قاعدة اللطف في التفكير المعتزلي وأتباعه ـ قراءة تحليلية وكشف لمكامن الضعف التطبيقي
حيدر حبّ الله([1])
تمهيد
تعتبر قاعدة اللطف عند العدليّة ـ وخلافاً للاشاعرة الذين أنكروها ـ من أهمّ قواعد علم الكلام الإسلامي بعد قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين، وقد بُنيت عليها العديدُ من المعتقدات الدينيّة والنتائج البالغة الأهميّة في علم الكلام، من نوع: وجوب التكليف، ووجوب البعثة، ووجوب العصمة، ووجوب نصب الإمام، ووجوب الوعد والوعيد، وقضايا في الثواب والعقاب، وغير ذلك. بل لقد تمدّدت هذه القاعدة عند الإماميّة لتصل إلى علم أصول الفقه وعلم الفقه أيضاً، فاستعانوا بها في علم الأصول في مباحث الإجماع؛ لتأسيس ما عُرف بالإجماع اللطفي، الذي نظّر له الشيخ أبو جعفر الطوسي (460هـ)، فيما استعانوا بها في علم الفقه في مواضع عدّة منها مباحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومباحث ولاية الفقيه العامّة.
مطالعة تاريخيّة مختصرة حول القاعدة
يبدو أنّ قاعدة اللطف ترجع إلى القرن الثاني الهجري، وفي ظنّي أنّها ولدت وسط جوّ من النقاش، إذ نجد أنّ هناك بين المعتزلة أنفسهم من كانت له مواقف متحفّظة على القاعدة بدرجةٍ أو بأخرى، ومن أبرزهم: بشر بن المعتمر (210هـ)، وجعفر بن حرب (236هـ) تلميذ أبي الهذيل العلاف، وهما من كبار متكلّمي معتزلة بغداد الأوائل. وقد ناقش المتكلّمون العدليّة مداخلات هذين المتكلّمَين كما نلاحظ بوضوح في كتابات القاضي عبد الجبار المعتزلي.
وعلى المستوى الشيعي، ثمّة من يعتبر أنّ هشام بن الحكم (179 أو 199هـ) كان قد بحث هذه القاعدة، وأنّ كتابه “الألطاف” يرجع في الحقيقة إليها، غير أنّ إثبات هذا الأمر عسير إذا لم تتوفّر نسخة من هذا الكتاب أو من ينقل عنه بما يوضح مضمونه.
ويرى المتكلّم الإمامي المعاصر الشيخ جعفر السبحاني أنّ فكرة قاعدة اللطف دخلت إلى علم الكلام الإمامي في القرن الثالث الهجري زمان الفضل بن شاذان (260هـ)، معتبراً أنّ الفضل بن شاذان ذُكر له في كتب الفهارس كتاب باسم “كتاب اللطيف”([2])، وأنّ هذا العنوان وقع فيه تصحيف، ويبدو أنّ العنوان الأصلي هو “كتاب اللطف”([3]).
غير أنّ محاولة السبحاني هذه غير مقنعة، فإنّ عنوان “كتاب اللطيف” قد نُسب للعديد من العلماء المسلمين أنّهم صنّفوا كتباً بهذا الإسم، فهذا الإسم متداوَل، وهو منطقي جداً لأنّه من العناوين التفنّنيّة، بل ذكر ابن النديم أنّ أبا جعفر الطبري له كتاب سمّاه ابن النديم: «كتاب اللطيف في الفقه»، حيث قال: «وله مذهبٌ في الفقه اختاره لنفسه. وله في ذلك عدّة كتب، منها: كتاب اللطيف في الفقه، ويحتوي على عدّة كتب على مثال كتب الفقهاء في المبسوط..»([4]). وهذا يدلّ على أنّ هذا النوع من العناوين كان موجوداً ولعلّ كتاب ابن شاذان في الفقه أو في اللغة أو في علم الكلام بعيداً عن قاعدة اللطف.
من هنا، لا نعرف من هو الذي أبدع هذه القاعدة في تاريخ علم الكلام، ومن هو الذي سمّاها بهذا الاسم.
من هنا، يمكننا القول بأنّ القاعدة ولدت في القرن الثاني الهجري معتزليّاً ونفذت إلى الشيعة الإماميّة في القرن الثالث أو الرابع الهجري. وقد آمنت بها الإماميّة لقرون وإلى يومنا هذا، غير أنّ العصر الحديث شهد مناقشات مستأنفة تمخّض عنها تراجع بعض كبار علماء الإماميّة عن القاعدة رغم دورها الهائل الذي تلعبه وما تزال في إثبات قضايا تعتبر عند الإماميّة من أساسيات المذهب. ويمكنني في هذا السياق أن أذكر بعض العلماء الذي تحفّظوا على القبول بهذه القاعدة من أساسها أو في تطبيقها، مثل السيّد روح الله الخميني والسيّد الخوئي والسيد مصطفى الخميني والشيخ آصف محسني وغيرهم([5]). وقبل هؤلاء جميعاً كان الشيخ أحمد النراقي مؤمناً بأصل القاعدة، لكنّه أنكر القدرة على تطبيقها وتوظيفها([6]). لكنّ القاعدة ما تزال إلى اليوم ذات حضور سائد ومهيمن في علم الكلام الإمامي.
وإذا أردت العبور من السياق التاريخي نحو مفهوم القاعدة بشكل مختصر ومبسّط للغاية، فيمكن القول بأنّها تنطلق من الاعتقاد بأنّه يجب على الله ـ أو من الله ـ القيام بكلّ ما يمكنه أن يقرّب العباد إلى طاعته ويبعدهم عن معصيته مثل إرسال الرسل.
مفهوم اللطف في علم الكلام الإسلامي وأقسامه (المحصِّل والمقرِّب)
اللطف في اصطلاح المتكلّمين هنا صفةٌ تلحق الفعل الإلهي؛ انطلاقاً من الحكمة الإلهيّة (أو العدل الإلهي) أو الجود والكرم الإلهيّين، وقد يعبّر به عن الفعل الإلهي المنطلق من هذه الصفات.
ولكي نفهم اللطف عند المتكلّمين يجب أن نفهم النوعين الأساسيّين له؛ لأنّ عدم فهمهما وعدم التمييز بينهما يوجب الوقوع في الكثير من الأخطاء، وهما([7]):
اللطف المقرِّب: ويُقصد به اللطف الذي يقرِّب العبد من الطاعة ويبعده عن المعصية دون أن يكون هناك إلجاء.
قال العلامة الحلّي: «اللطف هو ما يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد من فعل المعصية ولم يكن له حظّ في التمكين([8]) ولم يبلغ حدّ الإلجاء. واحترزنا بقولنا: ولم يكن له حظّ في التمكين، عن الآلة، فإنّ لها حظّاً في التمكين وليست لطفاً. وقولنا: ولم يبلغ حدّ الإلجاء؛ لأنّ الإلجاء ينافي التكليف، واللطف لا ينافيه. هذا اللطف المقرِّب»([9]).
الفكرة المركزيّة في اللطف المقرّب تكمن في أنّ الله لو لم يقم بهذا اللطف فإنّ إمكانية وفرص قيام العبد بالطاعة وترك المعصية قائمة، غاية الأمر أنّ الله بقيامه بهذا اللطف يجعل العبد في حال هو أقربَ فيها للطاعة وأبعد عن المعصية.
اللطف المحصِّل: ويقصد به كلّ فعل يقوم به الله سبحانه بحيث مع وجوده يحقّق العبد الطاعة فتقع منه، ومع عدمه لا يقدر العبد على تحقيق الطاعة، فإذا كان الفعل طاعةً سمّي “توفيقاً”، وإذا كان ترك معصيةٍ سمّي “عصمةً”، وذلك عندما يلاحظون مرحلة ما بعد تحقّق الطاعة من العبد، فبعد تحقّق الطاعة يسندون ذلك للطف الإلهي.
وهذا معنى قولهم بأنّه لولاه لم يقع الغرض، قال العلامة الحلّي: «وقد يكون اللطف محصِّلاً وهو ما يحصل عنده الطاعة من المكلّف على سبيل الاختيار، ولولاه لم يُطع مع تمكّنه في الحالين»([10]). فعندما أقول مثلاً بأنّ غرض الله سبحانه هو طاعة العباد له وعبادتهم له، ثم أقول بأنّ النبوّة تحقّق ذلك ولولاها لم يتحقّق ذلك، فهذا معناه أنّ بعث الأنبياء لطفٌ محصّل بالنسبة لمن تحقّق منه الطاعة. أمّا لو قلت بأنّ العباد يمكن أن يحقّقوا الطاعة لله دون بعث الأنبياء، لكنّ بعث الأنبياء يقرّبهم من تحقيق هذه الطاعة، ولم نلاحظ تحقّق الطاعة بعدُ منهم، فهنا سوف يكون اللطف مقرّباً.
قال القاضي عبد الجبار المعتزلي (415هـ)، معرّفاً اللطف: «إعلم أنّ اللطف هو كلّ ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنّب القبيح، أو ما يكون عنده أقرب إمّا إلى اختيار أو إلى ترك القبيح»([11]).
يبدو لنا هنا ملاحظة المتكلّم لعنصرين في اللطف المحصّل:
أحدهما ملاحظة الحال بعد تحقّق الطاعة.
وثانيهما ملاحظة نسبة الطاعة إلى اللطف، بحيث من دون اللطف ما كانت الطاعة لتقع.
والظاهر من خلال كلماتهم أنّ العنصر المقوّم للمحصّل هو حال المكلف من حيث تحقيقه الطاعة بعد اللطف أو لا، وهذا ما يجعل تقسيم اللطف إلى محصّل ومقرّب نسبيّاً تماماً ذا صلة بالعبد لا بالمولى فاعل اللطف، بمعنى أنّ قيام الله بالفعل الفلاني إذا قرّب زيداً من الطاعة وصارت دواعيه لها أكثر وصار على مشارف فعلها، لكنّه مثلاً لم يقم بها، فإنّ هذا الفعل الإلهي يكون لطفاً مقرِّباً بالنسبة إليه، لكنّ هذا الفعل الإلهي بعينه إذا أدّى في عمرو إلى قيامه بالطاعة وتحقّقها منه، أطلق على الفعل الإلهي عينه بأنّه محصّل في حقّ عمرو، وهذا ما يُرجع التقسيم لمعيار نسبيّ مرتبط بالأفراد أنفسهم، لا بجوهر ذاتي في الفعل الإلهي أو في فاعل اللطف، فالتقسيم ليس في نوع اللطف، بل فيما يلحقه.
