تأليه السبئيين للإمام عليّ، وهنا نشير إلى ما يشبه الصفقة من طرف المغالي فهو يسعى إلى رفع مقام المغالى فيه حتى يرتفع معه، وعلى سبيل المثال، عندما يقول عبد الله بن سبأ بأنّ الإمام عليّاً هو الله، فسيكون ابن سبأ نفسه هو النبيّ الذي أرسله الإمام عليّ، وسنرى هذا الأمر يتكرّر في أكثر من فرقةٍ من فرق الغلاة فيما بعد، حتى أنّ بعض الغلاة كان يعتقد أنّ الإمام الصادق نبيٌّ، وهو إمام، ولاحقاً صار يعتقد أنّ الإمام الصادق هو الله، وهو نبيّ، فكأنّما يريد المغالي أن يرتّب وضع الشخص الذي يغالي فيه حتى إذا رفعه ارتفع هو معه، ليكون تالي تلوه، وهذا ما حصل مع السبئيّين بتأليه الإمام علي وادّعاء ابن سبأ النبوّة.

ومنها: الاعتقاد بالتناسخ وإنكار القيامة. إنّه ليبدو غريباً بعض الشيء أنّ فرقةً تعتقد بالتناسخ ومع ذلك تعتقد أيضاً بالوقف، كما هي الحال في السبئيّة، كما ويبدو من البعيد أن يكون عبد الله بن سبأ أنكر القيامة، لأنّ إنكار القيامة ليس له حضور في البيئة الإسلاميّة التي عاش فيها ابن سبأ، أضف إلى ذلك أنّ التصوّر الكلاسيكي لعلماء الكلام المسلمين قائم على التلازم بين التناسخ وإنكار القيامة، ولهذا ربما يقال بأنّ نسبة إنكار القيامة لابن سبأ جاء اعتماداً على ما نُسب إليه من الاعتقاد بالتناسخ.

وسوف نحلّل باختصار السبب وراء لجوء الغلاة الذين يعتقدون بالتناسخ لهذه الفكرة، وذلك أنّهم يرون أنّ هناك روحاً تنزل من الله للنبيّ مثلاً (مفهوم الحلول)، وهذه الروح بنفسها تنتقل بعد النبيّ إلى عليّ مثلاً (مفهوم التناسخ)، ثمّ من عليّ إلى الحسن ثمّ الحسين.. إلى آخره، فكأنّ فكرة التناسخ تأتي من الاعتقاد بأنّ الروح كينونة إلهيّة واحدة موجودة في جميع هؤلاء، وأنّهم عبارة عن شيء واحد، وأنّ هذا الشيء الواحد يتمّ انتقاله بمرور الزمن من شخص لآخر، بهدف التأكيد على أنّ الجميع عبارة عن شخص واحد لا أكثر ولا أقل، وهذا ما سينفعهم كثيراً، كما سنرى لاحقاً.

وإلى جانب التناسخ، نُسب إلى السبئيين الاعتقاد بحلول جزءٍ من الله في عليّ، وهذا يعني حصول دمج ما بين التناسخ والحلول، أي أنّ هناك جزءاً من الله نزل في عليّ وجزء آخر من الله نزل بالأئمّة ـ بناءً على اعتقادهم بالأئمّة ـ بينما الطبري يقول بأنّهم وقفوا على عليّ ولم يكن عندهم أئمّة بعده، وهذا يعطينا إيحاءً بشيء من التناقضات في المنقولات التاريخيّة، فربما يكون اعتقاد السبئيين بالوقف كان في زمن الإمام علي وبعده بقليل، ولاحقاً تغيّرت مفاهيمهم أو تطوّرت عقائدهم، فكلّ شيء محتمل، ولكن ليس عندنا شيء واضح.

وبناءً على فكرة التناسخ والحلول يصبح معنى غيبة الإمام عندهم أنّ الجزء الإلهي من الإمام يغيب، وعندما يظهر الإمام يعني أنّ الجزء الإلهي يرجع.

ومنها: اعتقادهم بأنّ الإمام عليّاً في السحاب، وأنّ الرعد صوته والبرق سوطه، ولذلك يطلق عليهم أحياناً "السحابيّة".

إنّنا نجد في بعض المصادر الإسلاميّة أنّ رسول الله عمّم عليّاً بعمامته التي تسمّى السحاب، فيقول رسول الله: أتاكم عليّ في السحاب. والسحاب ـ كما يفسّرها أمثال العلامة المجلسي، وقبله العلامة الملطي الشافعي ـ هو ضرب من العمامة كان يرتديه عليّ، بينما هؤلاء السبئيّة ربما فهموا من الكلمة أنّها السحاب أو الغيم.

ومنها: سبّ ولعن الخلفاء الثلاثة الأوائل، كما أشرنا من قبل.

كانت هذه خلاصة الأفكار التي تُنسب إليهم، والعلم عند الله.

1 ـ 3 ـ نقد السبئيّة

لا يوجد، فيما نعلم، بين جميع المسلمين ـ تقريباً ـ منذ النوبختي وإلى يومنا هذا، على اختلاف مذاهبهم من الشيعة والسنّة، لا يوجد أحد يشكّ بوجود فرقةٍ اسمُها السبئيّة، وليس هناك شخص يناقش بشكل واضح في وجود شخص اسمه عبد الله بن سبأ إلى ما قبل مائة عام. لكن في القرن العشرين ظهرت مراجعات لهذا الموضوع ليس على المستوى الشيعي (السيد مرتضى العسكري) فحسب، بل هناك مراجعات على المستوى السنّي أيضاً (الدكتور طه حسين)، فضلاً عن المراجعات الغربية للموضوع حيث ناقش مجموعة من المستشرقين هذه القضيّة.

فقد قال هؤلاء بأنّه لا يوجد شخص اسمه عبد الله بن سبأ، ولا توجد فرقة اسمها الفرقة السبئيّة في ذلك الزمن، والأمر كلّه عبارة عن خرافة ووهم، ومن ثمّ لا يوجد غلوّ في النصف الأوّل من القرن الأوّل الهجري، وهذه العقائد كلّها ما هي إلّا تهريج تمّ نسبته دون أيّ تمحيص أو تدقيق.

لقد كانت منطلقات النافين لوجود شخص عبد الله بن سبأ والفرقة السبئية متعدّدة، نكتفي بذكر اثنين منها:

المنطلق الأوّل: التشكيك السندي، فقد ركّز السيد مرتضى العسكري ـ وإن كان تناول زوايا أخرى في نقده ـ وإلى حد معين طه حسين، في نقدهما للسبئية على أنّ الراوي الأساس في تاريخ المسلمين الذي يتحدّث عن هذه الفرقة هو سيف بن عمر التميمي (170 أو 180هـ)، وعندما نراجع المصادر التاريخيّة، من الطبري وغيره، نجد أنّ التميمي هو صاحب هذه القصة، ولمّا نذهب إلى علماء الحديث والرجال والسيرة المسلمين نجد أنّهم نقدوا هذا الرجل نقداً لاذعاً، وبيّنوا أنّه شخص لا يعتمد عليه ولا يوثق به ولا يمكن تصديقه في شيء.

وبناءً عليه، كيف يمكن أن تُبنى قصّة بهذا الحجم تاريخيّاً في زمن الإمام عليّ اعتماداً على ما يُسمّى في علم الحديث (مخرج الحديث) أو (مدار الحديث)، والذي هو شخص مطعون فيه، ولا يصحّ منطقيّاً أن نعتمد عليه؛ لكثرة ما اتُّهم بالكذب والتضعيف وما شابه ذلك.

ليس هذا فحسب، بل قبل الطبري نكاد لا نجد أحداً من المؤرّخين يتكلّم عن هذه القصّة، فنحن لا نجدها عند ابن سعد والبلاذري واليعقوبي وغيرهم.

المنطلق الثاني: عدم المعقوليّة، فقد ركّز بعض المستشرقين ـ وأمثال الدكتور طه حسين ـ على زاوية ثانية في نفي وجود السبئيّة، وهي تتمثل بعدم معقوليّة وجود فرقة بهذا الاسم وعندها هذه العقائد. والسبب في نفي المعقوليّة التاريخيّة هو أنّنا نتحدّث عن فرقة بهذه العقائد في الفترة الأولى للإسلام، والمسلمون في تلك الفترة لم يكونوا قد اختلطوا بالأديان الأخرى بعد، ولم يتعرّفوا على ثقافات أخرى، فمن أين يأتي عبد الله بن سبأ بهذه الأفكار. لقد كان المسلمون آنذاك عبارة عن أناس بسطاء ليست لديهم خبرة في المنظومات والأفكار الدينيّة، وحتى القرآن الكريم عندما خاطب قريشاً اعتبر أنّ أحد معجزات النبي محمّد أنّه يعرف قصص الأنبياء؛ لأنّ قبيلة قريش لم يكن لديها في تراثها الأدبي شيءٌ اسمه قصص الأنبياء، والذي يعرف قصص الأنبياء في الجزيرة العربيّة هم أهل الكتاب فقط، ولذلك كان النبيّ محمد يطلب منهم أن يسألوا أهل الكتاب حتى يتأكّدوا من صحّة كلامه ودعواه. نعم كانوا على دراية بتاريخهم وتاريخ قبائلهم وأنسابهم، وهذا غير أنّهم أهل كتاب وعلى معرفة بالديانات.

إذن، كيف يُتوقع من هؤلاء الناس أن يتحدّثوا عن أفكار معقّدة مثل الحلول والتناسخ، والحال أنّها أفكار متأخّرة وأفكار ذات طابع فلسفي؟! نعم، ممكن أن يتحدّثوا عن السبّ واللعن والبراءة مثلما قال النوبختي فإنّ هذا شيء معقول؛ لأنّ هذا جزء ممّا تفرزه التجاذبات السياسيّة والصراعات العسكريّة.

1 ـ 4 ـ سبب اختراع الفرقة السبئيّة

تقول الرؤية الشيعيّة النافية لوجود السبئيّة([6]) بأنّ هناك ثلاثة أسباب من وراء اختلاق هذه الفرقة:

أ ـ تشويه صورة الشيعة، من خلال ربطهم باليهود، حتى توجِد السلطةُ السياسية آنذاك (الأمويّون) مبرّراً لتدميرهم.

ب ـ إسقاط شخصيّة عمار بن ياسر من خلال إقحامه في قضيّة عبد الله بن سبأ.

ج ـ تبرير معارك الصحابة، على أساس أنّ عليّاً لم يكن يريد أن يقاتل، وكذلك طلحة والزبير وعائشة، لكنّ عبد الله بن سبأ وجماعته هم الذين أقحموهم في هذه الحرب، فالصحابة منزّهون عن أنّهم يريدون أن يقاتل بعضهم بعضاً، لكن ثمّة من أقحمهم وورّطهم في ذلك.

1 ـ 5 ـ تعليق ووقفة ختاميّة حول السبئيّة

أختم هذا الموضوع بالإشارة إلى أنّ قصّة السبئيّة لم تنقل فقط من قبل سيف بن عمرو التميمي، وليس هو صاحب القصّة الوحيد، وللتأكّد من ذلك علينا أن لنرجع قليلاً إلى الكتب الشيعيّة الإماميّة، مثل كتاب معرفة الرجال لمحمّد بن عمرو الكشي، حيث سنجد فيه روايات عن الإمام السجاد والإمام الباقر والإمام الصادق، تصرّح بأنّ السبئيّة قاموا بتأليه الإمام عليّ وأنّه قتلهم. وقد كان العلامة مرتضى العسكري ملتفتاً إلى هذه القضيّة، لكنّه قال بأنّ الكشي أخذ معلوماته عن السبئيّة من النوبختي، لكنّ هذا القول ليس منطقيّاً في تقديري المتواضع؛ لأنّ النوبختي لا يحدّد لنا من أين أخذ معلوماته، بينما الكشي يحدّد مصدر معلوماته؛ لأنّه يذكر السند، وفي السند لا يوجد اسم النوبختي. إنّه يعطي سنداً واضحاً للرواية متصلاً بالإمام الصادق والإمام الباقر والإمام السجاد، مما ينفي احتماليّة أنّ الكشي أخذ من النوبختي.

واللافت أنّ الكشي يقول: «وذكر بعض أهل العلم ـ والظاهر أنّه يقصد النوبختي ـ أنّ عبد الله بن سبأ كان يهوديّاً فأسلم ووالى عليّاً، وكان يقول وهو على يهوديّته في يوشع بن نون وصيّ موسى بالغلوّ، فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله‘ في عليّ× مثل ذلك. وكان أوّل من شهر بالقول بفرض إمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه وكفّرهم، فمن هيهنا قال من خالف الشيعة أصل التشيّع والرفض مأخوذ من اليهوديّة»([7]). وهذا معناه أنّ الكشي اعتمد تارةً على المرويّات التي له طرق فيها، وأخرى على النوبختي، في حين أنّ النوبختي لا يذكر هذه الروايات الموجودة بين أيدينا.

إنّ عدد هذه الروايات عبارة عن خمس([8])، ثلاثٌ منها صحيحة السند حتى عند المتشدّدين في عمليّة التصحيح السندي، أمثال السيد الخوئي. ولا أقصد من الإشارة إلى صحّة سند هذه الروايات أنّها مطابقة للواقع، بل ما أقصده هو أنّه لا ينبغي لنا أن نحصر القصّة بالطبري وسيف التميمي، بل هناك مصادر متعدّدة للقصّة، والمطلوب التوسّع في تفتيش المصادر ومراجعتها.

ولكي نأخذ فكرة عن هذه الروايات، علينا النظر فيها، وهي:

الرواية الأولى: خبر عبد الله بن سنان، قال: حدّثني أبي، عن أبي جعفر× «أنّ عبد الله بن سبأ كان يدّعي النبوّة ويزعم أنّ أمير المؤمنين× هو الله (تعالى عن ذلك). فبلغ ذلك أمير المؤمنين× فدعاه وسأله؟ فأقرّ بذلك وقال: نعم أنت هو، وقد كان ألقي في روعي أنّك أنت الله وأنّي نبيّ. فقال له أمير المؤمنين: ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا، ثكلتك أمّك وتبّ، فأبى فحبسه أياماً فلم يتب، فأحرقه بالنار، وقال: إنّ الشيطان استهواه، فكان يأتيه ويلقي في روعه ذلك».

الرواية الثانية: صحيحة هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول ـ وهو يحدّث أصحابه بحديث عبد الله بن سبأ وما ادّعى من الربوبيّة في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فقال ـ: «إنّه لما ادّعى ذلك فيه استتابه أمير المؤمنين فأبى أن يتوب فأحرقه بالنار».

الرواية الثالثة: صحيحة أبان بن عثمان، قال سمعت أبا عبد الله× يقول: «لعن الله عبد الله بن سبأ، إنّه ادّعى الربوبيّة في أمير المؤمنين وكان والله أمير المؤمنين× عبداً لله طائعاً، الويل لمن كذب علينا وإنّ قوماً يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم، نبرأ إلى الله منهم».

الرواية الرابعة: صحيحة أبي حمزة الثمالي، قال، قال علي بن الحسين×: «لعن الله من كذب علينا، إنّي ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كلّ شعرة في جسدي، لقد ادّعى أمراً عظيماً، ما له لعنه الله، كان عليّ والله عبداً لله صالحاً، أخو رسول الله، ما نال الكرامة من الله إلا بطاعته لله ولرسوله، وما نال رسول الله‘ الكرامةَ من الله إلا بطاعته لله».

الرواية الخامسة: خبر ابن أبي نجران، عن عبد الله، قال: قال أبو عبد الله×: «إنّا أهل بيت صدّيقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس، كان رسول الله‘ أصدق الناس لهجة وأصدق البرية، وكان مسيلمة يكذب عليه. وكان أمير المؤمنين أصدق من برأ الله بعد رسول الله، وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفترى على الله الكذب عبد الله بن سبأ».

وبمناسبة الإشارة إلى اللعن الوارد في هذه الروايات يمكن لي القول بأنّ اللعن الصادر عن أئمّة أهل البيت كان بحقّ الغلاة أكثر منه بحقّ غيرهم، وهذه قضيّة لافتة للنظر وتستدعي التأمّل فيها.

2 ـ الكيسانيّة

وقفنا في المبحث الأوّل على الفرقة السبئيّة، وطبيعة الجدل الدائر حول وجودها من عدمه، والذي يبدو لي أنّها كانت موجودة، لكنّ تفاصيل عقائدها وخطواتها ليست مؤكَّدة تاريخيّاً. وإذا افترضنا أنّها تلاشت في زمن الإمام علي، فمن المتوقّع أن يبقى هناك فتات أو أجزاء منها، وربما بعض أفرادها تبعثروا في البلدان، فهذا الاحتمال وارد حسب منطق الأشياء الذي يدفعنا إلى توقّع شيءٍ من هذا القبيل، لكنّنا لا نسمع شيئاً بعد حقبة الإمام عليّ وصولاً إلى ما بعد شهادة الإمام الحسين، أي من عام 37 ـ 62 للهجرة، حيث لا حديث عن الحركات المغالية في تاريخ المسلمين، لكن بعد شهادة الإمام الحسين تظهر فرقة ـ بحسب تصنيف علماء الملل والنحل ـ يطلق عليها الكيسانيّة، وتُنسب إليها مجموعة اعتقادات تصنّف على أنّها مغالية وتتشعّب منها فرقٌ مغالية أخرى.

2 ـ 1 ـ علاقة الكيسانيّة بالتشيّع

هناك قراءتان ـ على مستوى تاريخ المذاهب ـ للكيسانية وعلاقتها بالتشيّع:

القراءة الأولى: وهي تعتبر أنّ التشيّع بعد شهادة الإمام الحسين هو تشيّع كيساني، وليس لدينا تشيّع آخر، وفيما بعد تطور التشيّع الكيسانيّ فأصبح تشيّعاً إماميّاً مذهبيّاً، أي أنّ التشيّع مرّ بمراحل تاريخيّة متعدّدة، والكيسانيّة كانت إحدى مراحله التي تبلورت في النصف الثاني من القرن الأوّل الهجري، ولاحقاً تطوّر التشيّع وتجاوز نسخة الكيسانيّة وأخذ لنفسه نسخةً جديدة. وهذه القراءة يقدّمها عادة باحثون من غير الإماميّة.

القراءة الثانية: تعتبر أنّ الكيسانيّة هي تيار شيعي الأصل، غايته أنّه انحرف في مساره عن خطّ التشيّع الحقيقي، ومن ثمّ تمّ نقده أو نقد بعض مذاهبه أو بعض فرقه، وما لبث أن زال وانتهى بمرور الربع الأوّل من القرن الثاني الهجري. وفي هذه القراءة يظهر التشيّع خطّاً أصيلاً انبثقت منه فرق حاولت أن تنسب نفسها إليه، لكنّها كانت منحرفة، وتصنّف الكيسانيّة واحدة من هذه الفرق.

