hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

آراء

التعليقة على منهاج الصالحين (كتاب الاجتهاد والتقليد ـ القسم الثاني)

تاريخ الاعداد: 1/2/2024 تاريخ النشر: 1/2/2024
5630
التحميل

حيدر حبّ الله

 

هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين

(28 ـ 12 ـ 2023م)

 

مسألة 21: من ليس أهلاً للمرجعيّة في التقليد([1]) يحرم عليه الفتوى بقصد عمل غيره بها([2])، كما أنّ من ليس أهلاً للقضاء يحرم عليه القضاء، ولا يجوز الترافع إليه ولا الشهادة عنده([3])، والمال المأخوذ بحكمه حرام، وإن كان الآخذ محقّاً، إلا إذا انحصر استنقاذ الحقّ المعلوم بالترافع إليه. هذا إذا كان المدّعى به كليّاً، وأمّا إذا كان شخصيّاً فحرمة المال المأخوذ بحكمه، لا تخلو من إشكال([4]).

مسألة 22: الظاهر أنّ المتجزّي في الاجتهاد([5]) يجوز له العمل بفتوى نفسه، بل إذا عرف مقداراً معتداً به من الأحكام([6]) جاز لغيره العمل بفتواه، إلا مع العلم بمخالفة فتواه لفتوى الأفضل، أو فتوى من يساويه في العلم([7]). وينفذ قضاؤه ولو مع وجود الأعلم.

مسألة 23: إذا شكّ في موت المجتهد، أو في تبدّل رأيه، أو عروض ما يوجب عدم جواز تقليده، جاز البقاء على تقليده إلى أن يتبيّن الحال([8]).

مسألة 24: الوكيل في عملٍ يعمل بمقتضى تقليد موكّله([9])، لا تقليد نفسه([10])، وكذلك الحكم في الوصي([11]).

مسألة 25: المأذون والوكيل عن المجتهد في التصرّف في الأوقاف أو في أموال القاصرين، ينعزل بموت المجتهد، وكذلك المنصوب من قبله ولياً وقيّماً فإنّه ينعزل بموته على الأظهر([12]).

مسألة 26: حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه([13]) حتى لمجتهدٍ آخر، إلا إذا علم مخالفته للواقع، أو كان صادراً عن تقصير في مقدّماته.

مسألة 27: إذا نقل ناقل ما يخالف فتوى المجتهد، وجب عليه إعلام من سمع منه ذلك([14])، ولكنّه إذا تبدّل رأي المجتهد، لم يجب عليه إعلام مقلّديه فيما إذا كانت فتواه السابقة([15]) مطابقة لموازين الاجتهاد([16]).

مسألة 28: إذا تعارض الناقلان في الفتوى، فمع اختلاف التاريخ واحتمال عدول المجتهد عن رأيه الأوّل يعمل بمتأخّر التأريخ([17])، وفي غير ذلك عمل بالاحتياط على الأحوط وجوباً([18]) حتى يتبيّن الحكم.

مسألة 29: العدالة المعتبرة في مرجع التقليد([19]) عبارة عن الاستقامة في جادّة الشريعة المقدّسة، وعدم الانحراف عنها يميناً وشمالاً، بأن لا يرتكب معصية بترك واجب، أو فعل حرام، من دون عذر شرعي، ولا فرق في المعاصي في هذه الجهة بين الصغيرة والكبيرة، وفي عدد الكبائر خلاف.

وقد عدّ من الكبائر([20]) الشرك بالله تعالى، واليأس من روح الله تعالى، والأمن من مكر الله تعالى، وعقوق الوالدين ـ وهو الإساءة إليهما([21]) ـ وقتل النفس المحترمة، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم ظلماً، والفرار من الزحف، وأكل الربا، والزنا، واللواط، والسحر، واليمين الغموس الفاجرة، وهي الحلف بالله تعالى كذباً على وقوع أمر، أو على حقّ امرئ أو منع حقّه خاصة، كما قد يظهر من بعض النصوص، ومنع الزكاة المفروضة، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، وشرب الخمر، ومنها ترك الصلاة أو غيرها مما فرضه الله متعمّداً، ونقض العهد، وقطيعة الرحم ـ بمعنى ترك الإحسان إليه من كلّ وجه في مقام يتعارف فيه ذلك ـ والتعرّب بعد الهجرة إلى البلاد التي ينقص بها الدين، والسرقة، وإنكار ما أنزل الله تعالى، والكذب على الله، أو على رسوله صلى الله عليه وآله، أو على الأوصياء عليهم السلام، بل مطلق الكذب، وأكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهلّ به لغير الله، والقمار، وأكل السحت كثمن الميتة والخمر والمسكر وأجر الزانية وثمن الكلب الذي لا يصطاد([22]) والرشوة على الحكم ولو بالحقّ وأجر الكاهن وما أصيب من أعمال الولاة الظلمة وثمن الجارية المغنية وثمن الشطرنج([23])، فإنّ جميع ذلك من السحت. ومن الكبائر: البخس في المكيال والميزان، ومعونة الظالمين، والركون إليهم، والولاية لهم، وحبس الحقوق من غير عسر، والكبر، والإسراف والتبذير، والاستخفاف بالحجّ، والمحاربة لأولياء الله تعالى، والاشتغال بالملاهي([24]) ـ كالغناء بقصد التلهّي([25]) ـ وهو الصوت المشتمل على الترجيع على ما يتعارف أهل الفسوق ـ وضرب الأوتار ونحوها مما يتعاطاه أهل الفسوق، والإصرار على الذنوب الصغائر([26]).

والغيبة، وهي أن يذكر المؤمن([27]) بعيب في غيبته، سواء أكان بقصد الانتقاص أم لم يكن، وسواء أكان العيب في بدنه أم في نسبه أم في خلقه أم في فعله أم في قوله أم في دينه أم في دنياه أم في غير ذلك مما يكون عيباً مستوراً عن الناس، كما لا فرق في الذكر بين أن يكون بالقول أم بالفعل الحاكي عن وجود العيب. والظاهر اختصاصها بصورة وجود سامع يقصد إفهامه وإعلامه، كما أنّ الظاهر أنّه لا بدّ من تعيين المغتاب، فلو قال: واحد من أهل البلد جبان لا يكون غيبة، وكذا لو قال: أحد أولاد زيد جبان([28]). نعم قد يحرم ذلك من جهة لزوم الإهانة والانتقاص، لا من جهة الغيبة.

ويجب عند وقوع الغيبة التوبة والندم، والأحوط استحباباً الاستحلال من الشخص المغتاب إذا لم تترتب على ذلك مفسدة، أو الاستغفار له.

وقد تجوز الغيبة في موارد: منها المتجاهر بالفسق، فيجوز اغتيابه في غير العيب المتستّر به([29])، ومنها: الظالم لغيره، فيجوز للمظلوم غيبته، والأحوط استحباباً الاقتصار على ما لو كانت الغيبة بقصد الانتصار لا مطلقاً([30])، ومنها: نصح المؤمن([31])، فتجوز الغيبة بقصد النصح، كما لو استشار شخص في تزويج امرأة فيجوز نصحه، ولو استلزم اظهار عيبها، بل لا يبعد جواز ذلك ابتداء بدون استشارة، إذا علم بترتّب مفسدة عظيمة على ترك النصيحة، ومنها : ما لو قصد بالغيبة ردع المغتاب عن المنكر، فيما إذا لم يمكن الردع بغيرها([32])، ومنها: ما لو خيف على الدين من الشخص المغتاب، فتجوز غيبته، لئلا يترتب الضرر الديني([33])، ومنها: جرح الشهود([34])، ومنها: ما لو خيف على المغتاب الوقوع في الضرر اللازم حفظه عن الوقوع فيه، فتجوز غيبته لدفع ذلك عنه([35])، ومنها: القدح في المقالات الباطلة، وإن أدّى ذلك إلى نقصٍ في قائلها([36])، وقد صدر من جماعة كثيرة من العلماء القدح في القائل بقلّة التدبّر والتأمّل وسوء الفهم ونحو ذلك، وكأنّ صدور ذلك منهم لئلا يحصل التهاون في تحقيق الحقائق، عصمنا الله تعالى من الزلل ووفقنا للعلم والعمل، إنّه حسبنا ونعم الوكيل([37]).

وقد يظهر من الروايات عن النبيّ والأئمّة عليهم أفضل الصلاة والسلام أنّه يجب على سامع الغيبة أن ينصر المغتاب، ويردّ عنه، وأنّه إذا لم يردّ خذله الله تعالى في الدنيا والآخرة، وأنّه كان عليه كوزر من اغتاب([38]).

ومن الكبائر: البهتان على المؤمن([39]) ـ وهو ذكره بما يعيبه وليس هو فيه ـ ومنها: سبّ المؤمن وإهانته وإذلاله، ومنها: النميمة بين المؤمنين بما يوجب الفرقة بينهم، ومنها: القيادة وهي السعي بين اثنين لجمعهما على الوطئ المحرم، ومنها: الغش للمسلمين([40])، ومنها: استحقار الذنب فإنّ أشدّ الذنوب ما استهان به صاحبه، ومنها الرياء وغير ذلك مما يضيق الوقت عن بيانه.

مسألة 30: ترتفع العدالة بمجرد وقوع المعصية، وتعود بالتوبة والندم، وقد مرّ أنّه لا يفرق في ذلك بين الصغيرة والكبيرة.

مسألة 31: الاحتياط المذكور في مسائل هذه الرسالة([41]) ـ إن كان مسبوقاً بالفتوى أو ملحوقاً بها ـ فهو استحبابي يجوز تركه([42])، وإلا تخيّر العامي بين العمل بالاحتياط والرجوع إلى مجتهد آخر الأعلم فالأعلم، وكذلك موارد الإشكال والتأمّل، فإذا قلنا: يجوز على إشكال أو على تأمّل فالاحتياط في مثله استحبابي، وإن قلنا: يجب على إشكال، أو على تأمّل فإنّه فتوى بالوجوب، وإن قلنا المشهور: كذا، أو قيل كذا وفيه تأمّل، أو فيه إشكال، فاللازم العمل بالاحتياط، أو الرجوع إلى مجتهد آخر([43]).

مسألة 32: إنّ كثيراً من المستحبات المذكورة في أبواب هذه الرسالة يبتني استحبابها على قاعدة التسامح في أدلّة السنن([44])، ولما لم تثبت عندنا فيتعيّن الإتيان بها برجاء المطلوبيّة([45])، وكذا الحال في المكروهات فتترك برجاء المطلوبيّة، وما توفيقي إلا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب([46]).

__________________________

([1]) ولو لفقده شرطاً من شروط شرعيّة تقليده، غير شرط الفقاهة؛ فلو قلنا بشرط الذكورة في مرجع التقليد فالأنثى الفقيهة لا يجوز لها ـ ولو كانت هي الأعلم ـ الإفتاء بقصد عمل الآخرين بفتواها.