المثال السائد بين علماء الكلام، وذكره المعتزلة والإماميّة معاً، هو أنّه لو وجّه شخصٌ دعوةً لضيف إلى بيته، وكان غرضه أن يُقدم هذا الضيف ليتناول الغداء معه، لكنّه يعرف بأنّ هذا الضيف لن يُقدم إذا لم يقم المضيف بإرسال ولده لدعوته، والكون برفقته حتى يصلا إلى البيت، ففي هذه الحال إذا لم يُرسل المضِيفُ ولدَه سيكون قد نَقَضَ غرضه، ولولا إرسال الولد لما تحقّق مجيء الضيف، ولو تحقّق مجيء الضيف فلإرسال الولد دورٌ في ذلك بالتأكيد. إنّ هذا اللطف هنا بعد مجيء الضيف بالفعل محصّلٌ. أمّا لو كان من الممكن أن يأتي الضيف ولو من دون إرسال الولد، لكن يوجد إمكانيّة لعدم مجيئه، وكان إرسال الولد يقوّي من عزيمته للمجيء ويقرّبه من ذلك، ومع ذلك لم يأتِ، فإنّ هذا اللطفَ سيكون مقرِّباً.
لكن في المقابل قد يقودنا التأمّل إلى تحليل آخر لكلام المتكلّمين هنا، وذلك بجعل معيار التقسيم الى محصّل ومقرّب حقيقيّاً راجعاً لنوعيّة الفعل الإلهي في علاقته بالعبد، لا لقياس نسبة تجاوب الأفراد مع اللطف الإلهي؛ وذلك بأن نقول:
اللطف المقرّب هو الذي يمكن للعبد أن يحقّق الطاعة من دونه، لكنّه يلعب دوراً في رفع درجة الداعي والإمكانيّة عنده لتحقيقها.
اللطف المحصّل هو اللطف الذي لا يمكن للعبد أن يحقّق الطاعة من دونه، فهو محتاج جداً له كي يتمكّن من تحقيقها، لكن بوجود اللطف المحصّل لا تتحقّق الطاعة بنحو القهر، بل يظلّ العبد قادراً عليها وعلى المعصية، حتى لا يلزم الإلجاء.
هذا يعني أنّهما يتجوهران بإمكان تحقيق العبد الطاعة من دون اللطف وعدمه، وإنّما عبّر عن المحصّل بذلك وأخذ قيد تحقّق الطاعة من العبد لكي يُشار إلى أنّ ما تحقّق من العبد يكون رهيناً باللطف، بينما لم يؤخذ قيد التحقّق في اللطف المقرّب للإشارة إلى أنّ الطاعة ليست رهينة باللطف وبهذا يكون اللطف مجرّد محفّز إضافي للطاعة.
هذه الفرضية في تفسير كلماتهم تهدف لرفع اللَّغْوِيَّة عن هذا التنويع، فما قيمة تحقّق الطاعة من العبد أو عدم تحقّقها في وضع نوعين من اللطف؟ وما هي حاجة المتكلّم لذلك أصلاً؟ بينما على ما قلناه تكون الحاجة عالية؛ لأنّ المحصّل سوف يكون أقوى مصاديق اللطف وأعلى درجةً من اللطف المقرّب، الأمر الذي يفتح الطريق على متكلّمٍ ما أن يقتنع بوجوب اللطف المحصّل دون المقرّب.
ولعلّ ما يساعد على ذلك أيضاً ذكرهم «عدم الحظّ في التمكين» في اللطف المقرّب دون المحصّل، الذي اكتفوا فيه بإثبات الاختيار وعدم الإلجاء كما رأينا في عبارة الحلّي، فهذا يعني أنّ المحصّل له حظّ في التمكين، بمعنى أنّه لولاه لم يكن العبد ليحقّق هذه الطاعة، فهو محتاج إليه حقّاً كي يفتح الطريق أمامه لتحصيل الطاعات.
وعلى أيّة حال، فهذا تفسير محتمل يخضع للتأمّل.
والصورتان اللتان يحملهما مفهوم المحصّل والمقرّب يمكنهما أن تؤدّيا إلى اختلاف مواقف المتكلّمين؛ فقد يرفضون الاثنين معاً، وقد يوافقون عليهما، وقد تجد من يذكر أحدهما دون الآخر، فهذا التقسيم ليس للتفنّن، بل تكمن خلفه مواقف نجمت عن سلسلة من النزاعات حول هذه القضيّة، وأدّت في تقديري لإعادة رسم خارطة مفهوم اللطف، بغية تحديد أيّ نوع منه هو الواجب لو قلنا بوجوبه.
من هنا، نلاحظ أنّ بعض المتكلّمين لم يعرّف اللطف إلا باللطف المحصّل، وكأنّه لم يفهم قاعدة اللطف إلا في سياق هذا النوع منه، في حين نجد آخرين على العكس تماماً، بل أحياناً يستدلّ متكلّمٌ بقاعدة اللطف في مورد يكون من موارد المحصّل، في حين يستدلّ آخر بمورد من موارد المقرّب، الأمر الذي يفرض جهداً كبيراً لمعرفة ما هي صورة اللطف عند هذا المتكلّم أو ذاك؟ بل قد تجد متكلّماً يعرّف اللطف باللطف المحصّل، لكنه يوظّف قاعدة اللطف في موارد اللطف المقرِّب!
ومن الممكن أن يقال ـ عوداً على التفسير الأوّل السائد لهذا التقسيم ـ بأنّه حيث كان الاختلاف بين المقرّب والمحصل نسبيّاً فقط، لهذا سهل توظيف أحدهما في موضع الآخر، وسنرى لاحقاً حقيقة هذا الأمر([12]).
الأمر المهمّ هنا هو أنّ مقارنة اللطف المحصّل بالمقرّب تكشف لنا أنّ اللطف المقرّب أوسع نطاقاً من المحصّل؛ لأنّ كلّ الدائرة التي يستوعبها اللطف المحصّل يمكن للمقرّب أن يستوعبها وما يزيد، فالمقرّب هو ما يقرّب العبد من الطاعة، وهذا التعريف يستوعب ذاك الذي يقرّب العبد منها إلى حدّ وقوعها بالفعل ولولاه لم تقع الطاعة منه.
لكنّ عملية الفرز بين النوعين في كلمات بعض المتكلّمين تشي بأنّهم ـ بعضهم على الأقلّ ـ يفهمون المقرّب خاصّاً بحالات إمكان تحقّق الطاعة من العبد من دون اللطف، وهذا القيد يجعل المحصّل مبايناً للمقرّب كما هو واضح.
لست أريد هنا الدخول في تفاصيل تعريفاتهم؛ لأنّ حجم الاختلافات في التعابير وحجم الالتباسات هنا غير مسبوق، بل سيأتي أنّهم أحياناً يستدلّون باللطف ويقصدون المقرّب وأحياناً يقصدون المحصّل، رغم اختلاف المواقف بين هذين النوعين.
اللطف المقرّب والمحصل، والتعريف المختلف للسبحاني
لكنّني سأشير إلى تعريف الشيخ جعفر السبحاني هنا، والمثير للالتباس، حيث قال: «اللّطف المحصِّل عبارة عن القيام بالمبادي والمقدّمات التي يتوقّف عليها تحقّق غرض الخلقة، وصونها عن العبث واللغو، بحيث لولا القيام بهذه المبادي والمقدّمات من جانبه سبحانه، لصار فعله فارغاً عن الغاية، وناقض حكمته التي تستلزم التحرّز عن العبث. وذلك كبيان تكاليف الإنسان، وإعطائه القدرة على امتثالها. ومن هذا الباب بعث الرسل لتبيين طريق السعادة، وتيسير سلوكها. وقد عرفت في الأدلة السابقة، أنّ الإنسان أقصر من أن ينال المعارف الحقّة، أو يهتدي إلى طريق السعادة في الحياة، بالاعتماد على عقله، والاستغناء عن التعليم السماوي. ووجوب اللطف بهذا المعنى، ليس موضع مناقشة لدى القائلين بحكمته سبحانه، وتنزيهه عن الفعل العبثي الذي اتفق عليه العقل والنقل. وإنّما الكلام في «اللطف المقرّب»، وإليك البيان فيه. اللّطف المقرّب: عبارة عن القيام بما يكون محصّلاً لغرض التكليف بحيث لولاه لما حصل الغرض منه، وذلك كالوعد، والوعيد، والترغيب والترهيب، التي تستتبع رغبة العبد إلى العمل، وبُعده عن المعصية. وهذا النوع من اللطف ليس دخيلاً في تمكين العبد من الطاعة، بل هو قادر على الطاعة وترك المخالفة سواء أكان هناك وعد أم لا، فإنّ القدرة على الامتثال رهن التعرّف على التكليف عن طريق الأنبياء، مضافاً إلى إعطاء الطاقات المادّية. والمفروض حصول هذه المبادي والمقدّمات، غير أنّ كثيراً من الناس لا يقومون بواجبهم بمجرّد الوقوف على التكليف ما لم يكن هناك وعد ووعيد وترغيب وترهيب، فهذا النوع من اللطف قد وقع موقع النقاش بين المتكلّمين. والحقّ هو القول بوجوب اللطف إذا كان غرض التكليف (لا غرض الخلقة)، موقوفاً عليه عند الأكثريّة الساحقة من المكلّفين»([13]).
هذا التعريف الذي يقدّمه السبحاني يبدو غير مألوف في المدوّنات الكلامية عند العدليّة، بل ربما لا تجد أحداً عبّر عن اللطف بذلك، أو عرّف أنواعه بهذه التعريفات بالتمييز بين غرض الخلقة وغرض التكليف وما يترتب على ذلك من نتائج، فلعلّ السبحاني يقدّم تعريفه الخاصّ لهذه المصطلحات هنا.
