التعليقة على منهاج الصالحين (كتاب الاجتهاد والتقليد ـ القسم الأوّل)
حيدر حبّ الله
هذه تعليقة فقهيّة مختصرة على كتاب منهاج الصالحين للسيّد الخوئي، لم تُكتب بقصد عمل الآخرين بها، بل بقصد اطلاع الباحثين والمهتمّين، والله الموفّق والمعين
نسخة معدّلة
(19 ـ 8 ـ 2024م)
التقليد
مسألة 1: يجب([1]) على كلّ مكلّف لم يبلغ رتبة الاجتهاد([2])، أن يكون في جميع عباداته، ومعاملاته، وسائر أفعاله وتروكه: مقلّداً([3])، أو محتاطاً([4])، إلا أن يحصل له العلم بالحكم؛ لضرورةٍ أو غيرها، كما في بعض الواجبات، وكثير من المستحبّات والمباحات([5]).
سألة 2: عمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل([6])، لا يجوز له الاجتزاء إلا أن يعلم([7]) بمطابقته للواقع، أو لفتوى من يجب عليه تقليده فعلاً([8]).
مسألة 3: الأقوى جواز ترك التقليد، والعمل بالاحتياط، سواء اقتضى التكرار كما إذا تردّدت الصلاة بين القصر والتمام، أم لا كما إذا احتمل وجوب الإقامة في الصلاة، لكنّ معرفة موارد الاحتياط متعذّرة غالباً([9])، أو متعسّرة على العوام.
مسألة 4: التقليد هو العمل اعتماداً على فتوى المجتهد، ولا يتحقّق بمجرّد تعلّم فتوى المجتهد ولا بالالتزام بها من دون عمل([10]).
مسألة 5: يصحّ التقليد من الصبيّ المميّز([11])، فإذا مات المجتهد الذي قلّده الصبيّ قبل بلوغه، جاز له البقاء على تقليده، ولا يجوز([12]) له أن يعدل عنه إلى غيره، إلا إذا كان الثاني أعلم.
مسألة 6: يشترط في مرجع التقليد البلوغ والعقل([13])،
والإيمان([14])،
والذكورة([15])،
والاجتهاد،
والعدالة([16])،
وطهارة المولد([17])، وأن لا يقلّ ضبطه عن المتعارف([18])،
والحياة([19])،
فلا يجوز تقليد الميت ابتداء([20]).
مسألة 7: إذا قلّد مجتهداً فمات، فإن كان أعلم من الحيّ وجب البقاء على تقليده، فيما إذا كان ذاكراً لما تعلّمه من المسائل، وإن كان الحيّ أعلم وجب العدول إليه، مع العلم بالمخالفة بينهما، ولو إجمالاً، وإن تساويا في العلم، أو لم يحرز الأعلم منهما جاز له البقاء في المسائل التي تعلّمها ولم ينسها، ما لم يعلم بمخالفة فتوى الحيّ لفتوى الميّت، وإلا وجب الأخذ بأحوط القولين، وأمّا المسائل التي لم يتعلّمها، أو تعلّمها ثمّ نسيها، فإنه يجب أن يرجع فيها إلى الحيّ([21]).
مسألة 8: إذا اختلف المجتهدون في الفتوى وجب الرجوع إلى الأعلم، ومع التساوي وجب الأخذ بأحوط الأقوال، ولا عبرة بكون أحدهم أعدل([22]).
مسألة 9: إذا علم أنّ أحد الشخصين أعلم من الآخر، فإن لم يعلم الاختلاف في الفتوى بينهما، تخيّر بينهما، وإن علم الاختلاف وجب الفحص عن الأعلم، ويحتاط ـ وجوباً ـ في مدّة الفحص، فإن عجز عن معرفة الأعلم فالأحوط وجوباً الأخذ بأحوط القولين، مع الإمكان، ومع عدمه يختار من كان احتمال الأعلميّة فيه أقوى منه في الآخر، فإن لم يكن احتمال الأعلميّة في أحدهما أقوى منه في الآخر تخيّر بينهما، وإن علم أنّهما إمّا متساويان، أو أحدهما المعيّن أعلم وجب الاحتياط، فإن لم يمكن وجب تقليد المعيّن([23]).
مسألة 10: إذا قلّد من ليس أهلاً للفتوى وجب العدول عنه إلى من هو أهلٌ لها، وكذا إذا قلّد غير الأعلم وجب العدول إلى الأعلم، مع العلم بالمخالفة بينهما، وكذا لو قلّد الأعلم ثمّ صار غيره أعلم([24]).
مسألة 11: إذا قلّد مجتهداً، ثمّ شكّ في أنّه كان جامعاً للشرائط أم لا([25])، وجب عليه الفحص، فإن تبيّن له أنّه كان جامعاً للشرائط بقي على تقليده، وإن تبيّن أنّه كان فاقداً لها، أو لم يتبيّن له شيء عدل إلى غيره، وأمّا أعماله السابقة فإن عرف كيفيّتها رجع في الاجتزاء بها إلى المجتهد الجامع للشرائط، وإن لم يعرف كيفيّتها قيل: بنى على الصحّة، ولكن فيه إشكالٌ، بل منع([26]). نعم إذا كان الشكّ في خارج الوقت لم يجب القضاء.
مسألة 12: إذا بقي على تقليد الميت ـ غفلة أو مسامحة ـ من دون أن يقلّد الحيّ في ذلك، كان كمن عمل من غير تقليد، وعليه الرجوع إلى الحيّ في ذلك([27]).
مسألة 13: إذا قلّد من لم يكن جامعاً للشرائط، والتفت إليه ـ بعد مدّة ـ كان كمن عمل من غير تقليد([28]).
مسألة 14: لا يجوز العدول من الحيّ إلى الميت الذي قلّده أوّلاً كما لا يجوز العدول من الحي إلى الحي، إلا إذا صار الثاني أعلم([29]).
مسألة 15: إذا تردّد المجتهد في الفتوى([30])، أو عدل من الفتوى إلى التردّد، تخيّر المقلّد بين الرجوع إلى غيره والاحتياط إن أمكن.
مسألة 16: إذا قلّد مجتهداً يجوّز البقاء على تقليد الميت، فمات ذلك المجتهد، لا يجوز البقاء على تقليده في هذه المسألة، بل يجب الرجوع فيها إلى الأعلم من الأحياء([31]). وإذا قلّد مجتهداً فمات فقلّد الحيّ القائل بجواز العدول إلى الحيّ، أو بوجوبه، فعدل إليه، ثمّ مات فقلّد من يقول بوجوب البقاء، وجب عليه البقاء على تقليد الأوّل في ما تذكّره من فتاواه فعلاً([32]).
مسألة 17: إذا قلّد المجتهد وعمل على رأيه، ثمّ مات ذلك المجتهد، فعدل إلى المجتهد الحيّ، لم يجب عليه إعادة الأعمال الماضية، وإن كانت على خلاف رأي الحي، فيما إذا لم يكن الخلل فيها موجباً لبطلانها مع الجهل، كمن ترك السورة في صلاته اعتماداً على رأي مقلّده، ثمّ قلّد من يقول بوجوبها، فلا تجب عليه إعادة ما صلاه بغير سورة([33]).
مسألة 18: يجب([34]) تعلّم أجزاء العبادات الواجبة وشرائطها، ويكفي أن يعلم إجمالاً أنّ عباداته جامعة لما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط، ولا يلزم العلم تفصيلاً بذلك، وإذا عرضت له في أثناء العبادة مسألة لا يعرف حكمها جاز له العمل على بعض الاحتمالات، ثمّ يسأل عنها بعد الفراغ، فإن تبيّنت له الصحّة اجتزأ بالعمل، وإن تبيّن البطلان([35]) أعاده.
مسألة 19: يجب([36]) تعلّم مسائل الشكّ والسهو، التي هي في معرض الابتلاء، لئلا يقع في مخالفة الواقع.
مسألة 20: تثبت عدالة([37]) المرجع في التقليد بأمور:
الأوّل: العلم([38]) الحاصل بالاختبار أو بغيره.
الثاني: شهادة عادلين بها، ولا يبعد ثبوتها بشهادة العدل الواحد، بل بشهادة مطلق الثقة أيضاً([39]).
الثالث: حسن الظاهر، والمراد به حسن المعاشرة والسلوك الديني بحيث لو سُئل غيره عن حاله لقال: لم نر منه إلا خيراً([40]).
ويثبت اجتهاده ـ وأعلميّته أيضاً ـ بالعلم، وبالشياع المفيد للاطمئنان([41])، وبالبيّنة، وبخبر الثقة في وجهٍ([42])، ويعتبر في البيّنة وفي خبر الثقة هنا أن يكون المخبر من أهل الخبرة([43]).
ـ يتبع ـ
_____________________________
([1]) هذا الوجوب عقليّ، وليس تكليفاً شرعيّاً في عرض سائر التكاليف الشرعيّة الأخرى، بمعنى أنّ العقل ـ كما نفهمه نحن ـ يرى وجوب تفريغ الذمّة عن التكاليف الموجّهة إلى الإنسان من المولى عملاً بوجوب الطاعة، وذلك بعد إحرازه إجمالاً وجودَ تكاليف ـ بوصف هذا العلم المسبق بوجود تكاليف مصادرة مسبقة مفروغاً منها ـ وبناءً على هذا الحكم العقلي يذهب المكلّف للنظر في السبل المعتبرة المتوفّرة لديه للخروج عن عهدة هذه التكاليف، فيلاحظ وجود ثلاث سُبل ـ وهذه ملاحظة استقرائيّة، وليست بنحو القسمة العقليّة الحاصرة ـ قد تختلف مدارك حجيّة كلّ واحد منها. وبهذا يظهر أنّ الوجوب العقلي مرتبط بسلوك أحد الطرق الثلاث، بينما التقليد منشؤه عقلائي، أو فقل: إنّه يفرغ ذمّته إمّا بطريق اليقين وهذا هو سبيل الاحتياط (وبعض مواضع الاجتهاد)، أو بطريقٍ عُلِمَ من الشرع أنّه معتبر ومجزئ، وهذا هو سبيل التقليد أو الاجتهاد.
يضاف إلى ذلك، أنّ وجوب التقليد (الرجوع للفقيه) ليس تقليديّاً، تماماً كوجوب الاحتياط لغير المقلّد ـ ولو في مسألة الاحتياط نفسها ـ وغير الفقيه، فلا يُرجع في وجوب التقليد نفسه للفقيه، بل يرجع في ذلك لنظر المكلّف نفسه بعد تأمّله وسؤاله أهل الخبرة في الموضوع بحيث يحصل له نوع استقرار في الرؤية، وإلا لزمه الاجتهاد أو الاحتياط حيث يمكنه.
([2]) ويكون من العسير عليه بلوغها، وإلا فلو أمكنه تحصيل رتبة الفقاهة بلا عسرٍ ولا حرج، ولم تلزم من ذلك مفسدة على صعيد اجتماعي ـ كاختلال النظام ـ لو تصدّى العديد من الأفراد لتحصيل رتبة الفقاهة، فالأحوط وجوباً تحصيل الفقاهة والعمل بنظر نفسه. هذا على المستوى الفردي، مع فرض وجود من به الكفاية من الفقهاء، وإلا لزم الاجتهاد بما يحقّق الكفاية. ولو فرضنا أنّ من تصدّى ليكون فقيهاً ـ في مورد عدم كفاية الفقهاء الموجودين بالفعل ـ لو فرضنا أنّه كان عاجزاً عن ذلك بسببٍ مادّي أو غيره، وجب على الآخرين القادرين على إعانته القيامُ بهذه الإعانة تحقيقاً لهذا الواجب النظامي، وهذا الأمر ليس خاصّاً بالاجتهاد الفقهي، بل يجري في مختلف الواجبات الكفائيّة النظاميّة التي يجب على المجتمع أن يحقّقها كتعلّم الطبّ وهكذا.
يضاف إلى ذلك، أنّه لعلّ الأفضل هنا وأمثاله استخدام مفردة الفقاهة والفقيه بدل الاجتهاد والمجتهد، من حيث كونهما ـ أعني الفقاهة والفقيه ـ أقرب لاستخدام القرآن والسنّة من جهة أولى، وأكثر استيعاباً لمدارس الفقه الإسلاميّ المتنوّعة من جهة ثانية، وبخاصّة الشمول للإخباريّة والأصولية معاً. وبهذا يُعلم أنّ المكلف يمكنه الرجوع للفقيه الأصولي، كما يمكنه الرجوع للفقيه الإخباري، فضلاً عن الفقيه الانسدادي. ودعوى عدم صحّة إطلاق "الفقيه العالم" على الانسداديّ، كما ترى.
([3]) سوف يأتي مفهومنا للتقليد، كما أنّ الأفضل استخدام مفردة "الرجوع" ونحوها، بدل مفردة "التقليد"، فنقول: يرجع غيرُ الفقيهِ للفقيه إذا لم يكن محتاطاً، وهكذا؛ وبخاصّة لما لكلمة "التقليد" من حساسيّة ثقافية في العصر الحاضر من جهة أولى، ولما حام حولها تاريخيّاً من نقاشات وجدل بين التيارات المختلفة كالإخباريّة والأصوليّة من جهةٍ ثانية.
([4]) المراد هنا هو الأعمّ من أن يحتاط في كلّ المسائل التي تعرض في ابتلائه أو يجتهد فيها جميعاً أو يقلّد كذلك، أو أن يحتاط في بعضها ويقلّد في أخرى ويجتهد في ثالثة وهكذا، فلا فرق بين هذه الموارد، بل تعتبر كافية.