([2]) هنا أمران:

1 ـ المفتي يكفيه أن يكون هو على قناعة موضوعية شرعيّة بكونه فقيهاً، ولو لم تثبت فقاهته عند أحد.

2 ـ إنّه وإن حرم على غير الفقيه بيان رأيه الفقهي بقصد عمل الآخرين به، لكنّ حجيّة قول الفقيه لا تقتصر على حالة بيانه لرأيه العلمي بقصد عمل الآخرين به، ولبيان هذه المسألة لا بدّ من توضيح وهو أنّ المتداول في الفقه الإسلامي مفهوم حجيّة الفتوى، وعندما يتمّ الحديث عن التقليد فإنّ مفهومه مرتبط بالاعتماد على فتواه أو بمطابقة العمل لفتواه، أو غير ذلك من التعاريف التي ذكروها هناك. وفي القرون الأخيرة برزت في الحياة الشيعيّة بالخصوص ظاهرة الاحتياط في الفتاوى (وليس الفتوى بالاحتياط، فإنّها أمرٌ آخر شاع بين المتقدّمين نتيجة منطلقات منهجيّة لديهم، وكذلك بين المتأخّرين في حالات محدّدة). والمراد بالاحتياط في الفتوى ـ وأعني به هنا الاحتياط الوجوبي خاصّة دون الاستحبابي ـ تجنّب الفقيه إصدار فتوى في مسألة معيّنة، والاستعاضة عن ذلك بتعبيرات الاحتياط الوجوبي المعروفة في الرسائل العمليّة. وهذه الظاهرة لها جذور منذ عصر مدرسة الحلّة في القرن السابع والثامن الهجريّين، لكنّها كبرت جداً منذ القرن الحادي عشر، وبخاصّة بعد الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) الذي تُعتبر رسالته العمليّة مظهراً أعلى من مظاهر هذا الاحتياط الذي ترك تأثيره على جميع العلماء بعده تقريباً. وقد أفرزت هذه الظاهرة ثنائيّةً جديدة تقوم على التمييز بين الفتوى والرأي العلمي، بمعنى أنّ الفقيه يمكن أن يكون لديه رأيٌ علمي موجود في بحوثه الاستدلاليّة، لكنّه في الرسالة العمليّة وفي فتاويه لا نجد هذا الرأي، بل نجد مكانه احتياطاً وجوبيّاً. ومن المعروف أنّ الاحتياط الوجوبي عادةً تعبيرٌ آخر عن عدم رغبة الفقيه في إصدار فتوى، ولهذا يرجع المقلِّدون إلى الفقيه الأعلم بعده، فإنّه حيث لم يُصدر فتوى، فسوف يكون الأعلم بعده هو الأعلم بين المفتين بهذه القضيّة، فتقليدُه يكون تقليداً للأعلم على طبق القاعدة، إلا على بعض الآراء التي ترى أنّ الاحتياط لو تضمّنت منطلقاتُه تخطئة فتاوى الآخرين (غير الأعلم)، فإنّه يُشكل الرجوع لتلك الفتاوى رغم وجود الاحتياط الوجوبي عند الأعلم، وسيـأي الحديث عن ذلك. وقد تعدّدت كثيراً منطلقات الاحتياطات الوجوبيّة، وكُتب في هذا الموضوع أكثر من دراسة منشورة، ومن بينها دراسات للشيخ محمد إبراهيم الجنّاتي والشيخ رضا أستادي وغيرهما. ولا أريد الحديث هنا عن الاحتياطات، فالكلام فيها طويل، وقد تحدّثنا عنها في مناسبات عدّة، لكن ما أودّ الحديث عنه هنا باختصار شديد هو: هل الحجيّة ثابتة لفتوى الفقيه بما لها من مفهوم في الرسالة العمليّة، أو أنّ الحجيّة لرأيه العلمي، بحيث يكون الرأي العلمي هو الفتوى، ولو لم يكن مذكوراً في الرسالة العمليّة أو كان المذكور في الرسالة العمليّة هو الاحتياط الوجوبي؟ ومعنى ذلك أنّه لو فرضنا أنّنا أحرزنا أنّ الرأي العلمي للفقيه هو حليّة شيء، بحيث توصّل إلى ذلك بوضوح في بحوثه العلميّة المنشورة أو المنقولة لنا من قبل من يعتمد على قوله، لكنّه في الرسالة العمليّة احتاط وجوباً، فهل رأيه العلمي يمثل فتوى تملك الحجيّة بحيث يمكننا العمل على وفقها، ومن ثمّ لا يمكن الرجوع لغيره ـ وفقاً لنظريّة تقليد الأعلم ـ حتى لو كانت الرسالة العمليّة متضمّنة للاحتياط الوجوبي المستدعي تلقائيّاً للرجوع للغير أو لا؟ وكذا لو كان رأيه العلمي هو الحرمة، لكنّه احتاط وجوباً ليسهّل على المكلّفين الرجوع لغيره ممن يقول بالحليّة، فهل الحجيّة في نصوصه في الرسالة العمليّة أو في رأيه العلمي في كتبه وبحوثه؟

الأقوى أنّه لو عرفنا رأيه العلمي النهائي فإنّ رأيه العلمي النهائي حجّة؛ وذلك أنّ الحجيّة للرأي العلمي النهائي للفقيه، بلا فرق بين أن يكون في كتبه العلميّة البحثيّة أو دروسه أو كتبه الفتوائيّة. ومعنى "الرأي العلمي النهائي" هو أن يكون الفقيه مقتنعاً قناعةً تامّة بالحكم الذي توصّل إليه، وأنّه الحجّة بينه وبين ربّه. وعليه: أ ـ فلو احتاط الفقيه في الرسالة العمليّة وانطلق احتياطُه من تردّده في البحث أو عدم وضوح النتيجة عنده ولو بسبب ذهاب المشهور إلى عكس ما توصّل إليه، أو وجود عنوان ثانوي عام يجعله يمتنع عن الأخذ بالحكم الأوّلي الذي توصّل إليه، وهو معنى كون احتياطه حقيقيّاً، ففي مثل هذه الحال لا يكون الأخذ برأيه العلمي ممكناً؛ لفرض عدم وجود رأي علمي لديه، بل يلزم الرجوع لاحتياطه وترتيب آثار الاحتياطات الوجوبيّة عليه. وهذا هو ـ أو يُشبه ـ ما يعبّر عنه القدماء عادةً بـ "التوقّف". ب ـ أمّا لو علمنا أنّ رأيه العلمي واضحٌ وقاطع بتحريم شيء أو تحليله، لكنّه انطلق في احتياطه الوجوبي من أسباب غير بحثيّة ولا ترجع لمعرفته بالحكم الشرعي نفسه أوّليّاً وثانويّاً، بل لمبرّرات موضوعية ظرفيّة تمنعه هو نفسه عن الإفتاء، مثل أنّه يخشى من ردود أفعال الأوساط الحوزويّة على فتواه، ولا يرى مصلحةً في أن يبوح برأيه العلمي في الرسالة العمليّة، أو مثل أنّه لا يريد أن يشقّ على المكلّفين؛ لكون رأيه العلمي تحريميّاً، أو لغير ذلك، ففي مثل هذه الحال ـ وهي التي يكون الاحتياط فيها صوريّاً ـ يكون رأيه العلميّ حجّةً، ولا عبرة باحتياطاته الوجوبيّة في حقّ من اطّلع ـ بطريقٍ حجّة ـ على رأيه العلمي النهائي. ومن الواضح أنّ التمييز في الاحتياطات الوجوبيّة بين ما يكون الرأي العلمي النهائي خلفها أو لا، ليس متيسّراً لكثيرين، بل للأكثر عادةً، إذ يحتاج لمعرفة واضحة وعن قرب بالفقيه وآرائه ومنطلقاته في الاحتياط الوجوبي هنا أو هناك، فلا يجوز الاستعجال والبناء على الظنّ والتخمين. ج ـ من هنا تترتب نتيجة أخرى، وهو أنّ الفقهاء الذين ليست لهم رسائل عمليّة، لكنّهم يُبدون آراءهم الفقهيّة النهائيّة بكلّ وضوح وقاطعيّة في بحوثهم أو أجوبتهم، يمكن الأخذ بآرائهم هذه ما دامت تخضع لمفهوم "الرأي العلمي النهائي"، حسبما أوضحناه، بعيداً عن فكرة الأعلميّة هنا. فلا يحتاج التقليد لمفهوم التصدّي المرجعي، بمعنى أنّه لا يحتاج تقليدُك لشخص في فتاويه أو فتوى من فتاويه، لأن يكون معلناً تصدّيه للمرجعيّة العامّة أو مُصدراً لرسالة عمليّة بالمفهوم النمطي المتعارف.

والمستند في ذلك كلّه أنّه لا يوجد لدينا في الأدلّة المعتَمدة شيءٌ يميّز بين الفتوى والرأي العلمي، بل جوهر الفكرة هو رجوع الجاهل إلى العالم، وبناء العقلاء على ذلك، ويصدق في المورد الذي أشرنا إليه عنوان رجوع الجاهل إلى العالم، فلو كنتُ أعلم رأي الطبيب في مرضي وطريقة العلاج منه، لكنّه لم يكن قادراً على أن يتكلّم معي لسببٍ أو لآخر، كما لو كان بعضُ الناس يهدّدونه بأنّه لو أخبرني فسيقتلونه، ففي مثل هذه الحال لا يسقط رأيه العلمي عن الحجيّة، بل هو مصداقٌ جليّ للقانون العقلائي الذي يُشكّل الأصل في فكرة التقليد. وليس مشروطاً في حجيّة رأي العالِم أن يُبدي رأيه بقصد عمل الآخرين به، فإنّ هذا القصد ليس شرطاً في القانون العقلائي، فالفتوى هي «الرأي العلمي النهائي»، لا الرأي المبرَز بقصد عمل الآخرين به، وهذا بخلاف «الحكم» الذي يصدره القاضي أو الإمام، فإنّ الأحكام تأخذ هويّتها من الإصدار القانوني لها، لا من مجرّد اقتناع الحاكم بمضمونها، فلو اقتنع القاضي ولكنّه لم يُصدر حكماً بعدُ فلا قيمة لقناعاته، فيما الفتوى ليست كذلك، بل مرجع الحجيّة فيها هو علم العالم، وليس حكمه واعتباره القانوني.

([3]) لا دليل على حرمة الترافع أو الشهادة عنده بعنوانيهما، وبخاصّة لو كان القاضي يرى فقاهة (اجتهاد) نفسه اشتباهاً، لكن لو لزم من ذلك سلب صاحب الحقّ حقّه أو ترتّب على ذلك عنوان ثانوي فيحرم، وهذا بخلاف الترافع عند قضاة الجور فهو محرّمٌ بعنوانه، ولا ينبغي الخلط بين عنوان "من ليس أهلاً للقضاء" وعنوان "مَن هو مِن قضاة الجور".