2 ـ 2 ـ معنى "الكيسانيّة"

جاءت الكيسانيّة من كلمة "كيسان"([9])، وهناك ثلاثة آراء للمؤرّخين في معنى هذه الكلمة، ومن هو كيسان:

الرأي الأوّل: إنّ كيسان هو أحد غِلمان الإمام عليّ وقد أعتقه، وهذا الرجل كان له دور في الثورات التي أعقبت شهادة الإمام الحسين، فنُسبت الفرقة إلى اسمه. والذي يبدو أنّ هذا الشخص كانت له فعاليّة في المشهد السياسي والحركة الثوريّة التي انبثقت عقب شهادة الامام الحسين مما جعل هذه الفرقة تنسب له؛ إذ من غير المتوقع أن تكون النسبة لشخصٍ هامشي لا دور فعّالاً له في مجريات الأحداث.

الرأي الثاني: كيسان لقبٌ للمختار بن أبي عبيد الثقفي (67هـ)، وهذا اللقب لقّبه به محمّد بن الحنفية (81هـ)؛ لشدّة فطنته وذكائه، وسنرى فيما بعد أنّ هناك صلةً معيّنة مفترضة بين ابن الحنفيّة والمختار.

الرأي الثالث: إنّ كيسان لقب محمّد بن الحنفية نفسه.

هذه الآراء جميعها هي احتمالات مفتوحة، ولا نستطيع ترجيح واحد منها على آخر، ويبدو الاحتمالان الثاني والثالث معقولَين جداً.

2 ـ 3 ـ العقائد المنسوبة للكيسانيّة

يعتقد علماء الملل والنحل، وكذلك المؤرّخون، استناداً إلى استقراء مسار حركات الغلوً أنّ أوّل حركة غلوّ جاءت بعد السبئيّة هي الحركة الكيسانيّة المتمثلة في البذرة الأولى لها بجماعة المختار بن أبي عبيد الثقفي، والذين يطلق عليهم اسم "المختاريّة".

تنسب المصادر الملليّة والكلاميّة والتاريخيّة للكيسانيّة وللمختار بن أبي عبيد الثقفي نفسه، مجموعةً من الاعتقادات التي يُصنّف بعضها على أنّه غلوّ (طبعاً بعض هذه الاعتقادات المنسوبة لهم ليست غلواً بالمعنى المتفق عليه بين المسلمين)، كتأليه شخص أو ادّعاء النبوّة لشخص.

وعلى أيّة حال فقد نسبوا إلى المختار والمختاريّة بعض الأفكار المغالية، ومنها:

1 ـ الاعتقاد بمهدويّة محمّد بن الحنفيّة

قالوا بأنّ محمّد بن الحنفيّة هو المهدي المنتظر، وأنّه غاب ولم يمت، وأنّ المختار هو وكيله أو من يأتي بعد المختار. وهناك بعض المستشرقين وبعض مؤرّخي الفرق يعتبرون أنّ أوّل ظهور للمهدويّة جاء مع الكيسانيّة، وأنّ الشيعة لا يعرفون فكرة المهدويّة قبل الكيسانيّة.

2 ـ عقيدة البداء

3 ـ ادّعاء المختار النبوّة

وهي من الأفكار التي ـ إن صحّت ـ يمكن تصنيفها حقيقةً على أنّها غلوّ. أمّا المهدويّة وعقيدة البداء فهذه موجودة عند كثير من المسلمين، وهي ليست من الأمور التي تصنّف على أنّها غلوّ، ومن الطبيعي أنّني أتكلم هنا عن الدرجة العليا للغلوّ، والتي تعتبر عند الأعمّ الأغلب غلوّاً، فالغلوّ كما قلت سابقاً مفهوم هلامي.

وحتى بعد المختار الثقفي، نسبوا للكيسانيّة مجموعةً من اعتقادات مثل:

أ ـ القول بالرجعة وأنّ أوّل ظهور لفكرة الرجعة كان مع الكيسانيّة.

ب ـ الاعتقاد بالبداء وبالتناسخ، وقد قلنا سابقاً بأنّ هناك ارتباطاً عجيباً بين المذاهب المغالية وفكرة التناسخ؛ لأنّهم يعتقدون أنّ هناك روحاً مقدّسة تنتقل من وليٍّ إلى وليّ، ومن شخص إلى آخر.

ج ـ تأويل القرآن. وهذا كلام مهمّ جداً، ولا سيّما أنّنا نتكلّم في النصف الثاني من القرن الأوّل الهجري.

د ـ ومن جملة الأفكار التي تُنسب إليهم القول بأنّ عليّاً في السحاب. وقد علّقنا على هذه الفكرة عندما تحدّثنا عن السبئيّة، فلا نعيد.

هذه الدعاوى كلّها يمكن النقاش فيها، ويمكن أن نقول بأنّها ليست غلوّاً، لكن الذي نسبوه إلى الكيسانيّة من غلوٍّ حقيقي ـ إذا صحّت النسبة ـ هو أنّهم يقولون بنبوة عليٍّ وأبنائه الثلاثة، أي يكون عندنا أربعة أنبياء بعد النبيّ محمّد وهم: علي والحسن والحسين ومحمّد بن الحنفيّة، ومن ثمّ تكون الكيسانيّة قد رفعت الأئمّة عن رتبهم الطبيعيّة وجعلوهم في مرتبة النبوّة، وهو ما صُنّف غلوّاً، على رأي جمهور المسلمين.

كانت هذه خلاصة الأفكار الأساسيّة التي قد تجمع البدايات الأولى للكيسانيّة أو ظهورها في القرن الأول الهجري.

2 ـ 4 ـ أبرز فِرَق الكيسانيّة

مثّلت الكيسانية تياراً انبثقت منه مجموعةٌ كبيرة ومتنوّعة من الفرق، ولسنا الآن بصدد إحصاء جميع فرقها وانشعاباتها، لكنّنا سنكتفي بذكر خمس فرق أساسيّة، وواحدة منها بالنسبة لنا في غاية الأهميّة.

الفرقة الأولى: المختاريّة

وهم أتباع المختار بن أبي عبيد الثقفي، وحسب ادعاء المؤرّخين وعلماء الملل والنحل تصنّف الفرقة المختاريّة فرقةً كيسانيّة مغالية.

الفرقة الثانية: الهاشميّة

وهم أتباع أبي هاشم عبد الله بن محمّد بن الحنفية، أي أنّه حفيد الإمام علي بن أبي طالب، وأتباع أبي هاشم هذا قد غالوا فيه، واعتقدوا أنّه المهدي المنتظر، وأنّه يحيي الموتى وما شابه ذلك، فصُنّفوا ضمن الفرق المغالية على أساس اعتقادهم فيه.

هذا الرجل ـ أعني أبا هاشم ـ سيتردّد اسمه كثيراً، وهو اسم مهمّ جداً؛ لكونه يشكّل حلقة مفصليّة ما بين الكيسانيّة الأولى والحركات الكيسانيّة اللاحقة.

الفرقة الثالثة: أتباع محمّد بن علي بن عبد الله بن عباس

ومع هذه الفرقة نكون قد دخلنا في الفضاء العباسي، حيث يُعتقد أنّ محمّد بن علي بن عبد الله بن عباس نقل الكيسانيّة للفضاء العباسي، ولذلك ظهر في الفضاء العباسي تيارٌ مغالٍ يعتقد بألوهيّة بعض الخلفاء العباسيّين وبنبوّة بعضهم الآخر. وبهذا نلاحظ مع هذه الفرقة أنّ الغلوّ لم يعد علويّاً فقط، أي لم ينحصر في المغالاة بعليٍّ وأبنائه، بل مع محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الذي هو انشعاب من الكيسانيّة، خرج الغلوّ من الدائرة العلويّة وذهب إلى الدائرة العباسيّة، وبدأنا نرى جماعات تنفخ في شخصيّات العباسيّين وتنادي بهم آلهةً أو أنبياء.

لنتصوّر المشهد بشكل جيّد، فنحن الآن مع الكيسانيّة في الخطّ العلوي، وينبثق من هؤلاء خطٌّ له جذور عباسيّة، ثم يبدأ هذا الخطّ بنشر أفكار شبيهة بالأفكار الكيسانيّة المغاليّة لكن في الفضاء العباسي، ثم يروّج للعباسيين من خلال اعتقادات مغالية بتأليه بعضهم أو الاعتقاد بنبوّة بعض الآخر، خاصّة في الفترة الأولى من حكم العباسيّين، أي في أوّل أربعين سنة من حكمهم، أمّا بعد ذلك فتنتهي هذه الحركات ولا يكون لها وجود. ولذلك هناك من يرى أنّ العباسيين هم الذين ضخّموا فرقة الكيسانيّة لكي يستفيدوا منها ومن أفكارها ثمّ يضخّوها في جسمهم اعتقادياً.

الفرقة الرابعة: الكربيّة

وهي فرقة في غاية الأهمية، بل بعضهم يعتبر أنّ أوّل غلوّ في تاريخ الإسلام هم الكربيّة، وقبل ذلك لا يوجد غلوّ، فلا السبئيّة ولا المختاريّة فرقاً مغالية، وإنّما الغلوّ الحقيقي يبدأ مع الكربيّة.

هذه الفرقة هي أوّل فرقة تظهر في بداية عصر الإمام الباقر، ومن ناحية تاريخيّة فإنّ الكثافة العدديّة لظهور فرق الغلاة كانت في زمن الإمامين الباقر والصادق، وفي سياق سياسي مضطرب، وهو زمن تفكّك الدولة الأمويّة وبداية انطلاق الدولة العباسيّة. هذه الفترة (ما بين 90 ـ 160هـ تقريباً) تمثل العصر الذهبي لتفريخ أعداد كبيرة جداً ـ قد تبلغ العشرات ـ من الفرق المغالية التي كان لها حضور واتخذ أهل البيت منها مواقف صارمة. ورغم أنّ بعض الفرق التي ظهرت في هذه الفترة قد تكون صغيرة، لكنّ كثافة عدد الفرق توحي بأنّ هناك فوضى غلوّ في فترة الإمامَين الباقر والصادق، وهذا ما يفسّر لنا حجم الروايات الهجوميّة والنقديّة التي تُنقل عن هذين الإمامين بالخصوص ضدّ الغلاة، باعتبار أنّ الغلاة كانوا مصدر ابتلاء كبير بالنسبة إلى أهل البيت وشيعتهم في تلك الفترة.

الكربيّون هم اتباع شخص اسمه ابن كرب، ويقال أبو كرب الضرير. وقد كان يعتقد بمهدويّة ابن الحنفيّة، وأنّه غاب، ويستحيل موته ولا يوجد إمام قبل ظهوره.

وعلى الرغم من أهميّة شخصية ابن كرب أو أبو كرب، لكن في داخل الكربيّة هناك شخصٌ في غاية الأهميّة، بل ويصنف على أنّه بداية الغلوّ الحقيقي في تاريخ الاسلام ألا وهو حمزة بن عمارة البربري أو الزبيدي أو اليزيدي ـ اختلاف الاسم ناشئ من اختلاف النسخ ـ وهو رجل من المدينة المنوّرة، قالوا عنه بأنّه كان يعتقد بألوهيّة ابن الحنفيّة، وبنبوّة ابن كرب، وبإمامة نفسه بعد ابن كرب، وأنّه نزل عليه من السماء سبعة أسباب تجعله يملك الأرض، وأنّه قادر على شقّها، ولديه سلطة وولاية تكوينيّة عليها وعلى المخلوقات المحيطة به.

لقد أُعجب بحمزة بن عمارة البربري جماعةٌ من أهل المدينة ومن أهل الكوفة، وقد ورد فيه ذمٌّ ولعن من قبل الإمامين: الباقر والصادق، بل وردت روايات عن هذين الإمامين بتجنّب هذا الرجل وجماعته، وتنهى عن الاقتراب منهم. نذكر بعضاً من هذه الروايات([10]):

الرواية الأولى: خبر بريد العجلي، عن أبي عبد الله، قال: «أنزل الله في القرآن سبعة بأسمائهم، فمحت قريش ستة وتركوا أبا لهب. وسألت عن قول الله عز وجل: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ) قال: هم سبعة: المغيرة بن سعيد، وبيان، وصائد النهدي، والحارث الشامي، وعبد الله بن الحارث، وحمزة بن عمارة البربري، وأبو الخطاب».

الرواية الثانيّة: خبر بريد بن معاوية العجلي، قال: كان حمزة بن عمارة الزبيدي لعنه الله يقول لأصحابه: إنّ أبا جعفر يأتيني في كلّ ليلة، ولا يزال إنسان يزعم أنّه قد أراه إيّاه، فقدر لي أني لقيت أبا جعفر فحدّثته بما يقول حمزة، فقال: «كذب عليه لعنة الله، ما يقدر الشيطان أن يتمثل في صورة نبيّ ولا وصيّ نبيّ».

الرواية الثالثة: خبر ابن سنان، قال: قال أبو عبد الله: «إنّا أهل بيت صادقون، لا نخلو من كذاب يكذب علينا، فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس، كان رسول الله أصدق البرية لهجة، وكان مسيلمة يكذب عليه. وكان أمير المؤمنين أصدق من برأ الله من بعد رسول الله، وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه بما يفتري عليه من الكذب عبد الله بن سبأ لعنه الله، وكان أبو عبد الله الحسين بن علي قد ابتلي بالمختار. ثم ذكر أبو عبد الله: الحارث الشامي وبنان، فقال: كانا يكذبان على عليّ بن الحسين. ثم ذكر المغيرة بن سعيد، وبزيعاً، والسري، وأبا الخطاب، ومعمراً، وبشاراً الأشعري، وحمزة الزبيدي، وصائد النهدي، فقال: لعنهم الله، إنّا لا نخلو من كذاب يكذب علينا أو عاجز الرأي، كفانا الله مؤنة كلّ كذّاب وأذاقهم الله حرّ الحديد».

الرواية الرابعة: خبر زرارة، قال: قال أبو عبد الله: «أخبرني عن حمزة، أيزعم أنّ أبي آتيه؟» قلت: نعم. قال: «كذب والله ما يأتيه إلا المتكون، إنّ إبليس سلّط شيطاناً يقال له: المتكون، يأتي الناس في أيّ صورة شاء، إن شاء في صورة صغيرة، وإن شاء في صورة كبيرة، ولا والله ما يستطيع أن يجي‌ء في صورة أبي».

الأمر الذي أريد التركيز عليه مع هذه الفرقة هو الإباحيّة التي أسّس لها حمزة بن عمارة البربري، حيث يُعتبر البربري أوّل شخص أسّس تياراً في الكربيّة يدعو للإباحيّة، وهذا موضوع مهم جداً وسيتكرّر معنا لاحقاً، فهناك علاقة ترابطيّة ـ نسبيّة ـ بين الغلاة والإباحيّة، والمقصود من الإباحيّة هنا هو ما يتعلّق بالقضايا الجنسيّة والأخلاقيّة مثل ممارسة اللواط ونكاح الأقارب والزنا وشرب الخمر.

وإذا أردنا أن نحلّل السبب وراء ارتباط الغلوّ بمفهوم الإباحيّة بدرجة غير قليلة، فإنّ أوّل شيء يخطر في الذهن ـ من زاوية اجتماعيّة سياسيّة ـ هو أنّ هؤلاء الأشخاص يريدون جذب عدد كبير من المناصرين لهم، ومن الواضح أنّ المتدينين لن يأتوا معهم، لكنّ المناصرين غير المتديّنين من الممكن أن يلتفّوا حولهم باعتبار أنهم يجعلوا منهم تياراً دينياً يحلّل لهم كلّ شيء، ومن ثمّ من الممكن أن يجدوا مزيداً من الأنصار بواسطة أفكار من هذا القبيل تسهّل كثيراً على الناس.

 هناك تحليل آخر ـ أرجو الانتباه له جيّداً ـ يعتبر أنّ هناك علاقة جدليّة بين أربع زوايا، وهذه الزوايا الأربع هي:

1 ـ الغلوّ

2 ـ تحريف القرآن

3 ـ تأويل القرآن

4 ـ الإباحيّة.

فكلّما غالى المغالي في الإمامة وجعلها أصلاً من أصول الدين بحيث أصبحت فوق التوحيد، واجه مشكلةً في التعامل مع القرآن الكريم، فإذا كان محمّد بن الحنفية ـ على سبيل المثال ـ إلهاً يجب عبادته، وأنّ الارتباط به يكفي عن أيّ شيء آخر، فلماذا لم يُذكر في القرآن الكريم، بل عندما نقرأ القرآن لا نجد رائحة لهذه الأفكار ـ تأليه الأشخاص ـ بل بالعكس، فما نجده فيه أنّه مصرّ على عدم تأليه أحد إلا الله سبحانه وتعالى. إذاً سيكون أمام الغلاة الذين ضخّموا كثيراً مفهوم الإمامة وجعلوها بمنزلة الألوهيّة، أحد طريقين للفرار من هذه المشكلة الحقيقيّة:

الطريق الأول: القول بتحريف القرآن([11])، إذ القول بتحريف القرآن معناه أنّ هؤلاء الآلهة موجودون في القرآن، ولكن هناك مَن حذف أسماءهم منه. إذاً فكرة تحريف القرآن تساعد فكرة الغلوّ وتخفّف عنها وطأة التصادم الاعتقادي الناشئ من غياب ألوهيّة هؤلاء الأشخاص في القرآن الكريم.

الطريق الثاني: التأويل، ومعنى التأويل عند الغلاة هو عندما لا يجد أسماء هؤلاء، ولا يلاحظ شيئاً يتكلّم عن أنّ محمّد بن الحنفية ـ على سبيل المثال ـ إله، فهو يقوم بتفسير كلمات أخرى على أنّها تقصدهم هم، فتصبح "الصلاة" المذكورة في القرآن هي محمّد بن الحنفية، وكلّ شيء مدحه القرآن الكريم سيقولون بأنّ المقصود منه محمّد بن الحنفية أو الإمام محمد الباقر أو الإمام جعفر الصادق وهكذا.. ولهذا ظهرت الفكرة التي تقول بأنّ كلّ الفرائض كالصلاة والصوم والحجّ والزكاة هي أسماء رجال، وهذه فكرة مشهورة في التاريخ وتعرّض لها العلماء ونقدوها، وكلّ ما ذُمّ في القرآن الكريم كالزنا واللواط وشرب الخمر فهذه أيضاً أسماء رجال وهم أعداء أهل البيت.

بعمليّة التأويل سوف نخسر تلقائيّاً تحريم الزنا؛ لأنّه لم يعد شيء اسمه تحريم الزنا في القرآن الكريم؛ لأنّ تحريم الزنا صار عبارة عن كلام حول زيد من الناس الذي هو عدوّ أهل البيت، والنتيجة التلقائيّة هي الإباحيّة. فصارت الإباحيّة (الزاوية الرابعة) نتيجة طبيعيّة للعلاقة بين الغلوّ (الزاوية الأولى) وتحريف القرآن (الزاوية الثانيّة) وتأويل القرآن (الزاوية الثالثة)، وبهذه الطريقة سيكون من الطبيعي أن يصل عدد كبير من الغلاة إلى فكرة الإباحيّة؛ لأنّهم فرّغوا القرآن الكريم من مضمونه كي يعودوا لملئه مرّةً أخرى بأفكارهم، ولا يتمّ ذلك إلّا بممارسة تأويل باطني، وأقلُّ ما يقال فيه ـ من وجهة نظر خصومهم ـ أنّه تعسّفي.