([5]) أو يحصل له ظنٌّ بالحكم نتيجة نظر في الأدلّة ولو لم يكن فقيهاً ـ كما هي حال بعض الفضلاء ومتابعي الدراسات الفقهيّة ـ يكون أقوى من الظنّ الآتي من التقليد والرجوع للفقيه لو بُني على ربط التقليد بالظنّ، بحيث تصبح القوّة الاحتماليّة في فتوى الفقيه عنده دون مرتبة الظنّ، وكذا لو حصل له العلم بعدم كونه مخالفاً لحكم إلزامي ـ ولو كان هو حرمة التشريع ـ ولو لم يحصل له علم بواقع الحكم الشرعي وهويّته، وكان ذلك كافياً في تحقيق المأمور به.
كما لا بأس بالإشارة هنا إلى أنّه يمكن تصوّر نوع من التركيب بين الاجتهاد والتقليد، بمعنى أنّه لو كان مجتهداً في علم الرجال لكنّه مقلّد في الفقه، وعرف أنّ فتوى هذا الفقيه مبنيّةٌ على رأيٍ رجاليّ يرى هو خطأه، فإنّه لا معنى لتقليده له في هذه الحال، بل عليه التركيب بين اجتهاده الرجاليّ وتقليده الفقهي المتناسب، وهكذا في مجال الاجتهاد اللغوي أو التاريخي وغيرهما.
([6]) المراد بالبطلان هنا البطلان العقلي وليس الحكم الشرعي بالبطلان، وليس المراد بالبطلان العقلي أنّ العمل صدر باطلاً، بل بمعنى أنّه لا يمكنه ـ عقلاً ـ أن يجتزئ به كما بُيّن أعلاه؛ فلو أجرى عقد زواجٍ لم يمكنه ترتيب آثار الصحّة عليه، وهكذا، فالبطلان هنا بمعنى عدم ترتيب آثار الصحّة.
([7]) أو ما هو في قوّة العلم من الحجّة الشرعيّة.
([8]) المقصود أنّه لو تبيّن موافقته للواقع أو للحجّة، صحّ العملُ من الأوّل لا من حين العلم بالموافقة؛ لأنّ التقليد والاحتياط وأمثالهما أحكامٌ طريقيّة لا غير. وهذا كلّه في حالة تأتّي قصد القربة من غير المقلّد والمحتاط والفقيه في المسائل العباديّة. وسوف يأتي ما يرتبط بموضوع الإجزاء لو صدر منه ما صدر عن حجّةٍ شرعيّة.
([9]) أحياناً.
([10]) التقليد أو الرجوع للغير ـ وفقاً لما رتّبوا عليه من آثار ـ هو العمل استناداً لفتوى الغير عن وثوقٍ بسلامة فتواه وثوقاً ناتجاً عن عناصر متعدّدة، فلو أفتى الفقيه بفتوى وكان "العامي" غير مطمئنّ لدقّة نظر الفقيه فيها مثلاً، لأيّ سببٍ من الأسباب (وهذا غير مجرّد عدم إعجابه بالفتوى وعدم استنسابه لها مزاجيّاً)، فإنّ الأخذ بالفتوى هنا مشكلٌ جدّاً؛ فحجيّة الفتوى مبنيّةٌ على حصول وثوق للعامي بالفتوى نفسها من حيث إصابتها لواقع الشريعة، حتى لو أتى هذا الوثوق أو السكينة النفسيّة من الثقة الكبيرة بالمفتي نفسه في خبرويّته أو نحو ذلك.
وعندما نقول بعدم اطمئنان "العامي" بفتوى الفقيه، فهذا لا يعني جواز عمله برأي نفسه في غير مثل الضروريّات ـ والمفروض أنّه ليس بفقيه ـ بل عليه أن يختار من بين الآراء والفتاوى الفقهية ما تركن إليه نفسه، فركون النفس شرط الأخذ برأي الفقيه، وليس شرطاً كافياً مطلقاً للأخذ بأيّ رأي، فانتبه جيّداً. ومع عدم ركون نفسه لأيّ رأي فقهي متوفّر، بحيث لم يثق بهذه الآراء أن تكون شريعةَ الله، وهو كثير الحصول في الخارج، فإنّ اللازم عليه ـ مع الإمكان ـ هو الاحتياط أو الفقاهة (الاجتهاد)، ولكن حيث إنّه من العسير نوعاً مطالبة العوام بالاجتهاد أو الاحتياط، فنقول بأنّ ذلك نوعاً عسير لأغلبيّتهم الساحقة، فننتقل إلى المرحلة التالية وهي أنّ على المكلّف اختيار قولٍ من الأقوال هو أقرب للوثوق عنده من غيره، بحيث يكون أقوى ظنّاً؛ لبناء العقلاء في مثل هذه الطرق المسدودة على ترجيح الظنّ الأقوى، وعلى تقدير أنّه لم يحصل له شيءٌ من ذلك، كما هي الحالة الكثيرة التي تحصل للعوام في التفاصيل الفقهيّة، يختار قولاً من الأقوال ويكون معذوراً في ذلك.
وبعبارةٍ أخرى: إنّ ما نطرحه يكون على الشكل الآتي: إمّا أن يحصل "للعامي" وثوق وسكينة بقول هذا المرجع أو ذاك، فيأخذ بمن حصل له وثوق وسكينة من قوله ويترك الآخر، أو لا يحصل له وثوق وسكينة من هذا النوع، وفي مثل هذه الحال، ينتقل إلى الأقوى ظنّاً عندهم والأقرب للوثوق، حيث يعسر عليه نوعاً الاجتهاد والاحتياط، فإن لم يكن هناك من هو أقرب للوثوق وأقوى ظنّاً من بين القولين، اختار أحدهما، وهذا ما يحكم به العقل والعقلاء في مثل هذه الموارد.
وبناء عليه، فإنّ ما نطرحه هنا ليس إلغاءً لفكرة التقليد كما قد يتصوّره بعضٌ، لكنّه إعادة تشكيل لكيفيّة ترجيح فتوى على أخرى، فالمدرسة الفقهيّة السائدة ترى أنّ الترجيح يكون بالأعلميّة، فيما نرى نحن أنّ الترجيح يكون بالوثوق أو أقوائيّة الظنّ، وهم عند تساوي الفقهاء في العلم أو عدم معرفة الأعلم يرون التخيير حيث لا يمكن الاحتياط، ونحن هنا نرى التخيير حيث لا يمكن الاحتياط، فليس هناك فرق بيننا وبينهم في أصل فكرة التقليد، إنّما الفرق في كيفيّة ترجيح الفتوى واختيار المقلَّد فيها، فتنبّه جيّداً.
وهناك فارقٌ ثقافي واجتماعي ينتج عن هذا الفرق بين فهمنا وفهمهم، وهو أنّنا نرى أنّ على المسلم العمل لفهم الإسلام، وأخذ مستوى فهمه معياراً في ترجيح الآراء الفقهيّة، فيما لا ترى النظريّة السائدة أيّ قيمة لفهم عامّة المسلمين للإسلام في تعيين الفتوى التي يختارونها، ووفقاً لما قلناه يختلف نظام التقليد في آليّته وطريقة اختيار المكلّفين لمرجعهم في هذه المسألة أو تلك، عنه في النظام السائد اليوم. ودعوى أنّ النظام السائد اليوم ـ وهو نظام مركزيّ مبنيّ على نظريّة الأعلميّة ـ هو التفسير الحصري للتقليد، وغيره ليس بتقليدٍ أساساً، غير صحيح؛ فما نطرحه ليس ابتكاراً من ابتكاراتنا، بل قد طُرح في الأوساط البحثيّة في حجية قول أهل الخبرة وفي مباحث علم الرجال وغير ذلك، وأشار له بعضهم هنا ـ مثل الشيخ حسين علي المنتظري ـ على ما طرحنا في محاضراتنا حول التقليد، فراجع. فنحن أمام شكلين من أشكال التقليد اجتماعيّاً وثقافيّاً: شكلٌ يقول بأنّ خبراء الحوزة العلميّة يحدّدون شخصاً هو الأعلم، وعلى الناس الرجوع إليه بلا أيّ قيمة أو دور لدرجة وثوقهم أو ظنّهم بصلاح هذه الفتوى منه أو تلك، فيما الشكل الذي نطرحه نحن لا يعتمد على نظريّة الأعلميّة بوصفها معياراً قائماً بذاته، بل يعتمد على نظريّة الترجيح بدرجة وعي المكلّف بمضمون الفتاوى، ومن ثمّ فنحن نعتمد أكثر على مستوى وعي المسلمين بمضامين الفتاوى، ولهذا شجّعنا غير مرّة أن يطرح الفقهاء الفتاوى مع أدلتهم المختصرة جداً، كي يتسنّى للجمهور ترجيح الفتاوى بين الفقهاء اعتماداً على درجةٍ ولو بسيطة من الوعي، وعلى أيّة حال فالكلّ يعتمد في عمله على فتاوى المراجع، وإذا كانت الأعلميّة ذات قيمة عندنا فهي ذات قيمة من حيث إنّها قد تشكّل لدى هذا المكلّف أو ذاك أقوائيّة ظنّ بسلامة فتوى الأعلم أكثر من غيره.
وقد يسمّي بعضٌ التقليد السائد بالتقليد الأعمى؛ لأنّه حتى المثقّف الديني أو طالب العلم الحوزوي الذي لم يبلغ مرحلة الاجتهاد، عليه الأخذ بقول الأعلم دون نقاش، مهما كانت لديه ملاحظات ـ بل قد يشعر بالذنب لو كانت لديه ملاحظات على قول المرجع، بناءً على تربيةٍ استمرّت قروناً وما تزال، رغم تغيّر المستوى الثقافي والعلمي للكثير من أبناء المجتمع وانتشار التعليم وارتفاع مستوى الفهم والاطّلاع على القضايا الدينية ـ في مقابل التقليد الذي نطرحه على أنّه تقليد واعٍ، لكنّني لا أحبّذ هذه التسميات، بل قد اعتبرها غير أخلاقيّة من بعض الجهات.
هذا، وأمّا التقليد بمعنى براءة الذمّة لغير الفقيه والمحتاط، فهو عين مطابقة العمل لفتوى من يمكن الأخذ بفتواه، سواء قصد المكلّف ذلك أم لم يقصد، كان عمله استناداً لذلك أم لم يكن، وهكذا.
([11]) مقصودنا بالمميّز هنا ـ على التحقيق ـ كونه بحيث وقع منه التقليد حقيقةً عن وعي وفهم وقصد جادّ، بحيث يصحّ أن يقال بأنّه استند في عمله إلى فتوى هذا الفقيه أو ذاك، فلو كان عمره ثلاث سنوات ثم قلّد، وكان تقليده مجرّد لقلقة لسان فلا يكون له معنى ولا تترتّب عليه آثاره، إلا من حيث مفهوم المطابقة كما قلنا سابقاً. هذا، ولا فرق هنا بين الذكر والأنثى، فالصبيّة كالصبي تماماً في الحكم وإن عبّروا بالصبي الذي يوحي بالذَّكَر.
([12]) بل يجوز؛ لعدم وجوب تقليد الأعلم كما سيأتي، بل حتى لو قلنا بوجوب تقليد الأعلم أمكنه الرجوع لغيره إذا كان مساوياً أو محتمَل الأعلميّة، ولا يلزم أن يكون الرجوع للغير هنا مشروطاً بكون الغير هو الأعلم.
([13]) المتعارف في كلمات الفقهاء عند ذكر شروط المفتي والمقلَّد هو أن يذكروا شرط البلوغ والعقل، فلا يكون صغيراً غير مكلّف، ولا مجنوناً غير عاقل. كما ذكر كثيرٌ منهم شرطَ الحريّة، فلو كان عبداً مملوكاً لا يصحّ تقليده والرجوع إليه في معرفة الأحكام الشرعيّة والعمل بها تقليداً. غير أنّ مراجعاتٍ ـ على مستوى البحث العلمي ـ أُجريت على هذه الشروط الثلاثة عند المتأخّرين، بل قد حذف الكثير منهم شرطَ الحريّة حتى من كتبهم الفتوائيّة كالسيّد الماتن هنا. واللافت أنّ بعض الفقهاء الذين صرّحوا في كتبهم البحثيّة بنقد شرط البلوغ والعقل نقداً حاسماً، ذكروهما في الرسالة العمليّة حتى دون احتياط وجوبي! فراجع ترى ما نقول، ولعلّهم في مقام الرسالة العمليّة كانوا قد عدلوا عمّا توصّلوا إليه في البحث الاستدلالي. نعم يظهر من بعضٍ الاحتياط الوجوبي في شرط البلوغ مثل الشيخ محمّد إسحاق الفياض في "تعاليق مبسوطة"، والشيخ الوحيد الخراساني، وهو محتملُ عبارةِ كلٍّ من السيد علي السيستاني والسيد محمد حسين فضل الله في شرطَي البلوغ والعقل. وبعض الفقهاء المتأخّرين لم يذكروا شرط البلوغ والعقل والحريّة أصلاً في كتبهم الفتوائيّة، ومنهم السيد محمّد سعيد الحكيم. وقد صرّح السيد كاظم الحائري بعدم شرط البلوغ بعنوانه، وذلك في تعليقته على الفتاوى الواضحة.