([4]) كلّ من حُكم بعدم جواز الترافع عنده، أو حُكم بعدم شرعيّة ممارسته العمل القضائي، لو وقع الترافع عنده فإن كان المال المأخوذ بحكمه شخصيّاً جزئيّاً جاز الأخذ مع إحراز المكلّف أنّ هذا مالُه بالفعل، وأمّا إذا كان كليّاً وكان مستحقّاً للمال في الحال، كما في الدين المؤجّل الذي حلّ أجله، وألزمه القاضي بالدفع، فإن عيّن الطرف الآخر المال وأعطاه بفعل حكم القاضي بمبدأ السداد فلا شكّ في جواز أخذه، وإن عيّن القاضي نفسه المال في شيءٍ بعينه، فإن كان امتناع الطرف الآخر عن التسليم لمجرّد الامتناع عن تسليم الحقّ الكلّي، لا لخصوصيّة فيما عيّنه القاضي ـ بحيث لولا امتناعه عن مبدأ التسليم فهو لا يمانع من تطبيقه على هذا المورد الذي عيّنه القاضي ـ جاز الأخذ، وإلا أشكل، وتعيّن الأخذ من باب المقاصّة في هذه الحال إن لم يكن يمكن الترافع عند من يجوز الترافع عنده.

([5]) بلا فرق بين تعريفَيه، فسواء قلنا بأنّ المتجزّي هو القادر على ممارسة الفقاهة والاجتهاد في بعض الأبواب دون بعض (تجزّي المَلَكَة)، أم قلنا بأنّه القادر على ممارستهما في جميع الأبواب، لكنّ الظروف الموضوعيّة أو غيرها لم تسمح له بالقيام بهذه الممارسة في تمام الأبواب، فاجتهد في بعضها أو في بعض المسائل دون بعض، ففي كلتا الحالتين يمكنه تقليد نفسه ـ بل يلزمه ـ فيما اجتهد فيه، ويمكن للآخرين الرجوع إليه في ذلك. وهذا المتجزّي يمكنه الأخذ بقول غيره فيما لم يجتهد فيه ـ بعيداً عن الاحتياط الوجوبي الذي أشرنا إليه سابقاً، بالاجتهاد مع المكنة ـ ما لم يكن قد اجتهد هو في قول الغير فتوصّل لبطلانه، وإن لم يتوصّل للنتيجة النهائية في المسألة، كما سيأتي نظيره في قضيّة الاحتياطات الوجوبيّة. ومثله ما لو كان تجزّيه في علوم الاجتهاد، كما لو كان مجتهداً في أصول الفقه غير مجتهد في الفقه أو كان مجتهداً في علوم الرجال والحديث دون الفقه وهكذا، فإنّه لو توصّل لبطلان قول الفقيه الآخر في مبناه الرجالي أو الأصولي، فإنّه لا يمكنه بعد ذلك الأخذ بقوله المبنيّ ـ حصراً ـ على هذا الرأي الرجالي أو الأصولي الخاطئ بنظره، وهكذا.

([6]) بل حتى لو عرف ـ بالاجتهاد والفقاهة ـ حكماً واحداً فقط، ولا ضرورة لفرض المقدار المعتدّ به بعنوانه. وهذا منّا كلامٌ نظريّ بطبعه.

([7]) قد تقدّم عدم اشتراط تقليد الأعلم، وعدم وجوب الاحتياط في مورد التساوي.

([8]) ولا يجب عليه الفحص للتأكّد من أنّه عدل عن رأيه أو لا، ولو أراد الفحص فله ذلك، لكن لا يلزمه الاحتياط في مدّة الفحص، بل يمكنه الأخذ بالفتوى السابقة.

([9]) أو اجتهاده وفقاهته وهكذا.

([10]) إلا مع احتفاف التوكيل أو الوصيّة بقرينة على الشمول لتقليد نفسه، فضلاً عن تعيّنه.

([11]) ولا وجه لما ذكره بعضٌ من أنّه إذا لم يعلم بالفقيه الذي يقلّده الموكّل أو الموصي جاز له العمل على وفق تقليده هو.

([12]) بل المنصوب لا ينعزل إلا بعزل الحاكم الحيّ له ما لم يتمّ تقييد النصب بالحياة، فيكون المقصود أنّ المنصوب يمكنه العمل بمقتضى ولايته حتى يعزله الحيّ.

([13]) المراد من النقض هنا هو الإبطال أو المعارَضة بحيث يتمّ التعامل معه وكأنّه لم يكن، فيُصار إلى رفع التنازع ثانيةً لجهةٍ قضائيّة أخرى، أمّا نقد حكم الحاكم نقداً علميّاً أو نحوه فلا علاقة له بالنقض ولا يصدق عليه عنوان "الرادّ على الله". هذا، وسوف يأتي في مباحث القضاء الموقف مما يُعرف بمحاكم الاستئناف.

ولا بأس هنا بالإشارة إلى أمر ابتلائي اليوم، وهو رفع شعار "الموت لأعداء ولاية الفقيه (مرگ بر ضد ولايت فقيه)" فإنّ هذا الشعار غيرُ مفهوم؛ فإنّ هذه المسألة ـ مسالة ولاية الفقيه العامّة ـ من المسائل الفقهيّة التي وقع فيها خلاف بين العلماء منذ قديم الأيّام، فأيّ معنى لأن يهتف أنصار من يقول بهذه المسألة بالموت لمن يخالفها؟! وإذا كان هناك تفسيرٌ آخر لهذا الشعار ـ وهو ما نحتمله ـ فينبغي توضيحه أو تغيير الشعار بما يتناسب مع ذلك التفسير ويرفع الالتباس، وإلا فالحقّ هو ما قاله المرجع الديني الراحل السيد محمّد رضا الگلپايگاني في بعض دروسه الصوتيّة المنشورة في بدايات الثمانينيّات من القرن العشرين، من أنّ شعاراً من هذا القبيل غيرُ مقبول، وأنّه من العيب والعار في بلاد الإسلام ـ حسب تعبيره ـ أن يُرفع مثل هذا الشعار ولا ينتقده أحد، مع علم الجميع بأنّ القضيّة محلّ خلاف فقهي قديم، ولا تفترق عن مسألة الخلاف في عدد التسبيحات في الركعتين الثالثة والرابعة في الصلاة، حسب المثال الذي ذكره هو نفسه، فمجرّد مخالفة نظرية ولاية الفقيه ـ ولو كان بحدّ القول بحرمة تأسيس دولة دينية في عصر الغيبة كما ذهب إليه بعض الفقهاء ـ لا يوجب الدعوة بالموت على المخالفين.

([14]) الوجوب ـ بالعنوان الأوّلي ـ محلّ إشكال، وبخاصّة لو كانت الفتوى هي الإباحة، ونقل هو أنّها الحرمة، أو نقل أنّها الوجوب، ونحو ذلك مما يكون النقل فيه على وفق الاحتياط. ومثل خطأ الناقل في النقل خطأ الفقيه في الإعلام عن فتواه، وهذا غير خطئه في اجتهاده كما هو واضح. وأوضح من ذلك ما لو نقل الناقل فتوى الفقيه من غير خطأ، لكن عدل الفقيه نفسه لاحقاً إلى فتوى أخرى، لم يجب على الناقل بيان عدول الفقيه للمكلّف.

([15]) يقول بها أحدٌ ممّن يمكن للمكلّف الرجوع إليه، بحيث يكون عمله مطابقاً ـ عمليّاً ـ لفتوى ذلك الفقيه.

([16]) في الاكتفاء بمطابقتها للموازين مع عدم قول أحدٍ بها، إشكالٌ، فلا يترك الاحتياط بالإعلام عن سحبه لفتواه السابقة مع عدم وجوب بيان الفتوى الجديدة عليه إذا كان هناك من يمكن للمكلّفين الرجوع إليه في المورد. كما أنّه لو كان يُفهم عرفاً ـ بحسب التبانيات القائمة ـ من عدم الإعلان عن الفتوى الجديدة أنّه بمثابة الإعلان عن بقاء الفتوى السابقة، فاللازم هو بيان تحقّق العدول عن الفتوى السابقة.

([17]) إذا كان النقل الثاني بمثابة الكاشف عن تغيّر الرأي، وإلا فلا موجب للأخذ بالرأي الثاني.

([18]) بل يلزمه الاحتياط، لكن في خصوص صورة ما إذا تردّد في أنّ الفتوى هو الوجوب أو الجواز مثلاً، ولم يعرف أنّه هل يوجد، ولو فقيهٌ واحد، يقول بأحدهما أو لا، بل تردّد.

([19]) قلنا بعدم اشتراطها فيه، فضلاً عن دعوى أنّ عدالة المرجع هي رتبة أعلى من عدالة إمام الجماعة أو الشاهد.

([20]) المقدار المتيقّن كونه من الكبائر هو: الكفر بالله، وقتل النفس المحترمة، وعقوق الوالدين، والربا، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والتعرّب بعد الهجرة، وقذف المحصنات، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، وأمّا ما هو غير ذلك فإمّا دليله ثابت الضعف، أو أنّ الأمر فيه مردّد.

([21]) الموجبة لأذيّتهما.

([22]) في كونه سحتاً محرّماً تأمّل.

([23]) في مورد تحريمها لا مطلقاً.

([24]) إذا قُصد من تعبير "الاشتغال بالملاهي" مطلق اللهو واللعب، فلم يثبت تحريمه شرعاً، أمّا إذا قصد بعض أنواعه مما سيذكره الماتن بعد ذلك فلا بأس بعدّه من المحرّمات بصرف النظر عن موضوع الكبائر.

([25]) في المقدار المحرّم منه ممّا سيأتي توضيحه في محلّه. هذا مضافاً إلى أنّ حرمة الغناء ليست مربوطة بالقصد.

([26]) في كون "الإصرار على الصغائر" محرّماً مستقلاً ـ فضلاً عن كونه من الكبائر ـ نظرٌ وتأمّل.

([27]) بمعنى مطلق المسلم، وهو ما يجري في الغيبة وما بعدها من الكبائر المذكورة مثل البهتان.

