hobballah

الموقع الرسمي لحيدر حب الله

المقالات

التحديث الديني في التجربة الإماميّة ـ عرض موجز لتيار التنوير الثالث المعاصر ـ علائم وسياقات

تاريخ الاعداد: 8/27/2023 تاريخ النشر: 8/27/2023
21380
التحميل

حيدر حبّ الله([1])

تمهيد

تناول مسارات التنوير ومآلاته قضيّة تحظى بأهميّة عالية، لا أقلّ من حيث ضرورة إزاحة الستار عن الأسباب التي أفضت إلى إخفاق التنوير في العالم الإسلامي ولو على بعض الصعد، وعناصر القوّة التي تمتّع بها والمنجزات التي حقّقها، بهدف التمهيد لتكوين رؤية مستقبليّة.

لم يكن الفضاء الشيعي الإمامي بمعزل عن حركة التنوير العامّة التي عرفها العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر، فقد أثّر هذا الفضاء فيها وتأثر بها جداً، بل كانت العديد من النشاطات التنويرية انعكاساً لتلك التي عرفها العالم الإسلامي في شبه القارة الهندية تارةً والحوض الشرقي للأبيض المتوسّط أخرى.

لقد عاش الشيعة الإماميّة ـ كسائر مذاهب المسلمين ـ تجارب التحديث الديني، ومرّوا بمراحل متعدّدة، وكانت لكلّ تجربة حسناتها وسيّئاتها.

لقد شهد التنوير الديني عند الإماميّة منذ نهايات القرن التاسع عشر أكثر من موجة، وثمّة مقاربات متعدّدة لتقسيم موجات التجدّد الديني هذه، وسوف أتبنّى هنا التحقيب ثلاثيّ المراحل:

أ ـ مرحلة النهوض الأوّل في عصر الثورة الدستوريّة؛ إذ يؤرّخ الكثيرون بداية التنوير في الوسط الإمامي بالحركة الدستوريّة في إيران والعراق، مطلع القرن العشرين، وبخاصّة مع كتاب «تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة» للميرزا حسين النائيني (1936م)، فقد كان الكتاب صدى آخر لطروحات الكواكبي (1902م) في بلاد مصر والشام، حيث دافع عن الحريات والمشاركة في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة، وتحدّث عن التنظير الفقهي لفتح المجال للتقنين البشري دون أن يكون هذا التقنين مواجهاً للشريعة. كان دفاع النائيني عن نوع من الشورى والديمقراطية مقابل الاستبداد بداية تفكير مختلف، وكان تنظيره لمجالس تقنينيّة بداية تحوّل مهمّ نحو مشاركة الإنسان في صياغة القوانين ضمن هدي الشريعة والقيم الدينيّة.

واجه النائيني نقداً عنيفاً كما توحيه كلماته ليس من قبل التيارات الحداثيّة، بل من قبل التيارات الدينية المدرسيّة، خاصة لجهة كلامه عن التقنين البشري، فقد اعتبروا كلامه بمثابة تعدٍّ على الوحدانية المطلقة التشريعيّة لله سبحانه، وفتحَ بابٍ للبدع واختلاق التشريعات عبر العقل البشري الناقص، في وقت اعتبر النائيني أنّ مثل هذه الجهود القانونية البشريّة تقع في هدي الشرع، وتتحرّك بنفسها في سياق ديني وليست في سياق خارج ـ ديني قائم على المفاصلة.

غير أنّ إخفاق الحركة الدستوريّة في إيران والعراق نتيجة انهيار الخلفيّة الدينية لها وتحوّل رموزها نحو نزعة علمانيّة قومية مفرطة، أصاب المؤسّسة الدينية الشيعية بإحباط شديد، بل شعر كثيرون بأنّهم أخطأوا في الذهاب نحو مسيرة التنوير هذه، وأنّ هذه المسيرة لم تكن سوى مشروع متماهٍ مع الغرب للانقضاض على المَلَكيّة نحو بناء دولة علمانيّة كاملة الأوصاف ليس للدين فيها موضع قدم. من هنا لاحظنا أنّ كتاب النائيني اختفى من الأسواق بما قيل بأنّه كان بطلب شخصي منه، ربما تعبيراً عن حالة الإحباط التي وصلتها حركة التنوير الديني آنذاك بسحب البساط من تحتها.

انكفأ التفكير التنويري بقوّة في تلك المرحلة على صعيد مرجعيّة العقل والإنسان والدولة المدنيّة والمشاركة السياسيّة وغير ذلك، وكان التركيز كلّه على الدفاع عن سلطة الشريعة على الإشراف على القوانين عبر مجلس فقهي ـ تجربة السيد حسن المدرّس (1937م) أنموذجاً ـ يمكنه أن يدير حركة التقنين في الدولة الحديثة، الأمر الذي سرعان ما تمّ الإجهاز عليه من قبل النظام الشاهنشاهي مع أسرة بهلوي.

يبدو لي أنّ الوضع استمرّ على هذه الحال حتى خمسينيّات القرن الماضي، فقبل ذلك لم تكن سوى حركات محدودة نسبيّاً لم يكتب لها النجاح والاتساع في الفضاء الديني.

ب ـ مرحلة النهوض الثاني مع انطلاقة الثورة الإسلاميّة في إيران ونواتها الأولى نهايات الخمسينيّات وبدايات الستينيّات من القرن نفسه.

ج ـ مرحلة التجديد النقدي الحديث، والتي انطلقت بفاعليّة مطلع التسعينيّات، وما تزال مستمرّة إلى اليوم.

إنّ هذه المسارات وموجات التجديد الثلاث كلّها تقريباً لها حضور اليوم، فهي لا تنسخ بعضها نسخاً كليّاً، بل تُضاف إلى بعضها مكوّنةً المشهد كلّه.

سوف يكون حديثي في هذه الوريقات المتواضعة عن المرحلة الثالثة، والتي تُعتبر إيران مركز انطلاقتها الرئيس، وسوف أركّز على تحليل المعالم العامّة دون أن أدخل في تقويم الأفكار التي طرحتها تيارات هذه المرحلة، لا سلباً ولا إيجاباً؛ إذ هذا يتطلّب مجالاً آخر.

ضرورة التمييز بين: التراثيّة الدينيّة، والتنوير الديني، والتنوير الثقافي

لكي نفهم المشهد يمكن بنوعٍ من التقسيم تصوّر المشهد الثقافي الإمامي المعاصر ضمن مسارات ثلاثة: التراثيّة الدينية، التنوير الديني، التنوير الثقافي.

أمّا التراثيّة الدينيّة، فهي التي تمثل أطيافاً متعدّدة من القراءات المدرسيّة الموروثة التي تخضع في داخلها لتطوّراتها الخاصّة، والتي تُعتبر المؤسّسة الدينيّة الرسميّة ـ خاصّة في قم والنجف ـ الراعي الأبرز لها.

وأمّا حركة التنوير الديني، فهي تعمل على تقديم قراءات جديدة للدين منتميةً إليه، متخطّيةً المحدِّدات التي تعتمدها المؤسّسة الدينية في قراءة الدين.

فيما التنوير الثقافي، هو حركة تنويريّة ترى ضرورة تخطّي مشروع الإصلاح الديني والخروج من الدائرة الدينيّة تماماً للنهوض الحقيقي من جديد.

ما أستهدفُه هنا هو تحليل العلامات الفارقة أو المهمّة في الموجة الثالثة للتنوير الديني عند الشيعة الإماميّة، وهي علامات قد نلتقي معها في بعضها دون بعض، فليس حديثنا عن التراثية الدينيّة ولا التنوير الثقافي المحض، بل عن التنوير الديني، ليس في مرحلتيه الأولى (الحركة الدستوريّة)، ولا الثانية (الثورة الإسلاميّة)، بل في مرحلته الثالثة فقط.