والأقوى أنّ المفتي والمقلَّد إذا كان فقيهاً حقّاً وموثوقاً صالحاً، فإنّه لا فرق في حجيّة فتواه بين أن يكون صغيراً أو كبيراً بالغاً أو غير بالغ، وكذلك الحال في الحريّة، أمّا العقل، فإن كان جنونه إدواريّاً بمعنى أنّه تعرضه حالات، ثم يعود إلى وضعه الطبيعي ويعطي آراءه ويجري بحوثه وهو في حالٍ طبيعي، دون أن تؤثر نوبة فقدان العقل على علمه وخبرته وفقاهته حال الوعي، فلا شكّ في حجيّة فتواه، أمّا لو كان إطباقيّاً، فلا يمكن تقليده؛ لا لأنّه مجنون، ولا لأجل شرطٍ إضافيّ من شروط المقلَّد اسمُه العقل، بل لأنّه لا يصدق عليه عنوان "العالم الفقيه" حتى يصحّ فيه إجراء قانون رجوع الجاهل إلى العالم. نعم لو كان فقيهاً عاقلاً وقلّده الناس مدّة من حياته، لكن عرضه الجنون الإطباقي في آخر حياته مثلاً أو لحادثٍ تعرّض له، فهذا يجوز البقاء على تقليده أو حتى تقليده ابتداءً في فتاويه التي أصدرها حال عقله، فهو أشبه بمن مات، وسيأتي أنّه يجوز تقليد الميّت بقاءً، بل ابتداءً أيضاً، مع صدق عنوان "الفقيه" في عصرنا عليه. وهذا كلّه في حجية الفتوى، ولا نتكلّم عن الفقيه المرجع هنا بما هو صاحب ولاية قضائيّة أو ماليّة أو بما هو زعيم فعلي للطائفة أو للدين يمارسُ زعامَته بما لها من معنى، فإنّ مقام الزعامة والولايات غير مقام رجوع الجاهل إلى العالم، فيُرجى التنبّه والتدقيق في هذه القضيّة.
ولا أرى حاجة للإطالة هنا في عرض الأدلّة والمناقشات التي طُرحت حول هذه الشروط الثلاثة (البلوغ والعقل والحريّة)، فقد كفانا مؤونة ذلك النقّادُ الكبار من الفقهاء المتأخّرين، فلتُراجع كتبُهم، وسيرى المطّلعُ أنّ أدلّة المسألة ـ لو فصلنا مقام الولاية والزعامة عن مقام مجرّد أخذ العلم والفتوى، ولم نقل بحجيّة الإجماع والشهرة ـ لا تعطي شرطَ البلوغ والعقل، ولا شرط الحريّة.
([14]) المعروف بين الفقهاء، والمتأخّرين بشكل خاصّ، أنّ المفتي ومرجع التقليد لا بدّ أن يكون مسلماً، بل اشترطوا أيضاً أن يكون منتمياً للمذهب الحقّ، حيث قال العديد من فقهاء الإماميّة ـ على سبيل المثال ـ بأنّ من شروط المقلَّد أن يكون شيعيّاً إماميّاً، فلا يصحّ تقليد غيره. وتكاد هذه المسألة تعتبر من الواضحات التي يصرّحون بها أحياناً أو يعتبرونها جليّة أحياناً أخرى. ويمكن التماس الموقف نفسه من ثنايا كلام العديد من فقهاء سائر المذاهب الإسلاميّة هنا وهناك.
ولتوضيح الفكرة يجب التمييز بين مسألتين:
أ ـ التعبّد بسائر المذاهب الفقهيّة لدى علماء المسلمين، فمثلاً هل يجوز للسنّي الحنفي أن يتعبّد بالفقه الجعفري فيأخذ فتوى جعفريّة ويعمل بها أو لا؟ وهل يجوز للإمامي أن يتعبّد بالفقه الشافعي فيأخذ فتوى شافعيّة ويتعبّد بها أو لا؟ هذه المسألة لا علاقة لها بموضوعنا هنا.
ب ـ التعبّد بالفقه المذهبي عينه، بمعنى أن يتعبّد الشيعي بالفقه الجعفري مثلاً، غاية الأمر أنّ المفتي الذي يُفتي له على قواعد الفقه الجعفري هو شخصٌ غير شيعي، فلو فرضنا مسلماً سنيّاً فقيهاً من الطراز الأوّل بالفقه الإمامي ولديه ملكة الاستنباط على قواعد الفقه الإمامي، بحيث حصل على إجازات اجتهاد من كبار مراجع الشيعة، وهذا نطرحه بوصفه فرضيّة لتسهيل الفكرة، فهنا لو فرضنا أنّ مسلماً شيعيّاً يريد الرجوع لهذا الفقيه السنّي ليستفتيه في مسألة فقهيّة على قواعد الفقه الجعفري، فهل يمكنه الأخذ بفتواه أو لا؟ وهكذا لو كان ذلك الشخص غير مسلم أيضاً، بل كان ملحداً مثلاً، لكنّه كان فقيهاً مشهوداً له مسلّم الاجتهاد، فهل يمكن تقليده والرجوع إليه أو لا؟ هذه هي المسألة التي نتعرّض لها هنا، أي هل الانتماء الشخصي للمفتي يشكّل بنفسه وبعنوانه مانعاً عن الأخذ بفتواه أو لا؟
إذن، فهناك فرق بين مسألة التعبّد بالفقه المذهبي أو الديني الآخر، ومسألة التعبّد بالفقه المذهبي الخاصّ غاية الأمر أخذ الفتوى من شخص لا ينتمي لهذا المذهب، لكنّه يُفتي على قواعده، وهذا هو موضوعنا هنا.
والأقوى أنّه لا يوجد دليل مقنع على اشتراط الانتماء المذهبي الخاصّ، ولا على اشتراط الإسلام، في المفتي ومرجع التقليد، إذا تمّ إحراز فقاهته الحقيقيّة على وفق مذهب المكلّف، وكان موثوقاً أميناً في ممارسته لهذا الاجتهاد وفي إخباره بالفتوى التي وصل إليها. فالمفتي مثل الطبيب لا يشترط في الرجوع إليه ـ عملاً بالسيرة العقلائيّة ـ لا إسلامه ولا مذهبه الخاصّ. وهذا الموضوع رغم أنّه فرضيٌّ قد لا نجد له مصداقاً عبر التاريخ والحاضر إلا نادراً للغاية جدّاً، غير أنّ الفكرة مهمّة في تقديري.
وعليه فالبناء العقلائي كافٍ هنا، وعدم اعتمادهم أحياناً ناتجٌ عن عدم الوثوق هنا أو هناك لا عن اعتقادهم بشرطيّةٍ مستقلّة، ومن هنا لا يكون اعتماد أهل كلّ ملّة على علمائهم بمثابة تقييد للسيرة؛ لأنّ المفروض أنّه لم يتوفّر لديهم غيرهم إلا نادراً جداً، ولو توفّر فمعيار ذلك هو عدم وثوقهم لا عدم اعتقادهم بحجيّة قولهم لكونهم من غير أبناء ملّتهم بشكلٍ مستقلّ، بل هذا هو المرجع إلى اليوم ولهذا ترى أنّ الكثيرين هنا في هذه المسألة استندوا لعدم الوثوق بغير الإمامي أو بغير المسلم. وهذا ما بحثناه في كتاب "قواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني" بشكل مفصّل، فراجع.
وقد قلنا غير مرّة بأنّنا نتكلّم هنا عن خصوص رجوع المكلّف في معرفة الحكم الشرعي إلى الفقيه، بعيداً عن فكرة سلطة الفقيه المرجع على الأموال أو على القصَّر أو على الأمور الحسبيّة أو على الشؤون العامّة أو غير ذلك، حيث ناقشنا السيدَ الخوئي في رفضه عملية التفكيك هذه، ووافقنا في ذلك السيدَ السيستاني.
وبهذا الذي قلناه يظهر الآتي:
أوّلاً: إنّ عدم اشتراط التشيّع في المفتي، لا يعني إسقاط مرجعيّة أهل البيت في معرفة الدين، فهذان مفهومان مختلفان، ولهذا لم يستدل أحدٌ من الفقهاء بالثاني على الأوّل، ومفروض المسألة أنّ المفتي يُفتي بما لا يعارض أصول مذهب أهل البيت في المنهج الاجتهادي، بل يتوافق معها.
ثانياً: إنّ الكلام ليس عن المرجع الأعلى للطائفة بوصفه مدير الجماعة ذا ولاية، بل عن مرجعيّة معرفيّة فقط.
ثالثاً: إنّ كون مفروض المسألة نادر التحقّق لا يعني عدم جدوائيّة طرح هذه المسألة، فعلى أيّة حال هو ـ أعني شرط الانتماء المذهبي ـ شرطٌ ذكره الفقهاء المتأخّرون، ومن ثمّ يلزم التعليق عليه سلباً أو إيجاباً، ولا ضير في ذلك.
رابعاً: إنّ دعوى أنّ غير الإمامي لا يمكنه فهم روح نصوص أهل البيت؛ لأنّ الاجتهاد ليس عمليّةً جامدة، بل هو عمليّة تفاعليّة وإيمانيّة، كلامٌ قابلٌ للنقاش جداً؛ وذلك:
أ ـ إنّه نقاش في الصغرى وليس في الكبرى، فلا يشترط في المفتي التشيّع، لكن يُشترط فيه الاجتهاد، وهذه المناقشة هي في الحقيقة مناقشة في قدرته على الاجتهاد، فلا داعي لفرض شرطٍ جديد مستقلّ.
ب ـ إنّه يمكن فرضُ فقيهٍ إمامي أفتى على معيار الفقه الإمامي حينما كان إماميّاً، ولكنّه عدل إلى مذهبٍ آخر، كأن أصبح سنياً، وقد رأينا في حياتنا بعض هؤلاء الأشخاص، ففي هذه الحال يكون اجتهاده حال كونه إماميّاً وافياً بالشروط، بما في ذلك الشرط الذي فرضه المستشكل هنا، فما هو الموجب للقول بعدم إمكان الرجوع إليه في الفقه الذي كتبه حال تشيّعه؟!
ج ـ إنّ دعوى أنّه لا يمكن الوثوق به أو أنّه لا يمكن الوثوق باجتهاده هو أمرٌ شخصي، فلعلّ الآخرين يثقون به وباجتهاده، فكيف نشترط التشيّع في أمرٍ مرجع القرار فيه إلى حالة وثوقيّة فرديّة، لا إلى معطيات موضوعيّة.
د ـ إنّه من الغريب أنّ بعض هؤلاء عندما يُسألون عن إمكانيّة اجتهاد الفقيه الإمامي على وفق قواعد الفقه السنّي، فإنّهم لا يرون ذلك مستحيلاً، لكنّهم يرون العكس مستحيلاً عمليّاً؛ بسبب صعوبة الفقه والأصول الإماميّين، وكأنّه لا أحد يمكنه أن يفهم الفقه والأصول الإمامي إلا إذا كان إماميّاً، وهذا غريب؛ إذ هي فروعٌ علميّة قابلة للفهم إذا تمّت دراستها وقضاء العمر بذلك، وقد سبق في محلّه أن علّقنا وقلنا بأنّ دعوى كون الاجتهاد ملكة "قدسيّة" هي دعوى لا دليل عليها، فقيد "القدسي" مما لم يقم عليه دليل معتبر إطلاقاً.
هـ ـ إنّ دعوى أنّه لا يمكن تجريد أحد من خلفيّاته، وإن كانت صحيحة، لكنّها لا تُلغي كونه مجتهداً فقيهاً يجوز الرجوع إليه، وإلا فإنّ الفقيه الإمامي هو أيضاً لديه خلفيّات اجتماعيّة وتربوية وثقافيّة وطبقيّة قد تقوده ـ احتمالاً ـ لنتائج كثيرة في قضايا المرأة والحقوق والسياسة والأموال والاقتصاد وغير ذلك، فحقّانية هذه الفكرة في الجملة لا تعني سلب صفة الاجتهاد عنه أو سلب الموثوقيّة النوعيّة.
خامساً: استدلّ بعض الفضلاء المعاصرين حفظه الله، ببعض النصوص هنا، مثل خبر أبان بن تغلب، عن أبي جعفر×، أنّه سُئل عن مسألة فأجاب فيها، قال: فقال الرجل: إنّ الفقهاء لا يقولون هذا، فقال: «يا ويحك، وهل رأيت فقيهاً قطّ؟! إنّ الفقيه حقّ الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المتمسّك بسنّة النبيّ‘» (الكافي 1: 70)، وكذلك خبر الحلبي، عن أبي عبد الله×، قال: قال أمير المؤمنين×: «ألا أخبركم بالفقيه حقّ الفقيه. من لم يقنط الناس من رحمة الله، ولم يؤمنهم من عذاب الله، ولم يرخّص لهم في معاصي الله، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره، ألا لا خير في علمٍ ليس فيه تفهّم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادةٍ ليس فيها تفكّر» (الكافي 1: 84)، وكذلك خبر الحارث بن المغيرة النصري، عن أبي عبد الله×، في قول الله عزّ وجلّ: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء)، قال: «يعني بالعلماء من صدّق فعله قوله، ومن لم يصدّق فعله قوله فليس بعالم» (المصدر نفسه). فهذه النصوص وأمثالها تفيد الحكومة، فتسلب تعبّداً واعتباراً صفة الفقاهة عن كلّ من ليس كذلك، أو أنّها تحصر الحجيّة بمن ذكرته.