ولمزيد تفصيل، يمكن القول بأنّه لعلّ السائد بين الكثير من فقهاء الإماميّة اختصاص حرمة الغيبة بالشيعي الإمامي الاثني عشري، فتجوز غيبة المخالف، سواء كان سنيّاً أم إباضيّاً أم شيعيّاً غير إمامي كالإسماعيلي والزيدي ونحو ذلك. بل أجاز كثيرون هجاء المخالف (غير الشيعي)، بل صرّح بعضهم بجواز الشتم بالعنوان الأوّلي. لكن في مقابل هذا القول المتداول يوجد بعض الفقهاء الذين لم يوافقوا على هذا التخصيص، بل رأوا حرمة غيبة مطلق المسلم، ومنهم: الشيخ أحمد الأردبيلي (993هـ)، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والسيّد محمّد حسين فضل الله. وهو المنسوب أيضاً للشهيد الثاني والمحقّق الخراساني. واحتاط وجوباً ـ إذا لم يكن هناك داعٍ شرعي ـ السيّدُ محمّد رضا الگلپايگاني (1414هـ). وخصّ الشيخ جواد التبريزي جواز غيبة المخالف بما إذا كان مقصّراً لا قاصراً. ويذهب بعضٌ إلى الاعتقاد بأنّ السيد الخميني قد عدل في الثمانينيات من القرن العشرين عن رأيه في حليّة غيبة غير الشيعي ليرى التحريم، وذلك اعتماداً على بعض الاستفتاءات التي أجاب عنها في ذلك الوقت. ويظهر من بعض استفتاءات السيد علي الخامنئي لزوم تجنّب غيبة مطلق المسلم. بل ذهب الشيخ يوسف الصانعي لحرمة غيبة كلّ إنسان ولو لم يكن مسلماً إذا لم يكن معانداً أو مقصّراً أو مسيئاً للمقدّسات الدينيّة الصحيحة، بل ذهب كلّ من الشيخ الصادقي الطهراني والسيد محمّد جواد الموسوي الغروي الإصفهاني إلى حرمة غيبة مطلق الإنسان بلا تفصيل بين المعذور وغيره والمعاند أو المقصّر وغيرهما.

والأقرب القول بأنّ حرمة الغيبة ـ وكذا السباب والشتيمة والهجاء ـ شاملة بالعنوان الأوّلي لمطلق المسلم، بلا فرقٍ بين أتباع المذاهب المختلفة في الفقه والتاريخ والعقيدة، وبلا فرق بين قصورهم وتقصيرهم فيما ذهبوا إليه، فالحرمة من حيث الانتماء المذهبي شاملة. أمّا غير المسلم فلم يثبت عندي دليل شرعي على التحريم، لكنّه لم يثبت دليل شرعي على الترخيص، فيكون ممّا لم يرد فيه شرع، على مسلكنا في عدم شمول الشريعة، فيرجع فيه هنا إلى القبح الأخلاقي حيث لا يكون هناك مبرّر للغيبة. وقد فصّلنا البحث في مسالة غيبة غير الإمامي في محلّه من كتابنا: "إضاءات"، فراجع، حتى لا نطيل.

([28]) والمغتاب لا يشترط أن يكون فرداً، بل يمكن أن يكون جماعة فيصدق التعيين بملاحظة الجماعة، كما لو قال: هذه الأسرة بخيلة، أو أهل هذه المدينة فسقة، فهنا يصدق التعيين، ويكون غيبةً.

([29]) بل في أصل صدق عنوان الغيبة على ما هو مشتهر بالقيام به أمام الناس إشكالٌ وجيه. وقد تحدّث الفقهاء بمذاهبهم المتعدّدة في مستثنيات الغيبة، عن جواز غيبة المتجاهر بالفسق، فقالوا بأنّ الإنسان لو تجاهر بالمعاصي جازت غيبته، وبعد اتفاقهم تقريباً على جواز غيبة المتجاهر بالفسق إلا أنّهم اختلفوا في حدود هذا الترخيص في الغيبة، فهل هو خاصّ بالأمور والمعاصي التي تجاهر بها أو أنّه يشمل مطلق ما يرتبط به بحيث تكون حرمته قد سقطت على هذا المستوى سقوطاً تامّاً، فتجوز غيبته في غير ما تجاهر به أيضاً؟ لعلّ رأي أغلب الفقهاء المعاصرين هو حرمة الغيبة في غير ما تجاهر به، وخالف في ذلك بعضٌ مثل السيد محمد سعيد الحكيم، فأجاز الغيبة مطلقاً في حقّه، مع تعريفه المتجاهر بالفسق بأنّه المتجاهر به أمام عامّة الناس، لا فقط أمام بعضٍ من أصدقائه أو جماعته.

والأقوى جواز غيبة المتجاهر بالفسق فيما تجاهر به لو كان بحيث لو قيل بأنّه يفعل المعصية الفلانية لما تأذّى بذلك ولما اهتمّ له. وهذا الترخيص المقيَّد بما قلناه منحصرٌ ـ بالعنوان الأوّلي ـ بغيبته فيما تجاهر به، ولا يشمل غيبته في مطلق شيء بسبب تجاهره بمعصية أو معاصٍ محدّدة، وعليه فلو تجاهر شخص بشرب الخمر ولم يبالِ بحديث الناس عنه بذلك، جازت غيبته في ذلك، بينما لا تجوز غيبته في غير شرب الخمر ـ على تقدير اطّلاعنا عليه ـ كما لو كان تاركاً للصلاة ولا يعرف أحدٌ بذلك، فاطّلعنا نحن على تركه للصلاة بطريق خاصّ، فإنّه لا تجوز غيبته في ترك الصلاة وإن جازت في شرب الخمر. وهذا كلّه على مقتضى العنوان الأوّلي كما أشرنا، لكن قد تجوز الغيبة ـ فيما إذا كان يبالي بذكره بهذا العيب أو في غير ما تجاهر به ـ لاعتبارات ثانويّة، مثل ما لو توقّف نهيه عن المنكر على غيبته، وكان نهيه أهمّ من تجنّب الغيبة، ففي مثل هذه الحال تجوز الغيبة بحدود مساحة العنوان الثانوي ومتطلّباته، وهكذا. وهذه النتيجة التي توصّلنا إليها لا تستند إلى الروايات والمقدار المتيقّن من دلالة مجموعها على الاستثناء فحسب، بل تعتمد على تحليل مفهوم الغيبة ومقدار تحريمها في الأصل، بحيث يكون المتجاهر بالفسق خارجاً عن أصل تحريم الغيبة تخصّصاً، بلا حاجة إلى الروايات المستثنية التي تعاني من مشاكل في السند تارةً وفي بعض مديات المضمون أخرى، والمقام لا يسمح بالتوسّع.

([30]) في كون غيبة الظالم من طرف المظلوم استثناء من حرمة الغيبة نظر شديد؛ فلا تجوز إلا فيما لو توقّف تحصيل الحقوق المسلوبة عليها أو رفع الظلم القائم بالفعل.

([31]) النصح ليس من مبرّرات جواز غيبة المسلم، ما لم يصل الأمر حدّ العنوان الثانوي والتزاحم وتطبيق فقه الأولويّات، بمعنى أنّ المكلّف يوازن بين المصلحة الآتية من النصح أو المفسدة المرتفعة بسبب النصح وبين مفسدة الغيبة، فإذا كان عدم النصح يسبّب مفسدة كبيرة جداً أكبر من مفسدة الغيبة، كوقوع مسلم في الظلم والاضطهاد لمدّة زمنية طويلة مثلاً، جاز، وإلا فلا، وهكذا لو تساوت المصالح والمفاسد تخيّر.

([32]) هذا ليس من موارد جواز الغيبة ما لم يكن هناك عنوان ثانوي أو قاعدة التزاحم، كما بيّنّاه آنفاً.

([33]) لم يثبت كون ذلك ـ بعنوانه ـ من مبرّرات الترخيص في الغيبة، ما لم تجر قاعدة التزاحم أو يطرأ عنوان ثانوي.

([34]) لم يثبت ذلك بعنوانه، بل بالعنوان الثانوي وقانون التزاحم فقط.

([35]) يجري عليه ما جرى على ما سبقه.

([36]) يجري عليه ما جرى على ما سبقه. ولمزيد تفصيل يناسب هذه التعليقة المختصرة، يمكن القول بأنّ أحد الموارد التي ذكروها من مستثنيات الغيبة وتمّ إدراجها في العديد من الرسائل العمليّة اليوم، هو «القدح في المقالات الباطلة ولو أدّى ذلك إلى نقص في قائلها»، والمراد بهذا الاستثناء أنّه يجوز تعرية المقالات الباطلة حتى لو كان ذلك يؤدّي إلى اغتياب أصحاب هذه المقالات والآراء الباطلة، وعادةً ما يطلق هذا التعبير بدون تعريف محدّد ودقيق، لكن يمكن فهم مرادهم إجمالاً من تجميع كلماتهم في مختلف الأبواب، بأنّهم أصحاب الآراء الشاذّة أو المنحرفة، بل يتسع التعبير ليشمل مختلف الآراء غير الصحيحة، بما قد يشمل المجال الفكري والعقدي والفقهي والسياسي ونحو ذلك. وربما يدرجون هنا أصحاب البدع، غير أنّ العديد من الفقهاء ذكروا أصحابَ البدع في استثناءٍ منفصل عن استثناء أصحاب المقالات الباطلة. ورغم أنّ هذه التعابير هي أيضاً مبهمة في تقديري، لكن على أيّة حال يمكن فهم الفكرة بشكل عام وإجمالي من خلالها. وقد مثّل بعض العلماء لاغتياب أصحاب المقالات الباطلة بأنّ مقالته تنمّ عن قلّة التفكر، وسوء الفهم، وضعف البصيرة، والجهل، والقصور، وضحالة المعرفة وغير ذلك مما ذكروه أو لم يذكروه من أمثلة. وقد علّق بعض الفقهاء ـ مثل السيد تقي القمي ـ على هذه الفتوى بالقول: «الإنصاف أنّ الجزم بالجواز مشكل؛ فإنّ بيان الحقائق لا يتوقّف على سوء التعبير»، وأضاف الشيخ محمّد السند على الفتوى قائلاً: «وإن كان الأولى تركيز القدح في المقالة بنحو لا يسري إلى قائلها»، فيما عبّر السيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي بالقول: «ردّ المقالات الباطلة إذا كان ذلك لا يتمّ إلا بذكر اسم صاحب المقال».

وبعيداً عن النص الوارد في غيبة أو بهتان أهل البدع، والذي سيأتي الحديث عنه بعد قليل، حيث سنقول بعدم جواز بهتان أهل البدع، فإنّه لا يوجد نصّ من آية أو رواية يفيد الترخيص في غيبة أصحاب المقالات الباطلة، فهذا العنوان ـ لو فصلناه عن عنوان أهل البدع ـ لما رأينا له وجوداً في النصوص، لكنّ الفقهاء ملتفتون لذلك وهم ينظّرون لفكرة استثناءات الغيبة ليس على أساس النصوص الخاصّة فحسب، بل على أساس قاعدة عامة، وهي فقه التزاحم والضرورات، فهم ـ كما صرّح بعضهم هنا ـ يرون أنّ «وجوب حفظ الحقّ وإضاعة الباطل أهمّ من احترام المقول فيه» على حدّ تعبير السيد الخوئي. ومن هنا طبّقوا قاعدة التزاحم وفقه الأولويات والضرورات لتبرير غيبة أهل البدع وأهل المقالات الباطلة والانتقاص منهم.