من هنا نرى أنّ أول مظاهر النزعة الإباحيّة عند الغلاة كانت مع حمزة بن عمارة البربري، الذي قال: لا يوجد شيء اسمه حرام وأنّ كل شيء حلال، ومن ثمّ فالمشروع التأويلي مستمرّ، وعليك فقط أن تعرف الإمام الذي تكلّم عنه القرآن الكريم، والباقي أمورٌ لا قيمة لها، بل تنقل عنه بعض المصادر التاريخيّة ـ ولا أدري إذا كان هذا النقل صحيحاً أم غير صحيح ـ بأنّه تزوّج ابنته، وهذه قمّة الإباحيّة، بمعنى أنّه لم يعد عنده حواجز في هذا الصدد.

إذن، فرقة الكربيّة هي فرقة أساسيّة في هذا الإطار، وتعتبر مؤسّسة لمرحلة جديدة في عصر الإمامين الباقرين، وحضورها التاريخيّ أوضح من الفرق التي سبق ذكرها؛ لأنّ عندنا روايات معاصرة لهم تتحدّث عنهم بشكل مباشر من قبل الإمامَين الباقر والصادق، ويبدو أنّهم كانوا يشكّلون خطراً أساسيّاً من ثلاث حيثيّات: فكرة التأليه، وادعاء النبوّة، والنزعة الإباحيّة.

الفرقة الخامسة: الحربيّة

وهؤلاء أتباع شخص اسمه عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي الكوفي. تعتقد الحربيّة ـ بحسب ما ينقله الملليّون ـ أنّ أبا هاشم عبد الله بن محمّد بن الحنفية ـ الذي تُنسب له الفرقة الهاشميّة التي مرّ ذكرها ـ نَصَبَ عبد الله بن عمرو بن حرب للإمامة. ولم يكتفِ الحربيّون بذلك، بل أضافوا أنّ روح أبي هاشم حلَّت في عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي.

وقد أشرتُ سابقاً إلى ضرورة العناية وإجراء مزيد من التفكير عن العلاقة الثنائيّة بين الغلاة من جهة والحلول ـ التناسخ من جهة ثانية، لماذا اضطرَّ الغلاة إلى التفكير دائماً بذهنية الحلول والتناسخ؟ ولماذا اضطرَّوا أن يتكلّموا عن روح واحدة تجري بين أشخاص متعدّدين؟ ما الذي يدفعهم إلى مثل هذا التفكير؟

إنّ الحلول يجعل الروح الموجودة فيهم هي روح الله، وبالتالي يتناسب هذا مع فكرة التأليه، والتناسخ يجعل روح الله تتناسخ في أشخاص متعدّدين، فيكون الدمج بين فكرة الحلول وفكرة التناسخ في بعض الفرق الغالية مهمّ للغاية بالنسبة لهم؛ لأنّه يساعد على فكرة التأليه من خلال ربط الشخص بالله سبحانه وتعالى، ويعتبر ما في داخل هذا الشخص جزءاً من الله تعالى.

من معتقداتهم الأخرى الاعتقاد بما سمّوه الأسباط الأربعة (علي، الحسن، الحسين، محمّد بن الحنفية)، وأنّ محمّد بن الحنفية هو المهديّ الموعود، وأنّه يعيش في جبال رضوى([12]) في الحجاز، ويأكل اللبن والعسل ويحرسه أسدان ويبقى هناك حتى ظهوره.

هذا المعتقد موجود في كثير من المصادر التي تعرّضت لهذه الفرقة، ولعلّ الهدف من تصويرهم محمد بن الحنفيّة يعيش في الجبال ويوجد أسدان يحرسانه هو تخويف الناس من الصعود إليه، كما أنّ الجيوش آنذاك يصعب عليها الصعود إلى الجبال بسهولة، وكانت تأخذ المسالك السهلة في تحرّكاتها كما هو معروف.

2 ـ 5 ـ قراءات نقّاد التاريخ لفرقة الكيسانيّة

ثمّة ملاحظات طرحها النقّاد فيما يتعلّق بموضوع الكيسانيّة، نذكر بعضها:

الملاحظة الأولى: من البعيد جداً أن يكون عند المختار الثقفي غلوّ عقائدي فهو رجل لا علاقة له بهذه الأمور. نعم من الممكن أن يكون عنده غلوّ سياسيّ، بمعنى المكاشفة والثورة وما شابه ذلك، لكن لا توجد أيّ مؤشرات على غلوّ ديني أو عقائدي، بل ما نُسب له أو ما نُسب للكيسانيّة والكيسانيين أو على الأقلّ بعض فرق الكيسانيّة، ليس أكثر من اتهامات هدفها اغتيال المختار والكيسانيّين معه، سياسياً واجتماعيًا([13]).

الملاحظة الثانية: إنّ الكيسانيّة حركة سياسيّة ثوريّة، وليست حركة عقائديّة، وهذه الأفكار التي نُسبت لهم غير معلوم إن كانت صحيحة ودقيقة أو لا.

الملاحظة الثالثة: العباسيّون هم الذين ضخّموا حركة المختار ودور ابن الحنفيّة، واستغلّوا هذه الحركات لكسب تعاطف الجماهير، وادّعوا بعد ذلك الانتساب لفكرة الكيسانيّة لكي يخرجوا المسار من آل عليّ إلى آل العباس. وعلى سبيل المثال، بعد أن توفّي أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية في منزل محمّد بن علي بن عبد الله بن عباس، ادّعى الأخير أنّ أبا هاشم أوصى له، فكأنّ هذا الاتصال بين شخص أبي هاشم (علوي) وشخص محمد بن علي (عباسي)، ودعوى أخذ الثاني الوصاية من الأوّل، هو محاولة لأخذ الوصيّة من آل علي نحو آل العباس، وبعد ذلك رأينا في النصف الأوّل من القرن الثاني الهجري أنّ هناك نفخاً في بعض شخصيّات بني العباس على أنّهم أئمّة، بل ادعوا النبوّة لبعضهم، بل حتى الألوهيّة.

3 ـ الجَناحيّة

لنأخذ فكرة عن هذه الفرقة، يمكننا تنظيم الحديث من خلال نقاط:

3 ـ 1 ـ الجناحيّة، الاسم وتكوين أوّل دولة للغلاة في التاريخ

الجناحيّة هم أتباع عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهي من الفرق المهمّة جداً. وسمّيت بالجناحيّة نسبةً إلى جعفر بن أبي طالب الذي قال فيه رسول الله: «حقّ لله عزّ وجل أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنّة»([14]).

مع الجناحيّة، نكون أمام فرقةٍ من الغلاة الحقيقيّين الذين تنسب إليهم الأفكار بوضوح. واللافت أنّهم قاموا بثورة سنة 127هـ، أي قبل سقوط الدولة الأمويّة ببضعة سنين، وأطاحت ثورتهم بوالي الكوفة، فسيطروا على مدينة الكوفة وما يحيط بها، وامتدّ نفوذهم وسيطرتهم على بلادٍ شاسعة من إيران والعراق، حيث أخذوا فارس وإصفهان والريّ، واستمرّ توسّعهم هذا بحدود سنة ونصف.

وإذا أردنا أن نكون أكثر دقّة ـ وتجاهلنا المختار الثقفي الذي من البعيد أن يكون مغالياً ـ فنقول: نحن أمام أقوى حركة سياسيّة لها بعد سلطوي، وأمام أوّل دولة غلاة في التاريخ، لكنّ زمانها كان قصيراً.

ودائماً يجب علينا أن ننتبه إلى أنّ الفكر الذي تقف دولةٌ معه، سيدخل مرحلة جديدة في حياته، لأنّه سوف يتوسّع ويظهر ويكون له نفوذ، وعندما يكون هناك فكر ـ مهما كان رائعاً ـ ولا تكون له دولة، فإنّه غالباً يعيش المعاناة، وبالكاد يستطيع أن يتقدّم، فالدولة هي الذراع القويّ لأيّ فكر، حقّاً كان أو باطلاً، فهي سلطة تعطي لأصحابها نفوذاً، ومن ثمّ تمكّنهم من نشر أفكارهم بطريقةٍ أو بأخرى.

لم يتمكّن عبد الله بن معاوية من الحكم فترةً طويلة، فقد هزمه الأمويّون، وبعد سنة ونصف من انطلاقته الواسعة والمفاجئة، فرَّ باتجاه خراسان لكي يكون مع أبي مسلم الخراساني، لكنّ أبا مسلم وجماعته عندما علموا أنّ عبد الله بن معاوية هُزم، وأنّه يتجه إليهم في خراسان، أرسلوا له مجموعةً قتلته وهو في طريقه إليهم في مدينة هرات سنة 129هـ. ويقال بأنّ له مرقد ومزار إلى الآن في هرات التي تقع اليوم في أفغانستان. هذا يعني أنّ العباسيّين ـ قبل أن يحكموا قبضتهم على السلطة ـ والأمويّين اتفقوا عملياً على هذا الرجل، وقضوا عليه وعلى جماعته.

3 ـ 2 ـ عقائد الجناحيّة وأفكارها الرئيسيّة

ما هي أفكار الجناحيّة الأساسيّة؟ إذا راجعنا المصادر التاريخيّة لن نجد سوى حركتهم السياسيّة وتفاصيل ما جرى لهم وكيف انتهى حكمهم، ولا تذكر تلك المصادر أفكارهم ومعتقداتهم، بينما في كتب الملل والنحل نجد تركيزاً على أفكارهم العقائديّة، وقد ذكروا مجموعة من المعتقدات التي كانت تنادي بها هذه الفرقة، منها:

1 ـ حلول روح الله في آدم، ثمّ انتقالها بالتناسخ من نبيّ إلى نبيّ، حتى وصلت إلى رسول الله، وانتقلت بعده إلى الإمام عليّ، فالإمام الحسن، فالإمام الحسين، فمحمّد بن الحنفيّة، وصولاً إلى عبد الله بن معاوية. وهذه هي فكرة الدمج بين الحلول والتناسخ التي ذكرناها سابقاً، ويمكن تصويرها بما يشبه الزاوية القائمة: نزول الروح من الإله إلى النبي (الحلول)، ثمّ بعد ذلك خطّ مستقيم، وهو انتقال هذه الروح بين الأنبياء والأولياء (التناسخ). ويبدو أنّ هذه الفكرة كان لها حضور كبير جداً في تلك الفترة.

وهنا يمكننا أن نفتح باب السؤال على مصراعيه حول المصدر الذي استقوا منه هذه الفكرة؟ وهل تأثّروا بعقائد شرقيّة؟ هل تأثروا بأفكار مسيحيّة وقاموا باستنساخها بطريقة فجّة أو غير دقيقة؟ كلّ الاحتمالات ممكنة، ولا يوجد شيء يمكن الركون إليه لترجيح أحد الافتراضات دون البقيّة.

2 ـ يُنسب إليهم إنكار القيامة، وقد قلنا سابقاً بأنّ هناك تلازماً عادة في الذهنيّة الكلاميّة الإسلاميّة بين القول بالتناسخ وإنكار القيامة، فكل مَنْ يقول بالتناسخ يُتهم مباشرة بأنّه منكر للقيامة حتى وإن لم يصرّح بذلك؛ لأنّ فكرة التناسخ العامّة التي تقول بها الهندوسيّة تجعل حركة الحياة دائريّةً لا تنتهي في دورانها، ومن ثمّ فلا معنى للقيامة فيها.

3 ـ الإباحيّة المطلقة، ونلاحظ أنّ هذه الفكرة تتكرّر للمرّة الثانية في زمن الإمامَين: الباقر والصادق، وتزداد فكرة الاباحيّة ظهوراً في وسط التيارات المغاليّة، لكن على الرغم من هذه الإباحيّة المطلقة نجدهم ـ كما تنسب إليهم المصادرُ الملليّة ـ حرّموا الختان، ولا ندري ما السبب الذي دفعهم لتحريمه.

في الختام، نحن مع هذه الفرقة نلاحظ ظهوراً سياسيّاً سلطويّاً جديداً، ووضوحاً أكبر في الجانب العقائدي، من خلال فكرة حلول الله والتناسخ، إلى جانبٍ شرعي وهو فكرة الإباحيّة المطلقة. والدمجُ بين هذين الجانبين شكل هويّة الغلوّ في النصف الأوّل من القرن الثاني الهجريّ.

4 ـ المغيريّة

المغيريّة هم أتباع المغيرة بن سعيد البجلّي الذي كان معاصراً للإمام محمّد الباقر، ويمكن أن نختصر الحديث حولهم عبر الآتي:

4 ـ 1 ـ المغيرية وظاهرة الدسّ في كتب الحديث، تطوّر ثقافي معرفي جديد

لقد صدر في المغيرة بن سعيد لعنٌ شديد من كلٍّ من: الإمام جعفر الصادق والإمام علي بن موسى الرضا، وقد نقل ذلك الكشي، ونذكر بعض ما جاء فيه([15]):

الرواية الأولى: خبر زياد بن أبي الحلال، قال: اختلف أصحابنا في أحاديث جابر الجعفي، فقلت لهم: أسأل أبا عبد الله، فلما دخلت ابتدأني، فقال: «رحم الله جابر الجعفي كان يصدق علينا، لعن الله المغيرة بن سعيد كان يكذب علينا».

الرواية الثانية: خبر جعفر بن عيسى وأبي يحيى الواسطي، عن أبي الحسن الرضا×، قال: «كان المغيرة بن سعيد يكذب على أبي جعفر، فأذاقه الله حرّ الحديد».

الرواية الثالثة: مرسل ابن مسكان، عن أبي عبد الله×، قال: سمعته يقول: «لعن الله المغيرة بن سعيد، إنّه كان يكذب على أبي، فأذاقه الله حرّ الحديد، لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا، ولعن الله من أزالنا عن العبوديّة لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا».

الرواية الرابعة: خبر هشام بن الحكم، أنّه سمع أبا عبد الله يقول: «كان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة، ويسندها إلى أبي، ثمّ يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثّوها في الشيعة، فكلّ ما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذاك ما دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم».

الرواية الخامسة: خبر يونس بن عبد الرحمن، أنّ بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر، فقال له: يا أبا محمد ما أشدّك في الحديث، وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك على ردّ الأحاديث؟ فقال: حدّثني هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد الله×، يقول: «لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة، فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى وسنّة نبينا‘، فإنّا إذا حدّثنا، قلنا: قال الله عز وجل، وقال رسول الله‘». قال يونس: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر×، ووجدت أصحاب أبي عبد الله× متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم، فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا× فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله×. وقال لي: «إنّ أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله×، لعن الله أبا الخطاب، وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله×، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فإنّا إن تحدّثنا حدّثنا بموافقة القرآن وموافقة السنّة، إنّا عن الله وعن رسوله نحدّث، ولا نقول: قال فلان وفلان، فيتناقض كلامنا، إنّ كلام آخرنا مثل كلام أوّلنا، وكلام أوّلنا مصادق لكلام آخرنا، فإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه وقولوا أنت أعلم وما جئت به، فإن مع كلّ قول منّا حقيقة وعليه نوراً، فما لا حقيقة معه ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان».

وفي مقام التعليق على الروايتين الأخيرتين نلاحظ لأوّل مرة في التاريخ دخول الغلاة على خطّ وضع الأحاديث، ولأوّل مرّة نلاحظ أنّ الأئمة يركّزون جداً على موضوع الأحاديث، بل نجد ـ وأرجو الانتباه لهذه النقطة ـ أنّ أهل البيت في بعض الروايات التي تدلّ على مرجعيّة القرآن الكريم ـ وهي حوالي 25 رواية ـ كانوا، كما يتضح من سياق هذه الروايات الداخلي، يريدون حماية الشيعة من الروايات التي وضعها الغلاة، وأنّ ذهاب الشيعة إلى مرجعيّة القرآن يمكّنهم من تحقيق الخلاص من إشكاليّة الغلوّ، فكأنّ أهل البيت وضعوا آلة معياريّة بيد الشيعة لمّا غزت الكتب الحديثيّة روايات الغلاة، فقالوا لهم: اعتمدوا مرجعيّة القرآن، فإنّ هذه المرجعيّة تستطيع أن تكشف لكم ـ على الأقلّ بنسبة كبيرة ـ ما فعله الغلاة في الكتب الحديثيّة.

إذن، نحن مع المغيريّة أمام نوع جديد من الغلاة أو أمام مرحلة جديدة، وهي مرحلة دسّ الأحاديث في كتب أصحاب أئمة أهل البيت، لهذا أقول: إنّ المغيريّة مهمة جداً بالنسبة إلى الإماميّة؛ لأنّ المغيريّة متداخلة تداخلاً عجيباً مع موضوع الحديث الإماميّ والرواية الإماميّة([16]). ومع المغيريّة أصبحنا أمام حالة جديدة، وهي حالة ارتباط الغلوّ بالبعد الثقافي وبالبعد المعرفي، وليس فقط ارتباطه بالاعتقادات وبالحياة السياسية والاجتماعية، كونه قد دخل إلى أحد مصادر الاجتهاد، وهو الرواية والحديث الذي نأخذ منه الاجتهاد الكلامي والاجتهاد التاريخي والاجتهاد في تفسير القرآن والاجتهاد الشرعي، وهذه نقطة في غاية الأهميّة.

4 ـ 2 ـ علاقة المغيريّة بالسحر والشعوذة

من الأمور التي تلفت نظرنا ونحن نطالع المنقولات التاريخيّة عن المغيرة بن سعيد ـ وهو بلا شك شخصيّة مثيرة للجدل ـ هو اتّهامه باستخدام السحر والشعوذة. وهذه نقطة تستحقّ التوقف عندها؛ وذلك أنّه:

أ ـ من المحتمل ـ أوّليّاً ـ أنّ خصومهم أرادوا تشويه سمعتهم فصوّروا بعض كراماتهم على أنّها سحرٌ وشعوذة وتضليل للناس، واختلقوا أحاديث في لعنهم وسبّهم، وصوّروا عقائدهم بطريقة مغلوطة.

ب ـ ومن المحتمل في المقابل أنّهم ربما أرادوا أن يظهروا أنفسهم على أنّهم أصحاب كرامات وأنّهم مسدّدون من الله سبحانه وتعالى، ومن ثمّ فهم صادقون فيما يدّعون، فاستخدموا هذه الوسائل لجذب أنظار البسطاء من الناس الذين يتصوّرون أنّ هذه كرامات ومعاجز، إذاً فهم صادقون وعلينا أن نتّبعهم.

وهذه القصّة ـ الكرامات والسحر واالشعوذة ـ رأيناها متكرّرة في توصيف الناس والتيارات عبر التاريخ الإسلامي، مثل الصوفيّة والباطنيّة الإسماعيليّة وغيرهم.

4 ـ 3 ـ من عقائد المغيريّة ومنهجهم

تُنسب للمغيريّة عقائد عدّة، من أبرزها:

1 ـ نبوّة المغيرة: حيث ادّعت المغيريّة أنّ الإمام الباقر إلهٌ، والمغيرة نبي. وفي بعض المنقولات أنّ الباقر إله والمغيرة هو الإمام، فالمغيرة يدّعي ـ وفقاً للمنقولات ـ أنّه نبي أُرسل من قبل الله سبحانه وتعالى، وبالتالي نحن أمام مرحلة نبوّة جديدة، وقد كثرت في تلك المرحلة ـ بحسب ما ينقل لنا المؤرّخون وتنقل لنا المرويّات عن أهل البيت ـ ادّعاءات النبوّة على لسان الغلاة.