ويناقش ـ بصرف النظر عن كون هذه الأخبار آحادية أو لا ـ:
أ ـ إنّ هذه العناوين قد تصدق على المسلم غير الإمامي إذا اجتهد وتوصّل لما وصل إليه وكان معذوراً في ذلك، وإلا فلو قلنا بأنّه حتى المعذور لا يصدق عليه ذلك فإنّ الفقهاء الشيعة لا يصدق عليهم أنّهم متمسّكون بسنّة النبيّ؛ لقوّة احتمال أنّ كلّ واحد منهم أخطأ في التوصّل لشيء من سنّة رسول الله. وما هو المانع من صدق عنوان تصديق قوله لفعله في حقّ غير الإمامي؟! أو كونه لا يؤمّن الناس من العذاب وغير ذلك.
ب ـ إنّ دعوى الحكومة هنا لو تمّت، لزم سلب صفة الفقاهة عن غير العادل، فلو نذر شخص نذراً بأن يتصدّق على فقيهٍ فقير، لم يعد يمكنه أن يتصدّق على فقيهٍ فقير إذا كان شيعيّاً لكن غير عادل بحجّة أنّه مسلوب صفة الفقاهة تعبّداً! ودعوى أنّ انطباق عنوان الفقاهة متفرّع على مثل عنوان العدالة كما ترى. ولعلّه لهذا لم نجد أحداً من الفقهاء استدلّ بهذه الروايات لإثبات شرط العدالة أو نحوه في مرجع التقليد.
ج ـ إنّ مثل هذه النصوص موجود في غير موضع من الروايات، فبعض النصوص يصرّح بأنّ شيعتنا ليس إلا من أطاع الله وغير ذلك من التعابير الكثيرة، فهل يُقال بأنّ هذه النصوص لا تريد ترتيب آثار التشيّع على غير هذه الفئة القليلة أو نقول بأنّ غرضها بيان منزلة هذه الفئة دون سلب شيء عن غيرها، بما يتوالم مع السيرة والارتكازات وقانون لو كان لبان؟! وهكذا تعبير خبر الحلبي: «لا خير في عبادةٍ ليس فيها تفكّر»، هل يعني ذلك حقاً أنّ العبادة التي لا تفكّر فيها لا خير فيها إطلاقاً، مع أنّها تسقط التكليف عن المكلّف، الأمر الذي يجنّبه عذاب النار بترك الصلاة؟! هل هذه النصوص بصدد بيان محدّدات قانونيّة أو أنّها بصدد بيان ما هو الأفضل وما ينبغي أن يكون الحال عليه في صيغته الكاملة؟! لا شكّ لدينا بأنّ تقليد الفقيه المسلم المؤمن هو نسخة أفضل من تقليد غيره من عدّة جهات في العادة، لكنّ هذا لا يلزم منه سلب حجيّة قول غيره على تقدير احتوائه على الشروط.
سادساً: إنّ الاستدلال على شرط الإسلام أو الإيمان بأنّه لولاه يلزم بعض الضرر الديني أو يلزم من ذلك مفاسد اجتماعيّة إيمانيّة، هو استدلالٌ بالعنوان الثانوي، فيمكن القبول به في دائرة ما لو ثبت العنوان الثانوي هنا وهناك، وهذا لا نقاش فيه في كلّ الشروط سلباً أو إيجاباً، لكنّه لا يُثبت أصل الشرط بالعنوان الأوّلي ودائماً، وهذا واضح.
سابعاً: إنّ عبارات بعض الفقهاء مبهمة هنا أو أقرب لعدم وضوح الاشتراط لديهم في كون المفتي إماميّاً، منها عبارة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تعليقته على العروة، وعبارة السيد محمّد حسين فضل الله في "فقه الشريعة". بل قد ناقش في الموضوع أمثال السيد رضا الصدر، هذا مضافاً لعبارات بعض المتقدّمين الذين تعرّضوا لشروط المفتي دون أن يذكروا هذا الشرط، كالعلامة الحلّي، فراجع. بل قال الشيخ علي كاشف الغطاء (1253هـ): «وقد يظهر من المرحوم الأصفهاني جواز تقليد غير المؤمن إذا قطع بأنّ كيفيّة اجتهاده واستنباطه على طريقة أهل الحقّ وقطع بأنّه لا يخبر إلا عما هو رأيه ومعتقده؛ لأنّه قد أمن خيانته» (النور الساطع في الفقه النافع 2: 203).
ولا بأس بنقل نتيجة ما توصّل إليه السيد محمّد سعيد الحكيم، حيث قال بعد مناقشة مختلف الأدلّة على شرط التشيّع الإمامي في المفتي: «والحاصل أنّه يصعب إقامة الدليل على عدم جواز تقليد غير المؤمن إذا فرض استنباطه للأحكام على الطرق المقرّرة عندنا. نعم، الطرق المذكورة لما لم تكن منضبطة، أشكل الوثوق بغير المؤمن في الاستنباط منها؛ لأن كثيراً من القرائن والأدلة مما لا يمكن حصولها لغير المؤمن، كإجماعات الخاصّة، وشهرة الحكم بينهم، وهجرهم للأخبار، وعملهم بها، وتوثيقهم للرواة وجرحهم، وسيرة المتشرّعة ومرتكزاتهم، وغير ذلك مما يكون دخيلاً في استنباط المجتهد المؤمن للحكم بسبب حسن ظنّه بالمؤمنين واعتقاده بعلمائهم وعوامهم أنّهم في مقام تلقّي الأحكام وأخذها من أئمّتهم عليهم السلام والاحتياط لها، وعدم التساهل فيها، وكلّ ذلك مما لا يتهيّأ للمخالف تحصيله؛ لعدم حسن ظنّه بهم بالوجه المذكور. كما أنّ حسن الظن بهم من المؤمن بالنحو الدخيل في استنباط الحكم لا ينضبط بضابط حتى يمكن رجوع غيره إليه وإن لم يحصل له حسن الظنّ. وذلك مانع من الوثوق باستنباطه والأخذ بقوله؛ لعدم إحاطته بمقدّمات الاستنباط المتيسّرة للمؤمن، وهذا بخلاف الرواية المستندة للطرق الحسيّة المنضبطة. وهذا كاف في المسألة، ولا سيما مع كون الحكم من مرتكزات المتشرّعة التي لا مجال للإغضاء عنها. لكنّ ذلك مختصّ بما إذا صدرت الفتوى منه في حال ضلاله، أمّا لو صدرت منه حين إيمانه، ثمّ عرضت له فتنةٌ أخرجته عن الإيمان، فيقصر ما سبق عن المنع من تقليده ابتداء واستدامة، وليس حينئذٍ إلا الإجماع الذي عرفت حاله. نعم ، لو تمّ الدليل على اعتبار العدالة بالمعنى الذي هو أخصّ من الإيمان كان دليلاً في المقام» (مصباح المنهاج/التقليد: 33 ـ 34).
وقد ظهر مما أسلفناه التعليق على كلامه، لكنّ كلامه ـ وكذا مجمل بحثه ـ يوضح أنّ القضية ليست من البديهيّات كما يتصوّرها بعضٌ، بل قابلة للكثير من النقاش والتفصيل.
وأختم أخيراً، بأنّه إذا كان عسيراً هضم فكرةٍ من هذا القبيل، فيمكن الاستئناس بحجيّة فتاوى غير الشيعة الإماميّة فيما ينقلونه عن أهل البيت النبوي، فالسكوني لوحده لديه أكثر من ألف رواية في الكتب الأربعة فقط، ومثله العشرات من غير الإماميّة من الذي وقعوا في أسانيد الروايات الحديثيّة التي عمل بها الفقهاء منذ قديم الأيّام، فإذا كان ثقيلاً أخذ الرأي العلمي من غير الإمامي، فالمفترض أن تكون الحالة نفسها موجودة في أخذ الرواية من غيره، ولو قيل بأنّهم شهدوا هناك بوثاقته، فإنّ مفروض كلامنا هنا هو أنّهم شهدوا باجتهاده ووثاقته، فما هو الموجب للتفريق في الاستغراب؟!
([15]) ذهب العديد من الفقهاء المتأخّرين إلى اشتراط الذكورة في المفتي ومرجع التقليد، فلا يُجزي تقليد الآخرين للمرأة، وحاول بعضٌ التفصيل بين تقليد المرأة للمرأة فهو مشروع، وتقليد الرجال لها فغير جائز. والذي بدا لي بالمراجعة التاريخيّة أنّ هذه المسألة لم تكن مطروحة بجديّة في الفقه الإمامي قبل القرن العاشر الهجري. ونتيجة البحث في أدلّة ومصادر المذاهب الفقهيّة المختلفة عند المسلمين، فإنّ الأقوى أنّه يمكن للمرأة أن تكون مجتهدةً، كما يمكنها تقليد نفسها عند الاجتهاد، بل يلزمها ذلك ـ أعني تقليد نفسها عندما تصبح مجتهدةً ـ تكليفاً ووضعاً، كما يمكن للآخرين تقليدها، بلا فرقٍ بين الرجال والنساء. وعليه، فتصدّي المرأة الحاوية لسائر شروط الإفتاء.. تصدّيها للمرجعيّة الإفتائية جائز لا محذور فيه، وتقليدها كذلك، على أن لا يلزم منه أيّ محذور شرعيّ آخر.
([16]) المتعارف بين الفقهاء الذين تعرّضوا لهذه المسألة أنّ من شروط المقلَّد أن يكون عادلاً، بل بعضهم نصّ على لزوم أن يكون في أعلى مراتب العدالة، فلو كان فاسقاً لم يجز تقليده ولا يصحّ الرجوع إليه في أخذ الأحكام الشرعيّة. وقليلٌ نادرٌ من الفقهاء من يظهر منه ـ في البحث العلمي على الأقلّ ـ عدم الموافقة على هذا الشرط، ومن هؤلاء: السيد تقي القمي. كما أنّ الشيخ ناصر مكارم الشيرازي بنى شرط العدالة على الاحتياط الوجوبي.
والأقرب أنّ الشخص الذي نرجع إليه في أخذ الأحكام الشرعيّة، لا يشترط أن يكون عادلاً، بل الشرط فيه أن يكون مأموناً موثوقاً به في ممارسة الاجتهاد وفي الإخبار عمّا توصّل إليه من فتاوى. وبهذا يظهر عدم صحّة الشرط الذي أضافه بعض الفقهاء المتأخّرين، مثل الشيخ جواد التبريزي، من أنّه لا بدّ في المرجع أن لا يكون معروفاً سابقاً بفسقٍ حتى لو كان الآن عادلاً، بحيث يعدّ الرجوع إليه وَهْناً للمذهب بحسب تعبيره، فهذه كلّها عناوين ثانوية، لا علاقة لها بشروط المرجع الأوليّة، وإلا يلزم أن نشترط فيه أيضاً أن لا يكون قبيح المنظر جدّاً على تقدير أنّه يلزم من ذلك وهن المذهب لو رآه الناس!
والمهم أن نوضح هنا أنّ موضوع الحديث هو من يُرجع إليه في أخذ الفتاوى، لا من يملك مقام الولايات القضائيّة أو المالية أو السياسيّة أو مقام الزعامة الدينيّة، وفاقاً في هذا التمييز لجملة من العلماء، منهم: السيد علي السيستاني والسيد تقي القمي، وهو تمييزٌ في غاية الأهميّة لدى دراسة موضوعات من هذا النوع وقع فيها تداخلٌ كبير بين العناوين. فالمهمّ في المقلَّد على مقتضى العناوين الأوّليّة: أ ـ الخبرويّة بمعنى الفقاهة. ب ـ الموثوقيّة والمأمونيّة، بمعنى حصول الوثوق به وباجتهاداته وبإخباراته وبسلوكه الأخلاقي حال الاجتهاد والنظر وحال الإفتاء.
ورغم إقرار الفقهاء بأنّ مقتضى العمومات والمطلقات اللفظيّة هنا، وكذلك مقتضى البناءات والارتكازات العقلائيّة هو عدم اشتراط العدالة، غير أنّ بعضهم حاول إثبات هذا الشرط:
تارةً من خلال رواية تفسير العسكري المعروفة الآحاديّة الضعيفة الإسناد. أو من خلال روايات تتحدّث في سياقات مختلفة خارجة عن سياق التقليد، ومنها أنّ العالم الذي تحدّث القرآن أنّه يخشى اللهَ يراد منه العادل. وهذه الروايات يظهر أنّها كانت الدليل العمدة لمثل السيد علي السيستاني، وفقاً لما جاء في بحوثه الاستدلاليّة. ولكن الظاهر ـ لو تخطّينا موضوع الصحّة السنديّة ـ أنّ استقدام هذه الروايات، بعيداً عن خبر تفسير العسكريّ، غير دقيق؛ فهذه الروايات لا تريد ممارسة حكومة تضييقيّة، بل تريد بيان الصيغة الأنموذجيّة للعالم، ولهذا في الخبر الذي ورد في تفسير الآية المشار إليها جاء تفسير العالم الذي ورد في الآية، وهو الذي يخشى الله، لا مطلق العالم، فهذه النصوص توجيهيّة لبيان ما ينبغي أن يكون عليه أهل العلم، لا تنزيليّة جارية على قانون الحكومة، وإلا لزم ترتيب تمام الآثار عليها بحيث نلتزم بعدم صدق عنوان العالم على غير العادل، فلو نذر المكلّف صرف مبلغ من المال على العلماء لم يدخل غير العدول فيهم، وهكذا.
وأخرى من خلال الإجماع الذي لو أمكن إثباته تاريخيّاً فهو محتمل المدركيّة جدّاً.
وثالثة بالأولويّة في مثل إمام الجماعة. وهو قياس مع الفارق، لوجوه، بل لو قلنا به للزم اشتراط العدالة في الطبيب حيث الأمر في غاية الخطورة، وهو عبارة عن حياة المريض المسلم نفسه! وغير ذلك من الأمثلة.