لكن الأقرب أنّه لا يجوز غِيبة ولا بهتان، لا أهل البدع ولا أصحاب المقالات الباطلة، وهذا على مقتضى العنوان الأوّلي، فلا يعدّ هذا من الاستثناءات، فعندما نقول: «مستثنيات الغيبة»، فهذه ليست مستثنيات. وأمّا القول بأنّ المرجع في ذلك فقه الأولويّات أو فقه التزاحم، ففي مثل هذه الحال لا نستطيع إصدار فتوى تحمل طابعاً إطلاقيّاً بحليّة غيبة أصحاب المقالات الباطلة أو أهل البدع، ووضعها في الرسالة العمليّة، كما هو دأب غير واحدٍ من الفقهاء اليوم كالسيّد الماتن؛ لأنّ هذه الطريقة تعني أنّ الغيبة هنا جائزة مطلقاً على موضوعها، وهم أصحاب المقالات الباطلة بما لهذا العنوان من دائرة واسعة، في حين أنّ هذا الجواز هو جواز ثانوي، والترخيص الثانوي لا يُعطى ضمن صياغة فتوائيّة إطلاقيّة دون بيان قيده الثانوي، بل ينبغي هنا أن تقدّم القاعدة للمكلّف، وعليه هو أن يشخّص هل ينحصر طريق الدفاع عن الحقّ (الذي ثبت وجوب الدفاع عنه، لا مطلق الحقّ) بالغيبة والبهتان حتى يتحقّق موضوع التزاحم وفقه الأولويات؟ وهل المفسدة الناشئة من الغيبة والبهتان أقلّ من تلك الناشئة من الباطل الموجود في هذه المقالة أو تلك؟ وهذه الحسابات يقوم بها المكلّف، ولا يعيّنها له الفقيه بما هو فقيه، ما لم يكن هناك شيء مرتبط بحكم الحاكم، فلعلّ المكلّف يرى اليوم أنّ استخدام أسلوب الغيبة والبهتان في حقّ أصحاب المقالات الباطلة له مردود سلبي أكبر من مردوده الإيجابي، فكيف يجري قاعدة التزاحم أو فقه الأولويّات؟! من هنا فتعبير بعض الفقهاء كالشيخ الأنصاري في مكاسبه بأنّ ذلك لو توقّف إبطال الباطل عليه أفضل من تعابير الرسائل العملية المعاصرة التي تابعت فيما يبدو السيدَ محسن الحكيم دون تعديل يُذكر في صياغة الفتوى رغم كونه تعديلاً بالغ الأهميّة. بل مقتضى آداب الحوار وأخلاقيّة البحث والنقاش هو احترام الطرف الآخر وفق ما أمر به القرآن الكريم من الجدال بالتي هي أحسن ونحو ذلك حتى مع غير المسلمين، فهل الغيبة والبهتان في سياق النقاش والنقد ـ كأن نقول ونحن نكتب مقالة نقديّة لفكرة باطلة: «وهذا دليل على جهل الكاتب وخفّة علمه..» ـ مصداقٌ من مصاديق الجدال بالتي هي أحسن؟! ألا يمكن نقد المقالة الباطلة وتبيين أخطائها ونصرة الحقّ مقابلها دون التعرّض لقائلها بالطعن؟ فإنّ مجرّد نقد المقالة لا يتضمّن غيبةً لقائلها؛ إذ نقدها غير نقد صاحب المقالة في ذاته وليس تبييناً لعيبٍ من عيوبه، علماً أنّه ليس كلّ حقّ يجب الدفاع عنه، فلو كتب شخصٌ كتاباً وفيه أخطاء، فإنّه لا يجب ردّه دائماً، حتى نتخذ ذلك ذريعة لإجراء قانون التزاحم. وكأنّه حصل خلط في كلمات بعضٍ بين مجرّد تبيين الحقيقة ونقد الباطل وبين غيبة صاحب الباطل، مع أنّه لا يرى العرف ذلك، فالحديث عن توقّف ردّ الباطل المستبطَن في المقال على غيبة صاحبه يكاد يكون حديثاً عن أمرٍ نادر. أمّا ما قد يلوح من استدلال بعضهم بسيرة العلماء، فقد تكلّمنا مراراً أنّ سيرتهم لا يحتجّ بها، بل هي تحتاج إلى دليل لتبريرها، وغاية ما نقوله بأنّهم معذورون ـ إن شاء الله ـ فيما بينهم وبين ربّهم، فلعلّ لديهم تبريرهم في قسوة التعابير وعنفها في أدبيّاتهم، لكنّ سيرتهم ليست حجّة إلى جانب الكتاب والسنّة، ولنِعم ما قاله الشيخ الأنصاري هنا: «وأمّا ما وقع من بعض العلماء بالنسبة إلى من تقدّم عليه منهم، من الجهر بالسوء من القول، فلم يُعرف له وجهٌ، مع شيوعه بينهم من قديم الأيّام»، فهو يقرّ بشيوع ظاهرة العنف اللغوي واللساني بين العلماء أنفسهم، ولا يرى له مبرّراً معقولاً. فالأولى بمن أراد الحقّ أن يعرض سلوكَ العلماء على الكتاب والسنّة، ثمّ يحكم، وليس العكس، نعم يلزمه قبل ذلك أن يستمع منهم إلى تبريرهم، فلعلّ لديهم دليلاً من الكتاب والسنّة يؤيّد سلوكهم هذا أو ذاك.

([37]) لا بأس هنا بذكر موردٍ آخر قالوا بأنّه من مستثنيات الغيبة، فقد ذكر غير واحدٍ من الفقهاء ـ منهم الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) ـ أنّ من موارد الترخيص في الغيبة اغتياب من ادّعى نسباً ليس له، فلو ادّعى انتسابه للنبيّ مثلاً، فإنّه تجوز غيبته، وكذا لو ادّعى أنّ فلاناً ابنه أو أخوه أو أبوه أو غير ذلك. والمستند في ذلك هو أنّ وجوب حفظ الأنساب أهمّ في الشرع من حرمة المغتاب، فيجوز هتك حرمته بغيبته بهدف حفظ الأنساب، ولا سيما أنّ الأنساب مما يترتّب عليه نتائج عدّة في الشرع الإسلامي، كما في الإرث والمحرميّة والقصاص والحقوق الشرعيّة وغير ذلك. ولم يوافق بعضُ الفقهاء على إطلاقيّة هذا الكلام، بل قالوا بأنّ الأمرَ لو ترتّب على ادّعاء النسب أثرٌ شرعيّ لا مطلقاً، كما أنّه لو ادّعى النسب لحفظ نفسه أو عرضه مثلاً من ظالم، ففي مثل هذه الحالات لا تجوز غيبته. وربما لهذا وغيره لم يذكر العديدُ من الفقهاء، بعد الشيخ الأنصاري، هذا المورد من مستثنيات الغيبة.

والأقرب أنّ ادّعاء النسب ـ سواء عُلم أنّه بغير حقّ، بحيث كان المدّعي عالماً بعدم انتسابه، ولكنّه مع ذلك ادّعى، أم لم يعلم بذلك بحيث نحتمل أو نتيقّن أنّه اشتبه الأمرُ عليه، فظنّ أنّ هذا هو نسبه، وليس كذلك في الواقع أو في نظر الآخرين ـ ادّعاء النسب يمكن فرض صور محتَمَلة للغيبة فيه:

أ ـ أن يراد الترخيص بغيبة مدّعي النسب مطلقاً أو بادّعاء أنّه كاذبٌ مرتكبٌ لذنب الكذب أو نحو ذلك.

والصحيح هنا أنّه لا يجوز اغتياب المدّعي للنسب، بل إنّما يجوز إبطال دعواه على تقدير بطلانها، فإنّ إبطال دعواه بالحجج والبيّنات وبالمعايير الشرعيّة كافٍ في ردّ الآثار السلبيّة المترتّبة على دعواه غير الصحيحة للنسب، ولا يحتاج الأمر إلى غيبته أو اتّهامه بالكذب، فضلاً عن بهتانه، لكي نقوم بردّ نسبه، فتبقى الغيبة تحت عمومات ومطلقات التحريم، وبخاصّة إذا كان ردُّنا للنسب قائماً على عدم ثبوت النسب عندنا، لا على ثبوت عدمه، فالمسألة خارجة موضوعاً عن الغيبة والبهتان. وفرض جريان قانون التزاحم نادرٌ هنا، بل في بعض الموارد تكون الغيبة بردّ النسب موجبةً لإراقة الدماء، كما أشار إليه بعض الفقهاء، فتكون مقتضيات التزاحم معاكسةً لدعوى الترخيص في الغيبة، فلا يصح أخذ قانونٍ منها هنا. ودعوى أنّ تشريع اللعان يمكن أن يكون شاهداً أو مؤيّداً هنا ضعيفةٌ؛ إذ اللعان يتصل بتنازعٍ قضائيّ يراد منه نفي إلزام الشخص بولد، حيث هو يدّعى نفي الولد عنه، فكيف نقيس هذه الحال على مسألة مدّعي النسب؟! فدعوى الترخيص في الغيبة على تقدير توقّف الموقف عليها في اللعان إنّما تصحّ فيمن هو طرفٌ في التنازع القضائي لا مطلقاً.

ب ـ أن يكون المقصود هنا من الترخيص في الغيبة أنّ نفس إبطال نَسَبِهِ المزعوم هو نوعٌ من غيبته؛ إذ إبطال نَسَبِه هذا هو عيبٌ سوف يلحقه.

ولكنّ هذا الكلام غير واضح؛ فإنّ الأنساب ليست عيباً، وبخاصّة لو لم يُقصد توهينه، فنحن لا نُثبت له نسباً، بل ننفي نسباً عنه. نعم في بعض الموارد النادرة يمكن أن يتصوّر هذا الأمر، كما لو كنّا نعلم بأنّ نتائج فحوص الحمض النووي، تثبتُ أنّ نَسَبه ليس ما ادّعاه، بل هو منتسبٌ لرجلٍ داعر منحطّ اجتماعيّاً أو لشمر بن ذي الجوشن مثلاً، وهذا يُعدّ عيباً اجتماعيّاً، فالإخبار عن هذه النتائج ـ على تقدير ضرورة الإخبار عن جانب الإثبات فيها وعدم إمكان الاقتصار على جانب النفي ـ يمكن أن يكون نوعاً من التنقيص عُرفاً تبعاً للأعراف والمجتمعات.

ج ـ أن يراد أنّ إبطال النسب قد يتوقّف على اتّهام شخصٍ بالزنا أو نحو ذلك، فلنفي النسب نحن مضطرّون للغيبة.

لكنّ هذا غيرُ جائزٍ ما لم يقم دليلٌ عليه، بل يعاقَب المتَّهِمون كما ورد في الشرع، علماً أنّ تهمةً من هذا القبيل لو أريد لها أن تكون فيجب أن تكون عند القاضي لا بين الناس، وفي مثل هذه الحال يختلف الأمر جذريّاً وتكون له أحكامه الخاصّة. علماً أنّ هذا غير مرتبِط عادةً بمدّعي النسب نفسه، والمفروض أنّنا نتكلّم عن غيبة مدّعي النسب نفسه.