2 ـ العلم بالاسم الأعظم وأنّ به يحيى الموتى: وهذا الموضوع مرتبط بموضوع السحر والشعوذة، فقد ادّعوا أنّ لديهم ـ وخاصّة المغيرة بن سعيد ـ العلم بالاسم الأعظم. وموضوع الاسم الأعظم موضوعٌ سجالي كبير في التراث الإسلامي، فالاسم الأعظم هو قوّة إذا علمها الإنسان صار بيده أن يسخّر الطبيعة، وقد ورد عن أهل البيت بخصوص الاسم الأعظم قرابة 13 رواية في الحدّ الأدنى، وقد أشارت هذه الروايات إلى أنّ أهل البيت يملكون 72 حرفاً من حروف الاسم الأعظم الذي هو 73 حرفاً، وهذه الحروف إشارة إلى القدرات التي يملكونها بالتحكّم في الطبيعة([17]).

كان الاعتقاد أنّ المغيرة بن سعيد نبيّ وهو يعلم الاسم الأعظم داعياً بشكل تلقائي للقول بأنّه كان يحيي الموتى، أي أنّه كان يمارس إحياء الموتى ببركة الاسم الأعظم، وهذا معناه ـ إذا صحّ هذا الأمر وكان المغيرة يحي الموتى وهو مدّعياً للنبوّة ـ أنّه على قواعد علم الكلام يجب الإيمان بنبوّته، فما الفرق بينه وبين سائر الأنبياء من هذه الجهة؟

أعتقد أنّ هذا هو السياق الذي جاءت فيه قضيّة السحر والشعوذة، فاتُّهم بأنّه يفبرك بعض الأشياء على البسطاء ليتصوّروا أنّه فعلاً كان يحيي الموتى.

3 ـ تجسيم الله وأنّ له بدناً كالبشر: ربما فكرة تجسيم الله التي نجدها عند بعض فرق الغلاة ومنهم المغيريّة تلتقي مع فكرة الحلول، وكأنّهم أرادوا أن يبرّروا فكرة الحلول، ومن ثمّ تأليه أشخاص بشريّين عبر فكرة تجسيم الله، فإذا كان الله سبحانه وتعالى جسماً فمن الممكن أن يكون هو محمّد الباقر أو جعفر الصادق، فيكون الحلول ـ مع الإشارة إلى أشخاص بأعيانهم وادّعاء الألوهيّة لهم ـ منسجماً مع موضوع التجسيم، وعلينا أن نتوقّع أيضاً أنّ هؤلاء من الممكن جداً أنّهم فعلاً قالوا بالتجسيم.

4 ـ رجعة جميع الأموات للدنيا.

5 ـ استخدام منهج التأويل الباطني.

4 ـ 4 ـ المغيريّة والنشاط السياسي والثوري

لم تكتفِ المغيريّةُ بالدعوة الدينية، ولم تقصر نشاطها على البعد العقائدي والفكري، بل شاركت بوضوح في النشاط السياسي، ففي عام 119هـ أطلقوا ثورةً ضدّ الأمويّين، بزعامة المغيرة بن سعيد نفسه، ومعه بعض الغلاة الآخرين أمثال بيان بن سمعان، وهذا يعني أنّهم انتقلوا من الجانب الاعتقادي إلى النشاط السياسي المعارض للسلطة الأمويّة، لكنّ ثورتهم هذه لم يكتب لها النجاح بل وُلدت ميتة؛ لأنّ والي العراق خالد بن عبد الله القسري اعتقلهم جميعاً، ثمّ أمر بإحراقهم، وكان منهم المغيرة بن سعيد وبيان بن سمعان، وقيل: إنّ المغيرة كان خائفاً جداً وهو يُلقى في النار على عكس بيان بن سمعان الذي كان أكثر رباطة جأش وشجاعة منه.

4 ـ 5 ـ المغيريّة ما بعد المغيرة

بعد مقتل المغيرة بن سعيد عام 119هـ نسب المغيريّةُ أنفسهم إلى ابنه، واعتقدوا أنّه هو الخليفة من بعده، ثم بعد ابنه انتسبوا لمحمّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (النفس الزكيّة) الذي خرج في زمن المنصور وقُتل عام 145هـ، واعتبروا أنّ النفس الزكية هو المهديّ المنتظر، ولما قُتل قالوا بأنّه لم يمت وأنّه يعيش في جبال حاجز، وسيخرج في آخر الزمان يملؤ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وأنّ الذي قتل مكانه هو شيطان شُبّه به، وكأنّهم أعادوا إنتاج النسخة التي قدمها القرآن عن عمليّة صلب المسيح.

5 ـ البيانيّة أو السمعانيّة

يمكننا اختصار الحديث عن فرقة البيانيّة بالنقاط الآتية:

5 ـ 1 ـ مؤسّس الفرقة

تأتي هذه الفرقة على سياق الفرقة السابقة (المغيريّة)، فقد تأسّست البيانيّة أو السمعانيّة على يد شخصٍ اسمه بيان بن سمعان التميمي النهدي التبّاني. وبعض المصادر تذكر أنّ اسمه بنان بن سمعان التميمي، والمرجّح هو الاسم الأوّل، وكان من الذين رافقوا المغيرة بن سعيد، لكنّه لم يكن من أتباعه، وإنّما من المتحالفين معه في ثورته عام 119هـ.

5 ـ 2 ـ موقف أهل البيت من بيان بن سمعان

ورد في حقّ بيان بن سمعان لعنٌ من أئمّة أهل البيت، ونذكر هنا بعض الروايات الواردة بهذا الخصوص، والتي نقلها الكشي([18]):

الرواية الأولى: خبر زرارة بن أعين، عن أبي جعفر الباقر، قال: سمعته يقول: «لعن الله بنان البيان، وإنّ بناناً لعنه الله كان يكذب على أبي، أشهد أنّ أبي علي بن الحسين كان عبداً صالحاً».

الرواية الثانية: خبر بريد العجلي، عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ). قال: «هم سبعة: المغيرة بن سعيد، وبنان، وصائد، وحمزة بن عمارة الزبيدي، والحارث الشامي، وعبد الله بن عمرو بن الحارث، وأبو الخطاب».

الرواية الثالثة: خبر جعفر بن عيسى بن عبيد وأبي يحيى الواسطي، قال، قال أبو الحسن الرضا: «كان بنان يكذب على عليّ بن الحسين فأذاقه الله حرّ الحديد».

5 ـ 3 ـ من عقائد البيانيّة

قبل الدخول في بيان عقائد بيان بن سمعان، نشير إلى استفهامٍ سريع، وهو هل بيان بن سمعان هو الذي صاغ عقائد البيانيّة التي سنذكرها الآن أو يمكن الادّعاء بأنّ أنصاره من بعده هم الذين صاغوا هذه العقائد؟ من الواضح أنّنا لا نملك أدلّةً أو وثائق ترجّح إحدى الفرضيّتين، ولا يمكن إلّا أن نقول بأنّ كلتا الفرضيّتين محتمل.

1 ـ بيان بن سمعان وصيّ أبي هاشم عبد الله بن محمّد بن الحنفية: ادّعى بيان أنّ أبا هاشم ـ قلنا سابقاً بأنّه شخصيّة محوريّة في حياة الغلاة بعد الكيسانيّة ـ جعله وصيّاً من بعده، وبهذه الوصيّة يكون امتداداً لسلسلةٍ تبدأ من الإمام علي بن أبي طالب، ثمّ محمد بن الحنفيّة، ثمّ أبي هاشم، وتنتهي ببيان بن سمعان.

2 ـ ادّعاء النبوّة: تذكر بعض المصادر أنّ بياناً ادّعى النبوّة، وهنا تظهر الصورة المغالية له بوضوح، فقد كان يقول بأنّه مذكورٌ في القرآن الكريم، وبالتحديد في قوله تعالى: (هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ) (آل عمران: 138). باعتبار أنّ كلمة بيان في الآية تشير إلى اسمه، وليست صفةً للقرآن الكريم، بل وأرسل رسالة للإمام محمّد بن علي الباقر يدعوه فيها لاتّباعه؛ لأنّه نبيّ، وهذا يدلّ على عدم اعتقاده بإمامة الباقر، بل حتى على افتراض كون الباقر إماماً من أئمّة أهل البيت عند بيان بن سمعان فإنّ اعتقاد بيان بنفسه نبيّاً كافٍ ـ من وجهة نظره ـ ليدعوه لاتّباعه. وهذا الأمر يؤكّد أنّ مثل هذه الفرق لم تكن منبثقة من الإمام محمد الباقر ولا من الإمام جعفر الصادق ولا من سائر الأئمّة.

3 ـ الحلول: فمن الأفكار التي يطرحها بيان بن سمعان، حلول روح الله في الإمام عليّ، ثم انتقالها إلى محمد بن الحنفيّة، ثم إلى أبي هاشم، وأخيراً إلى بيان بن سمعان. وهذه الفكرة وجدناها عند أكثر من فرقة من فرق الغلاة وكيفيّة التوليف بين الحلول والتناسخ في إثبات اتصالهم بالعالم الغيبي وصدق دعواهم.

4 ـ التجسيم: تقول البيانيّة بأنّ الله سبحانه وتعالى جسمٌ، ليس هذا فحسب، بل إنّه سيفنى يوم القيامة ولا يبقى منه إلّا وجهه، مستندين في ذلك إلى الآية المباركة: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (القصص: 88).

5 ـ القول بأنّ إله السماء غير إله الأرض: وهذه الفكرة ليست من مخترعات البيانيّة، بل بعض الفرق الإسلاميّة الأخرى كانت تقول بوجود إلهين: إله أعظم وهو الموجود في السماء، والإله الذي على الأرض، مستندين إلى الفهم الحرفي لآية: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (الزخرف: 84). فاعتقدوا بأنّ هناك إلهين، إله في السماء وهو الله الأعظم وإله على الأرض، ونحن على احتكاك بإله الأرض، ومن ثمّ فعلاقتنا ليست فقط مع إله السماء، بل أيضاً مع إله الأرض.

إنّ فكرة وجود إله في السماء وآخر في الأرض في غاية الخطورة، وهي تلتقي مع فكرة الوسائط، عندما تعتبر أنّ العلاقة يجب أن تكون مع إله الأرض؛ لأنّ إله السماء مرتفع، وهذا ما يجعل الغلاة يركّزون على العلاقة بإله الأرض أكثر من تركيزهم على إله السماء.

ويذكر لنا الكشي ردّاً من الإمام جعفر بن محمد الصادق على هذه الفكرة التي قالت بها البيانيّة، يصرّح الإمام فيه بلعن بيان بن سمعان على مقالته هذه، وهذا نصّ الرواية التي ينقلها الكشي عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله قال: «إنّ بناناً والسري وبزيعاً لعنهم الله تراءى لهم الشيطان في أحسن ما يكون صورة آدمي من قرنه إلى سرّته». قال: فقلت: إنّ بناناً يتأوّل هذه الآية: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أنّ الذي في الأرض غير إله السماء، وإله السماء غير إله الأرض، وأنّ إله السماء أعظم من إله الأرض، وأنّ أهل الارض يعرفون فضل إله السماء ويعظّمونه، فقال: «والله ما هو إلا الله وحده لا شريك له، إله من في السماوات وإله من في الأرضين، كذب بنان عليه لعنة الله، لقد صغّر الله جلّ وعزّ وصغّر عظمته»([19]).

وقبل أن ننتقل إلى الفرقة اللاحقة نشير إلى أنّ في المرويّات الشيعيّة وبعض المنقولات التاريخيّة ما يشي بأنّ عمليّة وضع الأحاديث على لسان الإمامَين: الباقر والصادق، لم تكن منحصرة في المغيريّة، بل كان بيان بن سمعان وجماعته مشتركين فيها، وكأنّ هناك تحالفاً بين الجماعتين تعملان سويّةً في التأثير على أنصار الإمامَين الباقر والصادق، وجذبهم من خلال الكتب التي كانوا يقرأونها في بيوتهم.

6 ـ المنصوريّة أو الكِسفيّة

أبرز ما يمكننا ذكره باختصار حول هذه الفرق هو الآتي:

6 ـ 1 ـ لمحة تاريخيّة حول فرقة المنصوريّة

المنصوريّة أو الكِسفيّة هم أتباع أبي منصور بن عجل الكوفي، وهو رجلٌ أميٌّ لا يعرف القراءة والكتابة، فقد نشأ في البادية ولم تكن له علاقة بأهل الحضر والمدن. وتعدّ المنصوريّة من فرق الغلاة المثيرة للجدل.

في بادئ الأمر، ادعى أبو منصور أنّ الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين قد نصبه للإمامة بعد ابنه الإمام محمّد الباقر، وقد أطلق دعواه هذه بعد وفاة الإمام الباقر، وبهذا الشكل يكون النصّ على إمامته قد جاء من الإمام عليّ بن الحسين مباشرةً، وليس من ولده محمّد الباقر، في حين توجد منقولات تاريخيّة أخرى تشير إلى أنّ الإمام الباقر هو مَن نصبه للإمامة بعده ـ حسب ادّعائه ـ وعلى أيّ حال فهذا الموضوع يتعلّق بالإمامة، وليس له علاقة بالغلوّ بالمفهوم الذي نعالجه هنا.

لكنّ الشيء الذي يُدخل المنصوريّة في فرق الغلاة بشكلٍ واضح هو ادّعاء أبي منصور النبوّةَ للأئمّة الخمسة الأوائل من أهل البيت: علي والحسن والحسين وعليّ بن الحسين زين العابدين ومحمّد الباقر. ولم يكتفِ بالقول بنبوّة الأئمّة، بل ادّعى لنفسه النبوّة ليكون النبيَّ السادس بعد هؤلاء الخمسة، ثمّ ادّعى أنّ ستةً من أولاده ـ أي ابنه وأحفاده ـ سيكونون أنبياء من بعده، وآخرهم هو القائم.

إذا دقّقنا النظر في هذا الترتيب الذي يطرحه العجلي، سنجد حضوراً واضحاً لفكرة الاثني عشر، والذي يبدو أنّه قام بتكييف فكرة الاثني عشر ـ التي كانت حاضرة في تلك الفترة ـ لصالحه، عبر إحداث تغيير جوهري عليها، بأن جعل الاثني عشر أنبياء وليسوا أئمّة، فهو دخل إلى فكرة الاثني عشر وقام بإعادة إنتاجها على صورة النبوّة، وهذا التحوّل يجعله في سياق الغلاة حيث يدّعي النبوّة.

كان للعجلي سياسة خاصّة في قيادة أتباعه وفي التعامل مع المخالفين له، حيث كان يعتمد مع خصومه سياسة الاغتيال، وكان يحضّ أنصاره على اغتيال الأشخاص المخالفين لهم، باعتبارهم كفّاراً ومشركين، ويأمرهم بسلب أموالهم. وفي المقابل كان يعطيهم خمس الأموال المسلوبة تشجيعاً لهم على ما قاموا به، فكأنّه اعتبر أموالهم غنائم حرب، وكان يقول: هذا جهادٌ خفيّ. وبهذا يسبق العجليُّ العديدَ من حركات الاغتيال في التاريخ الإسلامي، والتي جاء على رأسها ما يعرف ـ وفق التسمية الغربيّة ـ بحركة الحشاشين، التي قادها حسن الصباح (518هـ) وأدّت إلى اغتيال شخصيّات كبيرة، منها أبو علي الحجسن بن علي الطوسي، المعروف بنظام الملك (485هـ) في الدولة السلجوقيّة.

ورد لعن العجليّ على لسان الإمام جعفر الصادق مراراً وتكراراً، كما ورد التحذير منه ومن جماعته، فعن حفص بن عمرو النخعي، قال، كنت جالساً عند أبي عبد الله، فقال له رجلٌ: جعلت فداك، إنّ أبا منصور حدّثني أنّه رفع إلى ربّه وتمسح على رأسه، وقال له بالفارسيّة: «يا پسر». فقال له أبو عبد الله: «حدّثني أبي، عن جدّي أنّ رسول الله قال: إنّ إبليس اتخذ عرشاً فيما بين السماء والأرض، واتخذ زبانية كعدد الملائكة، فاذا دعا رجلاً فأجابه ووطئ عقبه وتخطّت إليه الأقدام، تراءى له إبليس ورفع إليه، وإنّ أبا منصور كان رسول إبليس، لعن الله أبا منصور، لعن الله أبا منصور ثلاثاً»([20]).

6 ـ 2 ـ من عقائد المنصوريّة

1 ـ إيحاء جبريل لابي منصور: ادّعى أبو منصور العجلي أنّ جبرائيل أوحى له، وهذا الأمر طبيعيّ في سياق دعواه النبوّة، لكن ما يستدعي التساؤل هو كيف فسّر أبو منصور خاتميّة النبوّة والرسالة على يد النبي محمّد‘؛ لأنّ الخاتميّة ـ وكانت متداولة بشكلٍ أو بآخر في ذلك الوقت ـ تتعارض مع ادّعاء النبوّة بعد رسول الله. من هنا نلاحظ بعض المنقولات التي قد تصلح جواباً عن هذا السؤال، حيث تشير إلى اعتقاده بعدم انقطاع الرسل أبداً، والرسالة كذلك لا تنقطع، لكنّ مفهومه للرسول يختلف عن الفهم الإسلاميّ العام له([21]).

2 ـ محمّد رسول التنزيل والعجلي رسول التأويل: يفرّق أبو منصور العجلي بين نوعين من الرسل:

الأوّل: رسول التنزيل، وهو رسول الله محمّد، ولا يوجد بعد محمد رسول تنزيلٍ آخر، فهو خاتم رسل التنزيل.

الثاني: رسول التأويل، وهذا النوع من الرسل مستمرّ. والعجلي نفسه رسولُ هذا النوع في وقته.

لقد ابتكر العجلي بهذه الفكرة سلالتين للنبوّات والرسالات: سلالة التنزيل التي تنتهي بمحمّد، وسلالة التأويل التي لا تنتهي به، بل تستمرّ من بعده في الأئمّة الخمسة الأوائل من أهل البيت، ومن بعدهم العجلي سادساً، ثم ستة من أولاده، آخرهم سيكون القائم الذي هو أيضاً رسولُ تأويل.

إذن، أمّن هذا التمييز للعجلي بين نوعين من النبوّات والرسالات مساحةً تعطيه مجال ادّعاء النبوّة من جهة، وتمييز دوره عن دور الرسالة المحمّدية من جهة ثانية، ومن ثمّ لا يوجد تعارض ولا تنافٍ فيما يدّعيه ونبوّة النبي محمد، ربما بهذه الطريقة يتمّ تخفيف خطورة فكرة ادّعاء النبوّة.

3 ـ آل محمّد السماء، وشيعتهم الأرض، والعجلي الكسف([22]) التي تنزل من السماء: هذه فكرةٌ أخرى تطرحها الفرقة المنصوريّة، أي كأنّما أبو منصور العجلي هو الرابط بين السماء والأرض. وبمعنى آخر هو حلقة الوصل بين آل محمّد وشيعتهم، ولهذا أُطلق عليهم الكِسفيّة، بل ذهب العجليّ بعيداً عندما ادّعى لنفسه العروج إلى السماء، وأنّ الله سبحانه وتعالى مسح على رأسه وأنزله إلى الأرض ليبلّغ عنه تعالى، ففكرة صعوده إلى السماء ونزوله إلى الأرض جعلتهم يسمَّون بالكِسفيّة.