ويهمّني أن أوضح أيضاً أنّه لا تتخذ هذه النزعة في الفضاء النخبوي الإمامي المعاصر شكلاً واحداً، بل هناك أشكال مختلفة لها سعة وضيقاً، لكنّني سوف أسعى لمقاربة إجمالية عامّة تستوعب أكبر قدر من أطياف هذه الموجة التحديثيّة، كي أقدّمها بشكل مختصر ومكثّف وفي الوقت عينه جامع قدر المستطاع.

من معالم التنوير الديني الثالث، وتمايزه عن القراءات الدينيّة السائدة

ثمّة قراءات دينيّة متعدّدة اليوم، ولكي نحدّد معالم قراءة التنوير الديني الثالث ـ كما عبّرنا عنه ـ يجب علينا تبيينها من خلال بعض المعالم، وذلك على الشكل الآتي:

1 ـ سمة التعقيل السلوكي أو مرجعيّة الأخلاق الإنسانيّة

أوّل خواص المدّ الثالث للتحديث الديني عند الإماميّة هو العقلانية أو التعقيل الديني، لكنّ العقلانيّة هنا ليست هي العقلانيّة الفلسفيّة المشائيّة أو الصدرائيّة التي عرفتها الثقافة الإسلاميّة من قبل وما تزال فاعلة في المشهد المدرسي الفلسفي عند الإماميّة، ولا عقلانيّة النقد التاريخي في اللاهوت الليبرالي؛ لأنّ المدّ الثالث فقد الثقة بالتاريخ وبالعقل النظري([2]).. وإنّما هي عقلانيّة العقل العملي، بمعنى أنّ التحديث الديني اعتمد كثيراً على مرجعيّة الأخلاق المنطلِقة من العقل، لهذا شهدنا نموّاً مضطرداً للدرس الأخلاقي الفلسفي في هذه الفترة، وإعادة بناء الرؤية الدينيّة على أساس مرجعيّة الأخلاق وصولاً لبعض التفاصيل السلوكيّة الحسّاسة في الفضاء الديني([3])، وتقدّمها على الدين، خاصّة وفقاً لما طرحه باحثون من أمثال الدكتور أبو القاسم فنائي([4]).

إنّ بناء قراءة الدين في الجانبين: العقدي والشرعي على منظومة الأخلاق الإنسانيّة، يعني تقدّم الأخلاق المستنتَجة من العقل على الأخلاق الآتية من دلالات النصوص؛ وهذا التقدّم يفرض إعادة فهم النصوص في ضوء العقول الأخلاقيّة، تماماً كما فعل المعتزلة من قبل، فبناؤهم على نظرية التحسين والتقبيح الذاتيين والعقليّين دفعهم لفهم سلوكيّات الله نفسه في ضوء معايير العقل الأخلاقي؛ فأعيد إنتاج وعي الله وصفاته وأفعاله وأسمائه في ضوء العقل الأخلاقي.

إنّ حركة التحديث الجديدة تقوم بالشيء نفسه أيضاً في دائرة النصوص الدينيّة المتصلة بالسلوك الإلهي والإنساني معاً هذه المرّة، ولهذا يقدّم لنا المدّ الثالث قراءة دينيّة أخلاقية إنسانيّة بما قد يُشبه مشروع الأخلاق الكونيّة للاهوتي الكبير المعاصر هانس كونج، وكأنّه يعيد إنتاج الدين بوصفه منظومة أخلاقيّة على الطريقة الكانطيّة، خاصّة عندما نلاحظ بعد قليل موقف حركة التنوير الجديدة هذه من الشريعة والفقه الإسلاميّين.

2 ـ من الأخلاق إلى المعنويّة الروحيّة، إعادة إحياء التراث الصوفي

لعلّ السمة التي أشرنا إليها آنفاً تساعدنا على فهم شكل تأثر هذا المدرسة التنويريّة بالفلسفات الغربيّة الحديثة، حيث تركّز ذلك في الفلسفة الوجوديّة بنسختها الإيمانيّة، وفلسفه العلم النقديّة، والدراسات الهرمنوطيقيّة، لهذا كثيراً ما نلاحظ أنّ هذا التنوير يطالع النصوص الدينيّة بوصفها مادّة لقراءة وجوديّة للإسلام، ويعتبرون أنّ تقديم قراءة وجوديّة أو غيرها للإسلام أو غير ذلك ليس عيباً؛ فقد غرق الفكر الديني كلّه وما يزال بقراءة للإسلام تعتمد الفلسفة اليونانيّة (ثنائيّة الأرسطيّة ـ الأفلاطونيّة)، فلماذا عندما نريد تقديم قراءة للإسلام تعتمد فلسفةً حديثة يصبح الأمر تبعيّةً للغرب؟!

من هنا يهتمّ العديد من رموز مدرسة التنوير هذه ـ خاصّة مصطفى ملكيان ومجتهد شبستري ـ بإعادة فهم الظاهرة الدينية ككل بما هي نزعة معنويّة روحيّة قادرة على تقديم سبيل الخلاص للإنسان الحديث من العبثيّة والغربة والفردانيّة والخوف والقلق والاضطراب، فجوهر الدين في معنويّة ملكيان ليس إلا هذا، وليس تنظيم الحياة الفردية والاجتماعيّة والسياسية والاقتصاديّة أو أخذ دور العلم الحديث.

إنّ هؤلاء يعتبرون أنّ البعد الروحي هو جوهر الدين، ولكنّ مقصودهم من جوهر الدين يختلف بين تيارات التنوير نفسها:

أ ـ يعتبر بعضهم أنّ المراد بجوهر الدين المقصدُ الأساس الذي جاء الدين لأجله، فيكون المراد هو أنّ الدين جاء في مقصد المقاصد لتحقيق الارتباط المعنوي الروحي بالله وما يستتبع هذا الارتباط من شبكة علائقيّة مع الله تتضمّن التسليم والتوكلّ والرضا والحبّ والخوف والعبودية والذلّة والقرب وغير ذلك.

هذا يعني أنّ كلّ الأمور الأخرى في الدين تتخذ شكلاً ثانويّاً، وأنّه لا يصحّ تعويمها وإغفال الغرض الأساس، ومن ثم فعلينا أن نتعامل مع الدين من موقع تمييز العناصر الأصليّة فيه عن العناصر الشكليّة الطارئة التي لا تمثل روحه وجوهره، وكلّ قراءة للمعطيات الدينية تساوي الأشياء ببعضها ولا تضعها بشكل هرمي يحدّد موقعها وقيمتها في المنظومة الدينية أو بشكل طبقاتي (أشبه بطبقات البصل) يحدّد الشكل الظاهر من العمق المركزي، هي قراءة فاشلة ولا تنتج سوى إعادة تكوين للدين مخلّ بعناصره الرئيسة ومواضعها.

ب ـ لكنّ بعضاً آخر ـ من أمثال الدكتور مصطفى ملكيان ـ يفهمون جوهر الدين على أنّه غاية التديّن، أي الغاية القصوى المنشودة من ممارسة التديّن، والتي تمثل الشيء المطلوب بالذات لا بالغير. وهو ما يرمي إليه الإنسان المتديّن بوصفه هدفاً أعلى، من سعادةٍ أبدية، أو قربٍ من الله، أو طمعٍ بالجنّة، أو رغبةٍ بتخفيف الألم والمعاناة ونحو ذلك.

فملكيان لا يبحث عن واقع الدين ورسالته الذاتيّة، بل يتعامل مع الدين تعاملاً ظاهراتيّاً، بوصفه فعلاً وردّة فعل في الاجتماع البشري وفي حياة الإنسان الفرد، والسبب أنّ ملكيان في نزعته المعنويّة لا يؤمن بالأديان التاريخيّة أساساً، بل لا يؤمن بالأديان بما هي منظومات عقديّة أو تشريعيّة، بل الدين عنده ليس سوى تجربة روحيّة، الهدفُ منها تسكين آلام الإنسان المعاصر، لهذا فالمعنويّة الروحية عنده ليست في مقابل الإلحاد، بل هي في مقابل العبثيّة والعدميّة والوحشة والغربة والقلق الوجودي.