وهذا يعني أنّ السبحاني قد أجرى تعديلاً مهمّاً في نظريّة اللطف عند الإماميّة؛ لأنّه بهذين التعريفين لنوعَي اللطف يكون قد حذف عمليّاً اللطفَ المقرّب بتعريفه السائد في الكثير من مصاديقه على الأقلّ؛ لأنّه عندما يقول بأنّ اللطف المقرّب مرتبط بغرض التكليف، ولولاه لم يتحقّق الغرض من التكليف، فهذا معناه أنّ المقرّب ليس مجرّد مقرّب للعباد إلى الطاعة ومُبعِد لهم عن المعصية، بل ثمّة قيد إضافي، وهو أنّه من دونه فإنّ غالب الناس لن يقوموا بفعل الطاعة، وينتج عن ذلك أنّه لو كان فعلٌ ما يقرّب العباد من الطاعة لكنّ غالب الناس يمكن أن ينبعثوا للطاعة من دونه، وفقط بعضٌ قليل من الناس لا ينبعث من دونه، فإنّ هذا اللطف يكون عند السبحاني خارج إطار قاعدة اللطف كلّها، بينما يفترض على تعريفات جمهور المتكلّمين أن يكون داخلاً.
وكأنّي بالسبحاني انتبه إلى أنّ مفهوم اللطف الكلاسيكي لم يعد يمكن الانتصار له، فغيّره ناحية مفهوم نقض الغرض، منوّعاً الغرض إلى غرض خِلقة وغرض تكليف، وبهذا سهّل الأمر على نفسه لإثبات القاعدة، وتلافى المشكلات السابقة، وعاد في الحقيقة لحصر اللطف بالمحصّل بمعنى خاصّ، ولهذا نجده توصّل إلى النتيجة الآتية بقوله: «هذا كلام القائلين بوجوب اللطف، وهو على إطلاقه غير تام، بل الحقّ هو التفصيل بين ما يكون مؤثراً في تحقّق التكليف بشكلٍ عام بين المكلّفين، فيجب من باب الحكمة، وإلا فيرجع إلى جوده وتفضّله من دون إيجابٍ عليه»([14]).
شروط اللطف
ذكر المتكلّمون شروطاً للطف، تضمّنتها بعضُ العبارات التي نقلناها سابقاً، ولمجرّد التوضيح نبيّنها هنا.
الشرط الأوّل: أن لا يكون اللطف هو الذي يجعل المكلّف قادراً على الإتيان بالتكليف، بمعنى أنّه لولا اللطف لم تكن لديه قدرة.
وسبب هذا الشرط أنّ اللطف متفرّع على التكليف، ولا تكليف إذا لم تكن هناك قدرة؛ لأنّ القدرة من الشروط العامّة للتكليف، فالقدرة تأتي في المرحلة الأولى، يتلوها التكليف، وهنا يأتي دور اللطف؛ ليقرّب العبد من أداء التكليف؛ لأنّ اللطف ـ كما قلنا ـ هو نوعٌ من الإدارة الحكيمة لحركة التكليف في حياة العباد؛ بهدف تحقيقهم ما كُلّفوا به.
الشرط الثاني: أن لا يبلغ اللطف حدّ الإلجاء، بمعنى أن لا يكون هذا اللطف بنحوٍ يُقدم العباد معه على الطاعة جبراً وقهراً ومن دون اختيارهم، فاللطف لا يسلب العبادَ اختيارَهم، وإلا يلزم الجبر، بل يلزم عدم تحقّق مفهوم الطاعة بالمعنى الدقيق للكلمة. وبتعبيرٍ مختصر: اللطف فرع التكليف، ومع سلب الاختيار لا معنى للتكليف.
الشرط الثالث: أن يعرف المكلّف باللطف بنحوٍ من الأنحاء، وسبب ذلك أنّه إذا لم يدركه أو يشعر به أو يصبح على تماسّ معه، فلن يكون اللطف بمثابة الداعي المحرّك له والمقرّب نحو الطاعة، وبهذا الشرط يخرجون بعض الأفعال الإلهيّة التي لا يصل صداها للعباد.
قاعدة اللطف، الأدلّة والشواهد
سوف نقوم ـ أوّلاً ـ بعرض الأدلّة التي ساقها المنتصرون لقاعدة اللطف، ثم ننظر ـ ثانياً ـ في مقاربات الرافضين لها. وقد قدّم المنتصرون سلسلةً من الأدلّة على تصحيح هذه القاعدة، بعضُها يتصل باللطف المحصّل، وبعضٌ آخر بالمقرّب كما سوف نلاحظ، وأهمّ أدلّتهم هو الآتي:
1 ـ برهان الحكمة ونقض الغرض
الدليل الأوّل هنا، والذي نجمع به سلسلة من بياناتهم المتنوّعة التي ترجع لمضمون واحد، هو برهان الحكمة، وهو ما أوجزه الخواجة الطوسي في التجريد حيث قال: «اللطف واجبٌ؛ لتحصيل الغرض به»، وهو ما علّق عليه العلامة الحلّي موضحاً له([15]).
قال القاضي عبد الجبار المعتزلي: «الذي يدلّ على صحّة ما اخترناه من المذهب، هو أنّه تعالى إذا كلّف المكلف وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب، وعلم أنّ في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح، فلابدّ من أن يفعل به ذلك الفعل، وإلا عاد بالنقض على غرضه، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتخذه، وعلم من حاله أنّه لا يجيبه إلى طعامه إلا إذا بعث إليه بعض أعزّته من ولد أو غيره، فإنه يجب عليه أن يبعث، حتى إذا لم يفعل عاد بالنقض على غرضه، كذلك هاهنا»([16]).
ويقول الشيخ المفيد، ضمن صياغة أخرى لهذا الدليل مع وحدة المضمون: «فإن قيل: ما الدليل على أنّ نصب الأنبياء والرسل واجب في الحكمة؟ فالجواب: الدليل على ذلك أنّه لطف، واللطف واجبٌ في الحكمة، فنصب الأنبياء والرسل واجب في الحكمة. فإن قيل: ما حدّ اللطف؟ فالجواب: اللطف هو ما يقرب المكلّف معه من الطاعة ويبعد عن المعصية، ولا حظّ له في التمكين ولم يبلغ الإلجاء. فإن قيل: ما الدليل على أنّ اللطف واجب في الحكمة؟ فالجواب: الدليل على وجوبه توقّف غرض المكلّف عليه، فيكون واجباً في الحكمة وهو المطلوب»([17]).
تركيبة هذا الاستدلال تقوم على:
اللطف موجبٌ لتحصيل الغرض
كلّ ما يوجب تحصيل الغرض فهو واجب؛ إذ لو لم يجب يلزم نقض الغرض، وهو ما يقبح صدوره من الحكيم.
والنتيجة: كلّ لطفٍ واجب
برهان الحكمة، ملاحظات ومداخلات
لكنّ هذا الاستدلال يمكن التوقّف عنده ببعض المداخلات ذات الصلة؛ وذلك:
المداخلة الأولى: إن كان المقصود من اللطف في هذا الاستدلال هو اللطف المقرّب، كما يظهر من مثل الشيخ المفيد وابن ميثم البحراني وآخرين، فإنّ الدليل باطل؛ إذ لا دليل على أنّ ترك اللطف المقرّب يوجب نقض الغرض؛ لأنّ الغرض من التكليف هو عبارة عن فتح الباب أمام الناس للطاعة وترك المعصية لتحقيق الثواب والقرب وتجنّب العقاب والبُعد، وعدم تحقيق اللطف المقرّب لا يوجب ضياع هذا الغرض؛ إذ المفروض أنّ العبد في حالات عدم اللطف المقرّب قادر على الطاعة، وإمكانيّة تحقّقها منه قائمة أيضاً، ودوافعه لها متساوية مع دوافعه للمعصية، فكيف نعرف أنّ الغرض الإلهي ليس هو قيام العبد بالطاعة ضمن ظروف معقولة متساوية النسبة للطاعة والمعصية؟ وكيف نعرف أنّ غرضه كون العبد أقرب للطاعة منه للمعصية وليس غرضه تقريب العبد نفسه للطاعة في ظلّ ظروف متساوية أو في ظلّ ظروف تترجّح فيها المعصية ودوافعها، ويكون ذلك هو ابتلاؤه سبحانه للعباد؛ لمعرفة حالههم، والمفروض قدرتهم على المواجهة وتحقيق الطاعة؟
المداخلة الثانية: إذا كان المقصود باللطف هنا هو اللطف المحصّل، لزمنا النظر في معنى عدم إمكان تحقّق الطاعة من دونه على مستوى النوع البشري، وأنّه مع وجوده تتحقّق الطاعة:
أ ـ فإن قُصد أنّه نوعاً ومطلقاً لا تصدر الطاعة من العباد إلا باللطف المحصّل، وقُصد من عدم الصدور عدم القدرة، فهذا خروج عن البحث أساساً ومرتبط ببحث التكليف.
ب ـ أمّا إذا قصد أنّهم جميعاً لخُبث سريرتهم وسوء أدائهم ـ مع قدرتهم ـ لا يقومون بالطاعة بأجمعهم، فهنا من المعقول القبول بمثل هذا الاستدلال، لإثبات لزوم اللطف المحصّل بمعنى الذي يتوقّف عليه اندفاع العباد نحو الطاعة وكسر حالة التمرّد الشاملة الكاملة فيهم، لكنّني لا أظنّ أنّ مثل هذه الحال تنفع المتكلّم كثيراً هنا، أو يكون لها مصداقٌ منظور.
ج ـ أمّا لو كان المراد هو عدم قيام أغلبهم بهذه الطاعة من دون اللطف، لا جميعهم، وكان ذلك من الأغلب راجعاً لخبث سريرتهم، وغلبة الهوى عليهم، كما يعطي القرآن ذلك في غالبيّة الناس عندما يصف الإنسانَ بالكنود والجحود والكفور والجهول ونحو ذلك، فهنا لا دليل على أنّ المولى الحكيم يكون قد نقض غرضه بترك اللطف المحصّل، حتى يكون الترك هذا قبيحاً منه؛ لأنّ المفروض أنّ النوع البشري يمكنه الإتيان بالطاعة، وأنّ بعضهم يحقّقها بالفعل، غاية الأمر أنّ الغالبيّة لا يأتون بها لا لعجز أو قصور، بل لتقصير منهم، ففي مثل هذه الحال لا موجب لفرض القبح، ويكون عاقبة العاصين جميعاً هو العقاب.