والخلاصة: إنّ من يدّعى نسباً ولم يثبت لدينا ما ادّعاه أو ثبت لدينا عدمه، جاز لنا إبطال نَسَبه المدّعى بهدف إبطال الآثار الشرعيّة في مورد ترتّبها عليه. أمّا ما يزيد عن مجرّد إبطال دعوى النسب، والذي يجب أن يكون بأخلاقيّة وأداء شرعي منضبط، فهو غير جائز، وليس من مستثنيات الغيبة، وعلى تقدير وجود موردٍ يجري فيه قانون التزاحم، فهو نادر ويحتاج للتحقّق من شروطه الموضوعيّة.

([38]) لم يثبت وجوبه، وإن كان نصر المغتاب فضيلة.

هذا، ويُفتي بعض الفقهاء بحرمة سكوت المستمع للغيبة ووجوب نصرته للمغتاب، لا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل بوصف ذلك حكماً شرعيّاً مستقلاً وهو نُصرة المغتاب، ويستندون في ذلك لبعض الروايات. وقد كان غمز السيد تقي القمي في الأخبار هنا بأنّها غير نقيّة السند (مباني منهاج الصالحين 1: 129)، وذهب السيد محمّد محمّد صادق الصدر في بعض كتبه إلى عدم حرمة الاستماع ولو مع عدم الردّ (ما وراء الفقه 3: 123 ـ 125).

والأقرب هو:

أولاً: استحباب نصرة المغتاب والدفاع عنه، إذا لم يلزم منه محذورٌ آخر فيه مفسدة أكبر من ترك النصرة، مثل تمادي الذي يستغيب في غيبته بحيث لو دافعنا عن المغتاب لسعى فاعل الغيبة ـ أمامنا وأمام غيرنا ـ لنقل المزيد من الأمور السلبية عن المغتاب كي يؤكّد سلامة كلامه، فنكون قد وقعنا في عكس المطلوب أحياناً.

ثانياً: حرمة المشاركة في الغيبة وفي تحقيق وجودها، بمعنى أن يكون شريكاً فاعلاً فيها، ومساهِماً في وجودها وتحقيقها، كأن يُكثر من سؤال فاعل الغيبة عن ذلك الشخص المغتاب، بحيث يجرّه ذلك للغيبة أكثر فأكثر.

ثالثاً: عدم وجوب الدفاع عن المغتاب بعنوانه، فلو سكت المستمع لم يرتكب بذلك حراماً، وبخاصّة لو لم يكن الخطاب موجّهاً إليه بخصوصه. إلا إذا تعنون سكوتُه بعنوانٍ ثانٍ، كما لو كان فيه تقصير عن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لو تحقّقت شروطها.

وعمدة أدلّتهم هنا على إطلاقيّة وجوب الدفاع هي الروايات، وهي ما بين ضعيف الإسناد جداً وضعيف الدلالة أيضاً، فلا يحصل من مجموعها وثوقٌ بأكثر مما قلناه في النقاط الثلاث المتقدّمة. وأبرز الروايات هنا هو:

أ ـ خبر حَمَّادِ بْنِ عَمْرٍو وأَنَسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ لِعَلِيٍّ: «يَا عَلِيُّ مَنِ اغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَاسْتَطَاعَ نَصْرَهُ فَلَمْ يَنْصُرْهُ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ». وهذا الحديث ضعيف بأنس بن محمد وحماد بن عمرو ووالد أنس، وبعدّة مجاهيل في الطريق المعروف بضعفه عند العلماء.

ب ـ خبر أَبِي الْوَرْدِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ× قَالَ: «مَنِ اغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُؤْمِنُ فَنَصَرَهُ وأَعَانَهُ نَصَرَهُ اللَّهُ وأَعَانَهُ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ وَمَنْ لَمْ يَنْصُرْهُ ولَمْ يُعِنْهُ ولَمْ يَدْفَعْ عَنْهُ وهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ وعَوْنِهِ إِلا خَفَضَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ». وهذا الخبر ضعيف بأبي الورد فهو رجل مجهول الحال.

ج ـ خبر السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله× قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ». وهذا الخبر لا دلالة له فهو يفيد أنّ المدافع عن أخيه تثبت له الجنّة، لكنّه لا يفيد حرمة السكوت وعدم الدفاع.

د ـ خبر إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ الْيَمَانِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله× قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعِينُ مُؤْمِناً مَظْلُوماً إِلَّا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ واعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ومَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَنْصُرُ أَخَاهُ وهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ إِلا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ، وَ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَخْذُلُ أَخَاهُ وَ هُوَ يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَتِهِ إِلا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَة». وهذا الحديث عام في النصرة والخذلان وليس وارداً في الغيبة، فلا يفهم لزوم الدفع عن المغتاب مطلقاً، بل لو أخذنا بهذا الحديث على أنّه يفيد اللزوم في مثل الغيبة لوجب الدفاع عن المغتاب حتى لو لم تسمع من يستغيبه بنفسك، بل علمت بذلك عبر بعض الأشخاص، وهذا ما لا يقولون به، فالحديث ظاهر في عنوان الخذلان، وليس كلّ استماع للغيبة هو خذلان لا سيما لو كان ما في المغتاب من سوء أمراً واقعيّاً. علماً أنّ هذا الحديث عندي ضعيف السند بمحمد بن خالد البرقي الذي ضعّفه النجاشي والشهيد الثاني أيضاً.

هـ ـ خبر الصدوق في عِقَابِ الْأَعْمَالِ عن رَسُولِ اللخ‘، أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةٍ لَهُ: «وَمَنْ رَدَّ عَنْ أَخِيهِ غِيبَةً سَمِعَهَا فِي مَجْلِسٍ رَدَّ اللَّهُ عَنْهُ أَلْفَ بَابٍ مِنَ الشَّرِّ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ فَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَنْهُ وأَعْجَبَهُ كَانَ عَلَيْهِ كَوِزْرِ مَنِ اغْتَابَ». وهذا الحديث ليس ظاهراً في حرمة السكوت، بل هو يقدّم عنصرين: عدم الرد، والإعجاب، فتارةً يغتاب شخص أمامي فأسكت ولكن يبدو عليّ الصمت بما لا يوحي بتأييدي وإعجابي وحماستي لما يقال، أو قد يبدو عليّ عدم الارتياح من الكلام، وأخرى يكون عندي إعجاب ودهشة وتفاعل، والحديث ظاهر في الحالة الثانية التي توحي وكأنّ المستمع متفاعل مع المشهد ومعجب أو متأثر به، فلا يكون دليلاً على الحرمة مطلقاً، بل في بعض الموارد التي يمكن عدّها مشاركة في الاغتياب لا انفعالاً بالغيبة فقط. هذا فضلاً عن ضعف سند هذا الحديث بحماد بن عمرو النصيبي الذي ضعّفوه.

و ـ خبر السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كُتِبَ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ..». وبصرف النظر عن سند الحديث، فهو لا يدلّ إلا على حُسن الدفاع، لا حرمة الاستماع والسكوت كما تقدّم.

ز ـ خبر الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَالَ رَجُلٌ مِنْ عِرْضِ رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ فَرَدَّ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ عَلَيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ كَانَ لَهُ حِجَاباً مِنَ النَّار». وهو مثل الحديث السابق في عدم الدلالة على حرمة السكوت، فضلاً عن مناقشات في سنده.

ح ـ خبر أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ فِي وَصِيَّتِهِ الطويلة لَهُ قَالَ: «..يَا أَبَا ذَرٍّ مَنْ ذَبَّ عَنْ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ الْغِيبَةَ كَانَ حَقّاً عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ. يَا أَبَا ذَرٍّ مَنِ اغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُؤْمِنُ وَهُوَ يَسْتَطِيعُ نَصْرَهُ فَنَصَرَهُ نَصَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ وإِنْ خَذَلَهُ وهُوَ يَسْتَطِيعُ نَصْرَهُ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةِ». والحديث ضعيف السند جدّاً بل هو تالف السند، فإنّ فيه بعض الوضّاعين والمتهمين كمحمد بن الحسن بن شمّون، وعبد الله بن عبد الرحمن الأصم وغيرهما.

وهناك روايات أخَر لا أسانيد لها، وهي ضعيفة جدّاً عندهم.

فينتج أنّ عندنا مجموعة قليلة من الأحاديث ذات الدلالة وكلّها ضعيفة السند، والباقي لا دلالة فيه، والقدر المتيقّن من هذه النصوص ـ بناء على حجية الخبر المطمأنّ بصدوره ـ هو حُسن الدفاع وحرمة المشاركة لا أكثر ما لم يكن عنوان آخر، وعلى مبنى حجية خبر الثقة يستفاد حرمة السكوت مع الإعجاب بما يقال خاصّة، أو حرمة السكوت الذي يصدق عليه عنوان الخذلان. والله العالم.

([39]) لا بأس هنا بالإشارة إلى مسالة البهتان والافتراء على الآخرين وبخاصّة لو كانوا "أهل ضلالة وبدعة"، وذلك أنّه من واضحات الفقه الإسلامي عند الفقهاء هو حرمة الكذب وكذلك حرمة البهتان، وهو نسبة أشياء سلبيّة لشخص وهي ليست فيه، في مقابل الغيبة التي هي الحديث عنه بنواقص موجودة فيه واقعاً. ويصنّف الكثيرُ من الفقهاء الغيبة والبهتان والكذب ضمن كبائر الذنوب. غير أنّه قد استثنى بعض الفقهاء بهتان أهل البدع، فقالوا بأنّ أهل البدع ـ وبعضهم عمّم مفهوم أهل البدع لكلّ مخالفٍ مذهبيّ ـ يجوز بهتانهم والتقوّل عليهم بما يوجب سقوط مكانتهم وسمعتهم بين الناس، فيجوز نسبة آراء فقهيّة أو عقائديّة إليهم يكون في نسبتها ـ ولو كذباً ـ ما يوجب نفور الناس منهم أو غضبهم عليهم، وكذلك الافتراء عليهم في أمور أخلاقيّة كذباً وزوراً للهدف نفسه. وهذا ما يتداول الحديث عنه اليوم تحت عنوان «الكذب المصلحي». وبعضهم قيّد جواز البهتان بحالة كون البهتان محقّقاً لغرض فصل المبتدع عن الناس وتوقّف ذلك على البهتان، وإلا فلا يجوز، ومن هؤلاء السيد الماتن والسيد محمود الهاشمي.