ورابعة بالأولويّة المأخوذ فيها الارتكاز المتشرّعي؛ إذ لا يرضى المولى سبحانه بأن يكون زعيم المسلمين فاسقاً يرقص في المقاهي والأسواق ويضرب بالطنبور في المجامع، وفقاً لتعبير بعض الفقهاء. وهذا الكلام فيه خلطٌ بين مقامات مختلفة كما صار واضحاً، بل لنا أن نُشكل بالنقض: لا يُعقل أن يرضى الإسلام أن يتطبّب مرجع المسلمين عند طبيبٍ كافر شارب للخمر زانٍ، ويضع نفسه بين يديه؟! فما الفرق بين المقامين؟! وهل المسألة نفسيّة أو مبنيّة على معطيات حقيقيّة؟
وخامسة بأنّ الأخذ من الفاسق هو ركونٌ إلى الظالم. وهذا أيضاً من الاستدلالات التي تخضع لمناقشات عديدة، وقد تحدّثنا بتفصيلٍ عن مفهوم الركون في كتاب (قواعد فقه العلاقة مع الآخر الديني)، وناقشنا هذا النوع من المقاربات الاستدلاليّة التي تكرّرت في العديد من الأبواب الفقهيّة عند جملةٍ من الفقهاء، فراجع. بل لو قلنا بذلك لزم اشتراط العدالة في الطبيب والمهندس وعشرات من أهل الخبرة، فتأمّل جيّداً.
وأمّا دعوى أنّ الاجتهادَ ملكةٌ قُدسيّة، بحيث يعطي هذا التعبير دلالةً خاصّة في المقام، فهو أمرٌ لا دليل عليه، بل هذا التعبير، أعني إقحام كلمة (قدسيّة) في تعريف الاجتهاد، راج بين المتأخّرين، ويخضع لمناقشات في مبرّرات إضافته.
إلى غير ذلك من الوجوه والأدلّة. إنّ عدم وجود أيّ نصوص مباشرة هنا تقريباً تفيد شرط العدالة في المفتي، ألجأ الفقهاء إلى مقاربات تحليليّة، لكنّها لا تبدو مقنعةً عندما نفكّك الأمور ونحلّلها بطريقة مختلفة.
ولا بأس هنا أن نتحدّث عن شرط آخر، وهو شرط "أن لا يكون مُقبلاً مُكبّاً على الدنيا»، فقد ذكر بعضُ الفقهاء المتأخّرين، وغالباً بتأثيرٍ مما أفاده السيد كاظم اليزدي في العروة، أنّ من شروط المفتي ومرجع التقليد أن لا يكون مُقبلاً على الدنيا طالباً لها مُكبّاً عليها ومجدّاً في تحصيلها. ووفقاً لظاهر تعابيرهم وبياناتهم لشروط المرجع فإنّ هذا الشرط يُفترض أن يكون شيئاً إضافيّاً على شرط العدالة الذي أخذوه أيضاً في المفتي ومرجع التقليد. وقد احتاط بعض الفقهاء وجوباً في أخذ الشرط، مثل السيد الخميني، والشيخ فاضل اللنكراني، والشيخ جوادي الآملي، وغيرهم، فيما اعتبره الشيخ بيات الزنجاني هو الأقوى، ورأى الشيخ يوسف الصانعي في بعضه كتبه أنّه لا يخلو عن وجهٍ وجيه، وإن كان في كتب أخرى قد احتاطَ وجوباً. وحاول السيد موسى الشبيري الزنجاني وضع هذا الشرط تحت شرط الموثوقيّة، ويعني عنده أن يكون اشتباهه وخطؤه ليس أكثر من الحالة المتعارفة، فإذا كان مكبّاً على الدنيا فإنّ تحصيل الموثوقيّة هذه يصبح مُشكلاً؛ إذ الهوى ومصالح الدنيا توجب كثرة الاشتباهات بحدّ فوق المتعارف.
وخالف في هذا الشرط كثيرون، فإمّا لم يذكروه أصلاً في شروط المرجع، أو صرّحوا بنفي اشتراطه، ومن المصرّحين بالنفي: السيد حسين البروجردي، والسيّد أبو القاسم الخوئي، والسيد أبو الحسن الإصفهاني، والسيد محمّد الفيروزآبادي، والسيد محمد رضا الگلپايگاني، والسيد عبد الهادي الشيرازي، والسيد محسن الحكيم، والسيد رضا الصدر، والشيخ محمّد إسحاق الفياض، والسيد محمّد سعيد الحكيم، والسيد محمد صادق الروحاني، والشيخ أبو طالب تجليل التبريزي، وغيرهم.
والأقوى عدم وجود شرط من هذا النوع زائداً على شرط العدالة، الذي هو ـ كما تقدّم ـ ليس بعنوانه شرطاً، وأمّا استدلالهم العمدة هنا، فهو رواية الشيخ الطبرسي في الاحتجاج: «.. فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه (لهواه)، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه..»، وهو استدلال غير مقنع؛ إذ مضافاً لضعف سند هذه الرواية جدّاً، على ما أقرّ بذلك كثيرون، فإنّ دلالتها محلّ إشكال، ولا أقلّ من حيث إنّ سياقها اللاحق يكشف أنّه ليس المراد من هذه التوصيفات أكثر من العدالة؛ لأنّها وضعت المقابلة بين هذه الصفات وبين ما عبّرت عنه لاحقاً بـ «الفسقة». وأمّا استدلال أمثال السيد الزنجاني فهو غير مقنع؛ إذ الانكباب على الدنيا ما دام لا يخلّ بشرط العدالة لا يوجب كثرة الوقوع في الاشتباهات، بل لعلّ هجر الدنيا أحياناً يوجب وقوع الذي ينزع هذه النزعة في اشتباهات أيضاً، فقد يميل ـ من حيث لا يشعر ـ لتحريم ما أحلّ الله نتيجة نزعته الزهديّة والتقويّة، فافتراض تلازم عادي بين الانكباب على الدنيا وكثرة الأخطاء، غيرُ واضحٍ، بل يحتاج لدليل.
([17]) تعرّض الفقه الإسلامي لمسألة تولّي ابن الزنا للمسؤوليّات والمناصب، مثل المرجعيّة والإفتاء وولاية الأمر والقضاء ومختلف المناصب السياسيّة والإداريّة والقضائيّة والاجتماعيّة. وكان توجّه الفقهاء ـ وبخاصّة المتأخّرين منهم ـ لمنع ابن الزنا من مناصب المرجعيّة والإفتاء وولاية الأمر. وفي القضاء كان الأمر كذلك إماميّاً، لكنّ فقهاء أهل السنّة اشتهر بينهم عدم منع ابن الزنا من تولّي منصب القضاء، غير أنّ المالكيّة كانت لدى بعض فقهائهم بعض الآراء، فذهب بعضهم إلى أنّه تجوز توليته غير أنّه لا يحكم في الزنا، وهذا قول سحنون. وقال أبو الوليد الباجي بأنّه لا يولّى مطلقاً. هذا، وقد حكم الكثير من الشافعيّة باستحباب كون القاضي معروف النسب. والمعروف أنّه لا توجد أيّ آية أو رواية مباشرة، ولو ضعيفة الإسناد، في هذه الآراء كلّها، غير أنّ الفقهاء طبّقوا بعض المعايير العامّة وبعض المقاربات الكليّة والوجوه الاعتباريّة ليصلوا إلى هذه النتيجة التي وصلوا إليها. بل لقد اضطرّ الفقهاء هنا للتعرّض لتولية الإمام علي بن أبي طالب لزياد بن أبيه على بعض بلاد فارس، والمعروف أنّه ولد غير شرعي، وكانت لهم تخريجات متعدّدة في هذا الأمر. هذا وقد بنى الشيخ محمّد تقي بهجت والسيّد محمّد سعيد الحكيم اشتراط طهارة المولد في مرجع التقليد على الاحتياط الوجوبي.
والأقوى أنّه لم يقم دليلٌ معتبر على اشتراط طهارة المولد، لا في منصب المرجعيّة والإفتاء، ولا منصب ولاية الأمر، فضلاً عن سائر المناصب السياسيّة والاقتصادية والعسكريّة والأمنيّة والاجتماعيّة الأخرى. بل لم يقم دليلٌ معتبر أيضاً على عدم صلاحية ولد الزنا لتولّي منصب القضاء، بلا فرق بين قاضي التحكيم والقاضي المنصوب، شرط أن يحوز على سائر الشروط المعتبرة في القاضي والمفتي ووليّ الأمر ونحو ذلك، وبهذا يظهر أيضاً أنّ سائر الوظائف في مجال العمل القضائي العام أو الخاصّ لا مانع من تولّيه إيّاها، بما في ذلك منصب قاضي القضاة أو رئيس الجهاز القضائيّ، والتفصيل بحثناه في محلّه، فراجع.
([18]) يذكر بعض الفقهاء المتأخّرين شرطاً في المفتي ومرجع التقليد، وهو أن لا يقلّ ضبطه عن المتعارف بمعنى أن لا يكون كثير النسيان في مجال الأحكام الشرعيّة، بل احتاط بعضهم في غير مجال الأحكام أيضاً. وبعضهم عبّر بجواز تقليد من تجتمع فيه صفاتٌ يكون الضبط واحداً منها. ويظهر من بعض الفقهاء التحفّظ والاستشكال وعدم الاقتناع بهذا الشرط، منهم: السيّد رضا الصدر، والسيّد تقي القمي، والشيخ الوحيد الخراساني. وكثيرٌ من الفقهاء لم يذكروا هذا الشرط في المرجع ولم يتعرّضوا له أصلاً عند ذكرهم الشروط. ولعلّ من أبرز من فتح الحديث مؤخّراً حول هذا الشرط الشيخُ الإصفهاني صاحب الفصول (1261هـ)، ثم كان ذكرُ أمثال السيّد الماتن لهذا الشرط في رسائلهم العمليّة موجباً لإحيائه في الفترة الأخيرة. وقد ذكر المستدلّون هنا أدلّةً متعدّدة، من نوع قصور أدلّة التقليد أو انصرافها عن الذي يقلّ ضبطه عن المتعارف، وكذلك قياس الضبط في المفتي على الضبط في الراوي تارةً وفي القاضي تارةً أخرى، وأيضاً سلب الاطمئنان عن قوله وغير ذلك.
والأقوى عدم وجود موضوعيّة وخصوصيّة في هذا الشرط أصلاً حتى يضيفوه على شروط المرجع؛ وذلك:
أ ـ إذا كان نسيان الفقيه موجباً لعدم كونه مجتهداً اجتهاداً فعليّاً قائماً؛ لفقده ما يلزم في تحقيق الاجتهاد الفعلي في هذه المسألة وتلك، وعدم تمكّنه من تحقيق الخطوات الكاملة للعمليّة الاجتهاديّة، فإنّ شرط الاجتهاد كافٍ بلا حاجة لإضافة شرطٍ جديد؛ لأنّ شرط الاجتهاد في المرجع ليس مجرّد الطاقة الافتراضيّة الكامنة في ذهنه، بل هي إمكانات القيام بعمليّة اجتهاديّة عينيّة مكتملة، بحيث لو طُلبَ منه إنجازها لأنجزها بشكل تامّ.
ب ـ وأمّا إذا كان النسيان موجباً لفقدنا نحن الوثوق بفتاويه بحيث لم يعد لدينا سكون نفس إلى خبرويّته أو استخدامه تقنيات العمليّة الاجتهادية أو تبيانه نتائج اجتهاده بطريقة صحيحة ونحو ذلك، فهذا راجع ـ على التحقيق ـ لأصل مفهوم التقليد وحجيّة الفتوى؛ لأنّ التقليد هو رجوع الجاهل للعالم رجوعاً يختزن وثوق الجاهل بما يعطيه إيّاه العالم بحيث تسكن نفسه إليه ولا يكون لديه ريب ممّا يعطيه إيّاه، رغم إقرار الجاهل بتخصّص العالم وعدم تخصّصه هو، وهذا ما يُسمّى بشرط الوثوق في حجيّة قول أهل الخبرة.
ج ـ وأمّا إذا لم يكن النسيان موجباً لفقد الفقيه شروط العمليّة الاجتهاديّة، ولا موجباً لفقدنا الوثوق به وبقوله، فلا دليل يُقنعنا بهذا الشرط، فلا حاجة لإضافة شرطٍ جديد في المفتي باسم شرط الضبط.