ولكي أطبّق القضيّة على المثال الذي طرحوه، نلاحظ أنّ المثال يمكن أن يكون هو سبب المشكلة؛ لأنّ المضيف عندما يدعو ضيفه فهو يريده، وغرضه أن يكون عنده في البيت لتناول الطعام، ومن المنطقي هنا أن نقول بأنّه إذا كان هذا هو الغرض ولا يتأتّى من دون إرسال ولده، فمن القبيح منه والنقض لغرضه عدم فعل ذلك، لكنّ هذه الصورة ليست معلومة التطابق مع المشهد الذي نحن بصدده؛ لأنّنا لا نعلم أنّ غرض الله من التكاليف هو أن يدخل الناس الجنّة، بل أن يدخل الطائعُ الجنّة حتى لو كان الطائع قليلون، فإذا كان عدم الاستجابة منهم راجعاً لعصيانهم، فهذا ليس تقصيراً منه، بل تقصير منهم، وأيّ دليل على نقض غرضه في هذه الحال؛ فلعلّ غرضه دخول الطائعين النادرين فقط للجنّة، وكيف نعرف الغرض هنا؟!
المداخلة الثالثة: ما هو المراد من الغرض في هذا الاستدلال؟
من الواضح أنّ قاعدة اللطف تستهدف ـ كما ألمحنا من قبل ـ التكليفَ، فيكون معنى الغرض هنا هو الغرض من التكليف، فالله كلّف العباد، وله غرضٌ في ذلك، وهذا الدليل يرصد الغرض الإلهي من وراء التكليف، لكي يبني على ذلك قاعدةَ اللطف، فما هو الغرض الإلهي من التكاليف؟ ونحن هنا في هذه المداخلة لا نتحدّث عن غرضٍ تشريعيّ، بل تكويني، أي أنّنا نفترض أنّ الغرض قد أخذه القائلون بقاعدة اللطف بوصفه الغرض التكويني.
من الواضح لديهم جميعاً أنّ الغرض هو تحقّق الطاعة والعبادة، كما نصّ القرآن على أنّه خلق الإنس والجنّ ليعبدوه (الذاريات: 56)، فما معنى ذلك؟
ثمّة احتمالات المهمّ منها هو:
الاحتمال الأوّل: إنّ الغرض من التكليف هو قيام جميع الناس بالطاعة.
ومن الواضح أنّ هذا الغرض لم يتحقّق، فكيف يعقل أنّ الله خلق العالم لغرضٍ لم يتحقّق مع قدرته على تحقيق غرضه؟! أليس ذلك إثباتاً للعجز الإلهي؟!
الاحتمال الثاني: إنّ الغرض من التكليف هو قيام أغلب الناس بالطاعة.
ويواجه هذا الاحتمال ما واجهه الاحتمال السابق؛ لأنّ القرآن نفسه كشف أنّ أغلب الناس لم يكونوا مطيعين.
الاحتمال الثالث: إنّ الغرض من التكليف قيام بعض الناس ـ بنحو القضيّة المهملة ـ بالطاعة.
وهذا معقول جداً ومحتمل للغاية، ولا إشكال فيه، وقد تحقّق بالفعل.
ولا أقلّ من تردّد احتمال الغرض الإلهي بين أن يكون هو الاحتمال الثاني هنا والثالث.
ينجم عن ذلك أنّنا عندما نقول في هذا الدليل بأنّ اللطف موجبٌ لتحصيل الغرض، فنحن نريد أنّ اللطف موجب لتحقّق الطاعة من بعض الناس بنحو القضيّة المهملة، فلا يلزم على الله اللطف الذي يوجب تقريب عموم الناس أو أغلبهم للطاعة، أو لا تتحقّق الطاعة منهم إلا به، لأنّ المفروض أنّ هذا لا يُعلم أنّه غرضه، فإذا احتملنا في الغرض ـ ويكفي الاحتمال ـ أن يكون هو طاعة ولو بعضٍ قليل من الناس، لزم قياس اللطف عليهم لا على الإنسان بنوعه أو على العموم، ومن أين لنا معرفة احتياجاتهم؟! فلعلّهم عددٌ مبثوثٌ من الناس لا نعرف ملابسات أمورهم بحيث قد لا يحتاجون حتّى للنبوّات والإمام والوعد والوعيد والثواب والعقاب وغير ذلك في انصياعهم للعبوديّة وتحقيقهم لمقتضيات الأحكام العقليّة، فضلاً عن الشرعيّة.
وعلى سبيل المثال، ربما يكون هؤلاء من النوع الذي تكون طينته أفضل وظروفه العائليّة والاجتماعيّة أحسن في تحقيق الطاعة، من خلال تساوي مسافة الطاعة والمعصية منهم بلا كون أحدهما أقرب. وطباع البشر وأمزجتهم ومستوى وعيهم وذكائهم وردود أفعالهم مختلفة حدّ التباين.
هذه المداخلة وضعناها هنا من حيث تحليل مفردة الغرض التي هي الركن الأساس لهذا الدليل العمدة، وإن كانت لا ترجع لنقض الدليل لكنّها تُثبت أنّ تطبيقه يكاد يكون شبه مستحيل فيما هو المهمّ من مباحث الفقه وأصوله وعلم الكلام جميعاً.
وربما يحاول بعض المتكلّمين إعادة ترتيب الاستدلال هنا عبر القول: إنّ اللطف المحصّل هو ذلك اللطف الذي يكون في تركه نقض الغرض، ومن ثمّ يمكننا إضافة كبرى كليّة، وهي قبح نقض الغرض، فيثبت اللطف المحصّل.
لكنّ هذه الطريقة من الاستدلال لا تنفع؛ لأنّها لا تشرح لنا ما هو معيار اللطف المحصّل الذي يكون في تركه نقض الغرض، وكأنّ هذا الاستدلال يبدو من نوع القضيّة بشرط المحمول وفق اصطلاح المنطق الصوري، فلا يضيف لنا معلومة، من هنا يلزمنا تحديد ما هو الغرض، ثم تحديد ما الشيء الذي إذا لم يفعله المولى نقض غرضه؟ وبعد ذلك يمكن البناء على هذا الاستدلال، فهذه الصيغة لوحدها لا تؤسّس شيئاً قابلاً للتوظيف.
المداخلة الرابعة: إنّ ثمّة تهافتاً بين الأدلّة والشروط في باب قاعدة اللطف، فلو تأمّلنا شرط عدم التمكين، فلا نجده ينسجم مع طبيعة أدلّة القائلين بقاعدة اللطف؛ وذلك أنّ المولى إذا كان غرضه تحقيق الطاعة من العباد، والتي هي عبارة عن أداء التكاليف على وجهها، فإنّه إذا لم يعطِ العباد القدرة على فعل التكاليف يلزم من ذلك صيرورة أصل جعل التكاليف ـ في مقام الجعل لا في مقام المجعول ـ عبثاً، ومن ثم فهو لا يقرّبهم لكي يكونوا طائعين، فلابدّ من فرض أنّه يعطيهم القدرة في الجملة على تحقيق التكاليف؛ ليتحقّق مفهوم الابتلاء والامتحان، ولولا ذلك يكون قد نقض غرضه من وضع الشرائع والتكاليف، ولم يكن لطيفاً بعباده، فالدليل العمدة على اللطف يلزم جريانه هنا في الجملة، أي في بعض الناس أو في بعض الحالات، لا بمعنى إقدار الجميع على كلّ التكاليف دائماً، بل الإقدار في الجملة حتى لا يصبح جعل التكاليف في حقّهم عبثاً، فلماذا لم يكن ذلك داخلاً ضمن قاعدة اللطف؛ إذ من اللطف الذي يقرّب من الطاعة والثواب ويبعد عن المعصية والعقاب هو ذلك؟!
ومرجع إشكالنا في الحقيقة أنّ المتكلّمين خلطوا بين مقام الجعل ومقام المجعول، فتصوّروا المشهد في مقام المجعول، فلمّا لم تكن القدرة ثابتة، لم يكن هناك تكليفٌ فعليّ في العهدة حتى يقوم الله باللطف المقرّب من أداء التكليف، لكن لو أخذنا أصل مقام جعل التكاليف، وطبّقنا هذا الدليل يلزمنا القول بأنّ الله سيكون قد نقض غرضه بجعل التكاليف إذا لم يحقّق إقدار ولو بعض العباد على بعضها، وهذا يعني أنّ شرط «أن لا يكون له حدّ في التمكين» ليس صحيحاً على إطلاقه، أو فقل: إنّ مبحث شروط اللطف يناقض طبيعة هذا الدليل، بل وغيره أيضاً، وهذا يشي باضطراب بياناتهم في هذه القاعدة.
2 ـ برهان «تركُ اللطف لطفٌ في ترك الطاعة»
ذكر هذا البرهان بعضُ العلماء، ويمكنني صياغته على الشكل الآتي:
أ ـ إنّ المكلِّف إذا لم يقم باللطف يكون قد حقّق مفسدةً؛ لأنّ ترك اللطف سوف يُفقد العباد محفّزاً إضافيّاً للطاعة، وبهذا نقول بأنّ ترك اللطف هو لطفٌ في المفسدة، أيّ مقرّب للمفسدة التي هي ترك العبيد للطاعات وفعلهم المعاصي.
ب ـ انطلاقاً من هذه المقدّمة تأتي المقدّمة الثانية، وهي أنّ تحقيق المفسدة قبيح ومحال على الله تعالى، فلا يصدر منه ما فيه المفسدة.
وبهذا تكون النتيجة: إنّ ترك اللطف هو في حدّ نفسه قبيحٌ لا يصدر من الله، فيكون فعل اللطف واجباً يلزم صدوره.