4 ـ أوّل ما خلق الله عيسى ثمّ عليّ: هذا موضوع يستحقّ التوقف عنده كثيراً، ويجعلنا أمام مجموعة من التساؤلات: لماذا قال أبو منصور بأنّ أوّل من خلقه الله هو عيسى ولم يقل بأنّه محمّد المصطفى؟! هذا يدفعنا للتفكير في مدى تأثر أفكارهم بشكل أو بآخر بمقولات لاهوتيّة مسيحيّة في بلاد الشرق، وإلّا فمن الغريب إقحام اسم عيسى هنا! فالعجلي يعيش في فضاء إسلاميّ ومنظومة إسلاميّة وقادر على أن يجعل منظومة الوجود مرتبطةً بالنبيّ محمد، إذاً، ما السرّ في استبعاد النبيّ محمّد ثمّ الربط بين علي وعيسى؟ هذا الشيء يعطينا مساحة للتأمّل في علاقة هؤلاء أو تأثرهم بمقولات مسيحيّة.

5 ـ لا تخلو الأرض من نبيّ: هذه الفكرة مشابهة لفكرة «لا تخلو الأرض من حجّة» والتي وردت في بعض روايات أهل البيت، لكنّ المنصوريّة يذهبون إلى أنّ الحجّة هذا نبيّ، ولهذا هم يدّعون أنّ هناك اثنا عشر نبيّاً بعد النبيّ محمّد، فكأنّ تصوّرهم كان قائماً على أنّ النبوّةَ لا يمكن أن تنقطع، ولا بدّ من استمرارها، غايته أنّ نبوّات التنزيل قد انتهت، لكنّ نبوّات التأويل تبقى مستمرة.

ويخيّل لي أنّ هؤلاء ربما لم يميّزوا بين الإمامة والنبوّة، فتصوّرهم للإمامة جعلهم يدركون أنهم يمنحون الإمام مقام النبوّة في الواقع ونفس الأمر، ولهذا اعتقدوا أنّ ما جاء بعد رسول الله من سلسلة الاثني عشر هي عبارة عن أنبياء.

6 ـ الجنّة والنار ليستا إلا رجلاً يجب حبّه أو بغضه: الجنة هي أهل البيت، والنار هم أعداء أهل البيت، وهذا ما أشرنا إليه سابقاً من تفريغ المقولات القرآنية وإعادة إنتاجها في سياق الصراع المذهبي، واعتماد تفسير يصبّ في صالح الجدال الطائفيّ بين الفرق الإسلاميّة، فلم يعد هناك جنّة ونار، وإنّما تحوّلت إلى رجال يجب حبّهم أو بغضهم وهذه الفكرة نفسها رأيناها سابقاً مع بعض الفرق المغالية، وسنراها لاحقاً مع فرقٍ أخرى.

7 ـ الإيمان بالإباحيّة: كان أبو منصور العجلي يعتقد أنّ كلّ النساء حلال، وأنّ الواجبات والمحرّمات المذكورة في القرآن هي كلّها أسماء أشخاص تجب ولايتهم أو أسماء أشخاص تحرم ولايتهم، ومن ثمّ فإنّ منظومة الشريعة الإسلاميّة ـ وفق هذه التصوّرات ـ ليست إلّا عبارة عن انعكاس لمنظومة لاهوتيّة كلاميّة، وليس لها وجود في عالم تنظيم الحياة الدنيويّة.

6 ـ 3 ـ نهاية العجلي على يد الدولة الأمويّة

مما ذكرناه يتضح مدى خطورة الأفكار التي كانت تنادي بها المنصوريّة، وفي بعض جزئياتها بدت متطوّرة أكثر من أفكار المغيريّة من قبل، لكنّها أيضاً لم تدم طويلاً، فقد حاول والي العراق خالد القسري اعتقال أبي منصور العجليّ لكنّه هرب، وفيما بعد استطاع الوالي اللاحق يوسف بن عمر الثقفي اعتقال العجلي، ثمّ قَتَلَه صلباً في أيّام هشام بن عبد الملك الذي حكم بين 105 ـ 125هـ.

6 ـ 4 ـ الانشعابات الفِرقيّة للمنصوريّة بعد مقتل العجلي

لم يكن مقتل العجلي ليمثّل الفصل الأخير من تاريخ هذه الفرقة، فقد ظلّت تخرج فرقٌ أخرى متولّدة منها، وعلى سبيل المثال ظهرت:

أ ـ فرقة الحسينيّة، وهم الذين كانوا يؤمنون بنبوّة ابنه الحسين، وكان له أنصار كثر، وكان مصيره مصير أبيه، فقد أُعدم من قبل الدولة العباسيّة، وتمت مصادرة أموال هائلة كانت عنده، وهذا يكشف أنّ هذه الفرقة كانت تملك مصدراً مالياً ضخماً، وربما لم ينقطع حتى بعد وفاة العجليّ الأب.

ب ـ فرقة المحمديّة، وهؤلاء لم يؤمنوا بابنه الحسين، وإنّما آمنوا بـ "النفس الزكية" محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وادّعوا أنّ الإمام الباقر نصب أبا منصور، ثم نصب بعده النفسَ الزكيّة، وبعد مقتل النفس الزكيّة قالوا بأنّه لم يمت، وإنّما غاب وسيرجع في آخر الزمان يملئ الأرض قسطاً وعدلاً.

7 ـ الخطّابيّة، والجماعة الأكثر خطورة في تاريخ الغلوّ

تعتبر الخطابيّة واحدة من أخطر الفرق في تاريخ الغلوّ، فقد كانت بزعامة محمّد بن مقلاص الأسدي الكوفي البزّاز، المعروف باسم أبي الخطاب، وهو من الموالي من أصحاب الإمام الصادق، ثمّ انحرف عنه.

تصنّف الخطابيّة ـ وفقاً لكثير من الباحثين ـ أكثر فرق الغلاة خطورةً، ليس في الأفكار فحسب، بل في قدراتهم التأثيريّة على حركات الغلوّ التي جاءت بعدهم، فقد ذكر المقريزي (845هـ) في "الخطط المقريزيّة" أنّ عدد الفرق التي ترجع إلى أبي الخطاب خمسون فرقة من أصل ثلاثمئة فرقة تنقسم إليها الشيعة([23])، وعلى الرغم من مبالغته في تقسيم الشيعة إلى هذا العدد الهائل من الفرق، لكنّ خلف هذه الأرقام تكمن حقيقة أنّ الخطابيّة تركت أثراً كبيراً على الاتجاهات المغالية اللاحقة.

7 ـ 1 ـ نبذة مختصرة عن تاريخ الخطّابية وتأثيرهم

جاء ظهور الخطابيّة في بداية الدولة العباسيّة، وبالتحديد في زمن المنصور العباسيّ، فبعد أن شعر والي الكوفة عيسى بن موسى العباسي بخطورة هذه الجماعة، والتفاف كثير من الناس حولهم، وأنّهم يدعون إلى نبوّة أبي الخطاب وأباحوا المحظورات، أمرَ جنودَه بالإتيان بهم له فامتنعوا وحاربوه، وكانوا قد لزموا مسجد الكوفة، فحوصروا داخل المسجد وكان عددهم بالعشرات، وهم نخبة الفرقة الخطابيّة وأقطابها، حيث قتلوا جميعاً، ولم ينج منهم سوى شخص واحد أصيب بعدّة جراحات، وسقط مع القتلى، فظنّوا أنّه قُتل كما البقية، وهذا الشخص هو واحد من أكبر الرواة في الكتب الحديثيّة الشيعيّة الإماميّة، ومن أكبر الثقات عندهم، وله روايات كثيرة في مصادر الحديث وفي الكتب الأربعة، وكان موالياً لأبي الخطاب، لكنّه بعد نجاته من الموت تاب وعاد إلى الإمام الصادق، واسم هذا الشخص أبو خديجة سالم بن مكرّم الجمّال الراوي الثقة المعروف، فهو الناجي الوحيد، وعملياً التائب الوحيد في المجموعة التي قُتلت في مسجد الكوفة([24]).

تكمن خطورة الخطابيّة في أنّهم كانوا يمثلون الموجة الثانية من موجات الدسّ في الأحاديث، وقد اشتهروا كثيراً بدسّ الأحاديث في كتب الشيعة، ووردت عدّة روايات تبين قيامهم بعمليّة الدسّ هذه، كما ورد لعنهم من طرف الإمام الصادق ولاحقاً من الإمام الرضا. وهذا يؤكّد استمرار تأثير هذه العمليّات من الدسّ والتزوير في الأحاديث الشيعية إلى زمن الإمام علي بن موسى الرضا، وكما أشرنا سابقاً فإنّ تأثيرات هذه الفرق امتدّ إلى القرن الثالث من الهجرة، فكان الإمام الرضا يقول: لعن الله أبا الخطاب وأصحاب أبي الخطاب يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله.

كانت عملية الدسّ هذه تتمّ ـ حسب قول علماء الحديث والرجال والمتخصّصين في التراث الحديثيّ الشيعيّ ـ بطريقةٍ تسمّى "الوضع على الثقات"، وسنشرح هذه الآلية بشكل مبسّط حتى يسهل تصوّرها: في ذلك الوقت لم تكن قد وجدت المطبعة بعد، وكان نَسخُ الكتب يتمّ بالاستنساخ اليدوي، وكان الصحّافون أو الورّاقون هم الذين يقومون بترتيب هذه الكتب، فكان أتباع أبي الخطاب يأخذون الكتب التي فيها روايات عن الإمام الباقر أو الإمام الصادق، ثمّ يقومون بإعادة نسخها مع إضافة ما يريدون إضافته، وجعل هذه الإضافة على لسان الإمام، فمثلاً يوجد كتاب لأبان بن تغلب ـ وهو من ثقات أصحاب السجاد والباقر والصادق ـ يقول فيه: حدّثني الباقر أو سمعت الباقر أو ينقل عن الباقر بواسطة واحدة، فيأخذ الخطابيّة نسخة الكتاب الأصلي، ثم يعيدون استنساخها، وفي أثناء عمليّة النسخ هذه يضيفون بعض الروايات، وكأنّ أباناً هو الناقل لها، وهو الذي سجّلها في كتابه، وبما أنّ أبان من مشاهير الشيعة وثقاتهم فستكون الروايات الموجودة داخل كتابه مطمأنّاً بصدورها عن الإمام، ومن ثمّ الاعتقاد بها أو العمل وفقها، وقد فعلوا هذا الأمر في عصر الإمام الصادق وفعلوه بكتب أصحاب الإمام الباقر أيضاً، وقد كانوا ـ أصحاب الباقر ـ في وقتها كباراً في السنّ أو متوفّين، فتنتشر الكتب بين الشيعة، فلا يقدر الناسُ على التمييز بين الروايات الأصليّة والموضوعة، ولم تكن هناك عمليّات حفر دقيقة جداً تسمح بضبط النسخ، وهذه الطريقة في وضع الأحاديث موجودة بغزارة عند السنّة والشيعة معاً.

أحياناً يُنسب كتاب كامل لشخصٍ لم يقم بتأليفه من الأساس، فمثلاً يقوم شخص بتأليف كتاب يحتوي المضامين التي يريدها، ويكتب في المقدّمة: إنّ هذا الكتاب هو من تأليف زيد أو عمرو، ممن يريد مؤلّف الكتاب الحقيقي أن ينتشر باسمه؛ نظراً لثقة الناس به أو بعلمه، فيكون أفضل طريق لنشر أفكاره نشرها على لسان مَن يأخذ الناس كلامَه ويصدّقون قوله، وعمليّة تزوير نسبة الكتب إلى مؤلفيها لم يكن يوجد من يقدر على ضبطها في السوق آنذاك، فيكون انتشارها لا مناص منه، ففي تلك الفترة كانت هذه الطريقة تنطلي على الناس بسهولة، وهنا نفهم لماذا كانت حركة أئمّة أهل البيت ـ ولا سيّما الإمام الباقر والصادق، وصولاً إلى عصر الإمام الرضا ـ شديدة جداً، وتحذّر باستمرار من عمليّة الدسّ والتزوير على لسانهم، أي إنّها أشبه ما تكون بإعلان حالة الطوارئ بسبب عمليّة الدسّ في الأحاديث التي شكّلت تهديداً خطيراً للثقافة الشيعيّة، حيث لا تدري الناس.

نعم، من الجائز معرفة بعض النخب بالحقيقة، وقدرتها على التمييز الصحيح عن السقيم، لكنّ الأعمّ الأغلب من الناس لا يستطيعون التمييز من دون توجيه وإرشاد من أئمّة أهل البيت، وقد أخذ الأمر وقتاً غير قليل حتى أصبحت عمليّات التزوير التي من هذا النوع أقلّ وإمكانيّة اكتشافها أسهل.

7 ـ 2 ـ من عقائد الخطابيّة

1 ـ ألوهيّة الإمام الصادق بصورته الملكوتيّة دون الناسوتيّة: أهمّ أفكار الخطابيّة كانت القول بألوهيّة الإمام جعفر الصادق، لكنّهم لم يطرحوا هذه الفكرة بنفس الصيغة التي طرحتها بعض فرق الغلاة السابقة، بل كانوا أكثر تطوّراً من هذه الناحية، فميّزوا بين صورتين للإمام الصادق، الأولى: صورة ملكوتيّة، وفيها تكمن ألوهيّته، والثانية: صورة ناسوتيّة. فشخص الإمام الصادق بجسده وحضوره المادي ليس إلهاً، لكن لديه صورة ملكوتيّة هي التي تكون محلّ الألوهيّة.

إذا صحّ هذا القول عنهم، فهذا معناه أنّ هؤلاء جماعة ليسوا بسيطين، وربما يكونون قد تأثروا بالتجربة المسيحيّة أو استلهموا فكرتهم من اللاهوت المسيحيّ، فهذا التمييز نجده في المنظومة الفكريّة المسيحيّة في التفريق بين عيسى الملكوتيّ وعيسى الناسوتيّ، وأنّ ألوهيّته في بعده الملكوتيّ دون الناسوتيّ.

وفي تقديري، إنّ لدى هذه الجماعة ذكاءً خاصّاً، وكأنّهم أرادوا أن يفرّوا من فكرة الحلول والتجسيد، فاعتبروا أنّ هذا الجسد الذي في الخارج ليس له علاقة بالألوهيّة لكن الذي له علاقة هو وجود الملكوت في هذا الجسد الذي هو جعفر الصادق. وهذا الأمر إن دلّ على شيء فهو يدلّ على تطوّر في عمليّة صياغة الأفكار اللاهوتيّة عندهم.

2 ـ أبو الخطاب وصيّ الصادق: لم تكتف الخطابيّة بالقول بوصاية أبي الخطاب عن الإمام الصادق، بل في بعض المرويّات أنّه أصبح نبيّاً والصادق إلهاً، وبعد موت أبي الخطاب قالوا: صار من الملائكة.

3 ـ القول بالتناسخ: وهي من الأفكار التي نراها تتكرّر باستمرار مع الفرق المغالية.

4 ـ الإباحيّة المطلقة: وهي من أشهر العقائد التي تُنسب للخطابيّة، حيث يعتبرون القول بأنّ الواجبات والمحرّمات الواردة في الكتاب والسنّة أسماء رجال هو معنى التخفيف على أمّة محمّد، وعليه فلم يعد شيء اسمه حلال وحرام، فكلّ منظومة الحلال والحرام صارت رجالاً، أي أصبحت جزءاً من دائرة الاعتقاد، وهم بذلك يقتربون من بعض الأفكار المسيحيّة التي كانت تستخفُّ بالعمل وتركّز على مفاهيم الإيمان والحبّ والأمل.

5 ـ تجويز شهادة الباطل ضدّ المخالفين: هذا القول لم يُنسب بشكل صريح إلّا للخطابيّة، وهو أنّهم كانوا يجيزون شهادة الباطل ضدّ المخالفين لهم، سواء في قضيّة دينيّة أم دنيويّة، وهي نفس فكرة بهتان أهل البدع تقريباً، ولكنّها كانت صريحة عندهم، بل يمكن عدّها من معالمهم البارزة.

وعلى أي حال، يعتقد بعض الباحثين أنّ أفكار الخطابيّة لم تنفذ إلى الجسم الإماميّ بفضل جهود أئمّة أهل البيت، وبدلاً عن الجسد الإماميّ ذهبت وتسرّبت بقوّة إلى المذهب الإسماعيليّ أو إلى بعض الفرق الإسماعيليّة على الأقل.

7 ـ 3 ـ من انشعابات الخطّابية اللاحقة

بعد مقتل أبي الخطاب وأصحابه في الكوفة، ظلّ له بعض الأنصار، فظهرت بعده عدة جماعات صغيرة منها:

1 ـ فرقة البزيعيّة: وهم أصحاب بزيع بن موسى الحائك ـ نسبةً إلى مهنة الحياكة ـ الذي عاش في عصر الإمام الصادق، وكان موالياً للخطابيّة وللمغيريّة. وقد صدرت من الإمام الصادق عدّة مواقف رافضة لهذا الشخص ولأفكاره، ولعنه الإمام في أكثر من مناسبة، بل أمر بقتله، كما جاء عن ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله×: إنّ بزيعاً يزعم أنّه نبيّ؟ فقال: «إن سمعته يقول ذلك فاقتله». قال: فجلست له غير مرّة، فلم يمكنّي ذلك([25]). وفي رواية أخرى أنّ الصادق شكر الله على مقتله، وهي الرواية التي ينقلها ابن أبي يعفور قال: دخلت على‌ أبي عبد الله×، فقال: «ما فعل بزيع؟» فقلت له: قُتل. فقال: «الحمد لله، أما إنّه ليس لهؤلاء المغيريّة شيءٌ خيراً من القتل؛ لأنّهم لا يتوبون أبداً»([26]).

2 ـ فرقة العميريّة أو العجليّة: وهم جماعة عمير بن بيان العجلي، وقد نصبوا خيمة في محلّة الكناسة بالكوفة لعبادة الصادق، فهجم عليهم يزيد بن عمر بن هبيرة واعتقلهم، ثمّ أعدمهم.

3 ـ المعمّريّة: أصحاب معمر بن خيثم أو بن أحمر، عبدوا أبا الخطاب، وقالوا بالتناسخ والإباحيّة وبنبوّة أبي طالب، وهذه من البدايات القديمة للقول بنبوّة أبي طالب، وموجودٌ بين بعض الشيعة إلى يومنا هذا كلامٌ حول نبوّة أبي طالب.

4 ـ البشاريّة (الشعيرية ـ العليائيّة): وهي من الفرق المنشعبة من الخطابيّة، وهم أتباع بشّار الشعيري، عاش في زمن الصادق والكاظم، وتوفي عام 180هـ. انفصل عن المخمّسة القائلين بألوهيّة خمسة هم أصحاب الكساء، وقالوا في سبب تسميتهم: لأنّه ـ أي بشار الشعيري ـ أنكر ألوهيّة الخمسة فمُسخ على صورة طير مائي اسمه العلياء أو العلباء، فسمّوا بهذا الاسم.