وفي السياق عينه، تعتمد حركة التنوير الحديثة هذه على الموروث الصوفي والعرفاني في التراث الإسلامي، خاصّة ما يُعرف بتصوّف المحبّة لجلال الدين الرومي، مقابل تصوّف الرهبة والخوف عند الغزالي، وربما هذا ما يفسّر لنا أنّ نصوص الأدب الفارسي ذات النزعة الصوفيّة تعتبر اليوم من أهمّ مراجع التحديث الديني عند الإماميّة على الإطلاق تقريباً.

3 ـ الدين بين الدنيا والآخرة، فهمٌ تنويري مختلف

قلنا بأنّ هذه القراءة لا تهتمّ كثيراً بتعقيل القضايا الدينيّة نظريّاً، كما فعلت الحركة التنويريّة السابقة عليها منذ بدايات القرن العشرين والتي سعت دوماً لتبرير القضايا الدينية فلسفيّاً أو علميّاً أو غير ذلك، بل الذي يهمّ حركة التنوير الثالث كان أمراً آخر انقسمت فيه هذه الحركة نفسها إلى فريقين:

فريق اعتبر أنّ الغاية الأساسيّة هو التعامل مع الدين كلّه بما له من قدرة على سدّ فراغ معنوي في حياة الإنسان المعاصر، ليعيد تشكيل هويّته وتحريره من أزمات العصر الحديث كالعبثية والعدميّة وغير ذلك، وهذا هو التيار المعنوي الذي يتزعّمه أمثال ملكيان.

معنى هذا الكلام أنّ هذا الفريق يحاول محاكاة الإيمانية الوجوديّة لأمثال سورين كيركجارد (1855م)، ويستسلم لمعضلة العلاقة بين الدين والتاريخ، وهي المعضلة التي هيمنت على اللاهوت المسيحي خلال القرون الأخيرة، فهو لم يعد يملك الثقة بالميتافيزيقيّات أو بالحدّ الأدنى: بقدر كبير من الأمور الميتافيزيقيّة، كما لا يرتاح للتاريخ؛ كونه لم يعد يقدّم سوى ترجيحات لا غير.

بهذه الطريقة يبتعد هذا الفريق اليوم عن اللاهوت الليبرالي الشيعي الذي عرفناه منذ بدايات القرن العشرين في الوسط الإمامي، وهو لاهوت يهتمّ كثيراً بتصحيح القراءة التاريخيّة ونقد الحديث والتاريخ من جهة، ويولي أهميّةً كبرى لتعقيل القضايا الدينيّة وتقديمها بعرض عقلاني أو ممارسة الدفاع العقلاني عنها من جهة ثانية، فكلّمنا أمكن تعقيل القضايا الدينيّة كان ذلك أوفق بالمصالحة مع الحداثة وقيمها، لكنّ القراءة الروحيّة لهذا الفريق هنا تعتبر أنّ أكثر محاولات التعقيل والتصحيح التاريخيّ باءت بالفشل، ولم يعد يمكن الوثوق كثيراً بالمصالحات المزعومة القائمة في أغلبها على تأوّلات صلفة للنصوص الدينيّة أو معاندات فجّة لحقائق العلم الحديث؛ لهذا لابدّ من ترك العقل لوحده منفصلاً عن الدين ليتحرّك في سياقه الطبيعي، في حين يجب علينا أن نجعل الدين يتحرّك في سياقٍ مختلف، وهو السياق الروحي، وبهذا نحن ننزع فتيل التوتر بين الدين والعلم وبين الدين والحداثة، لا أننا نجري مصالحة على قضايا متنازع عليها بينهما بهدف وقف التوتر والحرب القائمة، فلا تصادم بين الدين والعلم بنحو السالبة بانتفاء الموضوع بحسب تعبير المنطق الصوري.

وفريق آخر بدا أنّه يفكّر في التعامل مع الدين بوصفه سبيلاً للخلاص في الآخرة، فالدين قيمته في بناء حياة أخلاقيّة في الدنيا وتمهيد الطريق عبر ذلك لبناء حياة خلاصيّة في الآخرة، فهو يبني الآخرة ولا يبني الدنيا، وأمّا ما يبني الدنيا فهو الإنسان عبر العقل والعلم والتجربة، وهذا هو ما نجده بارزاً عند رموز من أمثال عبد الكريم سروش ومهدي بازركان.

نقطة التمايز المركزيّة في تقديري بين فريقي حركة التنوير هذه هنا هي "الآخرة"، ففي الوقت الذي لا تركّز "معنويّة" تيار ملكيان على ميتافيزيقا الآخرة، نجد لهذه الميتافيزيقا حضوراً عند سائر أطياف التنوير الحديث، فبازركان الثاني([5]) يبدو واضحاً في الاهتمام بالآخرة في مقاربته للدين والغاية منه في الدنيا، بل جوهر فكرته يقوم على ذلك، وهذا يعني أنّ دنيويّة الدين عند تيار المعنويّة (ملكيان) لا تعني تنظيم الدنيا بالدين، بل تعني حلّ الأزمات الروحية والمعنوية والنفسية للإنسان المعاصر بالدين، في الوقت الذي يرى فيه تيار أخرويّة الدين أنّ الدين بهذه الأخرويّة يربط الدنيا بالآخرة ويهتم في الدنيا بما يصلح العلاقة مع الله ويعزّز القيم الأخلاقيّة، فهما يلتقيان في البعد الروحي للدين، لكنهما يختلفان في نقطة البداية أو في الموجِّه العام لهذا البعد.

4 ـ الموقف المتحفّظ من البُعد الفقهي (تحرير الدين من الشريعة)

انطلاقاً ممّا تقدّم، تنفصل هذه النسخة التنويريّة عن النزعات الفقهيّة التي تركّز على أداء الجسد؛ لأنّها تركّز على أداء الروح، فهي لا تهتمّ كثيراً بالطقوس والشكلانيّات التي يقدّمها الدين في نصوصه، بل تعتبر أنّ المهم هو الكليّات المعنويّة التي استهدفتها النصوص التفصيليّة السلوكيّة، وأنّ علينا تحرير النصوص من شكلها الجسدي لربطها بالغاية الروحيّة.

يقوم هذا الأمر في هذه القراءة الروحية على نوع من "اللاهوت الثقافي"، بمعنى أنّ الدين لا يمكن أن يُفهم بمعزل عن الثقافة المحيطة، وأنّ الثقافة هي التي تعيد صياغة الدين ونصوصه، فإذا كان الدين يأمر بالعدل بوصفه مقصداً أخلاقيّاً وقيمياً أعلى، فإنّ الصورة التي يقدّمها للعدل في علاقات الرجل والمرأة في ذلك الزمان ـ على سبيل المثال ـ تعبير عن ثقافة عصره وسياقات زمانه، ومن ثمّ فالتفكير المقاصدي في النزعة الروحيّة هذه يصرّ على التخلّي النهائي عن صور العدالة التاريخيّة لصالح قيمة العدالة الثابتة في الدين، فالدين لم يقدّم تسييلاً للعدالة مؤبّداً، بل قدّم تكريساً لمفهوم العدالة وضخّاً لروح إيمانية فيه، ولهذا يصرّح غير واحد ـ من أمثال المفكّر محمّد مجتهد شبستري ـ بأنّ عدالة الإمام عليّ بن أبي طالب ليست الصورة النهائية للعدالة، بل هي صورة العدالة في زمانه وثقافته وسياقه التاريخي.