([19]) يرى الكثير من الفقهاء أنّ من شروط المرجع المقلَّد أن يكون حيّاً فلا يمكن تقليد الأموات ابتداءً، أمّا بقاءً فقد قبلوا التقليد البقائي مبدئيّاً، مع مخالفة بعضٍ من أمثال الشيخ بشير النجفي حتى للتقليد البقائي، وقد صنّف رسالةً في هذا الصدد منشورة. وكانت لمتأخّري العلماء بعضُ التفاصيل في مسألة التقليد البقائي، من نوع البقاء في تقليده فيما يذكره المكلّف من مسائله، أو فيما عمل به، أو فيما تعلّمه، وكذلك تفصيلات تتعلّق بوجوب البقاء أو بجوازه، وتفصيلات تتعلّق بكون البقاء على تقليد الميت يلزم أن يكون بفتوى الحيّ، وغير ذلك. غير أنّ بعض الفقهاء ناقش في هذا الشرط وانتقده، ومن أبرزهم: الميرزا القمي، والسيد رضا الصدر (1994م)، والشيخ محمّد الصادقي الطهراني، والشيخ محمّد مهدي شمس الدين، والسيد محمد جواد الغروي الإصفهاني، والشيخ محمّد إبراهيم الجناتي، وغيرهم. بل نقدُ هذا الشرط هو المنسوب أيضاً لجماعة من العلماء ـ على الأقلّ لو كان الميّت هو الأعلم ـ مثل: شريف العلماء المازندراني (1245هـ)، والقزويني الحائري صاحب الضوابط (1264هـ)، والميرزا عبد الوهاب القزويني (1270هـ)، والشيخ محمد بن علي الخليلي (1280هـ)، والشيخ محمد حسين بن الشيخ هاشم العاملي الكاظمي (1308هـ)، والسيد محمّد باقر الموسوي الخوانساري (1313هـ)، وشيخ الشريعة الإصفهاني (1339هـ)، والشيخ محمّد الخالصي (1343هـ)، والسيد عبد العلي الخوانساري النجفي (1343هـ)، والميرزا علي أكبر الأردبيلي (1345هـ)، والشيخ محمّد حسين الفشاركي الإصفهاني (1353هـ)، والسيّد محمّد مهدي الإصفهاني الكاظمي (1395هـ)، والشيخ محمد طاهر آل شبير الخاقاني (1406هـ)، والشيخ محمّد المؤمن القمي وغيرهم ممّن نُسب إليه المناقشة في هذا الشرط وعدم الاقتناع به. وقد ذهب الشيخ محمّد إسحاق الفياض والسيد كمال الحيدري إلى جواز تقليد الميت ابتداءً إذا كان أعلم من المجتهدين الأحياء، ولعلّه يظهر من بعض استفتاءات السيد محمّد سعيد الحكيم، بل هو المنقول شفاهاً عن السيد محمّد باقر الصدر نفسه، وذلك من قِبَل بعض تلامذته، غير أنّه لا يوجد له نصّ صريح في هذا. فيما جعل شرط الحياة في المرجع مبنيّاً على الاحتياط بعضٌ آخر، مثل: السيد محمّد حسين فضل الله، والشيخ ناصر مكارم الشيرازي، والسيد علي الخامنئي، والشيخ عبد الهادي الفضلي وغيرهم. أمّا السيد موسى الشبيري الزنجاني فبعد قبوله بالتقليد البقائي، اعتبر أنّه إذا كان الإنسان مميّزاً حال حياة المرجع، ثم توفّي المرجع جاز له تقليده ولو لم يكن قد قلّده من قبل، وأمّا في غير هذه الحال فإنّ الاحتياط الوجوبي هو عدم التقليد، ممّا يفهم منه أنّ المنع عن تقليد الميت ابتداء احتياطيٌّ عنده. وهناك من يعتبر أنّ أوّل من فتح باب المنع عن تقليد الميت ابتداء بين الشيعة، هو العلامة الحلي (726هـ)، متأثراً بمقولات الفخر الرازي (606هـ)، خاصّة وأنّه من النادر العثور على آية أو رواية في هذا الموضوع بشكل مباشر، وربما لهذا نجد بعض الإخباريّين في القرن الحادي عشر الهجري يعبّر عن فكرة المنع عن تقليد الميت ابتداء بأنّها منتسبة لمتأخّري الشيعة، مما يوحي وكأنّهم لم يقتنعوا بوجودها في العصور الأولى، والمعروف أنّ الإخباريّين لا يؤمنون ـ أيضاً ـ بفكرة شرط الحياة.
والأقرب ـ بعد الاقتناع بأنّه قد حصلت مبالغة في تعقيد هذه المسألة وتفريعها ـ هو عدم ثبوت شرط الحياة مطلقاً في المرجع والمفتي، بل العبرة بأمرين لهما تداخل مع حياة المفتي وموته:
1 ـ كون هذا الفقيه اليومَ ـ وبالنسبة لي بوصفي مقلِّداً ـ حائزاً على سائر شروط المرجع المقلَّد، فمثلاً لو قلنا باشتراط الأعلميّة في التقليد، لزم إثبات أنّ الميت أعلم، وهي عمليّة تترك تطوّراتُ العلوم الشرعيّة تأثيراتٍ عليها، فمن كان هو الأعلم في زمانٍ قديم سيكون عادةً غير أعلم اليوم لو بعث على ما لديه من علم. وهكذا شرط الاجتهاد، فإنّه لو بُعث ذلك المجتهد الذي مات قبل ألف عام فهل سيكون الآن ـ بما يملك من عدّة معرفيّة تنتمي لذلك الزمان ـ مجتهداً أو لا؟
2 ـ حصول الوثوق والسكينة إلى قوله من طرف المكلّف، وهو الشرط الأساس في حجيّة قول أهل الخبرة وقانون رجوع الجاهل إلى العالم، فإذا كان مضيُّ زمانٍ على موته في ظلّ تطوّرات العلوم الشرعيّة، موجباً لعدم حصول الوثوق بصوابيّة قوله إذا خالف قولُه قولَ الأحياء اليوم، فإنّ روح قاعدة رجوع الجاهل إلى العالم سوف تنعدم هنا. هذه هي الفكرة، ومن ثمّ فليس الموضوع موضوع شرط الحياة، بل موضوع تحقّق الشروط المعرفيّة في ظرف الممات، وهو أمرٌ يتوفّر أحياناً كثيرة في الميّت، لكنّه لا يتوفّر في بعض الأحيان. ويترك طول المدّة الزمنيّة بيننا وبين عصر الميّت، وكذلك طبيعة التطوّرات المعرفيّة تأثيرات كبيرة هنا. ولو فكّكنا الارتكازات العقلائيّة جيّداً فسنكتشف هذا الأمر.
([20]) من مجموع ما قلناه في التعليق على شروط المرجع التي ذكرها الماتن وغيرها، ظهر أنّ هذه الشروط جميعها غير مأخوذة بعنوانها في المقلَّد على مقتضى العناوين الأوّليّة، باستثناء شرطين: أ ـ الخبرويّة بمعنى الفقاهة. ب ـ الموثوقيّة والمأمونيّة، بمعنى حصول الوثوق به وباجتهاداته وبإخباراته وبسلوكه الأخلاقي حال الاجتهاد والنظر وحال الإفتاء. أمّا سائر الشروط التي ذكروها، فكلّها قابلة للنقاش، فإنّ المقلَّد أحد أفراد أهل الخبرة، فيجري عليه قانون أهل الخبرة، ولا يشترط في أهل الخبرة شرعاً وعقلائيّاً غير ما ذكرناه. أمّا شرط البلوغ، والعقل، والحريّة، والعدالة، والإسلام، والانتماء المذهبي الخاصّ، وطهارة المولد، والحياة، والأعلميّة، والذكورة، والشجاعة، وعدم قلّة الضبط عن المتعارف، وعدم الانكباب على الدنيا، والخبرويّة في التصدّي للأمور العامّة، وشرط كمال العقيدة مقابل نقصان العقيدة الذي يطرحه بعضٌ، وشرط أن لا يكون مسبوقاً بمعروفيّته بالفسق، وما شابه ذلك، فكلّه لا دليل على اشتراطه بعنوانه، بل هي شروط تراكمت عبر التاريخ، وبخاصّة نتيجة مقارباتٍ دمجت بين مقام السلطة والولاية والزعامة وتنظيم الأمور، ومقام الفتوى وأخذ العلم ونحو ذلك. فهذه الشروط كلّها إذا أثّر فَقْدُ أحدها أحياناً في تحقّق أحد الشرطين الأساسيّين المتقدّمة الإشارة إليهما، فيلزم أخذها، لا لكونها شروطاً في المفتي، بل لإخلالها الظرفي بالشرطين الأساسيّين. وينفتح هنا بابٌ جديد، وهو أنّ هذه هي شروط من يرجع إليه في التقليد، أمّا ما هي شروط الزعامة الدينيّة؟ وما هي شروط وليّ الأمر؟ وما هي شروط القاضي؟ وما هي شبكة العلاقة بين هذه كلّها؟ فهذا ينبغي أن يُبحث مجدّداً، والخلط وقع بدمج بعضٍ في بعض، وعليه فمن الممكن أن يكون من يتولّى الزعامة الدينيّة مشروطاً بشروطٍ بحيث يكون شخصاً غير الذي يرجع الناس إليه في التقليد، تماماً كما هو الحاصل لدى بعض الديانات الأخرى، وبهذا يكون مفهوم المرجعيّة بمعنى الزعامة الدينيّة غيرَ مفهوم المرجعيّة بمعنى من يؤخذ منه الحكم الشرعي الفتوائي، وقد يلتقيان في شخص. وبهذا نميّز بين المقلَّد ـ بالفتح ـ والمرجع الأعلى، فالأوّل ليس سوى مرجعيّة معرفيّة، فيما الثاني هو سلطة تنظيميّة تدير شؤون المؤمنين وقضاياهم الدينية العامّة، وينبغي التمييز بين الأمرين، والبحث في حجيّة هذه المرجعيّة المعرفيّة تارةً، وفي ولاية تلك السلطة التنظيميّة على الجماعة تارةً أخرى.
ويفتح ما قلناه على قضيّتين مهمّتين:
الأولى: إنّ المشرّع القانوني في البلدان الإسلاميّة، وكذلك القاضي ـ غير المجتهد ـ يمكنهما الغوص في تراث الفقهاء لاستخراج أفضل الآراء الفقهيّة المتناسبة ـ زمكانيّاً وظرفيّاً ـ مع تنظيم البلاد وأمور العباد، بلا حاجة لفرض عنوان ثانوي.
الثانية: إنّه لا حاجة للرجوع لمذهب أو مدرسة فقهيّة بعينها والتشبّث بها، بل يمكن للمسلم التنوّع في اختيار آراء فقهاء المدارس الفقهيّة، فالسنّي يمكنه الأخذ بفتاوى مختلف المذاهب الأربعة وغيرها، والشيعي ـ مثلاً ـ يمكنه الأخذ بفتاوى الأصوليّين والإخباريّين والانسداديّين والانفتاحيّين، وهكذا.
([21]) قد ظهر الموقف من هذه المسألة ممّا تقدّم، فيجوز العدول للحي والبقاء على الميّت مطلقاً في جميع هذه الصور وفقاً لما تقدّم من معيار.
([22]) لا يجب تقليد الأعلم بعنوانه، فضلاً عن تقليد الأعدل أو الأورع. كما أنّ مسألة تقليد الأعلم ترجع للمكلّف في تأمّله ومراجعته الذاتيّة، وليست تقليديّةً، حالها حال مسألة التقليد نفسها.
وتوضيح الكلام ـ مختصراً ـ في هذه النقطة وما يرتبط بها يستدعي الحديث عن أمور:
الأمر الأوّل: في أصل شرط الأعلميّة، فالمشهور المعروف بين الفقهاء اشتراط الأعلميّة في مرجع التقليد، فلا يجوز تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم، على الأقلّ فيما اختلفا فيه من المسائل. لكنّ بعض الفقهاء بنى المسألة على الاحتياط الوجوبي، مثل السيد كاظم اليزدي، والسيد أبو الحسن الإصفهاني، والسيد الخميني، والشيخ ضياء الدين العراقي، والشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، والسيد أحمد الخوانساري، والسيد محمّد رضا الگلپايگاني، والشيخ لطف الله الصافي، والسيد علي الخامنئي، والسيّد محمّد الشيرازي في رسالته العمليّة، والسيد صادق الشيرازي (وإن كان في بحوثه العلميّة قد اعتبر تقليد الأعلم هو الأحوط استحباباً)، وغيرهم. ويميّز بعض الفقهاء هنا بين أعلميّة الفرد وأعلميّة الطبقة، فيرون ثبوت شرط الأعلمية في الطبقة دون الفرد، ومن هؤلاء: السيّد كاظم الحائري، والسيد محمود الهاشمي، والشيخ محمّد تقي الفقيه على ما سمعتُه منه مباشرةً. والمراد بالطبقة أنّ الفاصل بين مجتهدٍ وآخر فاصلٌ كبير جداً في المستوى العلمي، أمّا لو كان الفاصل بسيطاً أو غير كبير، كما هي الحال في تفاوت المستويات بين علماء الطبقة الأولى في العلم، فهنا يجوز تقليد أيّ واحدٍ منهم. وقد رفض العديد من الفقهاء شرط الأعلميّة في التقليد، ومنهم: المحقّق النراقي (1245هـ)، وصاحب الفصول (1250هـ)، والشيخ محمّد رضا آل ياسين (1370هـ)، والسيّد رضا الصدر، والشيخ محمّد إبراهيم الجنّاتي، والشيخ رضا المدني الكاشاني (1993م)، والسيد محمّد حسين فضل الله، والشيخ عبد الهادي الفضلي، والسيّد محمّد الموسوي الغروي الإصفهاني، والسيّد محمّد تقي المدرّسي وغيرهم. ونُسب هذا الرأي لجماعة كثيرين في بحوثهم العلميّة، منهم: الشيخ النجفي صاحب الجواهر، والميرزا القمي، والشيخ الكني، والمحقق سلطان العلماء، والسيّد محمّد الحسيني الشيرازي، وابن البرّاج الطرابلسي، والسيد محمود الطالقاني، والسيد علي نقي الحيدري، والسيّد إسماعيل الصدر، والسيّد المرعشي النجفي، والشيخ محمّد جواد فاضل اللنكراني، والشيخ محمّد أمين زين الدين، والشيخ محمّد مهدي شمس الدين وغيرهم. وفصّل في القضية دون إطلاق وجوب تقليد الأعلم السيدُ عبد الهادي الشيرازي (1382هـ). وفيما يرى بعضٌ أنّ شرط الأعلمية في الإفتاء كان موجوداً عند علماء الشيعة منذ بدايات القرن الرابع الهجري، يؤكّد فريق آخر من الباحثين أنّ الفكرة ظهرت تباشيرها مع المحقّق الحلّي (676هـ) وأعلنت بعبارة واضحة مع العلامة الحلّي (726هـ)، وأنّ عبارات السيد المرتضى مرتبطة بموضوع الإمامة العظمى وأنّه وقع التباس عند كثيرين في ذلك فظنّوا أنّها مرتبطة بالمفتي والقاضي. وكان الشيخ محمّد مهدي شمس الدين يعتقد بأنّ نظريّة تقليد الأعلم انتقلت لفقهاء الشيعة من شروط الإمام في علم الكلام، وهو تحليلٌ قابلٌ للنقاش في تقديري. غير أنّ مسألة تقليد الأعلم كانت موجودة قبل المحقّق الحلّي عند أهل السنّة، وترجع للقرن الرابع الهجري، والمعروف أيضاً انقسام الموقف عندهم بين قائلٍ بوجوب تقليد الأعلم وقائل بعدم الوجوب. وتُبحث هذه المسألة عند فقهاء المسلمين أحياناً كثيرة بعنوان تقليد الأفضل أو الفاضل أو المفضول، ويدرسونها في علم الأصول تارةً وفي مباحث القضاء تارةً أخرى، وغير ذلك.