وقد ذكر العلامة الحلّي هذا الدليل في بعض كتبه فقال: «إنّ ترك اللّطف مفسدةٌ، فيكون فعله واجباً. أمّا أنّه مفسدة فلأنّ ترك اللطف لطفٌ في ترك الطّاعة، واللطف في المفسدة مفسدة»([18]).
طبعاً من الواضح أنّ تسمية ما يقرّب من المفسدة وترك الطاعة لطفاً هو تعبير مجازي، كما صرّح بذلك ابنُ أخت العلامة الحلّي السيّد عميد الدين الأعرجي العبيدلي([19]).
وقد ناقش التفتازاني الأشعري هذا الدليل قائلاً: «الثالث: أنّ منع اللطف تحصيلٌ للمعصية أو تقريب منها، وكلاهما قبيحٌ يجب تركه. ورُدَّ بالمنع؛ فإنّ عدم تحصيل الطاعة أعمّ من تحصيل المعصية، وكذا التقريب، ولا ثمّ أنّ إيجاد القبيح قبيح»([20]).
وعلى أيّة حال، يبدو لي هذا الدليل غير مقنع؛ وذلك أنّ مجرّد عدم تقريب العباد من الطاعة مع قدرتهم عليها، لا يعني أنّ الله فعل فعلاً قرّبهم فيه من المعصية؛ بل الفعل العصياني يُنسب إليهم بلا دورٍ له في ذلك، وإلا يلزم أن نقول بأنّ الله حيث لم يجبر العباد على الطاعة يكون شريكاً لهم في تحقيق المعاصي! وهذا غير معقول.
بل لو قصد غير ما قلناه، فسيكون غاية هذا الدليل ليس سوى تكرار دليل استحالة نقض الغرض وبرهان الحكمة بشكل معكوس.
3 ـ برهان اجتماع القدرة والداعي
ذكر هذا البرهانَ غيرُ واحدٍ من المتكلّمين، وخلاصته أنّ الله لديه الداعي والرغبة والباعث على تقريب العباد من الطاعة، وهذا واضح، وفي الوقت عينه لديه القدرة على تحقيق ذلك، عبر تقريبهم من الصالحات وإبعادهم عن المفاسد، فإذا اجتمع الداعي والقدرة لزم الفعلُ اللطفيّ، وإلا كان قبيحاً.
يقول العلامة الحلّي: «الثالث: القدرة على اللطف ثابتة، والدّاعي موجود؛ لأنّ الدّاعي إلى الفعل يكون داعياً إلى ما لا يتمّ الفعل إلّا به، ومتى اجتمعت القدرة والدّاعي وجب الفعل»([21]).
ربما يقصد الحلّي هنا اللطف المحصّل وربما المقرّب، وهو يعتبر أنّ وجود الداعي قائم؛ فالله يريد فعل الطاعة، ويرى أنّ تحقيق العبد لذلك لا يتمّ إلا باللطف، وهذا معناه أنّه يريد الفعل اللطفي، فإذا كانت لديه القدرة والداعي، وجب الفعل.
وقد علّق المحقّق الأعرجي العبيدلي هنا بالقول: «وهذا دليلٌ على وجوب اللطف من الله تعالى، لا على الله، بخلاف الوجهين الأوّلين»([22]).
لكنّ هذا الدليل قابل للمناقشة أيضاً؛ وذلك أنّه:
أ ـ إن قُصد أنّ الله لديه الداعي إلى صدور الطاعة من العبد، فيلزمه فعل ما يحقّق ذلك من طرفه دون إلجاء، فهذا أوّل الكلام؛ إذ كيف نعرف أنّ الله لديه الداعي لصدور الطاعات من العبيد مطلقاً؟! فلعلّه يريد صدورها منهم في ظروف متساوية النسبة للطاعة والمعصية، وتكون المصلحة التي يعلمها هو فقط في ابتلائهم بذلك، وكيف لنا فرض استحالة مثل هذه الفروض في حقّه سبحانه؟! وكما أنّ النص القرآني شرح الغاية من خلق الإنس والجنّ بأنّها العبادة ولم يقيّد بقيد القدرة، مع وجوده، كذلك لعلّه لديه مصالح أخرى. والآيةُ ليس لها إطلاق حتى ننفي القيود منها، بل هي في مقام بيان أصل القضيّة.
ب ـ وأمّا إن قُصد أنّ لديه الداعي لفعل اللطف، والمفروض قدرته عليه، فهذا أوّل الكلام ومحلّ التنازع والخصام، فمن أين عرفنا أنّ لديه الداعي لفعل اللطف؟! ومجرّد الداعي لصدور الطاعة من العبيد اختياراً لا يساوي ـ كما قلنا ـ الداعي لوجود اللطف.
وأمّا دعوى أنّه ما لا يتمّ الفعل إلا به فهو لازم، فقد سبق أن ناقشناها عند مناقشة دليل الحكمة ونقض الغرض، وقلنا بأنّ هذه الفكرة غير واضحة.
4 ـ برهان الجود والكرم والرحمة
يعتمد هذا البرهان على آليّة مختلفة عن البراهين السابقة، لكنّ الروح والذهنيّة واحدة تقريباً، ويمكن صياغة البرهان على الشكل الآتي:
كلّ لطف فهو يعبّر عن رحمة وجود وكرم إلهيّ موجّه للبشر، أو هو ملازم لهذه الصفات الإلهيّة.
وكلّ ما هو ملازم لهذه الصفات الإلهيّة فهو واجب التحقّق؛ إذ من دونه يلزم نقض هذه الصفات.
والنتيجة: إنّ اللطف واجب
ولك أن تصوغ الاستدلال بطريقة عكسيّة، فتقول:
كلّ تركٍ للطف فهو على خلاف الرحمة والكرم والجود.
وكلّ ما كان على خلاف الرحمة والكرم والجود، فهو ممتنعٌ على الله سبحانه.
والنتيجة: ترك اللطف ممتنعٌ عليه سبحانه، وهذا يعني ثبوت اللطف.
الملاحظ هنا أنّ بعض علماء العدليّة قد استبدلوا تشييد قاعدة اللطف على قانون العدل بتشييدها على قانون الجود والرحمة، وعلى سبيل المثال ما نجده عند الشيخ المفيد (413هـ) في أوائل المقالات، حيث يقول: «إنّ ما أوجبه أصحاب اللطف من اللطف إنّما وجب من جهة الجود والكرم، لا من حيث ظنّوا أنّ العدل أوجبه، وأنّه لو لم يفعله لكان ظالماً»([23]).
يبدو الشيخ المفيد هنا واضحاً في نقده أحد توجّهات العدليّة، الذي يبدو أنّه ينسب إليه الاعتقاد بوجود حقوق للعبيد على الله في مقابل حقوق لله على العبيد، وأنّ الله يجب عليه العدل مع الناس، والمفروض أنّ العدل هو إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، وهذا يستبطن مسبقاً وجود حقوق للعباد على الله، حتى إذا أثبتنا له العدل ثبتت هذه الحقوق، ومن هذه الحقوق اللطف، فمن يرى أنّ قاعدة اللطف ترجع لأصل العدل، فلابدّ وأن يعتبر أنّ ثمة حقوقاً للعباد على الله، لو فعلها كان عادلاً، ولو لم يفعلها كان ظالماً.
ويبدو المحقّق النراقي واضحاً في تنويعه فهم الأصول التحتيّة لقاعدة اللطف، حيث يقول: «مرادهم من اللطف إمّا إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، أي ما يستحقّه، أو بيان المصالح والمفاسد، أو مطلق الإحسان والإكرام والإنعام، أو بيان ما يقرّب العبد إليه وما يبعده عنه، أو ما يقرب أحد هذه المعاني. واللطف ببعض هذه المعاني مما لا ينبغي الريب في وجوبه عليه مطلقاً، كالمعنيين الأوّلين، وببعض آخر مما لا شكّ في وجوبه أيضاً في الجملة، وإن لم يجب عليه بجميع أنواعه وجميع ما يكون لطفاً بذلك المعنى، كالثالث، وببعض آخر مما يمكن الكلام في وجوبه، كالمعنى الأخير»([24]).
واضحٌ هنا أنّ النراقي فهم سياقات قاعدة اللطف تارةً على مستوى قواعد العدل الإلهي، وأخرى على مستوى قواعد الجود والكرم، فاصلاً التعريفات عن بعضها، وكأنّ المفهوم الأخص لقاعدة اللطف عنده منفصل عن قواعد العدل والإحسان والكرم، فانتبه لنصّه فإنّه مهمّ.
وعلى أيّة حال، فهذا الدليل غير مقنع أيضاً؛ وذلك أنّ تعيين أنّ اللطف في باب التكاليف هو من الجود والكرم غير واضح؛ والسبب في ذلك أنّ قاعدة الجود والكرم تعني أنّ الله لا يفعل إلا ما فيه الجود والكرم، فلو استوفى روح إنسان وأماته في سنّ الثلاثين، فهذا يعني ـ كما يقول المفيد نفسه ـ أنّه يعلم أنّه لو أعطاه المزيد من العمر فلن يتوب، فهو لم يجُد عليه بالعمر، لا لأنّه ليس بجواد، بل لأنّ هذا المورد ليس من موارد الجود بحسب العلم الإلهي، وفيما نحن فيه يمكن فرض أنّ الله لم يرَ صلاحاً في جعل العباد أقرب للطاعة منهم للمعصية حين أداء الطاعة، بل رأى أنّ الأصلح لهم أن يكونوا على مسافة واحدة من المعصية والطاعة حتى يقوموا بالطاعة من هذا الموقع لا من غيره، فكيف نعرف أنّ هذا الأمر ليس هو المصلحة الأعظم بحسب الرؤية الإلهيّة حتى نقول بأنّ مقتضى الجود هو اللطف؟! وكيف نعرف أنّ بعض العباد لو قرّبهم اللطف من الطاعة وتركوها فسيكون قُبح معصيتهم أعظم في هذه الحال، فعدم اللطف تخفيفٌ من عظمة قبح المعصيّة الصادرة منهم.