بهذه الطريقة ينهار كلّ البناء الفقهي النمطي، وحتى المقاصديّون المسلمون الكلاسيكيّون لن يتمكّنوا في تقديري من إبداء الارتياح لهذا النوع من التفكير؛ لأنّ هذا النوع من المقاصديّة يحيل الدين لمجموعة قيم خلقيّة وروحيّة، وأنّ كلّ الصور النمطيّة العباديّة وغير العبادية التي ورثناها من التراث الديني لا قيمة لها في نفسها، وأنّ علينا باستمرار إنتاج صور أخرى للقيم العليا التي جاء بها الدين، وليست سوى القيم الأخلاقيّة والروحيّة القابعة في الوجدان الإنساني.

وانطلاقاً من ذلك، رأينا كيف تتراجع الشريعة في هذا التنوير لصالح الأخلاق، ويتراجع اللفظ لصالح المعنى، وتتراجع الوسيلة لصالح المقصد والغاية، فالأشكال والسبُل التي وضعتها الشريعة ليست إلا تعبيراً زمنيّاً عن تجلّي القيم الأخلاقيّة والروحيّة في عصرٍ ما، وأنّ علينا خلع التعابير الزمنيّة نحو المضمون الأبدي الدائم.

وينجم عن هذا كلّه أنّ الشريعة عندما جاءت بالتفاصيل في عصر النصّ كانت تقصد تعليم الإنسان على كيفيّة صياغة الكليّات الأخلاقيّة والروحيّة في الحياة، ولم تكن تقصد تعليمه النتيجة الناجمة عن ذلك بمعنى سأوضحه عبر مثال طرحه غير واحد من مفكّري هذه النزعة ـ ومنهم مصطفى ملكيان نفسه الذي يعدّ الأكثر حماسة لها والذي يذهب بها إلى أبعد الحدود ـ فلو كان هناك والدٌ لديه مصنع وعنده عمّال، وكان يعطي العمال مبلغاً من المال لقاء عملهم، وكان في كلّ سنة يزيد لهم على مبلغ أجرتهم خمسةً في المائة، حتى توفّي في سنةٍ كان المبلغ فيها قد وصل إلى 100 درهم شهريّاً مثلاً، هنا ينقسم الأولاد في كيفيّة اتّباعهم لسنّة والدهم إلى فريقين:

الفريق الأوّل: وهو الفريق الحرفي الاستنساخي الذي يقول بأنّ اتّباع سنّة والدنا تتطلّب دفع 100 درهم كلّ عام إلى يوم القيامة لكلّ واحدٍ من العمّال والموظفين.

الفريق الثاني: وهو الفريق الذي ينتمي إليه أنصار التنوير الروحيّ والأخلاقي الذي نتكلّم عنه، وهو يقول بأنّ اتّباع والدنا يكون باتّباع نهجه، وليس باتّباع المخرَجات التي أدّى إليها هذا النهج، بمعنى أنّ اتّباعه يكون بإضافة خمسة في المائة كلّ سنة على أجور العمّال، فهذا هو منهج الوالد في تطبيق العدالة على العمّال، بهذه الطريقة نتكيّف مع تطوّرات الحياة ولا نكون جامدين.

هذا ما يقوله تيار التنوير الثالث هنا. إنّهم يقولون بأنّ علينا أخذ القيم العليا التي جاء بها الدين والتعلّم من القرآن والسنّة كيف نزّلوا هذه القيم على أوضاع عصرهم لنأخذ طريقة التنزيل ومنهجه، ثمّ نقوم نحن بممارسة هذه الطريقة لحماية القيم العليا في زماننا، وإلا فإنّ الجمود على مخرَجات التنزيل القديمة سيؤدّي إلى هدر القيم نفسها.

هذا البناء الفَهمي الهرمنوطيقي للنصوص الدينيّة يقوم ـ في هذا التنوير ـ على عدّة أسس، منها:

أ ـ استحالة التأبيد في القانون، وهو الأساس الذي بنى عليه أمثال محمد مجتهد شبستري([6])، حيث اعتبر أنّ القانون يستحيل أن يكون أبديّاً وأنّ القيم هي وحدها التي تحظى بهذه السمة؛ لأنّ تحوّل الحياة وتطوّرها يجعل أبديّة القانون مولدةً لنقيض غاياته عبر الزمن.

ب ـ ليست وظيفة الأديان في إدارة الحياة الدنيويّة تعليميّةً بالحدّ الأعلى، بل هي كذلك بالحدّ الأدنى ـ وهذا ما يطرحه عبد الكريم سروش في نظريّته التي تحمل عنوان (الدين الأقلّي والدين الأكثري)([7]) ـ بل وظيفتها بعث الروح في الضمير الإنساني والفطرة الصالحة؛ لكي تدير الحياة بأخلاقيّة عالية تنتمي للقيم الفطريّة المودعة في الإنسان كقيم العدالة والرحمة والمحبة والصلاح والتواضع والتضحية وغير ذلك، فالإسلام أراد قيمة النظافة، بوصفها قيمةً جمالية وخلقيّة، أمّا كيفيّات النظافة في أبواب الطهارات والنجاسات وغيرها، فهي صور زمنية تستهدف الحدّ الأدنى من تحقيق الطهارة والنظافة، تاركةً للإنسان أن يقوم بنفسه بإكمال طريقة تحقيق هذه القيمة العليا عبر الزمن، فالدين بيّن القيمة الخلقية والجمالية المعيّنة، ثمّ دفعها نحو الانطلاق ضاغطاً على زرّ (start)، بهدف تعليمنا ضرورة الاستمرار في تنزيلها عبر الزمن والصعود التطبيقي بها تدريجيّاً إلى الحدّ الممكن في كلّ زمن.

هذا كلّه يتواشج مع إعادة تقديم تعريف فلسفي وديني لبعثة الأنبياء، وهو ما حاول أمثال المهندس مهدي بازركان تحليله بإسهاب في العديد من أعماله العلميّة. إنّ تصوير الأنبياء على أنّهم جاؤوا لكي يعلّموا الإنسان كيف يدير اجتماعه ـ كما يراه العديد من فلاسفة المسلمين([8]) ـ هو تصوير غير صحيح عند هذا الفريق، فالأنبياء وظائفهم روحيّة أخلاقيّة تتمحور على قيمة عليا هي الارتباط العبودي التوحيدي بالله سبحانه، وقد جاؤوا لكي لا تموت الضمائر والأرواح، لا لكي يعلّموا العقول كيف تُصنع السيارات أو تُدار الشركات! فصناعة السيّارة جهدٌ عقليّ إنساني، لكنّ أخلاقيّة هذه الصناعة هي مسؤوليّة دينية، بحيث يركّز الدين على النتائج الخلقيّة لهذه الصناعة والتأثيرات الروحية لها سلباً أو إيجاباً، فما يهمّه هي الرقابة الروحيّة والأخلاقية على العقل الإنساني ومنجزاته.

هذه القراءة للفقه تحدّ من سلطانه المطلق التفصيلي على حياة الإنسان المسلم، وهي بعينها التي جعلت من معالم تيار التنوير الثالث هذا مناهضة كلّ من: الإسلام السياسي (مشروع تطبيق الشريعة)، والمؤسّسة الدينيّة (المرجعيّات ـ الحوزات ـ طبقة رجال الدين)، وإعادة تفسير مختلف القضايا الدينيّة العامّة التي وظّفها الإسلام السياسي تفسيراً مجتمعيّاً أو روحيّاً صوفيّاً أو أخلاقيّاً، ولمجرّد المثال نلاحظ كيف أنّ سروش فسّر حركة الإمام الحسين في كربلاء خارج إطار مشروع إقامة دولة أو تطبيق شريعة، على عكس ما كانت تطرحه تيارات في الإسلام السياسي مثل «الشهيد الخالد» للشيخ صالحي نجف آبادي، حيث اعتبر سروش الحركة كلّها حركةً أخلاقيّة قائمة على ثنائيّة العزّة والذلّة، وأنّ الإنسان الأخلاقي لا يرضى بالذلّ، فالحسين تحرّك لأنّه لا يرضى بالذلّ، لا لأنّه أراد تأسيس دولة دينيّة. ومن هنا أيضاً نرى كيف أنّ المهندس مهدي بازركان أعاد تفسير كلّ النصوص والوقائع الدينيّة تفسيراً مسبقاً شاملاً على أساس أنّها تهدف تعزيز الروح التوحيديّة، فالخمس والزكاة ليسا ضرائب ماليّة لبناء دولة، بل لتطهير النفس الإنسانيّة من التعلّق بالمال وترويضها على التضحية لأجل الآخرين ضمن إحساس إنساني رفيع، بما يشبه بعض الشيء قراءة علي عبد الرازق في رساليّة الدين.