وعقائدهم: ألوهيّة عليّ، ومحمدٌ رسولُه، وألوهيّة الصادق، والتناسخ والإباحيّة. وقد لعنهم الصادق بقوّة حيث نقل الكشي بسنده عن المدائني، عن أبي عبد الله، قال: قال لي: «يا مرازم، مَن بشّار؟» قلت: بيّاع الشعير؟ قال: «لعن الله بشّاراً». قال: ثم قال لي: «يا مرازم، قل لهم: ويلكم! توبوا إلى الله، فإنّكم كافرون مشركون»([27]).

8 ـ البشيريّة (أو غلاة الواقفة)

هم أتباع محمّد بن بشير أحد أصحاب الإمام موسى بن جعفر الكاظم، وقد كان ـ كما تشير المعطيات الرجاليّة والتاريخيّة ـ معروفاً بالكذب كثيراً على الإمام الكاظم في حياته وبعد مماته، حتى ورد عن عليّ بن أبي حمزة البطائني، قال: سمعت أبا الحسن موسى يقول: «لعن الله محمّد بن بشير وأذاقه حرّ الحديد، إنّه يكذب عليّ، برأ الله منه وبرئت إلى الله منه، اللهم إني أبرأ إليك مما يدّعي فيّ ابن بشير، اللهم أرحني منه.. وأنّ محمد بن بشير لعنه الله يكذب عليّ برئت إلى الله منه، اللهم إني أبرأ إليك مما يدّعيه فيّ محمّدُ بن بشير، اللهم أرحني منه، اللهم إنّي أسألك أن تخلّصني من هذا الرجس النجس محمّد بن بشير، فقد شارك الشيطان أباه في رحم أمه»([28]).

بل هناك نصٌّ آخر ذكره الكشي يوضح مدى خطورة ابن بشير على الإمام الكاظم، حيث يسمح الإمام للسائل بقتل محمّد بن بشير، وهو نصٌّ طويل نسبياً نقله علي بن حديد المدائني، قال: سمعت من سأل أبا الحسن الأوّل فقال: إنّي سمعت محمد بن بشير يقول: إنّك لست موسى بن جعفر الذي أنت إمامنا وحجّتنا فيما بيننا وبين الله تعالى. قال: فقال: «لعنه الله ثلاثاً، أذاقه الله حرّ الحديد، قتله الله أخبث ما يكون من قتلة»، فقلت له: جعلت فداك إذا أنا سمعت ذلك منه أوليس حلال لي دمه مباح، كما أبيح دم السابّ لرسول وللإمام؟ فقال: «نعم، حل والله دمه، وأباحه لك ولمن سمع ذلك منه». قلت: أوليس هذا بسابّ لك؟ قال: «هذا سابّ لله وسابّ لرسول الله وسابّ لآبائي وسابّي، وأيّ سبّ ليس يقصر عن هذا ولا يفوقه هذا القول». فقلت: أرأيت إذا أتاني لم أخف أن أغمز بذلك بريئاً ثم لم أفعل ولم أقتله ما عليّ من الوزر؟ فقال: «يكون عليك وزره أضعافاً مضاعفة من غير أن ينتقص من وزره شي‌ء، أما علمت أنّ أفضل الشهداء درجة يوم القيامة من نصر الله ورسوله بظهر الغيب وردّ عن الله وعن رسوله»([29]).

ادّعى ابن بشير بعد وفاة الإمام الكاظم أنّه لم يمت، وأنّه يتجلّى لأهل النور بالنور ولأهل الظلام بالظلام، وأنّه يختفي ويضلّ بين الناس، واعتقد بمهدويّة الكاظم، وأنّه ـ أي محمّد بن بشير ـ النائب عنه عند غيبته، ولاحقاً ادّعى الإمامة بعد الكاظم، ثمّ تطوّرت أفكاره ليدّعي ألوهيّة الكاظم وأنّه رسوله.

ومما يُذكر عنه أنّه كان خبيراً بالسحر والشعوذة، ويذكر الكشي: «وكان عنده صورة قد عملها وأقامها شخصاً كأنّه صورة أبي الحسن في ثياب حرير، وقد طلاها بالأدوية، وعالجها بحيل عملها فيها حتى صارت شبيهاً بصورة إنسان، وكان يطويها، فإذا أراد الشعبذة نفخ فيها فأقامها». ويُرجع الكشيُّ السببَ وراء مقتل محمّد بن بشير إلى ما كان عنده من سحر وشعوذة([30]).

يُطلق على البشيريّة اسم الممطورة، وهو وصف أطلقه عليّ بن إسماعيل الميثمي على الواقفيّة، عندما تجادل مع بعضهم، وختم كلامه: «ما أنتم إلّا كلاب ممطورة». وهذا تشبيه يُراد منه أنّكم قذرون جداً، فالكلب عندما تمطر السماء تخرج منه رائحة قذرة([31]).

وتعتبر البشيريّة واحدة من الفرق المغالية داخل المذهب الواقفي الذين وقفوا على الإمام الكاظم، وكانت عندهم مجموعة من الأفكار والمعتقدات منها: الاعتقاد بالتناسخ، والأئمّة كلّهم واحد ينتقل من بدن إلى بدن، بمعنى ليس هناك إمام اسمه علي وآخر اسمه الحسن بل علي نفسه الحسن ونفسه الحسين و... غير أنّ الاختلاف بينهم في الجسد ليس أكثر، والفرائض عندهم الصلاة وصيام شهر رمضان، أمّا بقيّة الفرائض فليست بشيء، وقالوا بإباحة نكاح المحارم وإباحة نكاح الغلمان.

وكان عندهم نزعة اشتراكيّة ـ طبعاً أقدم النزعات الاشتراكيّة في تاريخ الإسلام هم القرامطة، وسوف نتكلّم عنهم لاحقاً ـ لكنّ هؤلاء يبدو أنّهم تكلّموا قبل القرامطة عن شيء اسمه الاشتراك في الأموال والنساء، ومن ثمّ لا يوجد ملكيّات خاصّة إنّما اشتراكيّة بينهم، وربما تكون هذه الفرقة من أقدم الفرق التي طرحت مثل هذه الأفكار التي عرفت لاحقاً بالاشتراكيّة.

حاولتُ أن اختصر ثمان فرق تمثل أبرز ما ظهر من حركات صنّفت على أنّها مغالية في القرنين الأوّلين من الهجرة بدءاً من السبئيّة والكيسانيّة، وصولاً إلى الخطابيّة والبشيريّة. هذا الزخم من الفرق والحركات المغالية سيكون طابعه مختلفاً مع مجيء القرن الثالث الهجري، وسيقل عدد الفرق المغالية، لكن ستظهر فرق مغالية ذات قوّة سياسيّة وعسكريّة كبرى، وسنرى تداخلاً بين مفهوم الغلوّ ومفهوم النيابة والبابيّة.


 

 

 

الفصل الثالث

حركات الغلوّ في القرنين الثالث والرابع الهجريّين

تمهيد

بانتهاء عصر الإمامين الكاظم والرضا، بدأنا نشهد تراجعاً نسبياً في ظهور فرق جديدة للغلاة حيث كان عددها في القرنين الأوّلين أكثر، لكن بعد ذلك بدأ الوضع يختلف، وبدأت الفرق تقلّ من حيث العدد، وكان الحضور الأبرز في ذلك الوقت لتيار الخطابيّة الذي ما زالت انعكاساته باديةً في أكثر من موقع في وسط الغلاة.

في المقابل، شهد القرنان الثالث والرابع أمرين أساسيّين:

الأوّل: ظهور حركات سياسيّة قويّة لها صلةٌ ما بالغلوّ، وتشكّلت على إثرها دولٌ أقوى مما كنّا نتوقّع، وأقوى من تلك الدول الصغيرة التي شكّلتها بعض فرق الغلاة في القرن الثاني.

الثاني: التداخل الذي حصل ما بين حركات الغلوّ، ومفهوم النيابة والبابيّة الذي أتى في أواخر عهد الإمام العسكري، ثم في فترة الغيبة الصغرى وما بعدها.

وعلى الرغم من انخفاض نسبة فرق الغلاة إلّا أنّ هذا لم يمنع من ظهور عدد كبير من أفراد الغلاة، نذكر منهم على سبيل المثال:

1 ـ يونس بن ظبيان، وكان من أصحاب الصادق، وينقل أنّه سلّم على بنت أبي الخطاب بعد دفنها بالقول: السلام عليك يا بنت رسول الله. وجاء لعنه على لسان الإمام الرضا أشدّ اللعن وقرنه مع أبي الخطاب وأنّهما في العذاب مع فرعون، وذكره الفضل بن شاذان في المشهورين بالكذب([32]).

(2 ـ 3) ـ الحسين بن علي الخواتيمي ومحمّد بن فرات، وكانا من غلاة عصر الامام العسكري.

(4 ـ 5) ـ هاشم بن أبي هاشم وجعفر بن واقد، وهما من غلاة عصر الإمام الجواد.

6 ـ فارس بن حاتم القزويني، من غلاة عصر الإمام الهادي، وقد لعنه الإمام الهادي([33])، وينقل ابن الغضائري أنّه قُتل على يد بعض أصحاب الإمام الحسن العسكري([34]). وينقل الكشي أنّ الذي أمر بقتله الإمام الحسن العسكري، بل وقدّم المال لشراء السلاح الذي سيقتل به([35]).

(7 ـ 8) ـ علي بن حسكة والقاسم بن يقطين، ولهذين الشخصين خصوصيّة معيّنة كونهما ظهرا في مدينة قم، وهي في تلك الفترة كانت تشهد واحدة من أكثر المدارس الإماميّة تشدّداً في أمر الحديث وقبول الرواية، ومن أكثرها نقداً للغلاة، أي أنّهما ظهرا في وسطٍ معادٍ وبشكل أكثر من الحدّ الطبيعي، وقد تكلّما عن ألوهيّة الإمام العسكري، وقد قال الفضل بن شاذان عن علي بن حسكة: من الكذّابين المشهورين([36]).

9 ـ محمد بن موسى الشريعي، وهو من تلامذة عليّ بن حسكة، ومن رموز تلك الفترة، ويبدو من الشيخ الطوسي أنّ الشريعي هذا أوّل من ادّعى السفارة والبابية، وصدر فيه توقيعٌ بلعنه من الإمام المهدي([37]).

10 ـ أحمد بن هلال العبرتائي، وتنسب إليه فرقة الهلاليّة، توفّي سنة 265هـ.

إلى غير ذلك من أسماء نجدها غزيرة الحضور في القرنين الثالث والرابع، وإن لم تشكّل فرقاً جديدة، واقتصرت على التأثر بأفكار الفرق السابقة، وأهمّها الخطّابيّة.

سنكتفي في هذا الفصل بذكر أربعة نماذج: نموذجان يمثلان الغلوّ في البعد الديني، أي فرقتان دينيّتان، والآخران يمثلان الغلوّ السياسيّ. وهذه النماذج الأربعة تمثل الغلوّ في القرنين الثالث والرابع الهجريّين.

أوّلاً: فرق الغلاة الدينيّة

قلنا بأنّنا سوف نتكلّم هنا عن أنموذجين، وهما:

1 ـ النميريّة أو النصيريّة

أتباع أبي شعيب محمّد بن نصير الفهري النميري (259 أو 270هـ)، وكان من أصحاب الهادي والعسكري. وتذكر لنا المصادر التاريخيّة والملليّة ادّعاءه النبوّة، وأنّ الذي أرسله هو الإمام الهادي باعتبار الإمام الهادي هو الله([38]).

وفي زمن الغيبة ادّعى البابيّة والنيابة عن الإمام العسكري، وكأنّه يريد الإيحاء بأنّ العسكري لم يتوفَّ، وأنّه بنفسه على صلة مباشرة به، لذلك فهو "باب الإمام". وقيل: كان يدّعي النيابة والبابيّة عن الإمام المهدي، وليس عن العسكري. وقد شهدت الفترة 260 ـ 330هـ غزارة في ادّعاءات البابيّة والنيابة والسفارة والوكالة وما شابه هذه الأقوال حول العلاقة بين الإمام المهديّ وهذا الشخص المدّعي، ومن ثمّ علاقته بالناس، وهنا اندمجت شخصيّات بعض الغلاة في سياق ادّعاء النيابة أو ادعاء البابيّة عن الإمام المهديّ.

ينسب إلى النصيري القول بالتناسخ، وهي الفكرة التي وجدناها عند كثير من الغلاة في القرنين السابقين. كما تُنسب له فكرة الإباحيّة. ويذكر الكشي أنّه كان «يحلّل نكاح الرجال بعضهم بعضاً في أدبارهم، ويقول: إنّه من الفاعل والمفعول به أحد الشهوات والطيّبات، وأنّ الله لم يحرّم شيئاً من ذلك»([39]).

ومما يلفت النظر اعتباره الملوط به خيراً من اللائط؛ لأنّه كان ينظر إلى الملوط به على أنّه أكثر تواضعاً من اللائط، ومن ثم يجب أن يقدَّر أخلاقيّاً. وهذه الفكرة على عكس ما يراه بعض الفقهاء من التمييز بين عقوبة اللائط وعقوبة الملوط به، فتكون عقوبة اللائط أخفّ من عقوبة الملوط به، وتبرير هذا التفريق أنّ اللائط لا يقوم بفعل خارج الطبيعة بقدر ما يفعله الملوط به.

وقد ورد عن الإمام العسكري لعن وذمّ محمد بن نصير، ففي خبر محمّد بن عيسى العبيدي، قال: كتب إليّ العسكري ابتداء منه: «أبرأ إلى الله من الفهري، والحسن بن محمد بن بابا القمي، فابرأ منهما، فإنّي محذرك وجميع مواليّ وإنّي ألعنهما عليهما لعنة الله، مستأكلين يأكلان بنا الناس، فتانين مؤذيين آذاهما الله وأركسهما في الفتنة ركساً..»([40]).

يُعتبر النصيريون أو العلويّون محمد بن نصير باب الإمام الحسن العسكري. ويعدّ الحسين بن حمدان الخصيبي أحد أكبر رموزهم الفكريّة عبر التاريخ، وهو صاحب كتاب "الهداية الكبرى" وهو كتاب موجود إلى الآن مطبوع ومتداول حتى في الوسط الإمامي([41]). وصفه ابن الغضائري: «كذاب، فاسد المذهب، صاحب مقالة ملعونة، لا يلتفت إليه"([42])، وقال عنه النجاشي: «فاسد المذهب»([43]).

إذن، توجد علاقة بين النصيريّة أو العلويّة المعاصرة وبين مذهب النميريّة من زاوية أنّهم يعتبرون محمد بن نمير باب الإمام العسكري ومن خلاله ينشأ المذهب. وإن كان هناك مَن يدعي أنّ النصيريّة لا ترجع إلى محمد بن نصير الذي نتكلّم عنه، وإنّما هي مذهب آخر ظهر فيما بعد، ولأنّ هذا المذهب يلفّه الكثير من الغموض فلن ندخل في تفاصيله فهو بحاجة إلى بحث مستقل.

2 ـ الشلمغانيّة

إنّ الأثر التاريخي والضجيج الذي سبّبته الشلمغانيّة في الوسط الإمامي كان أكبر ممّا سببته فرقة النميريّة، فالشلمغانيّة هم أتباع أبي جعفر محمّد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر، كان من أصحاب الإمام العسكري، ومن أكابر علماء الشيعة الصالحين في وقته، وله مكانة كبيرة جداً حتى كانت بيوت الشيعة مليئة بكتبه، وهو صاحب كتاب "التكليف" الذي يقال عنه: ما من شيعي إلّا وعنده نسخة من هذا الكتاب في تلك الفترة([44])، ولم يجد العلماء في كتابه هذا مشكلة باستثناء بعض الروايات التي كذب فيها الشلمغاني على الإمام، كما ورد في بعض المنقولات التاريخيّة.

إذن، نحن نتكلّم عن شخصية كبيرة جداً في الوسط الإمامي، ومن خواصّ الإمام العسكري، لكن بعد وفاة العسكري حدثت لديه انقلابات ـ كما تذكر الرواية الإماميّة، ولا نملك أيّ رواية بلسان أنصاره ـ فرغب أن يكون السفير عن الإمام المهدي في عصر الغيبة الصغرى، وانزعج كثيراً عندما أصبح الحسين بن روح النوبختي سفيراً، وفسّر بعضٌ انزعاجه بأنّه جاء حسداً للحسين بن روح([45])، أدّى به هذا الأمر إلى التحوّل شيئاً فشيئاً إلى شخصٍ آخر، فاتّجه اتجاهاً مغالياً وانفصل تماماً عن الفضاء الشيعي، وقد صدرت فيه روايات تلعنه وروايات تحذّر الشيعة منه، والتوقيعات التي نقلها النوبختي عن الإمام المهدي تضمّنت تحذيراً ولعناً وما شابه ذلك في حقّه.

شخصٌ بهذه المكانة العلمية في الوسط الإمامي ينتقل ليصبح مغالياً على مستوى عالٍ، فما هي الأفكار التي يطرحها؟

1 ـ حلول روح الله في آدم وصولاً للعسكري ثمّ لجسد الشلمغاني: ترى الشلمغانيّة أنّ روح الله حلّت في آدم وبقيت تنتقل بين الأنبياء ثمّ الأئمّة، حتى وصلت إلى العسكري، ثمّ دخلت في جسد الشلمغاني. ولا ندري هل فعلاً قال ذلك أم بعض أنصاره ادّعى عليه مثل هذه المقالة؟ وأين الإمام المهدي إذاً؟!

2 ـ الحسن والحسين ليسا أولاد الإمام عليّ؛ لأنّ الله لم يلد ولم يولد: وهذه من أغرب الأفكار ولا نكاد نسمعها من أحد من الغلاة، يقولون: إنّ الحسن والحسين ليسا أولاد علي بن أبي طالب؛ لأنّ الله لم يلد ولم يولد، ومن ثم لا معنى لأن يكون هؤلاء أولاده، وهذا يشي بأنّه كان يعتقد بألوهيّة الإمام علي.

3 ـ اتهام محمد وموسى بخيانة هارون وعلي: ينسب للشلمغاني اتّهام النبيّ محمد والنبي موسى بأنّهما مارسا فعل الخيانة. ويفسّر الخيانة بخيانة موسى هارون ومحمّد عليّاً، وغير واضح ما معنى الخيانة التي يقصدوها؟! ربما يقصدون بالخيانة أنّهما سرقا منهما النبوّة، أو ربما لم يقوما بتحكيم أمر إمامتهما بالشكل المناسب فقصّرا في هذا الأمر.

4 ـ الإباحيّة واللواط وتحليل المحرّمات، وأنّ التشريعات جاءت للعرب الأجلاف القساة آنذاك: الأفكار التي مرّ ذكرها تتعلّق بالمستوى النظري والعقائدي، أمّا على المستوى السلوكي فكانت فكرة الإباحيّة حاضرة عندهم، كما هي الحال في النصيريّة وبخاصّة التركيز على اللواط، ولا ندري ما السبب في هذا التركيز من الغلاة على نفس هذه الفكرة.