بل يمكن الترقّي أكثر والسؤال عن الدليل على وجوب كلّ جودٍ وكرم عليه سبحانه وتعالى، فلو سلّمنا أنّ اللطف جودٌ وكرم ورحمة، فما الدليل على أنّ كل رحمة وكرم يجبان على الله؟ فتخليص جميع البشر من جهنّم جودٌ ورحمة بهم، ومع ذلك فالله لا يفعله، كما أخبر، ولا يغفر للمشرك كما نصّ على ذلك القرآنُ العزيز.
إنّ فلسفة ما نقول تكمن في أنّ تصوّراتنا عن ساحة الفعل الإلهي أنّها شبكة معقّدة جداً من الصعب على العقل الإنساني البتّ فيها.
ومن هذا كلّه، تبيّن أيضاً أنّ بناء قاعدة اللطف على قانون العدل المبتني على ثبوت حقوق مسبقة للعباد على الله غير مقنع؛ وذلك أنّه لابدّ من إثبات أنّ من حقّ العباد على الله أن يقرّبهم من الطاعة، أكثر من قربهم من المعصية، فهذا بنفسه يحتاج لدليل.
كانت هذه ـ باختصار ـ أبرز الأدلّة العقليّة على قاعدة اللطف، وقد استنتجنا منها حتى الآن أنّ اللطف الذي يمكن القبول بوجوبه هو اللطف المحصِّل بمعنى خاصّ، هو الفعل الإلهي الذي لو لم يفعله الله، فإنّ البشر رغم قدرتهم جميعاً على الطاعة لن يفعلوها جميعاً مطلقاً([25])، وأعتقد بأنّ هذه النتيجة لن تنفع في شيء على مستوى توظيفات قاعدة اللطف في علوم الكلام والفقه وأصول الفقه معاً، لكنّها منطقيّة منسجمة مع برهان الحكمة المتقّدم.
قاعدة اللطف في مقاربة نصيّة
لا أريد التوقّف عند المقاربات النصية لقاعدة اللطف، بل سأتناولها باختصار؛ لأنّ أغلبها يمكن أن يلتقي عند فكرة واحدة، وهي أنّ الله ـ كما جاء في الكتاب والسنّة ـ كريمٌ جواد لطيف رحيم ودود رؤوف بعباده إلى غير ذلك من التوصيفات الكثيرة التي لا نريد التفصيل فيها، وهذا يعني أنّه لابدّ أنّه سبحانه يفعل الفعل اللطيف، وهذا يُثبت قاعدة اللطف؛ لأنّ قاعدة اللطف تعبيرٌ آخر عن الفعل الإلهي الذي هو لطفٌ بعباده.
لكنّ الجواب عن هذه المقاربة قائم؛ لأنّ ثبوت هذه الصفات لله سبحانه، لا يعني ثبوت اللطف المصطلح، فهذا إسقاطٌ للمصطلح على اللغة؛ إذ اللطف المصطلح مصداقٌ من مصاديق هذه الصفات، وليس عينها، ومن ثمّ فحيث إنّ هذه الصفات تُثبتها النصوص للباري تعالى من حيث المبدأ، فهذا يعني أنّ الله يجب أن يصدق عليه عنوان اللطيف والودود والرؤوف، لا أنّه يجب عليه كلّ فعل رأفة ومغفرة ولطف وغير ذلك، وإلا فكيف يصرّح هو بأنّه لا يغفر لمن يُشرك به رغم أنّه غفور رحيم؟! إنّ ثبوت هذه الصفات هو ثبوت إجمالي لتصحيح الاتصاف، لا أنّه ثبوت إطلاقي يمكن الاستناد إليه لإثبات فعلٍ نتيجة هذه الصفة.
من هنا علّق المحقّق النراقي على توظيف الصفات والأسماء الإلهيّة في باب قاعدة اللطف، ورفض ذلك بما سوف نذكره لاحقاً في سياق مناقشات قاعدة اللطف، فانتظر.
المناقشات والمداخلات النقديّة على قاعدة اللطف
تواجه قاعدة اللطف سلسلة من المشاكل التي ينبغي لنا التوقّف عندها، وتركيزي هنا سيكون فقط على المشاكل التطبيقيّة، أي على إمكانات الحصول على تطبيقات للقاعدة في الموضوعات الكلاميّة واللاهوتيّة المتعدّدة، مفترِضاً صحّة القاعدة نظريّاً. وأبرز المشكلات القائمة هنا ـ وباختصارٍ شديد ـ هو الآتي:
1 ـ معضل الإثبات أو أزمة التنزيل التطبيقي في قاعدة اللطف
تعتبر هذه المعضلة واحدة من أهم مشاكل قاعدة اللطف، حيث تسلّم بأنّ قاعدة اللطف قد تكون في بنيتها الجوهريّة وخلفيّتها العميقة صحيحة ثبوتاً وفي نفس الأمر، لكنّها ترى أنّها قاعدة عاجزة عن أن تُنتج لنا أيّ شيء؛ والسبب في ذلك أنّ اللطف في مقام تعيينه ينبني على القراءة البشريّة للمصالح والمفاسد ولإمكانات التقريب والتبعيد. والإنسان عاجزٌ عن رصد جميع المصالح والمفاسد في لوح الواقع الممتدّ مما قبل وجود الدنيا وإلى نهاية التاريخ وما لا نهاية الآخرة، فكيف لنا أن نعرف أنّ المصلحة للبشر([26]) تكمن في النبوّة مثلاً، ونحن لا نعرف تفاصيل التفاصيل عن الحياة البشريّة وأسرار النفس العميقة، فلعلّ ابتلاءهم بلا نبوّات، كي يخوضوا تجارب الحياة فينضجوا ويبتلوا بهذه المخاضات والتجارب هو أصلح لهم.
هذه الإشكاليّة وافق عليها العديد من العلماء، منهم المحقّق النراقي([27])، والشيخ عبد الله جوادي آملي([28]).
هذا يعني أنّ قاعدة التحسين والتقبيح من نوع القواعد العمليّة غير النهائيّة، بمعنى أنّها تأمرنا بفعل ما نراه حسناً، وترك ما نراه سيّئاً، لكنّها لا تحسم أنّه حسنٌ أو قبيح مطلقاً؛ لأنّ العقل عاجز عن التعيين النهائي للحَسن والقبيح إلا في سياق عناوين عامّة للغاية كالعدل والظلم، فما يحكم به العقل هو وجوب اتّباعنا نحن البشر لما ينكشف لنا من حُسن الأفعال وقبحها، لا أنّه يحكم بالحسن والقبح بشكل نهائي، فقاعدة التحسين والتقبيح العقليّين قاعدةٌ عمليّة وظيفيّة يأمرنا العقل بالسير عليها، وليست قاعدة استكشاف حقيقي لذات الفعل بصورة نهائيّة. ولو جاز لي التعبير فالتحسين والتقبيح العقليّان حكمٌ ظاهري يلزمنا العمل به، وليسا حكماً واقعيّاً نهائيّاً، أو هو حكم بملاحظة البشر وسلوكياتهم، لا بملاحظة المطلق المتعالي.
بناءً عليه، حيث إنّ قاعدة اللطف وأمثالها من قواعد تعيين الفعل الإلهي، فنحن هنا نتكلّم في عالم المطلقات، وحيث العقل عاجز عن معرفة تأثيرات الأفعال إلى ما لا نهاية، فلن يقدر على البتّ في ساحة الفعل الإلهي نفسه، وبهذا تكون قاعدة اللطف لو طبّقناها على الإنسان نفسه يلزمه هو العمل بها تبعاً لما ينكشف له من فعلٍ لطفيٍّ هنا أو هناك، لكنّنا عاجزون عن تطبيقها على الله تعالى في مجال التفاصيل وأنواع الأفعال.
2 ـ معضل مناقضة الواقع وتاريخ التجربة البشريّة
ركّز الأشاعرة على هذه المشكلة التي يبدو أنّه قد وافق عليها لاحقاً بعض علماء العدليّة أنفسهم، بل ربما يكون بشر بن المعتمر المعتزلي هو أوّل من أثار هذه الإشكاليّة بوجه قاعدة اللطف.
وخلاصة الإشكاليّة أنّ الله سبحانه قادرٌ على جعل كلّ العباد طائعين غير عاصين، فلو ثبت وجوب اللطف عليه، لما بقي كافر ولا مذنب قطّ، بل الله لو وجب عليه اللطف لكان ينبغي في كلّ عصر وجود أنبياء متعدّدين، إلى غير ذلك من الأمثلة التي تكشف عن أنّ مراقبة الواقع التجربي البشري يناقض الفرضيات النظريّة الذهنيّة التي رسمها العدلية في أذهانهم عن الله وسلوكه.
ولنلاحظ ما قاله التفتازاني هنا: «الأول: أنّه لو وجب اللطف لما بقي كافرٌ ولا فاسق؛ لأنّ من الألطاف ما هو محصّل، ومن قواعدهم أنّ أقصى اللطف واجب.. الثاني: أنّه لو وجب لما أخبر الله بسعادة البعض، وشقاوة البعض، بحيث لا يطيع البتة؛ لأنّ ذلك إقناط وإغراء على المعصية، وهو قبيح، ولو في حقّ من علم الله أنّه لا يجدي عليه اللطف. الثالث: أنّه لو وجب لكان في كلّ عصرٍ نبيّ، وفي كلّ بلد معصوم يأمر بالمعروف، ويدعو إلى الحقّ، وعلى وجه الأرض خليفة ينصف المظلوم وينتصف من الظالم إلى غير ذلك من الألطاف»([29]).
المحقّق النراقي الإمامي أخذ بهذه الإشكاليّة في نقده على قاعدة اللطف، حيث قال: «إنّا نرى في الأشياء والأفعال ما نقطع بكونه لطفاً، بل لا نرى فرقاً بينه وبين سائر ما نقطع بلطفيّته لتحقّقه، ومع ذلك لم يقع، كظهور الإمام وتصرّفه، فإنّا نقطع بكونه لطفاً، ولا نرى فرقاً بين ظهوره في هذه الأيام، ظاهر المقالة، منقذاً من الضلالة، شاهر السيف، منصوراً من الله سبحانه، وبين ظهوره بعد ذلك، بل لا نرى فرقاً بين مجرّد ظهوره وظهور الإمام الحادي عشر× في زمانه. وكذا بعث النبيّ. بل حصول بعض الأمور المردعة عن المعاصي، المرغبة إلى الطاعات، لكلّ مكلّف، كبعض المنامات، أو استجابة بعض الدعوات ونحو ذلك، ومع ذلك لم يقع. وقد يقع لبعضٍ لا نرى فرقاً بينه وبين بعض ما لم يقع أصلاً. فإنّا كيف ندرك أنّ إراءة البرهان ـ بأيّ معنى فسّرت ـ لطف بالنسبة إلى يوسف الصدّيق وليست لطفاً لأمثالنا؟ فإن استندت عدم وقوع ما لم يقع إلى المانع الغير المعلوم لنا، فلم لا يكون الأمر في سائر الموارد أيضاً كذلك؟!»([30]).