هذا كلّه يؤكّد لنا أنّ أعظم مواجهة هي تلك التي تقع بين المدّ الثالث وبين منظومة الشريعة، فالفقه والفقهاء هما الخصم الأساس أمام القراءة التجديديّة الثالثة من وجهة نظر أصحابها، ولهذا يسعى هؤلاء المفكّرون والباحثون لتخفيف وهج الفقه وحضوره، وتقليص دور الشريعة في حياة الفرد والجماعة لصالح النزعة الروحيّة والأخلاقيّة الإنسانيّة.

ج ـ استحالة الإدارة التعبديّة للحياة الدنيويّة، وهذا ما ركّز عليه كثيرون من أنصار هذا الفريق، وسلّط الضوء عليه أكثر عبد الكريم سروش. إنّ الذهنيّة الفقهيّة ـ خاصّة في الوسط الإمامي الذي لا يؤمن بالقياس وكشف علل التشريعات والرأي والاستحسان ونظريّة المقاصد وأمثال ذلك ـ قلقة للغاية في تعقيل التشريعات الدينية، وتعتبر أنّ هذا الفهم العقلاني عملية ظنيّة، والقاعدة في الاجتهاد الأصولي الإمامي عدم حجية الظنّ إلا بدليل خاصّ على هذا الظنّ أو ذاك مثل الظنّ في أخبار الآحاد، وهذا ما يجعل الكثير جداً من النتائج الفقهيّة تتلقّى في الفضاء الإمامي بشكل تعبّدي، بلا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات والكفّارات والحدود وغيرها.

هذا التنوير الذي نتحدّث عنه هنا يعتبر أنّ معنى هذه الثقافة المهيمنة على الاجتهاد الفقهي هي إدارة الاجتماع البشري بطريقة غير مدروسة النتائج وغير معلومة، خاصّة وأنّ أغلب النتائج الفقهيّة لا تقوم على يقين، بل على ظهورات لفظيّة وأخبار آحادية، لهذا يعتبر هذا التنوير أنّ الإسلام الفقهي لا يمكنه بهذه الذهنيّة أن يدير الحياة والشعوب والمجتمعات، بل لابدّ له من الذهاب إلى مرجعيّة أكثر يقيناً ووعياً بالأمور يمكنها أن تجري مراجعات متواصلة على أيّ قانون عندما تراه فاشلاً وغير منتج، وتعدّل في آخَر على الطريقة عينها، لا الجمود على قوانين شكليّة صارمة لا تسمح بالتغيير والتبديل.

د ـ حيث ترتبط هذه النزعة بأولويّة الروح، دون الجسد، وأولوية الأخلاق والمعنى دون الفقه والشريعة بشكلهما التاريخي، لهذا فهي غير معنيّة بفكرة تطبيق الشريعة أو بفكرة إقامة الدولة الدينيّة أو بفكرة ممارسة القوّة لفرض الدين؛ لأنّ جوهر الدين هنا لم يعد تحت سلطة القهر ما دام قلبيّاً، وما دام السلوك الأخلاقيّ الجسدي ليس سوى نتيج للتسامي الروحي، دون العكس.

وهذا ما يربط الدين عند هذا التنوير بالحريّة، لأنّ هذه القراءة تعتبر أنّه لا يوجد تديّن بدون حريّة؛ وأنّ التديّن الآتي من الخارج ـ وليس النابع من الداخل ـ هو تديّن زائف؛ لأنّ القيم الخلقيّة والروحيّة التي تمثل جوهر الدين تنبع من الداخل وتتماهى مع الروح، وما يمكن أن يفرض من الخارج ليس سوى الشكليّات الجسديّة كفرض الحجاب أو صلاة الجمعة أو غير ذلك، وهذه ليست هي الدين، بل هذه يمكن أن تكون انبثاقاً تعبيريّاً عن الدين في القلوب، فنقطة البداية في الدين هي القلوب، والأنبياء سلاطين القلوب. وتغيير نقطة الانطلاق من القلوب إلى الأجساد هو الذي يحوّل الدين إلى سلطان بدني يهيمن على الحياة الظاهريّة ويغيب عن باطن البشر وأعماقهم.

هذا كلّه يسمح لأنصار هذا التنوير بالتعايش مع العلمانيّة (فصل الدين عن الدولة) بشكل طبيعي، كما يسمح لهم بقبول التعدّديات الدينية والسياسيّة وغيرها، خاصّة عند الفريق الذي يرى منهم([9]) أنّ جوهر الأديان كلّها متطابق في المعنى والمقصود، وأنّ تنوّع الأديان ليس تنوّعاً دينيّاً، بل هو تنوّع ثقافي زمكاني، فالثقافة والزمن والأعراف والملل هي التي تنوّع السلوكيّات الدينيّة، ثم تفرضها عنصراً جوهريّاً في الدين.

5 ـ تقليص المنظومة العقائديّة (تقليل المدّعيات الدينية)

في تحليلنا لمسار هذا التيار التنويري، نلاحظ بوضوح من أعمال الكثيرين منهم أنّهم يميلون لتقليص حجم القضايا الخبريّة في الدين، بل بعض الاتجاهات المتطرّفة في هذا التنوير تُخرج الدين من نطاق الإخبارات تماماً.

والمقصود من ذلك أنّ النصوص الدينيّة تحمل الكثير من الإخبارات المتعلّقة بالوجود، وكذلك بالتاريخ والحاضر والمستقبل. إنّ نقطة ارتكاز هذا النوع من القراءة التنويرية أنّها تميل ـ ما أمكنها إلى ذلك سبيلاً ـ إلى فهم الإخبارات على أنّها محاولات لإرسال رسائل تربويّة وأخلاقيّة أكثر من كونها بصدد التأكيد على واقعيّة المخبَر بها، وبهذا تفهم هذه النزعة، أو هي مرنة إزاء ذلك، من قصص القرآن ـ على سبيل المثال ـ نوعاً من التصوير الخيالي الهادف لإيصال رسائل ذات مضمون روحي وتربوي وأخلاقي، وأنّ الحقيقة الأساسيّة عند أكثر أنصار هذا الفريق هي حقيقة الله والتوحيد.

لا تبحث هذه النزعة التنويريّة عن حقائق الوجود الميتافيزيقي فهذا لا يبدو من أولويّاتها، بل كأنّها تعتبر أنّ تكثير حجم الحقائق الميتافيزيقيّة ولصقها بالدين يضخّم حجم الدين فيجعله كثير المدّعيات ويتكلّم في قضايا كثيرة ويُرهق أتباعَه بالكثير من مفردات الإيمان والعقيدة، في حين الدين لا يحمل سوى مجموعة محدودة من المدّعيات تتلخّص حول كليّة الله والآخرة والروح والمعنى، فتكثير مفردات الاعتقاد والتاريخ والمستقبل هو خروج عن روح الدين البسيطة.