ومن الأفكار الملفتة عند الشلمغانيّة ـ وهي تشبه إلى حدّ كبير بعض الأفكار الحداثيّة التي تطرح اليوم ولعلّها من أقدم الأفكار الحداثيّة تاريخيّاً إذا صحّ التعبير ـ القول بأنّ التشريعات التي جاءت في القرآن والسنّة النبويّة هي تشريعات جاءت للعرب الأجلاف القساة في ذاك الزمان، أما وقد تغيّر الزمن فلم يعد هناك معنى لأن نتكلّم عن هذه التشريعات بنفس التصوّر السابق. وهذا يذكّرنا بالفكرة التي تقول: إنّ قساوة النظام الجزائي والجنائي في الشريعة الإسلاميّة مرجعها إلى الطبيعة القاسية للعرب في ذاك الزمان، فالعقوبة البسيطة لن تردع العربيَّ؛ لذلك احتاج الإسلام إلى طرح عقوبات متشدّدة وقاسية تتناسب مع طبيعة القساوة التي كان يعيشها الإنسان العربي؛ لكي تحقّق الردع بحقّه.

ويمكن أن نقول: إنّ هذه الفكرة هي أقدم تصوّر عما يسمّى اليوم "تاريخيّة الشريعة" ببعض معاني هذه الكلمة، وكأنّ الشلمغانيّين كانوا يعتقدون بانتهاء عصر التشريعات، ولذلك كانوا يحلّلون المحرّمات، ولم يكونوا منطلقين في تحليلهم لها من فكرة "معرفة الأصول تغني عن الفروع" بل انطلاقاً من نوع من التاريخانيّة ـ بحسب الاصطلاح الحديث ـ وهذا شيء لافت للنظر في تلك الفترة في الوسط الشيعي.

وعلى أيّة حال، فقد تلقّت فرقة الشلمغانيّة ضربة قاضيّة عندما أصدر الخليفة العباسي الراضي بالله أمراً باعتقال محمد بن علي الشلمغاني، فاعتقل وأعدم، ثم أحرق جسده ورمي رفاته في نهر دجلة، وكان مقتله في عام 322هـ، وفي رواية أخرى 323هـ.

 

ثانياً: فرق الغلاة السياسيّة

1 ـ البابكيّة (الخرّميّة ـ الخرَّمْدينيّة ـ المحمّرة)

جماعة ظهرت في منطقة آذربيجان في غرب إيران، بقيادة شخص اسمه: بابك خرّمدين أو بابك الخرّمي([46])، وأطلق عليهم "المحمّرة"؛ لأنّهم كانوا يلبسون ثياباً حمراء، فالبابكيّة نسبة إلى زعيمهم بابك خرّمدين الذي أطلق ثورة في منطقة آذربيجان في عهد المأمون العباسي.

خرجت البابكيّة عام 201هـ في زمن المأمون، ورغم القدرة التي كان يتمتّع بها المأمون، وكون الدولة العباسيّة في أوج قوّتها آنذاك، إلّا أنّها عجزت عن إنهاء الحركة البابكيّة، ورغم إرسال المأمون عدّة حملات عسكريّة للقضاء عليها لكنّها باءت جميعها بالفشل، فاستمرّت حركتهم ـ ومن ثمّ دولتهم ـ أكثر من عشرين عاماً (201 ـ 222هـ)، حيث أسروا وقتلوا كثيرين في عهد المعتصم العباسي الذي خلفَ المأمونَ على سدّة الحكم، وكان المأمون قد أوصى من يأتي بعده بالقضاء على هذه الحركة كونها تمثل تهديداً للإسلام وتشكّل خطراً على الدولة.

وتنقل المصادر التاريخيّة أنّ البابكيّة قتلوا 255 ألف مسلم، وامتدّت دولتهم من غرب إيران في آذربيجان إلى مازندران في الجهة الأخرى لبحر قزوين، نزولاً إلى إصفهان، فإذا تصوّرنا امتداد الدولة بهذا الحجم، فنحن نتكلّم عن دولة كبيرة استمرّت ما يقرب من عشرين عاماً وبسطت نفوذها وعجزت السلطة المركزيّة عن تصفيتها.

كانت الأهداف التي نادوا بها في حركتهم ضدّ الدولة العباسيّة مندمجة ضمن عدّة عناوين منها: الثأر لمقتل أبي مسلم الخراساني، والرغبة في الاستقلال عن الدولة المركزيّة، وهناك من يتحدّث عن وجود ميول قوميّة شعوبيّة عندهم، والتي تجلّت في نوع من العقائد الجديدة التي أرادوا من خلالها أن ينفصلوا عن الإسلام الرسمي الذي كان مطروحاً في تلك الفترة.

أمّا عقائدهم، فينسب إليهم مزيجٌ من المزدكيّة والغلوّ، ما نتج عنه:

1 ـ القول بالحلول.

2 ـ القول بالتناسخ.

3 ـ الإيمان بالرجعة.

4 ـ الاعتقاد بأصلَي النور والظلمة.

5 ـ عدم انقطاع الوحي والنبوّة، وأنّهما مستمرّان.

6 ـ الاشتراك في المال والنساء.

وقد أشرنا في البحث السابق إلى وجود فكرة الاشتراكيّة عند بعض حركات الغلوّ في القرن الثاني، وبعض الباحثين في تاريخ الاشتراكيّة على الصعيد الإسلاميّ يعتقدون بأنّ القرامطة أوّل نسخة اشتراكيّة ظهرت في التاريخ الإسلامي، لكن البابكيّة أيضاً تكلّموا عن الاشتراك في المال والنساء، أي لا يوجد أحد يملك ملكيّة خاصة، ومن ثمّ كلّ الأموال الموجودة في جيوب الجميع هي مشتركات ترجع للجميع، ويبدو أنّها بعد أن أضحت دولة كانت تعمل بنوع من الاشتراكية في مجال تداولها الاقتصادي.

2 ـ القرامطة

وهم جماعة أطلقها حمدان بن الأشعث الأهوازي ـ نسبة إلى مدينة أهواز جنوب شرق ايران اليوم ـ الملقّب بـ "قرمط أو قرمطويه"، وهي في الأصل من الفرق المنشعبة من الإسماعيليّة بعد رفضهم إمامة عبيد الله المهدي في مصر، ولهم مشتركات مع الاسماعيليّة في مجموعة من الأفكار، وكانت بداياتها أواسط القرن الثالث الهجري.

اتخذت هذه الفرقة من البحرين ـ بمساحتها القديمة ـ مركزاً لها، وبخاصّة الأحساء، وهناك أسّسوا دولة قويّة جدّاً معارضة للعباسيّين من جهة، وللإسماعيليين في مصر من جهة أخرى. وساندتهم قبائل عربيّة عديدة نتيجة إهمال العباسيّين للجزيرة العربية، بعكس الأمويّين الذين أسّسوا سلطتهم على القبائل العربيّة وأعطتهم ما يريدون ومنحتهم نفوذاً في المناطق المختلفة من أرجاء العالم الإسلامي وأغدقت عليهم، فكانت العلاقة بين الدولة الأمويّة والقبائل العربيّة ممتازة، وما كانت تثور على الأمويين إلّا ضمن نزاعات دينيّة معينة، بخلاف الوضع في الفترة العباسيّة حيث صار هناك إهمال للقبائل العربيّة الموجودة على امتداد الجزيرة العربيّة، ومن ثمّ بدأت هناك حالة من النقمة في وسط القبائل العربيّة على الدولة المركزيّة، لذلك تعاطف مع القرامطة عددٌ كبير من القبائل، مكوّنين تحالفاً، أنجز بالفعل تأسيس دولة القرامطة بسرعة كبيرة نسبيّاً.

ينسب للقرامطة قيامهم بمجازر بشريّة مفجعة، كالقتل العام لأهل الكوفة وللحُجَّاج. ويمكن تشبيههم في وقتنا الحاضر بالحركات الإسلاميّة المتطرّفة التي تمارس الإرهاب بحقّ الآخرين، فكانت حركتهم قائمة على سياسة الرعب عبر المجازر البشريّة.

في عام 317هـ هاجم القرامطة مكّة، وارتكبوا بحقّ الحجيج مجزرةً مروعة، ويقال: إنّهم جعلوا بئر زمزم مليئةً بالجثث، وأخذوا الحجر الأسود معهم إلى المنطقة الشرقيّة من جزيرة العرب؛ لاعتقادهم بأنّ الطواف حول الكعبة هو عبادة أصنام، وقد أخذوا معهم الحجر الأسود الذي قيل انشطر إلى شطرين وظلّ اثنين وعشرين عاماً في الأحساء، فيما كان الحجّ معطّلاً أو شبه معطّل في هذه المدّة، ثمّ استُرجع منهم بعد تهديدٍ شديد من الخليفة الفاطمي عام 339هـ وإغراءات ماليّة من العباسيين. واستمرّت دولتهم أكثر من مائة عام، ثمّ بدأت بالتقلّص إلى أن زالت بعد حوالي 170 سنة من تأسيس حركتهم.

إذا اعتبرنا القرامطة من ضمن الفرق المغالية ـ كما تُصنَّف عادة ـ فنحن نتكلّم عن أقوى دولة للغلاة عرفها التاريخ من حيث العمر، ومن حيث الامتداد والقدرة والبطش والشدّة. وسنقوم بطرح أبرز أفكارهم لنرى إذا كانت فعلاً فرقةً مغالية كما تصنّف تراثيّاً.

1 ـ إمامة السبعة بعد النبيّ: فمن أبرز أفكارهم إمامة السبعة بعد النبي، ويركّزون كثيراً على رقم سبعة وكأنّه رقم مقدس ـ موضوع الأرقام مهم جداً عند بعض الفرق ـ والسبعة الذين يعتقدون بإمامتهم يبدأون بالإمام عليّ وصولاً للإمام الصادق، ثمّ لحفيده محمد بن إسماعيل بن جعفر، والذي يعتبرونه رسولاً ومهديّاً، وهو القائم، بمعنى الآتي بدينٍ جديد، وبهذه الطريقة تشكّلَ الوعيُ الاعتقادي عندهم، وهذا الأمر لا يصنّفهم ضمن الغلاة.

2 ـ محمّد صار مأموماً بعد أن كان إماماً: الفكرة الأخرى التي قالوا بها والتي تُشعرنا بأنّهم يدخلون ضمن نطاق الفرق الغالية هو اعتقادهم بأنّ النبيّ محمّداً صار مأموماً بعد أن كان إماماً، وذلك بمجرّد تنصيب الإمام عليّ في الغدير، أي بمجرّد التنصيب صار الإمام عليّ إماماً بالفعل، وليست إمامته معلّقة على غياب الرسول، وهذا يعني أنّ الرسول تحوّل من كونه إماماً إلى كونه مأموماً. وبهذه الفكرة يكون الإمام عليّ قد جُعل في مرتبة فوق مرتبة النبيّ وهو في حياته.

3 ـ الله أعطى القائم جنّة آدم: بمعنى أنّ الإمام حلّل المحرّمات، فالجنّة التي كانت لآدم وحلّل له فيه كل شيء، أُعطيت للقائم، وبهذا تكون المحرّمات قد سقطت، وبهذا نكون أيضاً أمام نمط من الغلوّ السلوكي الذي هو تحليل المحرّمات.

إذن، لا يوجد عندهم شيء حول التأليه أو ادّعاء النبوّة أو حول الحلول أو التناسخ، وكلّ ما عندهم ـ حسب ما وصلنا ـ فكرةٌ اعتقاديّة تتكلّم عن مأموميّة الرسول، وفكرة ثانية عبارة عن تحليل المحرمات بالعلاقة بين الله والإمام، حيث تحوّل هذا العطاء الإلهي للإمام إلى تحليل المحرّمات، وبالنتيجة سقوطها. وبكلمة واحدة: يمكن القول بأنّ الإباحيّة مثّلت أهمّ رمز أو فكرة في الحركات المغالية. هذا أقصى ما يجعلنا نصنّف القرامطة على أنّهم فرق غلاة ـ كما يفعل سائر الباحثين في هذا السياق ـ ولهذا أردت ذكرهم هنا.

لو راجعنا موقف أصحاب الأئمّة ومن بعدِهم علماء الإماميّة في تلك الفترة الصاخبة، فإنّنا نجدهم كتبوا مؤلّفات في الردّ على القرامطة، وهذا يدلّ على حساسية الموقف بين الشيعة والقرامطة، مثلاً الفضل بن شاذان كان له كتاب في الردّ على القرامطة والباطنيّة، وكذلك عليّ بن أبي سهل القزويني (بعد 350هـ) له كتاب الردّ على القرامطة، وحتى الشيخ محمد بن يعقوب الكليني (329هـ) له كتاب في هذا الموضوع ذَكَرَتهُ كتبُ الفهارس تحت عنوان "الردّ على القرامطة"، لكنّه مفقود.


 

 

 

خاتمة

في تصنيف الغلاة وموقف مدرسة قم من الغلوّ

إذا حلّلنا المشهد الذي عرضناه فيما سبق، نجد أنفسنا أمام ظاهرتين كبيرتين في تاريخ الغلوّ، وهاتان الظاهرتان تسبّبتا بجدل في الوسط الإمامي في كيفيّة فهم الغلوّ والموقف منه.

الظاهرة الأولى: وهي الظاهرة الاعتقاديّة، عبر مجموعة من المفاهيم التي كان يعتقد بها الغلاة من أمثال التأليه وادّعاء النبوّة لغير رسول الله والحلول والتناسخ.

الظاهرة الثانية: وهي الظاهرة السلوكيّة، والمتمثّلة بإسقاط المحرّمات والإباحيّة شبه المطلقة بحجّة تقدّم المعرفة على العمل، أي أنّ معرفة الإمام هي طريق النجاة فيما العمل ليس مهماً.

إذن، عندما نحلّل الغلوّ نكون أمام ظاهرتين كبيرتين: ظاهرة الاعتقادات وهي ظاهرة ذهنيّة، وظاهرة إسقاط المحرمات التي هي عبارة عن ظاهرة سلوكيّة.

مفهوم الغلوّ عند المجلسي والتستري وفهم موقف مدرسة قم، مقارنات ومحاكمات

يقول العلامة محمّد باقر المجلسي (1111هـ)، في شرح معنی الغلوّ الاصطلاحي: «اعلم أنّ الغلوّ في النبيّ والأئمّة عليهم السلام إنّما يكون بالقول بألوهيّتهم أو بكونهم شركاء لله تعالى في المعبوديّة أو في الخلق والرزق أو أنّ الله تعالى حلّ فيهم أو اتحد بهم، أو أنّهم يعلمون الغيب بغير وحي أو إلهام من الله تعالى أو بالقول في الأئمّة عليهم السلام أنّهم كانوا أنبياء أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأنّ معرفتهم تغني عن جميع الطاعات ولا تكليف معها بترك المعاصي. والقول بكلّ منها إلحاد وكفر وخروج عن الدين كما دلّت عليه الأدلّة العقليّة والآيات والأخبار السالفة وغيرها، وقد عرفت أنّ الأئمّة عليهم السلام تبرّؤوا منهم وحكموا بكفرهم وأمروا بقتلهم، وإن قرع سمعك شيء من الأخبار الموهمة لشيء من ذلك فهي إمّا مأوّلة أو هي من مفتريات الغلاة. ولكن أفرط بعض المتكلّمين والمحدّثين في الغلوّ لقصورهم عن معرفة الأئمّة وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شؤونهم فقدحوا في كثيرٍ من الرواة الثقات لنقلهم بعض غرائب المعجزات حتّی قال بعضهم: من الغلو نفي السهو عنهم أو القول بأنّهم يعلمون ما كان وما يكون وغير ذلك، مع أنّه قد ورد في أخبارٍ كثيرةٍ: «لا تقولوا فينا ربّاً وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا» وورد: «إنّ أمرنا صعبٌ مستصعَبٌ لا يحتمله إلا ملكٌ مقرَّبٌ أو نبيٌّ مرسَلٌ أو عبدٌ مؤمنٌ امتحن الله قلبَه للإيمان»، وورد: «لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله» وغير ذلك. فلا بدّ للمؤمن المتديّن ألّا يبادر بردّ ما ورد عنهم من فضائلهم ومعجزاتهم ومعالي أمورهم إلا إذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو بقواطع البراهين أو بالآيات المحكمة أو بالأخبار المتواترة»([47]).

ولنا عدّة تعليقات على هذا النصّ:

أوّلاً: نجد في تعريف المجلسي للغلوّ إشارة واضحة إلى وجود جانبين من جوانب الغلوّ، الغلوّ الاعتقادي في النبيّ وأهل البيت مثل القول بألوهيّتهم أو بكونهم شركاء لله تعالى في المعبوديّة وأنّ الله تعالى حلّ فيهم أو اتحد بهم وأنّهم كانوا أنبياء أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعضهم. والغلوّ السلوكيّ الذي أشار له المجلسي بقوله: «القول بأنّ معرفتهم تغني عن جميع الطاعات ولا تكليف معها بترك المعاصي».

ويترتّب على هذا التفريق إمكانيّة أن يكون الإنسان متديّناً ولكنّه يعتقد بالعقائد الأولى، أي يكون مغالياً عقائديّاً، وإذا أخذ الفكرة الأخيرة سيتحول إلى شخص متحرّر من جميع الالتزامات الدينيّة والأخلاقيّة.

ثانياً: بعد أن حدّد المجلسي مساحة الغلوّ بذكره لسلسة من الاعتقادات وفكرة التحرّر من الالتزامات الشرعيّة لكفاية المعرفة ـ إشكاليّة العلاقة بين المعرفة والعمل ـ وجّه نقداً لبعض المتكلّمين والمحدّثين الإماميّة؛ لكونهم أفرطوا في توسيع مساحة الغلوّ وشملت عندهم كلّ من يروي معاجز أو كرامات عن الأئمة أو مَن ينفي السهو عن النبيّ. ومن الواضح أنّ المقصودَ في نقده هذا مدرسةُ قم التي كانت موجودة في القرنين الثالث والرابع، ومن أعلامها ابن الوليد وتلميذه الشيخ الصدوق، وقبلهما أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري.

ثالثاً: نحن الآن أمام تعريفين للغلوّ: التعريف بالحد الأضيق الذي هو مجموعة من الاعتقادات مع الموضوع السلوكي، والتعريف الواسع الذي بدأ مع مدرسة قم وهي معروفة بتشدّدها في نقل الحديث، وهذا التوسّع يرفضه المجلسي، فليس كلّ رفع لشأن الأئمة يعني غلوّاً، وهنا يسترشد المجلسي بتعبير: «لا تقولوا فينا ربّاً وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا». وكذلك «إنّ أمرنا صعبٌ مستصعَبٌ لا يحتمله إلا ملكٌ مقرَّبٌ أو نبيٌّ مرسَلٌ أو عبدٌ مؤمنٌ امتحن الله قلبَه للإيمان».