محاولات العدليّة تخطّي هذه المفارقة، نقدٌ وتعليق
حاولت العدليّة من المعتزلة والإماميّة ردّ هذه الإشكاليّة من جهات:
أوّلاً: إنّه لو فعل الله الألطاف بحيث آمن كلّ من في الأرض للزم منه الجبر والإلجاء، وأمّا قصّة بعث معصوم في كلّ عصر، فهذا إشكال على المعتزلة وليس على الإماميّة، إذ هذا ثابت من مذهب الإماميّة، حيث لابدّ في كلّ عصر من نبيٍّ أو إمام، وأمّا اختفاؤه فهذا بسبب فعل الناس لا بسبب التقصير الإلهي، ولا يلزم أن يكون النبيّ أو الإمام في كلّ بلد، بل يمكن أن يكون واحداً ويكون له مجتهدون وعلماء في البلدان([31]).
هذا الردّ يبدو لي غير مقنع؛ أمّا مسألة الجبر فيمكن الجواب عنها بأنّ اللطف الذي نبحث عنه هنا هو وضوح الرؤية وتعزيز الحوافز لصدور الفعل عن اختيار، والإماميّة أنفسهم يرون عصمة الأنبياء والأئمّة منذ صغرهم، وفي الوقت عينه يرون صدور الأفعال منهم عن اختيار، فلماذا لم يخلق الله البشر جميعاً كذلك، وهذا قمّة اللطف؟!
وأمّا أنّ الإماميّة لا يرد عليها إشكال المعصوم في كلّ زمان، فهذا تبسيطٌ للمشكلة؛ لأنّ صاحب الإشكاليّة هنا يهمّه المعصوم الذي يقرِّب الناس من الطاعة، وليس المعصوم الغائب. وحتى لو كان غيابه بسبب الناس، فإنّ بعض الناس لا علاقة لهم بغيابه، فلماذا يُحرمون اللطف الإلهي بمعصومٍ آخر ظاهر أو بأنبياء جدد يتركون تأثيراً ولو قتلهم المنكرون لهم؟! علماً أنّ مسألة بعث نبيّ أو وجود معصوم لم يطرحها المستشكل هنا سوى من باب المثال، ولهذا ذكر النراقي أمثلةً أخرى من نوع المنامات واستجابة الدعوات وغير ذلك، فالوقوف عند المثال ليس دقيقاً.
ثانياً: ما ذكره القاضي عبد الجبار المعتزلي في نقد بشر بن المعتمر، حيث قال: «إنّما يقع الخلاف من بشر بن المعتمر ومن تابعه، وهم قد ذهبوا إلى أنّ اللطف لا يجب على الله تعالى، وجعلوا العلّة في ذلك، أنّ اللطف لو وجب على الله تعالى لكان لا يوجد في العالم عاصٍ؛ لأنّه ما من مكلّف إلا وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعل به لاختار الواجب وتجنّب القبيح، فلمّا وجدنا في المكلّفين من عصى الله تعالى ومن أطاعه، تبيّنا أنّ ذلك اللطف لا يجب على الله تعالى. فأمّا عندنا، فإنّ الأمر بخلاف ما يقوله بشر وأصحابه؛ إذ ليس يمنع أن يكون في المكلّفين من يعلم الله تعالى من حاله أنّه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب ويتجنّب القبيح، أو يكون أقرب إلى ذلك، وفيهم من هو خلافه، حتى إن فعل به كلّ ما فعل لم يختر عنده واجباً ولا اجتنب قبيحاً»([32]).
وقد تابع السبحاني ما ذكره القاضي المعتزلي، موضحاً له، فقال: «إنّ كون العاصي دليلاً على عدم وجوبه، يعرب عن أنّ المستدلّ لم يقف على حقيقة اللطف، ولذلك استدلّ بوجود العصاة على عدم وجوبه، فهو تصوّر أنّ اللطف عبارة عما لا يتخلّف معه المكلّف عن الإتيان بالطاعة وترك المعصية، فنتيجته كون وجود العصيان دليلاً على عدم وجوده، وعدم وجوده دليلاً على عدم وجوبه، مع أنّك قد عرفت في أدلّة القائلين به بأنّه ما يكون مقرّباً إلى الطاعة ومبعّداً عن المعصية من دون أن يبلغ حدّ الإلجاء.. ويؤيّده ما ورد في الذكر الحكيم من أنّ هناك أناساً لا يؤمنون أبداً ولو جاءهم نبيّهم بكلّ أنواع الآيات والمعاجز. قال سبحانه: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ. وقال سبحانه: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ»([33]).
طريقة هذه الردود تنبني على أنّ اللطف الذي يفترض أن يحكم به العقل يلزمنا نفيه عند عدم تحقّق نتائجه، انطلاقاً من أنّه لو وجد فلا نتيجة له، بعبارة أخرى: كلّ لطف لم يفعله الله نكتشف أنّه لو فعله فلن يقرّب من الطاعة؛ لأنّنا ما دمنا محافظين على مبدأ الاختيار فهذا يعني أنّه من الممكن وجود أشخاص مهما قدّمت لهم من ألطاف فلن يؤمنوا أو يطيعوا.
لكنّ هذا الكلام رغم صحّته في الجملة، يعاني من عدم الواقعيّة في إطلاقه؛ لأنّه ـ على سبيل المثال ـ قد أمرنا الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لغيرنا، وهذا يعني أنّنا لو أمرنا بالمعروف فسوف ينبعث بعض الناس بالتأكيد، فإذا عصينا الأمر بالمعروف، فهذا يعني أنّ هؤلاء الناس الذين كانوا سينبعثون نتيجة الأمر بالمعروف، سوف يبقون على المعصية، مع أنّ نفوسهم لديها استعداد الطاعة لو وفّرت لها الظروف، ومع ذلك لم يقم الله بأيّ خطوة بديلة عن فعل الآمرين بالمعروف لكي يهيء لهذه الناس المناخ للطاعة والتقريب لها.
قصدي من هذا المثال البسيط أنّ منطق الاحتمالات العلمي يفرض أنّ الله لو استخدم أقصى آليّات التقريب من الطاعة، فبالتأكيد سوف يرتفع مستوى المطيعين حتى لو لم ينعدم وجود العاصين، فافتراض أنّ نسبة المطيعين ستبقى كما هي، وأنّ كلّ تلك الوسائل لن تكون لها قيمة، بدليل أنّ الله لم يفعلها، هو افتراض مجافٍ للحقيقة العلميّة الآتية من إجراء حساب الاحتمالات، ومن ثمّ فالقول بأنّ الله لو استخدم التأثير في المنامات وأظهر الإمام المعصوم وبعث أنبياء جدد في كلّ قرية ومصر، وعشرات من هذه الأمثلة، فلن يكون لها أيّ تأثير ولو على بعض الناس، هو افتراض مجافٍ للمنطق الاحتمالي العلمي، فكان يلزم عدم الجمود على كلمة «لن يبقَ عاصٍ»، للانتباه لروح الفكرة، وهو أنّ نسبة العصاة سوف تنخفض، ومن ثمّ فاللطف له تأثير عمليّ، فلماذا لم يفعله الله؟!
وبصرف النظر عن هذه المداخلة النقديّة على هذه الردود، فإنّ في هذا النقد الثاني لقاعدة اللطف صياغتين يجب التمييز بينهما: صياغة الاستدلال بوجود العصاة..، وصياغة أمثال المحقّق النراقي. والصياغة الثانية جوهر النقد فيها يكمن في أنّ هناك سلسلة من السلوكيّات اللطفيّة التي لو لم نملك خبراً عنها أنّه فعلها الله أو لا، فإنّ العقل كما حكم بصدق اللطف على بعث الأنبياء ونصب الإمام والوعد والوعيد سوف يحكم بها أيضاً بوصفها من مصاديق اللطف، فعندما يكتشف العقل أنّ الله لم يفعلها وهي كثيرة جدّاً، يفهم أنّها لم تكن من مصاديق اللطف، وبهذا يستنتج العقل أنّ طريقته في تقويم اللطف هي طريقة خاطئة؛ لأنّه بالنسبة إليه لم يكن هناك أيّ فرق بين هذه الأمثلة الفرضيّة وبين بعث الأنبياء، فاكتشاف خللٍ في أحدهما يكشف عن خللٍ في بنية الحكم العقلي هنا. وعدم وجود لطفيّات كثيرة في حياة البشر، يحكم العقل ـ قبل أن يعرف بأنّ الله فعلها أو لا ـ بأنّها لطف.. عدم وجودها ينبّه إلى خلل في حكم العقل هنا؛ لعدم الفرق بين الأمثلة.
هذه الطريقة هي التي استخدمها المحقّق النراقي والشيخ الأستاذ جوادي آملي، ولا يمكن ردّ هذه الطريقة من النقد بما قاله القاضي المعتزلي أو الشيخ السبحاني؛ لأنّ هذه الطريقة لا تريد إثبات أنّ وجود العصاة دليلُ عدم اللطف، بل تقول بأنّ عدمَ وجود لطفيّات كثيرة في حياة البشر، يحكم العقل ـ قبل أن يعرف بأنّ الله فعلها أو لا ـ بأنّها لطف.. عدم وجودها ينبّه إلى خلل في حكم العقل هنا؛ لعدم الفرق بين الأمثلة.