والمستند الأساس في هذا الأمر هو صحيحة داود بن سرحان التي ورد فيها تعبير «باهتوهم». وقد انقسم الفقهاء في تفسير هذا التعبير إلى فريقين: فريقٌ فسّر الكلمة بمعنى البهتان، وذلك من أمثال السيد الخوئي والسيد محمّد رضا الگلپایگاني وغيرهما. وفريقٌ آخر فسّرها بمعنى المباهتة أي الإفحام والتسكيت وإقامة الحجّة القوية الموجبة لسقوط هيبتهم العلميّة وتلاشي تأثيرهم على الناس. وقد ذهب لهذا التفسير الثاني أو مال إليه أو يُستنتج من كلمات جمعٍ من العلماء من أمثال: العلامة المجلسي، والفيض الكاشاني، والمولى صالح المازندراني، والسيد علي الطباطبائي، والشيخ مرتضى مطهري، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والسيد جعفر مرتضى العاملي، والسيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي، والشيخ يوسف الصانعي، والشيخ جعفر السبحاني، وغيرهم. ويتحفّظ السيد موسى الشبيري الزنجاني على هذه الرواية هنا، ويراها مخالفةً لسيرة أهل البيت ولمسلّمات الشرع، وكذلك يتحفّظ عليها السيد السيستاني ويقاربها من زاوية مخالفتها لروح القرآن الكريم. وتوحي بعض كلمات الشيخ مكارم الشيرازي بأنّ لديه نقاشاً في سند الرواية رغم أنّ المعروف هو صحّتها. هذا، وربما يستوحى من الشيخ محمّد أمين زين الدين أنّه فهم الرواية بمعنى كشف كذب المبتدعة وكشف بهتانهم وافترائهم، لا أن نقوم نحن بممارسة الافتراء والبهتان في حقّهم.

والأقرب حرمة الكذب والافتراء والبهتان ضدّ أهل البدعة ـ مهما فسّرنا مفهوم أهل البدعة ـ سواء كانوا متوافقين معنا في المذهب أم مخالفين، وسواء كان خلافهم فكريّاً أم دينيّاً أم سياسيّاً. والأدلّة العامّة والخاصّة على الجواز كلّها قابلة للنقاش، وأمّا الرواية العمدة هنا، فمضافاً إلى وجود احتمالات متعدّدة في معناها، ووجود مشاكل متنيّة فيها من جهات.. لا يُحتجّ بها؛ لكونها مجرّد خبر آحادي ظنّي، لا حجيّة فيه، وبخاصّة في مثل هذا الأمر الخطير.

([40]) لا بأس ـ بمناسبة الحديث عن الغش ـ بالإشارة لموضوع مهمّ، وهو الغش في الامتحانات، وذلك أنّه من الواضحات في الفقه الإسلامي حرمة الغش في المعاملات التجاريّة، وقد تحدّث الفقهاء عن ذلك بإسهاب، غير أنّ هناك أشكالاً من التصرّفات والأفعال يطلق عليها اليوم عنوان الغشّ، ولو بلحاظ من اللحاظات، مثل الغش في الامتحانات في المدارس أو الجامعات أو المعاهد أو غير ذلك، وقد ذكر جمهور فقهاء أهل السنّة والشيعة المعاصرين أنّ الغش الذي من هذا النوع محرّم. وقد انطلق بعضُ الفقهاء من عنوان الغش نفسه باعتبار تعميمه ورفع خصوصيّته في البيع والتجارات ليشمل ما نحن فيه، وهذا ما نلمسه من بعض فقهاء أهل السنّة المعاصرين، فيما انطلق فريقٌ ثانٍ من مبدأ مخالفة العقد والتوافق والقانون، فحيث يجب الالتزام بهذه الأمور فإنّ الغش أو المساعدة عليه يعتبر نقضاً لقوانين المدرسة أو الجامعة أو البلد، وحيث إنّ الانتماء طالباً أو مدرّساً أو غيرهما متضمّنٌ للموافقة على هذه البنود ـ ومنها عدم الغش ـ حرُم الغش. وانطلق فريقٌ ثالث من أنّ حرمة الغش قائمة على تضمّنه إضاعة حقّ الآخرين في الوظائف وغيرها وسحب الفرصة ممن يستحقّها نحو من لا يستحقّها، وهذا محرّمٌ؛ إذ فيه نوعٌ من الإضرار بالآخرين.

والأقرب بالنظر أنّه حيث يكون هذا النوع من الغش مخالفاً للقوانين والاتفاقات الواقعة مع الطرف الذي يغش في الامتحانات أو الذي يعين على الغشّ، فإنّه يُحكم بحُرمته، وتشتدّ الحرمة فيما لو كان الغشّ موجباً نوعاً لإلحاق الضرر بالمجتمع. وهذا الحكم لا فرق فيه بين المدارس والجامعات والمعاهد الأهليّة والحكوميّة، ولا بين المدارس التي في بلاد المسلمين أو غيرهم. ولا يبرّر الغش شرعاً بعدم التزام الناس بالقانون المتوافق عليه، ولا بحجّة أنّني إذا لم أغش فسوف يتقدّم من يغش عليّ، وهذا ضررٌ يلحقني، فهذه ليست مبرّرات بالعنوان الأوّلي. بل لو حصل شخصٌ على شهادة جامعيّة بالغش لا بالدراسة الحقيقيّة، أشكل الأمر في حصوله على الوظيفة وأخذ مالها إذا كانت الشهادة ـ بما هي معبّرة حقيقةً عن واقع ذلك الشخص التعليمي ـ قيداً مقوّماً في المعاملة والاتفاق الوظيفي، ولم يكن الشخص في واقعه حائزاً على هذه الدرجة العلميّة التي بُنيت الوظيفة عليها. والمشكلة الكبيرة التي نواجهها في الكثير من مجتمعاتنا هي ظاهرة الغش الذي من هذا النوع، بل الغريب أنّ بعض المعلّمين والمعلّمات، بل بعض العاملين في القسم التعليمي عموماً، يساعدون الطلاب في المدارس والجامعات على الغشّ! بل ثمّة من يعتاش مادّياً على ذلك! ومن هذا النوع تسريب أسئلة الامتحانات وأمثال ذلك، بل التساهل المبالغ به في منح الطلاب درجةً لا يستحقّونها، بحيث يكون ذلك على خلاف المقرّرات في الدولة أو في المدرسة أو الجامعة. والمؤسف بحقّ أنّ هذه الظاهرة موجودة على نطاق واسع في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، كما قرأنا وسمعنا في أكثر من موقع، ويتمّ التعامل معها باستخفاف عالٍ من قبل بعض الناس، ولا أدري كيف يمكننا بناء الأوطان أو الأجيال التي نُعتبر نحن مؤتمنين عليها بوصفنا معلّمين أو مسؤولين في المجال التعليمي والمهني.. كيف يمكننا بناء هذه الأوطان والأجيال مع هذا النوع من الغش أو المساعدة عليه أو تسهيل أمره، وبخاصّة في حال انتشاره، كما هي الحال اليوم وفق ما يُنقل؟! أليس من أكبر الواجبات الدينيّة والأخلاقيّة والوطنيّة اليوم أن نساعد على بناء أجيال أفضل؟! فكيف بدل أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر نساعد في المنكر ونعتزل المعروف؟! أليس الغش في المعاملة هو بإخفاء الأدنى في الأعلى، ومن ثمّ ألا يقوم الذي يغش في الامتحان على مبدأ أنّه يوهم المجتمع بعلمه وكفاءته؟ إذا أردنا بحقّ أن نبني أوطاناً ـ وبخاصّة في ظروفنا العصيبة هذه ـ فلا مجال لنا إلا احترام العلم، فباحترامه تنهض الأمم والشعوب. والغش في الامتحانات من جميع الأطراف نوعٌ من هدر قيمة العلم في بلادنا، وتسهيلٌ لأمر الفساد والتفكّك، في وقتٍ نحن أحوج ما نكون فيه للملمة الجراح والشروع في النهوض الحضاري، فحريٌّ بمن يغشّ أو يبني حياته على الغشّ أو يساعد على تخريج أجيال بَنَت شهاداتها على الغشّ.. حريّ به أن يجلس جلسة مصارحة مع نفسه وأن لا يتكلّم عن بناء الأوطان أو عن الصدق أو عن مقارنة بلاد المسلمين ببلاد الغرب؛ لأنّه بنفسه يساهم في عمليّة المقارنة السلبيّة هذه. ولا بأس أن أختم بنقل شطر من تجربتي الشخصيّة المتواضعة لها صلة بالموضوع، فقد ساهمتُ لسنوات في الإشراف أو في مناقشة بحوث تخرّج (بكالوريوس)، ورسائل ماجستير وأطروحات دكتوراه، في مؤسّساتٍ وجهات علميّة، غير أنّني وجدت في بعضها أنّنا عندما ننتهي من مناقشة ما قدّمه الطالب وتصبح الهيئة المشرفة والمناقِشة لوحدها، تدخل في تحديد درجات الطلاب اعتباراتٌ ومعايير خارجة عن محتوى ونمط ما تمّ إنجازه في الرسالة نفسها، ويبدأ الحديث عن ضرورة رفع الدرجة لاعتبارات معيّنة، لا أريد الحديث عنها هنا، وعلى الجميع أن يساهم في رفع الدرجة وإلا بدا شاذاً غير متعاون! لهذا قرّرتُ ـ ومنذ سنوات ـ أن أتجنّب الإشراف أو مناقشة رسالة جامعيّة أو حوزويّة، فراراً من هذه الإشكاليّة الأخلاقيّة، إذ يشعر الإنسان معها أنّ العلم لم يعد المعيار في تقويم الأشخاص علميّاً، بل تدخل في الحساب قضايا أخرى واعتبارات مختلفة، أحدها على سبيل المثال أنّ الأستاذ المشرف مثلاً يشعر بالعيب والعار على الصعيد الشخصي لو مُنح الطالب درجة غير عالية، مع أنّه لا يستحقّ في الحقيقة الدرجة العالية! والله سبحانه وتعالى نسأل أن يصلح سوء حالنا بحسن حاله، إنّه قريبٌ مجيب.

([41]) بالنسبة إلينا، فإنّ الأغلبيّة الساحقة من الاحتياطات الوجوبيّة التي نذكرها هنا منشؤها تردّد الأمر وأشكلة الموضوع وعدم وضوح أو قاطعيّة النتيجة على مستوى البحث العلمي، فهو احتياطٌ واقعي وليس صوريّاً.

([42]) بالنسبة إلينا، فإنّنا نقصد من الاحتياط الاستحبابي في هذه التعليقة، مجرّد الترجيح الشخصي للقيام بالفعل احتياطاً، وليس هو حكم شرعي، ولا ينتمي لاستحباب الاحتياط شرعاً في مورده، بمعنى أنّه ليس فتوى باستحباب الاحتياط.

([43]) ليس كلّ الاحتياطات الوجوبيّة يجري فيها هذا القانون، فلو تردّد الفقيه في حكمٍ ـ مثل الوجوب ـ فاحتاط وجوباً لكنّه كان حاسماً في رأيه أنّ الحكم ليس هو الحرمة، فهو يرى بطلان القول بالحرمة لكنّه متردّدٌ في القول بالوجوب مثلاً، ففي مثل هذه الحال لا يمكن الرجوع في احتياطه الوجوبي إلى من يقول بالحرمة (وهذا مثالٌ فرضيّ)، بناءً على نظريّة وجوب تقليد الأعلم.