وبهذا نكتشف أنّ هذا التنوير يخوض صراعاً مع الفقه والفقهاء من جهة ونوعاً من الصراع مع المتكلّمين من جهة ثانية([10])، فهو يريد سحب الفرص من أيدي هؤلاء وهؤلاء. وقضيّة تخفيف حمولات الدين ظاهرة مسبوقة تاريخيّاً في التيارات الإصلاحيّة لأديان عدّة.

6 ـ بين العقل المخارج للنصّ والعقل الأداتي الفهمي للنصوص

يعتمد الجيل الثالث للتنوير على مركزيّة العقل في النشاط الإصلاحي دون النصّ، فالنصّ ليس مركزاً في الإصلاح الديني، على العكس من كثير من حركات الإصلاح الديني التي سعت للقيام بعمليات إصلاحيّة عبر إعادة تقديم تفسير جديد للنصوص يغيّر الأوضاع القائمة.

وهذا ما جرّ بتقديري إلى قلّة اهتمام هذا الجيل التنويري بالعلوم المنتمية لمجال دراسة النصّ الديني، فلا تجد لديهم كثير خبرة بمجال علوم اللغة والفقه والأصول والتاريخ والحديث والجرح والتعديل والتفسير القرآني وغير ذلك؛ لأنّ إصلاحها لا ينبني على تقديم تفسير جديد لما يعطيه النص في دلالاته الداخليّة، بل على تقديم تفسير جديد لظاهرة النصّ نفسه، ولهذا عندما كانت تُبدي رأيها ـ عَرَضاً ـ في قضايا تتصل بتفسير النصوص أو بالتاريخ كانت تبدو أحياناً كثيرة ضعيفةً وفقيرة.

من هنا كانت قيامة الإصلاح الديني عند هذا التنوير على القراءة المخارجة للنصّ، فلم يقم هذا الإصلاح على إعادة تفسير النصوص الدينيّة هنا وهناك بما ينسجم مع العصر الحديث، بل قام بدراسة مجمل الظاهرة النصيّة دون الولوج في عمليّات تفسير لها إلا عرضاً ونتيجةً، فالتأويليّة هنا ليست تأويليّة تقوم على تكريس مسبق لمرجعيّة النصّ وتقدّم طرائق في فهمه وتفسير مضمونه، بل هي تأويليّة تدرس النص كلّه بوصفه ظاهرة واحدة وتحكم على هويته ودوره وغايته مسبقاً قبل قراءته([11]) لتقول ـ مثلاً ـ: إنّ النصّ الديني لا يقدّم إلا الحدّ الأدنى من الأفكار في كلّ شيء([12])، أو لتنحاز لمقولة أنّه نصّ بشري لمضمون إلهي، فهو لا يمثل المطلقَ في كلّ شيء([13]).

7 ـ المعرفة الدينية تحت مجهر النقد والتمحيص

تتميّز هذه الموجة الثالثة من التنوير الديني في الوسط الشيعي بخاصيةٍ قلّما وجدناها في موجات التحديث السابقة، وهي أنّها تدرس بعنايةٍ ودقّة ظاهرةَ المعرفة الدينيّة نفسها، أي دراسة فهم النصوص والظواهر والاعتقادات بوصف هذا الفهم معرفةً دينية، وهذا يعني أنّ التحديث يفصل بجلاءٍ بين "فهم الدين" و "فهم فهم الدين"، بمعنى أنّه يضع المجهر على ظاهرة فهمنا للدين في نصوصه وتاريخه ومقولاته، ففهم البشر هو محلّ دراستنا، وليس فهمنا للدين مباشرة من النصوص.

سبب هذه الظاهرة في تقديري، هو تطوّر مجالين من مجالات الفكر المعاصر في العالم اليوم، هما:

أ ـ فلسفة العلم، حيث تأثر العديد من رموز التنوير الثالث بفلاسفة العلم في القرن العشرين، وليس آخرهم كارل بوبر (1994م).

ب ـ التأويليّة والهرمنوطيقا، خاصّة عند أمثال غادامير (2002م)، حيث يصبح قارئ النص فاعلاً مولّداً وليس مجرّد متلقٍّ منفعل، الأمر الذي يجعل المعرفة الدينيّة بشريّة تماماً وتفاعليّة.

في أحضان هذا الفضاء ولِدت نظريّة القبض والبسط أو تكامل المعرفة الدينيّة التي طرحها عبد الكريم سروش وتياره منذ نهاية الثمانينيّات من القرن الماضي.

هذا الأمر فصل بين الدين ومعرفة الدين، وهذا الفصل ليس نظريّاً، بل له تأثيرات عملية في غاية الخطورة على المستويين: الاجتماعي والسياسي معاً، وذلك أنّ عمليّة الفصل تفسح المجال لفكّ القداسة عن فهم البشر للدين وعدم اعتبار فهمهم للدين ديناً مقدّساً، ونتيجة لذلك أنّ فهم المؤسّسة الدينية للدين ليس ديناً، وكلّ صفات القداسة والكمال والهيبة سوف تنـزاح جانباً عن المرجعيّات والمؤسّسة الدينية معاً، وهذا ما وجدنا أنّ محمّد مجتهد شبستري وتياره يطرحانه في سياق ما عُرف بنظريّة "نقد القراءة الرسميّة للدين"، حيث استند شبستري بوضوح للدراسات الهرمنوطيقيّة في تأكيده أنّه لا توجد دراسة نهائيّة للدين ولا دراسة رسميّة، بل هي قراءات بشريّة لا غير، وهو من هنا طرح نظريّته الأخرى ذات الصلة في "تعدّد القراءات الدينيّة"، مستنداً لمفهوم أمثال غادامير للقراءة، والذي يعني أو يتضمّن مشاركة القارئ في إنتاج المعنى.

هذا الأمر شكّل وما يزال تحدّياً للمؤسّسة الدينية؛ لأنّه يعيد تشكيل نمط العلاقة بين الناس وبين المرجعيّات الدينية من جهة بعد خلع صفة القداسة عنها، ويغيّر ـ من جهة ثانية ـ من وعي الناس لما تنتجه الحوزات والمؤسّسة الدينية ليصبح متأثراً بعلوم العصر وخاضعاً لها؛ لأنّ نظرية القبض والبسط تريد تأكيد هذا المفهوم، وهو أنّ العلوم الدينيّة علومٌ مستهلِكة وليست منتِجة، فهي تتأثر بعلوم العصر تبعاً لتأثر قارئ النص ـ هرمنوطيقيّاً ـ بمعلوماته الآتية من خارج دائرة النص نفسه، ولك أن تحسب التأثير النفسي لهذه الفكرة على الجمهور عندما يعرف أنّ المؤسّسة الدينيّة لا تواكب علوم العصر بالشكل الكافي مثلاً.

أكتفي بهذا القدر من المعالم التي تشرح لنا تفكيير هذا الجيل الثالث من أجيال التنوير الديني في الوسط الإمامي اليوم.

من أسباب التنوير الثالث المعاصر

ما يبدو أنّه من أسباب هذه النزعة عدّة أمور أشير إليها باختصار شديد:

أ ـ المواجهات الحتمية بين العلم والنص الديني في أكثر من قضيّة، حيث اقتنع الجيل الجديد بأنّ عمليّات التأويل وليّ عنق النصوص لجعلها متوالمة مع قيم ومقولات العصر والعلم الحديث باتت مفضوحة، وغير مقنعة ولا مجدية، وأنّ علينا الذهاب قدماً إلى الأمام في عمليّات جراحية أكثر عمقاً، لا أنّه كلّما واجه نصٌّ ديني معطى علميّاً أخذنا بتأويل النصّ وممارسة تلاعب لغوي به.