والأقرب أنّه لا يشترط في المفتي ومرجع التقليد شرطٌ مستقلّ إضافي اسمه: الأعلميّة، مهما فسّرناها، وأنّها أعلميّة الطبقة أو الفرد، أو أنّها الأقربيّة للواقع أو الأقدريّة أو الأجوديّة أو الأقدريّة الموجبة لرفع احتماليّة إصابة الواقع أو الأقربيّة إلى الحجّة أو غير ذلك. بل روح الفكرة تكمن في حصول الوثوق بقول غير الأعلم مع مخالفة الأعلم له، فإذا لم يفتقد المكلّف الوثوق بقول غير الأعلم رغم معارضة الأعلم له، وهو كثير جداً في حياة العقلاء، فلا دليل عند العقلاء على تعيين الرجوع للأعلم، فبتحليل هويّة البناءات العقلائية في الرجوع لأهل الخبرة، نجد أنّ العقلاء يرجعون لأهل الخبرة على قانون الوثوق وسكون النفس إليهم وإلى علمهم، فإذا فرضنا اختلاف الأعلم مع غيره فهنا إذا فقد الإنسان الوثوق بقول غير الأعلم نتيجة معارضة قول الأعلم له، لم يعد قول غير الأعلم حجّة، ليس لأجل الأعلميّة بوصفها شرطاً بل لفقدان روح قانون رجوع الجاهل للعالم، ولهذا لو فرضنا أنّ عشرة من كبار الفقهاء أفتوا بشيء فيما تفرّد الأعلم في زمانٍ معيّن على العكس منه وكان مشهور الفقهاء السابقين على خلاف رأي الأعلم وكان رأي الأعلم على خلاف الاحتياط أيضاً، ففي مثل هذه الحال كثيراً ما يحصل سكينة لقول الآخرين من قبل غير المتخصّص ولا يحصل وثوق واطمئنان نفسٍ لقول الأعلم، خاصّة لو كان الأعلم كثير التغيير لآرائه والعدول عنها مثلاً، فالقضية متحرّكة جدّاً وليس لها ضابط موضوعي واحد على طول الخطّ ولو نوعاً حتى يتمّ إلزام المكلّفين به. وعند الاضطراب وسقوط الوثوق بقول الجميع نتيجة التعارض، لو حصل، فإنّ العقلاء لا يعيّنون دائماً الرجوع إلى الأعلم وهناك شواهد على ذلك. ولعلّ الفقهاء لاحظوا بعض حالات ترجيح العقلاء قول الأعلم على غيره فظنّوا أنّ العقلاء لديهم شرطٌ مستقلّ إضافيّ عام، اسمه الأعلميّة، والحال أنّه لا يوجد شرط من هذا النوع، بل القضية تتبع حجم الثقة، وسكون النفس، ونوع الغاية، وطبيعة القضيّة من حيث كونها من شؤون ما يحتاط فيه إلزاماً أو لا، إلى غير ذلك. وقياس القضايا الطبيّة على غيرها أو العكس، فيه مجال واسع للتأمّل والنقاش.
واللافت أنّ الفقهاء تنوّعوا هنا في كيفيّة دراسة هذا الموضوع، ففيما نجد أنّ أغلب الذين مالوا لتقليد الأعلم نهجوا منهجاً تقعيديّاً ذا نسق فلسفي أصولي في معالجة الموضوع، نرى أنّ فريقاً آخر من الفقهاء اعتمد المنهج التاريخي أكثر، وممّا أنتجه المنهج التاريخي عند هؤلاء قولهم ـ على سبيل المثال ـ: إنّ فكرة الأعلمية لو كانت من شروط التقليد وهي تحظى بهذه الأهميّة العالية في مستقبل المسلمين أو الشيعة فلماذا لا نجد أيّ اهتمام من قبل الأئمّة بتوضيح هذه الفكرة وأمثالها فيمن يرجع الشيعة إليهم بعد انتهاء عصر النصّ؟ كما تابع أنصار هذا المنهج المشهد الإسلامي العام الذي كان بمرأى الأئمّة ومسمعهم، وتساءلوا: لماذا لم يعلّق أهل البيت عليه؟ ففكرة بهذه الأهميّة ولها دور مستقبلي في صياغة نمط المجتمع الشيعي من خلال مفهوم المركزيّة والاستقطاب، كيف لم تظهر لها آثار جليّة خلال قرابة ثلاثة قرون من عصر النصّ، عدا بعض قليل جدّاً من الروايات التي ناقشوا في دلالتها أصلاً، فضلاً عن ضعف أغلبها سنداً؟ بل لماذا لم يظهر في ثنايا كلمات أهل البيت ما يشير لضرورة الرجوع لأعلم الفقهاء بعدهم على تقدير عدم إمكان الوصول إليهم في حياتهم؟! ودعوى أنّه لا يعلم الاختلاف بين فقهاء ذلك الزمان دعوى تفتقد المعقولية التاريخيّة، إلى غير ذلك من أنماط المقاربة التاريخيّة، فليُراجع. بل لا يقف الأمر عند حدود لماذا لم يوجّه أهل البيت توجيهاتهم للناس، بل لماذا لم نجد أسئلة حول مَن هو الأعلم؟ لا في عصر النص ولا في العصور اللاحقة القريبة عليه، على خلاف ما نجده في العصور اللاحقة، ولا نجد نقاشات حول الأعلم ولا غير ذلك من هذه المفاهيم بين المتشرّعة وحتى بين بعض النخب، فلو كان الأمر عقليّاً أو عقلائيّاً فلماذا لم نجد انعكاسات لحضوره وما يتوقّع من انقسامات في الرأي فيه، وهذا كلّه يرشدنا إلى أنّ ثقافة وفكرة الأعلميّة لم يكن لها ـ صغرويّاً وكبرويّاً ـ وجود في عصر النصّ ولا بُعَيده.
هذا، وهناك تفاصيل كثيرة جدّاً في أدلّة الأطراف المختلفة هنا، لا مجال لعرضها وتحليلها والنقاش فيها في هذا المختصر.
الأمر الثاني: في عدم كون مسألة "تقليد الأعلم" تقليديّةً، فالمتداول بين المتأخّرين من الفقهاء أنّه يجب على (العامي) أن يقلّد الأعلم في نفس مسألة وجوب تقليد الأعلم أو عدم وجوبه، ولا يجوز أن يقلّد غير الأعلم إذا أفتى بعدم وجوب تقليد الأعلم. ولو أفتى الأعلم بعدم وجوب تقليد الأعلم، فقد أجاز جمعٌ تقليد غير الأعلم بناء على فتوى الأعلم هذه، خلافاً لما ذهب إليه السيد كاظم اليزدي وغيره، حيث أفتوا بوجوب تقليد الأعلم حتى لو أفتى الأعلم بجواز تقليد غير الأعلم، ومن هؤلاء الذين أجازوا تقليد غير الأعلم لو أفتى الأعلم بذلك: السيد حسين البروجردي، والسيد الخميني، والسيد أبو الحسن الإصفهاني، والسيد علي السيستاني، والشيخ فاضل اللنكراني، والسيد عبد الهادي الشيرازي، والسيد أحمد الخوانساري، والشيخ ضياء الدين العراقي، والشيخ عبد الكريم الحائري، والسيد محسن الحكيم، والسيد الخوئي، والسيد الگلپايگاني وغيرهم. وخالف في أصل الموضوع بعضٌ، مثل السيّد محمّد الفيروزآبادي (1345هـ)، في تعليقته على العروة، واعتبر أنّ مسألة تقليد الأعلم ليست تقليديّةً، بل على العامي هو أن يقرّر بحكم عقله ما الذي يجب عليه فعله وما يحكم به عقله الموضوعي، ويظهر هذا ايضاً من الشيخ علي پناه الاشتهاردي في مدارك العروة، وكذلك أفتى السيد محمّد حسين فضل الله صريحاً بعدم وجوب تقليد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم.
والأقرب أنّ الفقيه القائل بوجوب تقليد الأعلم ربما من الطبيعي أن يقول بأنّ على العامي تقليد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم والعكس هو الصحيح، إذ هذا ما رآه عقله وأوصله إليه تفكيره. لكنّ المسألة تكمن في أنّ العامي في مقامه وحالته قبل أن يشرع في التقليد، ما هو الملزم له ـ فيما بينه وبين الله ـ أن يقلّد الأعلم في مسألة وجوب تقليد الأعلم إذا لم يقتنع بفكرة تقليد الأعلم بعقله؟! كلّ ما فعله الفقهاء هنا أنّهم وضعوا أنفسهم مكان العامي ثم فكّروا عنه وافترضوا أنّ عقله الموضوعي يوصله إلى هذا، وكأنّه إذا فعل غير ذلك فقد عاند عقله! فليس شيءٌ يلزم العامي ما لم يقتنع هو ـ قبل بدء التقليد ـ بوجوب تقليد الأعلم، ومن ثمَّ فالعلاقة بين الفقيه والعامي هنا هي علاقة إقناعيّة، وليست علاقة تقليديّة، تماماً كما هي العلاقة بين الفقيه والعامي في أصل وجوب التقليد، خاصّة وأنّ الدليل العمدة على وجوب تقليد الأعلم عندهم يرجع تارةً لحكم العقل وأخرى لبناء العقلاء. فالصحيح عدم كون مسألة وجوب تقليد الأعلم تقليديّة بهذا المعنى، فلو اشتبه فيها العامي بلا تقصير منه فهو معذور، كيف وقد قال علماء كبار بعدم وجوب تقليد الأعلم. فعلينا إذا أردنا إلزام العامي بتقليد الأعلم أن نُقنعه بذلك، وليس من أدوات الإقناع فتوى الأعلم نفسها أو فتوى المشهور، ما لم يوجب ذلك في نفس العامي الحَيرة وإجراء دوران الأمر عنده هو بين التعيين والتخيير وأمثال ذلك.
الأمر الثالث: حكم التبعيض في التقليد وأنواعه، إذا قلنا بعدم وجوب تقليد الأعلم، كما هو الصحيح، أو كان المجتهدان متساويين في العلم، جاز التبعيض بين الفقيهين أو الفقهاء، وهذا ما يفتي به جملةٌ من الفقهاء بناء على هاتين الحالتين. لكنّ بعض الفقهاء كانت لديه تفصيلات، وأبرز تفصيل هنا هو رفض التبعيض في الفعل الواحد ذي الأجزاء المترابطة، حيث قالوا بأنّه يجوز التبعيض في الأبواب، مثل أن يقلّد الأوّل في العبادات والثاني في المعاملات، أو يقلّد الأوّل في الصلاة، والثاني في الصوم، أمّا أن يقلّد الأوّل في فعلٍ صلاتي والثاني في فعلٍ صلاتيٍّ آخر، مع العلم بالمخالفة بينهما في الرأي، فهذا غير جائز. ومثاله الذي ذكروه أن يقلّد الأوّلَ في كفاية التسبيحات الأربع مرّة واحدة في الركعتين الأخيرتين، فيما يقلّد الثاني في كفاية بعض السورة في القراءة في الركعتين الأولى والثانية، ففي مثل هذه الحال لا يصحّ التبعيض. وقد علّلوا ذلك بأنّ كلا الفقيهين يعتبر الصلاة غير صحيحة هنا: الأوّل لاعتقاده بلزوم السورة، والمفروض أنّ المكلّف أتى ببعض السورة، والثاني لاعتقاده بلزوم التسبيحات الثلاث، والمفروض أنّ المكلّف أتى بتسبيحة واحدة، فليس بيد المكلّف ما يصحّح له صلاته هذه من حجّةٍ معتبرة؛ إذ لا يوجد بين الفقيهين من يصحّحها، والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وبهذا جرى التبعيض في نظريّة التبعيض نفسها، فصارت تجري في موضعٍ دون آخر. ومن هؤلاء الفقهاء ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ الذين وافقوا على هذا التفصيل جملةٌ من المعلّقين على العروة، وكذلك السيد الخوئي، والشيخ حسين علي المنتظري، وغيرهم، حيث رفضوا قول صاحب العروة بجواز التبعيض حتى في العمل الواحد.