([44]) دأبنا في هذه التعليقة قائم على خلاف العادة الجارية بين متأخّري المتأخّرين، فما لم يثبت استحبابه نشير إليه ونبيّن أنّه لم يثبت استحبابه، وكذلك الحال في المكروهات.

([45]) حسنُ الإتيان بمشكوك الاستحباب أو ترك مشكوك الكراهة برجاء المطلوبية ليس على إطلاقه، ففي بعض الموارد يشكل الإتيان برجاء المطلوبيّة، بمعنى أنّه إمّا مرجوح أو لم يثبت رجحانه، كما لو احتمل احتمالاً معتدّاً به وجود مزاحم لا تريده الشريعة، مثل كراهة التعامل التجاري مع أصحاب العاهات البدنيّة.

([46]) لا بأس هنا ـ بمناسبة انتهاء باب الاجتهاد والتقليد عند الماتن ـ بالإشارة لبعض الأمور:

الأمر الأوّل: يقسّم الفقهاء الموضوعات بتقسيمٍ ثنائي معروف عند المتأخّرين، وهو الموضوعات المستنبَطَة والموضوعات الخارجيّة (أو الصرفة)، ففي الأوّل يعتبرون تعيين الموضوع المستنبَط من شؤون الفقيه، مثل تعيين ما هو المراد بالغناء أو الصعيد في النصوص الدينيّة التي تحدّثت عن الغناء أو عن التيمّم. أمّا الموضوع الخارجي ـ مثل تعيين أنّ هذا السائل الذي في الكأس التي أمامي هل هو خمر أو ماء ـ فلا حجيّة لقول الفقيه فيه بما هو فقيه، بل هو من مسؤوليّات المكلّف نفسه ونطاق عمله ومجال قناعاته. ويفصّل بعض الفقهاء ـ مثل السيد كاظم اليزدي ـ بين الموضوعات المستنبطة العرفيّة واللغويّة فلا تقليد فيها عنده، والموضوعات المستنبطة الشرعيّة فيجب فيها التقليد، فيما يخالفه كثيرون في هذا التفصيل.

ولستُ هنا بصدد البحث عن هذا الموضوع، بل أريد الإشارة إلى ظاهرة يبدو لي أنّها أخذت بالحضور والانتشار في النشاط الفقهي والفتوائي، وبخاصّة عند المتأخرين في القرنين الأخيرين، وهو أنّ الفقيه يقوم بتطبيق الحكم الكلّي على حالة خارجيّة، كتطبيق الإضرار على التدخين أو تطبيق عنوان الهتك على دفن الميّت المسلم في مقابر غير المسلمين، وبدل أن يقول: يحرم التدخين إذا كان مضرّاً، يوجّه فتواه مباشرةً إلى المصداق فيقول: يحرم التدخين، أو يقول: يحرم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين، أو يحدّد هو هل عقاقير الأدويّة كورد لسان الثور أو قشور الفواكه ممّا يؤكل فلا يجوز السجود عليه أو لا؟ مع أنّ المفروض ـ وفقاً للقواعد الاجتهاديّة الصحيحة ـ أن لا يكون لتطبيقه هذا أيّ حجيّة على المكلّفين؛ لأنّه ليس من الموضوعات المستنبطة إطلاقاً. وهذه ظاهرة لا تظهر للناس؛ لأنّ الناس تتلقّى الفتاوى بصيغها النهائيّة، لكنّها تظهر عندما يجري التفتيش من قبل المختصّ على سبب الفتوى ومستندها، فيتمّ اكتشاف هذه الثغرة. ووفقاً لمتابعةٍ شخصيّة، فقد رأيت عشرات الموارد من هذا النوع في الفتاوى الموجودة في الرسائل العمليّة وكتب الاستفتاءات، بل أقترح لمن يرغب من طلاب العلوم الدينيّة أن يأخذ هذا العنوان كأطروحة دكتوراه ليدرس فيه ظاهرة تدخّل الفقهاء في الموضوعات غير المستنبطة وكيفيّة إنتاج ذلك لفتاوى كثيرة، يُفترض أن لا تكون فيها أيّ حجيّة بما هي فتوى.

وقد يحاول بعضٌ تبرير هذه الظاهرة بأنّ الناس لا يعرفون الموضوع الخارجي جيّداً، وقد يضطربون فيه، وهذا ليس بتبرير ما لم يصل الاضطراب إلى حدّ الهرج والمرج والفساد العامّ في الشؤون المجتمعيّة، فكلّ شخص عليه بما قامت الحجّة عليه فيه، وعلى الفقيه توجيهه كيف يعمل على تشخيص الموضوعات، لا أن يقوم بالنيابة عنه في ذلك. بل إنّني أعتقد ـ ومن زاوية علم اجتماعيّة ـ أنّ بعض المجتمعات ميّالة للعقل المستقيل، فلا يريدون أن يفكّروا هم في تشخيص الموضوعات، فدائماً عند كلّ صغيرة وكبيرة يجب أن يقول لهم أحد ماذا يفعلون. ولهذا نجد في كتب الاستفتاءات عشرات الموارد التي تظهر فيها أسئلة ينبغي أن لا يكون الجواب عنها من وظائف الفقيه بل جوابه بنفسه لا حجيّة فيه بما هو فتوى؛ لكنّ المكلّف اعتاد على الإحساس بالقلق لو قام هو بالتشخيص، ولهذا اشتهر بين الناس: ضعها في رقبة الفقيه واسترح أنت.

لهذا نعتقد بأنّ هذه الظاهرة غير صحيحة، ويلزم إجراء عمليّات تصفية وإعادة تنظيم للغة الفتوائيّة، وبخاصّة أنّ تطبيقات الفقهاء في كثير من الأحيان تتبع عرفهم هم، وبعضها يتبع المحيط المجتمعي الخاص الذي يعيشون فيه، كما في بعض تطبيقاتهم المتعلّقة بالعلاقات بين الجنسين وبقضايا المرأة وبقضايا علاقات المسلمين بغيرهم في الدول الأجنبيّة، فيما الأمر قد يختلف ويتخلّف على امتداد الزمان والمكان، فلا يكون العرف الذي يتراءى للفقيه دقيقاً ومطلقاً في بعض الأحيان.

من هنا، أعتقد بأنّ أحد أسباب وصولي شخصيّاً لنتائج فقهيّة كثيرة مخالفة للسائد في لغة الفتاوى الحاليّة، هو عدم اعتقادي بصحّة منهج إقحام الفقيه والفتوى في مجال الموضوعات الخارجيّة، ما لم يكن الأمر في دائرتَي: الحكم الولائي العام أو الحكم القضائي الخاصّ، مما له مساحته الخاصّة المقرّرة في الشرع الحنيف.

الأمر الثاني: تنتشر في الأعراف ـ الحوزويّة وغير الحوزويّة ـ ألقابٌ تُطلَق على العلماء، وبخاصّة الفقهاء، مثل: آية الله، وآية الله العظمى، وحجّة الإسلام والمسلمين، وغير ذلك. ولا تقف ظاهرة الألقاب الضخمة على الفقهاء بل نجد لها انتشاراً ونمطاً غير عادي في الوسط الصوفي والعرفاني والفلسفي أيضاً، من نوع: قطب دائرة الإمكان، والعارف الكامل الواصل، وجامع المعقول والمنقول، والعقل الحادي عشر، وغير ذلك. وقد اعتبر بعضٌ أنّ إطلاق بعض هذه الألقاب محرّمٌ؛ لبعض الاعتبارات الراجعة لبعض الروايات المنقولة عن أهل البيت النبوي، ونُسب هذا الرأي شفاهاً لبعض الفقهاء المتأخّرين، والعلم عند الله. وقد كان لبعض العلماء موقفٌ نقديٌّ من التعامل مع هذه الألقاب، ومن بينهم: السيد محمّد الحسيني البهشتي، والشيخ مرتضى المطهّري، والشيخ محمد جواد مغنيّة، وغيرهم.

والذي توصّلتُ إليه ـ بعد دراسة مطوّلة نسبيّاً في تاريخ تطوّر هذه الألقاب، والموقف الشرعي منها، وذلك في كتابي "إضاءات" ـ أنّ إطلاق هذه الألقاب ليس محرّماً في نفسه، لكنّه ليس بواجب ولا مستحبّ، ولا هو جزء من منهج الشريعة في التعامل مع العلماء والعبّاد. بل في مقاربتة شخصيّة من زوايا متعدّدة، دينيّة وثقافية ونفسيّة وتربويّة وغيرها، فإنّني أدعو لترك هذه الألقاب تماماً، والعودة للتعبير عن المكانة العلميّة بألقاب لا تحمل طابعاً قُدسيّاً وإلهيّاً وسماويّاً، ولا تحمل طابعاً إطلاقيّاً تفوّقيّاً، فبدل تعبير «آية الله العظمى»، يمكننا التعبير بـ «المرجع الديني»، وبدل تعبير «آية الله»، يمكن التعبير بـ «الفقيه»، وبدل التعبير بـ: «فريد عصره ووحيد دهره»، يمكن التعبير بـ «العلامة»، وهكذا. وقد كان القدماء أقرب في الألقاب عادةً للمنطق العقلاني البشري وأضبط في الاستخدام، فيما الألقاب ذات البُعد التقديسي أو الإطلاقي التعظيمي نَمَت لاحقاً، وبالخصوص منذ العصرين الصفوي والعثماني، وربما بعضها جاء تأثراً بالثقافة المسيحيّة كما يراه بعضٌ. بل لعلّ التمييز في الألقاب بين السلالة الهاشميّة وغيرها، بإطلاق مثل لقب mالشرفاءn عليهم، دون غيرهم.. لعلّ هذا التمييز لا يحمل روحاً متوافقة مع الروح الإسلاميّة، وهو من وضعنا وجعلنا لا بدعوةٍ من النصوص الدينيّة المعتبرة. واللافت أنّ أصحاب أئمّة أهل البيت وأصحاب الصحابة والتابعين، لم يكونوا ـ لا في حديثهم المباشر معهم، ولا في حديثهم عنهم في غيابهم ـ ليستخدموا ألقاباً من هذا النوع في حقّهم، بل في كثير من الأحيان كانوا يخاطبونهم أو يتحدّثون عنهم بمجرّد الكنية، فيقول: أخبرني أبو عبد الله، ويقصد الإمام جعفر الصادق، أو يقولون: فقالت فاطمة، ويقصدون السيدة الزهراء، وهذا واضحٌ للغاية، يعرفه من يراجع التراث الحديثي والتاريخي بسهولة. بل في التأمّل في التراث الحديثي والتاريخي تظهر أمور قد تبدو لبعضنا غريبةً اليوم، لا داعي للتعرّض لها، لكنّها كانت عادية جدّاً بالنسبة إليهم.