ب ـ فشل التجارب السلطويّة الفقهيّة، بل وإنتاجها على المستوى الروحي لنقيض مشروعها، حيث اعتبر هذا الجيل أنّ التجربة أثبتت أنّه كلّما ازدادت السطوة الفقهيّة ضعفت نوعيّة الإيمان الروحي وازداد النفاق والازدواجيّة في المجتمع. بل اعتبر هؤلاء أنّ تجارب تطبيق الشريعة أنتج فشلاً ذريعاً على المستويات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة وغيرها. إنّ تصادم الجيل الثالث للتنوير مع الإسلام السياسي فاقَمَ من الأزمة وعمّق من اعتقاد هذا الجيل بضرورة التغيير الذي يطرحه.

ج ـ أولويّة الجانب الروحي في الدين، حيث اعتبر هذا الجيل أنّ الجانب المعنوي والروحي اليوم هو الأكثر ضرورةً في مواجهة أزمات الإنسان المعاصر، وتحريره من العبثيّة والعدميّة والآلام الروحيّة والفراغ والانتحار والوحدة والقلق والاكتئاب والتلاشي، وغير ذلك، وأنّ هذا الجانب هو الذي يعطي الحياة معناها.

د ـ تحقيق قدرة الدين على التكيّف مع العناصر المقوّمة للحداثة، والتي يعتقد الكثير من أنصار الجيل الثالث للتنوير أنّه لم يعد يمكن للبشرية أن تتجاوز القيم المقوّمة للحداثة مثل: العقلانيّة، والحريّة، والإنسانيّة، ونبذ التعصّب، ونفي القداسات المطلقة، وزوال مفهوم التعبّد، وانهيار الوثوق بالتاريخ وغير ذلك.

التنوير الثالث بين إيران والشيعة العرب

ما كنّا نتكلّم عنه منذ بداية هذه الورقة المتواضعة يغلب نفوذه اليوم شيعيّاً في الأوساط الإيرانيّة، ويتراجع نسبيّاً في الأوساط العربيّة، فالشيعة العرب ما زالوا أقرب إلى النزعة الفقهيّة التاريخيّة النصيّة منهم إلى نزعات روحيّة من هذا النوع، ولعلّ من أسباب ذلك ما يرجع للتاريخ وما يعود للحاضر.

ومن ذلك على سبيل المثال:

أ ـ تأثير المدّ الإخباري الذي كان معارضاً بقوّة في العصر الصفوي للتصوّف والعرفان والفلسفة، والذي كان يقوده المحدّثون من أمثال الحرّ العاملي (1104هـ) ومحمّد باقر المجلسي (1111هـ) وغيرهما.. تأثيره على مناطق واسعة من شمال الجزيرة العربيّة من البحرين اليوم وصولاً لجنوب العراق، مروراً بالقطيف والأحساء والكويت.

ب ـ الموقف الرسمي الكلاسيكي لحوزة النجف من الفلسفة والعرفان، والذي ما يزال مستمراً إلى اليوم، حيث تُبدي هذه الحوزة ـ بأغلب رموزها وشخصيّاتها ومدارسها ـ قلقاً من النزعات الصوفية الروحيّة، وتغلِّب الجانب الفقهي والنصّي على غيره في التعامل مع القضيّة الدينيّة، فكل شيء يُقرأ من منظار الفقه وعلوم الشريعة.

بينما على المقلب الإيراني، نجد أنّ التاريخ العميق للفلسفة والعرفان والتصوّف والنزعات الباطنيّة في إيران، لديه حضوره القويّ للغاية منذ ما قبل الإسلام وإلى اليوم، رغم وجود مرجعيّات دينية وتيّارات لا يُستهان بها في الحوزات العلميّة في إيران نفسها عارضت وتعارض الفلسفة والعرفان والتصوّف، خاصّةً في الشرق الإيراني، أعني في الحوزة العلميّة في مدينة مشهد والمدرسة التفكيكيّة الخراسانية التي يعدّ أمثال الأستاذ محمّد رضا الحكيمي من رموزها المعاصرين، كما يمكن اعتبار السيد علي السيستاني ـ المرجع الشيعي المعاصر ـ قريباً في التفكير منها؛ نتيجة تلمّذه على بعض رموزها، مثل الميرزا مهدي الإصفهاني (1365هـ).

إنّ الشخصيّة الإيرانيّة وتاريخ الأدب الإيراني مليئان بالنزوع الروحي والبعد الوجداني والعاطفي، ولهذا كان تقبّل مثل هذه النزعات اليوم في الفضاء الإيراني أكبر منه نسبيّاً في الفضاء العربي الشيعي (الشرق العربي).

ج ـ ولا يغيب عنّا أنّ وجود تجربة الدولة الدينيّة في إيران (دون وجود أنموذج شيعي آخر شبيه في العالم العربي)، وهي تجربة سلطة الفقه والشريعة، كانت أحد الأسباب الرئيسة لنهوض تيار روحي معنوي؛ لأنّ هذا التيار يعتبر ـ كما رأينا ـ أنّ المشكلة المركزيّة في الدين اليوم تكمن في الشريعة، وأنّ كلّ المشاكل القائمة مع السلطة الدينيّة السياسيّة ترجع لهذا الأمر.

هذا كلّه لا يعني أنّه لا توجد انعكاسات للتنوير الثالث في العالم العربي شيعيّاً، بل على العكس تماماً، هناك العديد من الرموز والشخصيّات والباحثين والنخب باتت أكثر ميلاً لذلك، لكنّ المشهد ما يزال محدوداً في تقديري قياساً بالحالة الإيرانيّة.

المراجع

الكتب:

ابن سينا، حسين بن عبد الله، الشفاء ـ الإلهيات، تحقيق: سعد زايد، إيران، مكتبة المرعشي، الطبعة الأولى، 1414هـ.

ابن عربي، محيى الدين، الفتوحات المكيّة، لبنان، دار صادر.

سروش، عبد الكريم، تفرّج صنع، طهران، مؤسسه فرهنكى صراط، الطبعة التاسعة، 2014.

سروش، عبد الكريم، قبض وبسط تئوريك شريعت، طهران، مؤسّسة فرهنكَي صراط، الطبعة الرابعة، 1995.

سروش، عبد الكريم، بسط تجربة نبوي، طهران، مؤسّسة فرهنكي صراط، الطبعة السادسة، 2013.

شبستري، محمد مجتهد، هرمنوتيك كتاب وسنّت، طهران، طرح نو، الطبعة الأولى، 1996.

شبستري، محمد مجتهد، نقدي بر قراءت رسمي از دين (بحرانها، جالشها، راه حلّها)، طهران، طرح نو، الطبعة الرابعة، 2011.

فنائي، أبو القاسم، اخلاق دين شناسى، طهران، نگاه معاصر، الطبعة الأولى، 2010.

ملكيان، مصطفى، مشتاقى ومهجورى، گفت و گوهايى در باب فرهنگ وسياست، طهران، 2006.

ملكيان، مصطفى، راهى به رهايى، جستارهايى در عقلانيت ومعنويت، طهران، مؤسسة نگاه معاصر.

ملكيان، مصطفى، مهر ماندگار، مقالاتى در اخلاق شناسى، طهران، مؤسّسة نگاه معاصر، 2002.

ملكيان، مصطفى، حديث آرزومندى، جستارهاى در باب عقلانيّت ومعنويّت، مؤسسة نگاه معاصر، 2010.

النائيني، محمد حسين، تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة، ترجمة: عبدالمحسن آل نجف، مصر ولبنان، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، الطبعة الأولى، 2012.

Daved R. Law, Inspiration, London, continuum, 2011.

الدوريات:

بازرگان، مهدي، آخرت وخدا هدف بعثت انبيا، مجلة كيان، العدد 28، 1995، ص 46 ـ 61.

_______________

([1]) شارك هذا البحث في مؤتمر «الإسلام وسرديّات التنوير: المفهوم وإمكانات التأسيس»، والذي عقده المعهد العالي للدراسات الإسلاميّة بجامعة مونستر في ألمانيا، بتاريخ 20 و21 ـ 11 ـ 2020م.