والأقوى صحّة التبعيض مطلقاً إلا في حالة واحدة، وهي أن يرى الفقيهان (أو يعلم الفرد نفسه) أنّ هذا المكلّف قد وقع في المخالفة القطعيّة ولو كان وقوعه عن جهلٍ، بحيث لا تصحّ صلاته ولو في هذه الحال، كما لو ترك صلاة الظهر يوم الجمعة بفتوى من لا يرى وجوب الظهر، وترك صلاة الجمعة بفتوى من يرى عدم وجوب الجمعة، فبقي بلا صلاة في ظهر يوم الجمعة، فهنا لا يصحّ هذا التقليد. والسبب هو العلم القطعي بمخالفة الواقع، أو إفتاء كلا الفقيهين بعدم الكفاية ولو صدر ذلك عن جهل من المكلّف، فيلزمه القضاء بفتواهما معاً هنا. وهذا بخلاف الأجزاء المترابطة للفعل الواحد فهي وإن صدق في بعض حالاتها ما أسلفناه في صلاة الظهر والجمعة يوم الجمعة، كما لو أفتى الأوّل بعدم وجوب الركوع مع اعتقاد الثاني ببطلان الصلاة بلا ركوع ولو عن جهل أو عن حجّة، فيما أفتى الثاني بعدم وجوب السجود مع اعتقاد الأوّل ببطلان الصلاة مطلقاً بلا سجود.. لكنّ الأمر لا يجري بوصفه قاعدة في مطلق حالات الأجزاء المترابطة في الفعل الواحد، كالمثال الذي أسلفناه أعلاه (السورة والتسبيحات)؛ فإنّ الفقيه الأوّل يرى بطلان الصلاة ببعض السورة على تقدير عدم العذر أو الحجّة للمكلّف في مخالفة ذلك، لا مطلقاً، والثاني يرى الأمر عينه في عدم تكرار التسبيحات ثلاث مرّات، على تقدير عدم وجود العذر أو الحجّة للمكلّف، فلا يرى الفقيهان البطلان هنا حتى مع الجهل رغم وجود حجّة، وفي مثله يمكن القول بالإجزاء. نعم لو أفتيا معاً ببطلان الصلاة بترك السورة وترك التسبيحات الثلاث حتى لو تحقّق الترك عن جهل أو حجّة، فهنا لا يصحّ التبعيض المذكور.
والخلاصة: إنّ التبعيض جائز بمختلف أنواعه إلا في حالة واحدة، وهي أن لا يكون ما فعله المكلّف أو أقدم عليه، مما يَعْلَم هو قطعاً أو يفتي الفقيهان ببطلانه وعدم كفايته ولو صدر من المكلف عن جهل أو مع وجود حجّة. وهذه النتيجة لا فرق فيها بين الأجزاء المترابطة للفعل الواحد أو الأفعال المتعدّدة، فالقضيّة ليست مرتبطةً بارتباطيّة الأفعال، بل بخصوصيّة البطلان ولو على تقدير الجهل ووجود الحجّة.
الأمر الرابع: شرط الكفاءة في التصدّي للأمور العامّة، فقد اهتمّ الفقهاء الشيعة والسنّة، وقبلهم الأصوليّون، بدراسة شروط المفتي والمقلَّد، ونوع وشكل العلاقة بينه وبين المستفتي والمقلِّد، حيث شغلهم هذا الموضوع عبر التاريخ، واشتملت الكتب الأصوليّة على ما يُعرف بباب المفتي والمستفتي، قبل أن ينتقل هذا الموضوع للمدوّنات الفقهيّة، وبخاصّة في العصر الحديث عند الشيعة الإماميّة، بل صُنّفت كتبٌ مستقلّة تحت هذا العنوان، من بينها ـ على سبيل المثال ـ كتاب "صفة المفتي والمستفتي" للقاضي نجم الدين أحمد بن حمدان الحنبلي (695هـ). وفي العصر الحديث، وعقب تنامي نشاط الفقهاء في الحياة السياسيّة والعامّة منذ نهايات القرن التاسع عشر وإلى اليوم، أخذت بعض الشروط تضاف أكثر فأكثر، سواء في المقاربات الفكريّة أم التحليلات الفقهيّة، أم حتى في بعض الكتب الفتوائيّة والرسائل العمليّة. وواحد من هذه الشروط التي ذكرها بعضٌ ـ مثل السيّد محمود الهاشمي ـ هو امتلاك المرجع لكفاءة التصدّي للأمور العامّة، فمن دونها لا يجوز تقليده.
ولكن الأقرب أنّه ليس هناك دليلٌ مقنع على شرطٍ من هذا القبيل (شرط الكفاءة في التصدّي للأمور العامّة)، في المفتي ومرجع التقليد، وكذلك مثل شرط الشجاعة وأمثاله ـ بعيداً عن شرط العدالة ـ مما كثر تداوله في أدبيّات الإسلام الحركي في القرن العشرين، فلم يرد هذا الأمر في كتابٍ أو سنّة أو قاعدة. بل الظاهر أنّه وقع خلطٌ هنا بين شروط المتصدّي لشؤون الولاية والسلطة، وشروط المرجع، فالمرجع بما هو مرجعٌ ومفتٍ ليس من شروط الرجوع إليه كفاءته في القضايا العامّة، بل هذا الشرط عقلانيٌّ له صلة بجانب الولاية العامّة أو الخاصّة الثابتة له. والتفكيك في الشخص بين مرجعيّته وولايته أمرٌ غاب عن كثير من المعاصرين في تقديري، فحيث وقع تلازم عمليّ بين المرجعيّة والولاية ـ ولو الولاية الخاصّة ـ تمّ تصور أنّ ما هو من شروط ولايته هو في الحقيقة من شروط مرجعيّته، وهذا خطأ. تماماً كما لو فرضنا أنّ المرجع غير خبير ولا كفاءة له في صرف الأخماس على المستحقّين، لسببٍ أو لآخر لا يضرّ لا باجتهاده ولا بعدالته، فهنا فتواه حجّة، لكن لا يجوز للمقلِّد تسليمه الخمس ما دام هو يشرط تسليم الخمس لمطلق المجتهد العارف بالمصارف بنحو المعرفة الكليّة والجزئيّة، الحكميّة والموضوعيّة، كما هي الحال في نظريّة تسليم الخمس للحاكم بمعيار إحراز رضا الإمام، رغم ما فيها من إشكالات كثيرة تجعلها غير مقنعة إطلاقاً. من هنا فإنّ تكثير شروط المرجع والمفتي نتيجة ملابسات لا ترجع لخصوصيّة إفتائه ومرجعيّته، بل لخصوصيّة ولايته القضائيّة أو الخاصّة أو العامّة، هو أمرٌ غير دقيق. والقول بتلازم المرجعيّة والولاية فقهيّاً مطلقاً، فمن لا ولاية له لا مرجعيّة له، وفتواه ليست بحجّة، كما يطرحه بعض الباحثين.. أمرٌ لم يثبت. نعم، لو كانت معرفته بالقضايا العامّة ـ وليس الكفاءة بما هي مهارة، بل المعرفة ـ لها دور في صدق عنوان المجتهد عليه، بحيث لولا هذه المعرفة يُشكّ في اجتهاده وبخاصّة في القضايا المعاصرة، فهذا أمرٌ آخر، بل هو في الحقيقة بحثٌ في مكوّنات الاجتهاد وعلومه، لا في ثبوت شرطٍ إضافيّ غير الاجتهاد، فانتبه.
([23]) قد ظهر الموقف من هذه المسألة ممّا تقدّم، وأنّ جميع هذه الفروض لا حاجة إليها.
([24]) الحكم في الفرض الأوّل صحيح، أمّا في الفروض اللاحقة فهو مبنيٌّ على وجوب تقليد الأعلم، ولم يثبت كما قلنا.
([25]) المراد من هذا الشك هو الشكّ في جامعيّته للشرائط منذ أن بدأ في تقليده، لا الشكّ في بقاء جامعيّته لها، مما سيأتي الحديث عنه في مسألةٍ مستقلّة لاحقة.
([26]) الحكم بلزوم الإعادة هنا فيما إذا كان الخلل موجباً للبطلان مع الجهل مبنيٌّ على الاحتياط الاستحبابي، وإلا فإذا اعتمد في عمله السابق على فتوى فقيهٍ رجع إليه بحجّة شرعيّة أجزأه بلا فرق بين العبادات وغيرها، وإلا ـ بحيث لم يكن رجوعه للأوّل عن حجّة شرعيّة مبرأة للذمّة ـ عمل بمقتضى فتوى الفقيه الآخر الذي رجع إليه رجوعاً صحيحاً، فإن كان يحكم بالبطلان حتى مع الجهل أعاد وإلا فلا.
([27]) بل يكفي ما فعله ولا يجب الرجوع إلى الحيّ بعنوانه؛ لما قلناه من عدم وجوب تقليد الحيّ.
([28]) فيجري عليه ما تقدّم في المسألة رقم: 11.
([29]) اتضح مما تقدّم أنّه يجوز العدول في الموردَين.
([30]) العبرة بتردّده وعدم تردّده في النظر العلمي النهائيّ، لا في الفتوى بعنوانها، فليس للفتوى بما هي فتوى موضوعيّة ـ على خلاف الحكم القضائي ونحوه ـ بل المعيار هو نظره العلمي النهائي ولو لم يبيّنه في الفتاوى، وإنّما بيّنه في كُتبه الاستدلاليّة مثلاً. وسوف يأتي أنّ الرجوع في موارد الاحتياطات الوجوبيّة ليس على إطلاقه لو قلنا بوجوب تقليد الأعلم.
([31]) بل يجوز، ولا يجب الرجوع لأعلم الأحياء.
([32]) لا خصوصيّة لما تذكّره أو نسيَه، بل العبرة بفتوى من رجع إليه أخيراً.
([33]) قد اتضح الموقف مما علّقناه على المسألة رقم: 11، فراجع.
([34]) هذا الوجوب المرتبط بهذا الموضوع ـ أعني الصلاة وأمثالها ـ ليس شرعيّاً، بل هو عقلي، بمعنى أنّه وإن أمرت الشريعة بالتعلّم في الجملة، لكنّه لم يرد دليل معتبر على التعلّم المرتبط بأفعال الصلاة وأمثالها، بل الوارد هو الأمر بالصلاة، والذهن العقلائي ـ كما المعطى العقلي ـ يفهم بنحو الارتكاز اللبي المتصل أنّه لا بدّ من تعلّم الشيء عادةً، كي تقوم بتحقيقه، وإن كان يمكن فرض موارد نادرة يمكن فيها تحقيق المأمور به دون مفهوم التعلّم، كما في حال وجود شخص آخر يصلّي معك فتقوم بعين ما يقوم به، فالعبرة بتحقيق المأمور به على الوجه الشرعي.
([35]) حتى في مورد الجهل.
([36]) لا يجب، بل يمكنه الصلاة ولو من دون تعلّم، فإذا عرض له ابتلاءٌ سأل عنه، وهكذا، إلا إذا كان يغلب على ظنّه جدّاً الوقوع فيها، بحيث لا يمكنه عند الوقوع السؤال، ويحصل من ذلك بطلان أعماله القادمة مع خروج الوقت. وبعبارة أخرى: المعيار هنا هو أن يحصل له نوع وثوق بصحّة صلاته القادمة وأنّه لم يقصّر في أدائها والحفاظ عليها، فلا موضوعيّة لمسائل الشكّ والسهو، ولا حتى لباب الصلاة. هذا في مسائل الشك والسهو، أمّا أصل تعلّم كيفيّة الصلاة فهو واجب وجوباً مقدّميّاً لو توقّف أداء الصلاة الصحيحة عليه، كما تقدّم توضيح ذلك آنفاً.
([37]) تقدّم أنّه لا يُشترط في المقلَّد العدالة ولا الورع ولا ترك الانكباب على الدنيا ولا نحو ذلك، بل المشروط فيه ـ بما هو مقلَّد ـ النزاهة في البحث العلمي وفي الإخبار عن نتائج بحثه فقط.
([38]) المراد بالعلم هنا ما يشمل الاطمئنان.
([39]) إذا حصل من هذه الشهادات وثوق وطمأنينة عقلائيّة وعرفيّة، وعليه فلو تعارضت الشهادات أخذ بالموثوق به منها ـ كما لو كانت الشهادة (أ) صادرة من أشخاص هم في نوعيّتهم وعددهم مما لا يرقى الشكّ إلى دقّة نظرهم، بخلاف الشهادة (ب) فإنّها صدرت من مجرّد اثنين ليسا بتلك المثابة في الخبرويّة ـ وإلا سقطت.
([40]) إذا حصل من حُسن الظاهر وثوق بعدالته فبها ونعمت، وإلا فلا يكفي، إلا إذا قلنا بأنّ العدالة هي حُسن الظاهر نفسه، كما يُفهم من بعض الفقهاء. هذا وحسن الظاهر أمارة العدالة، لكنّ عدم تحقّق حسن الظاهر ليس دليلاً بنفسه على الفسق إلا مع قرائن إضافيّة تفيد الوثوق، فانتبه.
([41]) هذا الاطمئنان يمكن تصوّره موضوعيّاً فيما لو كان الشياع آتياً ولو من بعض المحافل العلميّة وأوساط النخبة الخبيرة بالاجتهاد الفقهي، أمّا لو أتى من جمهور الناس مع عدم اطّلاعهم على شيء، فيما أطبقت المحافل العلميّة على نفي الفقاهة، لا أنّها سكتت فقط، فإنّ القول بكون الاطمئنان هذا موضوعيّاً في غاية الصعوبة، ما لم تدخل عناصر أخَر.
([42]) لو أفاد الوثوق والاطمئنان لا مطلقاً.
([43]) ولو لم يكن فقيهاً.