ثالثاً: ما ذكره العلامة الحلّي حيث قال: «إنّما يصحّ أن يقال يجب أن يلطف للمكلّف إذا كان له لطفٌ يصلح عنده، ولا استبعاد في أن يكون بعض المكلّفين لا لطف له سوى العلم بالمكلّف والثواب مع الطاعة والعقاب مع المعصية، والكافر له هذا اللطف»([34]).
يبدو من الحلّي هنا أنّه يكتفي في اللطف بأن يفعل الله شيئاً يكون مقرّباً ولو لبعضِ الناس، لا أنّه يجب عليه أن يفعل كلّ لطف، فبعث الأنبياء مثلاً إذا كان يوجب تحقّق التقريب من الطاعة ولو لبعض الناس فهذا كافٍ، فكأنّ الحلّي هنا يجري تعديلاً جوهريّاً على تصوّراتنا لفكرة اللطف، إنّه يقول ـ فيما يبدو ـ بأنّ الله يجب عليه اللطف بنحو القضيّة المهملة، فالله يجب عليه “لطفٌ ما” لا أنّه يجب عليه كلّ لطف، و”لطفٌ ما” متحقّق بالنبوّات والوعد والوعيد، بحيث يحقّق هذا اللطفُ تقريبَ ولو بعض العباد من الطاعة.
غير أنّه في تقديري هذا التحويل في قاعدة اللطف، ينسف القاعدة كلّها في مقام استخدامها وتطبيقها؛ لأنّه إذا كان “لطفٌ ما” كافياً، والمفروض تحقّقه بالنبوّة مثلاً، فما هو المبرّر لإثبات وجوب نصب الإمام بقاعدة اللطف؟! ولو كان متحقّقاً بزرع الضمير الأخلاقي والعقل العملي في البشر، فلماذا يلزم أن يبعث الله الأنبياء أساساً؟! أعتقد بأنّ الحلي فرّ من الإشكال بما يوجب تعجيز قاعدة اللطف من الناحية العمليّة.
3 ـ مشكلة البدائل في الألطاف
هذه المشكلة أثارها المحقّق النراقي في وجه توظيف قاعدة اللطف، حيث قال: «هل يمكن أن يتحقّق لما نحن نزعمه لطفاً أمرٌ آخر ينوب منابه، أم لا؟ فإن قلت: نعم، قلنا: من أين علمت في كلّ مورد تريد إثبات شيء بقاعدة اللطف أنّه لم ينب منابه غيره؟ وإن قلت: لا، يكذّبك الضرورة والإجماع القطعي؛ لأنّ الأحكام الواقعيّة كلّها مطابقة لألطاف الله سبحانه بالنسبة إلى عباده، ونابت منابها الأحكام الظاهريّة المختلفة بحسب أنظار المجتهدين»([35]).
الفكرة في إشكالية البدائل هذه هو أنّ أي شيء نفترض أنّه لطف بحكم العقل، فلن يمكننا نفي وجود بديل له يعطي نفس نتائجه. ليست كلّ الخيارات واضحة لنا كما هي واضحة لله، فمجرّد أنّني رأيت طريقة تقرّب العباد إلى الله لا يعني أنّها الطريقة الحصريّة حتى أفتي بوجوبها بعينها على الله؛ لأنّ عدم رؤية طريقة أخرى لا يساوي عدم وجودها، فالعقل غير قادر هنا على حصر الطرق منطقيّاً فمثلاً: إذا فرضنا أنّ النبوّة لطفٌ، فمن المحتمل أن يكون لها بديل يقوم مقامها في التأثير، فكيف أعرف ـ في مستوى التفكير القبلي، أعني قبل تجربة النبوّة ـ أنّه يجب على الله بعث الأنبياء؟!
إنّ هذه الإشكاليّة سوف تعطّل قدرتنا على تنزيل القاعدة في الموارد المختلفة، ليس بحيث نقول: يجب على الله إمّا ىبعث الأنبياء أو كذا، بل بحيث يبقى هناك احتمال معقول جداً أن يوجد بديلٌ قائمٌ، ولا نعرفه أصلاً، ولم يخطر ببالنا.
وعلى سبيل المثال، يمكن لله سبحانه، بدل فكرة إرسال أنبياء يتكلّمون بإسمه، أن يلقي في روع بعض الصالحين ـ بالتدريج عبر التاريخ ـ القيمَ الأخلاقيّة والمفاهيم الصحيحة الكونيّة ويقومون بنشرها، فيحقّقون غرضه، وهو كمال الإنسان حتى لو لم يكونوا رسميّاً أنبياء مبعوثين من قبله أو يتكلّمون بإسمه، ففكرة النبوّة، بمفهومها الموجود في الأديان الساميّة، قد يمكن أن تجد لها بديلاً يحقّق أغراضها، ويكفي الاحتمال.
هذا الإشكال ـ وبعض مما يشبهه ـ قد يدّعي بعض أنصار قاعدة اللطف تخطّيه، بعد وقوع إرسال النبوّات من الله، فبعد الوقوع يمكنهم القول بالوجوب، لكنّ هذا لا ينفعهم؛ لأنّ هذا الوقوع ربما كان من باب أنّ بعث الأنبياء هو أحد البدائل، ففكرة اللطف موجودة، لكنّ تطبيقها على النبوّات ـ لنستنتج وجوبها بعنوانها وحصراً ـ يظلّ غير مقدور.
نتيجة البحث
إنّ القراءة الناقدة لنظريّة اللطف في مسار التطبيق والتوظيف في علم الكلام وغيره، تعتبر أنّها غير قادرة على تأمين معطيات لاهوتيّة ذات أهمية لنا، ومن ثمّ فلدراسة الفعل الإلهي في مثل هذه القضايا، لابدّ من ابتكار أو اجتراح حلول أو أفكار جديدة إمّا من داخل النسق المعتزلي ـ حيث يمكن ـ أو من خارجه تماماً.
_______________
([1]) انشر هذا البحث في المجلّد الثاني، العدد الثاني، من مجلّة مونستر للدراسات الإسلاميّة والفلسفيّة، في ألمانيا، وذلك في آب 2023م.
([2]) انظر: أبو العباس النجاشي، الفهرست: 307.
([3]) انظر بحث الخارج للسبحاني على الرابط الآتي:
http://www.eshia.ir/feqh/archive/text/sobhani/osool/92/920913/
([4]) ابن النديم، الفهرست: 291.
([5]) انظر: الخميني، أنوار الهداية 1: 257؛ ومصطفى الخميني، تحريرات في الأصول 6: 359؛ وآصف محسني، معجم الأحاديث المعتبرة 2: 144؛ والخوئي، مصباح الأصول 2: 138؛ وانظر له أيضاً: الهداية في الأصول 3: 155، ودراسات في علم الأصول 3: 143.
([6]) انظر: أحمد النراقي، عوائد الأيّام: 197، 705 ـ 709.
([7]) ليس كل المتكلّمين طرحوا التقسيم الثنائي هذا، بل يكاد يكون وجوده قبل القرن السابع الهجري نادراً للغاية.
([8]) بمعنى لا تتوقّف قدرتي عليه، بل القدرة موجودة على الفعل والترك، قبله ومعه وبعده.
([9]) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 444.
([10]) المصدر نفسه.
([11]) شرح الأصول الخمسة: 351. وانظر: الحمصي، المنقذ من التقليد 1: 297؛ ومحمد بن الحسن الطوسي، الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد: 130.
([12]) وربما يتصوّر بعضٌ أنّ المعيار هو قوّة اللطف بحيث تارةً يكون مجرّد مقرٍّب نحو الطاعة، وهو اللطف المقرّب، وأخرى تكون قوّة التقريب فيه عالية فيكون محصِّلاً دون أن نقع في إلجاء.
([13]) الإلهيات 3: 51 ـ 53؛ وانظر له أيضاً: بحوث في الملل والنحل 3: 505 ـ 508.
([14]) الإلهيات 3: 56.
([15]) قال الحلّي: «والدليل على وجوبه أنّه يحصّل غرض المكلِّف فيكون واجباً وإلا لزم نقض الغرض، بيان الملازمة أنّ المكلِّف إذا علم أنّ المكلَّف لا يطيع إلا باللطف، فلو كلّفه من دونه كان ناقضاً لغرضه، كمن دعا غيره إلى طعام وهو يعلم أنّه لا يجيبه إلا إذا فعل معه نوعاً من التأدّب، فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدّب كان ناقضاً لغرضه، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض». (كشف المراد: 444 ـ 445؛ وانظر له أيضاً: أنوار الملكوت في شرح الياقوت: 154).
([16]) شرح الأصول الخمسة: 353.
([17]) النكت الاعتقاديّة: 35. وقد صاغ ابن ميثم البحراني (679هـ) الموقفَ بعد تعريفه اللطف بالمقرّب، بصياغة لطيفة فراجع له: قواعد المرام في علم الكلام: 17 ـ 18.
([18]) أنوار الملكوت في شرح الياقوت: 154.
([19]) إشراق اللاهوت في نقد شرح الياقوت: 392.
([20]) شرح المقاصد 4: 322.
([21]) أنوار الملكوت في شرح الياقوت: 155.
([22]) إشراق اللاهوت في نقد شرح الياقوت: 392.
([23]) أوائل المقالات: 59.
([24]) عوائد الأيّام: 705.
([25]) مرادي من «جميعاً مطلقاً»، أنّ مختلف أنواع الطاعات لن تصدر من أيٍّ من البشر.
([26]) بل البشر جزء من نظام الوجود، وليس كلّه.
([27]) انظر: عوائد الأيّام: 706 ـ 707.
([28]) انظر: جوادي آملي، ولايت فقيه: 416.
([29]) شرح المقاصد 4: 322 ـ 323؛ وانظر كذلك: الفخر الرازي، الأربعين في أصول الدين 2: 260؛ وشرح المواقف 8: 196.
([30]) عوائد الأيّام: 709 ـ 710.
([31]) انظر: أسد الله الموسوي الشفتي، الإمامة: 147 ـ 148؛ وعلي الربّاني الكلبايكاني، القواعد الكلامية: 113 ـ 114.
([32]) شرح الأصول الخمسة: 352.
([33]) الإلهيات 3: 56 ـ 57.
([34]) كشف المراد: 326.
([35]) عوائد الأيّام: 709.