([2]) لاحظ ـ على سبيل المثال ـ تبعيّة الدكتور عبد الكريم سروش لكارل بوبر في أسطوريّة الاستقراء في نقده على السيّد باقر الصدر، في كتابه: تفرّج صنع (طهران، مؤسسه فرهنكى صراط، الطبعة التاسعة 2014) ص 426 ـ 467. حيث يظهر بوضوح تبنّي النقد المعرفي، أمّا الدكتور مصطفى ملكيان فهو واضح ـ من كتبه المتعدّدة ـ في تشكيكه القويّ بالجانب النظري للعقل خاصّة في مجال الميتافيزيقيّات والتاريخ.

([3]) لاحظ ـ على سبيل المثال ـ أعمال الدكتور آرش نراقي في تبريره المثليّة الجنسية دينيّاً على أساس أخلاقي، وسعيه لإعادة قراءة النصّ الديني في الكتاب والسنّة على أساس معيارية العقل الأخلاقي الإنساني.

([4]) انظر: أبو القاسم فنائي، اخلاق دين شناسى (طهران، نشر نگاه معاصر، الطبعة الأولى، 2010م)، ص 33 ـ 108.

([5]) أعني بتعبير "بازركان الثاني" مهدي بازركان في مرحلته العمريّة المتأخّرة، وهي التي بدأت تتبلور منذ نهايات السبعينات، لتختمر في عام 1992م بإلقائه محاضرة شهيرة حول الهدف من بعثة الأنبياء، حيث اعتبره أمران: التوحيد، والآخرة؛ ولهذا عرف بازركان بأنّه منظّر فكرة أخرويّة الدين في ثقافة التنوير الإمامي الحديثة. وقد أجريت تعديلات على نصّ المحاضرة لاحقاً، ثم نشرت باللغة الفارسيّة: مهدي بازرگان، آخرت وخدا هدف بعثت انبيا، مجلة كيان، العدد 28 (1995م)، ص 46 ـ 61.

([6]) يمكن مراجعة إشارات كثيرة لهذه الفكرة عنده، خاصّة في كتابيه: هرمنوتيك كتاب وسنّت، ونقدى بر قراءت رسمى از دين.

([7]) تعني هذه النظريّة التي تحدّث عنها سروش في كتاب بسط تجربه نبوي، أنّ الأديان لا تأتي لتعطي الصيغة الكاملة والنهائية للأمور، لا في مجال الاعتقادات، ولا في مجال السلوك والشرع والأخلاق، ولا في مجال الحقائق الخارجيّة في العالم، بل على العكس من ذلك تماماً، هي تعطي الحدّ الأدنى الذي يحمل في داخله مؤشر التطوير، وعلى البشر أنفسهم ممارسة هذا التطوير كلّ حسب زمانه، بما يحمي المسار المرسوم مسبقاً، فأساليب الطهارة التي وضعتها الشريعة لا تعني حصول الصيغة العليا للطهارة، بل هي الصيغة البسيطة لها، وعلى البشر في كلّ زمان أن يأخذوا الموجّه العام (وهو ضرورة التنقية والنظافة والطهارة) بوصفه مؤشراً على الطريق، لكي يقوموا بصياغة أساليب الطهارة بما عندهم من أدوات وأنماط عيش، وبهذا تضع الأديان الصيغ الأقلّ لكلّ شيء، لكنّ هذه الصيغ تحمل في داخلها الموجّه العام للطريق الذي على البشر سلوكه لتطوير هذه الصيغة زمكانيّاً بما يتناسب وأوضاعهم.

([8]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: ابن سينا، الشفاء ـ الإلهيات، تحقيق: سعد زايد، (إيران، مكتبة المرعشي، الطبعة الأولى، 1414هـ) ص 441 ـ 442.

([9]) من أمثال مصطفى ملكيان.

([10]) لا يتفاعل هذا التنوير مع النزعات الفلسفية الكلاميّة التأويلية التي يهمّها كثيراً تبرير مضمون النصوص الدينيّة، أو السعي أحياناً لجعل العقل في خدمة اللاهوت.

([11]) لاحظ ـ على سبيل المثال ـ نظريّة محمد مجتهد الشبستري بعنوان: توقّعات البشر من الدين، والتي تصرّ على أنّ دور النصّ في الحياة يتحدّد تبعاً لأسئلتنا وحاجاتنا وتوقّعاتنا منه قبل البدء بالحوار معه، لهذا فإذا لم نتوقّع من النصوص أن تعالج صحّتنا، بقراءة فلسفية للتوقّع، بل رأينا ذلك من وظائف العقول التجربيّة.. فلا معنى للتحاور مع النص واستنطاقه في علاجات طبيّة، وكل نصّ في هذا الإطار نكون غير معنيّين به منذ البداية، فنحن قبل البدء بالرجوع للنصّ نحدّد إطاره ومرجعيّته وقيمته ومساحة نشاطه بمقاربة عقلانيّة تعتمد فهم دور الدين في حياة الإنسان، وبهذا تقدّم القراءة الفلسفيّة المخارجة للنص تحديداً لمرجعيّة النص وسلطته.

([12]) لاحظ ـ على سبيل المثال ـ نظريّة "الدين بحدّه الأدنى" لعبد الكريم سروش، والتي أشرنا إليها آنفاً.

([13]) منذ أكثر من عقد من الزمان، التهبت الساحة الفكريّة بالمقولة التي دافع عنها عبد الكريم سروش ومجتهد شبستري، ونسبها بعضهم لبعض العرفاء والمتصوّفة القدامى، والتي ترى أنّ الوحي لا يستوعب الألفاظ والصياغات، فالنبيّ توحى إليه روح الرسالة، لكنّه بجهده البشري الخاضع للزمان والمكان يقوم بصياغة هذه الإيحاءات في عالم المفاهيم والعقل عبر ألفاظ ومفاهيم تنتمي لعصره وزمانه، والمطلوب من الاجتهاد الديني تجريد النص من شكله الخارجي لأخذ روح القضيّة والرسالة التي يريدها. وهذا يعني أنّ القرآن الكريم ـ مثلاً ـ بصورته التي نعرفها عنه اليوم، هو مزيج مركّب مندمج من صنيعة إلهيّة وأخرى نبويّة بشريّة، ففي عالم فوق عالم الحسّ والعقل يتلقّى النبيّ روح الرسالة، لكنّه في عالم صحوه يعيد إنتاج ما تلقّاه، عبر اللغة التي تحمل مفاهيم زمانه وقضاياه، وبهذه الطريقة اعتقد سروش وأنصاره أنّ بإمكاننا تحرير النصّ الديني من إشكاليّة التناقض مع العلم؛ لأنّ جانب التناقض مع العلم ليس سوى المنتَج النبوي المنتمي للفضاء الزمني الثقافي للنبيّ نفسه، وليس المنتَج الإلهي المتعالي عن الزمكانيّات.

وفي تقديري، فإنّ سروش قد تأثر في هذه المقولة بالفكر اللاهوتي المسيحي الحديث أكثر من تأثره بما يُنسب لبعض العرفاء ـ مثل ابن عربي ـ من أنّ النبيَّ مترجمُ الوحي وفقاً لما فُهم من كلامه: محيى الدين ابن عربي، الفتوحات المكيّة (بيروت، دار صادر)، ج 3، ص 108؛ لأنّ الفكر اللاهوتي الحديث منقسم على نفسه إزاء لفظيّة الوحي وعدم لفظيّته، وثمّة العديد من وجهات النظر في هذا الصدد يمكن مراجعتها، قد تبلغ الثماني نظريّات أو أكثر، فراجع ـ على سبيل المثال ـ ما كتبه:

Daved R. Law, Inspiration, (London, continuum, 2011), p. 41 _ 144.