بعض علماء الإماميّة ـ ومنهم المحقّق التستري ـ قالوا بأنّ المقصود من الغلاة الذين كان ينتقدهم المتقدّمون، ولا سيّما مدرسة قم، ويتحفظون عن رواياتهم، هم الغلاة بالمعنى السلوكيّ دون الغلاة بالمعنى الاعتقادي، فهؤلاء أصحاب عقائد باطلة لا شأن لهم معهم، لكنّ الذين كان حديثهم يُرفض ويُنبذون أو يُتعامل معهم بإقصاء هم الغلاة السلوكيّون؛ لأنّ الغلوّ السلوكيّ يؤدّي إلى إسقاط المحرّمات، وهذا يعني أنّ الكذب لن يكون عندهم محرّماً؛ لأنّ معرفة الإمام تكفي عن العمل.

ويعلّق المحقّق التستري على كلام العلامّة المجلسي بقوله: «كثيراً ما يرد المتأخّرون طعن القدماء في رجلٍ بالغلو بأنّهم رموه به لنقله معجزاتهم وهو غير صحيحٍ، فإنّ كونهم ذوي معجزاتٍ من ضروريات مذهب الإمامية، وهل معجزاتهم وصلت إلينا إلا بنقلهم؟ وإنّما مرادهم بالغلو ترك العبادة اعتماداً علی ولايتهم»([48]).

وعليه، فالتستري يرفض التفسير الذي قدّمه المجلسي بأنّ مدرسة قم وسّعت من دائرة الغلوّ واعتبرت حتى الناقلين لكرامات الأئمّة وخوارقهم من الغلاة؛ لأنّ اعتبار الأئمّة أصحاب معجزات من ضروريات الإماميّة ولا يناقش فيه أحد حتى مدرسة قم، بل كثير من المعجزات الصادرة عن الأئمّة كان الناقلون لها هم علماء مدرسة قم أنفسهم، فكيف ـ والحال هذه ـ يرمون القائل بأنّهم أصحاب معاجز بالغلوّ؟! والتفسير البديل الذي يقدّمه التستري لتشدّد مدرسة قم في أمر الغلاة هو اعتبارهم مغالين سلوكيّاً لا غير.

وقد ذكر التستري عدّة شواهد على مدّعاه، منها:

1 ـ ما رواه أحمد بن الحسين الغضائري، عن الحسن بن محمّد بن بندار القمي، قال: سمعت مشايخي يقولون: إنّ محمّد بن أورمة([49]) لما طُعن عليه بالغلوّ بعث إليه الأشاعرة([50]) ليقتلوه، فوجدوه يصلّي الليل من أوّله إلی آخره ليالي عدّة فتوقّفوا عن اعتقادهم([51]).

ومعنى هذه الرواية أنّ فكرة الغلوّ عندهم كانت فكرةً سلوكيّة، فلما اكتشفوا أنّه يصلّي تبيّن لهم أنّه ليس هو المقصود؛ لأنّ إشكاليّتهم ليس مع مَن عنده فكرة خاطئة، بل مع مَن لديه سلوك خاطئ قائم على نظريّة تقدّم المعرفة على العمل.

2 ـ ما نقله ابن طاووس في فلاح السائل عن الحسين بن أحمد المالكي، قلت لأحمد بن مالك الكرخي عما يقال في محمّد بن سنان من أمر الغلوّ، فقال: «معاذ الله! هو والله علّمني الطهور»([52]).

فجواب أحمد بن مالك الكرخي يعني أنّ محمّد بن سنان رجلٌ متشرّع ومتديّن وهو الذي علّمني الصلاة والصوم، فكيف تقول عنه بأنّه مغالٍ! إذاً، الراكز في الأذهان أنّ الغلوّ الذي كان محطّاً للنظر والنقاش في القرنين الثالث والرابع ليس هو الغلوّ الاعتقادي وإنّما الغلوّ السلوكيّ.

3 ـ وعنون الكشّيُّ جمعاً منهم: عليّ بن عبد الله بن مروان، وقال: إنّه سأل العيّاشي عنهم، فقال: «وأمّا عليّ بن عبد الله بن مروان، فإنّ القوم ـ يعني الغلاة ـ يُمتحنون في أوقات الصلاة، ولم أحضره وقت صلاة»([53]). أي أنّك سألتني عن فلان هل هو مغالٍ أو لا؟ وأقول لك: إنّ المعيار في الغلوّ هو الصلاة، وأنا لم أشاهد فلاناً يصلّي في وقت الصلاة، إذاً هذا فيه رائحة غلوّ.

4 ـ وعنون الكشّي أيضاً الغلاةَ في وقت الإمام الهادي، وروى عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، كتبت إليه في قوم يتكلّمون ويقرؤون أحاديث ينسبونها إليك وإلى آبائك، قال: ومن أقاويلهم أنّهم يقولون: إنّ قوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ معناها رجل، لا ركوع ولا سجود، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل، لا عدد درهم ولا إخراج، وأشياء من الفرائض والسنن والمعاصي، فأوّلوها وصيّروها على هذا الحدّ الذي ذكرت..([54]).

5 ـ روى الصدوق عن خلف بن حماد، عن رجلٍ من أصحابنا، عن أبي عبد الله×، قال: «ثلاثة لا يُصلّى خلفهم: المجهول، والغالي وإن كان يقول بقولك، والمجاهر بالفسق وإن كان مقتصداً»([55]). فهو يعتبره مغالياً حتى لو قال بقولك، وهذا يعني أنّه قد يشترك معك في العقائد لكنّ غلوَّه سلوكي.

على هذا الأساس تُصوّر أنّ النقد الذي وجّهه الإماميّة ـ في الموروث الموجود بين أيدينا ـ إلى بعض الأشخاص واتهامهم بالغلوّ وما يترتب عليهم من طرد من قم وإسقاط أحاديثهم عن الاعتبار كانوا في كلّ ذلك يركّزون على الغلوّ السلوكيّ أكثر من الغلوّ الاعتقادي.

وهناك مجال كبير للنقاش في هذه الفكرة؛ لأنّه من الممكن أن يكون الغلوّ السلوكيّ أحد أسباب الغلوّ أو أحد أوجه الغلوّ الذي كانوا يتشدّدون فيه، وليس الغلوّ منحصراً فيه، فيشمل الغلوّ السلوكي والاعتقادي على حدّ سواء. وهناك بعض الشواهد التي تؤيّد هذه المناقشة، منها:

1 ـ ما رواه الكشي، من أنّ فارس بن حاتم القزويني قُتل حين أراد الخروج من المسجد بين صلاتي المغرب والعشاء([56]).

إنّ فارس بن حاتم القزويني كان زعيم الغلاة في وقته، ومع ذلك كان يصلّي، وتمّ قتله وهو خارج من المسجد، إذاً، ليس كلّ غلوّ كان يتمّ اصطياد رجاله قتلاً أو نقداً أو رفضاً لمرويّاته هو غلوّ سلوكيّ، بل هناك نمط من الغلوّ العقائدي كان يتمّ التركيز عليه أيضاً.

2 ـ إنّ سهل بن زياد الآدمي كان أحمد بن محمد بن عيسی يشهد عليه بالغلوّ، ومع هذا إذا راجعتَ الكتب الأربعة كالكافي والتهذيب، تجد لسهلٍ من أوّل كتاب الطهارة إلی آخر كتاب الديات في أكثر الأبواب خبراً أو أزيد فيما يتعلّق بأحكام الدين، وكثير منها أخبار سديدةٌ مقبولةٌ من حيث المضمون، وقد أخذها المشايخ عنه وضبطوها في الجوامع كالكافي، ومع ذلك كلّه كيف يجوز نسبة الغلوّ إليه بهذا المعنى؟! فلا بد أن يقصد بنسبة الغلوّ إليه مثل الغلوّ الاعتقادي.

والنتيجة: إنّ هناك ظاهرتين في الغلوّ في القرون الأربعة الأولى: أ ـ الظاهرة الاعتقاديّة، ب ـ الظاهرة السلوكيّة، وإزاء موقف علماء الإماميّة في القرنين الثالث والرابع وخاصّة مدرسة قم من ظاهرة الغلوّ يوجد ثلاث آراء:

الرأي الأول: مقصودهم من الغلوّ هو الغلوّ السلوكيّ، وعندما كانوا ينتقدون أحداً كان معيارهم الغلوّ السلوكي.

الرأي الثاني: موقفهم أعم من الغلوّ السلوكيّ والاعتقادي، لكن لا الغلوّ بلحاظ المعجزات، فلم تكن لهم معه مشكلة.

الرأي الثالث: طرحه العلامّة المجلسي ويرى أنّ مدرسة قم كانت ترفض الغلوّ بأوسع مدياته الذي يشمل الغلوّ السلوكيّ والغلوّ الاعتقاديّ وتتخذ مواقف من الرواة انطلاقاً منه، والغلوّ برتبة أدنى صنّفتها مدرسة قم غلوّاً وإن كانت في الواقع ـ كما يرى المجلسي ـ ليست غلوّاً، من أمثال المعجزات ونفي السهو عن النبيّ وبهذا وسّعت دائرة الغلوّ.

نكتفي بهذا القدر من الإطلالة التمهيديّة على حركات الغلوّ في القرون الأربعة الهجريّة الأولى، ومجال التحليل والتأمّل واسع جداً ويحتاج لمزيد من البحث.

_____________________________

([1]) هذا تقرير لخمس محاضرات ألقاها الشيخ الدكتور حيدر حبّ الله، في منتدى "الملتقى"، عبر تطبيق زووم، وذلك بتاريخ 29 ـ 8 (و 5 و 12 و 19 و 24 ـ 9) ـ 2022م، وقد قام بكتابتها وتحريرها فضيلة السيد أيمن عبد الزهرة الموسوي، ثمّ قام الشيخ حبّ الله بمراجعتها وإجراء بعض التعديلات والإضافات عليها.

([2]) نقل جعفر بن محمد بن قولويه في كتابه "كامل الزيارات" قرابة ثمان وعشرين رواية عن سعد بن عبد الله الأشعري، وتعدّدت الواسطة بينه وبين سعد، فأغلب رواياته عنه كان الواسطة فيها أبوه وأخوه، وبعضها جماعة من مشايخه منهم علي بن الحسين بن موسى. وذكر النجاشي في ترجمة جعفر بن محمد بن قولويه أنّه قال: ما سمعت من سعد إلا أربعة أحاديث، لكنّ النجاشي ذكر في ترجمة سعد بن عبد الله الأشعري أنّ جعفر بن محمد بن قولويه قال: لم أسمع من سعد إلا حديثين. انظر: النجاشي، الفهرست: 123 ، 178.

([3]) الظاهر أنّ الإسم معرّب، والأصل شاهبور، وهي كلمة فارسية، والمؤلّف من مدينة اسفرايين شرق إيران، لكنّ عدم وجود حرف الباء المثلّثة في اللغة العربيّة، والذي ينطق بصوت حرف (P) في اللغة الانجليزيّة، جعلّهم يحولون الكلمة من شاهبور إلى شاهفور، والله العالم.

([4]) هناك كلام كثير حول شبكة العلاقة المعقّدة والمتشابكة والغامضة بين التشيّع والتصوّف في القرون الهجريّة الأولى، وقد اشتغل عليها باحثون كثر، ومع ذلك فهي ما تزال بحاجة إلى مزيد دراسةٍ وبحث، والكلام عن هذه العلاقة بين التشيّع والتصوف على المستوى التاريخي، وليس على مستوى العقائد كما هي في اللوح المحفوظ.

([5]) النوبختي، فرق الشيعة: 21 ـ 23.

([6]) ليس كلّ علماء الشيعة اليوم يرفضون فكرة السبئيّة، بل بعضهم يقبل بأنّ السبئيّة موجودة وعبد الله بن سبأ شخصيّة لها وجود تاريخي حقيقي، وهناك كتّاب أيضاً كتبوا في إثبات ذلك، فليس الأمر محسوماً، ولكنّ تياراً كبيراً من علماء الشيعة يرفض وجود السبئيّة، وبخاصّة بعد أن امتدح السيد أبو القاسم الخوئي في كتابه "معجم رجال الحديث" العمل الذي قام به السيّد مرتضى العسكري في هذا الموضوع، وذلك لدى ترجمته عبد الله بن سبأ.

([7]) اختيار معرفة الرجال 1: 324.

([8]) المصدر نفسه 1: 323 ـ 324.

([9]) تقول بعض المعاجم اللغويّة ـ كما في القاموس المحيط ـ: إنّ كيسان اسم للغدر، وهو لقب للمختار الثقفي، ويبدو ـ والله العالم ـ أنّ إعطاء هذا المعنى لهذا الاسم ليس لعلاقة لغويّة بينهما، بل هو إسقاط لوضع سياسيّ ـ مذهبي؛ لما يمثله هذا الاسم من أهميّة في الفرقة الكيسانيّة.

([10]) اختيار معرفة الرجال 2: 577، 589، 593.

([11]) من أهمّ الأشخاص الذين وقعوا في أسانيد روايات تحريف القرآن هم الغلاة، وعلى سبيل المثال أحمد السيّاري الذي له كتاب القراءات، تُنتسب إليه وحده حدود 350 رواية من أصل ألف رواية تقريباً في موضوع تحريف القرآن تتداول بين المسلمين، وقد شهد علماء الرجال الشيعة قبل السنّة بأنّه من الغلاة.

([12]) فكرة وجود الإمام المهدي في جبال رضوى جعلت الدكتور علي شريعتي يعتقد أنّ بعض الأدعية الإماميّة، مثل دعاء الندبة، الذي ورد فيه: «لَيْتَ شِعْرِي أيْنَ اسْتَقَرَّتْ بِكَ النَّوى بَلْ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّكَ أَوْ ثَرى؟! أَبِرَضْوى أَوْ غَيْرِها أَمْ ذِي طُوى» هي أدعية كيسانيّة، حيث إنّ بعض المرويّات الكيسانيّة نفذت في الرواية الشيعيّة الإماميّة، وقد حذّر شريعتي من هذا الأمر، وقد ردَّ عليه العلامة الرجالي الشيخ محمد تقي التستري في رسالة كتبها بهذا الخصوص.

([13]) شخصيّة المختار الثقفي والموقف منه محلّ خلاف بالنسبة للمسلمين، وليس هو خلاف بين الشيعة والسنّة، بل خلاف شيعي ـ شيعي من جهة، وسنّي ـ سنّي من جهة ثانية، وهناك انقسام بين المؤرّخين ـ شيعة وسنّة ـ حول شخصيّة المختار، وهل كانت له صلة بالإمام زين العابدين أم لم تكن له صلة؟ وهل كانت له صلة بمحمد بن الحنفية أم أنّه اخترع دور محمد بن الحنفية لكي يصوّر نفسه وكأنّه يتحرك بتوجيه من أهل البيت؟ الكلام في هذا الموضوع كثير ويستدعي التفكير والمراجعة.

([14]) الصدوق، الأمالي: 133.

([15]) اختيار معرفة الرجال 2: 489 ـ 491.

([16]) الكلام عن الحديث الإماميّ في القرن الثاني الهجري، أمّا الآن هل يوجد في الموروث الحديثي الإماميّ روايات غلوّ أم لا؟ فهذا بحث آخر مختلَف فيه، فبعضهم يقول: نحن إلى الآن ما زلنا مبتلين بروايات الغلاة ولو لم تكن أسماؤهم في الأسانيد، وبعضهم ـ منهم الشيخ رضا استادي ـ يرفض ذلك ويرى أنّه في عصر الإمام الرضا تمّ تصفية الأحاديث تصفيةً أولى، ثمّ في عصر المحمّدين الثلاثة (الكليني، الصدوق، الطوسي) تمت التصفية الثانية لها، ومن ثمّ نحن الآن لا نواجه في موروثنا الحديثي روايات غلوّ.

([17]) راجع: محمّد بن الحسن الصفار، بصائر الدرجات: 228 ـ 231. واللافت للنظر أنّ أغلب الروايات التي تقول بأنّ أهل البيت لديهم الاسم الأعظم يوجد في سندها شخصٌ اسمه محمّد بن الفضيل، وهو شخص متهم بالغلوّ عند علماء الرجال.

([18]) اختيار معرفة الرجال 2: 590 ـ 591.

([19]) المصدر نفسه 2: 592.

([20]) المصدر نفسه.

([21]) الشهرستاني، الملل والنحل: 177.

([22]) الكِسفة هي القطعة من الغيم.

([23]) تقي الدين المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار 4: 179، 181.

([24]) سعد بن عبد الله الأشعري، المقالات والفرق: 81.

([25]) الكليني، الكافي 1: 445.

([26]) اختيار معرفة الرجال 2: 594.

([27]) المصدر نفسه 2: 701.

([28]) المصدر نفسه: 778 ـ 779.

([29]) المصدر نفسه: 778.

([30]) المصدر نفسه: 776.

([31]) فرق الشيعة: 69.

([32]) اختيار معرفة الرجال 2: 658، 823.

([33]) المصدر نفسه 2: 805.

([34]) كتاب الضعفاء: 85.

([35]) اختيار معرفة الرجال 2: 808.

([36]) المصدر نفسه 2: 806.

([37]) الطوسي، الغيبة 1: 418.

([38]) فرق الشيعة: 78؛ وانظر: الأشعري، المقالات والفرق: 100.

([39]) اختيار معرفة الرجال 2: 805.

([40]) المصدر نفسه.

([41]) ظهرت في الأربعين سنة الأخيرة عدّة دراسات في أوساط الحوزات العلميّة، وعند بعض العلماء المهتمّين بدراسة التراث والكتب والمصنّفات القديمة، ظهرت وجهةُ نظر تعتبر أنّ بعض الكتب المتداولة في الوسط الإمامي هي كتب لشخصيّات محسوبة على المذهب النصيريّ، على سبيل المثال كتاب الهداية الكبرى وكتاب تحف العقول ـ وهو كتاب مشهور شهرة عظيمة وتذكر رواياته إلى اليوم في الكتب والاستدلالات الفقهيّة، وإن كانوا يحكمون عليه عادة بالإرسال لكنّ بعض العلماء يأخذ بها ـ وبعض الدراسات تعتبر ابن شعبة الحراني مؤلّف كتاب تحف العقول من النصيريّة؛ لأنّه كان يعيش في تلك المناطق التي كان يسكنها العلويون، ومن ثمّ هو واحد من رموزهم أو على الأقل متأثر بفضائهم.

([42]) ابن الغضاري، كتاب الضعفاء: 54.

([43]) النجاشي، الفهرست: 67.

([44]) يرى بعض العلماء أنّ كتاب التكليف هو نفسه كتاب الفقه الرضوي الموجود اليوم بين أيدينا.

([45]) انظر: النجاشي، الفهرست: 378.

([46]) الخرّم كلمة فارسية تعني الطبيعة الخضراء، وهناك ترابط دلاليّ بين هذه الكلمة وما قدّم لأنصاره من دين وشريعة من نوع الدين الجميل اللطيف.

([47]) بحار الأنوار 25: 348 ـ 349.

([48]) التستري، قاموس الرجال 1: 66.

([49]) وهو من المتهمين بالغلوّ.

([50]) المقصود من الأشاعرة هنا الأشعريّين الذين سكنوا مدينة قم، وليس أتباع المذهب الأشعري.

([51]) ابن الغضائري، كتاب الضعفاء: 94.

([52]) ابن طاووس، فلاح السائل: 13.

([53]) اختيار معرفة الرجال 2: 812.

([54]) المصدر نفسه 2: 803.

([55]) الخصال: 154.

([56]) اختيار معرفة الرجال 2: 808.